الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

السيد محمد حسن الأمين.. الفكر الجريء

احمد بزون

نقصنا كثيراً عندما انطفأ نورك، وانكسر خاطرنا حتى لامس الأرض، وبات الدمع لا يضمد جرحاً في القلب. وكان علينا أن نبكي في الظل، لأنك لست زعيماً، ولا صاحب حزب أو سلطة، أو قائد ميليشيا… نقصنا كثيراً لأنك كنت عقلاً، لا أي عقل، وفكراً لا أي فكر. وهكذا رحلت خلف الواجهة، من دون طبول أو طوابير، تماماً كما يرحل المفكرون والكبار الذين يفضلون أن يتواروا كي يحافظوا على قناعاتهم في زمن تسطيح الانتماءات. لكن الدنيا لم تنتهِ، وتنصفك أجيال أخرى، فأمثالك يعيشون عصوراً كثيرة. إقرأ أيضاً: في رحيل سيد عارف آخىَ السماء في عُرُوجه الى الحق تعرفت إليك سيدي، عندما كنا في ملتقى الثلاثاء الثقافي، في الربع الأخير من ثمانينيات القرن الماضي، نحاول أن نزرع الأمل في الحياة، بعد حروب الأهل والإخوة، ونطلق حوار العقل، بدل حوار البنادق. وكنت عنواناً لهذا الحوار، استقبلت لقاءنا في صدر منزلك وصدرك الرحب، متأهلاً وكريماً، وفاتحاً بابك لكل لبناني يؤمن بالحوار الثقافي سبيلاً للخروج من أتون الحروب الصغيرة والكبيرة التي أنهكتنا. كان كل منا في هذا الملتقى بعقل يختلف عن الآخر، لكننا نؤمن، كما كنت تؤمن، بتلاقي الثقافات في حوار بلا حدود. لم تفرض شرطاً علينا، ولا أمليت علينا رأياً، أو تخلفت عن حضور الأنشطة التي أقمناها في منزلك الرحب في بئر العبد. كان منزلك حينها أشبه بواحة ثقافية وحيدة في الضاحية الجنوبية لبيروت. كنا متفقين معك على أن اللقاء بين اللبنانيين لا بد منه كي ننتقل إلى ضفة السلام الدائم، وكنا نختار مفكرين وأدباء وكتّاباً من كل المشارب والطوائف والاتجاهات اللبنانية. كانت بعض خياراتنا من الأسماء للمشاركة في الندوات تثير تحفظ البعض، بل ربما تشكل صدمة لشريحة من اللبنانيين، وكان عنوان تلك الصدمة الأبرز دعوة سعيد عقل لإحياء أمسية شعرية في الضاحية، وقد قدمتَه أنت سيدي، بأدبك وحفاوتك ولطفك ولباقتك، قبل أن أقدمه بعدك، وسط حضور كبير. كان الناس يستوعبون تلك الصدمات، لأنهم كانوا يريدون الخلاص من رائحة البارود، ويطمحون إلى إعادة بناء وطن فقد الكثير من ريادته على مستوى المنطقة، وكان علينا أن نساهم معك في تفتيت العصبيات من كل نوع، بما في ذلك العصبيات الطائفية. أول ما عرفتك كنتُ كثيراً ما أخشى أن أثير حفيظة رجال الدين، لكنني سرعان ما اطمأننت لك، ما شجعتني على أن أكون حراً في حضرتك، وسرعان ما تحدثت عن الحرية في الإسلام، وقد فاجأني رأيك بأن الحرية ليست شرط الإبداع في الأدب والفنون وحسب، إنما هي شرط الإبداع في الاجتماع الإسلامي، بل شرط لنهضة المجتمع وتخلصه من الاستبداد. أدهشني دائماً موقفك الجريء الذي كنت تدعو فيه إلى قراءة معاصرة للقرآن الكريم، أي إلى حداثة إسلامية، وعدم الفصل بين الإسلام والعصر الحديث، وبأن الجنة التي في السماء لا تغني عن جنة الأرض، والإيمان لا يلغي حب الحياة. فكنت أشعر بأني أمام رجل دين من لون آخر، وقد انكسرت المسافة بيننا. وكثيراً ما عرضتك أفكارك للانتقاد وأحياناً التحامل، لكنك لم تكن مهتماً، ولا تريد أن تؤخرك مواقف الآخرين عن استكمال مهمتك الفكرية. نعم كنت صاحب رسالة فكرية قبل أي كلام في السياسة، وصاحب رسالة إنسانية عنوانها الأول فلسطين، لا تفصل بين الفكر الإسلامي التي تتبناه والفكر الإنساني، فكلاهما يُعمل العقل، لكنه العقل التجاوزي، الذي لا يستكين أمام الأيديولوجيا بل يتخطاها لمصلحة الإنسان. كم كنت سيدي جريئاً بالفعل، عندما دعوت إلى عدم تعليب الدين، إلى أن تكون للعقل دينامية تؤسس لاجتماع البشر. وكذلك كنت في تفكيرك السياسي والثقافي. لم يمنع عمقك الفكري والفلسفي من أن توصل آراءك بيسر وقدرة على الإقناع، وهذا يذكرنا بقصائدك التي كنت تتلوها علينا في جلسات دافئة، ومناسبات عامة، حيث إن تكثيف الشعرية وتغوّر المعاني، لا يعطلان السلاسة في الوصول إلى مسامع الحاضرين وأذهانهم. سيدي، نعم نقصنا كثيراً بفقدك، بقدر ما كنا نَكْبُرُ بحضورك. رحمك الله، ولروحك أن تحيا بسلام.
(جنوبية)

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا