الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

حيّ الشيخ جراح وبن غفير

بيار عقيقي

حين تجمع البربرية الاستعمارية وتسخير القوانين لمصلحة فئة معيّنة، وتجاهل حقوق الناس، والسماح بالاعتداء عليهم وقتلهم، تحصل على أسوأ ما يمكن للجانب المظلم من البشر إخراجه من ذواتهم. أما في الحالة الفلسطينية فتحصل على حيّ الشيخ جراح المقدسي وعلى إيتمار بن غفير. سكان الحيّ الفلسطيني هم أنفسهم سكان الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، الأصليون، وسكان الجمهوريات السوفييتية السابقة، وسكان جنوب أفريقيا. بن غفير هو الاستعماري الذي يعتدي على أصحاب الحقوق في الأميركيتين والدول السوفييتية السابقة وجنوب أفريقيا. هو الشخص المتشرّب من عقيدةٍ دينيةٍ محدّدة، تشوّهها ممارساتٌ تمييزيةٌ لتكريس عنصرية معينة ضد فئاتٍ بشرية، دينياً أو عرقياً، أو الاثنين معاً. مثل هذا الشخص لا يعترف بوجود أي رأي مناهض له. طبعاً، إنه مؤمن بانتمائه إلى "شعب الله المختار"، لتمييز نفسه عن باقي الشعوب، كحال معظم المتطرّفين في مختلف الديانات.

كان بن غفير حاضراً في كل ليالي المواجهات في الشيخ جرّاح، وفي حضوره ترسيخ لسطوة استيطانية بُنيت عليها ركائز الاحتلال الإسرائيلي. لا يمثّل الرجل تاريخاً دامساً، يرغب الجميع في طيّه وتجاوزه والانطلاق نحو "المستقبل المشرق". يمثّل بن غفير كل ما تطرحه السلطات الإسرائيلية من "حلول" لإنهاء النزاع مع الفلسطينيين: دفعهم للرحيل أو تهجيرهم بالقوة، في حال كان من الصعب "إبادتهم". وما تركه في قلب المواجهة تأكيد لهذا المبدأ. يحلو للاحتلال الركون إلى "القضاء" في مثل هذه القضايا، للإيحاء بأنه مكبّل إزاء اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، لكن الاحتلال نفسه لا يبالي بأي قضاء وقانون، حين يتعلق الأمر بممارسة الانتهاكات ضد الفلسطينيين.

طبعاً، هناك من استجدّ أخيراً على التاريخ، معتبراً أن المواجهة هنا تقتصر على جانبٍ دون آخر، لكن الخطيئة الكبرى تنطلق من هذه المقاربة الخاطئة. بن غفير وأنصاره تقصّدوا الاعتداء على سكان الحيّ في أيام شهر رمضان، لإشعال حرب دينية مصغرّة. والمتطرفون يعشقون هذا النوع من الصراعات، لأنه مبرّر وجودهم وديمومتهم حتى إشعار آخر. صحيحٌ أن فلسطينيي الحيّ هوجموا في لحظةٍ كانوا يمارسون فيها متطلبات دينهم، إلا أن الدفاع عنهم يفترض أن ينطلق من عنصر واحد: حقهم الطبيعي في السكن والتملّك والإيمان بمعتقد ما في أرضهم. لا يجوز لأي إنسانٍ في الكوكب أن ينظر إلى هذا الصراع من زاوية دينية أو عرقية فقط، على الرغم من تشبّعه بكل مكوناتها، وإلا يفكك كل عناصر التضامن، ويخمد الزخم المتلاحق الداعم لها. فلو حصل هذا الأمر في الولايات المتحدة مثلاً، لما كان باراك أوباما رئيساً. ولو طُبّق هذا المفهوم على جنوب أفريقيا، لما انتهى نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد(

صحيحٌ أن الهامش ضيّق للفصل بين التعاطي وفقاً للمعطيات الموجودة ووجوب رفع مستوى التضامن إلى صورة إنسانية بحتة، خصوصاً أن الأحداث تتسارع بشكلٍ لا يُمكن معه توسيع مفهوم "تعزيز التضامن" خارج السياقات الدينية والقومية، إلا أن مجرّد التفكير به يسمح لنا بفهم جوهر الصراعات كلها، وإدراك أن مواجهات حي الشيخ جرّاح ليست مجرد نزاع ديني أو قضائي، بل بين معتدٍ وصاحب حق. في الأصل، تطمح سلطات الاحتلال، عبر تكريس "يهودية الدولة"، إلى تطوير مفهوم النزاعات واتخاذها أبعاداً دينية. ومن شأن هذا التوجيه الإسرائيلي أن يستنبط، في المقابل، دفاعاً دينياً مماثلاً، بغية نزع العامل الإنساني البحت في الدفاع عن القضية الفلسطينية. وذلك كله يستولد الأخطاء المتناسخة، ويسهّل، في المقابل، تمدّد الاحتلال في القدس المحتلة وغيرها.

لا تحتاج القضية الفلسطينية، انطلاقاً من مواجهات حي الشيخ جرّاح، إلى جنون يسرّ الإسرائيليين، بل إلى تأكيد أن عدالة قضيتها تنطلق من حقٍّ إنساني بحت. ومع أن الحيّ، بحدّ ذاته، نقطة صغيرة في كوكب كبير، إلا أنه سيرسم الكثير عن مستقبل منطقتنا، كما رسم غيره عن ماضيها.

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا