الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

"أوراق فايسبوك" فاضحة والعرب في قلب عاصفتها.. لكنهم غائبون!

غسان رزق

 

في كتاب "جالوت والمعلومات"، أشار الأميركي بروس شنايير، الأستاذ في "جامعة هارفرد" وعضو إدارة "مؤسسة الحدود الإلكترونية" الناشطة في مجال الحقوق الرقمية أميركياً وعالمياً، إلى استحالة أن يفهم الجمهور النصوص التي تضعها الشركات في مربع "أوافق/لا أوافق"، لأنها مكتوبة بلغة قانونية معقّدة حتى بالنسبة للمتخصصين في الحقوق.


وأشار شنايير الذي أطلقت عليه مجلة "إيكونومست" البريطانية لقب "مُعلِّم الأمن"، إلى أن ترجمة تلك النصوص إلى لغات غير الإنجليزية يشكل تحدياً هائلاً، واقترح أن تتولى الحكومات ذلك الشأن، علماً أن كتاب "جالوت والمعلومات" تمحور حول الوثائق التي كشفها خبير المعلوماتية الأميركي إدوارد سنودن بشأن التجسس الإلكتروني الواسع الذي تمارسه أجهزة الاستخبارات الأميركية، خصوصاً "وكالة الأمن القومي".

إعلامياً، حمل سنودن لقب "مُطلق صفارة الإنذار" قبل أن يتحول إلى منشق، خصوصاً أن الرئيس السابق باراك أوباما أبدى تشدداً في رفض كل الأصوات التي خرجت من صفوف الحزب الديموقراطي لتدافع عن سنودن وتطالب بمحاكمة عادلة له أساسها أنه مُطلِق صفارة إنذار، سعى إلى تنبيه الجمهور الأميركي والعالمي بما تفعله أجهزة الاستخبارات في الدول العظمى الأولى عالمياً، بشعوب العالم بمن فيه شعبها ذاته.

وفي الإعلام الغربي، ما أن ظهرت فرانسيس هوغن في الكونغرس الأميركي، وقدمت أوراقاً امتلكتها بحكم موقعها كمديرة المبيعات العالمية سابقاً في "فايسبوك"، حتى استُعيدت صورة سنودن وأوراقه عن التجسس العالمي لـ"وكالة الأمن القومي" الأميركي. ووُصِفَتْ هوغن بأنها مُطلقة صفارة إنذار بشأن "فايسبوك". وتصادف أن حدث ذلك مباشرة قبيل إطلاق مارك زوكربرغ، مؤسس "فايسبوك" ومديره التنفيذي، عن مشروع "ميتافيرس" (Metaverse). وتحديداً، جاء إطلاق "ميتافيرس" بعد يوم واحد من ظهور هوغن أمام البرلمان البريطاني كي تُدلي بمعلوماته عما يجري بعيداً عن أعين الجمهور في "فايسبوك". ولم يتردد إعلاميون كُثُر من الربط بين الأمرين معتبرين "ميتافيرس" ستاراً من قنابل دخانية هدفها التعمية على ما تكشفه هوغن.

الذكاء الاصطناعي المرتبك

"إنها حقائق مخيفة". تكرر ذلك العنوان وما يشبهه في غير وسيلة إعلامية غربية في وصف ما أوردته هوغن أمام الكونغرس الأميركي وكررته أمام البرلمان البريطاني. وأشارت في مجملة إلى كون "فايسبوك" بات أكثر بكثير من مجرد شركة ومنصة. فمع ما يزيد على 3 مليارات مستخدم، صارت الشبكة الاجتماعية مالكة لقوة كبرى تمكنها من التأثير في مجريات أمور الشعوب والمجموعات والأفراد، وباتت بذلك رمزاً واضحاً للقوة التي امتلكتها عبر الإنترنت في تطورها وانتشارها عالمياً، وتحولها جزءاً من الحياة اليومية للناس في كل مكان.

"بالنسبة إلى ملايين الناس في آسيا وأفريقيا، الإنترنت هي فايسبوك والعكس بالعكس". وفي المقابل، ذكّرت هوغن بتاريخ من تعثر "فايسبوك" في التصرف بمسؤولية عن ذلك، مشيرة إلى فضيحة "آناليتكا" التي أثبتت عدم قدرة تقنياً على حماية بيانات ملايين المستخدمين، والأسوأ أنه تورّط في بيع واسع ومستمر لبيانات الجمهور لشركات تجارية، متجاوزاً عن وعوده والتزاماته بعدم التصرف في تلك البيانات أصلاً. كما ذكرت هوغن بتورط "فايسبوك" في التدخل الروسي المفترض في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016، عبر تهاونه أمام الإعلان السياسي على منصته، الذي ينحاز إلى أحد طرفي الانتخابات، وهما دونالد ترامب وهيلاري كلينتون آنذاك.

ولعل الأمر الجديد الذي قدمته هوغن يتمثّل في كشفها أن "فايسبوك" كان على علم بكثير من مجريات تلك الفضائح والانتهاكات، إضافة إلى تورطه المباشر فيها سعياً لكسب المال، كالحال مع بيع بيانات الجمهور للشركات الإعلانات الموجهة. وكذلك، شددت على أن كسب المال، وليس المسؤولية عن الناس، هي المحرك الأساس لـ"فايسبوك"، إلى حدّ أنه يمارس كذباً ممنهجاً في ذلك الشأن.

وفيما يدأب الموقع على الزعم بأنه يحمي الأطفال والمراهقين والشباب، كشفت هوغن أن إدارته تضع مخططات لاستهداف تلك الشرائح واستدراجها إلى وضعية تزيد انكشافها أمام من يستهدفها. وفي مثل ربما لا يكون مألوفاً في الثقافة العربية، لفتت هوغن أن "فايسبوك" أسقط عمداً الاعتراضات التي وصلت إليه بشأن زيادة الضغوط النفسية على المراهقات بفعل إعلانات متدفقة تنمط الجسد الأنثوي في قالب العارضات، ما يجعل صاحبات الأجساد العادية يشعرن بأنهن أقل من سواهن.

وفي مسرد آخر، تناولت هوغن ما يعرف عن استخدام منصة "فايسبوك" في الاتجار بالبشر، بما في ذلك تجارة الجنس العابرة للحدود بالنسبة للنساء، والاتجار بالأطفال. وشددت على أن المسألة في تلك الأمور ليست في عدم قدرة "فايسبوك" تقنياً على حماية منصته من تلك الاستخدامات المنتهكة لحقوق الإنسان، بل إنه يعرف عدم قدرته وناقشها ولم يتصرف بموجب معرفته بها، بل كذب باستمرار بشأنه، سواء مع الدول أو الجمهور، مدعياً أنه يحمي جمهوره منها.

ومن الناحية التقنية، ووفق نقاشات داخلية في "فايسبوك" كشفتها هوغن، يفترض أن الذكاء الاصطناعي المستخدم ضمن منصة "فايسبوك" يتولى مسؤولية الحماية المفترضة. لكن الأمر ليس كذلك. إذ قدمت هوغن أوراقاً معتمدة داخل الإدارة العليا في "فايسبوك"، تظهر أنه لم يولي أهمية لتقصير الذكاء الاصطناعي لدى "فايسبوك" في تلك المناحي. وفي لغة أكثر شيوعاً، استُخدِم مصطلح "خوارزميات" بدل الذكاء الاصطناعي، لأن الخوارزميات هي قلب ذلك الذكاء، وكذلك فأنه مصطلح أكثر تحديداً من اصطلاح "الذكاء الاصطناعي" الأوسع مدىً.

العربية المستعصية

وفي مسرى يتصل مباشرة بالعرب، لفتت هوغن إلى أن "فايسبوك" يتعامل مع 100 لغة في العالم، لكن فرقه العاملة على المحتوى غير الانجليزي، أي قرابة 15 ألف شخص، لا يتحدثون سوى 70 لغة، ويعملون في 20 موقعاً موزعاً في أرجاء العالم. واستناداً إلى معطيات كتلك، لاحظت هوغن أن مستوى الاهتمام والحماية لدى "فايسبوك" في المحتوى المكتوب بالانجليزية ولغات غربية، أعلى بكثير من تلك المعطاة إلى لغات أخرى.

وهنا، لاحظت هوغن أن "فايسبوك" علم تماماً ومبكراً باستخدام المنصة في عمليات التجنيد عبر الإنترنت، خصوصاً من قِبَل التنظيمات الإسلامية المتطرفة ووصولاً إلى "القاعدة" و"داعش". وشددت على أن إدارة "فايسبوك" لم تتخذ سوى خطوات محدودة المدى حيال تلك المسألة التي تتعلق بالإرهاب العالمي مباشرة. وبموجب "أوراق فايسبوك"، فإن الإدارة علمت أن ما تبذله من جهود أقل كثيراً من أن يتصدى لتلك الظواهر الإرهابية، لكنها لم تعطِ الأمر اهتماماً أكبر، رغم التوسع المستمر في استخدام "فايسبوك" من قِبَل تلك التنظيمات.

إلى ذلك، لاحظت هوغن أن اللغة العربية مثلت تحدياً لم يستطع الذكاء الاصطناعي المستخدم في "فايسبوك" التصدي له. وأشارت إلى أن "فايسبوك" عرف جيداً أن اللغة العربية ليست واحدة بالطريقة التي يستخدمها فيها جمهور الموقع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع نصوص بالعاميات المتعددة في تلك المنطقة، وهي من الأشد اضطراباً في العالم وتضم مرتكزات شبكات إرهابية معروفة، يصعب على الذكاء الاصطناعي لدى "فايسبوك" أن يتعرف على النصوص التي يمكن تصنيفها كخطاب كراهية أو تحريض على الإرهاب أو تجنيد في الشبكات الإسلامية المتطرفة.

وفي منحىً تقني، أشارت هوغن إلى أن التعرف على "لغة" (تشمل الفصحى والعاميات العربية معاً)، يقتضي أن "يتعرف" عليها الذكاء الاصطناعي ثم يجري تدريبه على ملاحظة النصوص والسياقات وما إلى ذلك. وبيّنت "أوراق فايسبوك" أن تدريب الذكاء الاصطناعي على "اللغات" العربية لا يحصل، بل أن أحد الأوراق أقر بوضوح أن "اللغة العربية تمثّل نقطة ضعف وهشاشة بالنسبة إلى فايسبوك بشكل مميز". ووفق هوغن، ينطبق وصف مماثل، لكن أقل إرباكاً من الناحية التقنية، على لغات أخرى كالهندية والبنغالية والأمهرية والأومورية.

ومن الواضح أن الإعلام العربي، بشكل عام وليس كله، بقي خارج تلك النقاشات، رغم الطريقة البارزة التي حضرت فيها مسألة ارتباك الذكاء الاصطناعي حيال اللغة العربية ومشتقاتها، وعلاقة ذلك مع الاضطرابات المسلحة والشبكات الإرهابية والفساد والتهريب والاتجار والبشر وغيره، في المنطقة العربية وجوارها. والسؤال هنا: هل هنالك ما يبرر ذلك الغياب؟ 

ولولا أن كومبيوتري خذلني، ولم أعثر رغم التفتيش والتدقيق على تلك الصورة التي تلخص أفكاراً كثيرة، لابتدأت الإجابة بفكرة صغيرة تتعلق بشيء ما حدث في إسرائيل. بالتحديد، من معرض أقامه قبل سنوات قليلة ناشطون في مجال الدفاع عن حقوق الرقمية للأفراد والجمهور، تضمن تجهيزاً لفنانة شابة سعت إلى عرض احتجاجها على بعض ممارسات الشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات.

واستخدمت تلك الفنانة لغة بصرية بسيطة في ذلك. إذ عمدت إلى طباعة كامل ما يحتويه ذلك المستطيل المألوف الذي يظهر أمام أعيننا تكراراً ويظهر تحته زران كتب عليهما "موافق" أو "غير موافق"، وكلنا يضغط بصورة شبه تلقائية على زر "موافق"، لأنه يعلم أنه إن لم يفعل ذلك، فستنقطع الخدمة التي يسعى إليها أو يدخل في متاهة إجراءات تقنية معقدة. وعمدت الشابة الإسرائيلية إلى طباعة النص الكامل لما يحتويه زر "موافق". وامتد النص على ورقتين طويلتين امتدتا من سقف القاعة إلى أرضها، في سطور مرصوصة. وعرضت الفنانة مجموعات من تلك الأوراق، تحتوي على نصوص مربعات "أوافق/لا أوافق"، تعود إلى مجموعة من الشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات، من بينها "غوغل" و"فايسبوك" و"مايكروسوفت".

ما علاقة ذلك العمل الفني بالسؤال عن غياب العرب عن فضيحة "فايسبوك"؟ ببساطة، هناك شبه غياب أيضاً للصوت النقدي فيما يتصل بأعمال ومسارات الشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات، على الرغم من وجود وضعية معاكسة في أميركا والغرب ومعظم دول العالم. وليست الضريبة العالمية على شركات المعلوماتية والاتصالات سوى مثل عن ذلك، إذ انطلقت فكرتها من الولايات المتحدة ثم تبنتها الدول الغربية ثم أقرت عالمياً، خصوصاً بعد قمة "مجموعة العشرين".

أين هو النقاش العربي المعمق عن تلك الضريبة؟ كيف يبدو غياب العرب عن فضيحة "أوراق فايسبوك" فيما لغتهم وشعوبهم ومساراتهم في القلب منها؟

المصدر :  جريدة (المدن) البيروتية

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا