الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

المظاهرات في تل أبيب حرام…

والمظاهرات عند العرب «يوك» فما العمل؟

جواد بولس

 

كما كان متوقعا، فقد بدأ وزراء الحكومة الإسرائيلية الجديدة بتطبيق تدريجي لمخططاتهم المعلنة؛ ومن المتوقع أن يشعر قريبا الكثيرون من المواطنين، خاصة العرب، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى القطاعات المهنية والشرائح الاجتماعية، بتبعات السياسات الجديدة وبأوزارها.
وعلى الرغم من أن بعض الأفراد بدأوا بدفع ثمن الممارسات الإسرائيلية القمعية الجديدة، سيبقى خطر هذه الحكومة الأكبر كامنا في إصرارها على تقويض المنظومة القضائية، تحت مسمى الإصلاحات الإدارية، وتعزيز قوة وصلاحيات الحكومة وأدوات سيطرتها على نظام الحكم وتزودها بقوانين جديدة سيخضع معظمها لسلطة الشريعة اليهودية، كمصدر أعلى لفصل المقال. هكذا قرأنا وسمعنا في الأيام الأخيرة.

لا شيء يخيف ويقهر أكثر من صمت الضحايا، أو تفاؤلها الموهوم، وهذا حال مجتمعنا العربي، ويبقى غياب دور الهيئات القيادية داخل مجتمعاتنا الأكثر إحباطا

لقد بدأت شرائح واسعة من داخل المجتمع اليهودي بتشخيص رغبات أحزاب الائتلاف الحكومي، وما ستفضي إليه في ما إذا تحققت مخططاتهم، وكيف سيكون وقعها عليهم مباشرة وعلى صورة ومكانة وأمن دولتهم، التي دافعوا عنها وخدموها في العقود الماضية؛ لقد أرادوها دولة «يهودية وديمقراطية»، وآمنوا بضرورة التمسك بصيغة هذا التزاوج، معتقدين أنه قران جائز وصالح ونزيه؛ واليوم نرى أن بعضهم بدأ يعيد النظر بهذه «المسلَّمة» ويقتنع باستحالة تطبيقها، وبأن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتنفس في فضاء تحتله ديانة سُيّست وحُزّبت وجُيّشت وطغت، ولا ديمقراطية تتخثر في خوذات جنود تحتل دولتهم شعبا آخر وأرضه، ويزرعون فيها، جيشا وميليشيات سائبة، القتل والخراب والرعب صباح مساء. لا يستطيع أحد التكهن كيف ستتطور حراكات الاحتجاج الإسرائيلية التي ما زالت تبحث عن طريق سياسي واضح، وقيادات حازمة وقادرة على وضع الحروف الصحيحة واللازمة على يافطات المواجهات المقبلة؛ «فنعم للديمقراطية» هو شعار مهم وضروري، لكنه لا يكفي لترشيد المسار ودفعه نحو الهدف المرتجى، لاسيما إذا استعدنا تاريخ العوامل والظروف التي أدّت إلى تنصيب هذه القوى الخطيرة على سدة الحكم؛ فالانهيار السياسي الذي نشهده داخل المجتمع اليهودي لم يحصل بشكل فجائي؛ وعملية الانزياح تجاه هذا اليمين المتحوّر بنزعتيه الخطيرتين: قوى دينية متزمتة، إلى جانب مجموعات تحمل الفكر الفاشي الواضح، هو نتاج سيرورة طويلة، نامت خلالها هذه الجموع التي نراها اليوم تملأ شوارع تل أبيب وغيرها، أو آمنت بأن إسرائيلهم حصينة من أن تصاب بداء فقدان الإنسانية، وأنه يجوز لجيشها أن يكون «جيش الاحتلال الإسرائيلي» ويدّعي قادته أنهم أبرياء ويخدمون دولتهم الديمقراطية. تدور داخل المجتمعات اليهودية، في إسرائيل وخارجها، نقاشات حادة حول أهمية المشاركة في النشاطات الاحتجاجية ضد الحكومة الجديدة، وحول الشعارات التي يجب أن يتبناها منظمو تلك الاحتجاجات. يتوجب علينا أن نتابع ونصغي لهذه النقاشات، وكيف بدأت تخرج من بينها أصوات عديدة تنبه إلى ضرورة ربط المطالبة بالحفاظ على الديمقراطية، بإنهاء الاحتلال وبتأمين المساواة التامة للمواطنين العرب في إسرائيل؛ فهكذا فقط، راح يفكر البعض، من خلال هذه المعادلة المتكاملة يمكن أن تكون إسرائيل دولة طبيعية وديمقراطية دون زيادات ولا نقصان. ليس كل من يشارك في الاحتجاجات ضد حكومة بنيامين نتنياهو الحالية يعي ضرورة الربط بين تلك المسائل الثلاثة: الديمقراطية، وإنهاء الاحتلال، ومساواة المواطنين العرب؛ بيد أن في مثل هذه التفاعلات الاستثنائية تتحكم قوانين داخلية تبقى احتمالات تحوّلاتها على جميع الاتجاهات واردة، شريطة أن يبقى التمسك بمبدأ الاحتجاج على سياسات الحكومة المعلنة والمضمرة ومعارضتها بحركة شعبية متنامية، هو العنصر الأهم واللاحم في هذا المشهد، حتى لو اختلفت دوافع المشاركين؛ فمنهم من يشارك دفاعا عن دولته كما كان يريدها، ومنهم من لا يريد تشويه صورتها بين الأمم، ومنهم من يخشى على هزيمتها في حرب دينية قريبة، ومنهم من يجزم أن مخططات الحكومة المزمعة، لاسيما حيال مكانة الجهاز القضائي، من شأنها «أن تمس الأمن القومي الإسرائيلي، سواء على المستوى الداخلي، أو على المستوى الخارجي، هذا علاوة على مسها بهوية الدولة الديمقراطية»، كما جاء في مقال مهم بعنوان «استقلال المحاكم والأمن القومي لإسرائيل» نشر مؤخرا في نشرة خاصة تصدر عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل أبيب.
لن أعدد قائمة الأشخاص والمعاهد التي كتبت حول ضرورة الربط بين ما يجري، وكون إسرائيل دولة محتلة وعنصرية تجاه مواطنيها العرب؛ لكنني سأشير إلى مقال كتبته قبل أسبوع، في جريدة «هآرتس» العبرية البروفيسورة إيفا ايلوز، وهي اسم لامع في الأكاديمية الإسرائيلية وفي جامعات أخرى، متخصصة في علم الاجتماع. فتحت عنوان «خلاصات من الانتخابات: فقط التسامح غير الصبور ينقذنا»، كتبت عن مفهوم وعلاقة القوة بالممارسة الصهيونية، وعن مكانة الديانة اليهودية في إسرائيل وكيف تعامل معها العلمانيون اليهود، وعن تغييب الاحتلال الإسرائيلي كموضوع مركزي يهدّد صورة إسرائيل كديمقراطية، وعزت ذلك بالأساس لقادة حزب العمل؛ حتى إنها اعتبرت سياستهم سببا في اندثار حزب العمل.
لا شيء يخيف ويقهر في مثل هذه الأوقات مثل صمت الضحايا، أو تفاؤلها الموهوم، وهذا واقع حال مجتمعنا العربي، حيث نجد أن أكثريته تحترف السكوت والكسل، وقلّته تنعم بتفاؤل غيبي أو ساذج. ويبقى غياب دور الهيئات القيادية داخل مجتمعاتنا الأكثر إحباطا واستهجانا. لقد كتب، في هذا الصدد، محمد بركة رئيس «اللجنة العليا لمتابعة قضايا الجماهير العربية» على صفحته مؤخر بأننا «لسنا عبثيين كي لا نرى أهمية هذا الحراك في إسرائيل لضعضعة حكومة الفاشيين بقيادة بنيامين نتنياهو، لكن هذا الحراك ليس كافيا، ويبقى خارج الملعب الأساسي». فهل يفسّر هذا الكلام غياب دعوة الجماهير العربية للمشاركة في احتجاجات تل أبيب؟ ربما جزئيا، ولكن من سيدلّنا إذن، كيف وأين سيكون النضال كافيا؟ كنت أرغب بأن يشارك المواطنون العرب في مظاهرات الاحتجاج إلى جانب عشرات الآلاف من المواطنين اليهود، وأن يؤثّروا في مضامينها وحركتها؛ أو بالتبادل، كنت أرغب بأن نرى مثل هذه المظاهرات في الناصرة وفي سائر مدننا وقرانا وبمشاركة عربية يهودية واسعة ومؤثرة. هذا هو واجب قياداتنا ومؤسساتنا ودورها في مواجهة خطر الحكومة الإسرائيلية، فهل هم قادرون أو راغبون في القيام بمثل هذه المهمة وتحمّل المسؤولية، في حين لم ينجحوا بالتصدي لزحف الفاشية حين كان يجب أن يواجهوها، حتى وصلنا إلى نقطة الحسم التي نقف عندها اليوم. حاول ويحاول الكثيرون بيننا التعاطي مع أسباب هذا القصور والفشل مفترضين أننا كمجتمع نملك مؤسّسات ومفاعيل سياسية واجتماعية ومدنية راغبة وقادرة على أن تقود مجتمعنا، وأن تحافظ على هويته ومناعته وتحميه؛ هكذا كان الافتراض والأمل، لكنّ واقعنا كان أكثر تعقيدا وعجزا عن أداء تلك المهمة؛ فأساس مشكلتنا كان، واليوم صار أوضح، بأننا كمجتمع مارسنا حالة انزلاق خطير ولم نشعر، أو لم نعترف بأننا نفتقد لتلك المؤسسات الواقية الحقيقية، ومضينا نمارس حياتنا بين وهمين: الأول، قبولنا بما هو قائم من أحزاب وحركات سياسية ودينية تقليدية، أدخلتنا إلى دوائر مفرغة، هي بذاتها كانت تولد أسباب فقداننا لمناعاتنا الاجتماعية والسياسية وقدراتنا على التصدي لجميع التحديات الناشئة في علاقاتنا الداخلية، وفي الوقت نفسه، التحديات في علاقاتنا مع المجتمع اليهودي المتغيّر ومؤسسات وقوانين الدولة التي يفرزها ذلك المجتمع. والثاني ما نتج عن تفاقم الحالة الأولى، وهو اقتناع قطاعات واسعة من المواطنين العرب، لأسباب مختلفة، بأن أحضان الدولة أضمن وأربح لهم، فابتعدوا عن مواجع مجتمعاتهم ودخلوا «فقاعة» سرعان ما وجدوها هشة زائلة.
لقد راهن البعض على أن الفرصة أمام هيئاتنا القيادية: «اللجنة العليا» والأحزاب السياسية والحركات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني ومجالسنا المحلية، ما زالت متاحة، وكل ما ينقصها هو بعض الإجراءات التصحيحية داخل هياكلها التنظيمية، إضافة إلى إعادة نظر بعضهم في برامجهم السياسية ومعتقداتهم الناظمة لعلاقاتهم مع الدولة اليهودية. أما أنا فكنت قد وصلت إلى قناعة مفادها بأننا أمام حالة مستعصية تستوجب منا وقفة جديدة لنقرر كيف يمكننا مواجهة خطر الفاشية، واقترحت في حينه التفكير في صياغة عدة بدائل كان من أهمها، العمل الفوري على بناء الجبهة العريضة ضد الفاشية لتضمّ كل القوى العربية واليهودية المستعدة لخوض هذا النضال، حتى لو كان بعضهم يعرّفون أنفسهم كصهيونيين. لم أكن واهما عندما أطلقت ندائي بضرورة الشروع لبناء «الجبهة ضد الفاشية» بأن جميع الأطر السياسية والاجتماعية المهيمنة داخل مجتمعاتنا – رغم شعور الجميع بأننا سنكون أول ضحايا النظام السياسي المتشكل داخل إسرائيل – ستسارع للانضمام إليها، وذلك لمعرفتي أن مجتمعنا العربي يفتقد عمليا إلى مثل تلك الأطر المؤمنة بضرورة ممارسة الديمقراطية كأساس لنظام سياسي يريدون تطبيقه، لو هم حكموا في دولتهم، ولأن بعضهم لا يرون ولا يشعرون بالفاشية خطرا مطلقا تتوجب مواجهته دون قيد أو شرط، لأن بعضهم ببساطة يحمل أفكارا وعقائد لو أطلقت لها الأعنّة، في دولة يحكمونها هم، كانت ستتطابق والفكر الفاشي بتعريفاته العلمية. وبلغة أخرى أقول، وأعرف أنني سأستفز الكثيرين، نحن مجتمع لا نمارس الديمقراطية، مهما تحاورنا على صورها وأشكالها، فهي هجينة على ثقافتنا وموروثنا؛ وبعض تياراتنا المؤثرة يتبنى قيما فاشية، حتى لو لا يسمونها كذلك. إذن ما العمل؟ فإذا كانت المشاركة في حراك تل أبيب غير مرغوبة أو محظورة، أو غير كافية، وإذا استمرت حالة السكون والسكوت على حالتها في مواقعنا، فمن سيحمي معلّمة عربية طردوها بسبب «بوست» كتبته كي تمجد فيه حلمها بالوطن؟ أو من سيحمي طبيبا ابتسم وحيا مريضه الفلسطيني؟ وكيف سيحمي نفسه سائق سيارة من الرصاص إذا لم يقف عند خط من غبار رسمته ثلة قناصة عند مفرق تائه في الرملة أو في ام الحيران؟ وماذا وكيف ومن؟
كاتب فلسطيني

 

 

جواد بولس

 كاتب فلسطيني محامي 

 ناشط في مجال حقوق الانسان  (من كتاب البلاد)

(مقالات سابقة)

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا