الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الخامس)

أيدٍ مكبلةٌ...عقول طليقةٌ!

 

محمود حمد

 

كان "عروة" في السادسة عشر من العمر في تلك الليلة المظلمة التي اختلط فيها خرير المطر الغزير، بأزيز الرصاص المتواصل، مع صوت المؤذن مبحوحاً داعياً لـ(صلاة الفجر)!

اقتحمت مفرزة من المسلحين المدججين برشاشات (بور سعيد!) ومعهم زمرة من (الطلبة الأدِلاّء المُلَثَّمين!) مبنى (دار سكن الطلبة) في (منطقة الوزيرية) بالعاصمة، عَرَفَ من بين المُلَثَّمين صديق طفولته (هلال ابن أبو الطرشي) الذي كان طالباً بمعهد التربية الرياضية!

كان (الأدِلاّء المُلَثمين) يشيرون إلى طابور الطلاب المرصوفين ووجوههم إلى الجدار الواحد تلو الآخر لتشخيص (معارضي الانقلاب!) ...

صرخ قائد المفرزة بـ(الأدِلاّءِ المُلَثَّمين) بلكنة صحراوية جافة:

يا أبناء العاهرة... قولوا:

إنهم جميهم خونة وضد الثورة...حتى نتخلص منهم ونذهب لإكمال عملنا!

عَصَبوا أعين الجميع بمناشف الحمّامات، وقيدوا أيديهم للخلف بحبال القِنَّبِ، وساقوهم بأعقاب البنادق إلى طابور الشاحنات التي كانت مكتظة بالطلبة المعتقلين من كليات ومعاهد مختلفة.

عصف به انفعال غاضب مُتَّقِدٌ بالخوف لم يألفه من قبل، كاد أن ينفجر بوجوه المسلحين دون تفكير بِرَدَّةِ فعل أشخاص مدججين بالكراهية والسلاح في تلك اللحظات التي انعدمت فيها لغة العقول والألسن وسادت لغة الرصاص الطائش...لكن وجوده وسط حشد الطلاب الجامعيين المُكَبَّلين وهم يتقدمون بحذر وصمت ومهابة دون استفزاز للمسلحين هَدَّأ انفعاله!

في تلك اللحظات طافت في عقله صور تلك الشخصيات والجماعات المثقفة الثورية!، في مدينته الفقيرة (العمارة)، الشخصيات التي أُعجِبَ بها وبـنضالاتها السرية!، واستمع بشغف إلى الأحاديث عنها، وتناقل أخبار مواقفها الشجاعة التي سمعها بيقين مُتكَلسٍ لا يساوم عليه، وبالَغَ في مدحها وسعى إلى جمع الناس من حولها...وأضاف من خياله لها ما يجعلها (قدوة!) يَهيمُ بها!

كان مستعداً للتضحية من أجلها كأي عاشق بِكْرٍ...منذ أخذته الرياح الحماسية الطاغية إلى أجواء العمل الطلابي المُنظَّم في فترة مبكرة، وهو في الثالثة عشر من العمر...أخلص لها في مرحلة ميله الشديد لقراءة الكتب التي تشغل بال الكبار وتُكَرِّسُ الوعي الرافض لكل أشكال التَسَلُّطِ... وانتقاد استبداد رموزه، وكشف جذوره وبيان عوامل صيرورته ونشوئه بأسلوب صبياني لاذع!

انطلقت بهم ناقلات الجنود (زيل) على طريق السدة الترابية المظلم، الملاصق لمبنى كلية التربية ... توقف طابور الناقلات فجأة ولعلع الرصاص، تعالت صيحات الطلاب وصرخاتهم داخل الناقلات العسكرية:

مقاومو الانقلاب يوقفون القافلة...اهربوا من الناقلات!

قذفوا أنفسهم من جوف الناقلات إلى المجهول، معصوبي الأعين، مُكَبَّلي الأيدي إلى سفح السدة الترابية، بعيداً عن أنوار الناقلات التي انحرفت عن مسارها إلى كتف السدة...التقاهم شباب متحمسون...فكوا وثاقهم، وسلكوا الطريق باتجاه أكواخ حي العاصمة، الذي يستوطنه البؤساء المهاجرون من قراهم في مدن العراق المختلفة بعد إملاقهم على يد الاقطاعيين...ذلك الحي الذي تمتد أكواخه على جانبي نهر (شطَيِّط (...الواقع في المنخفض المحيط بشرق العاصمة كمستودع مكشوف تُفرِغُ فيه العاصمة خراءها!

ابتلعت الظلمة مئات الطلاب المُطارَدين...كان "عروة" يهرول بصمت وذعر، يسير معه باتجاه واحدٍ غامض المدى (ثلاثة اشباح) لا يعرفهم...كان بينهم شاب متعثر في مشيته ممسك بصاحبه، لأنه اعشى!

دعاهم أحدهم بلغة عربية بلكنة كوردية مفعمة بالسخاء للجوء معه إلى قريته في (سيده كان) بكوردستان العراق...

رد عليه الآخر بنبرة شكر وعرفان:

أهلي في (مدينة عنَّه) عند حافات الصحراء...على ضفاف الفرات!

في هروبهم كانوا يتبادلون الأحاديث والأخبار بحذر عن (الانقلابيين!) ...لكن حديث طالب الصف المنتهي من كلية الطب القادم من (مدينة عنَّه) كان أكثرهم إحاطة بالخطر الذي ينتظر معارضي الانقلاب!، وأظهرهم نُضْجاً في التَفَكُّرِ بعواقب خطوتهم القادمة!

فيما كان (الأعشى) الطالب بكلية الزراعة يلوذ بالصمت...

مع انبلاج الفجر وَدَّعوا بعضهم بعضاً وقد اغرورقت عيونهم بالدموع...انتابه شعور مرير بالحزن، كأنه سيفتقد أخوة له مدى العمر...دون أن يعرف حتى أسمائهم!!

رغم مضي ما يزيد على خمسين عاماً، رَسخت في ذاكرته لحظات الفراق المفجع تلك، لأشخاص لا يَعرِفهُم، لكنه يَعرِفهُم!

حال افتراقه عنهم سلك الطريق الترابي المؤدي إلى مدخل العاصمة الجنوبي دون المرور بنقاط التفتيش التي بدأت تظهر كالأورام الخبيثة في الشوارع، عند مفترقات الطرق، وعلى مداخل المدن ومخارجها!

أقَلَّتْهُ سيارة خُضار عائدة بحمولتها بعد أن تقطعت الطرق إلى سوق بيع الخضار...لم يكن وحده في حوض الشاحنة المكشوف.

ناداهم السائق أكثر من مرة:

كُلُوا وخُذوا ما تحتاجونه من فواكه وخضار!

كان في الشاحنة عدد من العمال (المياومين) القادمين من القرى القريبة من العاصمة...العائدين لقراهم خائبين بعد قرار منع التجول في العاصمة إثر الانقلاب!

قبل وصولهم إلى (محافظة الكوت) جنوب العاصمة، بقي وحده مع الخضار.

في (ناحية شيخ سعد) جنوب (محافظة الكوت) انضم إليه رجل عجوز ونعجتان...أنهَكت النعجتان مقاومة الرجل العجوز في محاولاته منعهما من الاقتراب من صناديق الخضار والفواكه...بعفوية قروية كَلَّفَه الرجل العجوز تولي أمر إحداهما...ما أن أمسك بها حتى صار يُطعِمُها من صندوق الخيار فهدأت.. سأله الرجل العجوز باندهاش معاتباً:

أأنت صاحب الخضار؟!

ابتلع الإجابة على السؤال وقَدَّمَ حُزمة خُضار للنعجة التي يكبلها العجوز بيديه الراجفتين...

بعد ما يقرب من مئتين وستين كيلوا متر عند (ناحية على الغربي) انتهت رحلته حينما انحرفت السيارة إلى الطريق الزراعي المنحني حتى أفق الحدود الايرانية...سأله السائق إن كان يعرف كيف يواصل طريقه إلى مركز المدينة...قبل أن يجيب استدرك السائق وهو يضغط على دواسة التوقف:

بعد صلاة الظهر سَيَمُرُ (عبد الحسن) من هنا بجَرّارِه ذاهباً إلى مركز المدينة!

قبل الغروب اصطحبه (عبد الحسن) في رحلته إلى المدينة...

في الغروب وصل إلى أطراف المدينة على متن الجَرّار المتهالك!

كان وصوله مفاجئاً لـ(أمه) و(أبيه)...

تيبس الدم في وجه (أبيه) واستبد به الصمت والفزع، صار ينظر إليه كأنه يودعه إلى الموت...هَمست (أمه) بأذنه وهي تضع نصف دينار في يده:

(أدهم المسلول) وجماعته يترصدونك في الطريق...كانوا قبل قليل عند باب القلعة...يتوقعون عودتك منذ يوم أمس...اهرب إلى البستان من فجوة الجدار الطيني الخلفي للقلعة للتخلص منهم!

تفحص فناء القلعة التي يحتمي بها كوخهم من التشرد...بعد أن أزاحت المدينة فقرائها عن قلبها إلى ما بعد أطرافها المنسية المهملة...دون أن يدرك أن هذه هي المرة الأخيرة التي تمسح فيه عيناه فناء القلعة!

خرج من كُوَّةٍ في الجدار الطيني إلى بساتين المدينة المسكونة بالترقب، متستراً بظلمة الليل، يلاحقه نباح كلبتهم العرجاء التي نَجَتْ من دهسٍ متعمدٍ لسيارة فارهة...عَبَرَ الطرق الخلفية الوعرة...متنقلاً من سيارة إلى أخرى... قاطعاً عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام، سالكاً الطرق البعيدة عن كمائن الانقلابيين، كلما أقترب من مداخل المدن...حتى وصوله حي الـ(عاصمة!) البائس على حافات (نهر الخراء!) في العاصمة بغداد!

راودته مواقف أبطال الروايات والسير الذاتية للشخصيات (الثورية!) التي قرأها...غمرت مشاعره روح المغامرة في العمل السري!، نَحَّتْ جانباً ومؤقتاً مخاوفه من عواقب ما ينوي القيام به...في تلك المرحلة التي كانت فيها عيون وبنادق الانقلابيين تختطف الأرواح في الطرقات والشوارع!

جلس في كوخ عمه الحارس الليلي (أبو نوري) الملاصق لمجرى نهر (شطَيِّطْ) الذي تزكم رائحته العفنة الأنوف، ويغشو الذباب الأزرق الوجوه...يصك طنينه المسامع، ويزاحم الفقراء العيش في أكواخهم!

جلس يُقَلِّبُ أوراقه متأملاً رسومه التي لم تكتمل بعد...مُسْتَذكراً هوايته (كتابة المذكرات اليومية!) التي شَجَّعَهُ عليها مدرس اللغة العربية (الاستاذ عمر الحلبي) اللاجئ من بطش النظام في سوريا!

تردد كثيراً عندما نوى فتح صفحة لتدوين ساعات المحنة التي أعقبت الانقلاب...لكنه أقدم على مالم يتوقعه من نفسه:

(كتابة شعارات معادية للانقلاب!) على ورق الرسم الذي كان يأتي به إليه من المطبعة صديقه (حسام) ابن الصحفي (ناظم الحلي)!

كتب نصوص شعارات مستوحاة من مفردات السخط والحماسة التي يتذكرها، على قصاصات الورق الصغيرة المحملة بأسباب موته ووضعها تحت قميصه، وذهب بها عند الظهيرة المقفرة الى (متنزه 14 تموز) في شمال العاصمة، على الضفة الشمالية لنهر دجلة عند اطراف مدينة الكاظمية...حيث تلتقي عادة العوائل في الظروف الطبيعية...نشرها خلسة في جميع أنحاء المتنزه...واختفى!

بعد أُسبوع عاد ليتفقد نتائج (مغامرته!) ...

قبل الوصول إلى بوابة المتنزه حملت الريح إلى ما بين قدميه إحدى تلك القصاصات التي لم يكترث بها أحد! 

 

 

 

 

محمود حمد

 فنان تشكيلي عراقي من جيل الرواد

 صحفي وكاتب صدرت له رواية (ذاكرة التراب)

(مقالات ونصوص)

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا