الرئيسية || من نحن ||| اتصل بنا
 

د. ضرغام الدباغ استاذ جامعي باحث وكاتب عراقي مقيم في المانيا مؤسس المركز العربي الألماني برلين

 

الولايات المتحدة منزعجة

من السياسة المصرية ...!

ضرغام الدباغ

 

في إحدى اجتماعات مجلس الوزراء المصري (في أواخر الستينات)، أراد أحد الوزراء أن يزف بشرى للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فقال للرئيس، " سيادة الرئيس لدي تقرير من إحدى المنظمات الدولية تشيد بأداء الاقتصاد المصري وهذا هو التقرير تفضل ".فأجابه الرئيس الراحل،" لا أعتقد أن التقرير هذا يقصد الثناء على أدائنا، بل حتماً هناك خلل ما يقصدون إلهائنا عنه، وعلينا أن نجد هذا الخلل هذه المنظمات تعمل تحت سيطرة الإمبريالية التي تحاربنا ليل نهار، بأعلى الأساليب وأكثرها انحطاطاً، فتش عن الخطأ في عملنا سيادة الوزير ".

قلت أن هذا حدث في نهاية الستينات، في مرحلة كانت تجارب الرئيس الراحل قد بلغت درجة عالية من النضج ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الرمادي ناهيك عن الخط الأسود الحالك السواد. والسياسة السوداء الحالة السواد هي ما تمارسه الولايات المتحدة حيال كل نظام وطني تبدر منه مؤشرات التقدم والقوة والمنعة ... وخصوصا النظام المصري الذي لا ينبغي أن يخرج عن السيطرة مطلقاً، والأمريكان لا يفهمون شيئاً عدا مفاهيم القوة والسيطرة وسياسة الإذعان، وإبقاء الأنظمة في خدمة مخططاتها المحلية والعالمية.

القيادة المصرية رفضت أن تستجيب كليا للمطالب الأمريكية ومنها :

أرسلوا أسلحة جيشكم إلى أوكرانيا،

إلقاء الشبهات حول مكانة الجيش المصري، فنحن نريدكم أن تبقوا ضعاف تحت هيمنتنا،

لماذا تطورون البنى الأرتكازية في مصر (Infrastructure)، (البنى الأرتكازية هي الخطوة الأولى نحو النهضة الاقتصادية الشاملة)،

لا ينبغي لكم أن تكون لكم علاقات خارجية متوازنة مع روسيا والصين مثلاً،

لماذا تضايقون أثيوبيا بشأن مياه نهر النيل وسد النهضة،

لماذا تحاولون لعب دور مهم في القارة الأفريقية، فنحن من يوزع الأدوار ..!,

من هذه المؤشرات الواضحة تماماً، أن هذا ضرب من الاستعمار هو  أسوء من الأنظمة الكولونيالية القديمة، فهو يتدخل في كل شيئ، ويحول الدول إلى مجرد كيانات بخدمتها،  ونفهم أن الإدارة الأمريكية يزعجها أن يتمتع حلفاؤها بصحة جيدة، وإن تمتعوا بالصحة الجيدة، فيجب أن يكونوا تحت إمرتنا وقادتنا بصورة تامة  100% وأقل من هذا بمليمتر واحد لا نقبله حتى من بريطانيا، وفرنسا وألمانيا حلفاؤنا المقربين في أوربا، والرضوخ التام يعني دعوا إسرائيل تقود المنطقة بالوكالة، وتحت الهيمنة الكلية للولايات المتحدة، فهي (الولايات المتحدة) وهذا عجيب، لم تتعظ بهزائمها المرة، وبخسائرها للمنازلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومساحة حلفائها تتقلص يوما بعد يوم، ولكنها لا ترعوي ..ولا تتمعن في معطيات الواقع الموضوعي بدقة ... مصر اليوم تناهز 110 مليون نسمة، وهؤلاء بشر تتضاعف حاجاتهم الانسانية، وإنتاجهم على كافة المستويات، وكبلد كبير (أكبر بلد في افريقييا) له همومه الأمنية (المياه في مقدمتها) وهي موضع تآمر من قبل أمريكا، والكيان الصهيوني يتمادي في غيه وعدوانه، وأميركا لا تريد لجمه، بل تشجعه على العدوان، ورغم ذلك تريد من الجميع القبول بهذا التسع والتساهل مع المعتدي ..!

 

بأختصار شديد ... حين نجد الولايات المتحدة، تناهض النظام المصري، وتتآمر عليه بكافة الأساليب، فهذا يعني أن النظام المصري يدخل في عمق وظائفه، ويتصدى للمشكلات الأساسية، ويجد الحلول لها، وهو في طريقه لأستخدام أمثل للقدرات والثروات الطبيعية، وتعبئة جيدة للقدرات البشرية. ومواقف صائبة حيال المواقف المحلية والعربية والأفريقية والعالمية ..

تثير الولايات المتحدة لغطا شديداً للبنى الأرتكازية (Infrastructure) في أن اقتصادات التنمية، تشترط أن البنى الارتكازية هي الشرط الأساسي للإقلاع بعملية تنمية حقيقية، وحلول جذرية وليس ترقيع للمشكلات، ومصر بخطوط سكك حديدية حديثة، وجسور، وقنوات، ومعالجة طموحة لمشكلات المياه، والإسكان، وتلبية لحاجات الإنسان الأساسية، تضع مصر على الطريق الصحيح، والبنى الارتكازية ليس لها مردود مالي مباشر، ولكنها تفتح الطريق لنهوض اقتصادي عام، وهذا هو ما يزعج الولايات المتحدة، أن تجد مصر تلعب دوراً مهماً وهي تتطور بعلمية وتتقدم بخطى ثابتة، وهو ما يستدعي أن تتحرك أمريكا ضدها .

 

 

لماذا أنهار الغرب

 

ضرغام الدباغ

 

 

هناك مصدران مهمان، يبحثان في سقوط الإمبراطوريات العظمى في التاريخ: الأول وهو الأهم هو كتاب العلامة العربي الكبير أبن خلدون والذي لا غنى مطلقا عن دراسته وهو " المقدمة " والكتاب الآخر وهو حديث نسبياً وهو للعالم البريطاني / الأمريكي باول كنيدي (  Paul Kennedyصعود وسقوط القوى العظمى

 

لنتأمل ونتخيل، وفاة الاتحاد الأوربي، وأعتقد أنه قد توفي، ولكن إصدار شهادة الوفاة سيستغرق وقتاُ لا أستطيع تقديره ..! وسوف لن يكون هناك بيان يصدر فيه هتاف وصراخ .... كلا .. الناس هناك لا يحتفلون ولا يحزنون بالصراخ والضجيج ..! بل سيتم الأمر بهدوء، وبطريقة توحي لك أنهم استبدلوه بصيغ أخرى ... ولكنه في جميع الأحوال توفي ولا قيام بعده ولا ينفع نطس النطاسون مهما برعوا، في إعادته للحياة ..

 

الحلم الذي حلم به الرئيس الفرنسي ديغول والمستشار الألماني أديناور، والذي أستغرق بناؤه منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ثم توالت عملية الطبخ على نار هادئة على يد خلفاؤهما بهدوء لكي لا يثيروا هواجس الآخرين .. الآخرون الذين يرمقون قيام أتحاد كبير، ستشكل كتلة كبيرة في توازنات القوى السياسية / الاقتصادية / العسكرية في العالم، فأن تتقاسم العالم بين طرفين شيئ، وبين ثلاثة أو أربعة أطراف شيئ آخر، وهو أمر غير مستحب للولايات المتحدة، التي ستتهم الأوربيين بقلة الضمير والوفاء، أما (الأطراف) القوة العظمى الأخرى فهي الاتحاد السوفيتي والروس فهم يتقنون العزف على أوتار السياسة الأوربية فسترى أن التناقضات والصراعات ستعم الحلفاء الرأسماليون اليوم أو غداً بينهم، فالتاريخ العالمي لا يعرف حروبا إلا تلك التي كان التوسع وإعادة التقسيم وكسب المزيد من النفوذ والمكاسب ديدنها، دعهم يشعرون بالأمان، فسترى أن الصراع سينشب بعد وقت قصير، وقصير جداً.

 

لماذا توفي الاتحاد الأوربي، وكان يمنح صورة وردية، حين بلغ اليورو في بعض أيامه، دولاراً ونصف الدولار، ولكن تلك كانت في مرحلة انغماس (انحطاط) الولايات المتحدة في حروبها الدون كيشوتية في أفغانستان ثم في العراق، حيث كانت تحرق يوميا مئات الملايين من الدولارات لحروب عبثية لا معنى لها .. حينها انحط الدولار أسوء انحطاطه، وبلغت أوربا قمة ازدهارها، فكان رد فعل الولايات المتحدة، أن القارة الأوربية قد تمثل ثقلاً في التحالف الغربي / المسيحي العريض، وبالتالي فإن نفوذ الولايات المتحدة ماض في التقلص ضمن محيطها، إضافة للتقلص البطئ على الصعيد العالمي بتعاظم  قوة الصين، ومساعي الروس في استعادة هيبة وسطوة الاتحاد السوفيتي، عبر هيمنتها على أسواق الطاقة في أوربا.

 

بغباء مثير للدهشة، راحت الولايات المتحدة تدمر علاقاتها مع دول وكتل كان يفترض أن تحرص عليها اشد الحرص، فخسرت كتلة كبيرة في العالم تربو اليوم على مليار ونصف من البشر المسلمين منتشرين في جميع قارات العالم، وخسرت بسبب جموحها الشديد نحو الهيمنة في أوربا حلفاء وأصدقاء، وتسببت الاعتداءات والحروب التي شنتها على أمم وشعوب كثيرة، وميلها الشديد نحو النهب والسطو،  فالأطماع و السعي نحو السيطرة، ما أفقد العالم الغربي وحدته، ولم ينجم عن استخدامها القوة المفرطة إلا أسوء العواقب بنتيجة إجمالية ملحقة الضرر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية.

 

والغريب أن لا تستفيد الولايات المتحدة من تجاربها ونكساتها، الولايات المتحدة لا تقبل بعلاقات صداقة، تحالف، بشروط متكافئة، وحين حاولت بريطانيا وفرنسا أن تتصرفا كقوتين عظميين عام 1956، وشنتا بالتحالف مع العدو الصهيوني العدوان على مصر، بدون استلام الأذن والموافقة من الولايات المتحدة، تلقيا عقابا صارماً قاسياً قذف بهما إلى الوراء كدرجة ثانية من القوى العظمى.

 

الولايات المتحدة كانت هي الساعي من إضعاف الاتحاد الأوربي بدرجة لا تقوى على امتلاك إرادتها، بل وقامت الولايات المتحدة بقيادة تكتلان ضمن الاتحاد الأوربي ضد محاولات ألمانيا وفرنسا في جعل وتطوير الاتحاد الأوربي إلى كيان سياسي / اقتصادي / عسكري قادر على المواجهات. وأسست الولايات المتحدة لها أكثر من رأس جسر في أوربا لهذا الغرض : بريطانيا، النرويج، بولونيا، وربما فلندة أيضاً، بدرجة دعت مؤسسات وشخصيات فرنسية وألمانية، التصريح أن معركة أوكرانيا هدفها هو إركاع ألمانيا وفرنسا ..!

 

ما هي ملامح الموقف الحالي (النصف الأول من عام 2022) في الاتحاد الأوربي ...؟

 

1. انسحاب بريطاني رسمي.

2. الاتحاد يوجه عقوبات لخروج المجر (هنغاريا) وإيطاليا من موقف الاتحاد حيال الأحداث الأوكرانية.

3. مظاهرات في العديد من البلدان تطالب بالانسحاب من أوربا (ألمانيا، فرنسا، جيكيا.

4. تلميحات تصل لدرجة التصريح، في شخصيات ومصادر في فرنسا وألمانيا، أن الحرب في أوكرانيا الهدف الأساسي منها تدمير فرنسا وألمانيا ...!

5. إحياء سياسات العسكرة والتسليح،

 

ولنتأمل كيف وماذا وبأي احتمالات وأي سيناريو، ومفردات سيتم هذا الأمر ..

 

تفسخ الاتحاد الأوربي بشكل تام، بعد أن ستقاتل الولايات المتحدة في أوكرانيا على حساب الأوكرانيين، وستحسب ما تمكنت من ذلك، دولاً أوربية، المتروبولات الرأسمالية الصغيرة تقاتل رغماً عنها من أجل المتروبول الأكبر.

تبقى ألمانيا وفرنسا (مؤقتاً) والنمسا، وهولندة وجيكيا وسلوفينيا ضمن الاتحاد الأوربي (كتلة البلدان الألمانية).

أن تنجح قوى اليمين في عدة دول أوربية بالوصول للحكم، فتنشأ تحالفات جديدة مناهضة للفاشية والنازية والعنصرية.

ستكون أميركا غائبة عن المسرح الأوربي، مع وجود بصمات غير فاعلة لها في: بريطانيا، النرويج، بولونيا.

بعد غياب الوجود الفاعل للولايات المتحدة في أوربا، سيشجع قيام أنظمة تميل للتعاون مع روسيا، وخاصة في شرق أوربا.

تشكيل تحالفات سياسية بين قوى:

الأحزاب الشيوعية السابقة، الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وخاصة (ألمانيا، فرنسا، النمسا، إيطاليا، أسبانيا).

التكتل الروسي / الأرثودوكسي (روسيا، بيلوروسيا، صربيا، وربما: اليونان، بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا أوكرانيا، عدد من الجمهوريات الصغيرة بعد أن تتضح الصورة الأخيرة).

تكتل البلدان اليمينية (في حاول نجاحها بالوصول للحكم).

 

7. ستشهد الولايات المتحدة، في الداخل (هي الآن في مرحلتها الجنينية) تحركات وانشقاقات وصراعات أثنية وطائفية، ستتبلور بين أقطاب رأسمالية بكيانات مختلفة، ولكن بجوهر اقتصادي.

8. باختصار شديد .. الأزمة الأوكرانية أطلقت عمليات سياسية واقتصادية، وصراعات خفية وعلنية، والموقف سوف لن يعود إلى ما كان عليه قبل شباط / 2022، ولكن العملية تفضي إلى تضاؤل قيمة أوربا سياسيا واقتصاديا وعسكرياً.

 

هذه مرتسمات عامة، تحتمل التأخير أو التقدم، وشدة الظروف ستعمل على منح النتائج أبعاد جديدة .... ولكن التحولات انطلقت ولا تحتمل العودة

 

 

قمة بريكس في جوهانسبرغ

 

 

د. ضرغام الدباغ

 

انطلقت أجتماعات مجموعة بريكس في 22 / آب ــ أوغست في جوهانسبرغ / جنوب أفريقيا، وأستغرقت 3 أيام، وسط تفاؤل عالمي ببروز قطب دولي يطرح علاقات دولية أكثر عدالاً وتكافؤاً، وملامسة تفضي لمعالجة جدية للمعضلات الدولية السياسية / الاقتصادية، التي فشلت الأمم المتحدة ونظام العلاقات الدولي في إيجاد حلول سلمية لها، وهو ما قاد إلى اندلاع أزمات وحروب لم تتوقف منذ نهاية الحرب العالمية وحتى الآن، بل وأن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون  عبر في كتاب شهير له  (so verlieren wie den Frieden) " هكذا فقدنا السلام " وبعد أن قدم إحصاءات دقيقة، من أن العالم شهد بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينات، عدد كبير من الحروب خسر فيها أعداد كبيرة من البشر حياتهم، وأنفقت أموالاً طائلة، وأستهلكت أسلحة وعتاد حربي يفوق ما أنفق وأستهلك في الحرب العالمية الثانية. وهذا دليل ناصع على عدم قدرة النظام الدولي أستيعاب النزاعات السياسية التي تتطور غالباً إلى صراعات عسكرية مباشرة أو حروب بالوكالة (proxy war).

 

أولاً : محطات على طريق التأسيس

بعد عقد أول اجتماع لمجموعة ضم البلدان الأربعة الأعضاء المؤسسة للمجموعة (بريك) يوم 16 يونيو/حزيران 2009 بمدينة يكاترينبرغ في روسيا، أما الاجتماع الثاني فقد عقد يوم 16 أبريل/نيسان 2010 في العاصمة البرازيلية برازيليا. وقد أكتسب هذان الاجتماعان الطابع المؤسسي على مؤتمرات المجموعة، ومن ثم أسهما في تشكيل واقع جيوسياسي جديد.

وفي 14 أبريل/نيسان 2011، عقدت القمة الثالثة للمجموعة، في سانيا بجمهورية الصين، وهي أول قمة للمجموعة التي أصبحت تسمى بريكس، بعد الانضمام الرسمي لجمهورية جنوب أفريقيا.

أما مؤتمر القمة الرابع للمجموعة، فقد عقد يوم 29 مارس/آذار 2012 في مدينة نيودلهي بالهند، في حين عقد مؤتمر القمة الخامس يوم 28 مارس/آذار 2013 في ديربان، بجنوب أفريقيا.

وفي سبتمبر/أيلول العام نفسه، أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق الذي يعد مشروعا دوليا جديدا بديلا لطريق الحرير.

وفي 17 يوليو/تموز 2014، عقدت القمة السادسة للمجموعة في فورتاليزا بالبرازيل. أما القمة السابعة، فقد عقدت بمدينة أوفا في روسيا عام 2015، وهو نغس العام الذي شهد الافتتاح الرسمي لـ"بنك التنمية الجديد" (NDB)، وهو مؤسسة مالية تابعة لمجموعة بريكس مقره في مدينة شنغهاي بالصين، ويعتبره مؤسسوه بديلا للبنك الدولي.

عام 2016، عقد قادة دول بريكس (رئيس البرازيل ميشيل تامر، ورئيس روسيا فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ورئيس الصين شي جين بينغ، ورئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما) اجتماعا في مدينة شنغهاي بالصين حيث المقر الرئيسي لبنك التنمية الجديد.

وفي الرابع من سبتمبر/أيلول 2017، عقدت دول بريكس القمة السنوية للمجموعة في شيامين بالصين، وانضمت إليها في هذه القمة كل من تايلند والمكسيك ومصر وغينيا وطاجيكستان كدولا مراقبة، لمناقشة خطة "بريكس بلس"، التي تهدف إلى التوسع المحتمل للمجموعة.

وفي الفترة الممتدة من 25 إلى 27 يوليو/تموز 2018، عقد قادة بريكس قمتهم العاشرة في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، وتمحورت أشغال هذه القمة حول إقامة تعاون اقتصادي متزايد في بيئة اقتصادية دولية متغيرة، على خلفية الفشل الذي عرفته قمة مجموعة السبع الصناعية الكبرى، وحضرت تركيا القمة بصفتها رئيسة لمنظمة التعاون الإسلامي.

وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عقد مؤتمر القمة الحادي عشر للمجموعة في العاصمة البرازيلية برازيليا، وعرفت هذه القمة مناقشة التطورات في مجالات العلوم والابتكار لدول بريكس، وأيضا تطوير التكنولوجيا والعملة الرقمية.

وقد أبرمت في هذه القمة اتفاقات متبادلة للمساعدة في وقف الاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة، وأعلن بيانها الختامي "الالتزام بتعددية الأطراف وتعاون الدول ذات السيادة من أجل تعزيز الأمن والسلام على مستوى العالم".

وعقد مؤتمر القمة الثاني عشر لمجموعة بريكس يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، في سانت بطرسبورغ في روسيا، بالشراكة مع منظمة شنغهاي للتعاون عبر تقنية التناظر المرئي في أثناء جائحة كورونا. وناقشت هذه القمة اتفاقا متبادلا حول مساعدة الدول الأعضاء لمجموعة بريكس من أجل مستويات معيشة أفضل وتحسين مستوى معيشة شعوب هذه الدول.

وفي التاسع من سبتمبر/أيلول 2021، عقد مؤتمر القمة الثالث عشر في نيودلهي بالهند عن طريق تقنية التناظر المرئي،

عقد المؤتمر الرابع عشر في بكين بالصين يوم 23 يونيو/حزيران عام 2022.

 

فالبشرية في جميع أرجاء العالم تتوق إلى عالم يخلو من النزاعات الحربية، وقيام مجتمع دولي أكثر عدلًا يجد فيه البشر السلم والحرية، والعدل، وعلاقات بعيدة عن النهب، ومجتمعات تولي التعليم وصحة الإنسان، وحاجاته الأساسية الأهتمام الأكبر. ومجموعة بريكس التي تضم في عضويتها كمؤسسون : الصين، روسيا، الهند، البرازيل، أنظمت لهم جنوب أفريقيا عام 2010،

 

وأخيراً وليس آخراً، اجتمعت المنظمة في جوهانسبرغ في آب / 2023، وفي جدول أعمالها فقرة رئيسية، هي ضم ستة بلدان جديدة إلى المجموعة، وكان المؤتمر الأول الذي أنبثقت منه المنظمة في التاسع من حزيران / 2009، أي قبل نحو 14 عاماً خلت، وهذا يدل على الجرد الدقيق والتمعن في تشكيل المنظمة، وأهم الموضوعات الرئيسية التي جرى بحثها بها هو : إيجاد حل لمشكلات النظام المالي العالمي، وقضايا إمداد الأغذية. وتشكل مساحة البلدان الخمس المؤسسة نحو ربع مساحة العالم، وعدد سكانها يقترب من 40% من سكان العالم، ومنذ عام 2000 إلى عام 2008 أرتفع حصة البلدان الأربعة (روسيا، الصين، الهند، البرازيل) في الناتج العلمي بسرعة من 16% إلى 22% . وبحسب مؤسسات اقتصادية عالمية (كمؤسسة غولدمان ساكس ) من المتوقع أن تتمكن المجموعة من منافسة أقوى الاقتصادات في العالم، كما من المتوقع أن تشكل حلفاً أو تجمعا ً سياسياً فيما بينها. والطموح هو أن تتمكن من تمثيل الأغلبية العالمية.

 

 وفي مناقشات جوهانسبيرغ، التي توجت بضم ستة أعضاء جدد وهم المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية، إيران، مصر، أثيوبيا، الأرجنتين، لتكتسب مزيداً من الأنتشار والمكانة السياسية والاقتصادية المضافة. جرى التأكيد على المبادئ الرئيسية التي قامت عليها المنظمة وهي :  التعاون على أساس مبادئ المساواة ودعم الشراكة واحترام مصالح بعضنا بعضاً، وهذا هو جوهر المسار الاستراتيجي للمجموعة. وهو المسار الذي يلبي تطلعات القسم الأكبر من المجتمع العالمي، ( الأغلبية العالمية) " وأن التجمع يعتبر نقطة انطلاق تاريخية جديدة، لإرث الصداقة ولتعميق التعاون وتعزيز التنسيق وهي التطلعات المشتركة لبلدان المجموعة وهي كذلك المهام الكبرى الملقاة على عاتقنا" . والسعي لعالم أفضل وأكثر إنصافا يطلق العنان لإمكانات جميع سكان العالم". كما أعتبر المؤتمر أنه من الأهمية الخاصة، في ظل حرب روسيا على أوكرانيا والصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، إذ ترفع الدول الأعضاء بالمجموعة شعارات عالم أكثر توازنا وأمنا، والدعوة لإنهاء عصر القطب الواحد.

 

ثانياً : توسع المنظمة

ويشمل جدول أعمال القمة الـ15 (آب / 2023) للمجموعة احتمالات التوسيع المستقبلي للعضوية في بريكس،  وقد أعربت 40 دولة على الأقل عن اهتمامها بالانضمام إلى بريكس، من بينها إيران والسعودية وبنغلاديش والأرجنتين.

وكانت التحضيرات للمؤتمر قد تضمنت دعوة 69 دولة لحضور قمة جوهانسبرغ، من بينها جميع الدول الأفريقية، وسبق أن عبّر عدد من هذه الدول عن الرغبة في الانضمام للتكتل، ومن بينها الجزائر ومصر وإثيوبيا. كما عبرت البرازيل عن تأييدها لأنضمام الأرجنتين إلى بريكس، خلال الأشهر القليلة الماضية، أعلنت 6 دول أفريقية رغبتها في الانضمام إلى مجموعة "بريكس" (BRICS) ليبلغ العدد الإجمالي للمرشحين المحتملين 20 دولة.

وذكر تقرير نشر على موقع "المجلس الروسي للشؤون الدولية" أن الجزائر ومصر ونيجيريا والسنغال والسودان أعلنت رسميا رغبتها في الانضمام إلى مجموعة بريكس. وكانت إثيوبيا آخر دولة أفريقية كشفت عن نيتها في هذا الخصوص نهاية يونيو / حزيران الماضي. وهنا يستحق التنويه أن التجمع يؤكد على التمثيل المتكافئ للقارات.

وبعد عام 2020 كان هناك نشاط وتحرك لتوسيع المجموعة، حيث أبدت : الجزائر والارجنتين، زالبحرين وبنغلادش وبيلاروسيا، ومصر وأندنوسيا، وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان، والسعودية وسوريا، وتونس وتركيا والإمارات وفنزويلا وزمبابوي، أهتمامها بعضوية بريكس.

وضمانا لمبدأ التمثيل الجغرافي، فإن إدراج الدول الأفريقية في مجموعة بريكس تعد خطوة منطقية، وبضمها إلى المجموعة يمكن القضاء على "الميول الآسيوية" الذي يتجلى في وجود 3 من أعضاء بريكس تقع جزئيا أو كليا في آسيا.

ومن أجل تمثيل أكثر شمولا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار جملة من العوامل مثل الانتماء الديني واللغوي، وكذلك الوضع الاقتصادي للدول الأعضاء المحتملة. وبناء على ذلك، بات من الضروري زيادة وجود المسلمين وكذلك البلدان الفرانكوفونية أو الناطقة باللغة العربية في مجموعة بريكس.

وكانت تقارير قد رجحت قبول السنغال أو مصر ضمن بريكس كونهما من مراكز انتشار الإسلام في القارة الأفريقية وتعتمدان الفرنسية أو العربية لغة رسمية، إلى جانب موقعهما الإستراتيجي.

والثقل الاقتصادي والعائد الديمغرافي والمكانة الجيوسياسية من بين العوامل التي تؤخذ بعين الاعتبار في توسيع مجموعة بريكس، وهذا متاح في عديد من الدول الأفريقية، ومن بينها نيجيريا أيضاً.

 والعوامل الديمغرافية ستؤخذ بنظر الاعتبار أيضاً، وهنا، تندرج إثيوبيا في قائمة أكثر المشاركين المحتملين للانضمام إلى مجموعة بريكس كونها ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان في القارة، لكن تعثر نموها الاقتصادي في السنوات الأخيرة بسبب عدم الاستقرار السياسي الداخلي سيمثل عاملا سلبيا.

مكانتها في العلاقات الدولية، إذ يمثل أنخراط الجزائر في النزاع الطويل الأقليمي مع المغرب  من العناصر السلبية، سيؤدي ربما، إلى تجنب المشاركة المحتملة لبريكس في حل المشاكل العسكرية والسياسية الحادة. فيما لا تعد علاقات مصر وإثيوبيا ونيجيريا والسنغال " الحسنة مع الغرب" من العوامل السلبية . أما السودان، ففي ظل أزمة حادة وغياب سبيل التنمية المستقبلي لا يمكن اعتباره في الوقت الحالي قوة قادرة على المشاركة في التحول الموجه لصيغة بريكس.

 

ثالثاً : الآفاق الاقتصادية للمنظمة

وتمثل بريكس، و42% من سكان العالم، وأكثر من 16% من التجارة العالمية. وهي بذلك تهدف إلى أن تصبح قوة اقتصادية عالمية قادرة على منافسة "مجموعة السبع" (G7) التي تستحوذ على 60% من الثروة العالمية.

وتكشف الأرقام الصادرة عن مجموعة بريكس، عن تفوقها لأول مرة على دول مجموعة السبع، فقد وصلت مساهمة مجموعة بريكس في الاقتصاد العالمي إلى 31.5%، بينما توقفت مساهمة مجموعة السبع عند 30.7%.

وكان إنشاء بنك التنمية الجديد "إن دي بي" (NDB) في عام 2014 برأس مال قدره 50 مليار دولار عند بدء التشغيل علامةً بارزة أخرى، وذلك لتوفير الاحتياطي الطارئ لمجموعة البريكس، وهي آلية سيولة توفر الدعم للأعضاء الذين يواجهون ضغوطا قصيرة الأجل في ميزان المدفوعات أو عدم استقرار العملة.

ومنذ إنشائه في عام 2015، أقرض البنك 33 مليار دولار نحو 100 مشروع، في وقت انضم فيه 3 أعضاء جدد في السنوات الثلاث الماضية، هي بنغلاديش ومصر والإمارات العربية المتحدة، وانضمت إلى هذا البنك مؤخرا كل من أوروغواي والإمارات العربية المتحدة وبنغلاديش ومصر بصفتها أعضاء جددا. ولا تحتاج الدولة إلى أن تكون عضوًا في البريكس للانضمام إلى البنك.

ويلاحظ بعض الخبراء، أن نموذج بنك التنمية الجديد لا يختلف عن نموذجي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ إنه مملوك لأعضاء البريكس، ولكن تم وضعه بديلا للنموذج الرأسمالي العالمي نفسه. بنك التنمية الجديد أقرض 33 مليار دولار لنحو 100 مشروع، وبلغ رأس مال البنك، الذي هو بمثابة بنك تنمية متعدد الأطراف تديره دول بريكس الخمس، حينها 50 مليار دولار مع احتمال بلوغه 100 مليار دولار في غضون عامين.

والدور الأساسي لهذا البنك هو منح قروض بمليارات الدولارات لتمويل مشاريع البنيات الأساسية والصحة والتعليم، وما إلى ذلك، في البلدان الأعضاء بالمجموعة، وكذلك البلدان الناشئة الأخرى.

أما بالنسبة لصندوق الاحتياطي، فخُصص له مبلغ 100 مليار دولار تحسبا لأي أزمة في ميزان الأداءات. ويعد هذا الصندوق إطارا لتوفير الحماية من ضغوط السيولة العالمية.

وهذا تشمل المناقشات الاقتصادية، قضايا العملة، إذ إن العملات الوطنية للدول الأعضاء في المجموعة تتأثر سلبا بالضغوط المالية العالمية، خاصة الاقتصادات الناشئة التي شهدت تحريرا اقتصاديا سريعا ومرت بتقلبات اقتصادية متزايدة.

إضافة إلى ذلك، بدأ قادة دول بريكس، خلال القمة التي عقدت في روسيا عام 2015، مشاورات لنظام دفع متعدد الأطراف، يكون بديلا لنظام الاتصالات المالية بين البنوك العالمية "سويفت" (SWIFT)، من شأنه أن يوفر قدرا أكبر من الضمان والاستقلالية لدول مجموعة بريكس.

وأشار مراقبون أن بعض صانعي السياسات في أوروبا والولايات المتحدة يشعرون بالقلق من أن تصبح دول البريكس ناديا اقتصاديا للقوى الصاعدة التي تسعى للتأثير على النمو والتنمية العالميين.

وجدير بالذكر، أن مجموعة بريكس تضم اقتصاديات عالمية وهو ما خول لها أن تمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال عام 2021. وهذه الحصة آخذة في الارتفاع بالنظر إلى تنامي أهمية البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في قطاعات معينة على رأسها الزراعة والتعدين وعلوم الصواريخ.

لكن وفقا لإستراتيجية الشراكة الاقتصادية حتى عام 2025 لا تتمثل المهمة الرئيسية لمجموعة بريكس في احتكار السوق العالمية، بل في "تعزيز الترابط"، أي بناء العلاقات المتبادلة في جميع القطاعات من الاقتصاد إلى الاتصالات الإنسانية. ولا تتأخر الدول في بريكس الإعلان أن الهدف من اتحاد هذه الدول ليس مواجهة قوة أخرى، بل تحقيق منفعة متبادلة وطويلة الأمد. بالإضافة إلى :

العمل مع المجتمع الدولي للحفاظ على استقرار النظم التجارية متعددة الأطراف وتحسين التجارة الدولية وبيئة الاستثمار.

السعي إلى تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية المتعلقة بالتنمية المستدامة، وكذا الاتفاقات البيئية متعددة الأطراف.

التنسيق والتعاون بين دول المجموعة في مجال ترشيد استخدام الطاقة من أجل مكافحة التغيرات المناخية.

تقديم المساعدة الإنسانية والحد من مخاطر الكوارث الطبيعية، وهذا يشمل معالجة قضايا مثل الأمن الغذائي العالمي.

التعاون بين دول بريكس في العلوم والتعليم والمشاركة في البحوث الأساسية والتطور التكنولوجي المتقدم.

وتتوقع الدول الأعضاء للمجموعة أن تحقيق هذه الأهداف من شأنه أن يعطي زخما جديدا للتعاون الاقتصادي على مستوى العالم.

السعي إلى تحقيق نمو اقتصادي شامل بهدف القضاء على الفقر ومعالجة البطالة وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي.

توحيد الجهود لضمان تحسين نوعية النمو عن طريق تشجيع التنمية الاقتصادية المبتكرة القائمة على التكنولوجيا المتقدمة وتنمية المهارات.

السعي إلى زيادة المشاركة والتعاون مع البلدان غير الأعضاء في مجموعة بريكس.

تعزيز الأمن والسلام من أجل نمو اقتصادي واستقرار سياسي.

الالتزام بإصلاح المؤسسات المالية الدولية، حتى يكون للاقتصادات الناشئة والنامية صوت أكبر من أجل تمثيل أفضل لها داخل المؤسسات المالية.

 

رابعاً : هل هناك عملة دولية جديدة

ستسعى دول مجموعة بريكس إلى إطلاق عملة موحدة بينها تنهي بها هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، إذ أعلن ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يونيو/حزيران 2022، مشددا على أن مجموعة بريكس تعمل على تطوير عملة احتياطية جديدة على أساس سلة العملات للدول الأعضاء.

هذا الأمر أكده أيضاً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يناير/كانون الثاني 2023، حينما قال إن مسألة إصدار عملة موحدة لدول مجموعة بريكس ستناقش في القمة المقبلة المقرر عقدها في جنوب أفريقيا نهاية أغسطس/آب 2023. وقال خلال مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة الأنغولية لواندا، عقب الزيارة والمباحثات التي أجراها مع الرئيس الأنغولي، وقال "هذا هو الاتجاه الذي تسير فيه المبادرات، التي ظهرت قبل أيام فقط، بخصوص الحاجة إلى التفكير في إنشاء عملات خاصة داخل مجموعة دول بريكس، وداخل مجتمع دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي " . وهذه نقطة بالغة الأهمية على طريق تقليص هيمنة الدولر في المبادلات التجارة الدولية.

وفي ذات الاتجاه صرح رئيس البرلمان الروسي (الدوما) على هامش المنتدى الاقتصادي لرجال الأعمال الهنود، مطلع أبريل / نيسان / 2023، إن "مجموعة دول بريكس تخطط لإصدار عملة موحدة للتداول فيما بينها لكسر هيمنة الدولار باعتباره الوسيط الرئيس للتجارة والتسويات الدولية".

ولم تحسم بعد دول بريكس شكل العملة الجديدة، وتأتي العملات الرقمية ضمن الأفكار المطروحة لهذه العملة التي ستُنشأ على أساس إستراتيجي، لا على أساس الدولار أو اليورو، بل سيكون تأمينها بالاعتماد على الذهب والمعادن النفيسة.

وتسابق دول بريكس الزمن (خاصة روسيا التي تخوض حربا عسكرية ضد أوكرانيا وحلفائها الغربيين، وأخرى اقتصادية ضد العالم الغربي) لإصدار هذه العملة الموحدة، بالنظر للعقوبات القاسية المفروضة عليها من طرف الولايات المتحدة وعديد من الدول الأوروبية.

وتهدف هذه الخطوة إلى كسر هيمنة الدولار الأميركي وإنهاء تحكمه في الاقتصاد العالمي، وفي الوقت نفسه ترى دول بريكس في الأزمة الروسية الأوكرانية فرصة مواتية لإصدار هذه العملة والاستفادة من التذمر المتزايد من السياسات الأميركية.

 

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

 

 

القضية العراقية

في شبكة العلاقات الدولية

 

ضرغام الدباغ

يتداخل الموضوع العراقي في جداول عمل دول كبرى وغير كبرى، وتكاد القوى الكبرى تتفق أن العراق بما يمثله من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري، يمثل بيضة القبان في توازنات الشرق الأوسط.، ولدينا الأدلة المادية الكثيرة والشواهد التي تؤكد هذه النظرية. وهذه الحقيقة إذا وافقنا عليها، فهذا يعني أن العراق سيمثل الفقرة الرئيسة في جدول مناقشات وخطط الشرق الأوسط الحالية والمستقبلية.

ولدينا من المؤشرات الكثيرة التي تؤكد أن الغرب ينظر للعراق نظرة أرتياب وشك، حتى في العهد الملكي، وحتى بعد قام حلف بغداد في العاصمة العراقية، وبعد أكثر من 20 عاماً على الاحتلال الثلاثي (الأمريكي الاسرائيلي والإيراني) أتضحت خيوط كثيرة، ومن تلك أن الولايات المتحدة رغم متانة صلاتها بالكيان الصهيوني، إلا أنها لم تبلغ لدرجة أن يقاتلون بقواتها المسلحة، بل فعلت ذلك من أجل إيران، وأهدت الأيرانيين ثمار الفوز، على طبق من ذهب.

سمعت مرة من الملك الراحل حسين بن طلال، أنه حاول ويحاول مع الإدارة الامريكية أن يقنعهم بجدوى الصداقة مع العرب والمسلمين بلا جدوى، فالأمر (الكراهية عميقة لحد العداء) متجذر عندهم لدرجة ميؤوس التعامل معها،  والآن دعنا من العراق وأحداثه، سمعت مرة من وزير تركي يكلم وزيراً إماراتياً، أن الأمريكيين (خاصة) يفقدون موضوعيتهم حيال أي قضبة اسلامية، وعليك أن تحذر منهم لدرجة أن تخشى أن يسرقوا منك نعالك هذا الذي ترتديه ..! هذا مع العلم أن الجيش التركي قاتل في كوريا وفيثنام، في حروب لا ناقة فيها ولا جمل ، فالناقة والجمل هنا في تعقيدات بحر إيجة وفي ممر ناختشيفان ...!، والسعوديون ساروا مع الأمريكان والغرب حتى تعبوا، ولكنهم كانوا يتآمرون عليها حتى في قضايا ثانوية الأهمية. حسني مبارك يقول" اللي متغطي بالامريكان عريان " وضياء الحق يقول " التعامل مع أمريكا يسود وجهه كبائع الفحم ". وهؤلاء هم من أشد حلفاء الولايات المتحدة.

الغرب، والأمريكان خاصة، لا صداقات عندهم ولاتحالف ولا أئتلافات دائمية، هم يفهمون شيئاً واحداً الاستسلام دون قيد أو شرط، وللتأكد يقوم بإهانة حليفه يومياً ليتأكد من حسن الانقياد. ومن يرتاب بهذه النتيجة ننصح بمراجعة العلاقات الأوربية الأمريكية، والعلاقات ضمن الناتو. ولدى صناع القرار الأمريكي مستويات مختلفة للدول، لا ينبغي مطلقا تجاوزها، (بريطانيا غير فرنسا، وفرنسا غير ألمانيا، وهذه غير أسبانيا ) وخط المستوى المرسوم لنا بالغ السوء والانحطاط، يبقينا في حالة الضعف لدرجة الأنقياد، لا امكانية لقرار مستقل لدينا، ولا تفكير في قضايا الأمن القومي، ولا تطوراً اقتصادياً بدرجة يخرجنا من حالة التبعية.

في منطقتنا الموبؤة، (ولا يحمد على مكروه سواه)، نحن مبتلون بشتى أنواع الألغام البالغة السوء والتأثير، كيانان ملتحمان ديالكتيكياً بالغرب، وبالولايات المتحدة خصوصاً. إيران الكيان الذي تأسس عام 1935، وإسرائيل عام 1948. بمعنى أن الكيانان مصطنعان، غير موجودان في التاريخ القريب أو البعيد، حتى أن الغرب أجتهد في إيجاد تسمية لهما. فالكيانان مصطنعان، والوظيفة الأساسية لهما مناكفة العرب والمسلمين، وعدم السماح لهم بالتنمية والتطور ليصبحا شيئاً له وزنة في العلاقات الدولية، ناهيك عن التقارب بين البلدان العربية والاسلامية، فدقوا أسفينا يتمتع بالقوة والدعم الخارجي ليقوم بهذه المهمة على أكمل وجه.

 

وتكرست هذه العلاقة في بلاد شرقي زاغروس في العهد الصفوي وأكتسبت خصائصها المميزة، فالصفويون شيعوا البلاد الممتدة حوالي بحر قزوين لكي لا ينظموا تحت جناح دولة الخلافة الاسلامية (1501)، وقد لاقى هذا التوجه الأنشقاقي الدعم والتأكيد من جميع القوى ذات المصلحة في المنطقة والعالم، من الروس الذين يفضلون منطقة هشة تسهل السيطرة عليها، ومن الإنكليز الذين وجدوا في تعميق الأنشقاق في العالم الإسلامي ما يفيد مآربها. ولكن الحال تطور في عهد الدولة القاجارية(1796)، إلى علاقات تحالف له أسسه السياسية، ولهذا السبب دعيت فارس لحضور مؤتمر برلين وأدلت بدلو ودسائسها  مع المتكالبين على الدولة العثمانية، ونالت حصة صغيرة في مؤتمر برلين 1878وذلك بضمها لقضاء كوتور شرقي مدينة وان  (الدولة العثمانية). وبلاد فارس وجدت استقرارها المستند لوظيفتها منذ عام 1925 حين أزاح البهلويون النظام القاجاري وأسسوا نظاما جديداً تحت الرعاية البريطانية / الأمريكية تحت أسم جديد (إيران) اخترعه الإنكليز  ويعني في تفسير مقاطعه (بلاد الآريين) دام حتى عام 1979، حين أنبثق النظام الكهنوتي. 

أما إسرائيل، فقد وجدوا لفظة تعبر أن هذه هي بلاد بني إسرائيل، واليهود الذين كانوا قوما غير مرغوب بهم في أوربا، ولقوا الويلات في معظم الاقطار الأوربية المركزية(روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، أسبانيا)، فكانت المجر (هنغاريا) مرشحة لتكون وطنا قوميا لهم، ثم طرحت الارجنتين، ثم أوغندة، وأخيرا طرحت مدغشقر بقوة ودارت مفاوضات طويلة وتفصيلية، ولم يمنع تحققها إلا لأنها كانت مستعمرة فرنسية المحتلة آنذاك من الألمان (1939 ــ 1944)، وبعد الحرب طرحت بريطانيا فلسطين كوطن محتمل، وبذلك تضرب عدة أهداف بحجر واحد، منها * التخلص منهم ومن متاعبهم في أوربا كمكب نفايات، * وتشتيت الجهد العربي وتأثيراته السياسية والاقتصادية والثقافية، * زرع جرثومة في الأمن القومي، * وخلق قاعدة آمنة في قلب الشرق الأوسط.

تحالفت هذه القوى الثلاث: إيران، إسرائيل مع الولايات المتحدة كعنصر خارجي، والتحالف والأئتلاف في صيغته، يدلنا أنه قد يستغرق وقتاً غير محدد، ولكن كما لظروف عقده شروط، فلفضه أيضاً ظروف وشروط، مهما أستطال الزمن، وتعمقت العلاقة، والسياسة هي ممارسة للممكن، وما هو ممكن اليوم، ليس بالضرورة أن يبقى ممكناً أبد الدهر، والأمريكان حين قرروا اقتلاع نظام الشاه، كان حليفهم، ولكنهم وجدوا فيه رؤية أن يكون لنفسه مكانة عالمية ويتحالف مع الهند، حركة قرعت جرس الأنذار، فقرروا اقتلاعة تحت السيطرة (under control)ولكن دون أسقاط نظام الدولة الإيرانية ودون تغير في وظيفته الأساسية. وهذه تجربة تاريخية يمكن أن تتكرر.

النظام الإيراني أقل بكثير من لعب دور الدولة الكبيرة التي تتسع على حساب الغير، فهي بالكاد وبأستخدم مفرط لأساليب القمع السياسي والثقافي قادرة بالسيطرة على حركات شعبية واعدة تنذر بمستقبل غامض للدولة الإيرانية.  وقد حدث مرتان أن أنفصلت شعوب إيرانية :جمهورية مهاباد الكردية، وجمهورية أذربيجان الشعبية خلال أقل من قرن.

النظام الإيراني فشل في تنفيذ مهمته، والنجاحات التي حققها لم تبلغ النهاية الناجحة التامة خلال 45 عاماً خلت، رغم أنها أشعلت أوار حروب شاملة(8 سنوات مع العراق)، وحروب اهلية (اليمن ولبنان والعراق وسوريا) ومحاولة فاشلة في البحرين. ومحاولات تغلغل عقائدية في أقطار أخرى أنفقت فيها الأموال الطائلة ومغربات كثيرة، وتهريب سلاح ومخدرات، مارست فيها دور صانع المشكلات (trouble maker) أكثر مما هي دولة عقائدية لدبها برنامج سياسي / اقتصادي / اجتماعي مقنع وصالح للتعميم، والأن يحق لمشغلها / حلفاءها  أن يطالبونها بجرد للحساب.

تمر العلاقات الدولية الحالية بمرحلة أنعطاف وتمفصل، فالحرب الأوكرانية وإن لم تضع أوزارها بعد، إلا أن ملامح النهاية ونتائجها تلوح واضحة تقريباً، إلا أن فيما تبدو كمسلمات تلوح وهي بأختصار:

أن لا عودة إلى الوضع الدولي قبل فبراير / 2022.

روسيا والصين وكتلة لا يستهان بها(دول البريكس) يمثلون فريقاً مهماً على مسرح السياسة الدولية والأوربية خصوصاً.

السلام العالمي، التعاون الدولي شعارات لا يمكن تحقيقها إلا وفق سياقات وضمن نظام سياسي دولي، وأقتصادي جديد،

 ضعف متواصل، قد يفضي إلى نهاية نظام الأمم المتحدة، ونهاية لنظام برتون وودز  (1945) (الدولار كعملة وحيدة قابلة للتبديل بالذهب). المنتهي مفعوله عمليا منذ عام 1971 (Nixon shock) حين الغى امكانية تبديل الدولار بالذهب.

 

هذه المعطيات الهامة وتفاعلها، في الحياة السياسية / الاثتصادية العالمي تفرز تدريجيا واقعاً جديداً يفترض فيه أصطفافات جديدة، تلعب فيه المصالح الوطنية والاقتصادية دوراً مهماً، وستفرض الكتلة العربية بحجم (500 مليون نسمة) واقتصادات عملاقة، وعدد من الدول (الجزائر، مصر، السعودية، المغرب، دول مجلس التعاون الخليجي) والبلدان الأسلامية الكبيرة (تركيا، أندونوسيا، ماليزيا، باكستان، بنغلادش) دورا ريادياً، وستنكفئ إلى الخلف مكانة الولايات المتحدة، وحروب التدخل والوكالة والعقوبات، فنظام العلاقات الجديد يعتبر هذه الصفحات هي من عهود الاستعمار والإمبريالية والعولمة، أنطوت صفحتها. ودول أوربا المركزي (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، أسبانيا) تنتهج سياسة النأي بنفسها عن الصرعات التناحرية.

 

الواقع الدولي الجديد سيفرز معطيات جديدة كقواعد عمل، وأرجح أن على الدول أستخدام أقصى قدراتها وتعبئتها، لطي صفحة الخلف، وهذه المعطيات الجديدة يحق لنا اعتبارها كمحفزات لتطور في المجتمع العراقي، والمجتمعات العربية وفي عموم المنطقة، الأمر يبدأ هكذا، أن ضرورة ماسة  تطرح نفسها، لتطور جوهري في نظم الحكم، وفي المقدمة ننوه إلى صراعات اجتماعية / ثقافية مهمة تتواصل في في الكيان الصهيوني، تطرح في خطوطها وثناياها الحاجة الملحة التي قد لا تقبل التأجيل في تطور النظام إلى ما هو أكثر من خرافات دينية لاهوتية وإغراق في الغيبيات التي لا تسمن وتغني من جوع، هل يجوز في هذا العصر أن تعتمد دولة ما، الحلول بالدبابات والقنبلة الذرية، فيما يلمس الشعب مادياً فشل الدولة في حل الإشكالات.

والأمر نفسه بهذه الصورة أو تلك، يتكرر في إيران، فنظام ولاية الفقيه لم يلمس منه الشعب غير  محاولات التوسع الفاشلة، المعتمدة على الحركات الانشقاقيةوالميليشيات المسلحة، والمؤامرات الدولية، النظام غير مقنع، وسخط الناس يتصاعد، والرد هو تصاعد القمع، المعصوميات سقطت، والرموز المعممة أهينت علناً، والازمات تراوح في مكانها والنظام يحكم رص الحلقات المستفيدة من أنتهازيين ومنتفعين، وسذج يلعبون على عقولهم، يسبون الشيطان الأكبر والأصغر، وفي الواقع يتحالفون معها، الهدف هو واحد، أحكام السيطرة على البلاد والعباد.

العالم الخارجي وشبكة العلاقات الدولية تدرك أن السيطرة على الشرق الأوسط إنما يتحقق عن طريق دعم الكيان الصهيوني والنظام الإيراني، هذا هو السبيل بإبقاء هذه الأفران موقدة لتلتهم خيرات هذه البلدان وهي ليست كثيرة. وليبقى صوتها منخفضاً ناعماً لا يطرح الحلول الحاسمة والجدية، لا توجد مشاريع طويلة الأمد، لأن لا أحد يضمن الغد وتطوراته.

الشعوب تريد أفقاً لمشكلاتها السياسية وهي كثيرة، وحلول لمشكلات ثقافية وهي أكثر، وحلول للمشكلات الاقتصادية وهي الأكبر، والمشكلات لا تحل بالتهجير والاجتثاث والتجريف، والسجون السرية وتصفيات، ولكن ستبرز مشكلات طابعها اقتصادي أجتماعي ثقافي وهذه لا تحلها الشفلات والبلدوزرات ...!

العالم يتغير، وحاجات الناس تتطور، ويكمن النجاح في فهم كنهة التطورات الدولية، وبروز قوى عالمية جديدة، وهناك علاقات دولية جديدة هي مطلب الشعوب ، نعم هناك مقاومة ضارية من الغرب والولايات المتحدة، ولكن ما بدأ سوف لن ينتهي .. بل ستواصل، وما أستحق الأفول .... سيأفل، ومن هنا أركز على أن حجم الدخل الأجنبي في وطننا العراقي والعربي، سوف تحكم نهاياتها بفعل حكم الحركة المادية للتاريخ، وهذه ليست دعوة للأسترخاء، بل للأنتباه بدقة شديدة، فالصفوف الأولى هي للمتفوقين من يتوصلون للحلول الناجحة، ويتمتعون بدقة التحليل القائم على أسس علمية.

 

 

 

 

 

نهاية مخزية

للفرانكفونية .. وأمثالها ..!

ضرغام الدباغ

وملامح الهزيمة واضحة في وجهه وتعابير خطابه، اعلن الرئيس الفرنسي مكرون، في خطاب الهزيمة، أن فرنسا الأفريقية أنتهت بلا رجعة، ورغم كونه اعتراف مدو، إلا أنه متأخر. وكانت فرنسا تدق طبول الحرب وتؤلب الأفارقة على بعضهم، وتستعد في تحضير حملات عسكرية، والأن عليخم مواجهة الفشل ... ، وكانت بريطانيا قبلها أدركت أن عصر المستعمرات قد ولى، وتجميل وتزويق المستعمرين واساليبهم، لا يلغي الجوهر الرجعي للأستعمار الذي كان قبيحاً وقحاً بدرجة عجيبة في بيانات عصبة الأمم (تأسست عام 1919 / باريس) حين نص بصراحة أستعمارية استعلائية " حق الأمم المتقدمة بالاخذ بين الشعوب المتخلفة "، هم منحوا أنفسهم حق تقسيم العالم، وإبادة الشعوب ونهبها وسلبها. والتقاتل فيما بينها، وإبقائها في أحط درجات التخلف.

الآن أنتهى كل ذلك، وكل علامات التقدم والتحضر هي خداعة، فليس هناك أوغد منهم وأحط حجين يتعلق الأمر بالسلب والنهب واللصوصية، الآن سقطت الفرانكفونية، وهي تدوير سياسي خادع للأستعمار ... تمثل فيه فرنسا القلب الاستعماري لمنطقة التي تكون فيها هي بتسمية أنيقة أطلقوا عليها " المركز "، والخائبين من الراضخين، أتباع، أجرام تدور في فلك المستعمر، بتسمية يحاولون جعلها أنيقة ... أطلقوا عليها " الأطراف " . هؤلاء الذين يقفون عراة أمام أسيادهم، مأخوذين بخلاعة ووقاحة الغرب، مذهولين، مسطولين ... سكارى وما هم بسكارى..

الفرانكفونية كان لها مناصرين بيننا، وياللعار، فهرجوا (وعلى الأرجح لقاء ثمن مدفوع) لليبرالية، وهم في الواقع كانوا يمثلون الانقلاب الجنسي، والهيمنة بأساليب منحطة، والآن ماذا سيفعلون...؟

من المستبعد أن يصدروا بياناً، يعترفون فيه أنهم تعرضوا للتضليل ... فهؤلاء من أشباه المثقفين، لن تبلغ شجاعتهم هذا القدر، سيصمتون صمت الحملان ...! في آخر ذرة من احترام الذات ...!

لا تفوتنا في هذه المناسبة، أن نذكر المتوسعين الصغار في منطقتنا ونذكرهم بمصير فرنسا صاحبة الأمجاد الاستعمارية والثقافة والثراء، قد سقط، رغم ما يمتلكون من تكنولوجيا ومال وثقافة، ولديهمن خطاب ثقافي مع أنه مزور، ولكنه مرتب، فبالاحرى أنتم ساقطون، سقوطاً مدوياً، وأنتم لا تملكون من أسباب الفتح سوى التخلف، والخرافات والجهل، والقتل العشوائي، وكون عدد من الصبيان في خدمتكم مقابل بقشيش، لا يعني أنكم ستفلتون من المصير المحتوم.

كل شيئ في وقته يأتي محكماً بدقة، وحين تحكم الحتمية المادية التأريخية فلن يصمد أمامها جبال من الزيف والخرافات والجهل ... أنتبهوا ... أتعضوا ... لا يصح إلا الصحيح ...!

وملامح الهزيمة واضحة في وجهه وتعابير خطابه، اعلن الرئيس الفرنسي مكرون، في خطاب الهزيمة، أن فرنسا الأفريقية أنتهت بلا رجعة، ورغم كونه اعتراف مدو، إلا أنه متأخر. وكانت فرنسا تدق طبول الحرب وتؤلب الأفارقة على بعضهم، وتستعد في تحضير حملات عسكرية،  والأن عليخم مواجهة الفشل ... ، وكانت بريطانيا قبلها أدركت أن عصر المستعمرات قد ولى، وتجميل وتزويق المستعمرين واساليبهم، لا يلغي الجوهر الرجعي للأستعمار الذي كان قبيحاً وقحاً بدرجة عجيبة في بيانات عصبة الأمم (تأسست عام 1919 / باريس) حين نص بصراحة أستعمارية استعلائية " حق الأمم المتقدمة بالاخذ بين الشعوب المتخلفة "، هم منحوا أنفسهم حق تقسيم العالم، وإبادة الشعوب ونهبها وسلبها. والتقاتل فيما بينها، وإبقائها في أحط درجات التخلف.

الآن أنتهى كل ذلك، وكل علامات التقدم والتحضر هي خداعة، فليس هناك أوغد منهم وأحط حجين يتعلق الأمر بالسلب والنهب واللصوصية، الآن سقطت الفرانكفونية، وهي تدوير سياسي خادع للأستعمار ...  تمثل فيه فرنسا القلب الاستعماري لمنطقة التي تكون فيها هي بتسمية أنيقة أطلقوا عليها " المركز "، والخائبين من الراضخين، أتباع، أجرام تدور في فلك المستعمر، بتسمية يحاولون جعلها أنيقة ... أطلقوا عليها " الأطراف " . هؤلاء الذين يقفون عراة أمام أسيادهم، مأخوذين بخلاعة ووقاحة الغرب، مذهولين، مسطولين ... سكارى وما هم بسكارى..

الفرانكفونية كان لها مناصرين بيننا، وياللعار، فهرجوا (وعلى الأرجح لقاء ثمن مدفوع) لليبرالية، وهم في الواقع كانوا يمثلون الانقلاب الجنسي، والهيمنة بأساليب منحطة، والآن ماذا سيفعلون...؟

من المستبعد أن يصدروا بياناً، يعترفون فيه أنهم تعرضوا للتضليل ... فهؤلاء من أشباه المثقفين، لن تبلغ شجاعتهم هذا القدر، سيصمتون صمت الحملان  ...!

لا تفوتنا في هذه المناسبة، أن نذكر المتوسعين الصغار في منطقتنا ونذكرهم بمصير فرنسا صاحبة الأمجاد الاستعمارية والثقافة والثراء، قد سقط، رغم ما يمتلكون من تكنولوجيا ومال وثقافة، ولديهمن خطاب ثقافي مع أنه مزور، ولكنه مرتب، فبالاحرى أنتم ساقطون، سقوطاً مدوياً، ووأنتم لا تملكون من أسباب الفتح سوى التخلف، واتلخرافات والجهل، والقتل العشوائي، وكون عدد من الصبيان في خدمتكم مقابل بقشيش، لا يعني أنكم ستفلتون من المصير  المحتوم.

كل شيئ في وقته، وحين تحكم الحتمية المادية التأريخية فلن يصمد أمامها جبال من الزيف والخرافات والجهل ... أنتبهوا ... أتعضوا ... لا يصح إلا الصحيح ...!

 

 

أوكرانيا ... الصفحة

ما قبل النهاية

ضرغام الدباغ

بعد مسيرة مضنية زاخرة بالدماء والدموع، لعب فيها  الأوكرانيون (وهم من فروع القومية الروسية) دور حصان طروادة في المخطط الغربي للسيطرة على روسيا، أما موسكو فتمعنت وتريثت جيداً وهم يحاولون ثني إرادة الأميركان والناتو والغرب من خوض هذه المغامرة، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى شباط ــ فبراير / 2022 . وهذا المسلسل يدور منذ ثورة أكتوبر الاشتراكية / 1919(1)، وصولاً لعهد روسيا الاتحادية، والجائزة هي الموقع القيادي الاول في أوربا.  حيث مثلت قمة مؤتمر مينسك 2014 (2) ذروة في الجهد الدبلوماسي. والروس يواجهون مؤامرات الغرب ومحاولات توسع،  والمعسكر الغربي يتقدم بخطى مدروسة نحو الحرب، ورغم الاتفاقية الرسمية لإنهاء الحرب الباردة (مالطا / كانون الأول 1991)، والأتفاقات لإنهاءها، بموجبها فكك السوفيت الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو.

ولكن الغرب لم يوقف استفزازاته، بل ضاعفها. من ضم بلدان عديدة مجاورة لحلف الناتو، وإشعال فتيل بطيئ للأزمة لاوكرانية بدأت بإيقاد نبران ثورة اوكرانية أطلقوا عليها الثورة البرتقالية، وجاؤا بحكومة كراكوزات تفعل ما يمليه الغرب عليها، وأبتدأ العد العكسي وتدهور الموقف، ووضع الروس أمام معادلة صعبة للغاية، خياران كلاهما مر : أما الاستسلام لإرادة الغرب والأتيان بحكومة موالية للغرب في الكرملين أو الصراع المسلح بكافة أبعاده الشاملة، السياسية / الاقتصادية / وصولاً إلى حتمية الصراع المسلح لأن نوايا الغرب الكامنة هي التوغل في روسيا أو تفكيكها ...!. وتفكيك روسيا هو أسوء الخيارت، وبمثابة أنتحار، لذلك المنطق يوصل إلى قبول المواجهة، لأنها تنطوي (إن أستعديت للأمر جيداً) على أحتمال التعادل أو النصر ..!

الغرب أعتبر أنه قد كسب المعركة سلفاً قبل أن تندلع، أعتمادا على نظرية أن الروس لن يطيقوا صراعاً شاملاً من الغرب، وقد أعدوا للروس سيناريو يشبه السيناريو العراقي بخلق كتل عرقية وطائفية، وإثارة صراعات داخلية ستفضي لتقسيم روسيا، ولدى الكرملين معطيات وأدلة مادية تؤكد وجود هذا المخطط. وتصور الغرب أن روسيا تجمع هش سينهار مع أول طرقة على الباب الخارجية. ولم يقرأوا نصيحة السياسي الألماني العبقري أوتو فون بسمارك الذي نصح القيادات الألمانية وغيرها بعد خوض الصراع المسلح مع الروس، فالروس شعب كبير، صلب، شجاع، يعشق بلده، ويحتمل الأذى والألم وينتصر في معاركه، إذن أسباب صمود روسيا هي إنسانية قبل أن تكون تقنية. وهكذا صمدوا بوجه نابليون، والهتلرية، وكانوا المسمار الأمضى في نعش الأمبراطوريتان.

الروس أمة كبيرة وقوية في أوربا، وموقع القمة يتربعون عليه بجدارة منذ قرون كثيرة، ويبسطون نفوذهم  على شرق أوربا، لوحدهم، فيما غرب أوربا تتقاسم النفوذ فيه بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أما الاولايات المتحدة فتطمع أوربا أكملها بشرقها وغربها، بل وشرق آسيا، والعالم بأسره.. حتى الفضاء الخارجي، ولا يقبلون أن يصدقوا أنهم قد تراجعوا، وسوف يواصلون التراجع عالمياً وفي جميع الساحات والقارات، فالقوى الواعدة أطلت وأبتدأت تحتل مواقع متقدمة، والأمر لن يقتصر على الروس والأوربيين، بل والهند أيضاً واليابان، وتركيا،  والبرازيل، وأندونيسيا، والباكستان .. والشرق الأوسط، والقائمة تطول وتكبر، فأبتدأت المؤامرات الأمريكية والغرب يتبعها بتردد  ولكن في النهاية الكل يطيع وينفذ إرادة أميركا،  وبريطانيا قبلت بدور التابع، وفرنسا وألمانيا يطيعان ولكن على مضض، مع تلميحات وتأشيرات، أن لهما موقفا خاصاً ...!

واليوم مؤاشرات النصر تلوح للروس على قاب قوسين أو أدنى، وإذا كنت متأكداً من هذه النتيجة، فغبري من المحللين السياسيين، وبالاحرى قادة حكومات ودول، يدركونها أيضا بوضوح. لأن الروس يعملون بتخطيط جيد، وبتحالفات قوية وبقناعات راسخة، وقد أنهارت مصداقية الولايات المتحدة، ولم يعد التحالف الغربي يتمتع بذات القوة والتماسك كأيام الحرب الباردة. والأوربيون سأموا دور الأنقياد لمشيئة الولايات المتحدة، والسعي في الحروب العبثية(فيثنام، العراق، أفغانستان)، ومن هنا أعتقد أن الأوربيون أدركوا مآل الأحداث، واليوم أكثر من ذي قبل، مبدأ أن الأمريكيون سيقاتلون الروس حتى آخر أوكراني ...! والقيادة الاوكرانية قدمت بلادها قرباناً للخطط الاستراتيجية الأمريكية الشاملة.

والأوكرانيون مغلوبون على أمرهم، فالقيادات النازية الجديدة التي تقود أوركرانيا في الخفاء والعلن، أرتضوا أن يلعبوا دور كبش الفداء، معتقدين أن الغرب سوف لن يتخلى عنهم أبداً، وبالطبع أن الغرب سوف لن يتخلى عنهم ولكن مع حذف صفة "أبداً ". فكل صفقة لها ثمن غال أو بخس..، وخاضعة بالتالي للبيع كما للشراء ...!

الموقف السياسي العالمي سيشهد تغيرات، والاحتمالات الواردة عديدة :

ستستولي روسيا على مناطق (؟) شرقي الدنيبر.

ستكون هناك حكومة اوكرانية موالية للروس.(بصيغة ؟)

سيشهد الناتو ضعفا في صفوفه.

ستشهد أوربا تغيرات واسعة، قد تغير من وضع الاتحاد الأوربي.

النظام الدولي السياسي / المالي سيشهد تغيرات كبيرة.

ستخطو القارة الأفريقية خطوات كبيرة نحو التحرر من الهيمنة الغربية.

أستخدام الأسلحة النووية، خيار أنتحاري لن يلجأ إليه حتى مالكوه، ولكن يمارس كمناورة،.

الغرب (الناتو) حتى بأستخدامه الأسلحة التقليدية لن يتمكن من هزيمة روسيا لمفردها وهذه حقيقة كبيرة جداً.

بحسابات الحجم السياسي والعسكري الروسي، لا يمكن الحديث عن أمن أوربي ومستقبل أوربا دون مشاركة روسية فعالة.

الاقتصاد الروسي، كبير بقدراته الحالية واحتياطياته، سيكون من الصعب على أوربا الغربية التخلي عن الاقتصاد الروسي .

 السلام العالمي، التعاون الدولي شعارات لا يمكن تحقيقها إلا وفق سياقات وضمن نظام سياسي دولي، وأقتصادي جديد، ونهاية نظام الأمم المتحدة، ونهاية تامة لنظام برتون وودز (الدولار كعملة وحيدة قابلة للتبديل بالذهب).

التاريخ السياسي " العلاقات الدولية" / الاقتصادي / العسكري، يفتتح فصلاً جديداً بعد صراع أوكرانيا.

 

بعبارة وجيزة : كلما طالت الحرب، ترتفع تكاليفها، وبالتالي يتغير الموقف على طاولة المفاوضات، ولكن مع التأكيد، أن الموقف لن يكون لصالح الغرب، ولن يعود للقطة ما قبل شباط / 2022.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

حروب التدخل في روسيا 1918 / 1919

أعداد جنود الحلفاء من 10 أمم، الذين كانوا موجودين في المناطق المشار إليها في روسيا:

هبط 600 جندي من القوات الفرنسية والبريطانية في أرخانجيلسك

عدد من القوات البريطانية في فلاديفوستوك

عدد من القوات الرومانية في بيسارابيا

23,351 جندي يوناني، انسحبوا بعد ثلاثة أشهر (جزء من فيلق الجيش الأول تحت قيادة الجنرال كونستانتينوس نيدر، الذي يضم فرقتين من المشاة الثاني والثاني عشر، في شبه جزيرة القرم، وحول أوديسا وخيرسون

13000 أمريكي (في مناطق أرخانجيلسك وفلاديفوستوك)

11,500 استوني في شمال غرب روسيا

2500 إيطالي (في منطقة أرخانجيلسك وسيبيريا)

2,300 صيني (في منطقة فلاديفوستوك)

150 أستراليا (معظمهم في مناطق أرخانجيلسك)

15000 جندي ياباني في المنطقة الشرقية

4,192 كندي في فلاديفوستوك، 600 كندي في أرخانجيلسك

بروتوكول : أتفاق مينسك

 

يتكون نص البروتوكول من اثنتي عشرة نقطة:

لضمان وقف فوري لإطلاق النار الثنائي.

لضمان المراقبة والتحقق من وقف إطلاق النار من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

لا مركزية السلطة، من خلال اعتماد القانون الأوكراني «بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من ولايات دونيتسك ولوهانسك».

لضمان المراقبة الدائمة للحدود الأوكرانية الروسية والتحقق من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مع إنشاء مناطق أمنية في المناطق الحدودية لأوكرانيا والاتحاد الروسي.

الإفراج الفوري عن جميع الرهائن والمحتجزين بشكل غير قانوني.

وضع قانون يمنع مقاضاة ومعاقبة الأشخاص فيما يتعلق بالأحداث التي وقعت في بعض مناطق دونيتسك ولوهانسك أوبلاستس.

مواصلة الحوار الوطني الشامل.

اتخاذ تدابير لتحسين الوضع الإنساني في دونباس.

لضمان إجراء انتخابات محلية مبكرة وفقًا للقانون الأوكراني «بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من دونيتسك ولوهانسك أوبلاست».

سحب الجماعات المسلحة غير الشرعية والمعدات العسكرية وكذلك المقاتلين والمرتزقة من أراضي أوكرانيا.

لتبني برنامج الإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار لمنطقة دونباس.

لتوفير الأمن الشخصي للمشاركين في المشاورات.

المركز العربي الألماني -برلين

المراسلات

Dr. Dergham Aldabak : drdurgham@yahoo.de

الشاعر أرثر رامبو

 

ضرغام الدباغ

 

 

ولد الشاعر الفرنسي أرثر رامبو في بلدة شارلفيل شمال شرق فرنسا، عام 1854، وسرعان ما بدت عبقريته واضحة لمعلميه في المدرسة  ومحيطه الاجتماعي، فمنذ أن كان في السابعة من عمره، حيث أبتدأ كتابة الشعر، ولكن رامبو لم يعش طويلاً (37) سنة ليحصد المجد الثقافي، وكانت حياته ملؤها البوس والفاقة والعذابات. أنتهت في عام 1891، حين بدأ الشاعر يعاني من ألام مضنية في ساقه الأيمن. نقل رامبو إلى مرسيليا، حيث قرر الأطباء قطع ساقه، وأخيراً عاد إلى والدته وبلدته. ولكنه سرعان ما قضى نحبه في شعر تشرين الثاني / نوفمبر  نوفمبر من نفس العام (1891)،

في شهر آب من عام 1870 ، غادر رامبو شارلفيل، ووصل إلى باريس، ثم سافر إلى بلجيكا، حيث حاول ممارسة الصحافة. ولكن الشرطة أعادت الصبي القاصر لإمه إلى المنزل. لذلك، ومن هنا وحتى نهاية عمره، سيظل الأمر كذلك كما لو أنه كان يسعى لهدف غامض، يحاول رامبو ويسعى باستمرار بلوغه كأنه يبحث عن شيء ما. وفي هذه العملية تجديد دائم لثراءه تفكيره ونضجه الشعري.

بعد فترة قصيرة يقرر رامبو الهرب مجدداً إلى بلجيكا، وقد صارت بلدان أوربا الأخرى وليس فرنسا فحسب مرتعاً لتسكعه وكأنه يبحث عن شيئ، لم يكن يعرفه بدقة، شيئ يدور في آفاق النضج الفني الشعري الذي لا جدال فيه، وكان لابد له من محرك خارجي هائل، وهذا المحرك الخارجي وجد تجسيده في حدث تاريخي كبير وهو " كومونة باريس / 1871 "  وأستمد من الثورة قوتها، وتمردها.

وعن تطور نضجه كتب وهو في السابعة عشر فقط ..! إلى صديقه الشاعر  بول فيرلين رسالة مهمة، تنبأ عن وعي نضج مبكر جداً وتبلورات مهمة تحوّلت في ما بعد إلى بيانٍ حقيقي للشعر الحديث، لأنّه عبّر فيها عن نظريته الشعرية، التي تقول " إن على الشاعر أن يصل إلى مرحلة الرؤيا، وأن يغدو رائياً أو متنبئاً من خلال تحرير حواسه، وأن الشاعر يمكن أن يبلغ مستوى الرؤية، بفعل اضطراب طويل وهائل لجميع الحواس ".

ساهمت التحولات المهمة في تاريخ فرنسا الحديث. في أن يكتسب الشاعر نضجاً وأن تجد شخصيته المتمردة التبلور الذي كان يبحث عنه،  وتجسدت هذه في  كومونة باريس (1871). التي أصبحت ليس لدعاة الثورات الأجتماعية فحسب، بل والمتطلعون إلى آفاق فنية / أدبية أكثر رحابة وعمق. وهنا هجر بلدته الصغيرة الهادئة شارلفيل كأول رد فعل (Reaction)، وخاصة بعد الأنتكاسة التي أصابت الثورة (كومونة باريس) إذ راح يطالب أدباء فرنسا الكبار : فيكتور هوغو، وشارل بودلير وأدباء آخرين، بمواقف أكثر صلابة وفي ذلك التأثير للمؤثرات الجديدة على شخصيته وأدبه، والذي بدا في قصيدة " الحداد " والتي أعتبرت من أعمال رامبو الكبيرة.". كل شيء فيه يذكر بأعمال هوغو: الحبكة التاريخية للعصر العظيم الثورة الفرنسيةوالمحتوى الملحمي والشكل الملحمي والفكر الجمهوري والأسلوب الضخم" .

ويلاحظ متتبع سيرة الشاعر رامبو، أن تتطور نضجه تمثل في أستيعابه لمحصلة الأحداث والتجارب، بدا أن رامبو ، في وقت قصير ، قد أستوعب ذلك التطور في الاتجاه الأدبي... جاء ذلك في المرحلة الأولى من السيرة الإبداعية للشاعر ، والتي استمرت 18 شهرا - من 2 يناير 1870 ، تاريخ نشر أول قصيدة لرامبو ، حتى مايو 1871 (تاريخ هزيمة الكومونة). تمت الإشارة إلى كل خطوة من خطوات نموه الفني / الأدبي .

 

وبحلول عام 1870 ، كان رامبو قد أنجز أكثر من 10 قصائد، " حيث أصبح الاعتماد على التقليد الرومانسي ملموسا بشكل أكبر." . جسَد فيها القواعد الراسخة للنصوص الفرنسية "الصحيحة". مع الانتقال إلى المرحلة التالية من الإبداع .

تنتمي أربع أو خمس قصائد فقط إلى فترة الكومونة، وهي المرحلة الأحدث في عمل رامبو ، وتمثل المستوى الجديد الذي بلغه الشاعر، هذا حقا حقبة جديدة في تطور الشاعر. تتميز بالعمق والنضوج، رغم أن رامبو لم يكن بالكاد في السادسة عشرة من عمره!  اعتبر الشاعر هزيمة انتفاضة كومونة باريس، وانتصار عصبة فرساي، " كارثة عميقة ". حيث ظهرت القصائد التي كتبها رامبو في أيام الكومونة فقد  كانت هزيمة الانتفاضة تعني بالنسبة لرامبو  أنتكاسة للتطور الفكري / الثقافي بذات الوقت والمعنى ...! بعد انتكاسة الكومونة وقمعها الدموي، أعتقد رامبو أن عليه أن يكرس جهوده في العمل الفني، فأنجز مجموعة قصائد، أعتبرت من مرحلة الكومونة.

خلال هذه المرحلة الساطعة ...ويسميها بعض النقاد بمرحلة الرؤية، وهي المرحلة التي أشتد فيها تكاثف الوعي وعناصرة المكونة الداخلية والخارجية، " الرؤية "، كتب رامبو قصيدة "السفينة السكرى" ، التي انجزها في صيف عام 1871 (عام الكومونة) "السفينة السكرى" وفيها يحكي الشاعر رحلته في بحر الرؤية والسطوع، ثم يخبو ذلك الوهج بل ويتلاشى، حتى أن الشاعر يتنبأ بنهايته، ويطلق عليها السفينة، التي تقاوم الأمواج العاتية، تلك الرحلة التي منحها الشاعر قلوعه وأشرعته، ولكن الواقع الموضوعي مضطرب والبحارة ليسوا بدرجة الوضوح عند القبطان، وحيث لا تفيد مناشدتهم، فتمضي السفينة في رحلتها نحو المحتوم، ويعلن القبطان هزيمته، وينعي كل شيئ في أسى عاطفي  حزين، وأن نضاله كان عبثاً، وبأعتبار أن رامبو كان شاعراً وليس بقائد ثوري، يحلل الظروف الذاتية والموضوعية، تحليلاً ماديا ملموساً، بل يستسلم للداعي والاسف، وأفضل ما فعله، هو العمل على تقريب البحارة (الناس) للرؤية العميقة .. للوعي الساطع، وبها نفهم العالم وما يدور أفضل ....!

"قصيدته " السفينة السكرى " هي تشابك للعديد من العناصر، التفاؤل والتشاؤم، ولكن ثقة الشاعر بمهمته لم تنهار، وإن لحقها بعض اليأس، الشاعر يثق بالمستقبل وإن برؤية مضطربة، يجتاحه الحزن أن الموت الذي سيطبق به، وأن العالم سيتواصل بدون .. وهذا أمر ليس بالغريب تماماً، فلطالما تنبأ الوجوديون بموتهم، ومأساة أنهم سوف يشهدوا الفصول القادمة ..! ويرى بعض النقاد أن الرؤية في قصيدة السفينة السكرى، بمثابة علامة على تشكيل أحدث نظام شعري قائم على الانعكاس الرمزي للواقع.

فالشعر ليس مجرد ألفاظ وحتى معاني، بل ووظيفة الشعر في العصر الحديث حيث تقدمت الفنون بدرجة كبيرة، وصار مطلوباً لمهمة أخرى، وهي انه تحول من إطار إلى بنية لابد أنها تعبر عن الحركة الواسعة النطاق التي تدور في جوهر العمل الفني ويذلك فإنه  يتحول لمضمون، وهذه الحركة و هي عملية ديناميكية مهمة.

بعد قصيدته الكبيرة " السفينة السكرى " كتب رامبوا عددا من القصائد، حيث تحول الشاعر إلى التوهج في الرؤية، وأصبح قلما يكتب في مستوى ثقافي / أجتماعي، وفي سفراته الأخيرة في الشرق، صار يتطلع إلى آفاق جديدة، وصارت له أسطح رؤية لم يكن يعرفها، على الأقل بهذه الدقة في الرؤية الجمالية للروح كما أنه هناك رؤية جمالية الطبيعة، وبدا أن له رؤية غير تلك الرؤية الكلاسيكية للأدب.

واصل رامبو تسكعه وتجواله، متفاعلاً بين الحياة وظروفها، وبين رؤيته الشعرية، فغادر أوروبا عام 1880، متجهاً قبرص، وبدأ يتعرف على نكهة الشرق، فأوغل في ترحاله إلى مصر ، ثم إلى عدن، حتى استقر في مدينة هراري/ إثيوبيا ، حيث أقام طويلاً. وفي أفريقيا أنغمس في أمور حياتية (التجارة) ربما شعر بضرورة تكوين قدرة مادية يواجه بها تقدمه في السن، رغم أنه لما يزل في الثلاثينات من العمر، ولم يعد يمارس الكتابة، " والرسائل التي وردت منه في أوروبا ملفتة للنظر في جفافها وكفاءتها غير العادية، والافتقار المطلق للخيال وأي غنائية على الأقل".

 

لا أعتقد أن هناك قصيدة بعينها ترجمت إلى لغات كثيرة ومنها اللغة العربية، قدر ما وجدت قصيدة رامبو الشهيرة : " السفينة السكرى " طريقها للترجمة، وبالطبع هناك تفاوت أحيانا كبير في الترجمات (بحسب رؤية وتخيل المترجم للمشهد الشعري عدا القدرة المهارية للمترجم)، وكم تأسفت لأني لم أقدر على قراءتها بلغتها الأصلية (الفرنسية) رغم أني قرأتها لمترجمين فطاحل متمكنين من لغتهم الفرنسية، ثم قرأتها باللغة الألمانية، (قرأت ليس أقل من 12 ترجمة باللغتين العربية والألمانية لهذه القصيدة الرائعة) ولكني أظن أن اللغة الأصلية لها طعم خاص، ولا سيما هذه القصيدة الرائعة.

 

 

 

(السفينة السكرى) أغنية البحر

 

الشاعر الفرنسي : آرثر رامبو ( 1854 / 1891 )

 

عندما هبطت مع الأنهار العصبية

أحسست أن ملاحي قد تخلوا عني

كان ذو الجلود الحمراء قد سددوا حرابهم إليهم

وسمروها وهم يصرخون عرايا إلى الأوتاد الملونة

 

لم يعنيني أمر البحارة أجمعين

ولا إن كنت أحمل حبوب الفلمنك أو قطن الإنكليز

فلما أنتهي الضجيج وقضي على الملاحين

تركت الأمواج تسوقني إلى حيث تشاء

 

كنت في هدير المد والجزر المخيف طوال الشتاء

أشد تصميماً من أدمغة الأطفال... أجري وأطير

أشباه الجزر المقفلة في صخب الأعاصير ...

لم تعرف في حياتها أروع من هذا الفناء ...

العاصفة باركت صحوي في البحار

 

أخف من سدادة رحت أرقص فوق الأمواج

التي تدحرج كما يقال ضحاياها إلى الأبد

عشر ليال غير آسف على وهج المصابيح السخيفة

أعذب من لحم التفاح النيئ في أفواه الأطفال

غمرني الماء الأخضر وغسيل النبيذ الأزرق

وبقايا البصاق من هيكل قاربي الصنوبري

وأنتزع من يدي الدفة والمرساة

فرحت منذ ذلك الحين أستحم في قصيدة البحر

التي تومض بالنجوم وتفور كاللبن

وأبلغ السماوات الخضر التي يحدث في بعض الأحيان

أن يحصل فيها غريق، ووجهه شارد

وشاحب وخذلان

وحيث يحدث فجأة تحت وهج النهار

أن تصبغ الفضاء الأزرق بنشوة وأهازيج

أقوى من الخمر وأعمق من أي قيثار

 

ورحت اسبح بينما كان ينساب من حبالي الهشة

بعض غريق يغوص في النوم ورأسه إلى الوراء

 

وها أنا ذا سفينة ضائعة تحت ضفائر الخلجان

طوح بي الإعصار في أثير خال من الطيور

أنا الذي كانت المدمرات ولا سفن الهانزا

لتنتشل أشلائي السكرى بالماء

 

وأدخن وأخرج من خلال الضباب البنفسجي

أنا الذي رحت أشق السماء المحمرة كالجدار

أنا الذي رحت أجري وقد تناثرت على الأسماك الكريهة

كلوح مجنون تحف به أفراس البحر السوداء

رأيت الأرخبيل المتلألئ بالنجوم

وشاهدت الجزر التي يتلألأ فيها وهج

السماء الرحبة للملاح

 

أتنام منفياً في مثل هذه الليالي التي لا يسبر لها غور

يا ملايين الطيور الذهبية ... يا قوة المستقبل

لكني بكيت كثيراً ...

أنوار الفجر جارحة

كل الأقمار قاسية ... وكل شمس عذاب

 

نفحنى الحب المرير حتى أصابتني النشوة بالجنون

آه فلتنكسر يا قاع سفينتي

آه فليغمرني البحر

إن كنت لا أزال أشتهي من أوربا ما

فهو المستنقع المظلم البارد الذي يلقى فيه

طفل محنى عند الغسق يفيض قلبه بالحزن والشقاء

قارباً رقيقاً مثل فراشة الربيع

 

أيتها الأمواج بعد أن استحممت بأشواقك الفاترة

ما عدت أستطيع أن أمنع ناقلي القطن من الرحيل

ولا أجوس في غور الأعلام والمشاعل

ولا أن اسبح تحت العيون المفزعة.

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

 

  المراسلات

Dr. Dergham Aldabak : drdurgham@yahoo.de

 

 

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

 

 

 

 

جهاز كاشف الكذب

 

د. ضرغام الدباغ

 

في العام الدراسي 1961/1962، كنا طلابا في الصف المستجد الدورة 18 / كلية الشرطة ببغداد، وكنا نتلقى العلوم العسكرية والمسلكية والقانونية على أيدي أفضل الأساتذة (دكاترة) (ويتولون تدريسنا المواد القانونية والانسانية) والضباط الركن(يدرسون التعبئة والتخطيط، ونظريات الرمي)، أو من ضباط الشرطة الخبراء الفنيين، ومعظمهم كان قد أوفد لدورات خارج العراق، بصفة خاصة للولايات المتحدة وبريطانيا، وعادوا للتدريس في الكلية.  وكانوا ينقلون لنا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن الدورات التي اتبعوها هناك، وبعضهم كان يتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة.

ومن بين ما أسهبوا في شرحه كان جهاز كاشف الكذب (بالانكليزية / Polygraph)، الذي يعود أصل اكتشافه إلى عام 1921 في الولايات المتحدة، ولم يكن حتى ذلك الوقت (وأعتقد ما يزال) لم ينتشر في الكثير من البلدان، والأدق أنه رغم التطويرات التكنولوجية على الجهاز، إلا أنه لم ينجح (حتى الوقت الحاضر) في أن يكون مؤشرا قاطعاً في الدلالة الجرمية، وإذا كانت المحاكم تتردد، بل لا تعتبر الصورة والتسجيل الصوتي حتى قبل عشرات السنين، دليلا جرميا يعتد به، بأعتبار الامكانية التقنية المتوفرة في تزوير المبرز (صورة أو تسجيل صوتي)، فجهاز كاشف الكذب قد أثبت في كثير من الحالات المهمة، أنه أقل من أن يعتبر مؤشرا ومؤثرا على قناعة المحقيين او القضاة.

 

جهاز كشف الكذب أو البولي‌غراف polygraph، هو جهاز لقياس السجلات والقياسات الفسيولوجية المختلفة مثل ضغط الدم، النبض، التنفس، والعلامات التي تظهر على البشرة، والجلد عند توجيه الأسئلة للشخص المستجوب. ويعتقد أنه أثناء الإجابة عن تلك الأسئلة سوف تتولد استجابات فسيولوجية يمكن عن طريقها تحديد مدى صدق الشخص.

ـــ ومن الانتقادات التي توجه لجهاز كاشف الكذب ارتفاع تكاليف تشغيله، إذ يبلغ متوسط تكلفة إجراء الاختبار في الولايات المتحدة الأمريكية(في بداية الألفية الثالثة) أكثر من 700 دولار أمريكي، ويُعد جزءًا من صناعة تُقدّر قيمتها بملياري دولار أمريكي.

ــ وبصفة عامة جرى تقييم جهاز كاشف الكذب بوصفه جهاز لا يمكن الاعتماد على نتائج كدليل مؤكد، واعتبارها وسائل غير كافية وغير صالحة لتقييم الصدق.  لم يجد المجلس القومي للأبحاث في الولايات المتحدة أية دلائل على فعالية جهاز كشف الكذب، على الرغم من الزعم بصحة 90% من نتائج فحوصاته تقول جمعية علم النفس الأمريكية: " يتفق معظم علماء النفس على عدم وجود أي دليل يُذكر على إمكانية كشف جهاز المخطط المتعدد للأكاذيب بدقة عالية ".

ــ لكن، من الممكن للتفاعلات الفيزيولوجية التي " تميز " الكاذبين أن تظهر أيضًا عند الأشخاص الأبرياء الذين يخشون الكشف الزائف، أو عند الأبرياء الذين يبالغون بإظهار عواطفهم عند الإجابة على الأسئلة المتعلقة بارتباطهم بالجريمة. لذلك، قد يكون السبب وراء ظهور الاستجابة على شكل رد فعل فيزيولوجي مختلفًا. أوضح الفحص الإضافي لاختبار الكذب المحتمل إمكانية كون هذا الاختبار متحيزًا ضد الأشخاص الأبرياء. سيفشل أولئك الذين لا يستطيعون التفكير بكذبة متعلقة بالسؤال المطروح في الاختبار بشكل تلقائي.

 

ــ ويتضح أن كفاءة مشغلي الجهاز لها علاقة مهمة بالنتائج، وطبيعة الأسئلة التي يوجهها، وما إذا كان متحاملاً أو ودوداً مع المستوجب. في عام 1991، اعتبر ثلثا المجتمع العلمي الذين يملكون الخلفية اللازمة لإجراء الاختبارات على أجهزة كشف الكذب، بأن الجهاز هو عبارة عن علم زائففي عام 2002، أظهر تقييم أجراه المجلس الوطني للبحوث أنّه من الممكن " أن تحدّد اختبارات كشف الكذب المرتبطة بحادث معين، الصدق من الكذب بمعدلات أعلى بكثير من الصدفة، لكنها بنفس الوقت بعيدة جدًا عن الكمال ".

ــ وبصفة عامة تقر هيئا علمية عديدة، أن جهاز كاشف الكذب يفتقر كثيراً إلى درجة الصدقية الحاسمة التي توفرها طبعات الأصابع مثلاً، أو فحوصات الحمض النووي، أو الفحص التقني لسلاح الجريمة " ففي عام 2005، ذكرت الدائرة الحادية عشرة في محكمة الاستئناف بأن «جهاز كشف الكذب لم يحظ بقبول عام من المجتمع العلمي.  وهذا يوفر قداً كبيرا من الشكوك بنتائج جهاز كاشف الكذب.

 

ــ ويؤشر خبراء أن جهاز كشف الكذب يقيس الإثارة، والتي يمكن أن تتأثر بالقلق، ويقيس اضطرابات القلق (كاضطراب ما بعد الصدمة)، إضافة إلى قياس مستويات الهلع والخوف والارتباك ونقص السكر في الدم والاختلال في الوظائف العقلية والاكتئاب والحالات التي تسببها بعض المواد (كالنيكوتين والمنشطات)، وحالة انسحاب المواد (كالانسحاب الكحولي)، والعواطف الأخرى، بينما لا يقيس جهاز كشف الكذب " الأكاذيب". كما من غير الممكن للجهاز أن يميز بين القلق الناجم عن الكذب والقلق الناجم عن أي سبب آخر.

مكتب الكونغرس الأمريكي لتقييم التكنولوجيا

نشر مكتب تقييم التكنولوجيا التابع للكونغرس الأمريكي عام 1983 مراجعة لتكنولوجيا جهاز كشف الكذب، تضمنت ما يلي:

" لا يوجد في الوقت الحاضر سوى بعض الأدلة العلمية التي تثبت مشروعية فحوصات جهاز كشف الكذب. حتى عندما تظهر الأدلة على أنها تشير إلى إمكانية جهاز كشف الكذب في فضح الكاذبين بشكل أفضل من المصادفة، فإن معدلات الخطأ الكبيرة ممكنة جدًا، من الممكن للفاحص أن يدرس الاختلافات ويستخدم الإجراءات المضادة لإضفاء المزيد من المشروعية على اختبارات الجهاز "

الأكاديمية الوطنية للعلوم

في عام 2003، نشرت (NAS)، الأكاديمية الوطنية للعلوم " تقريرًا بعنوان " جهاز كشف الكذب ". وجدت الأكاديمية بأن غالبية أبحاث جهاز كشف الكذب كانت «غير موثوقة وغير علمية ومتحيزة»،

ـــ عند استخدام جهاز المخطط المتعدد كأداة فحص (في القضايا المتعلقة بالأمن القومي، بواسطة الأجهزة المختصة،)، ينخفض مستوى دقة الجهاز إلى المستوى الذي " يُعتبر غير كافٍ لتبرير استخدامه في الفحص الأمني الخاص بموظفي الوكالات الفيدرالية ". خلصت الأكاديمية الوطنية للعلوم إلى أنّه من الممكن أن يكون لجهاز كشف الكذب فائدةً محدودة، ولكن " لا أساس للتوقعات القائلة بأنه من الممكن أن تكون دقة جهاز كشف الكذب عالية للغاية". ومع ذلك، فإن الأجهزة الأمريكية خاصة، تميل بشدة لاستخدام الجهاز، واعتماد نتائجه الغير دقيقة.

عندما سئل ضابط وكالة المخابرات المركزية، ألدريش أميس، الذي أصبح فيما بعد جاسوسًا تابعًا لجهاز الاستخبارات السوفييتي (كي جي بي)، عن اختبار كشف الكذب الذي أجراه، تحدث عن النصائح البسيطة التي وجهها له مسؤوله السوفييتي مثل:  " احصل على مقدار جيد من النوم في الليل، والراحة، واسترخ خلال الاختبار. كُن ودودًا مع القائم على الاختبار، وحاول أن تبني معه علاقة، وكن متعاونًا، وحافظ على هدوئك ". بالإضافة إلى ذلك، أوضح أميس،  " لا يوجد سحر خاص لاجتياز الاختبار، جل ما عليك فعله، هو الثقة بنفسك، وبناء علاقة ودية مع المُمتحن، ابتسم واجعله يعتقد بأنك تستلطفه ".

 

المركز العربي الألماني  برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

هل يتجه العالم لتصفية آثار

ونتائج الحرب العالمية الثانية

ضرغام الدباغ

 

مثلت الحروب الاستعمارية نزعة هي في ظاهرها وجوهرها، وسياسة التوسع (Expansions policy) بهدف التوسع والضم والإلحاق، ونهب ثروات البلدان المستعمرة، بل وفي حالات كثيرة كان سكان وشعوب البلدان التي تتعرض للغزو الاستعماري يساقون بالسخرة كوقود لحروب وفتوحات وضحايا مجانية للحروب الاستعمارية.

وكما في معطيات الطبيعة، فكما هناك ما يطلق عليه في علم الجيولوجيا، الهزات الارتدادية (Aftershock)، كثيرا ما تقود الحروب الاستعمارية إلى حروب أخرى، ذلك أن المنتصرون في الحروب غالباً ما لا يحكمون العقل بقطف ثمار انتصارهم، فيبالغون في الاستيلاء على ما يملك المنهزم، من منقولات: ممتلكات مصانع، وأموال، يتحولون بعدها إلى تقاسم ما يمتلك من ثروات غير قابلة للنقل، أراض ومصادر ثروات طبيعية ومناطق استراتيجية، موانئ، منافذ بحرية، إطلالات استراتيجية ...الخ

وإذا كانت الثروات المنقولة والغرامات قضية يمكن أن تتجاوزها الدول بمرور الزمن، ولكن المناطق المستولى عليها (عبر اتفاقيات إرغام وإذعان) ستمثل عقدة يصعب حلها في العلاقات بين الدول، ولا سيما بعد زوال الظروف السياسية التي أدت إلى الصراع المسلح، وقيام معطيات وآفاق جديدة تستلزم العمل والتعاون السياسي/ الاقتصادي، وبالتالي العمل كفريق حيال مهمات ومستحقات حديثة، ستحول تلك العقد دون المضي  في قدما في مجالات التعاون، وستمثل عائقاً، وقد تقود إلى بؤر خلاف تحتمل التطور إلى أزمة، والأزمة قابلة للتصعيد إلى حالات ومواقف قد لا تنجح الدبلوماسية دائماً في نزع فتائلها.

في الأمم المتحدة هناك دوائر مختصة بدراسة الملفات العالقة، والتي تمثل قنابل موقوته قابلة للألتهاب والانفجار في أي وقت، ومن يقرأ هذه الملفات (وعددها ليس يسير) يلاحظ أولاً كثرة عددها، منتشرة في جميع القارات، وثانيا أنها تعود للعصور الاستعمارية والحربين العالميتين الأولى والثانية، فالمستعمرون حين أضطروا إلى مغادرة البلاد، خلفوا ورائهم مشكلات تستعصي الحلول، فيندر وجود أقليم في أوربا وآسيا (شبه القارة الهندية) وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تخلو من هذه المشاكل، ورغم مرور عقود على بعض تلك المشاكل إلا أن الملفات الشائكة ما تزال على الطاولة يمكن تفعيلها وطرحها في أي وقت. وبعض الدول تعمد إلى إدراج تلك الملفات في جدول أعمال الأمم المتحدة لمجرد التذكير أنها لم تنسى ما فقد منها، ولا تريد التخلي عنها.

وكان الروس قد اضطروا في الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى، إلى عقد معاهد صلح إذعان مع ألمانيا (معاهدة صلح بريست)، تنازلوا فيها عن أراضي واسعة ومدن، وثروات طبيعية، ولكنهم في سياق تطور الحرب العالمية الثانية، تمكنوا من أستعادتها (مقاطعة برست)، وهناك مقاطعات أخرى تنازل عنها الروس بسبب قيام الكيان السوفيتي التي أستلزم بعض التعديلات الهامة، فتنازل الروس عن أقليم القرم (شبه جزيرة القرم) لصالح كيان لم يكن موجوداً، كما وافق الروس على إنشاء (أوكرانيا). وأستولى الاتحاد السوفيتي على مقاطعة بروسيا الشرقية وعاصمتها كونيغسبيرغ وأسمتها كالنينغراد، ولكنها اليوم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، قادت إلى تنازل روسيا الاتحادية في ظروف إنهاء الحرب الباردة عن أستونيا، وليتوانيا، ولاتفيا، وما فقد بالأمس يمكن الحديث عنه لاحقاً في وضع مسارات أوربية جديدة.في خضم توتر دولي، مسألة إعادة النظر في تلك التعديلات.

الأراضي الألماني التي انتزعت من كيان الرايخ ألالماني، في الحربين العالميتين الأولى والثانية  وهي كثيرة وفي جميع الاتجاهات وخاصة في بولونيا، حيث فقدت جزءاً مهما في الحرب العالمية الأولى، ثم في الحرب العالمية الثانية، فأنحسرت الحدود الألمانية إلى ما بعد نهري الأودر والنايسة. والكوريدور (الممر)، لصالح دولة بولونيا بما في ذلك مدينتان كبيرتان (بوزنان في الحرب الأولى، ومدينة / ميناء دانزنغ وستيتين في الحرب الثانية). كما خسرت المانيا في الحرب الأولى مدينة كبيرة (ستراسبورغ) لصالح فرنسا.

ومسألة أخرى تطرح نفسها بوصفها ملفا ساخناً، هي جزر بحر إيجة المتنازع عليها بين تركيا واليونان، وهي خرائط تقسيم تحمل في ثناياها فتائل أشتعال وتفجير الموقف، لأفتقاره لأسس ترسيم الحدود البحرية، فبعض الجزر اليونانية لا تبعد سوى بضع مئات من الأمتار عن البر التركي. بما يعيق سيادة البلاد على مساحات في مرمى البصر، ناهيك على المجال الاقتصادي البحري، مما ينذر بمشكلات حادة.  فهي خرائط لا تعني سوى الإمعان في إلحاق الأذى والضرر بالدول المنهزمة. واتفاقيات بحر إيجة لا يمكن أعتبارها إلا بوصفها قنابل موقوته.

وقد كان لتفكيك الاتحاد السوفيتي، على نحو ما جرى، يحمل في ثناياه ما يدور اليوم من انفجار الموقف في أوكرانيا، بما لا يستبعد أن يتحول الصراع إلى مديات أوسع في القارة، بدرجة اختلال ميزان القوى السكاني والاقتصادية. وكان لتصريحات وزير الخارجية البولونية التي عبر فيها عن مخاوفه وهواجسه، وأخرى لمسؤولين في دول البلطيق التي ضمت لحلف الناتو والاحاد الأوربي، دون حساب عناصر الموقف أو تفكير عميق سوى " تشكيل سداً / حاجزا قويا بمواجهة روسيا " وتطويقها بكيانات صغيرة _(لتلعب دور دول وسادة " Buffer Staet ") تمنعها من التفكير في المجال الحيوي المتاخم لها "لروسيا ".

وهذه الترتيبات تعني في رؤية واقعية، أنها خاضعة للتغير حال تغيير حدوث جوهري في إحدى عناصر ميزان (الوضع الجيوبولبتيكي/ الديمغرافي، الاقتصادي، القدرات العسكرية)، ولا سيما بعد حروب طاحنة، وعالمية النكهة، فمن الواضح أن حجم التدخل الغربي إن عبر منظمة الناتو، أو الاتحاد الأوربي في الصراع الروسي / الأوكراني، كان ينطوي على بعض هذه التغيرات أو كلها ....! وفي النهاية ليس هناك ما يطمئن كافة الاطراف غير قيام علاقات قائمة على الاحترام المتبادل لهواجس الأمن، والمصالح المتبادلة، وسلم يعم المنطقة والعالم.

ـــ أتفاقات وتفاهمات اقتصادية وثقافية هي ستحل بدل سياسة الاحلاف وسباق التسلح.

ـــ إبداء التفهم والاحترام للآخرين كي تحملهم على أحترامك.

ــ أحترام سيادة، وتقاليد، وثقافة الآخرين، بدل من فرض سياسة الشذوذ على أنها رقي وتحضر ...!

ـــ فرض التوسع وقضم الأراضي والاستيطان، وأتهام من يخالفها بالارهاب.

ـــ فليعالج كل أزماته، ولا يحاول تصدير أزماته.

ومن الملفت للنظر، أن الصراعات المسلحة في العصور الحديثة أصبحت مكلفة اقتصاديا وبشرياً بعد التقدم الكبير في الصناعات الحربية، وحتى في أنواع أسلحة الدمار الشامل الكفيلة بإبادة الحياة على سطح الكوكب الأرضي. وهي معطيات تدل على تعاظم الحاجة إلى نظام دولي جديد، خال من الاستقطابات، وإبادة أسلحة الدمار الشامل، وأحترام لقواعد القانون الدولي، وفض النزاعات بالوسائل الدبلوماسية.

 

 

 

لوحة الرسام البرتغالي فاسكو غار غالو

 

الفن يدين العنصرية

 

ضرغام الدباغ

 

 

فاسكو غارغالو هو رسام كاريكاتير برتغالي، ولد في عام 1977 في فيلا فرانكا دي زيرا، وهي بلدة هادئة في البرتغال. هورسام كاريكاتير ورسام صحفي مستقل ، ينشر أعماله في العديد من وسائل الإعلام الوطنية والدولية - يمكن رؤية بعض من أفضل الرسوم التوضيحية له في الصحف والمجلات مثل " مجلة Sábado"، "الجريدة الأول"، وفي الصحافة اليومية البرتغالية والدولية . وهو متعاون منتظم مع حركة الكرتون وشارك في العديد من المعارض والمهرجانات في جميع أنحاء البرتغال.

 

شارك في مسابقات الرسوم المتحركة الأوروبية الكبرى. وتلقى غارغالو في عام 2016، أربع تنويهات مشرفة:

ــ جائزة الأمم المتحدة / رانان لوري للكاريكاتير السياسي لعام 2016.

ــ مهرجان الرسوم المتحركة الأول في الكويت 2016.

ــ الطبعة 9 من د. Quichotte الدولية للكارتون المسابقة / Quo Vadis أوروبا / رحلة الأمل.

ــ "مهرجان العالم 18 بورتوكارتون".

ــ في عام 2014، حصل على جائزة خاصة في مسابقة "بينالي دي فكاهة لويس دي أوليفيرا غيماريش". ــ في عام 2009، فاز بجائزة ستيوارت، في فئة "صحافة الرسوم المتحركة".

ــ في عام 2005، فاز بجائزة الشباب التوضيح، في "القاعة الوطنية الصحافة الفكاهة" وحصل على تنويه مشرف في قاعة الكاريكاتير البرتغالية- الجاليسية". "الرسم من أجل حرية التعبير هو هدفه الأسمى!"

رغم أن اخطبوط الصهيونية يمتد إلى كل زوايا الأرض، فيشتري ضمائر بعض الناس، ويرهب بعضاً آخر، ويسن قوانين في بلدان أخرى يحمي بها الانحطاط الخلقي لهم، إلا أننا نشاهد بين فترة وأخرى، أعمالاً فنية رائعة تدين العنصرية وتشجب العدوان، وتقف إلى جانب المظلومين.

 

رسم للفنان البرتغالي فاسكو غارغالو (Vasco Gargalo) نشره في مجلة  سابادو (Sabado) الأسبوعية البرتغالية بعنوان :  المحرقةً وقد اثار حفيظة الصهاينة وغضبهم،  فشنوا على صاحبه حملة شعواء وطالبوا رئيس الصحيفة بطرده  ويمثل الرسم صورة نتنياهو وهو  يزج بتابوت يمثل الشعب الفلسطيني في أتون فرن وكأنه يقول للصهاينة اذا كنتم تعرضتم لمحرقة على أيدي النازيين فانكم ترتكبون مثلها او أسوء منها بحق الشعب الفلسطيني.

 

وفي عمله الفني هذا  أكد هذا الفنان التقدمي مرة أخرى بضميره الحي وإحساسه الإنساني المرهف في التعبير عن مآسي هذا الشعب الفلسطيني المناضل التي حلت به على يد ابشع احتلال عرفه التاريخ. ولهذا الفنان أعمال أخرى يقف بها إلى جانب الشعوب المناضلة، وقضايا التحرر .

 

ومؤشر آخر يشير إليه الفنان البرتغالي بذكاء يتمثل بالجملة الشهيرة "Arbeit macht Frei "  العمل يصنع الحرية ، تلك الجملة التي كانت تتصدر مداخل معسكرات الإبادة النازية، وتذكر اليوم بالمحرقة التي يشهر شعار مظلوميتها الصهاينة الذين تعرضوا للظلم على أيدي النازيين، ولكنهم في الواقع تعرضوا للاضطهاد في معظم الدول الأوربية، ولم يكن العرب يوماً من بين من اضطهدوهم، ونرى اليوم الصهاينة يمارسون الهولوكوست والمحرقة بحق العرب الفلسطينيين، وهذه اللوحة الفنية الرائعة، تدين المجرم العنصري، وتقف إلى جانب المظلوم.

 

تحية  للفنان التقدمي البرتغالي فاسكو غارغالو.

 

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

الليبرالية والديمقراطية

وحقوق الانسان

ضرغام الدباغ

استلمت مقالاً بعنوان (الديمقراطية والليبرالية هي الحل)، مع تعقيبات ممتازة لعدد من الكتاب، والمقال أرسل لي للمطالعة وإبداء الرأي، وتمكنت على عجل من توفير المعطيات التالية ولكل منها دلالاتها :

أن المقال على أهمية عنوانه ومادته لم يأخذ سوى 17 سطراً، أي أقل من نصف صفحة.

أستهلك بالتحديد 112 كلمة ..! 88 كلمة لمتن المقال .

المقال لم يستغرق سوى 4 جمل ...!

لم تتطلب الاستنتاجات سوى سطرين ونصف، (24 كلمة) ...!

جاء المقال هكذا بأقتضاب شديد في متنه، وصرامة في أفكاره واستنتاجاته، أقرب منه إلى قرار  حاسم فالبيان أو الإعلان يشبه في متنه واستنتاجه البراءات التي كانت تصدر خلال الستينات، غير الصيغة المفترضة للمقالات ذات الطابع الفكري، فإذا به (المقال) يشطب بسهولة على أفكار كثيرة هكذا وضع الجميع " الاستبداد العسكري والاستبداد الديني والانظمة الشمولية الستالينية ورأسمالية الدولة  ". في سلة واحدة وصفها بالفاشلة، مقابل الليبرالية التي هي الحل الأوحد. وكأنه قرار أتخذ من حاكم عسكري في دولة محتلة ..!

وهنا نود أن نؤكد، أن النظم السياسية في البلدان النامية، مرت وستمر في المستقبل بحالات وأنماط أنظمة، فليس هناك أمر نهائي، لا في اقطارنا ولا في دول أخرى، فكل المعطيات خاضعة للتطور، ولا يوجد نظام سياس على وجه الأرض غير خاضع للتطور، بوصفه صنع من الفولاذ، كما لا يمكن مقارنة نظام بآخر، وليس من الضرورة أن تتشابه الأنظمة، فهي نتاج موقف اجتماعي / اقتصادي/ ثقافي متفاوت، ويمثل أي نظام إجمالي تبلوراً له تعبيراته للموقف العام وحجم المنجزات ومحصلة للتجارب التاريخية في هذا البلد أو ذاك. ولذلك ليس من الضرورة لأي نظام سياسي أن يشبه أو أن يقارن بالنظم السياسية في بلدان أخرى.  البلدان. والبلدان النامية حرمت من التطور التدريجي في ظل أجواء استقرار وغالبا بسبب تدخل الدول "الليبرالية" أو أنها تعرضت لمخططات الإعاقة والتقويض، وأعتقد أن العراق وليبيا والسودان وسوريا واليمن، وأن مصر تعرضت وتتعرض اليوم دونما توقف لتدخل خارجي يستهدف وحدتها وأسس الدولة. ومصر بوصفها دولة قديمة استطاعت أن تنجو مما يدبر لها، وكذلك الجزائر، بل وتمكنت مصر والجزائر من تحقيق منجزات كبيرة نقلتها إلى مواقع متقدمة (مصر والسعودية من بين دول العشرين) والجزائر في موقع مقارب.

 

من خلال تجربتي بالعمل السياسي والبحث العلمي منذ مدة تتجاوز الستون عاماً، وإقامة تبلغ حوالي النصف قرن في بلد أوربي (ألمانيا)، نتعرف بسهولة على معوقات التنمية في أقطارنا، وهي معوقات يحرص الغرب الليبرالي بشتى الأساليب أن لا نتجاوزها وصولاً إلى العدوان المسلح، وهناك تجارب عربية عديدة أجهضت بسبب التدخل  الليبرالي الأجنبي: نهضة محمد علي الكبير والناصرية في مصر، والعراق في عهد الحكم الوطني. ورغم وجود أخطاء خلال التجارب، لم يكن هناك سبب مقنع لتدمير هذه البلدان سوى أنها قاربت بلوغ الخط الأحمر الممنوع تجاوزه. وهذا أمر توصلنا لمعرفته كما يعرفه الأوربيون بدقة تامة .

 

واليوم تواجه التجربة الجزائرية، والسعودية، والمصرية والتركية (يرجى ملاحظة تفاوت كنهة التجارب) في إحراز درجة التقدم الحاسم، وهي تسير بتؤدة كالسائر في حقل ألغام شديدة الانفجار، لماذا  ...؟ ببساطة من غير الجائز أن تتجاوز هذه الدول مرحلة يعتبرها الغرب الليبرالي " تهدد نفوذنا ومصالحنا  وسيصعب السيطرة عليها ..! " وقد تسنى لي قراءة المطالب الأمريكية من القيادة التركية (قبل الانتخابات الأخيرة بدقة تامة، عليها) ومن يقرأها لا يكاد يصدق أن تطلبها جهة تحترم ذكاء وكرامة جهة أخرى ..!(أبسطها.. يمنع التنقيب عن النفط والغاز في أراضيكم الوطنية) ومن يتذكر فقرات الحصار على العراق بوسعه أن يتعرف على صفاقة  الليبراليين ولا سيما في نسختها الجديدة في الولايات المتحدة. الأمم المتحدة تذكر في تقاريرها أن العراق كان على وشك مغادرة قائمة البلدان النامية، والآن نشاهد ما فعلت الليبرالية ببلادنا، فشكراً لسنا بحاجة لأدلة جديدة ..!

 

الدول القومية لم تكن فاشلة، الجزائر أستقلت عام 1961 وتعتبر اليوم قاطرة التنمية في أفريقيا، والعاصمة العراقية بغداد، لم تكن تتوفر يوم استقلالها على خدمات الماء والكهرباء، والرعاية الطبية،  وهناك عواصم كانت حتى السبعينات تقترب من كونها قرية كبيرة، اليوم تحفل بالجامعات، ومحطات التلفزة، والمستشفيات، والخدمات الأساسية، رغم صعوبة ظروف التنمية وعراقيلها. وإن حدث خلل ما فذلك بسبب أن أقطارنا تخوض تجربة فريدة من نوعها، وهي الفاقدة لاستقلالها مدة تزيد عن 8 قرون، تعرضنا فيها لشتى صنوف القمع من سلب ونهب وقتل وتصفيات، وإعاقة التنمية بأساليب إجرامية منها اختطاف العلماء وقتلهم ، ووضع العراقيل، ولم تتنسم عبير الحرية إلى بعد أن تركت الاحلاف الاستعمارية والمعاهدات الجاهرة (في خمسينات القرن المنصرم))، وتحررت الثروات الوطنية، وفي غمرة مساعيها، أسسوا كياناً عدوانيا تعسفيا في قلب الأمة، كيان معتدٍ توسعي استيطاني. ليمثل مشكلة لا حل لها تستهلك الجزء الأعظم من موازنات دول المواجهة ودول الدعم.

 

قرأت تقارير السفارة البريطانية في بغداد (10 / تموز / 1958 ــ 10 / تموز / 1959) فذهلت لحجم الكراهية والحقد وقلة الاحترام للشعب العراقي، وهم كانوا يستفيدون من العراق ويحلبوه، وينهبوه .. ونحن لم نؤذهم، ولم نلحق الضرر مصالحهم الوطنية، ولكننا لا نجد كلمة إنصاف واحدة في الكتاب ... وعلى الأغلب كافة الدول الليبرالية كذلك لماذا ...؟  والذين يدعون الليبرالية لا يطيقون من لا يأكل مثلما يأكلون، ولا يطيقون من لا يرتدي ثيابهم، ولا يتعاطى مع النساء كما يفعلون هم، والدعارة عندهم صناعة كاملة، أما من يخالف أنماط تفكيرهم فهو متخلف، وإرهابي، وغير متحضر ...فأين الديمقراطية في كل هذه ؟ أين حقوق الإنسان ..؟ الغرب يريد فرض أنماط حياته السياسية والاقتصادية، والثقافية والجنسية وحتى المزاجية التي أستغرق تطورها عقوداً طويلة على أمم العالم فرضاً، وهم يشاهدون تلاشي مجتمعاتهم، فليس سوى اعتمادهم البوليس والقضاء في إطالة أمد الليبرالية الساقطة.

 

أما في ميدان السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، انتهجت الليبرالية الغربية سياسات منها  العلاقات اللامتكافئة سياسيا واقتصادياً وثقافيا،  حتى صارت سياسة فرض والحصار والتجويع (وفي مرحلة القطبية الأحادية بالغت الليبراليون الجدد في أميركا استخدام القوة المسلحة، وسياسة الحصار، والعقوبات الاقتصادية في نظام العلاقات الدولية، جسدها الإعلان الأمريكي الصريح، " من ليس معنا فهو ضدنا "، والعمل صراحة على سياسة الرشوة والابتزاز والتهديد.

 

وتكشف مفردات النزاع في أوكرانيا، المزيد من جوهر الليبرالية الغربية. ويرى بعض المفكرين الغربيين أن الحرب الأوكرانية سرعت من انحدار الليبرالية، والحضارة الغربية نفسها إلى الحضيض،  وأشارت على نحو واضح ثقل التناقضات التي تعم المعسكر الغربي، والمشكلات الكامنة، واستحالة استقرار النظام العالمي بالقطبية الواحدة، مما يشير إلى أهمية نعدد الأقطاب العالمية كمدخل لعلاقات دولية أكثر عدلاً، فالعالم يرفض أن يضع مقدراته بإدارة ليبراليون جدد فاشيون يفرضون سياسة الأمر الواقع يديرون العالم  لمصالح شركاتهم واحتكاراتهم. ويرى جمهرة من الفلاسفة وعلماء السياسة (ومنهم في الولايات المتحدة) ان الليبرالية وتعبيراتها السياسية والثقافية هي في طور التدهور والانحدار " لأنها فقدت المصداقية في الداخل الأمريكي / الغربي والخارج، وإن المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية في الغرب وفي العالم أفقدت الليبرالية صلاحيتها ولم تعد تستجيب لتطلعات شعوب الغرب نفسها "، وأن الليبرالية في نسختها المتطورة لا تعني أكثر من وضع اللجام في عنق شعوب العالم، في ظل أزدراء تام للعدالة الدولية والعلاقات المتكافئة التي هي أساس القوانين ومن شروط التعاون الدولي. وكانت افتتاحية عصر الليبرالية والقطبية الأحادية، تتمثل بغزو أفغانستان، ثم العراق بعدوان همجي مخالف للقانون الدولي، رفضه حتى البلدان الأوربية الكبيرة (فرنسا ألمانيا إضافة لروسيا والصين)، ثم تدخل مسلح في ليبيا، ولكن الليبرالية الحديثة تعتبر العراق والكيان الصهيوني اللاهوتيان، نظامان ديمقراطيان وحيدان في الشرق الأوسط، مع وجود 157 قانون عنصري في الكيان الصهيوني ونظام عراقي يقيم نظاما قائم دستورياً على الفصل العنصري والطائفي. وكلا النظامان يستخدمان العنف المسلح  وبإفراط برعاية الليبرالية والاستخدام المنتهك لشعارات حقوق الإنسان.

الليبرالية الحديثة تعطي الأولوية للحرية الفردية غير المحدودة، والهدف هو الحيلولة دون قيام اتفاقات جماعية، ضرب من الحرية الفردية يغطس الإنسان في جملة هموم وهواجس، تضعه في موقع بعيد عن المسؤولية الاجتماعية، ومع  غياب الحدود الاخلاقية الجمعية (كل فرد هو كينونة بمفرده)، انهارت منظومة القيم وتمزق نسيج المجتمعات الغربية، وكان أبرز مظاهر ذلك تفكك الأسرة في الغرب وانتشار الشذوذ الجنسي وما نتج عن ذلك من تداعيات ديموغرافية، وتشير الاحصائيات الى أن العنصر الأبيض في الولايات المتحدة ستقل نسبته عن 50% من عدد السكان خلال السنين القادمة أي أن البيض سيتحولون إلى أقلّية، ونفس المصير ينتظرهم في أوروبا خلال العقود القادمة، بل أن بعض المفكرين الغربيين منذ شبنغلر 1936، تنبأوا بموت الغرب ويقولون إن "المرض داخلي  كامن وخطير ويتعاظم وهو من صنع أيدينا وأفكارنا وليس بسبب خارجي".

 

وبضرب من فجور منطق، تؤل الليبرالية، جرائمها، فالغرب أجاز استعمار العالم وتجارة العبيد، وتجارة الحشيش، باسم الليبرالية تغوّلت الرأسمالية وزاد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً ومورس التمييز العنصري ضد السود والمهاجرين من غير "ذوي العيون الزرقاء"، وباسمها أعيقت التنمية في بلدان العالم الثالث وفرضت عليها شروط مالية مجحفة من خلال المؤسسات المالية الدولية. ويقر  أغلب المفكرين المنصفين الغربيين اليوم بحقيقة أن تاريخ الغرب الحديث مليء بالعنف المفرط والنفاق والمعايير المزدوجة، وإن النخب في الغرب استخدمت الليبرالية غطاء لهيمنتها، وأن مبادئ الثورة الأميركية (جميع البشر خلقوا متساوين، وحقوقهم غير قابلة للتصرف) ومبادئ الثورة الفرنسية (الحرية والاخاء والمساواة) لم تكن سوى شعارات براقة خادعة. ويخلص بعضهم الى القول إن "الليبرالية لم تكن إنسانية يوما، ولن تكون عالمية، وهي ليست حتماً تاريخية .

 

كما أن الليبرالية الاقتصادية المتمثلة بالرأسمالية الاحتكارية أهتمت بتوفير مستلزمات تراكم الأرباح، دون معطيات ومستلزمات  أجواء السلام والتنمية، بل كانت ولا زالت تؤجج الصراعات والحروب بين الليبراليين أنفسهم وبين بلدانهم والشعوب الأخرى. فتاريخ أوروبا منذ عصر النهضة هو عبارة عن حروب متواصلة، الحربان العالميتان الأولى والثانية وحرب كوريا، ثم الفيثنام، وأفغانستان، والعراق، ويوغسلافيا، وعدد من حروب الوكالة من بينها الحروب الإسرائيلية، وآخرها، وأخيراً، الحرب اوكرانية. وبأسم الليبرالية جرى إطلاق النزاعات والحروب العدوانية ويدل على ذلك حروبهم الأوربية وخارج القارة.. كما أن هذه الرأسمالية المحاربة لم تشجّع السلم الاجتماعي داخل الدول، بل أوجدت طبقات متصارعة، والمجتمعات الليبرالية التي تسود فيها نزعات العنف والقتل العشوائي حتى بين تلاميذ المدارس.

 

والليبرالية السياسية المتمثلة بالديمقراطية الغربية تعاني من منظومتين من المتناقضات: الداخلية  وتتمثل بتغليب إرادة النخبة على الإرادة الشعبية، فارتباط الديمقراطية الليبرالية بالرأسمالية وجماعات المصالح والبنوك وشركات صنع السلاح وأباطرة الإعلام جعلت من النظام الليبرالي الديمقراطي خاضع لمصالحهم ولذا تحولت أغلب الديمقراطيات الليبرالية في الغرب إلى نظم شبه ديمقراطية أو  حتى إلى نظم حكم الأقلية (أوليغاركية)، واللجوء إلى الكذب والتدليس وتزوير الحقائق وخداع الجمهور كما حدث في حرب العراق،  فضلاً عن تفاعلات داخلية عنيفة، تمثلت بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، تحوم حولها شكوك التزوير، ولذا فإن هذه الديمقراطيات الغربية تشهد حالياً أزمة حقيقية تهدّد استقرار نظمها السياسية. وتمثّلت أهم مظاهر هذه الأزمة في نمو الروح القومية والاعتزاز بالهويات المحلية، تشتد النزعات الانفصالية مي الكثير من الدول الرأسمالية كبريطانيا، واسبانيا، وفرنسا، وبلجيكا ، كندا وفي الولايات المتحدة تشتد النزعات العرقية: بيض ولاتين وسود وأمريكان اصليين (هنود حمر) وآسيويين، إضافة الى الاستقطاب الطبقي والاستقطاب الديني.

 

أما الأزمة الخارجية للديمقراطية الغربية فتتمثل في نفاقها الفضوح، فهي تدعو الى احترام حقوق الانسان مجرداً من أي اعتبار خاص بالجنس أو بالعرق أو بالدين أو الطبقة، لكنها في الواقع التطبيقي تنتهك حقوق الشعوب (من تجارة العبيد الى أبو غريب وغوانتانامو السجون السرية مرورا بإبادة الهنود الحمر وحروب الإبادة (فيثنام /أفغانستان/ العراق) وتستخدم التهديد والتعسف لفرض قيمها على العالم وعلى الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي، واستطاع الغرب فعلاً تمرير الكثير من المفاهيم الثقافية والاجتماعية اللّيبرالية في الوثائق الدولية مثل اتفاقيات حقوق الانسان والوثيقة الخاصة بالمرأة، واتفاقية حقوق الطفل وهي اتفاقيات تعارضها الغالبية من دول العالم بما في ذلك بلداناً أوربية..

 

الدول الغربية الليبرالية تسكنها هواجس، فهي تحصد نتائج رفض العالم لها، وتدهور الغرب هو نتيجة منطقية لفشل مشروعه الحضاري، والنظام العولمي ما هو إلا تطوير فاشل للرأسمال الاحتكاري، في محاولة فرضه عالمياً، ما هو إلا امتداد للاستعمار والامبريالية، فمحاولة شرعنة الأباحية والشذوذ، هو نقل رسمي لأمراض مجتمعاتهم المتفسخة، وتسويقها تحت لافتة حقوق الإنسان.   الحضارة الغربية، بكل الإنجازات العلمية والتكنولوجية والصناعية التي حققتها، تسير الآن نحو الانحسار، وأخذت تفقد تدريجيا مقوِّمات حيويتها ونشاطها وقدرتها على المنافسة والإبداع اللازم لاستمرارها، ولا تعترف النخب الليبرالية الغربية بغير إنجازاتها،. فهذه الصين نجحت نجاحاً منقطع النظير باعتمادها استراتيجية نابعة من تاريخها وظروفها، واعتمدت (اقتصاد السوق الاشتراكي) لتنمية اقتصادها و (نظام التشاور السياسي لتعاون مختلف الأحزاب تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني) لإدارة شؤونها السياسية.

 

وما تحقق في الصين يتكرر، وأن نماذج أخرى يمكن أن تنشأ في أرجاء أخرى من العالم ، على وشك أن تفرز نظاماً جديداً، ومراكز جديدة في الهند / ماليزيا والمنطقة العربية (السعودية / مصر / الجزائر، جنوب أفريقيا، البرازيل / الارجنتين، تنهض بدرجة أو بأخرى، في بلدان كثيرة خارج المجموعة الغربية كالهند وماليزيا وجنوب افريقيا والبرازيل والارجنتين. المنظوية في إطار (منظمة بريكس)

 وإن (المطالبة الدولية الواسعة النطاق تؤكد أن النظام الغربي ليس المثال الذي يحتذى به لدى شعوب العالم، ومن هنا التأكيد على عالم متعدد الأقطاب، وتعبير عن حيوية الحضارة الإنسانية وتعدد مناخاتها، وألوانها، تنبأنا أن النظام العالمي القديم يحتضر مهما برعوا في إنقاذه,

 

كبلدان نامية، وكأقطار عربية مدعون لتقييم المتغيرات المتسارعة في الساحة الدولية ويدعونا تداعي النظام الدولي الأحادي القطبية،  وأسسه الفكرية والسياسية، اعتماداً على عمقنا التاريخي وثرائنا الفكري وثقافتنا ومميزاتنا الجيوسياسية وقدرات علماؤنا، والطاقة الكامنة لأبناء شعبنا التي تجعل دورنا أساسيا في فترات التغيير الحاسمة لتشكيل نظام عالمي جديد، ومشاركة بقية الشعوب في انتاج البديل الحضاري الذي ينقذ البشرية مما آلت اليه أوضاع العالم في ظل وصاية وهيمنة الليبرالية الغربية. ولشدة غباء الليبراليون أنهم يعتقدون أن بوسعهم حمل جميع شعوب العالم في موقع الدونية الغاطسون فيه .

 

مؤسف أن نجد من بيننا من يميل لهم، و لأرائهم،  وأبقاؤنا في موقف التبعية بما في ذلك رؤيتهم لوضع المرأة ووصولاً للشذوذ الجنسي والعلاقات المثلية، والموقف من الأطفال ..هذه هي الليبرالية والتحرر، الدول الليبرالية والديمقراطية، هي من أنتج الاستعمار والإمبريالية والفاشية والنازية، والعولمة، كمعول هدم وإفقار ونهب حقيقي. ولا يصمد أمام إرادتهم الاستعمارية سوى أن تكون الدول قوية ومسلحة حتى الأسنان،  أو الصمود بلا هوادة، حتى يرغموهم على الفرار كما فعلوا في كوريا وفيثنام وأفغانستان، وجنوب أفريقيا وزمبابوي (روديسيا)، وصمود كوبا، وفنزويلا ..وغيرهم من الشعب ... شعوب هي ضحايا الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان ...!

 

الفاشية والنازية وصلت للحكم بالانتخابات، وكذلك شخصيات تافهة في قيادات ما يسمى بالليبرالية، إذا كان الأوربيون يضيقون ذرعاً بجور الولايات المتحدة ونظامها العولمي سراً وعلناً، وهم حلفاؤها وشركاؤها،  فماذا نقول نحن في البلدان النامية  ...؟ المبتلون بأطماعهم وجرائمهم ..؟ ترى هل علينا أن نهتف بسذاجة " فلتحيا الليبرالية " " هكذا حقوق الإنسان وإلا فلا ..! " السيدة أولبرايت تقول " فليمت نصف مليون طفل عراقي ... الأمر يستحق "، والوزير بيكر يتوعدنا (ونفذ وعده) أن يعيدنا للقرون الحجرية ..! هناك عشرات من العراقيين كتبوا رسالة لبوش يشجعونه على احتلال بلادهم ... معظمهم نادمون على ما فعلوا، عار لن يستطيعوا الدفاع عنه ... وهناك اليوم من يجد التبرير لما فعله الليبراليون في بلادنا ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــ   الدول المؤسسة لمنظمة بريكس

الصين، روسيا، الهند، جنوب أفريقيا، البرازيل

 

ـــ دول قدمت طلبا رسميا للانظمام :

الجزائر، الارجنتين، إيران، مصر، اندونيسبا، السعودية، سورية، تونس،

 

ـــ دول تجري حوارات للانظمام :

كازاخستان، نيكاراغوا، نيجريا، السنغال، تايلاند، الأمارات العربية المتحدة

 

 ملامح أساسية للعلاقات

 الدولية المعاصرة في ظل

 النظام الدولي الجديد

 

د. ضرغام الدباغ

 

بعد مسيرة حافلة بالتوتر خلال الحرب البارد بكل فصولها، توجت بعقد قمة في 3 و 4 ديسمبر 1989 على متن بارجة سوفيتية ترسو في مياه مالطا في البحر الأبيض المتوسط بين الرئيس السوفيتي والأمريكي جورج بوش، رسمت نهاية المعسكر الاشتراكي، من جهة، وانتهت من جهة أخرى حقبة مهمة من تاريخ العلاقات الدولية بأختتام مرحلة القطبية الثنائية لتبدأ مرحلة جديدة بهيمنة البلدان الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة كقطبية أحادية أطلق عليها (النظام الدولي الجديد) ثم أتخذ النظام تسميته الأشهر (العولمة).

من الثابت علمياً، أن التوسع والهيمنة يحكم طبيعة الرأسمالية، وقد تسعى الأقطاب الرأسمالية إلى تنسيق فعالياتها كي لا تصطدم ببعضها وتجنب ما قد ينجم عن هذا الاصطدام من آثار مروعة، وقد تعقد تحالفات وائتلافات، وقد تتفق فيما بينها على هذا الأمر أو ذاك مرحلة معينة، وتعقد المؤتمرات والاتفاقيات وتتقاسم فيما بينها(المصالح)، ولكن هذه الترتيبات ليست نهائية، وعندما يصل التنافس ذروة معينة، آنذاك سوف تسعى الأطراف المتنافسة تقاسم جديد، فتنهض تحالفات جديدة، وتدور صراعات تحمل بذور تطورها إلى صراع مسلح، حين يبلغ التناقض نقطة لن يكون بوسع نظام العلاقات السائد استيعابه، ويبلغ التناقض في المصالح درجة لا يمكن السكوت عنها، يتطور ذلك الصراع إلى درجته المسلحة بصرف النظر عن الخسائر، ومثل هذا التنافس يدور اليوم بشتى الصور، ظاهراً كان أم خفياً.

 

في هذه المقدمة المختصرة، مدخل لاستعراض المرتكزات والشروط الأساسية من أجل فهم دقيق للعولمة المؤشرات السياسية والاقتصادية، من خلال:

 

أولاً : إن العولمة هي مرحلة من المراحل التاريخية لتطور الرأسمالية، بل هي أكثرها تطوراً، إن اتحاد الدولة مع الشركات، الذي أنتج الدول الإمبريالية. مثل عبر تطوره اللاحق إلى العولمة تعبيراً لتطور هائل الذي بلغ مرحلة متقدمة في تطوره، عابر للحدود الدولية ليشمل العالم بأسره.

 

ثانياً : إن فعاليات الشركات المتعددة الجنسية قد تشابكت وتداخلت لتصبح من سمات الحياة الاقتصادية اليومية لمعظم شعوب العالم، وكذلك كثافة حركة رأس المال على الصعيد العالمي عبر شبكة هائلة من البنوك تغطي العالم .

 

ثالثاً : إن الموقف الاجتماعي الداخلي(بسبب شدة تمركز رأس المال المصرفي لارتفاع كلفة المشاريع، وارتفاع معدلات التضخم) أدى إلى وقوع الدولة وأجهزتها في قبضة الاحتكارات والبنوك ونفوذها وهيمنتها وغدت الدولة مسخرة بصفة مطلقة لخدمة هذه الشركات العملاقة وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ومثلها الدول الرأسمالية الرئيسية وعلى الرغم من ثرائها الكبير، لا تعمل بمجانية العلاج حتى للفئات المسحوقة، بل أن تكاليف التأمين الطبي باهظة بحيث يعجز عن دفع نفقاتها فهناك،37 مليون أمريكي عاجز عن دفع نفقات التأمين الطبي عام 1990 وأن 20% من أصحاب الثروات يستحوذون على 90% من صافي الدخل القومي.

وفي مطلع الثمانينات بلغت شدة درجة تمركز رأس المال في الولايات المتحدة، لدرجة سيطرة ثمانية مؤسسات مالية كبرى هي: مورجان، روكفلر، ديبوت، ملبون، بنك أوف أميركا، بنك شيكاغو، بنك كليفلاند، بنك فرست ناشنال سيتي، بلغ رأسمالها المستثمر في السبعينات 218 مليار دولار.

 

رابعاً : أما على الصعيد الخارجي، ولأن اشتداد دولنة الاقتصاد(أي المزيد من جعله دولياً) جعل من ذلك العنصر الأساسي، السمة الأساسية للمرحلة وعنصراً مهماً في أقامة التحالفات الخارجية للدولة(الولايات المتحدة) التي تولت قيادة الإمبريالية الجديدة(العولمة) بفضل انفرادها بالهيمنة على العالم.

 

خامساً : مثل التنافس بين الأقطاب الرأسمالية عبر التاريخ وما يزال، فقرة أساسية في العلاقات بين الدول الرأسمالية وليس ظاهرة عابرة. وكثيراً ما وصل إلى ذروته(الصراع المسلح) وقد حدث ذلك في مراحل التاريخ دائماً (14,000 حرب ونزاع مسلح)، أن التنافس والصراع على مراكز النفوذ واقتسام العالم كان السبب الرئيسي في هذه الصراعات، وسوف يستمر هذا العنصر ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وربما تقلص أسلحة الدمار الشامل عدد الحروب وأتساعها ولكنها لن تمنع اندلاعها بأي صورة من الصور، ومن تلك ما تسمى الحروب بالنيابة (proxy war).

 

وتتميز العولمة بوصفها الناتج الطبيعي لتطور الرأسمالية لما بعد مرحلة الاستعمار الجديد ـ الإمبريالية، بسمات وملامح في هياكلها السياسية والاقتصادية، كما في توجهاتها على الصعيد العالمي ومن تلك:

 

أ / باعتبار أن عملية تمركز رأس المال المصرفي ماضية ومتواصلة لتكون في يد فئة قليلة من كبار الرأسماليين(مصارف، مؤسسات تمويل واستثمار) ترافق مع تعاظم نفوذها، الذي أنعكس بداهة على تأثيرها السياسي داخلياً وخارجياً. كما غدت القوة الأولى المهيمنة في البلدان الصناعية الرئيسية، فهي ليست المغذية الأولى للصادرات إلى الخارج الاستهلاك الداخلي فحسب، بل وتعدى حدودها إلى احتكارها لصناعة السلاح وأنشطة الفضاء الخارجي، فغدت الدولة نفسها الأداة الأولى لها، ويندر أن يخلو ملف من ملفات الدولة الخارجية من أهداف هذه الشركات العملاقة على رأس جدول أعمالها، وتصب معظم فعاليات الدولة السياسية / العسكرية في طاحونة مصالح الشركات.

ب / بناء على ذلك تراجع دور الرئيس والمؤسسات في اتخاذ القرارات مقابل تعاظم دور المؤسسات المالية وما انبثق عنها من إدارات وهيئات تحت عناوين ومسميات شتى، بل أن الشركات والبنوك، تدير معاهد دراسات وأبحاث سياسية وعلمية وغيرها. ويلاحظ أن القرارات تخضع لعملية طويلة نسبياً، ولكن في النهاية فهي تراعي بالمقام الأول مصالح االعمالقة الاقتصاديين.

ج / واستطرادا، فقد احتكرت الفئات العليا من ملوك الصناعات والبنوك السلطة، وجعلت العناصر الأخرى، عناصر مساعدة ثانوية الأهمية، وتلك صيغة فريدة في وصف الائتلاف السياسي / الاجتماعي الحاكم. وما يثير الدهشة أن هذه الأنظمة تسوق شعارات الديمقراطية في وقت تحتكر فيه السلطة بحدود ضيقة للغاية. ولكن باعتبار أن النظام الرأسمالي هو نظام قديم تاريخياً، والنظم الحالية أنما هي حصيلة تطور وخبرة قرون كثيرة، تطورت فيها أساليب وتقاليد العمل حتى بلغت هذا المستوى من ترويض العناصر المعادية لها، ووضع القوة البشرية في خدمتها، بما في ذلك نقابات عمال موالية لها.

د / الإقحام المتزايد لمعطيات الثورة العلمية التكنيكية وشيوع استخدام العقول الإلكترونية والروبوتات في الصناعات الثقيلة والمايكرو أليكتروتكنيك في المعدات الدقيقة.

و / وباعتبار حقيقة مؤكدة هي أتساع حجم وأهمية الاقتصاد الدولي وتكاثف نشاطاته وفعالياته لدرجة يصعب فيها ملاحقة ومتابعة الأصول والجذور لرؤوس الأموال والشركات، فقد غدا الاقتصاد عنصر الضغط الأساسي الذي تمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة، إلى جانب وسائل الضغط الأخرى ومنها العسكري، كما يلاحظ وفي أطار تصدير رأس المال ودور الديون وفوائدها وأقساطها في اقتصاديات الدول النامية، الأمر الذي رفع من قيمة ونفوذ المؤسسات المال في دول المركز من جهة كما زاد من تبعية الدول المدينة من جهة أخرى.

ز / تبدي العولمة وأدواتها الثقافية( وهي كثيرة ومتنوعة، إعلامية وثقافية)العداء لكل ثقافة لا تستسلم لها بصفة تامة، بالاستفادة من الثورة التكنولوجية في دنيا المعلومات وشبكة الاتصالات الدولية والفضائيات، تقدمت العولمة بمشروع ثقافي لا يكن الاحترام للثقافات والمنجزات الحضارية، والقيم الثقافية/ الدينية للشعوب الأخرى، ويسعى في حملات غزو وتأثير سلبي وأضعاف وتهميش لتلك المنجزات بهدف أضعاف شخصيتها الوطنية والقومية وجعلها خيوطاً رفيعة في نسيجها الثقافي، وعدم الاكتفاء (كما فعل الاستعمار والإمبريالية) بجعل الشعوب توابعاً في خدمة اقتصادها العالمي، بل وتكريس تبعيتها نهائياً بإلغاء ملامحها وثوابتها الثقافية والوطنية والقومية، فقد أدركنا من تجربة الاستعمار والاستعمار الجديد، وأن العناصر الثقافية والروحية والقومية لعبت دوراً مهماً في الكفاح الوطني ضد الاستعمار والإمبريالية، لذلك تحاول العولمة تحطيم تلك العناصر في شخصيتها لتزيل عقبة مهمة لتحقيق هيمنتها التامة.

 

فالعولمة تهدف إذن إلى بصفة عامة إلى ترتيب مسرح العلاقات الدولية بهذه المؤشرات:

ـ عولمة الاقتصاد: إيجاد عالم بدون حدود اقتصادية وجعله عالماً واحداً فقط، وذلك يعني حرية الطرف الأقوى: الاحتكارات.

ـ الثورة العلمية التكنيكية: اندماج للعلم متزايد مع التكنولوجيا بوتائر متسارعة.

ـ استنفاذ الدولة لدورها التنموي وسقوطها التام فريسة بيد الشركات والمؤسسات المالية.

ـ مبدأ كفاءة وحرية السوق، فكرة تتبنى الحرية كمفتاح رئيسي لنظرية الحرية المطلقة للعمل الرأسمالي، بوصفه محركاً لعالم شامل مزدهر ومحفز للثورة العلمية( حرية السوق، خلوه من العوائق الافتراضية للدولة كقوانين الحماية).

ـ أطلاق موجة ثقافية على كافة الأصعدة السياسية/ التاريخية/ الفنية / الموسيقية ... الخ تؤدي في النهاية إلى خلق ثقافة سطحية لا تغوص إلى مشكلات الإنسان الحقيقية والعميقة ولا تعبر عنها.

 

تدل أحداث كهذه بالإضافة إلى فعاليات شتى منها معاقبة شعوب بأسرها: حصار وعدوان على العراق يستمر لمدة 12 عاماً، يعقبه هجوم شامل واحتلال مباشر وإدارة استعمارية، وحصار دام 8 سنوات على ليبيا، أسفر عن رضوخها للابتزاز،  وصمت حيال حصار غزة، والمجازر في سوريا، وتدمير العراق ومحاولات تفكيكه.

 

وتستهدف الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الإمبريالي الجديد وقطبه العدواني الشرس في توجهاتها عدد واسع من الأهداف على أسس مختلفة،  أسس أثينية / دينية، الإسلام والكونفوشية بدرجة رئيسية: إذ لا يخفي مفكروا العولمة العداء للإسلام بوصفها تيارات ثقافية تضم اتجاهات أخلاقية وتقاليد تناهض تقاليد العولمة وثقافتها المتفسخة، البلدان العربية بوصفها تمثل قدرة حضارية وثقافية واقتصادية مهمة، واعدة في المستقبل، والبلدان الإفريقية بوصفها هدف دائم للنهب الاستعماري والاستثمار، ومساعي الولايات المتحدة تكاد تكون مكشوفة تماماً في إشاعة الحروب الأهلية وتشجيعها، وشراء ذمم شخصيات سياسية ومحاولات أحداث انشقاقات وتمرد والتحريض على المذابح والمجازر.

 

ولا ترغب الدوائر السياسية أو الأكاديمية الغربية على حد السواء، حتى تلك التي توصف بالحصافة والعلمية والاتزان، الاعتراف بأن ما تشهده البلدان النامية في واقع الحال ليست سوى مخلفات المرحلة الاستعمارية وآثارها السياسية والاقتصادية والثقافية، في وقت يبدو ذلك ظاهراً للعيان دون أي فرصة للالتباس، فعلى سبيل المثال يتمثل السبب الحقيقي لعدد كبير من الصراعات المسلحة إلى قضايا الحدود العالقة، إذ كانت الإمبراطوريات الاستعمارية خططت الحدود بين الدول بناء على مصالحها الاقتصادية والسياسية / العسكرية، أو بناء على قدراتها العسكرية، وهكذا نشأت العديد من مشكلات الحدود التي تسببت في النزاعات المسلحة، كما أن السحق الثقافي والاجتماعي قطع مسيرة تقدم شعوب أخرى كثيرة، لذلك فقدت خصائصها الوطنية والقومية، وهي تكافح الآن من أجل استعادة لغاتها الوطنية وتقاليدها، والسيطرة على ثرواتها الطبيعية التي هيمنت عليها الدول الاستعمارية، وسط تناقضات لا حصر لها، جلها بسبب الحقب الاستعمارية وميراثها، أضافت العولمة ملامحها الجديدة من أساليب الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.، وقد نجد اليوم دولاً مستقلة شكلياً، إلا أنها فاقدة لمرتكزات الاستقلال على أصعدة عديدة.

ويروج منظروا العولمة، أن العالم وبفعل التقدم الكبير في وسائل الاتصالات، حيث قامت شركات الطيران في أنحاء العالم قامت بنقل 3.13 مليار راكب على متن رحلاتها المنتظمة،  الطائرات(بلغ عدد المسافرين عام 1999 بواسطة النقل الجوي في العالم 1،580 أي ما زيد على المليار والنصف) وشيوع استخدام أجهزة الحاسوب (الكومبيوتر)، واستخدام الأقمار الفضائية في مجال الاتصالات والنقل التلفازي، والنقل المباشر لأنشطة أسواق السهم والسندات المالية(البورصة) عبر العالم، الأمر الذي مكن انتقال رؤوس أموال ضخمة بلمسة زر بين المصارف، وعقد الصفقات التجارية خلال أوقات قياسية، الأمر الذي جعل من العالم حقاً أشبه بقرية كبيرة، وعملت الأنظمة الرأسمالية على إزالة أية قيود أمام انتقال رؤوس الأموال السائلة أو بواسطة الشركات العملاقة، والتهديد بالعزل على من يخالف شروط الانتقال الحر للأموال، وتحقيق الأرباح وتحويلها، وبذلك أصبح العالم بأسره عبارة عن مزرعة للاستثمارات، تتوارى الإمكانيات المالية البسيطة أمام المنافسة الضارية، وأصبحت شعوب البلدان النامية أيدي عاملة زهيدة الثمن أمام الشركات العملاقة التي راحت تفرض شروطها في ظل من الهيمنة السياسية والاقتصادية المطلقة.

 

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المذيع الأمريكي يتهيأ لنقل نشرة الأخبار، وأدلى بهذه الجملة: يتعين عليكم أيها السادة المستمعين الاستعانة بالخرائط لما سنتلوه عليكم من أنباء. ولا تخفي العولمة والنظام الدولي الجديد اليوم عن نواياهم بتغير الخرائط بل وأحداث تغيرات عرقية ودينية وفق رؤى(عصرية) تتلائم مع العولمة. وحتى زمننا المعاصر كلفت مرحلة تنفيذ خطوات العولمة مئات الألوف من القتلى، وأضعافهم من الجرحى، وتعترف منظمات غوث اللاجئين أن كارثة إنسانية قد حدثت ربما هي الأقسى منذ تشريد الفلسطينيين من بلادهم، فقد هجر الملايين من العراقيين من بلادهم إلى البلاد المجاورة، وإلى بلدان أخرى، مثلهم ملايين السوريين، وتجري أعمال تطهير عرقية وطائفية بصفة علنية في أكثر من بلد، وتجري فعاليات تحريض على الفتن والحروب الداخلية بهدف نهائي هو وضع خرائط جديدة للعالم تتناسب مع أهداف القوى المهيمنة على النظام الدولي الجديد(العولمة)، وليس من المستبعد أن تتراكم أسباب خلافات، وتتصاعد أزمات لتبلغ درجة توتر عالية يصبح معها أمر اندلاع نزاعات مسلحة ليس مستبعداً، فالمشكلات القادمة تحمل معها طابعها المتفجر:

الطاقة.

البيئة ومضاعفاتها: الاقتصادية/الجغرافية

ندرة المواد الخام.

إقامة مناطق محيطية للمراكز.

انتشار أسلحة الدمار الشامل.

الهجرة الشرعية وغير الشرعية.

الأمراض الفتاكة(الإيدز ـ أنفلونزا الطيور ـ إيبولا).

 

وإذا كانت النتائج الاقتصادية من تصاعد مديونية البلدان النامية، وتعاظم ظاهرة الفساد، والحروب الصغيرة والكبيرة، كما يعترف بذلك منظروا العولمة(برجنسكي: أن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بالإشارة إلى تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل 100/1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25/100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم) ويضاف إلى ذلك أرقام كبيرة عن ضحايا الصراعات المسلحة في أفغانستان وفلسطين وسورية والعراق.

 

وبسبب عنف العوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية (السكانية) والصراعات والنزاعات المسلحة من حروب وحروب أهلية وأشباهها، تصاعدت أرقام الهجرات غير المشروعة من الدول الفقيرة صوب الدول الغنية، أو الدول الأكثر أمناً بما أصبح يمثل قلقاً حقيقياً لتلك الدول لتداخل العناصر البيئية والثقافية والاقتصادية والعرقية...  الخ، وتشير الإحصائيات إلى أرقام بالملايين من المهاجرين، في مقدمتهم للأسف اللاجئين من منطقتنا: الفلسطينيين والسورين والعراقيين.

 

لقد اضعف احتلال العراق مصداقية الأمم المتحدة إلى حد بعيد، وألحق الوهن بمؤسسات العدل الدولية، وقد عبر العديد من قادة الدول أن العالم قد أصبح أقل أمناً، وأن الاعتماد على الأمم المتحدة كمقر للدبلوماسية الدولية ولحل المشكلات بالطرق السلمية بات محفوف بالشكوك، وإن سيادة الدول لم تعد بمأمن، وتقود هذه الحقائق الجديدة إلى تساؤل مهم: ما لذي يمكن أن تفعله الدول الصغيرة لتبقي على استقلالها وأن تصون مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية وتبقي على بلدانها بمنأى عن المخاطر ؟

 

وبينما تؤيد الاتفاقيات الدولية ومنها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتخذ بتاريخ 18/2/1972 كفاح الشعوب التي تتعرض للغزو والاحتلال ويعتبرها حقاً مشروعاً، سعت الولايات المتحدة راعية النظام الدولي الجديد، إلى وضع قواعد جديدة لمفاهيم الإرهاب تضع كل معارض أو مقاوم لخططها وفعالياتها السياسية والعسكرية في حقل الإرهاب، برغم أن ذلك لم ينل تأييد المجتمع الدولي، إلا أن أنها ماضية في تفسير أحادي لهذه العناوين، وتشن أنشطتها العسكرية بموجب تفسيراتها، وتضع ثقلها السياسي في مجلس الأمن في إقرار قررات تكيل بمكيالين، وتتسم بالقسرية كالحصار والعقوبات واستخدام مبالغ به للفقرة 7 من الميثاق الذي يجيز استخدام القوة المسلحة.

 

ويشبه العمل السياسي في العصر الراهن السير في حقل ألغام خطر، فالميدان ملئ بالمفاجئات، وعلى القوى المناهضة للإمبريالية الجديدة (العولمة) أن تستوعب حقائق العصر وأن تعمل بسياسات مرنة عندما يتطلب الموقف منها ذلك ولكن أن لا تتردد عن المواقف الصلبة الصلدة إزاء حقوقها الثابتة واستيعاب حقائق التناقض بين الأقطاب الإمبريالية وتشكل التحالفات والائتلافات فيما بينها، ورسم الطرق المؤدية إلى سلامة أهدافها الوطنية والقومية في هذه الغابة الشائكة المتشابكة من المصالح المتناقضة.

 

إذن فأهداف العولمة كثيرة ومتنوعة تشمل كافة اتجاهات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذلك هو المعسكر الذي يواجهه عريض وواسع، ولكن تشتت الإرادة، والآراء والقدرات ووعي القيادات يشوب صفوف هذه الجبهة ولكن ضراوة المعركة ونهم الإمبريالية سوف يسهم في تسارع عملية تبلور تشكل المعسكر المناهض للإمبريالية. وبقدر ما يسود التنسيق بين جبهاتها وتغليب التناقض الرئيسي أمام الخصم على التناقضات الثانوية في التفاصيل من أجل مواجهة هذا الخطر العاتي الذي لا يستهدف اقتصادياتها الوطنية كالاستعمار القديم، بل كيانها بأسره بكل مكوناته من دين ولغة وثقافة وعادات وتقاليد، بل وحتى الأمل بالمستقبل.

 

وبناء على هذه المعطيات، تثير (العولمة)الإمبريالية الجديدة عداء قوى ليست معادية للإمبريالية تحت عناوين وشعارات اجتماعية، بل ثقافية ووطنية بالدرجة الأولى. فقد كان الاستعمار يستثير ضده عداء عناصر واسعة من المجتمع، بما في ذلك عناصر من الإقطاع ورجال الدين، والفئات الوسطى الوطنية، فأن الجبهة المعادية للعولمة لا تقل جبهة العداء لها أتساعاً، لذلك فأن النضال المعادي لها الآن سوف يجد في صفوفه تيارات غير تلك التي ناضلت ضد الاستعمار والإمبريالية، منها قوى التحرر الوطني والديني والقومي، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية العريضة التي سترى في العولمة الجديدة(وذلك مهم) خطراً على مرتكزاتها الثقافية وأصولها وجذورها الفكرية وما يشكله ذلك من مخاطر على الروابط الوطنية والقومية تؤدي في المدى البعيد إلى تفكيك الكيانات الوطنية وأضعاف روابطها. وهي مخاطر عبر عنها بعض قادة البلدان الغربية كرئيس الجمهورية الألمانية الأسبق هورست كوهلر الذي قال بصراحة، أن العولمة تدمر وتسحق بشكل نهائي آمال الشعوب النامية.

 

وتشن القوى الغربية الهجوم على المنطقة بدواعي التصدي للإرهاب، وفي عداد ذلك يجري الطرق على التنوع الديمغرافي، والتناقضات الثانوية، وعلى الظواهر العارضة على حساب الجوهري، بهدف تجزئة القوى في المنطقة ليسهل لها التغلغل والتفتيت.

 

وتدرك الولايات المتحدة بوصفها قائد المعسكر الغربي سياسياً وعسكرياً، خطورة التورط المباشر مجدداً في الصراع المسلح وتداعيات مشاركة جنودها مباشرةً في المعارك مع أية قوى مسلحة من الميليشيات الموجودة في الساحة العربية والإسلامية، تركز استراتيجيتها على استخدام القوى المحلية بتقديم مغريات التسليح والدعم الجوي والعسكري واللوجستي والمالي، كتوريط القوى الكردية في الصراع الدائر وجعلهم رأس حربة هذه المعركة، كما يجري العمل على استخدام القوى العشائرية والمجموعات المعارضة، لتكون جزءاً من هذه الحرب فينأى الجيش الأميركي عن خوض المعركة مباشرةً، مستخدماً الطائرات من جانبه، ومستعيناً بادواته في المنطقة أو بمن يقبل بالتحالف معه... ويتعزز حينها الانقسام المحلي بين المجموعات الدينية والعرقية والإثنية، تمهيداً لإضعافها جميعاً ولزرع العداء فيما بينها لعقودٍ قادمة وسنوات طويلة. 

 

تدير الولايات الأمريكية الحرب تحت شعار الإرهاب الإسلامي، وتحت هذا الشعار، تنضوي أهداف عديدة، قريبة وبعيدة.

المصالح الأمريكية الاقتصادية والسياسية هي في مقدمة الأهداف وهي تعمل على عدة خطوط :

 

السعي لإبقاء البلدان العربية بموقع التبعية السياسية تحت شعارات التهديد بقواها المباشرة القصف البعيد، التدخل الجوي بدون طيار، التدخل المباشر عند الضرورة القصوى (الخطر الإسرائيلي ـ الإيراني).

السعي للحيلولة قيام تضامن عربي، وحدة عربية، تضامن إسلامي.

حماية لإسرائيل التي يتزايد عجزها من الوقوف أمام حركات مقاومة وتفاقم القوة الذاتية العربية.

إبقاء مصادر الطاقة العربية تحت هيمنة الشركات الأمريكية تنقيباً واستخراجاً وتسويقاً، والاستحواذ على الفوائض النقدية بشتى السبل.

 

وفق الأساليب الأمريكية الكلاسيكية في إدارة المعركة سياسياً / عسكرياً، بتشكيل حلف يتكون إطاره الداخلي القريب من دول وبلدان المنطقة، وإطاره الخارجي الدولي من دول كبرى وصناعية وحليفة، تلعب دون المساند والممون، والمشارك إن أقتضى الحال.

 

مثلت (داعش) بصرف النظر عن الأسباب الظاهرة والكامنة، أفضل وسيلة لإرهاب وتأليب الأنظمة القوى وخلق المبررات على كافة الأصعدة، لدفعها إلى معركة تتشكل مفرداتها تدريجياً (تفهم روسيا لأبعاد الحلف ..!)ويكتمل وضوحها في مراحل لاحقة، ولكن بعد أن تكون أيدي الجميع قد ساهمت فيها.

الولايات المتحدة بوسعها أن تصور المخاطر وتضع الحدود، وتمنح المكاسب والعقوبات، وفي هذا الإطار سوف تساهم العديد ممن يبدون الممناعة.

 

بقصد أو بدونه، سيمتد ميدان الصراع بين القوى الرافضة للإذعان الأمريكي وبين قوى التحالف مناطق ستمتد بين العراق وسورية ولبنان، وربما في مرحلة لاحقة أرض في دول أخرى. ومن المستبعد أن تحقق خيار القوى العسكرية الأمريكية الأولى(القصف من بعيد بالصواريخ/ الطائرات / الطائرات بدون طيار) نتائج حاسمة، وسيعول على القوى المحلية في إحراز مكاسب على الأرض، وهو من المشكوك حسمه.

 

وبوسع أي مختص بالشؤون الدولية  أن يدرك بسهولة أن النظام العولمي قد ولد معلولاً وينطوي على تناقضات، يحمل امراض موته واندثاره،  ناهيك عن الصعوبات الجسيمة العملية، في عالم يزخر بثراء فاحش، إلى جانب فقر مدقع، وحيث لا يمكن تجميع هذه التناقضات في تحت سقف واحد، إذن فالتناقضات ستقود إلى صراعات، ومن الخطل بناء بيت، أو نظرية قائمة على تناقضات جوهرية وصراعات، ومن المستبعد أن تتمكن أي قوة مهما بلغت درجتها أن تقود العالم، دون صراعات وحروب، وفي ظل تراكم الأسلحة وتقدم صناعتها، فليس المتوقع سوى حروب طاحنة لا تبقي ولا تذر، أو التسليم بعالم متعدد الاقطاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القيت في مؤتمر علمي/ النصف الثاني 2014

 

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

 

اليسار العربي ...

 استشراف المستقبل

رؤية نقدية

 

ضرغام الدباغ

 

العالم العربي في غليان، وفي علم التاريخ يعتبر في مرحلة تمفصل (Epoch Transition)، إثر مراحل انتهى استحقاقها وأدت مهماتها وتؤذن بالرحيل، والمرحلة المقبلة تحتاج إلى خصائص جديدة، فكل شيء مطروح للاحتمالات، والقريبة منها و البعيدة جداً، بدرجة أضحى معها التنبؤ بنتائج العاصفة أمراً يصعب حتى على أبرع المحللين والمفكرين، ولكنه ممكن ..!

الأسباب بالطبع عديدة، منها مؤثرات موضوعية خارجية، ومنها مؤثرات ذاتية داخلية، وكلتا المؤثرات من الصنفين متوافرة بدرجة ثقيلة بحيث لابد أن تترك آثارها، وردود أفعال العديد منها خارج السيطرة، وهي الأخطر بطبيعة الحال.

المؤثرات الداخلية هي تلك المؤثرات المتوفرة غالباً في البلدان النامية (المتحررة حديثاً من الاستعمار والهيمنة الأجنبية) وتحمل نكهة المتوارث التاريخي، أضيف فوقها ما خلفته عهود الاستعمار والهيمنة الأجنبية، ومن تلك شيوع ليس أنماط وعلاقات الإنتاج المتخلفة فحسب، بل وسلسلة محكمة الحلقات متوارثة من العلاقات المتخلفة السياسية / الاجتماعية / الثقافية، بحيث تضيف المزيد من العراقيل أمام مناهج عمل قوى اليسار المحلية المتنورة في الغالب بفعل تماسات ثقافية مع قوى اليسار الإقليمية أو العالمية.(1)

في التاريخ العربي الوسيط والحديث، لم يكتب للحركات اليسارية (إن صح اعتبارها كذلك) إنجازات كبيرة، عدا تجربة المعتزلة، التي طالت لعقود، وحكمت كفكر المؤسسة السياسية، (المأمون 813 م ــ المعتصم 833 م ــ الواثق 842 م حتى خلافة المتوكل 847) أي نحو 34 سنة في غضون عصر ثلاثة خلفاء.

ثم حركة الخوارج التي استطال تاريخها، فاستطاعت أن تؤسس كيانات سياسية، بيد أن الغلو والتطرف الجامح حال دون أن تتحول التجربة إلى توجه سياسي راسخ. وكانت قد تأسست عام 655م، ثم بدأت بالتلاشي عام 861م، أي أن وجودها تواصل في العمل السياسي والفكري نحو 206 أعوام (2)

أما الحركتان / الانتفاضتان المسلحتان، الزنج (250 هـ / 270 هـ) والقرامطة (260 هـ / 470 هـ) فكلتاهما لم تتمكنا من الارتقاء إلى شروط الثورة. ولكن من الضروري الانتباه إلى نقطة نجدها مهمة في تحليل الحركات السياسية التاريخية، أن نقيم تحليلنا وفق القاموس السياسي لذلك العصر. وقد توصلنا إلى تشخيص حقيقة علمية من خلال تأملنا في تاريخ الفكر السياسي العربي القديم والوسيط، أن الفكر السياسي وصيغه وأشكاله وأدواته المعبرة، تتراجع وتتخلف بتخلف الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة، وبهذا المعنى نجد أن الحركات السياسية العربية قد تراجعت وتكاد أن تكون خمدت، وليس هناك ما يستحق تسجيله في تلك المراحل المظلمة، إلا إذا استثنينا بعض التحركات في الأرياف التي لم تكن تنطوي على أهداف سياسية مهمة أو عميقة، إذ كانت تعبر في الغالب عن استياء سكان الأرياف من الضرائب ومصادرة المواشي والمحاصيل.

اليسار العربي في العصر الوسيط لم يستطع أن يتحول إلى تيار كبير، بسبب شدة تأثير التيار الديني، وهو تيار بطبيعته لا يميل للتغيير، بل للحفاظ على التقاليد والأصول، من جهة، والتطرف الذي أودى بحركتين كادتا تتحولان إلى تيار قوي ونعني بهما: الخوارج والمعتزلة.

وفترة السبات المظلمة لم تنقطع فيها الحركة الفكرية والثقافية والعلمية فحسب، بل إن عطلاً شديداً أصاب الأجهزة والآليات المعنية بمتابعة التطورات التي كانت تدور في أماكن عديدة من العالم، وبذلك أصبحت بلادنا في عزلة تامة وسادت في معظم الأرجاء العربية الإرادة الأجنبية التي لم تكن تبدي التفهم لإرادة الشعب. ووفق هذه المعطيات، لم يكن ليسار حديث في الوطن العربي أن يظهر قبل ما اُستحسن (شخصياً )  تسميته "عصر النهضة العربي الثاني" والذي أرجح سريانه منذ أواسط القرن التاسع عشر (1850) وفق المؤشرات التالية:

كانت الثورة اللوثرية في الكنيسة (1500)، قد قادت إلى ثورة تحررية، وشيوع الأفكار الليبرالية، ونهاية لعصر المسلمات المقدسة.

 أفضى عصر النهضة (القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر) إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية (1799)، ثم الثورة الصناعية (القرن الثامن عشر)، وبدأت الدول الصناعية الأولى تدشن عصر الاستعمار، فانطلقت الحملات الاستعمارية تجوب أعالي البحار، وليشتد الصراع على المستعمرات، فخلفت حزمة التطورات هذه تداعيات؛ إن في البلدان الصناعية وجيرانها من الأوربيين، في نهاية لتحالف الكنيسة والملوك، أو في بلدان المستعمرات، حيث أدى الاحتلال الأجنبي لها إلى آثار اقتصادية وسياسية بعيدة.

الإمبراطورية العثمانية، كانت تشهد انتقالاً بطيئاً من العهد الإقطاعي إلى بدايات التأثر بالأحداث الأوربية، ومن تلك تحديث نظم الدولة، وكان لهذه آثارها في الأقطار العربية باتجاهات سياسية واقتصادية وثقافية عديدة، لتتأجج المسائل الوطنية والقومية.

مؤشرات نهوض في مصر إبان حكم محمد علي الكبير (1805 ـ 1848)، والجامعة الأمريكية في بيروت 1866، والجامعة اليسوعية في بيروت 1875.

بدأ نشاط تعليمي ومعرفي بالتحرك في العراق وسورية وفلسطين، تمثل في افتتاح عدد من المدارس العليا والكليات، بعضها كان نتيجة لنشاط البعثات والكنائس المسيحية، كما بدأت السلطات العثمانية تولي للتعليم أهمية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.

كان اشتداد تيارات التحرر في عاصمة الدولة العثمانية، وانتشار الجمعيات الثقافية والاجتماعية ذات الأبعاد السياسية، قد تغلغلت بين العرب المتواجدين في العاصمة للدراسة أو الخدمة في الجيش. فشهدت تلك المرحلة تشكيل العديد من الجمعيات الثقافية والسياسية العربية، سرعان ما انتقلت فروعها إلى الوطن العربي ولا سيما في سوريا (لبنان) والعراق ومصر.

مهدت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا 1918 ــ الانتشار للأفكار الاشتراكية.

وجدير بالملاحظة والتتبع، العلاقة الجدلية التي تربط هذه العناصر بعضها ببعض كعناصر مؤثرة كان لها تفاعلاتها ونتائجها كل في الزمن الذي حدثت به، وإن كانت دوائر تأثيرها تصل ضعيفة خافتة وبطيئة إلى العالم العربي، ولكن من الداخل أيضاً (داخل الوطن العربي) كانت هناك عناصر داخلية عديدة تحتدم، فالعهد العثماني نفسه كان يئن ويتداعى تحت وطأة تفاعلات داخلية وخارجية بدا النظام العثماني حيالها عاجزاً عن التطور وعن استيعابها، وكان عليه أن يقدم على قفزة كبيرة إلى الأمام ولكن قواه الذاتية لم تكن تكفيه للقيام بتلك القفزة، مع اشتداد المؤامرات الخارجية عليه في إطار التنافس الاستعماري بين الإمبراطوريات العظمى.

وعصر النهضة العربي سادته هواجس محاكاة الغرب مبهوراَ بالمنجزات الفكرية والعلمية، بل ذهب البعض إلى ضرورة محاكاته إلى درجة التماثل. وقد فات تلك الجهات أن التماثل ونقل التجارب بحذافيرها أمر مستحيل لصعوبات موضوعية قبل أن تكون ذاتية، بالإضافة إلى الحقيقة المؤكدة، وهي أننا لا يمكننا التخلي عن موروثنا الثقافي والحضاري الذي يمتد لبضعة آلاف من السنين، وأن محاولة من هذا القبيل قد تكون نبيلة المقاصد النهائية، إلا أنه محكوم عليها بالفشل، فهي نقل معلب لمنجزات لا تمت لنا ولموروثنا الثقافي والأخلاقي والاجتماعي، والقبول بها كما هي ونقلها بشكل آلي أشبه بزرع جسم غريب في جسد سوف لن يقبله، وأن محاولات إرغامية كهذه افتقرت للأصالة، فهي أشبه بمن يطفئ حريقاً شب في منطقة أخرى، ولم تستجب للإثارات المحلية لذلك لاقت الفشل في الوطن العربي من خلال تجارب عديدة، في حين توصلت أمة كاليابان مثلاً في المحافظة على القيم والموروث الثقافي مع تحقيق تقدم صناعي / علمي، رغم أن موروثنا الثقافي هو أكثر ثراء من الموروثات اليابانية.

اليسار العربي في العصر الحديث جاء مقطوع الجذور عن موروثات مجتمعه، وحاول أحياناً أن يكون نسخة مكررة عن اليسار الأجنبي بتنوع نسخه: الأوربي/ الآسيوي/ الأمريكي اللاتيني، وكان رواده في البلاد العربية من الانتلجنسيا الأجانب، ومن مثقفين سنحت لهم الظروف تعليماً استثنائياً نادراً، أو من خلال علاقات خاصة مع مؤسسات أجنبية. وبعض هذه الشخصيات نجدها معادية بضراوة للتوجهات الشعبية كالوحدة العربية (مع أن قوى اليسار في البلدان الأجنبية تناضل من أجل الوحدة الوطنية والقومية)، كما أن الإخلاص والتزمت للنصوص (الدوغماتية) أفقدها المرونة حيال الكثير من القضايا الجوهرية.

وكان تطور حجم التجارة الدولية بسبب نتائج الثورة الصناعية، قد أنتج محاولات الدول الصناعية البحث عن متعاونين يمثلون مصالحها الاقتصادية أولاً، ثم السياسية بطبيعة الحال. وهكذا نشأت في العواصم والمدن الكبيرة فئات كومبرادورية (Comprador) أصبحت وسيطة للقوى الأجنبية، المتطلعة للتوسع الاستعماري، وتوسيع نفوذها، وأصبحت تمثل ليس فقط قاعدتها الاقتصادية / الاجتماعية فحسب، بل وأفقها الثقافي أيضاً، فتولت فتح مدارس التعليم الخاص، والصحف والمجلات، وكونت محيط إشعاعها الثقافي / الفكري، وليس نادراً ما تكونت الشرائح المتنورة من هذه الفئات الاجتماعية، التي كانت تحاكي في محاولات فاشلة بالطبع تقليد المجتمعات المصدرة للتجارة والثقافة، بل وأصبحت ثقافة الأجنبي هي ثقافة الفئات الوسطى والعليا في المجتمع، وليس نادراً ما انعكست في فعاليات اجتماعية.

ناهضت الدول الصناعية / الاستعمارية هذه المؤشرات التي مثلت بوادر النهضة العربية الحديثة التي انطلقت في مصر أولاً، بحملة تعليم وترجمة ونهوض ثقافي، وإرسال بعثات للتعليم، في أجواء شجعت ظهور شخصيات ثقافية متنورة ذات أهداف نهضوية.

وبالرغم من أن محاولات النهضة العربية كانت تواجه بالعديد من العقبات المحلية والأجنبية، تمثلت الداخلية المحلية منها بالقوى الإقطاعية والرجعية التي رأت في النهضة ما يدفع بمواقعها ومكتسباتها إلى الخلف ويفسح المجال لبروز قوى جديدة تهدد مواقعها. وكان من الصعوبة بمكان بروز تيارات ثقافية وفكرية مستقلة عن الجو العام السائد. والعوامل الخارجية كانت تتمثل بتغلغل القوى الاستعمارية تجارياً وثقافياً حتى في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بسبب ضعف الهياكل السياسية والاقتصادية والثقافية للسلطات العثمانية، وعدم قدرتها على مواجهة هذا النهوض الثقافي / الفكري الذي كان يهدد باقتلاع كل شيء حتى في عاصمة الدولة العثمانية نفسها، التي كانت تشهد تصاعد نشاط الحركات القومية الهادفة إلى بناء دولة قومية حديثة.

 

ومن جملة العوامل الخارجية أيضاً اشتداد واتساع نطاق الحركات الاشتراكية بأنواعها في بلدان أوربا الغربية: ألمانيا، فرنسا، بلجيكا، بريطانيا، وسريانها إلى بلدان أوربا الشرقية وخاصة في: هنغاريا وجيكوسلوفاكيا، ثم في روسيا. ونقلت إليها جوهر النضال الاجتماعي في بواكير القرن العشرين. وفي مصادر تاريخ الفكر والحركات الاشتراكية الكثير من الوقائع والمفردات عن طبيعة انتشار الفكر الاشتراكي في الأقطار العربية، ومن ثم الأحزاب والحركات الماركسية، ومنها الحزب الشيوعي ويعود تاريخ تأسيسه إلى مرحلة العشرينيات والثلاثينيات، ثم حركة البعث العربي الاشتراكي، الذي بدأ بالانتشار من أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، وتأسس بشكل نهائي في نيسان / 1947، كأول حركة (حزب) قومي اشتراكي. وكان قادة الحزب ذوي ثقافة فرنسية، إذ درسوا في باريس وهناك تعلموا مناهج الفكر الاشتراكي الديمقراطي، ولكن مع ظروف الواقع السياسي / الاقتصادي / الاجتماعي، كان لابد أن يكون التركيز على القضايا القومية، وقد حلت القضية الفلسطينية 1948 كقضية قومية ذات أولوية بعد عامين فقط من تأسيس حزب البعث 1947، وكانت إرهاصاتها تدور قبل ذلك بسنوات عديدة.

الأحزاب اليسارية / العمالية، تعاملت في موضوعات القضايا المحلية الوطنية / القومية بعقل وأحياناً برؤية أجنبية، في النظر إلى المشكلات المحلية بحلول حيادية أحياناً، وتخندقوا وراء هذه المواقف، على أساس الثوابت والمقاييس النظرية، وإذا كان الفكر الاشتراكي الديمقراطي / الماركسي متقدماً في قوته النظرية وعمق أفكاره، إلا أن الحركات التي اهتمت بنشر هذا الفكر كانت تنظر إلى مشكلاتنا الوطنية والقومية وتحللها بمنظار وعيون القوى الأجنبية، وقد تسبب هذا العجز في التطبيقات الإيديولوجية إلى خسارة نفوذ مهم كانت تتمتع به هذه الأحزاب في العديد من البلدان كالعراق وسوريا ومصر..الخ وحتى في خارج الإطار العربي في تركيا وإيران .

 

وكان لارتباط الأحزاب الشيوعية العربية بمنظمة (Comintern) أثره السلبي على تطور الأحزاب الشيوعية في المنطقة وحتى في أوربا، بل وفي العالم، اغتنمها أعداء المعسكر الاشتراكي والقوى الرجعية المحلية، وبالغوا في خلق صورة مفزعة للاشتراكية والشيوعية، واتخذت مساراً معادياً لليسار عموماً وللأحزاب الشيوعية خصوصاً. والعلاقة الوثيقة للأحزاب الشيوعية بالاتحاد السوفيتي أضرت بالحركة الاشتراكية ليس في منطقتنا العربية والشرق الأوسط، بل وفي أوربا الغربية (إيطاليا ــ فرنسا ــ أسبانيا)، وفي أوربا الشرقية لم تخلُ من إشكالات في (يوغسلافيا ــ ألبانيا ــ هنغاريا ــ جيكوسلوفاكيا ــ بولونيا). (3)

ضخمت أجهزة الإعلام والدعاية الرأسمالية وبالغت بتأثيراتها، سواء في البلدان الأوربية أو في أرجاء من العالم، وفي منطقتنا بصفة خاصة، وألحقت أضراراً جسيمة بحركة اليسار بصفة عامة. ومن جهة أخرى، تسببت هذه القراءة الخاطئة، والتفسير الخاطئ للمصادر الاشتراكية العلمية في العديد من المواقف المناهضة لآمال الأقطار وطموحاتها وحقوقها المشروعة السياسية والاقتصادية.

وقد اتخذت هذه القوى والأحزاب موقفاً لا يلين تجاه أعز تطلعات الجماهير:

موقفاً مناهضاً للمشاعر الوطنية والقومية حيال القضية الفلسطينية.

موقفاً مناهضاً لمشاعر الأمة في الوحدة العربية.

موقفاً مبالغاً في الإلحاد والإجهار به حيال عاطفة شعبية للدين. 

أما في المواقف السياسية فقد ارتكبت أخطاء كثيرة في العديد من الأقطار وفي حقب مختلفة، في الجزائر، ومصر، العراق وسورية، ومن تلك الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر، مواقفهم في حرب التحرير الجزائرية، ومصر حيال ثورة 23 / تموز / 1952، وفي العراق حيال الحكم الوطني، وفي إيران في ثورة مصدق وبعدها، وفي التعاون مع الاحتلال الأمريكي للعراق. وفي فهم خاطئ لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها مجتمعات الشرق الأوسط والوطن العربي بأسره، وحتى الخمسينيات كانت الطبقة العاملة العربية والشرقية عامة ضعيفة وقليلة العدد بصفة عامة، ليست بمستوى الطبقة العاملة في البلدان الصناعية، ناهيك عن وجود قوي للدول الاستعمارية سياسي / اقتصادي / عسكري حتى نهاية الخمسينيات، والعديد من الأقطار العربية لم تكن قد أنجزت (وبعضها لا يزال في مرحلة مهمات وواجبات ومستلزمات مرحلة التحرر الوطني)، الأمر الذي كان يحتم وضع برامج نضالية تتلاءم مع الموقف الاجتماعي / الاقتصادي في كل بلد، نعم هناك مشتركات، ولكن مع وجود خصائص . (4)

 

وثمة مشكلة أخرى واجهت حركة اليسار العربي وهي أن الاعتدال (النسبي) الذي تميزت به، ولا سيما في المرحلة (1963 ــ 1967) تحول بعد هزيمة حزيران 1967 وبعد اشتداد هبوب عاصفة التيارات الماركسية إلى حالة من الاندفاع نحو الماركسية، حتى أن الحركات القومية بدأت تسرع نحو الماركسية، بوصفها القلعة المنيعة المعادية للإمبريالية، وطالما نحن في صراع حياة أو موت مع الإمبريالية، فنتخذها منهجاً وسبيلاً للتحرر والتنمية، وطالما لا أحد يعطينا سلاحاً ندافع به عن بلداننا وأنفسنا،  فلنتحالف جذرياً مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ولم يكن هذا يخلو من منطق، وهذا كان لب الزحف صوب الماركسية، وطالما هي ردة فعل فليكن بأتم صورة وأقواها، هكذا كان القاموس السياسي لتلك المرحلة: الاندفاع دون هوادة.

إلى هنا كان الأمر يبدو منطقياً وأن الرد على الهزيمة بتصعيد المقاومة الثورية، واليسار مقاومة وثورية في آن واحد، ولكن المشكلة كما هي دائماً: الخطأ في تسلسل القراءة والدراسة، والاسترشاد. الثورة والماركسية علم وعلم ليس بسيطاً، وقد صادفت أعضاء قيادات شيوعية لا يفقهون من الماركسية شيئاً. الديالكتيك والميتافيزيقية، والإمبريالية ونظريات النقود والأجور، ونظام الدولة موضوعات علمية تدرس في الجامعات، ومعظم قوانا تعاملت مع الأمر كمزاج وكرد فعل ووفق قناعات مسبقة. ولم نجد (إلا نادراً) دراسات   علمية تستحق الاعتبار قائمة على تحليل المجتمع تحليل علمي، ليصار إلى وضع سياسات نضالية. (5)

النتيجة كما هي تاريخياً، عندما لا يحقق التصعيد التراكم المطلوب، تلجأ القوى الثورية وتغطية لعجزها النظري والتطبيقي، إلى المبالغة والتطرف لدرجة مفجعة. وهذه حقيقة تاريخية معروفة، وهكذا أممت سلطات اليمن الديمقراطية (وهم حزب قومي أصلاً ــ حركة القومين العرب) زوارق صغيرة لصيادي أسماك فقراء، وثورة ظفار تحولت للماركسية وقاموا بإلغاء المهر وعقود الزواج، وشاهدت بأم عيني ذات يوم في الأردن شعارات "لنقم سوفيتات العمال والفلاحين". وندوة أقامتها حركة قومية جرى التحول للماركسية بالتصويت ..! وحزب شيوعي انشقّ، والجزء المنشق تطرف لدرجة أنه أنهى بداية كان يمكن أن تكون رائعة بتشخيصه الدقيق لمشكلات الحركة الشيوعية في ذلك البلد. كان هذا التطرف يحمل بذور النهاية. وتختزن الذاكرة صوراً مرعبة للتطرف الذي بلغ أحياناً مستويات جنونية، وهو سلوك معاكس للثورية، حتى أني استخدمت مرة مصطلح (شيوعيو الفجل) من الخارج أحمر قاني، ومن الداخل أبيض ناصع البياض ..!

والحق أن مثل هذا التطرف كان موجوداً في صفوف اليسار، وفي صفوف الأحزاب الشيوعية، وقد أنتج حالات أساءت للفكر الماركسي وللاشتراكية، ففكرة تصدير الثورة كانت أساساً من نتائج ثورة أكتوبر الاشتراكية، وما زالت بقايا الفكر التروتسكي قوياً في بعض بلدان أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وقبلها كان التيار الفوضوي (قاده باكونين) الذي ظل سائداً في فرنسا وأسبانيا حتى الثلاثينيات، ولا تزال بقاياه موجودة، وكذلك تجربة الخمير الحمر في كمبوديا، وغيرها.(6)

 

اعتمدت بعض الحركات اليسارية على الفكر الماركسي ــ اللينيني كمنهج سياسي / أيدولوجي لها، و بعضها أنشقت عن حركاتها الأم، ولكنها لم تبلغ شأناً مهماً، وأخرى تطورت وغيرت دستورها ونظامها الداخلي واسمها، ولكن القفزة الكبيرة دون توفر المستلزمات أفقدها توازنها، والتطرف يقود إلى تطرف أشد ومبالغات، ومزايدات، حتى تسود الفوضى النظرية السياسية والتكتلات والخطوط المائلة والمتقاطعة. والحصيلة لم تحض أعمال مهمة في الفكر الاشتراكي الثوري واليساري لقادة ومفكرين أفذاذاً مؤهلين تمام التأهيل ليكونوا قادة كباراً، كالقائد المفكر عبد الفتاح إبراهيم، ومحسن إبراهيم، و جورج طرابيشي، والياس مرقص، وياسين الحافظ، ومحمد عابد الجابري، وأنور عبد الملك، وسمير أمين، وغيرهم.

ورغم الإسهامات الكبيرة لهؤلاء المفكرين، إلا أنها كانت (تقريباً) مسكونة بفكرة محاكاة الفكر اليساري الأوربي، وما عدا محاولات لا نعتبرها كافية، لم يُغطس في عمق المشكلات الفكرية العربية، ويؤسس على متابعة دقيقة وعلى أيدي مختصين لمصادر الفكر المادي العربي ويواصل عليها بتحديثها، فقد قرأنا مرة أن عالماً ماركسياً أوربياً صرح إما أن يكون ابن خلدون قد تأثر بكارل ماركس أو العكس..!  وكذلك ابن رشد الذي لعب دوراً مهماً في تأسيس الفلسفة المادية في أوربا.

لا ندعو بهذا المفكرين العرب إلى عزل الفكر العربي عن المؤثرات الخارجية، ولا أن يغطس في المورثات بحيث يصعب عليه التطلع بأفق واسع، وفهم العلاقة الوثيقة بين المنجزات الثقافية للإنسانية. إن توازناً دقيقاً يبدو هو المطلوب، وإلا فأي فائدة ترجى من مفكر يعيش في الشرق ويتأثر بكل مؤثراته، ويحاول علاجها بأدوات غربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش

 

التماس الفكري شأن حدث ويكثر حدوثه في إطار التبادل الحضاري والفكري والثقافي بين الشعوب، والأفكار تنتقل عبر وسائط عديدة، تعددت أساليبه في القرون الحديثة مع شيوع استخدام الراديو، واللاسلكي، والطباعة، وأضافت لها الوسائل الالكترونية كنتيجة للثورة المعلوماتية أبعاداً لم تعد معها نقطة واحدة بعيدة عن تحقيق الاتصال الفكري والثقافي معها.

تأسست حركة الخوارج في عهد الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب (رض)، (655 م ـ 35 هج/ 661 م ـ 40 هج)، وتواصلت في العصر الأموي والعباسي، حتى تلاشت تدريجياً في العصر العباسي الوسيط (833 م ـ  218هج / 861 م ـ 247هج )، ولكن دائماً مع بقاء شرائح من فئات الخوارج تحت مسميات شتى في شبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا. وسموا بالخوارج رغم أنهم أطلقوا على أنفسهم (الجماعة المؤمنة)، بيد أن تسمية الخوارج طغت لدى المؤرخين العرب والمسلمين والأجانب. ويعتبرهم الأستاذ البرت حوراني: "أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات "

الكومنترن (Comintern) منظمة أسسها فلاديمير لينين عام 1919 في موسكو، وهي تنسق بين الاحزاب الشيوعية في العالم، وتهدف إلى إقامة النظام الاشتراكي / الشيوعي.

الأحزاب الشيوعية وخاصة العربية، بررت ووجدت الذرائع لمشكلات حدثت في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، في حين أنها كانت تثير الدعايات بوجه الحكومات الوطنية في البلاد العربية لأنها مخالفة للتعاليم الاشتراكية / الماركسية، وتتساهل مع أمثالها أو أكبر منها في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية:

 صلح برست: تخلى الاتحاد السوفيتي عن مساحات من أراضيه نتيجة الصلح مع ألمانيا لإنهاء الحرب العالمية الأولى، واستعادها بعد الحرب العالمية الثانية.

عصيان كرونشتاد شباط فبراير وآذار مارس 1921، تمرد قام به البحارة الشيوعيون السوفيت مطالبين بحقوق سياسية، في مطلع عهد السلطة السوفيتية، قام ستالين بقمعها بقسوة دموية.

قضية هونغ كونغ: مقاطعة صينية استولت عليها بريطانيا، لمدة 48 سنة حتى استعادتها الصين سلماً.

قضية تايوان. جزء من أراضي الصين اقتطعها نظام شان كاي شيك الرجعي الموالي للإمبريالية ولا تزال تحت سيادة هذه السلطة، وتأمل الصين الشعبية استعادتها ذات يوم سلماً.

مكاو المستعمرة البرتغالية حتى 20 ديسمبر 1999، (الآن منطقة إدارية خاصة تابعة لجمهورية الصين الشعبية).

الشيوعيون والكفاح المسلح في أميركا اللاتينية (بوليفيا مثالاً)، حيث ساهم الشيوعيون البوليفيون بصورة غير مباشرة بفشل ثورة غيفارا في بوليفيا، بداعي أنها (غير عمالية ورومانسية ثورية) وقاطعوها حتى لاقت مصيرها بالإبادة.

قضية القاعدة العسكرية الأمريكية في غوانتنامو. أراض كوبية تقيم عليها الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية، وتضم القاعدة حتى الآن معسكر الاعتقال الشهير.

مرونة البلدان الاشتراكية في بيع أراض من السيادة الوطنية بذريعة أنها تحسن من وضع الحدود مع الدول الغربية.

البلدان الاشتراكية: يوغسلافيا ألبانيا، هنغاريا، جيكوسلوفاكيا، بولونيا ورومانيا، وفي جميع هذه البلدان نشبت حركات (ثورات مضادة في الغالب إخراج وتنفيذ أجهزة المخابرات الغربية)، نتيجة لرفضها النموذج السوفيتي في الهيمنة وقيادة العالم الاشتراكي، أو لصعوبة تنفيذ النموذج السوفيتي خارج الاتحاد السوفيتي.

الفوضوية : تيار أسسه الروسي ميخائيل باكونين (1814  ـ 1876).  مناضل ومفكر روسي الأصل، ساهم في ثورات وانتفاضات في تشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، ضد الأنظمة الرجعية عمل لفترة مع ماركس ثم اختلفا، صاحب نظرية ضد السلطة والسلطوية، وأعتبر أن الدولة والكنيسة هم ألد أعداء الشعب.

للأنصاف قرأت مرة دراسة مختصرة ولكنها مفيدة للحزب الشيوعي العراقي في أوائل السبعينات (القيادة المركزية )، كما تعرفت شخصياً على قيادات شيوعية عربية على درجة من الكفاءة النظرية.

 

 

لماذا خسرت الولايات

المتحدة موقعها القيادي

ضرغام الدباغ

 

منذ عقود، والتراجع الأمريكي واضح وينبأ بالكثير، وهناك الكثير من المشكلات الجنينية التي كانت تنمو وتتفاعل داخل الامبراطورية الأمريكية، الداخلية منها والخارجية، وتنبأ بتدهور مضاعف ما لم تبادر الولايات المتحدة لإيقاف التدهور أولاً، ومن ثم اصلاح موطن الخلل، ولكن المسار التاريخي هو غالباً أقوى من إرادة البشر، ثم أن طبيعة التطور تشير أن الخلل كبير، وحاسم، وربما يفوق قدرة القيادات على تداركه.

المحلل السياسي ليس بفتاح فال، بمعنى أن بوسعه أن يؤشر حالة التراجع، ودرجته، ولكن تحديد موعد السقوط  وشكله، هذه ليست من اختصاصه. والكثير جداً من العلماء الأمريكيين وغير الأمريكيين، أشاروا لهذا بشكل تفصيلي في كتبهم ومقابلاتهم ومقالاتهم، منذ عقود طويلة خلت (منذ ثلاثينات القرن الماضي)، ولكني أعتقد أن غول الاحتكارات العملاقة الأمريكية، تجوع كلما التهمت أكثر، ولا تستفيد من دروسها، فالهزيمة في فيثنام كانت شاملة : سياسيا وعسكرياً وأخلاقياً، وكانت مقدماتها تلوح أمام القيادات الأمريكية قبل حلولها. فقد قرأت كتاباً في أواخر الستينات (عجز التقنية الامريكية في فيثنام، بيروت 1968) يشير فيه كاتبه (نغودين خاكفين) بلغة الأرقام والحقائق أن الهزيمة حتمية للولايات المتحدة، بطريقة علمية وذلك بسبب العجز المتراكم المتزايد للقدرة الامريكية في الحرب، حتى بعد الاستعانة بقوات الناتو .. ولشدة الخسائر المالية والعسكرية، والسياسية.

والكتاب الذي ألفه كاتب فيثنامي، قرأته بشغف في أواخر الستينات (1968) وهو كتاب صغير الحجم قرأته بعمق، ولذلك استطعت أن أتفهم بدقة، أن الأمريكان ماضون بسرعة أكبر ونتائج شاملة إلى الخسارة في العراق لأسباب مشابهة(سياسية/ عسكرية/ ويضاف إليها الاقتصادية والاخلاقية) فالحرب عام 2003 كانت حرباً عدوانية بصفة تامة 100% بحيث لا يمكن لأي منافق الدفاع عنها. بل وأن قطبا العدوان من القادة الأمريكان والإنكليز (بوش وبلير) اعترفا بصراحة تامة بالعدوان بعد أن وجدا أن الكذب صار مفضوحاً ولا سبيل للإنكار، والاعتراف بصراحته يستحق أن يحالا مع مجرمين آخرين إلى محكمة الجنايات الدولية والحكم عليهما بأقسى العقوبات (الاعتراف سيد الأدلة)، وعدم مثولهما أمام المحكمة، يؤكد أن هذه المحكمة هي أمريكية قد أنشأت لمحاكمة خصوم أميركا فقط، ومن يعصى أوامرها فحسب.

والحكومة الامريكية قد تتمكن بأساليب متعددة تدارك بعض الخسائر السياسية، في علاقاتها الدولية تستطيع أن تشتري صمت البعض، بالمال أو بالمواقف السياسية، أو بالابتزاز ولغة التهديد بالعقوبات الاقتصادية، ولكن حتى هذا له حدود معينة، فلم تنجح من حمل فرنسا وألمانيا على المشاركة في الحرب على العراق، كما أنهم لم ينجحوا في استحصال قرار من مجلس الأمن بشن العدوان.  الخسائر الاقتصادية تمكنوا من تدارك جزء منها بالاقتراض الداخلي، وإرغام حلفاؤها من دفع أموال الحرب، كما تمكنوا من تخفيف بعض الخسائر بالأرواح، بنكران الخسائر واعتبارها حوادث طرق، أو خارج ميادين القتال، أو نتيجة أخطاء تكنيكية، وفي الحرب على العراق اكتشفت بدعة جديدة، وهي أنها تقبل مجندين أجانب على أمل منحهم الجنسية لاحقاً، أو البطاقة الخضراء للإقامة (Green Card)، أو تأسيس شركات قتالية تقبل مرتزقة، ولا تعتبرهم في عداد القوات المسلحة، وبالتالي ضمن خسائرها.

ولكن لكل شيئ حدود، فحين يبلغ الاقتراض الداخلي حداً يعتبر غير مقبول، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4.4  مليارات دولار سنة  2003، ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا. والاقتراض تسبب أن يتصاعد الدين القومي الأمريكي ليبلغ 14 ترليون دولار، وأعتبر أن ما نسبته 7,5% من الديون إنما هي سبب مباشر ومن نتائج الحرب على العراق. كما أن الخسائر بالأرواح لا يمكن تغطيتها إلى الأبد، فهناك جمعيات مدنية للمعاقين بسبب الحروب والمصابين بأمراض عصبية، وجمعيات المحاربين القدماء، التي لا يمكنها تزوير الحقائق واختزال أعداد القتلى، وبالإضافة إلى مجاميع من العسكريين من مختلف الرتب، أدركوا أنهم كانوا في مهمات إجرامية قتل وسلب وسرقة ليس إلا صاروا يبوحون بنا تختزن ذاكرتهم المريضة.

الولايات المتحدة تكابر، تنكر، ولكن في عالم ثورة الاتصالات والإعلام، لم يعد بالإمكان إخفاء الجرح الغائر عميقاً، أو إنكار الحقائق الساطعة، أن العراقيون ألحقوا هزيمة تاريخية بالولايات المتحدة. هزيمة مريرة هذه هي الحقيقة، ومن نتائج حرب العراق أن مكانة أميرا تراجعت على كافة الأصعدة، وبدت خسارتها لموقعها الدولي واضحاً

فقرار الانسحاب من العراق ومن أفغانستان ينطوي في جوهره على معان سياسية :

1. التسليم بخسارة الهدف العسكري والسياسي.

2. تقلص خيارت دوائر القرار إلى خيار واحد وهو : الانسحاب.

3. قبولها الحوار مع العناصر التي فشلت في إزالتها عن مسرح الصراع المسلح.

 

تقلص هامش الخيارات الأمريكية بات معروفاً حتى لحلفاءها المقربين، وحتى من ضمن عائلة الناتو، أن الولايات المتحدة عجزت عن طرح بدائل لما تصدت له بالقوة، وهذا الفشل ساطع في العراق وأفغانستان، وأما في فلسطين فالفشل شامل وكامل ومتواصل، فهي(الولايات المتحدة) لم تستطع منذ عام 1948 أن تبلور موقفاً ( متساهلاً ) يؤدي لإقامة سلام دائم، لأنها عاجزة عن كبح جماح حليف شره شرس لا يتراجع عن سياسية التوسع.

وعسكرياً، فالبرغم  من قدرات أميركا اللوجستية الهائلة (تنقل واسع النطاق على مستوى العالم) تتيح لها إمكانية إجراء مناورات بالقطعات، إلا أن تعدد مسارح العمليات وتنوعها طبيعة الصدامات الواقعة أو المحتملة، أشارت لعجز ليصعب تلافيه. في مشهد يعلن فشل الولايات المتحدة في حل أزمات بؤر التوتر عبر العالم، وهذا يعني بجلاء تناقض أهدافها مع إرادة وأهداف شعوب العالم.

وفي حرب العراق مورست هذه السياسة بشكل مكثف ومتنوع أكثر من ذي قبل بكثير، إذ ضغطت السياسة  الخارجية الأمريكية بتأثيراتها على أجهزة الإعلام في العالم، بما في ذلك أجهزة الإعلام في الوطن العربي بعدم نشر أنباء عن فعاليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال في العر ق، فحاولت جهد إمكانها التقليل من شأنها، وعدم نشر الأنباء عن عملياتها والخسائر الأمريكية، والغاية هي عزل المقاومة العراقية من محيطها العراقي والعربي. ومحاولة بائسة لإخفاء حقائق الموقف في العراق، وأن خسائرها الحقيقية (الاقتصادية والسياسية) هي أضعاف ما أعلن عنه رسمياً (نحو 5500 قتيل)  فالخسائر الحقيقية هي أكثر 33,000 قتيل، وبالطبع أضعافهم من الجرحى والمعاقين.

وبالاستعانة بجملة من الحقائق والإحصاءات التي أجرتها مؤسسات ومعاهد بحث أمريكية غير حكومية أو شبه رسمية، في إطار حسابات الخسائر الأمريكية، ومن خلال تفاوتها الطفيف أو الكبير، نتأكد من حقيقة واحدة، أن المصادر الرسمية الحكومية لم تكن صادقة بنشرها الأرقام والمعطيات. وهذا بالطبع له هدف واحد وهو إخفاء أبعاد الهزيمة المنكرة التي تلقوها في وادي الرافدين.

 وفي مقدمة هذه المصادر تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون وهو أول تقرير أميركي محترف رصين تضعه لجنة مستقلة من الكونغرس استعانت بـ183  خبيرا عسكريا ومدنيا، وتعترف لأول مرة بأن معدل الهجمات في أكتوبر/  تشرين الأول 2006 قد بلغ 180 هجوما يوميا وبخسائر 102 قتيل لنفس المدة.

وفي الإطلاع على تقرير أميركي آخر لا يقل أهمية يشير إلى حجم آخر من الخسائر، وهو تقرير مكتب المحاسبة الأميركي (G. A.O) الصادر بتأريخ 23 يوليو/  تموز 2008 عن الحرب في العراق، وينص التقرير على إجمالي الهجمات التي نفذتها المقاومة العراقية بـ  164  ألف عملية قتالية أعتبرها التقرير مهمة وعنيفة) مع إشارة في نفس التقرير إلى أن هذه الأرقام لم تشمل الهجمات شرق وجنوب البلاد).

إذا أضافنا 300 جندي أميركي قتلوا خلال فترة الحرب (لغاية أبريل/ نيسان2003 ) وكذلك القتلى من مرتزقة الشركات الأمنية البالغ عددهم  1315، يكون الرقم الإجمالي لقتلى الجيش الأميركي في العراق  32000 + 1615  = 33615 قتيل حتى  2008، يضاف لهم نحو 40 ألف معاق، ولا تذكر المصادر الرسمية الأمريكية أرقام دقيقة لعدد القتلى الذين قتلوا  "في حوادث غير قتالية "  كما تذكر التقارير الأمريكية غالباً، أو المنتحرين أو عدد الجرحى الذين ماتوا في المستشفيات الألمانية والذين لا تنص التقارير الرسمية الأمريكية على اعتبارهم  قتلى في قوائم خسائر الحرب.

ولا تقل الخسائر المادية أهمية في الحسابات النهائية، إن لم تكن أكثرها أهمية لا سيما في بلد يعد متربول الرأسمالية العالمية، كالولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتبر الأرباح أو الخسائر مقياساً للعمل السياسي والاقتصادي. وفي بلد يلعب فيه الموقف في السوق في مقدمة الاعتبارات، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4.4  مليارات دولار سنة  2003، ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا.

العبرة والاعتبار :

أن الولايات المتحدة تتمتع بتفوق في القوى ليس موضع جدال، ومن العسير أن تبلغه قوى أخرى منافسة لها أو حليفة. إلا أنها منيت بهزيمة منكرة في حرب العراق، وأفغانستان، بعدها ستقلع الولايات المتحدة من لعب دور الدركي العالمي. نعم ... الولايات المتحدة تمتلك وسائل نقل الحرب حيث يشاءون، بإمكانهم إقامة واستخدام عناصر ردع هائلة، وربما بوسعهم كسب حروب تقليدية، وبوسعهم إنزال ضربات مدمرة، يمتلكون روح وحشية تقتل عشرات ألاف الأطفال والنساء عمداً مع سبق الإصرار والترصد، ولكن وقد غدا من الأكيد المؤكد أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقدم حلولاً سياسية محترمة، لأزمات عميقة.  ذلك أن الولايات المتحدة لا تمتلك صورة مشرقة تريده أن يحل بدل صور وطنية. الولايات المتحدة لا تمتلك أفكاراً ولا أنماطاً صالحة للتصدير. كل فكرة تصدير ثورة أو نظام أو أنماط حكم هي فكرة بائسة من أساسها، من نابليون، إلى نظام ملالي طهران، إلى الديمقراطية الأمريكية، وفي النهاية فليست هذه العناوين سوى شعارات لتبرر التوسع والاستحواذ والهيمنة السياسية والاقتصادية.

 

 

 

 

 

الكحال، طب

 العيون عند العرب

 

د. ضرغام الدباغ

 

صديقي وأخي العزيز ... الكحال العربي ... الأستاذ في طب العيون الدكتور نشأت متري حمارنة،  رغم بلوغه شأوا كبيرا في عالم طب العيون، إلا أنه كان يكتب ويصرح " أين أنا من أسلافنا الكحالين العرب الذي أسسوا علم طب العيون ونشروه في العالم ". وطبيباً بريطانيا يعالج عين أحد المرض العرب في لندن، ويقول له " لماذا تأتي إلى لندن وعندكم نشأت حمارنة ...! " . نشأت حمارنة نجم المؤتمرات العلمية العالمية لطب وجراحة العين، الكحال العربي، العالم الكبير، الشديد التواضع، والمناضل دون استراحة من أجل إعلاء مجد أمته العربية.

 

ليس هذا بغريب عن نشأت حمارنة الذي أنظم للعمل القومي العربي وناضل دون هوادة منذ مطلع الخمسينات في صفوف البعث العربي الاشتراكي، كان يبحث ويجمع، وقد يقطع مسافات بعيدة ليطلع على حالة، أو ليحص على كتاب. وله أصدقاء على امتداد الوطن من موريتانيا وإلى البحرين، ومن الموصل حتى عدن. كان يعشق أثنين فقط : البعث العربي الاشتراكي، وطب العيون.

 

لذكراه التي لا تغيب ... أهديه هذا البحث، فقد كان في بالي في كل سطر أكتبه ..... عزيزي ورفيقي نشأت لروحك الطيبة الرائعة هذا العمل المتواضع ....مع عميق الاحترام والود ...!

 

                                      ضرغام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

يشير مصطلح الطب الإسلامي العربي إلى مهنة وعلم الطب الذي تطور في العصر الذهبي للإسلام، والذي كتب بلغة عربية، حيث تأسس الطب الإسلامي نتيجة تفاعل الطب العربي القديم بعلوم وطب الحضارات الأخرى، ثم جاءت الترجمات للكتب الطبية من اللاتينية كعامل رئيسي في نشأة الطب الإسلامي، ثم كان للترجمات اللاتينية للأعمال العربية دورها في تطور الطب عالميًا في فترة نهاية العصور الوسطى.

 

(مستشفى عربي يرجح في العصر الوسيط)

 

امتاز المسلمون بالتزام المنهج التجريبي، سواء كان ذلك في التأليف والبحث، أو في التطبيق والممارسة المهنية، فلم يكتفوا فقط بالخبرات العملية وما توارثوه عن الأوائل، وإنما أضافوا أيضًا مهارات التشريح وكذلك علم وظائف الأعضاء، كما استخدموا منهج التشخيص، أيضًا بأسلوب العلة والمعلول وتجريب الأدوية، وفي هذا الموضوع نبذة عن تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية. البصريات وطب العيون في الحضارة الإسلامية.

 

وكان للعلماء العرب تطويرهم لطب العيون ومن أبرزهم العالم ابن الهيثم هذا التصور، وأثبت خطأ بعض النظريات الاغريقية  باستخدام جهاز بصري، كما أعانه تشريح ابن الهيثم العين على تأسيس نظريته الجديدة عن تكون الصورة والرؤية، حيث وضحها عن طريق إسقاط أشعة من الضوء داخل وسطين مختلفين في الكثافة، وبذلك أثبت صحة نظريته بإجراء التجارب المعملية.

 

وفي القرون اللاحقة نقل كتاب العالم العربي أبن الهيثم "المناظر" إلى اللغة اللاتينية، وبقي يدرّس لطلاب طب العيون طيلة تاريخ العالم الإسلامي، وفي أوروبا أيضًا حتى القرن السابع عشر، كما درس وشرح المسلمون أيضًا عيون الحيوانات، وقد اكتشفوا منها أن حركات مقلة العين تنتج عن انقباض في عضلات العين، في حين أن حركة الحدقة ناتجة عن انقباض وانبساط في القزحية، وهكذا تميز تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية عن غيره.

 

كانت الجراحة العينية مهمة في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية، بهدف علاج بعض أمراض العين المستعصية، مثل الرمد الحبيبي وإعتام عدسة العين، فكان الأطباء يقومون بهذه الجراحات باستخدام جهاز لإبقاء العين مفتوحة أثناء إجراء العملية، مع مبضع دقيق جدًا، يستأصل الأجزاء المثلثة الشكل على القرنية. وقد كانت تلك الجراحة تُجرى برفع الجزء المصاب باستخدام خطافات دقيقة، وكانت هذه العمليات مؤلمة للغاية للمرضى، كما أنها معقدة بالنسبة للجراح ومساعديه، حيث اعتبر الأطباء المسلمون إعتام عدسة العين مرضًا ناتجَا عن خلل في الغشاء السائل الذي يملأ بين العدسة والبؤبؤ، حيث تجرى بعمل شق دقيق في بياض العين، ثم إدخال أنبوب رفيع لإزاحة الإعتام جانبًا، ثم تغسل العين بعد الانتهاء بمحلول ملحي، كما تضمد بقطعة قطن مغمورة في محلول زيت الورود الممزوج ببياض البيض.

 

 

(طبيب العيون العربي أبن الهيثم)

 

تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية كان طب العيون من التخصصات القديمة في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية، حتى أن طبيب العيون كان عضو الشرف في مهنة الطب زمن الدولة العباسية، وقد احتل مكانة مرموقة في المجتمع، وقد اهتم العلماء المسلمون في القرون الوسطى بالجمع بين تحصيل العلوم النظرية والممارسة العملية، وتشمل صناعة الأدوات الجراحية الدقيقة، ووصل عدد الأدوات الجراحية المستخدمة في جراحة العيون إلى العشرات آنذاك، وكان من ضمن بعض الأدوات ما سمي "إبرة الحقنة"، والتي ابتكرها عمار بن علي الموصلي، حيث استخدمت كأداة استخراج وشفط سائل العدسة المعتمة أو السّاد من العين، وقد كانت هذه عمليّة شائعة.

 

وهكذا اشتهر الأطباء المسلمون في طب وجراحة العيون خاصة، وذلك اعتمادًا على ما تركه ابن الهيثم من أعمال ومؤلفات، حيث يقول تشارلز سنجر: "إن كتاب المناظر في البصريات متطور جدًا عن كتب وعلوم اليونان، وليس له مثيل أبدًا بين مؤلفات اليونانيين كافة".وقد كان المسلمون في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية يسمون طب العيون بـ "الكحالة"، ويسمى المشتغلين به الكحّالين، وقد ترجم المسلمون ما وصلهم من أعمال في علم الكحالة من حضارات الهند واليونان والروم، ولكن عملوا على تطوير أشكال من العمليات لم يأخذوها عن غيرهم؛ فقد احترفوا في سحب المياه الزرقاء من العين، رغم ما يكتنفها من الصعوبة حتى اليوم، ومع ذلك فقد كانت نتائج هذه العمليات مضمونة إلى حد كبير، كما ابتكروا عمليات جراحية لسحب المياه البيضاء أو الساد، واخترعوا لها ست طرق، حيث كانت تتم بواسطة الشفط، وابتكروا لذلك أنبوبًا زجاجيًّا دقيقًا يدخل في مقدمة العين، ويفككون به العدسة المعتمة، ثم يتم شفطها، وقد كانت هذه الجراحة هي أحدث الجراحات لعلاج الساد في ذلك الحين، ورغم الفرق في المعدات، فقد كان هناك شبه كبير بين تلك العملية والعمليات التي تجرى في العصر الحديث .

 

 

طب العيون في الحضارة الإسلامية، لم توجد في البداية طريقة واحدة معينة للتدريب، كما لم توجد تخصصات رسمية في مختلف مجالات الطب، لكن الأطباء كان كل واحد منهم أقرب للتخصص في مجالات معنية أكثر من غيره، من خلال خبرته وشهرته في معالجة بعض الأمراض أو بعض الجراحات، ورغم ذلك كان من المهم للطبيب أن يطلع على أعمال وخبرات أسلافه، مثل كتاب "تحوير العين" من تأليف يوحنا بن ماسويه، الذي يبدو أنه أقدم عمل متخصص في طب وجراحة العيون، ثم أعمال حنين بن إسحاق المعروف في العالم الغربي بكتابه "أطروحات العين العشر".

 

في وقت لاحق من تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية لم يعد يُسمح بامتهان الطب إلا بالنجاح باجتياز فحص في كتب التخصص المعتمدة في ذلك الحين، للتأكد من سَعَة اطلاع الطلاب النظرية والخبرات العملية في الطب، وذلك للوثوق بمهارتهم وقدرتهم على التشخيص الصحيح والعلاج، وعلى سبيل المثال فقد روى ابن أبي أُصَيْبعة في كتابه "عيون الأنباء" بأن الخليفة المقتدر بالله 295 - 320 هـ / 907 - 932 م العباسي قد عهِد سنة 319 هـ / 931 م إلى الطبيب الكبير سنان بن ثابت بامتحان طلبة الطب في بغداد، بعد حادثة وفاة أحد الناس بسبب جهل وقلة خبرة أحد الأطباء، حيث حدَّد لكلِّ تخصص ما يصلح له، وقد بلغ عددهم في مدينة بغداد وحدها جوالي ثمانمائة طالب، عدا عن مَن استُغني عن فحصه باشتهاره بالاحتراف فيها.

 

إسهامات المسلمين في طب العيون أنتج الأطباء المسلمون العديد من الأعمال في تخصص طب العيون وجراحتها ومعالجتها عبر تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية، وكان من أشهر تلك الكتب في الكحالة: "عشر مقالات في العين" لحنين بن إسحاق، ويعد نقطة البداية في علم الكحالة، كما تطورت كتب الكحالة بواسطة اثنين من أكثر الكحالين شهرة، وهما أبو القاسم عمار بن علي الموصلي 400هـ / 1010 م  وعلي بن عيسى الكحال 430هـ / 1039 م، فالأول كان خبيرًا في طب وجراحة العيون وكان من أكثر أطباء العيون إبداعًا، كما ألّف فيها كتابه المسمى "المنتخب في علاج أمراض العين"، حيث اشتغل بمهنته في القاهرة، والثاني فقد اشتهر بحذقه في مهنة الكحالة وأيضًا بكتابه الشهير "تذكرة الكحالين"، وكذلك كتاب "رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة وأمراضها الباطنة"، حيث اشتغل بمهنته في بغداد، ويعده بعض المؤرخين الغربيين بأنه أكبر طبيب للعيون في العصور الوسطى، حيث ترجم كتابه إلى اللاتينية.

 

 

ومن المراجع الأخرى الشاملة في أمراض العيون في تاريخ طب العيون في الحضارة الإسلامية كتاب الطبيب صلاح الدين بن يوسف الكحّال "نور العيون وجامع الفنون" الذي ألفه حوالي سنة 697 هـ / 1297 م، ويعد أكبر مرجع شامل في طب العيون، كما اشتمل على فصول في وصف العين والإبصار، وأخرى لأمراض العيون وأسبابها وأعراضها، وكذلك نصائح للحفاظ على صحة العيون، بالإضافة لذكر أمراض الجفون والقرنية والحدقة، وأنواع الأدوية المستخدمة لعلاجها، وأما أفضل عالم كتب عن العيون في الجانب الفيزيائي فهو بن الهيثم 430 هـ / 1038 م، حيث تميز وصف العين بدقة، كما كتب وبحث في أمور البصريات وطبيعة البصر، وقال: "إن الضوء يدخل العين ولا يخرج منها، وأن شبكية العين هي مركز الرؤية، ويتم نقلها إلى الدماغ عبر العصب البصري، وأن وحدة الرؤية بين كلا العينين ناتج عن تماثل الصور المسقطة على الشبكيتين

قد لمع الأطباء المسلمون في طب وجراحة العيون بالأخص، معتمدين على ما خلفه ابن الهيثم في هذا المجال من أعمال ظلت مرجعًا في هذا المجال حتى بداية العصر الحديث.

يقول تشارلز سنجر:"كتاب ابن الهيثم المناظر في علم البصريات متقدم جداً عن علم اليونان في هذا الموضوع، وليس له نظير قط بين مؤلفات اليونان جميعاً"درس أيضًا المسلمون أعين الحيوانات، وعرفوا منها أن حركة مقلة العين سببها انقباض عضلات العين، أما حركة الحدقة فسببها انقباض وانبساط القزحية. وقد وضع علي بن عيسى الكحال كتابًا سماه "رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة وأمراضها الباطنة"، ترجم إلى اللاتينية، وكان له أثره على علم طب العيون في أوروبا في العصور الوسطى. كما وضع صلاح الدين بن يوسف الكحال كتابه "نور العيون وجامع الفنون" الذي يعد أكبر مرجع جامع في أمراض العين، واشتمل على وصف العين والإبصار، وأمراض العين وأسبابها وأعراضها، وكيفية الحفاظ على صحة العين، إضافة إلى الأمراض التي تصيب الجفون والملتحمة والقرنية والحدقة، والأدوية المستخدمة في علاجها.كان للجراحة أهميتها في علاج أمراض العين المستعصية كالرمد الحبيبي وإعتام عدسة العين. ومن المضاعفات الشائعة لمرض الرمد الحبيبي إصابة أنسجة في قرنية العين، وقد اعتقد الأطباء المسلمون أن تلك الإصابة هي سبب المرض، لذا لجأوا إلى كحت تلك الأنسجة جراحيًا. كانوا يقومون بتلك الجراحة عن طريق "استخدام جهاز يبقي العين مفتوحة خلال الجراحة، ومبضع رقيق جدا للاستئصال" تقنية أخرى كانت تستخدم لعلاج مضاعفات الرمد الحبيبي، تسمى "الظفرة" (بالإنجليزية: pterygium)‏، كانت تستخدم لإزالة الأجزاء الثلاثية الشكل من الملتحمة البصلية على القرنية. كانت تلك الجراحة تتم عن طريق رفع الجزء المصاب بخطافات صغيرة، ثم القطع بمبضع صغير. كانت كلتا الجراحيتين مؤلمتين للغاية للمرضى ومعقدة التنفيذ بالنسبة للطبيب أو مساعديه.اعتقد الأطباء المسلمون أن إعتام عدسة العين ناجم عن الغشاء السائل الذي يقع بين العدسة والبؤبؤ. تتم الجراحة بإجراء شق صغير في بياض العين بمبضع، وإدخال أنبوب دقيق لدفع إعتام العدسة جانبًا. وبعد انتهاء الجراحة، تغسل العين بمحلول ملحي، وتضمد بقطعة من القطن غمست في محلول من زيت الورود وبياض البيض. كان هناك قلق من أن يعود الإعتام من الجانب ليعتلى العدسة مجددًا بعد العملية، لذا كان ينصح المرضى بأن يستلقوا على ظهورهم لأيام بعد الجراحة.

 

(الصورة : تشريح العين في المصادر الطبية العربية)

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

هناك بحوث وكتب كثيرة عن بواكير الطب العربي، وطب العيون، وقد أعتمدنا على مصدرين من أكثر المصادر رصانة.

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

على حافة النهاية

 

ضرغام الدباغ

1

مؤشرات وبداية

في أواسط الشهر التاسع أيلول/ سبتمبر، وأنا عادة أستعد لأشهر الخريف، فالخريف يعني فيما يعنيه، أن الحياة ماضية في التجديد، ومؤشرات الرحيل ظاهرة بدرجات متفاوتة، فالأشجار حتى المعمرة منها، الباسقة والقوية منها، أزف وقت رحيلها، فتنفض أوراقها الصفراء الذابلة، التي حان وقت سقوطها، تتوهج صفراء منذ أسابيع ولكنها لا تتساقط بسهولة، بل وحتى في رحيلها تمنح الحدائق في المدن والغابات منظرا جميلاً، وبالنسبة لي، معظم الاحداث المؤسفة حدثت في الخريف.

 

وهذه المرة في خريف 2023 كنت في اسطنبول والأمر ابتدأ معي بألم في الجانب الأيسر من الرأس، حسبته في اليوم الأول على أنه مجرد صداع، ولكن في الأيام اللاحقة والصداع يلازمني ولا يزول، ولا يزيد بشدته، فالأمر على الأرجح شيئ آخر .... فما هو الشيئ الآخر ...؟ كان هذا المؤشر الأول وصفارة الإنذار التي لم نتعامل معها بما تستحق من الأهمية، رغم أني كنت قد قرأت منذ وقت بعيد، أن كل ما يصيب الأنسان بعد الأربعين من العمر، عليه أن يأخذه مأخذ الجد والاهتمام ... فأربعون عاما من العمل المتواصل دون لحظة استراحة شيئ يستحق الانتباه، القلب ينبض والدماغ يستقبل ويبعث بمؤشرات، هذا غير أعضاء مهمة تعمل على أفضل ما تكون عليه التكنولوجيا .... الكبد والكلى، والرئة، والمحرك الكبير ... القلب ... أنها تكنولوجيا دقيقة للغاية، ولكن ليس هناك شيئ أبدي

 

توفي جدي وهو في حوالي المئة من العمر، بسرطان في الدماغ، وتوفي والدي بسرطان الدماغ ايضاً، إذن فليس من المستبعد أن يصيبني نفس الشيئ، وأنا في الثامنة والسبعين من العمر، (فأنا من مواليد 6 / تموز ــ يوليه / 1944) ووالدي أصيب وهو السبعينات من العمر، ولكني اذكر أني حين قرأت مذكرات والدي بعد وفاته (كان يواظب على كتابة يومياته منذ شبابه وحتى وفاته) ، فوجدت أن مستوى خطه يتراجع بشكل ملحوظ، وهو صاحب الخط الجميل الأنيق .. حتى أصبح خطه قبل وفاته مجرد خربشات لا تكاد تفهم، ثم كفت قدرته نهائيا وتوقف قبل وفاته بأشهر عن القدرة على الكتابة. ولكن مستوى خطي انا لم يتأثر باللغتين العربية والألمانية، لذلك استبعدت أن أكون مصابا بالسرطان، ولكن مع ذلك فالأمر يستبعد أن يكون شيئاً بسيطاً وعابراً .

 

ولكن حدث يوم ( 18/ سبتمبر) أن سقطت على الأرض، واستبعدت زوجتي أن يكون الأمر بسيطاً لذلك قصدنا مستشفى تركي، ولكني بدأت أتحسن في اليوم الثاني والثالث حتى بدون تناول علاج، ولكن لا خلل ملحوظ في حركة الساق واليد،، لذلك صممت على الخروج من المستشفى، وكانت زوجتي مضطرة للذهاب إلى برلين، لذلك سافرت على عجل (7 / نوفمبر) على ان ألتحق بها بعد أيام بحسب توفر بطاقة السفر(تمكنت من الحجز ليوم 16 / نوفمبر). وفي يوم 8 نوفمبر تفاقمت حالتي الصحية بحيث فقدت القدرة على النطق، وتحريك رجلي اليمنى، وذراعي الأيمن بدرجة شبه كلية، وفي 9 / نوفمبر لم أكن أستطيع أن أتكلم مع زوجتي في الهاتف فلم يكن بوسعي تلفظ كلمة واحدة بالعربية أو بالألمانية، أدركت زوجتي في الهاتف من برلين أنني في وضع محرج، فأسرعت بالقدوم بطائرة الفجر من برلين يوم الخميس (10 / نوفمبر) .

 

توصلنا لأسباب وجيهة إلى ضرورة السفر لبرلين، وتمكنا فعلاً ولو بصعوبة إيجاد مقاعد على طائرة الظهيرة (هناك 5 طائرات يومية من إسطنبول لبرلين يومياً) يوم السبت 13 / نوفمبر. وكانت مجازفة بدرجة معقولة ان نتعرض لجلطة جديدة اٌقسى من الثلاث السابقات، وقد تكون القاضية.

2

في برلين / مستشفى الشارتيه

على كل حال وصلنا برلين بعد ساعتان ونصف من الطيران، وبدا أن المحنة وضعت في طريق الحل، وأخذت من كرسي الدفع من باب الطائرة إلى سيارة تاكسي ومن باب المطار إلى البيت، وفي الطريق سألتني زوجتي، كيف سنصل إلى البيت / الشقة، وفي باب العمارة، أقترح سائق سيارة التاكسي الشاب التركي أن يساعدني بالوصول إلى الشقة ... يا له من اقتراح أخوي جميل، وفي اليوم التالي 14 / نوفمر بدأت الاتصالات عبر الهاتف، طبيبي العائلي أحيط علما وأرسل خطابا بواسطة البريد الالكتروني إلى إدارة مستشفى الشارتية (Charite) التي طلبت منا الحضور الفوري، وخلال دقائق كانت سيارة إسعاف مع طبيب اخصائي وممرض مختص في البيت وعاتبونا على التأخير ....!

فورا إلى الشارتية، وهي عبارة عن قلعة طبية، لها شهرة عالمية بجميع أقسامها، ومباشرة إلى قسم الجملة العصبية (Neurologie Abteilung)وبدون تأخير شخص الإصابة بعد تصوير شعاعي (CT Scan) جلطتان خفيفتان، وثالثة قوية، والأمر بحاجة إلى تدخل فوري وسيتم خلال دقائق.

لم أكن بوارد الرؤية والسماع وتشخيص ما يدور، ولكن شعوراً قويا كان يملأ كياني أنني بين أيدي خبيرة، لاحقا أخبرتني زوجتي، أن كبيرة الأطباء في المستشفى كان تقف فوق رأسي، وتسرع بنفسها لأخذي إلى قسم الاشعة، ثم تأخذ نتائج التحاليل والتهيؤ للعملية بنفسها تدخل وتخرج في غرف القسم، وهي تخفف من وقع الأمر على زوجتي، وقالت لها " أنظري يا سيدة الدباغ .... زوجك بحالة خطرة، فهو مصاب بثلاث جلطات، وجمجمته مليئة بالدم ..والخيارات أمامنا ليست كثيرة، وسنجري له عملية فوراً ستستغرق 6 ساعات، وسأفعل المستحيل لإنقاذه، ولكني أصارحك أن احتمال نجاح العملية هو 75% ، ولكني سأنجح ..... سأنجح... وسأعيده لك حياً ..."

أما أنا فكنت في عوالم أخرى، لا علاقة لها بالجلطات الدماغية، عوالم لا أختارها بنفسي، ولاأختار شخوصها، بل هي تفرض نفسها، صحيح أسمع كلمات، ولكني دماغي عاجز عن ربطها وتجميعها، فأنا لا أفهم ما يدور بدقة حولي، ولا أستطيع التفوه ولو بحرف واحد ....! ولكن دماغي المجروح والمتعب ما زال يطلق إشارات عدم الاستسلام ... يفكر ....! ويعانق من يريد .. البعيد عني 12 ألف كيلومتر. ليس ببعيد كثيراً ... آه منك ... فأنت أينما حللت في دمي ..!

كانت العينان تعملان بدرجة معقولة، ولكن تسجيل الاحداث في الذاكرة يبدو ضعيفاً، كنت أشاهد ما هو يقع تحت ناظري، ولكني لست متأكداً من قدرتي على تخزين المشاهد وربطها ببعضها واستخراج الصورة المنطقية، وكنت أعرف انني في الشارتيه، وأنهم يدخلوني في غرف ومختبرات، ويفحصون كل شيئ، وأسمعهم يحدثون زوجتي ويسألونها كثيراً، ولكن قدرتي على تخزين (save) ما اسمع ضعيفة جداً، أو لنقل معدومة، ولكن زوجتي تحفظ كل شاردة وواردة، وبوسعها استعادة شريط الاحداث صورة وصوت بدقة عجيبة ..

 

شعرت أنهم يأخذوني على السرير النقال إلى مكان ما، الطبيبة البروفسورة تدفع السرير بنفسها ...! ومعها زوجتي ..، قالت لي فيما بعد " كنت أشعر أنهم يسابقون الزمن .." أدخلوني لمكان ما .. شاهدت رجلاً يجلس على طاولة وكومبيوتر .. حاول أن يمازحني .. ولكني كنت مجرد كومة لحم لا غير .. لم أفهم بدقة مرامه، ربما أراد أن يبعث في هذه الكومة بعض الأمل .. كان يكلمني وهو لا ينتظر مني إجابة، حتى دخولي غرفة العمليات (في تلك اللحظة لم أكن أفرق بين هذه وتلك) كنت أسمع صوت زوجتي تحدث الفريق الطبي، بقيادة البروفسورة الطبيبة التي لعبت دورا كبيرا في إعادتي للحياة ... ثم لم يعد بوسعي سماع أو رؤية شيئ، دون ألم ودون إحساس دقيق مما يجري ...ولكني كنت أعرف من أنا وتذكرت في تلك اللحظات صور أهلي ووطني، ومرت في ذاكرتي المنهكة صور أخرى متلاحقة ... كنت أني على شفا النهاية ولم يكن بوسعي تحريك أي جزء من جسمي ... ربما زرقت بعدة أبر ... لا أدري ... ثم لا شيئ.....

 

كان معرفة الزمن قد أصبح ضربا من العبث، أو معرفة ما يدور بدقة، ويصح القول تماماً أني كنت لستة ساعات خارج الحياة ... وأنا أسجل الكثير مما دار بناء على ذاكرة زوجتي، والغريب أنها تتذكر كل شيئ بدقة تامة نص الحوارات .. وحتى ملامح وجهي و... تقول أنني كنت أحاول الحديث فلا أقدر .. أريد أن أقول شيئاً ولكني غير قادر على لفظ الكلمات .. وأحاول ذلك مرات ومرات ... تقول " كنت أشعر انك تتعذب، لأنك تريد قول شيئ ما قد يكون مهماً بالنسبة لك، ولا تقدر ..! فينتابك الغضب والعصبية ... وتجهش هي بالبكاء ... كنت أسكت أنا رأفة بها وبنفسي ...فأخاطب نفسي " ضرغام ... كنت عاقلاً وأفهم ما أنت فيه.. ومت بجلال قدرك ". ولكني أريد قول بضعة كلمات هي خلاصة حياتي .. ولكني عاجز عن التلفظ .. هو شعور مؤلم أكثر من الألم نفسه ...كنت أريد القول " بلغوا سلامي .. ومحبتي واحترامي ...أنا لست آسفا على شيئ ... سأقابل أصدقائي ورفاقي .. الذين قضوا في سوح العمل .. اريد أن أعانق (ع) وأقول له ... " لقد بقيت مخلصاً لأخر ثانية من عمري ..! سأموت وأنت وأسمك فمي وقلبي ... ولكن ليس بوسعي ان أنطق حرفا واحداً .... هذا هو الألم وليس شيئاً آخر ...!

 

في لحظة معينة .. ليس بوسعي ان أسجل ..ظروفها، حاولت أن أقرأ في نفسي شيئ من القرآن .. ولكني كنت اتوه بين الكلمات .. وكان ذلك يؤلمني... أحاول أن أستوعب ما يجري بالنظر إلى الغرفة / الصالة وبوسعي أن أتذكر أني وجدت نفسي في غرفة مليئة بالمعدات الطبية / الالكترونية، التي تقدم قراءات، وإضاءة خافتة من أجهزة كثيرة تحيط بسريري .... وأمامي نافذة أدركت أنها تمكن من يريد رؤيتي من غرفة مجاورة .. أدركت أنها إذن أنها ربما غرفة العناية المكثفة (Intensiv Station) في لقطة لا أتذكر متى وكيف وأين ... اقتربت زوجتي مني وقالت لي " ضرغام، أجروا لك عملية وأنت الآن في العناية المركزة " قالت لي فيما بعد، أنها قالت للمشرفين " دعوني اراه لثوان فقط أنا أعرفه أفضل منكم، سيغضب وينفعل ما لم يدرك ماذا يجري ويدور " فتركوها أن تقف امامي على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار، تلفظت بهذه الكلمات فقط وانسحبت ... حتماً كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، نحن الآن في 15 / نوفمبر، حتماً ... برؤية مفككة أرت أن أقول لها مشفقا عليها من التعب، " أذهبي للبيت ...". ولكني كنت عاجزا عن إخراج الكلمات ..

 

وكنت قد قلت لزوجتي بكلمات متناثرة، حين كان ما يزال بوسعي تلفظ ذلك ولو بتعثر بالنطق " أنظري .. أنا الآن في 78 من العمر ... ثقي لقد شبعت من الحياة، في العمل وفي النضال من أجل ما آمنت، وإن مت فأنا لم اسيئ لبشر في حياتي، وعملت بكل طاقتي لوطني وشعبي، ولكني أريد أن أعيش من أجلك ... أشعر أنك بحاجة لي "

 

قالت لي زوجتي فيما بعد " كنت أتمنى من الله أن تبقى حياً، ولو في حالة الشلل التام، وعدم القدرة على الحديث، .. أن تبقى على قيد الحياة فقط ... ضرغام لا تمت رجاء ...!".

لم اكن أستوعب بدقة ما تقول، ولكني لاحظت أنبوبا يمتد من رأسي حتى أعلى صدري بلون أحمر أدركت أنه مليئ بالدماء، وبصعوبة تشكلت صورتي على النافذة الزجاجية .. أنا راقد على السرير، ولفافة ليست كبيرة تربط جمجمتي، وخرطوم مطاطي يتدلى من الجانب الأيس، وحين حاولت بيدي اليسرى السليمة أن ألمس رأسي، أدركت أن هناك أنبوبا ثانياً ويتدلى منه كرة زجاجية بحجم رمانة صغيرة، أو حبة ليمون مليئة بسائل أحمر.. لابد أنه دمي .... فيما بعد أخبرتني زوجتى أنها ثلاث كريات بنفس الحجم مليئة تقريباً بالدم ... ثم علمت أنهم حفروا ثلاث حفر في جمجمتي ليسيل منها الدم خارجاً، ولست أدري إن كانوا قد سحبوا كمية أخرى من الدم ... ولكني لاحقا (في الأيام اللاحقة) تعرفت على صحفي ألماني (رئيس تحرير صحيفة محلية) بنفس حالتي تماماً تتدلى من جمجمته ثلاث كريات حمراء.....

إذن فاتنا قطار الموت ..... وتركني على رصيف المحطة بالانتظار .....!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)

الشاريتيه طاقمه الطبي (غير الإداري والهندسي) مؤلف من أكثر من 200 بروفيسور و4000 طبيب متخصص ذو كفاءة عالية يغطون كافة المجالات والتخصصات، 13 بروفسور حصلوا على جائزة نوبل ، ويدرس الطب في مستشفى الشارتيه 7500 طالب وطالبة مسجلون في الشاريتيه اليوم. وتتعامل مع 1،080،000 عيادات خارجية و 128،000 مرضى مقيمين في 3،500 سرير سنويا 14،400 أشخاص يعملون في مواقعها الأربعة في برلين .

 

المعلومات من الموسوعة الألمانية والأرقام تعود لعام 2021 / 2022

 

 

 

 

 

 

 

(الصورة : إحدى أقسام مستشفى الشارتيه / برلين )

 

3

برلين / مستشفى الفيزيوثرابي

 

عشرة أيام بعد العملية وربما أحد عشر يوماً، 24 ــ 25 / نوفمبر / 2022 رفعت الكرات الزجاجية، وبعد فحوص عديدة، رأى الأطباء أن العلاج الجراحي قد حقق أهدافه، ولكن يجب أن نبقى تحت العلاج الفيزياوي (Physio-therapie)   مستشفى خاص لم أكن قد سمعت بمثله من قبل، نقلت بسارة اسعاف متخصصة إلى المستشفى الفيزياوي التابع لمستشفى الشارتية الكبير، ويبعد عنه نحو 3ـ 4 كيلومتر، ويضم أطباء من مختلف التخصصات، يراقبون سير وتطور العلاج، لضمان عدم حدوث انتكاسة، وفي حالة أي تراجع في تواصل الشفاء يعاد فورا للمستشفى الكبير، ولكن هذا الاحتمال ضعيف، فالمرضى الخارجين من عمليات ثقيلة أو معقدة، يودعون على الأرجح للعناية الفائقة في هذا المستشفى.

العناية الفائقة تعني، فحص الدم يوميا ولأكثر من مرة، وقياس الضغط، والسكر، والوزن، وتفحص الأقدام والأيادي، وأي مؤشر ..! وموضع العملية الجراحية، ويراقبون كل شيئ بدقة تامة بما في ذلك الإقبال على الطعام، وتطور القدرة على الحديث والسير بالعكاز الرباعي،  فكل جزيئة في الجسد تحت السيطرة، والفحص اليومي ولعدة مرات في النهار والمساء يومياً.

 كل هذا يفعله طاقم مؤهل، مدرب، بكل لطف وتهذيب عال، واحترام لوضعك الصحي، وللأزمة التي تمر بها ..وشاهدتهم يفعلون ذلك مع مرضى بحالات صعبة، يحممونهم ويغسلون أطرافهم، بصبر، يعاملون المرضى بمحبة، وغالبا ما يطعمونهم بأيديهم، ويحتملون منهم ما ينجم من أوضاعهم ... كنت أدهش وأنا الذي عشت في ألمانيا سنوات طويلة.... يا لدقة هذا النظام .. ما أروعه، رئيس الأطباء يجلس على الأرض ويضع قدم المريض في حجره ويفحص أصابع قدمية بكل عناية ودقة، بلا استنكاف ولا تقزز، وأنت تكاد تعتقد أن هذا الشخص هو ممرض، أو خادم، فإذا به رئيس قسم أو رئيس الأطباء .. فتأمل ...!

بعد أن يتأكد الأطباء أن كل شيئ على أفضل ما يرام، يحال للعلاج الرياضي، فهناك قسم  يعمل فيه مدربون مهمتهم إعادة أعضاء الجسد الخاملة منذ فترة طويلة وإعادتها إلى الحركة وفق منهج مدروس بدقة، وهناك صالات تضم معدات كل فقرة منها تختص بالتعامل مع عضلة معينة، أو جزء من الجسد وتأهيله لإعادته للحياة بطرق علمية، وباستخدام أمثل للوسائط والعدد الرياضية، لإيصال المريض إلى درجة يستطيع المريض الاعتماد على نفسه بأعلى درجة ممكنة.    

حين تشاء الظروف   ويدخل الإنسان إلى مستشفى يتخصص بالعلاج الفيزيائي/ يكتشف أن القضية العلاجية ليست فقط إجراء عملية، وينتهي كل شيئ ... فأنا حين دخلت  مستشفى العلاج الفيزيائي كنت بالكاد أستطيع السير بضعة خطوات معتمداً على مسند معدني ذو أربعة ركائر، وهو يعادل عملياً أربعة عكازات يمكن استخدامه بالسير بخطى بطيئة وبحذر لبضعة أمتار فحسب، ولكني في المستشفى الفيزيائي، أحرزت تقدما سريعاً بحيث صار بوسعي أن استخدام الحمام لوحدي، وأمارس التدريب الرياضي بأشراف المدرب، وبالطبع يدرك المدرب، بسني الثامن والتاسع والسبعون، لا يدور في خلده أو في خلدي أن أساهم بفعالية رياضية متقدمة،  فبالنسبة لي السير لبضع مئات من الأمتار، ولو بعكازة، ولكن بدون ألام ، أو تشنج،  او القدرة على ممارسة أنشطة عادية هو كاف،

كان أطباء القسم قد خططوا لإقامة طويلة في المستشفى  تقارب الشهر أو أكثر، ولكنهم عندما وجدوا استجابة  مني طيبة، ففي اليوم العاشر خرجت أنا ومدرب الرياضة ومشينا حول الغابة التي تحيط بالمستشفى، وأقسام أحرى داخل محيطه، وهو يسألني بين الحين والآخر إن كنت قد تعبت .. ولما كان كل شيئ على ما يرام، احالوني لمستشفى آخر أقل كثافة في المراقبة الصحية والغذائية، ومستوى الاستيعاب العقلي، وبدأوا معي من الصفر تقريباً، في القراءة والكتابة، وفهم واستيعاب ما أسمع. فعلوا ذلك بصبر، وباحتراف مهني عال للغاية، في وكانت كافة المؤشرات وخاصة السكر والضغط، ومؤشرات المستوى الفيزيائي جيدة جداً تقرر احالتي بعد 10 ــ 12 يوماً  لمستشفى (العيادة اليومية) للعلاج الطبيعي،

 

 

4

برلين / مستشفى تاغس كلينيك

8 / ديسمبر ــ كانون الأول ... في مستشفى / العيادة اليومية (Tagsklinik) :  ويقع هذا المستشفى ضمن نطاق المجمع الطبي التابع للشارتية أو بإشرافه، ولا يبعد سوى نحو 200 متر عن المستشفى الفيزيائي،  والذي يضم عدد من الأطباء، المختصين بالصحة العامة، والتغذية وخبراء تأهيل بدني، يحال إليه المرضى الذين مروا بمرحلة صعبة (عمليات دقيقة) وهم بحاجة لإشراف دقيق في تناول العلاج، أو في نوعية الغذاء، لذا يقدم المستشفى وجبة الفطور، ثم وجبة الغداء، وهي وجبات مشبعة، والقهوة والشاي والفواكه في أوقات متفرقة، ونسبة السعرات الحرارية (kalori)مدروسة بحسب حاجة كل مريض بلا زيادة ولا نقصان، فالغذاء الذي يقدم في الوجبات يختلف في قوامه من مريض لأخر بحسب وضعه الصحي،.

حالما يلتحق المريض بالمستشفى، ينسب بالالتحاق بمجموعة تتألف عادة من 6 ـ 7 أفراد يجلسون في غرفة ولكل طاولته ومعدات شرب الشاي والقهوة، والمياه المعدنية متوفرة دائماً. رجال ونساء  محالين من مستشفيات(غالبا ممن تجاوزا الخمسين من العمر)، بعد تلقيهم العلاج والرقود في المستشفى، وفي الانتقال إلى هذا المستشفى الذي يتميز أساساً أن المرضى لا يرقدون فيه، بل يداومون من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة 16,00 (الرابعة عصراً) وتنقلهم سيارات (باصات 6 ــ 8 راكب)، من بيوتهم للمستشفى، وبالعكس. فالمرضى لا يرقدون في المستشفى إلا نادراً، ولا أعلم ما هي تلك الحالات التي توجب الإقامة في المستشفى، ربما أن المريض قد يعاني من مشكلات معينة في السكن، أو لا يتوفر شخصاً يساعده في البيت.

وبتقديري أن هناك إلى جانب التأهيل العلمي المتقدم والممتاز، للأطباء ومساعدين الأطباء، وجهودهم الكبيرة في إطار التأهيل البدني والعقلي، لست على اطلاع تام كيف وما هو المستوى الذي تلقاه العاملون، ولا شك أنه مستوى متقدم، فكافة تصرفاتهم تنم عن خبرة عميقة وتجارب كبيرة تمكنوا من وضعها في إطار علمي، واستفادوا منها، وها هم يقدمون الخدمات الممتازة  للناس.                                                                                                                                                                                                     

المجموعة (Grupp) التي يلتحق إليها المريض لديهم برامج علاج مختلفة، فالعلاج الذي تبدأ الساعة الأولى 9 صباحاً، وحتى الساعة الرابعة عصراً، تشتمل على استعادة اللياقة البدنية والقدرة على المسير بمساعدة آلية (عكازة ــ عجلة دفع ذات إطارات، يمكن استخدامها للجلوس أيضاً) والفكرة الأساسية للعلاج هي إيصال المريض لمستوى يستطيع الاعتماد على نفسه سواء كان يعيش بمفرده، أو مع شخص آخر في السكن. ولكن بصفة عامة يعاني أفراد المرضى من صعوبات في الحركة. بسبب إصابات لحقت بهم من خلال حوادث، أو الوضع الصحي للمريض بسبب التقدم في السن. ومن المهم أن نذكر، لا يعتبر المرء طاعناً  في السن في ألمانيا، فالإنسان في سن السبعين في السن، أو في الثمانين،  ولا يعتبر شيئاً استثنائيا إلا إذا تجاوز المائة عام في عمره.                                      

يبدأ برنامج المريض (كل حسب وضعه الصحي) فهناك أنواع من التدريبات، البدنية وتسمى فيزيوثرابي، تهدف لاستعادة أجزاء الجسد لقدراته الحركية،  وهناك العديد من الوسائل المنتقاة بعناية ودراسة دقيقة لحالة المريض، ومن التمارين ما تتم من حالة الجلوس أو الرقود، أو باستخدام معدات وتقنيات رياضية، أو تمارين من الحركة، تبدأ بصعود وهبوط السلالم، أو المسير، أو السباحة، والشباب أو الشابات اللاتي يقمن بدور المدرب، كلهم من خريجي معاهد درسوا لا يقل عن ثلاث سنوات، في تخصص الفيزيوثرابي.

وهناك من التدريبات ما تعيد إلى الذهن قدارته، وهذه مثيرة فعلاً للاهتمام، إذ يحاول المدرب أن يعيد للمريض قدرته على التذكر من خلال تمارين منتقاة بعناية فائقة وبأسلوب علمي، كيف ..؟

ابتداء يتعرف العاملون على القدرة الذهنية الحالية للمريض،  وإذا كانت قد تراجعت (وهي سبب وجود المريض في هذا المكان) ، فإلى أي مستوى ..؟ ومن أين نبدأ ..؟  

يتحاور الخبير، أو الخبيرة حول موضوعات مختلفة، ثقافية واجتماعية وفنية(بحسب مستوى المريض الثقافي والدراسي)، ومنها يتعرف كم فقد المريض من قدرات، ثم طريقة لفظ الكلمات، وهل يستطيع أن يدير حواراً طويلاً، وهل صوته وحديثه مفهوم ...! وبعدها سيحاولون أن يتعرفوا على خط المريض ... وهل تراجع، هل يتقدم وبأي مستوى ...؟

فيما يحاول الخبير / المدرب البدني أن يتعرف على نقاط الضعف في الجسد، وفي الحركة، فمثلاً أنا أعاني منذ سنوات كثيرة (منذ 2005) من ضعف في السمع (الأذن اليمنى) وهم حاولوا أن يعرفوا هل تراجعت القدرة السمعية، وما هي درجة تأثيرها على التوازن والسير. ركزوا كثيرا على طريقة صعود السلالم ... وضرورة أن أمسك بيدي حاجز السلم، ولا أنسى مطلقا مدربة في العشرينات، تتوسلتني بعين دامعة " رجاء .. رجاء سيد دباغ .. رجاء أنتبه حين تصعد السلالم، لا تستعجل رجاء، وأمسك الحاجز .." كانت البنت تعاملني وكأنني والدها .. بمحبة واحترام ولطف بالغ ...! وحقا أنا أتذكرها الآن فعلاً كلما هممت بصعود الدرج ...!

المريض يشعر تماماً أن الأطباء والممرضين يفعلون كل شيئ أو لتحسين وضعه الصحي، مع الممنونية (With pleasure ) بل شاهدت بنات صغيرات (مدربات) يدللن مرضى ومريضات مسنات بطريقة عاطفية، ويجلبن الابتسامة لوجوههن المتعبة، هذا عمل يفوق ما يطلبه الواجب مقابل الراتب .... هو عمل إنساني رفيع مبهر ... كنتا أقف معقود اللسان عاجز عن التعبير حيال ما يبذله حفنة من الشباب والشابات يديرون مؤسسة كبيرة في حجمها وانتاجها .. .لا أثر ولو لمليمتر واحد للرأي الشخصي، أو السياسي، أو الثقافي،.... ما هذا..؟ أهو النظام أم التقاليد، أم هو نتاج تدريب رائع لهذا الكادر الذي يقوم بواجبه بأروع ما يمكن .... كل شيئ يدور حسب المنهج ولا خروج عليه قدر أنملة، هذه المؤسسة تدور كساعة رولكس بالغة الدقة.

كافة الفرق، والمدربين كانوا يعملون وفق خطة موحدة يكمل جهد بعضهم، البعض الآخر .. حتما الجهد التنسيقي بين أعمالهم موجود يتمثل بالمديرة ونائبتها، ورئيسة الممرضات(معظم الكادر العلاجي من النساء)، ينسقون فيما بينهم، ويضعون لكل مريض برنامج يراجعونه بين فترة وأخرى ليقفوا على التطور ومدي استجابة المريض ... وهذا لا يدور في نطاق هذا المستشفى (تاغس كلينيك) فقط، بل بين المؤسسات الثلاث الذي تعاملت معها، وفي النهاية يكونون صورة قد لا أعرفها عن نفسي، ولكن مجموعة الأطباء والخبراء والمدربين في المستشفيات الثلاث وكأنهم فرقة موسيقية يعزفون سمفونية رائعة .... وخلال أيام العلاج يكونون فكرة دقيقة جدأً عن المريض، صحته، قابلياته، ثقافته، معنوياته، أبعاد شخصيته، وقدرته على تحدي المرض ..قوة إلإرادة  عنده على الحياة،

جماعة مطبخ المستشفى صاروا يعرفوني، وصاروا يعدون لي طعاماً خال من لحم الخنزير، والألمان يعلمون ذلك ويسمونه (Halal)  "حلال" ويقدمونه بود لي، لفم لأقل لهم شيئاً، فهم عرفوا كل شيئ خلال الدقائق الأولى لحلولي في المستشفى ,,, لا أستطيع بكلمات صغيرة، سواء في العاملين في " تاغس كلينيك " أو في الشارتية عموماً.

نعم كنت مشتاق للحياة العادية، أن أتمكن من الذهاب للمطاعم، أن أجلس في مكتب، أن أحاول أستعادة قدراتي الكتابية، أن أشتفل بالكومبيوتر ..ولكني حين غادرت  مستشفى تاغس كلينيك .. عز على فراق هذه الملائكة ..!

بعد خروجي يوم 7 / كانون الثاني ــ يناير / 2023 بأسبوع ذهبت لمستشفى تاغس كلينيك، مع زوجتي، وشعرت نفسياً أنني مدين لهذه المؤسسة، لأني خرجت أسير على قدمي ..! أخذت معي باقة زهور كبيرة، استقبلتني المدير في صالة المستشفى عندما علمت بأني قد حضرت لتحية العاملين، خرجت من غرفتها بسرعة وعبرت عن شكرها لزيارتي وقدمت لها شكري العميق وللعاملين من أطباء ومساعدين، وعاملين، ووضعوا باقة الزهور على طاولة واضحة في صالة الاستقبال مع بطاقة تشير إلى هذه الزهور هي هدية من الدباغ وزوجته للعاملين والمرضى في المستشفى.

Description: Description: Ein Bild, das Text, Gelände enthält.

Automatisch generierte Beschreibungنحن نتعرف على الناس، يتفاعلون معنا، يشعرون بآلامنا، يحاولون جهدهم إخراجنا من الأزمة الصحية التي نشعر بها... حريصون على صحتنا، يهمهم رأينا بخدماتهم، ويودون بلطف أن يسمعوه .. أنا سأقوله بوضوح وأخشى أن لا تكفي الكلمات للتعبير .. لذلك سأختصرها. بكلمة واحدة ....

" شكراً شارتية ... شكراً مستشفى فيزيوثرابي، شكراً تاغس كلينيك ... شكراً جزيلاً ".

Danke Charite, Danke Physiotherapie, danke Tags Klinik... vielen Dank ."

Thank you Charite, Thanks physiotherapy, thanks Tags Clinic... Thank you very much      ."

 

أفلام تفتقر للواقعية

ضرغام الدباغ

أشاهد، عرضاً مشاهد من الأفلام يقدمها الانترنيت ، والشائع في هذا العصر، افلام تحرض الشباب على القوة وامتلاك القوة البدنية الخارقة، وحتى بدرجاته الخرافية، فتشاهد بطل الفلم يمتلك قدرات غير عادية بدرجة تنطوي على السخرية، مشاهد قفز ولقطات أكروبات بعضها خيالي، والأفلام الأمريكية أيضاً زاخرة بمشاهد من هذا النوع، ولكن السينما الالكترونية تسهل ترتيب تلك اللقطات، فيبدو لك البطل رامبو الجندي السابق في القوات الخاصة الأمريكية يجترح البطولات الخيالية، الغير معقولة، رغم أن تاريخ القوات الخاصة الأمريكية يفتقر إلى المنجزات المهمة ذات الطابع الأسطوري، ولكن الشبان والمراهقون لا يبحثون عن المعطيات التاريخية.

ولكن الأفلام الهندية يغلب عليها هذا الصنف أو لنقل في الكثير منها، وهم يقلدون الأفلام الأمريكية والصينية، وفيما يحاول المخرج الهندي أن يقدم عملاً يحاكي به الأفلام الأمريكية والصينية، فيأتي إنتاجه شيئا يبعث على الضحك، فالعمل الصيني فيه مبالغة ولكن العمل الهندي يتحول من أفلام القوة والعنف إلى شيئ يثير المرح ..

 يكتب منتجوا بعض الأفلام عبارة تحذيرية هي عبارة عن نصيحة ثمينة لمن يقدرها حق تقديرها  النصيحة هي : " لا تجرب هذه اللقطات في البيت ". .... بعبارة وجيزة " هذه الألعاب ليست سوى خيالات محمومة ..... الهدف الابتدائي لها هو التسلية، أما الهدف الأبعد فهو خلق جيل سطحي الأفكار شرس، لا يهتم بالقضايا الاجتماعية العميقة من حيث جذرها الاجتماعي / الاقتصادي. منتجوا الأفلام هم فئة الغالب فيهم اليوم هم قناصوا أرباح وليسوا أتباع مدرسة فنية، ويجدون في أعمالهم توافقاً مع توجهات قادة المجتمع البورجوازي، الرأسمالي الغربي، وأعمالهم ما هي إلا قنابل دخانية لصرف الأنظار عن ما يدور جوهريا في المجتمع ...... والتقدم التكنولوجي هو لخدمة أرصدتنا وليس للتثقيف الفني ....!

لا أعتقد أن في مشاهدة هذه الأفلام هدفاً تربوياً مهماً، رغم أنها تنطوي على مفاهيم اجتماعية، إلا أن العنف المفرط هو ما يجعل الشباب يقبلون على مشاهدتها ... الامر يستحق بتقديري اهتمام التربويين وعلماء الاجتماع,.... لا تلعبوا ألعابا صعبة فتتورطون بالنتائج .....!

 

3 / نيسان / 2023

 

 

 

صراع سياسي في روما :

 بدء أفول موسوليني

 

د. ضرغام الدباغ

 

 

كانت لهزيمة دول المحور تداعياتها، إذ احتلت قوات الحلفاء في صيف عام 1943 جزيرة صقلية وعلى اثر ذلك تصاعدت حملة الانتقادات في صفوف الحزب الفاشي الإيطالي ضد سياسة موسوليني، ترى هل يستطيع الدوتشي الصمود ؟

*             *                *                 *

كانت الأخبار الواردة من الجبهات مقلقة. ففي 11/ حزيران ـ يونية / 1943 هاجمت قوات الحلفاء جزيرة بانتليريا الإيطالية، ذات المكانة الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط المقابلة للسواحل الأفريقية، والتي كانت تعد من الأهداف الصعبة المنال، وبعدها بأسابيع فقط، ابتدأت الحملة على صقلية، وأستقبل السكان القوات الأمريكية والبريطانية كمحررين. وفي 18/ تموز ـ يولية عاشت روما أولى الهجمات الجوية الكثيفة القوية التي ألحقت أضرار فادحة في العديد من أجزاء المدينة وأثارت الرعب بين السكان.

 

وفي هذه الظروف الصعبة تنادت الشخصيات القيادية في حزب موسوليني لعقد اجتماع أزمة للمجلس الفاشي الأعلى، وهو أعلى هيئة قيادية في الحزب الفاشي (يحكم إيطاليا منذ 1922)، وكانت هذه الهيئة لم تعقد مؤتمرها منذ عام 1939، وكل شيء كان يشير إلى أن نجم موسوليني الدكتاتور الذي سطع في إيطاليا منذ 21 عاماً قد بهت وبدا خافتاً وينذر بالأفول ! لذلك أخذت الحيرة حيناً والتردد تهيمنان على الدوتشي(وهو لقب موسوليني) وعلى تصرفاته كما تنتابه حيناً آخر العصبية والهياج.

 

وهنا بدأ خطراً آخر يهدد موسوليني:

الملك عمانؤيل الثالث الذي كان حتى هذا الوقت يبدي الولاء للحزب الفاشي، ها هو قد ابتدأ بإقامة الصلات السرية بواسطة وزير بلاطه أكواروي مع رئيس أركان الجيش أمبروزيو، وبدأ بترتيب الخطط من أجل عزل موسوليني. وقد ابتدأ الأمر على أنه تنظيم معارضة داخلية ضمن صفوف الحزب الفاشي ضد قيادة وديكتاتورية موسوليني.

 

وكان من أبرز الذين تصدوا لهذه المهمة هو دينو جراندي عضو المجلس الأعلى والمتصدي الأول لحملة الانتقادات الموجهة ضد موسوليني، الذي أخبر الملك بالخطاب الذي قد أعده تحريرياً ليكون مشروع قرار للاجتماع الذي سيعقد في 24 / تموز ـ يوليو، والذي بموجبه سوف يعزل الدوتشي.

لكن ترى هل سيستسلم موسوليني لمحاولة العزل هذه ببساطة ؟ ولم يكن الأمر مضموناً حتى لو كان لدى جراندي الأكثرية في المجلس الفاشي الأعلى لتمرير وإنجاح مقترحه. وبهذا يمكن القول أن خصوم موسوليني كانوا يلعبون لعبة خطرة، وذات نتائج مجهولة !

 

ليلة المؤامرة

في 24 / تموز ـ يوليه / 1943، وهو يصادف يوم السبت، خيمت حرارة صيفية فوق روما، فيما كان التوتر يسود أعضاء المجلس الفاشي الأعلى، كان جراندي بحاجة حتمية إلى رفاق يتحالفون معه من أجل عرض مشروعه، لذلك لم يكف عن أجراء المحادثات الموثوقة مع القادة الآخرين للحزب الفاشي، بل وحتى صهر موسوليني (زوج أبنته) جالبازو شيانو، أبدى المعارضة للدوتشي.

 

في الساعة 1700  (الخامسة مساء) أنعقد اجتماع 28 من أعضاء المجلس الأعلى يرتدون ملابسهم الرسمية السوداء في قاعة الاجتماعات في القصر الذي يعمل فيه موسوليني في ميدان فينيسيا، على مرمى حجر من المبنى الروماني التاريخي الفخم، الكابيتول، وكانوا يريدون طي الصفحة الفاشية ويضعون نهاية لهذه الحقبة. ولم يكن معلوماً لديهم حتى اللحظة (علم فيما بعد) أن جراندي كان قد استعد لليلة الخناجر الطويلة (1) بمسدس وقنبلة يدوية، ولكن لم يحدث ما يستحق هذا الحذر، بل أن موسوليني كان يدرك بعمق وهو السياسي الذكي والمثقف الظروف والتهديدات، لذلك فهو تردد في اعتقال خصومه.

 

وفي مجرى جلسة المساء الدرامية، واجه الدوتشي حملات لا رحمة فيها ضد سياساته وشخصه. وقد أتهمه جراندي، الذي كان العنصر الأساسي في الاجتماع، أتهمه بأنه قد خان من خلال شخصه وتصرفاته المبادئ الأساسية للفاشية، وطرح للتصويت مقترحاً: تقديم موسوليني للقضاء.

 

وكان هذا القرار يقوم على قاعدة: دعوة الملك هو رأس البلاد الأعلى في إطار الحقوق الدستورية، وكذلك بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى تحمل هذه المسؤولية. وقد رأى جراندي في ذلك الإمكانية الوحيدة، إلى جانب الحكومة، في الحيلولة دون خطر الانهيار العسكري للبلاد، وفي التمهيد لمفاوضات وقف أطلاق النار وإقامة الهدنة.

 

وحاول موسوليني مع رفاق حزبه الحيلولة دون الوصول إلى مثل هذه النتيجة، وأن لا ينسحب من جانب واحد من التزامات التحالف ومواصلة الحرب إلى جانب ألمانيا. ولكن شيانو(وزير الخارجية وصهره) أحبط هذه الفكرة بالإشارة بأن ألمانيا تخدع إيطاليا منذ بدء الحرب، وهي في الجانب المخان وليس الخائن !

 

تسعة عشر صوتاً ضد الدوتشي

عندما حاول موسوليني بحلول منصف الليل إنهاء الجلسة وتأجيلها، من أجل كسب الوقت، أعلن جراندي، بأنه سوف لن يترك أحداً يغادر القاعة قبل اتخاذ القرار، وهنا أعلن موسوليني عن فترة استراحة لكي يتسنى له إجراء مشاورات، والتصدي لمؤامرة خصومه، ولكن الدوتشي كان ما يزال تحت وطأة شعور، بأنه سيتعامل مع حملة الانتقادات الموجه ضده وينته منها. وحيال مقترح جراندي، حاول موسوليني اللجوء إلى التحايل بأن يسحب العناصر التي لم تقرر موقفها إلى جانبه بقوله: " إن مفتاح الأزمة في رأسي، ولكني سوف لن أفصح عنه " وعندما أجري التصويت لم يعد هناك من شك: ففي الساعة 2،45 فجراً كانت نتائج التصويت 19 صوتاً لجراندي مقابل 9 أصوات لموسوليني، لقد خلع الفاشيون زعيمهم، وأنتهي الاجتماع دون أن يتمكن الدوتشي من اتخاذ قرار ضد المؤامرة.

 

المحاولة الأخيرة لموسوليني

كان معظم المتمردين ال19 ضد موسوليني يعتقدون بأنهم سيتعرضون للاعتقال، ولذلك فقد بادروا إلى الاختفاء في اليوم التالي عند أصدقائهم ومعارفهم، فيما كان موسوليني ما يزال يعتقد بإمكانية حل الأزمة سياسياً. والمبادرة الوحيدة التي قام بها حيال هذا الوضع، هو طلبه من الملك تقديم موعد المقابلة التقليدية معه إلى يوم الأحد في الساعة 1700، وقد تم إبلاغه، بأن البلاط يعول أهمية على أن يحضر موسوليني مرتدياً الملابس المدنية.

 

مضت سيارة موسوليني في الوقت المحدد بدقة باتجاه فيلا سافويا، وهو مقر بلاط الملك في روما، دون تحسب للوضع غير الطبيعي، وقد جلب موسوليني معه بعض الأوراق التي تثبت أن التصويت على قرار المجلس الفاشي الأعلى ليس مهماً، وكان يريد أن يقنع، أو يحمل الملك فيكتور عمانؤيل الثالث، أن يسلمه القيادة العامة للقوات المسلحة التي كان قد استلمها منه منذ قيام القوات المسلحة الإيطالية بغزو اليونان عام 1940، وأن يعيدها إلى الملك. واعتقد موسوليني إن هذا الإجراء سيجعله حر اليدين في ميدان السياسة الداخلية.

 

كما أن الدوتشي أعتقد أن إعادة شاملة لتأسيس مجلس الوزراء الذي سيكون واجبه الرئيسي إنهاء الحرب، وهو، موسوليني، كان يأمل أن يجنب إيطاليا الاندحار العسكري. وقد تحدث موسوليني في ذلك هتلر في إمكانية التوصل إلى سلم منفصل على الجبهة الشرقية، الأمر الذي سيعزز مكانة المحور في الجناح الجنوبي ضد الحلفاء.

 

التفاوض

أرغم الملك فيكتور عمانؤيل الثالث موسوليني على الاستماع إليه ولم يمنحه الفرصة للحديث، بل ابلغه باختصار، بأنه وبسبب الموقف العسكري المتأزم والمتدهور، والتطورات التي جرت خلال 24 ساعة المنصرمة، أحداث ترغمه على خلعه من منصب كرئيس للوزراء، وأنه قد عين المارشال بادوليو كخلف له. وفي هذه اللحظة فقط أدرك الدوتشي بأنه قد خسر المعركة من أجل السلطة، ونهض خارجاً يرافقه الملك صامتاً.

 

وكان مستشارو الملك عمانؤيل الثالث قد أقنعوه، بأن اعتقال موسوليني سيكون بسيطاً ودون ضجة أو مقاومة، وكانت منطقة القصر وما يحيط بها قد استعدت لمثل هذه الحالة، والسيارات المرافقة للدوتشي كانت كالعادة أمام البوابة الرئيسية، خارج مكاتب القصر، فيما استدعي سائق سيارة موسوليني بحجة مكالمة هاتفية، حيث ألقي القبض عليه.

 

وعندما أراد موسوليني التوجه إلى سيارته، تقدم إليه ضابط برتبة رائد يحمل غدارة، وأدلى بهذه الكلمات: " أن جلالته قد أمرني أن أتولى حماية سيادتكم " وطلب إليه أن يصعد سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر.

 

لم يبدي موسوليني أي مقاومة، ومن مدخل جانبي غادرت العربية موقف السيارات لقصر فيلا سافوي إلى هدف مجهول. وبهذا الأسلوب السياسي/ ألتآمري غادر موسوليني المسرح السياسي الذي هيمن عليه لمد 21 عاماً.

 

مصرع موسوليني

أثارت إنباء سقوط موسوليني الفرحة والابتهاج بين صفوف الإيطاليين، ولكن النهاية المفاجئة للديكتاتور لم تكن تعني نهاية قريبة للحرب، بل إنها قسمت البلاد من الشمال والوسط والجنوب الإيطالي الذي حرر من قبل قوات الحلفاء ولكن بخسائر فادحة. وفي 12 / أيلول ـ سبتمبر / 1943 تمكنت وحدات من القوات الخاصة الألمانية من مداهمة السجن في جرانزازو وتحرير موسوليني. الذي نجح بتأسيس حكومة تابعة للألمان في جاراداسا لمواصلة الحرب.

 

ولكن كل شيء أنتهي في نهاية ابريل 1945 عندما القي القبض عليه مع عشيقته من قبل الأنصار، واعدم رمياً بالرصاص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1) ليلة الخناجر الطويلة، هي الليلة التي صفى فيها هتلر خصومه في الحزب النازي الألماني والعبارة هنا للتشبيه ـ المترجم)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر

Wie geschah es Wirklich

Reader Digest  /  The Beste

1990 Stuttgart

 

 

المركز العربي الألماني

برلين

لعبة الشطرنج الأخيرة

 

ضرغام الدباغ

 

بعد أيام .. سيتم الاحتلال عامه العشرون ... وماذا بعد ....!

الاحتلال ومن معه ومن خلفه ومن يهرول في ركابه لم يستطيعوا تفسير وتبرير العدوان الذي سيسجل بأسمائهم وفي تاريخهم بحروف بارزة، فشلوا في تحقيق أي شيئ برغم أن تحت تصرفهم نحو ترليون و250 مليار دولار، وقتلوا واغتالوا في المحاكم  (الصورية) وخارجها عشرات بل مئات الألوف، وشردوا الملايين بين مهاجر ونازح، وباعوا الصناعة العراقية كحديد خردة، جرفوا البساتين والحقول والاراضي الزراعية، وفاق ما يرتكبون كل ما هو مدون في قانون العقوبات، من جنايات، وجنح، والعيب والحرام.

ومع كل ذلك لم يتمكنوا من العراق ومن شعبه ... دمروا بأنفسهم شرفهم الوطني ...

هل لأن العراقيين أتحدوا وقاوموا هذا التعسف التاريخي..؟ هل لأن العراق لقمة أكبر من بلعومهم ..؟ نعم، ولكنهم فشلوا قبل كل شيئ، لأن مشروعهم مستحيل وغير تاريخي، فشلوا لأن كل من وضع يده في هذا قدر الاحتلال، لم يعد نظيفاً، ولأنه مشروع يفتقر للنظافة... وبالتالي الاحتلال لم يستقطب إلا من أمثاله، وبضعة ممن خدعوا ثم استفاقوا وتابوا ..

كنت أتجاذب وصديق لي أطراف الحديث، نتجول في الأفكار والمواقف، وما يشاع ويقال هنا وهناك، والأيام حافلة بالأخبار، ومنها ما يدور في العلن، وأكثرها من وراء الستار، وخطر ببالي الفيلم المشهور، " التانغو الأخير في باريس " (Last tango in Paris) وتوصلنا هو وأنا، أن الموقف بات في غاية التأزم، وكما يقال بالبغدادية " قفلت الدومنة "، فقلت لصديقي يبدو أنها " آخر لعبة شطرنج ".

لماذا آخر لعبة شطرنج ...؟

إنها  اللعبة الاخيرة، لأنه لم يعد هناك لاعبين كثر في الميدان، كلهم تعبوا، وقد تعددت الساحات والميادين وضاقت الخيارات والعبارات، والبطل الوحيد الصامد صمود الجبال الرواسي هو الشعب العراقي، اليوم ينسحبون ليس لأنهم شرفاء، بل لأنهم عجزوا عن تحقيق ما يريدون،  ولأنهم يحاولون غسل ولو سنتمتر مربع واحد من عارهم، العار الأمريكي في العراق يخرسهم عن الأدعاء بالنزاهة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمخرج الكبير يقلب عينيه في أكثر من مكان وزاويا العالم، فبعد أن كان يعتقد أنه سيحكم العالم بنظام عولمي محكم، لم يستغرق الأمر أكثر من عقدين أو ثلاثة، صار يبحث عن الأمن على سواحل بلاده ...! ولهذا فهو مضطر لوضع أولويات وخطوط جديدة .. خطوط خضراء، وبنفسجي، وصفراء، وحمراء، نتفاوض في بعضها، وقد نتبادل في أخرى، ونتأهب في أخرى، ولكن في الخطوط الحمراء نقاتل ..! ومن تلك أنه أبلغ حلفاؤه أن ليس بوسعه مواصلة تأمين السقف السياسي والعسكري لمغامرتهم، فليبحث كل عن مصالحه بطريقته، فحليفه الصهيوني يقنع نفسه أنه باق ... وهو يعلم أن صفارات التنبيه أطلقت تحذيرها ...وحليفه نظام الملالي أصابه الإنهاك، وقد اشتعلت النيران في بيته وتلابيبه .. وضاقت المساحات عنده، فراح يرمي بصره شرقا وغرباً لعل هناك من ينقذه يخلصه من ولو بتكلفة مناسبة، تبقي رأسه فوق سطح الماء .....

يا شعبنا العظيم .... لله درك .. ما أعظمك ..

ناضلت بعنفوان وصبر كما في كتب الأساطير ..

أتحدوا .... أتحدوا .... أتحدوا ...

الاحتلال ينهار، وصنائعه يفرون والمجد لكم التاريخ لكم، والعراق لكم ...!

 

 

الصراحة المرة

 

ضرغام الدباغ

 

في الصباح الباكر، كنت أستقل الباص في عاصمة أوربية ، حين صعد شاب أفريقي يبدو عليه التعب والإرهاق، حتى أني ظننت أنه قد أسرف في تناول الكحول، ولكنه يحمل آلة موسيقية داخل علبتها، على الأرجح من نوع الأورغ (نوع صغير يوضع على طاولة)، وأختار أن يجلس بجانب شاب أوربي أبيض البشرة أشقر وسيم، لا يزيد عن بداية العشرينات، وراح يحدثه بصوت مرتفع " ها ... أنت أبيض اللون وهذا يجعلك تمتلأ فخراً وكبرياء .. أليس كذلك ..؟ "

الشاب الأوربي كان مهذباً فأجابه، " لا ليس كذلك، ولكننا في الصباح الباكر ونفتقر لشهية الكلام ".

فرد عليه الأفريقي " لا ..لا ... أنت تشعر بالغرور، وإلا فلا شيئ يميزك عني، بل أنا أثقف منك وأعمل بجد كل يوم طيلة الليل وحتى مثل هذا الوقت من الصباح فأنا عازف أورغ ".

وراح الشاب الأوربي يحدثه بهدوء وصبر كما شاهدت الأفريقي يعطيه بطاقته الشخصية ويتحدثان عن تواصل العلاقة بينهما.

فتأملت مقلباً الحديث على وجوه مختلفة. فأن تشاهد شبان أفريقيين في عواصم أوربا الغربية الأنيقة المترفة أمراً اعتيادياً، والأمر يتجاوز في جوهره مسألة توفير قوة عمل زهيدة السعر،إلى وجود اجتماعي / ثقافي، وصرنا نشاهد ظاهرة حالات زواج بين أفريقيين شبان وشابات، وأوربيين شباب، إلى جانب رفض عنصري من جانب أفراد من اليمين .. الأمر كله يجعلك على ثقة بأن المستقبل القريب للخمسين سنة المقبلة في عالم الغرب ينطوي على توجهات عنصرية، وقد تحمل في طياتها أحياناً على نزوع لاستخدام العنف ضدهم.

ومن جهة أخرى، حين نقرأ ونشاهد أفلاما وثائقية عن أفريقيا، يحملنا على التنبؤ بأن هناك مستقبلاً للقارة الأفريقية هي غير ما كان مخطط لها من الغرب الرأسمالي : أن تكون منبعاً للخامات الطبيعية، ومنجماً للقوى العاملة الزهيدة الثمن، أفريقيا تهرول نحو مستقبل آخر، وهناك صراع خفي / علني يدور في القارة السمراء، بين قوى أفريقية تطرح تصوراً جديداً لأفريقيا يحمل التقدم والتطور والتنمية .. ولكن حتى ذلك الوقت سيتواصل رسو القوارب التي تحمل المهاجرين من كافة الأعمار يفلح الكثير منها في الرسو على سواحل أوربا في البحر المتوسط، ولكن أيضا يبتلع البحر يوميا المئات منهم .

الغد الأفريقي مقبل بالتأكيد .... سيشرف حتماً وملامحه تبدو من الآن واضحة، الغرب يفقد ثقته بنفسه، فلم يعد التفوق الأبيض الغربي من المسلمات . والأوربيون بدورهم صاروا مقتنعين أنهم تجاوزوا الذروة، وصارت خلفهم، فهناك الكثير من الأسباب المقنعة والعنصرية أحدها، بأن وهج الحضارة الغربية في أفول، والقضية سنوات فحسب. والأفارقة (وربما غيرهم) صاروا لا يخفون دفء حرارة العلاقة مع الصين وروسيا، ورؤية روس وصينيين في المدن الأفريقية صار من المظاهر الطبيعية.

والصحف الأوربية تصدر يوميا وهي تحمل صور وكاريكاتور عن الولايات المتحدة التي تدمر أوربا بسياساتها الرعناء، فلا يدع سبباً واحداً للتعاطف مع الغرب التي أثخن شعوب العالم في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بجراح الشفاء منها ليس بسيط، ولكنه ممكن .. وقد أدركت الشعوب بداية الطريق.... ومن سار على الدرب  وصل ....!

 

 

لغز الطائرة الماليزية

Andreas Sieler

كتابة : أندرياس زيلر:

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

على الرغم من مرور تسعة سنوات على اختفاء الطائرة الماليزية الرحلة MH370 التي كان على متنها 239 شخصاً،  ليس بوسعنا سوى القول أنه لما يزل من غير الواضح تماما ماذا  حصل وكيف وأين. وليس هناك سوى شيئ واحد مؤكد، أن الطائرة قد تحطمت  بعد ساعات من إقلاعها من كوالالمبور، كما أنه لا جدال في مسألة : كيف ولماذا تتحطم طائرة ذات تقنية عالية وتتحول إلى لغز في تاريخ الطيران الحديث.

 أختفاء الطائرة : الرحلة رقم MH370

ومن المؤكد أن طائرة البوينج 777-200 التي كان على متنها 227 راكبا واثني عشر من أفراد الطاقم قد أقلعت من كوالالمبور في 8 مارس 2014 في الساعة 0:42 صباحا. بعد 20 دقيقة ، وصلت الطائرة إلى ارتفاع الطيران الرحلة، وبعد 20 دقيقة أخرى بعثت بآخر رسالة لاسلكية، حتى ذلك الحين كل شيء طبيعي. ولكن بعد ثوان، حدث أن تم (من بين أشياء أخرى)، إيقاف تشغيل جهاز الإرسال والاستقبال، واختفت الطائرة MH370 من شاشة الرادار.

وحدث العديد من التغير في مسار تحليق الطائرة، فمن التحليق فوق ماليزيا،وشمال اندونيسيا، ثم ساعات من الطيران بأتجاه الجنوب، (افتراضاً) فوق المحيط الهندي، حيث سيتم لاحقاً تفسير بيانات الأقمار الصناعية، ومنها يشتبه معظم الخبراء أن موقع تحطم الطائرة هو اقصى غرب أستراليا.

في الدقائق التي اختفت فيها الطائرة ، كانت قد انتقلت من المجال الجوي الماليزي إلى المجال الجوي لفيتنام. ويبدو أن الأمر استغرق وقتا طويلا على نحو غير عادي حتى تم الانتباه لاختفاء الطائرة وإطلاق الإنذار، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن مراقبي الحركة الجوية تصرفوا بإهمال، وفقا للتقرير النهائي لفريق دولي من الخبراء "فريق التحقيق الماليزي في المرفق 13 لمنظمة الطيران المدني الدولي الماليزي".

 

تقرير غير واضح عن الرحلة   MH370: هل كان هناك تلاعب في الأنظمة؟

وإذا القينا نظرة فاحصة على التقرير النهائي الصادر في عام 2018، ، فإن هناك شيئا واحداً يبرز ، أنه لا يوجد شيئ واضح ونهائي على الاطلاق. إذ كانت المشكلة الرئيسية للمهنيين في التحقيق في الحادث، هي عدم وجود قطعة من بدن الطائرة لفحصها والتحقق فيها.وحتى يومنا هذا لا يمكن استبعاد حدوث خلل ما في الطائرة. ومع ذلك، فمن المحتمل حسبما يذكر التقرير أن فقدان الاتصال حدث بسبب " إيقاف تشغيل الأنظمة يدويا، أو بسبب انقطاع التيار الكهربائي". وهذا يشير التلاعب (Manipulation) في صياغة التقرير الذي ركز على طاقم الطائرة والركاب.وأن لا وجود لتشوهات خطيرة.

 

ومن بين عشرات القطع من حطام الطائرة التي جرفتها أمواج المحيط الهندي على السواحل الأفريقية،تم تشخيص ثلاث قطع بعائديتها للطائرة المنكوبة، وسبعة قطع بأنها " شبه مؤكدة" وعشرون قطعة بأنها " مشتبه بها "، وتؤكد الأجزاء هذه أنها تعود لطائرة البوينغ الرحلة (MH370) وأنها قد سقطت وتحطمت،كما تشير البيانات أن الطائرة مكثت في الجو لمدة سبع ساعات.

ويختتم التقرير إلى أن اختفاء طائرة الرحلة (MH370)، والعمليات الواسعة في البحث عنها كانت حدثاً غير مسبوق في تاريخ الطيران، ويشير إلى ضرورة إدخال تحسينات لضمان سرعة تحديد الحدث وموقعه في المستقبل، ووجود أليات " لتعقب أي طائرة تخرج عن خط الرحلة لأي سبب من الأسباب "، وان يكون موقع أي طائرة مدنية تجارية معروف دائماً، وعدم قبول افتراضات أخرى.

الغموض : أين يمكن أن تكون الطائرة ؟

لكن كيف يمكن أن يحدث لكي تغادر طائرة مسارها وتختفي خلال ثوان؟

في البدء ، يتم تسجيل مسار الطائرة بواسطة ثلاثة أنظمة:

من الأرض،

ثم من الطائرة نفسها ومن الفضاء.

ومن خلال الرادار الأرضي(يسمى الرادار الأساسي ).  حيث يتم إرسال إشارات من الطائرة وهذه اقابلة للقياس ماديا "، يوضح روبرت إرتلر، رئيس الاتصالات الخارجية والصحافة الألمانية (Deutsche Flugsicherung (DFS))، أن ذلك يتم بدقة  متناهية عند الطلب.

وهذا يعني أن المجال الجوي في ألمانيا يخضع لمراقبة مستمرة حتى ارتفاع حوالي أحد عشر كيلومترا. وما لا يستطيع الرادار قياسه هو ارتفاع الطيران، وهنا يأتي دور ما يسمى بالرادار الثانوي، جهاز الإرسال والاستقبال للطائرة. يقول إرتلر: "نرسل استفسارا وهناك إجابة من الطائرة". تشمل البيانات، من بينها، الارتفاع والسرعة. "ثم هناك الامكانية لتحديد الموقع عبر الأقمار الصناعية" ، إذا كان هناك العدد الكافي  منها ".

وقد تم إيقاف تنشيط جهاز الإرسال والاستقبال في رحلة الطائرةMH370. يتم ذلك من قمرة القيادة. ، ويوضح إرتلر. "الطائرات العسكرية تفعل شيئا كهذا والأمر يتعلق بالسرية". أما في حالة MH370 ، يصعب تفسير ذلك: "كقاعدة عامة، لن تقوم طائرة تنقل الركاب بإيقاف تشغيلها بشكل نشط". وهناك ثغرات حتماً في المراقبة الرادارية فوق المحيط الهندي، كما هو الحال مع مراقبة الأقمار الصناعية. وبالتالي، عجزت الأنظمة الثلاثة من تقديم أي بيانات.

 

تؤشر لنا هذه المعطيات، من خلال الأحداث المحيطة برحلة الطائرة MH370إلى أنه لا ينبغي أن ينحصر البحث عن الخطأ في المقام الأول في الجانب التكنولوجي، ولكن أيضاً في الخطأ البشري. وحتى في دوائر الخبراء، يجري تفسير البيانات الموجودة متباعدا في بعض الأحيان وأحياناً في اتجاه نظريات المؤامرة أحياناً.بل أن بعض الخبراء يشككون حتى في أن الطائرة قد طارت جنوبا (جنوب المحيط الهندي) على الإطلاق. كما تسبب كتاب "اختفى" للصحفية الفرنسية فلورنس دي شانجي، التي تشكك في وجود موقع سقوط وتحطم مختلف تماما، وتسبب كتابها في ضجة كبيرة.

 

ولم تسفر سنوات من عمليات البحث من قبل عدة ولايات وشركة "Ocean Infinity" الأمريكية لم تسفر عن أي نتائج. في العام الماضي، ولكن شركة Ocean Infinity أعلنت عن خطط لاستئناف البحث.

 

ووفقا لتقارير نشرت في وسائل الإعلام، سيتركز البحث بعد ذلك على منطقة في المحيط الهندي اختارها مهندس الطيران ريتشارد جودفري كموقع تحطم محتمل. تصدر جودفري عناوين الصحف عدة مرات في السنوات الأخيرة ، إذ طور المهندس المتقاعد في أوقات فراغه نوعا من نظام تتبع الطيران.ببساطة، يحاول من خلاله تحديد موقع الطائرة عن طريق تحليل ما يسمى إشارات الهمس لشبكة راديو الهواة المخزنة في قاعدة بيانات. تتداخل  ببيانات الطائرات مع انتشار هذه الموجات اللاسلكية.

 

وينظر بعض الخبراء، إلى النتائج التي توصل إليها المهندس جودفري العام الماضي(2022) على أنها بصيص أمل في العثور على الطائرة، خاصة أنه قام بتضييق موقع تحطم محتمل إلى منطقة صغيرة جدا. كما قال جودفري في البودكاست "الطب الشرعي للطيران"  ما حدث للرحلةMH370؟" (تجدها على موقع flugforensik.de) من خبراء الطيران بنيامين دينيس وأندرياس سبيث أوضح  كما يعتقد، أنه اكتشف بطريقته المسار الذي سلكته الرحلةMH370. كما يدعي أنه قدم "ملاحظة مثيرة للاهتمام": ووفقا لذلك، فقد حلقت الطائرة بصورة منتظمة لمدة 20 دقيقة قبالة سومطرة قبل أن تتحول جنوبا. "حتى الآن  يفترض المحللون أن طائرة الرحلة MH370 كانت تطير جنوبا مباشرة. ولكن لماذا تحلقالطائرة هذا الوقت الطويل في الانتظار؟ ، على سبيل المثال، هل كانت بأنتظار أتصال أرضي. أو ربما كان هناك تفاوض ما مع الحكومة الماليزية....؟

يمكنك القيام بذلك عندما تطاردك طائرة أخرى أو عندما تريد شراء الوقت للتفكير في الخطوة التالية ، "يقول جودفري. "ولكن إذا جعلت طائرة تختفي، فلن تضيع الوقت والوقود في الانتظار" ، أوضح المهندس جودفري في البودكاست (الموقع عن شؤون الطيران في الانترنيت).

النظرية الأكثر شيوعا حول سبب اختفاء طائرة الرحلةMH370 يعتبرها الخبراء أيضا من ضمن الأسباب، هي  نظرية انتحار الطيار. والتي غالبا ما يتم الاستشهاد به كمؤشر، أنه كان قد مارس سابقا دورة على جهاز محاكاة الطيران المنزلي الخاص به والتي كانت مشابهة للدورة الأخيرة المفترضة لطائرة الرحلةMH370. كما ذكرت "مجلة نيويورك" قبل سنوات على أساس وثائق سرية لمكتب التحقيقات الفيدرالي. ولكن، كما تشير التحقيقات الإضافية والتقرير النهائي، لا يوجد دليل أو دافع للانتحار في البيئة الخاصة للطيار(الأسرة أو العمل).ولماذا يجب أن يحلق هذه الساعات السبع بدلا من يحطم الطائرة على الفور؟ وإذا كانت النتائج التي توصل إليها المهندس جودفري صحيحة، فإن المناورة التي انطلقت من سومطرة لا معنى لها في حالة الانتحار المخطط له. لذلك فان هذه النظرية حافلة بالعديد من علامات الاستفهام.

 

ولكن هل يمكن أن يتكرر مستقبلاً حادث"اختفاء" طائرة ، كما في حالة طائرة الرحلةMH370...؟ وإلى أوضح ريتشارد غودفري قبل عام في مقابلة مع صحيفة "نويه زيورشر تسايتونغ" أن منظمة الطيران العالمية "إيكاو" قد أصدرت مرسوما "بأن جميع الطائرات يجب أن تكون مجهزة بنظام تتبع دائم يعمل بشكل مستقل عن جميع الأنظمة الأخرى على متنها". ومع ذلك، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتم تجهيز جميع الطائرات به.

ومنذ وقوع الحادث للرحلة MH370، تسعى منظمة الطيران المدني الدولي جاهدة إلى تحسين تموضع الطائرات عن طريق إشارات تحديد المواقع دقيقة بدقيقة. وفقا للتقارير، تعتمد بعض شركات الطيران أيضا على تدفق بيانات الصندوق الأسود. من الواضح أنهم يحاولون التعلم من سوء الحظ. كما منذ ذلك الحين(منذ حادث الرحلة MH370)، أصبحت الملاحة عبر الأقمار الصناعية "أفضل وأكثر كثافة" كما يقول الخبير روبرت إرتلر، ويستبعد احتمال اختفاء طائرة في ألمانيا. أو فوق المحيطات الكبيرة، حيث يصل لا يصل الرادار والرادار الثانوي إلى حدودهما، تماما: "اما إذا لم تكن مجموعة الأقمار الصناعية بحيث يمكنها تحديد الموقع بشكل مثالي ، فقد يتكرر يحدث شيء من هذا القبيل مرة أخرى. ومع ذلك أود أن أصف احتمال أن نشهد شيئا كهذا مرة أخرى بأنه لا يكاد يذكر".

 

المركز العربي الألماني

برلين

إيران : عرف

الحبيب مقامه فتدلل

 

ضرغام الدباغ

إيران نووية ... إيران غير نووية ... إيران نووية ... إيران غير نووية ..... نووية ... غير نووية ... إيران نووية ...وبالاتفاق ... إيران نووية منذ سنوات ... أن تكون إيران نووية أمر تدارسوه بعناية شديدة، وتوصلوا للقرار الصعب منذ سنوات وهم ساعدوها تقنياً وسياسياً ورسموا لها خريطة هضم النووي .. وجعله أمرا واقعاً... وهم يفكرون الآن  بمرحلة ما بعد الإعلان النووي ...

لماذا يريدون إيران نووية ....؟ وبماذا يفيدهم ذلك ...؟

المؤشرات تشير أن قرار النووي الإيراني جاءهم من الخارج ... من الجهات الداعمة ... والولايات المتحدة في المقدمة ... ووزعت الأدوار بدقة تفصيلية، ونوتة العزف أمام الجميع بدرجة متفاوتة حسب الدور الموكل له، والكل يتصرف وفق إشارات المايسترو بدقة بالغة، الخطأ مهما كان صغيراً غير مقبول وغير محتمل.

الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي ليسوا في وارد أحتمال عداء قوى كثيرة، ولكن عداء العرب والإسلام بدرجة أساسية. بتعميم  مثير للدهشة، كل العرب وكل المسلمين دون استثناء... يجب اقتلاع  الظروف والمعطيات على أنواعها للحيلولة دون قيام كيان عربي موحد، بل وحتى القطع المجزأة، ينبغي أن تكون هشة وتتألف من عناصر ضعيفة... مالعمل....؟ والتقدم المقبول هو زحف السلحفاة أو أبطأ ...!

كياناً صهيونياً هو الخيار الأفضل، كيان مسلح بقوة ضاربة عاتية وأن يكون دركي الحارة هو الخيار المفضل، وتولت بريطانيا وفرنسا تسليحه وتأهيله، ولكن بعد حرب حزيران / 1967، وجدوا أن المهمات الثقيلة المطلوبة من هذا الكيان تفوق قدرة بريطانيا وفرنسا، فأستلمت الولايات المتحدة الدور القيادي الحامي للكيان والآخرون يلعبون على الهامش في لعبة توزيع الأدوار السياسية، أنا أقبل، أنت ترفض، والآخر يتحفظ، والبعيد يعتب، ولكن النتيجة واحدة من الأربعينات وحتى اليوم ..! وسمحوا لها بالتسلح النووي دون أن يثير طرف ... أي طرف مجرد اعتراض بسيط ..!

بعد تأميم النفط وحرب تشرين الأول / 1973،  بدأت التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تفرز معادلات صعبة ومعقدة،  ولم يعد الكيان الصهيوني بوسعه السيطرة على مفردات الموقف، وحتى سلاحها النووي لا يحكم السيطرة على الموقف، بوضوح أن الأمر بحاجة لعنصر جديد يدخل صلب معادلات الشرق الأوسط ويحدث فيها تفجيرات وتخريب هنا وهناك، فكان نظام الملالي خير من يمثل هذا العنصر، سيدخل المنطقة في نفق مظلم أسود لتدوم عقوداً طويلة وتحدث خسائر كبيرة وتعيق التنمية السائرة إلى نتائج حتمية لا محال: قدرات مالية هائلة، وعلم ومعرفة، وقوة بشرية لها قابلة التعلم والتطور. إذن عناصر التقدم موجودة بل هي في تطور دائم.، والنتائج قادمة

في الثمانينات، أكتشف الأمريكان أن تعويلهم على الملالي بدرجة كبيرة لم يكن في محله، وبالغ خبراء الأمن في قدرة الملالي، ووصل نظامهم إلى عتبة الانهيار التام، فأوقفوا الحرب التي استطالت لثمان سنوات، وأستلم الأمريكان بصفة علنية ومباشرة إدارة العمليات العسكرية، وبعد 13 سنة من الحصار والقتال، أدرك الأمريكان مرة أخرى أن التدخل العسكري غير المباشر غير مجدي، والأمر يستدعي حربا شاملة ومباشرة لحل العقدة الرئيسية (العراق)، وهكذا خلقت المعطيات نفسها في حرب 2003.

أدرك الأمريكان والغرب هذه المرة أن نظام الملالي لا تتوفر فيه شروط قلب الشرق الأوسط بصفة كاملة، فالملالي لا يمتلكون ما يتصدر حملتهم من كعطيات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، فنظامهم قائم بقضه وقضيضه على خرافات، بدأ حتى المغفلون والسذج إدراكها، وتصدير الزناجيل هو أفضل صادراتهم، وأكثر من ذلك فأن نظامهم نفسه صار مرشحاً للتداعي والانهيار، وأن تشرق على الشعوب الإيرانية نفسها أفاق جديدة.

الأمر هنا صار يحتمل أمرين ....كيف ..؟

الأول : أن تشطب فكرة تمزيق بلدان وشعوب الشرق الأوسط، وهذه مستحيلة أن يدعون أمة من نحو نصف مليار عربي ومليار مسلم يتماسكون، يتضامنون، واقتصاد هائل تحت تصرفهم وقدرات علمية كبيرة وثقافية، ملامح لكيان سياسي / اقتصادي كبير، والغرب لا يقبل بوجود أقوياء وعشاق حرية، فهم لا يقبلوها من الروس المسيحيين الارثودوكس، والصين البوذيين، فكيف يقبلونها من عرب ومسلمون ..؟

الثاني : أن النظام الإيراني المؤسس عام 1935 وصممت له الخارطة السياسية التي تضم نحو 60% من شعوب غير راغبة في الانضمام لإيران، لكونها تمتلك خصائص قومية خاصة بها، أو لكونها أقتطعت من أوطانها لتؤسس بريطانيا وأميركا الكيان الإيراني الذي ستكون له مهامه وواجباته، في الأساس منها، خلق المتاعب السياسية في حوض الخليج العربي، وفي منطقة جنوب شرق آسيا(مجموعة البلدان التركية).. وأن أي تغيير في هذه الهيكيلية الحساسة من شأنها أن تحدث تغيرات كبيرة (ما لم نقل جذرية) في عموم المنطقة، لغير صالح الغرب.

الأمر أصبح من الأهمية بمكان، وعدم السماح بسقوط النظام الإيراني، فالوضع الحالي الإيراني بنبأ بتشظي إيران حال سقوط نظام الملالي. ولكن كيف نحافظ على النظام الذي ينفق موارده الاقتصادية على التسلح، والتآمر والتدخل في الأقطار المجاورة، بحيث غدا أن خروجه من إحداها سيتسبب بسقوطه ...!

كان قرارهم هو : إيران نووية، لعل في هذا سيكون إحدى مقومات القوة بيد الدولة،، ولكنهم سيكتشفون أن هذا وهم آخر وخطأ سياسي وفكري يقع فيه المخطط الأمريكي، إذ لا يمكن للدولة استخدام الأسلحة النووية داخل حدودها ... كما أنها لا تستطيع أن تجعل لتدخلها مخالب نووية .

إيران ليست مهددة بتدخل خارجي، فإرادة الشعب الآذري الجنوبي في الاتحاد مع الجزء الشمالي من وطنه هي إرادة وطنية، وينطبق ذات المقياس على العرب والأكراد والبلوش، وربما اللور أيضاً... فقد تعرفت مرة على قيادي في حزب اللور فإذا به يستنكف أن يحسبوا على الفرس ...!

وأعتقد أن الهم الإيراني وهواجسه هي هموم وهواجس بريطانية وأمريكية وغربية عموماً، والغرب لا يريد أن يرى مقابلة دول قوية عديدة، هو الآن يعاني من أتساع قوتها الأتراك، والعرب، والبلوش، فكيف إذا ضمت لها أجزاء أخرى ..؟ وأي نظام في إيران : قاجاري، بهلوي ، ملالي، هو أفضل من أن يسقط النظام وتنشأ قوى جديدة يصعب على الغرب جمعها على طاولة واحدة والتفاهم معها.

أما قصة الشيطان الأصغر والأكبر وجمهورية إسلامية، فهذه من بين الخرافات والاساطير التي لا محل لها سوى لدى من لا يفهم السياسة إلا بناء على أمزجة ... النووي الإيراني لعبة جر حبل يمارسها الغرب بشغف ومهارة، لحوالي 20 عاماً  خلت وهم يلعبون هذه اللعبة .... وللأسف هناك من يصدق أن الغرب لا يريد لإيران أن تمتلك السلاح النووي.

 

 

ماذا حدث في الصين الشعبية

 

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

كان القائد لين بياو، يعتبر الشخصية السياسية والعسكرية الأكثر أهمية في الصين. وكان مقدراً أن يصبح خليفة الزعيم ماوتسي تونغ، وإذ به يختفى ذات يوم من على المسرح السياسي دون إيضاحات ولم يعد يشاهد بعدها !

لين بياوهو  : (1907 - 1971) أحد القادة الشيوعيين الصينيين ساهم في الصراع على السلطة في الصين وشغل عدة مناصب عسكرية هامة اشتهر بانتصاراته على اليابانيين وهزيمته للوطنيين في الحرب الأهلية الصينية ودعمه لكوريا الشمالية في الحرب الكورية ضد قوات الأمم المتحدة وفييتنام الشمالية في حرب فييتنام

ولد لين في 5 / كانون الأول ــ ديسمبر /  1907 في مقاطعة هوبيه ابناً لصاحب مصنع وتخرج من أكاديمية وامبو العسكرية عام 1926 وصعد سلم الترقيات سريعاً في أثناء الحملة الشمالية من تموز ــ يوليو 1926 حتى أبريل 1927 ليصبح رائد في أقل من عام بعد ذلك فر من الجيش الوطني لينضم إلى الشيوعيين

في 8  / أيلول ــ سبتمبر 1971/ شرع لين في عمل عسكري للاستيلاء على الحكم واغتيال ماو إلا أن منافساً له كشف خطته مما مكن ماو تسي تونغ من الاحتفاظ بالحكم فحاول لين الهروب برفقة أسرته إلى الاتحاد السوفيتي ولم تعلن الحكومة الصينية إلا أواخر عام 1972 أن لين وأسرته قد لقوا مصرعهم في 13 سبتمبر 1971 عندما تحطمت الطائرة التي تقلهم في أندرخان (undurkhan) بمنغوليا

إنها من الفصول النادرة للصراع السياسي في جمهورية الصين الشعبية، والقائد لين بياو لم يكن شخصية عابرة في التاريخ السياسي الحديث للصين، فهو من القادة التاريخيين ممن رافقوا الزعيم ماو في مسيرة تحرير الصين وفي قيادة الحزب، ومن ابرز قادة الثورة الثقافية (في ستينات القرن المنصرم) وشخصية مهمة في الزعامة الصينية.

اختفى هذا القائد دون إيضاحات كافية للشعب، ولأصدقاء الصين قبل خصومه، ترى أكانت نهاية درامية للثورة الثقافية التي لم يجري لها تقييم موضوعي عادل، أم ترى أن القائد لين بياو أراد استباق العاصفة، وعندما فشل أراد الهروب ففشل مرة أخرى ؟

هذا التقرير قد يلقي بعض الأضواء على هذه الحادثة التاريخية المهمة كخلفيات وكحدث ثم كنتيجة !

 

 

 

 

 

 

حين أرخى الظلام سدوله على ميدان تيان آمين، وفي فترة ما بعد الظهيرة، بدأت مكبرات الصوت بإذاعة موسيقى ومارشات عسكرية، وأجرى الآلاف من الطلاب والجنود تجربة مسيرة الأول من أكتوبر/ تشرين الأول حيث سيجري الاحتفال بمناسبة الذكرى الثانية والعشرون لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. ولكن الهدوء عاد الآن إلى عاصمة الملايين، بكين، وقد خلت الساحة تقريباً منهم. ولكن سرعان ما عاد ضجيج الدراجات البخارية يحرك هدوء المساء فيما تقاطرت عربات الليموزين السوداء أمام البناية الكبرى لنواب الشعب، التي تقل الشخصيات السياسية البارزة في جمهورية الصين الشعبية والحزب الشيوعي الصيني، يدخلون البناية بخطوات مسرعة، وكان رئيس الوزراء زهاو من بين الحاضرين أيضاَ هذا الاجتماع المسائي، ولكن الغائب الأكبر كان: لين بياو وزير الدفاع ونائب الزعيم ماو، وخليفته المعلن، والرجل الثاني في البلاد.

 

وفي نفس الليلة، كانت طائرة نفاثة من طراز ترايدنت قد أقلعت من مطار بيداهي (حوالي 240 كم شرقي العاصمة بكين)، وحلقت باتجاه الشمال وقطعت حوالي الساعة الثانية فجراً الحدود مع جمهورية منغوليا الشعبية، لكنها وبعد نصف ساعة هوت الطائرة وتحطمت على الأرض. وعثرت فرق الإنقاذ بين حطام الطائرة على بقايا بدلات عسكرية للقوات الجوية الصينية، ووثائق ممزقة وأسلحة وجثث متفحمة.

 

هذا ما حدث في 12 أيلول ـ سبتمبر 1971، ولكن ما ظل في طي الكتمان هو: كيف حدث ذلك ؟ وما هي مداخلات الحادث ؟

 

أهو صراع على السلطة ؟

وما لفت الأنظار في المرحلة التالية، أن وزير الدفاع لين بياو قد اختفى مع عدد من الضباط من الرتب العالية، من دائرة الأضواء، ولم تعد تذكر أسمائهم. كما أن الوكالة الرسمية للأنباء الصينية (شيخنوا)، لم تقدم إيضاحاً عن ذلك، بيد أن المراقبين الغربيين رجحوا أن صراعاً قوياً على السلطة يدور خلف الكواليس، وهو افتراض أثبت صحته فيما بعد.

وكان الصراع على السلطة قد ابتدأ قبل ذلك ببضعة أعوام، عندما أعلن ماوتسي تونغ الثورة الثقافية عام 1965 التي لم تهدف إلى تعبئة الوعي الثوري لدى الشباب فحسب، بل وفي الوقت نفسه، عبرت عن محاولة لإعادة ترتيب صفوف القيادات حيال تفشي اتجاهات ومجموعات براغماتية كانت تحيط بالزعيم ماو.

وعلى نقيض ماوتسي تونغ، طرح ليوشاوشي مبادئ: الأجر حسب العمل، والملكية الأرض المحددة للفلاحين، واستخدام جزئي لاقتصاد السوق. وفي مطلع صيف عام 1966 تمكن من حشد عدد كاف من أنصاره في الحزب من أجل تحقيق هذه التوجهات وإنجاحها، ثم لإبعاد الزعيم ماو من قيادة الحزب الشيوعي. ومن أجل أن يتمكن هذا المشروع من النجاح، اقتحمت قوات لين بياو وسيطرت على العاصمة وعلى مقر قيادة الحزب، وعزلت كبار أعوان ليو شاوشي الذي أختفى عن المسرح السياسي.

 

أيديولوجية أم أنتاج سلعي ؟

أدخلت الثورة الثقافية الصين الشعبية في أجواء فوضى الحرب الأهلية، ولم تجد نهاية لها، إلا بعد تدخل الجيش كقوة منظمة، وأخذ العسكريون على عاتقهم واجبات الإدارة، وسيطروا وأداروا المحافظات والموظفين المحليين، ومارسوا هيمنتهم على الموضوعات الأساسية، وعلى الواقع العملي الاقتصادي اعتماداً على الايدولوجيا، فيما مثلت موضوعات الثورة الثقافية الخلفية النظرية لها. وكان المعارض الرئيسي لهذه التوجهات هو رئيس الوزراء زهاو، الذي طالب بإنهاء الصراع الأيديولوجي غير المجدي، والاهتمام عوضاً عن ذلك بسياسة تهدف إلى رفع الإنتاج وإعادة الكثير من الكوادر الحزبية التي طردت خلال الثورة الثقافية إلى وظائفهم.

 

واجه لين بياو وقادة آخرين من القيادات العسكرية، هذا الانقلاب الجديد في التحرك السياسي، بمقاومة شرسة، ووجدوا أن الوقت قد حان لكي يجعلوا من الجيش القوة الحاسمة في الآيديولوجيا والسياسة. وعندما أنعقد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في ابريل ـ نيسان /1969 كرس لين بياو كخليفة رسمي للزعيم ماو، وقد بدا هذا الهدف قد أصبح قريباً، وبعد عام ونصف فقط كان قد تمكن لين بياو من تهديد زهاو ومجموعته بزجهم في السجن.

 

حركة سياسية

ترى أي دور كان لماو في هذا الصراع من أجل السلطة ؟ ها كان حقاً يدعم لين بياو، أم أنه تحول إلى زهاو ؟ قراران أوضحا إلى جهة أنحاز الزعيم ماو.

كان القرار الحاسم الأول: كان ذو طبيعة سياسية داخلية حيث ألغى ماوتسي تونغ منصب رئيس الدولة الذي شغله منذ البدء ليوشاوشي، وكان لين بياو يأمل أن يشغل بنفسه هذا المنصب، وكان كوزيراً للدفاع أقل درجة بروتكولياً من غريمه زهاو. وبهذه الخطوة قوض ماو قرار عام 1969 إلي كان قد كرس لين بياو كخليفة له وكرجل ثان في الدولة كنتيجة لذلك.

والقرار الحاسم الثاني: كان ذو طبيعة سياسية خارجية، حيث دعا رئيس الوزراء زهاو باسم الزعيم ماو الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لزيارة الصين، فقام لين بياو على النقيض من توجه رئيس الوزراء زهاو، وطالب بالتصالح مع الاتحاد السوفيتي.

كان ذلك في متأخر صيف 1971، عندما أختفي لين بياو، وكان ذلك يدل بوضوح على تحول الزعيم ماو عن رفيق كفاحه في المسيرة الكبرى والحرب التحرير.

571 ضد B52

حتى وإن لم يكن هناك إيضاح رسمي، تسربت الأنباء والتقديرات، وأفضل تلك اللواقط هي صحف هونك وكونك التي كانت ومنذ أكتوبر 1971 كانت قد ذكرت، أن لين بياو كان في عداد ركاب الطائرة الصينية التي سقطت على أراضي جمهورية منغوليا الشعبية حيث كان يحاول الهروب إلى الاتحاد السوفيتي بعد محاولة أخفقت للانقلاب على ماوتسي تونغ. وفي عام 1973 ظهرت في الأوراق السرية للحزب الشيوعي الصيني بأنها كانت محاولة انقلاب، هكذا كتب بدقة.

سوية مع ضباط كبار، كان لين بياو وأبنه لين ليغة والذي كان ضابطاً برتبة رفيعة في القوات الجوية الصينية قد أتخذ القرار بالقيام بانقلاب على الزعيم ماو، وكانت خطة الانقلاب قد اتخذت الاسم الرمزي تمويهاً(المشروع B52) وكان الرقم والحروف qi yi zw وهو ما يعني "انتفاضة مسلحة" عندما يغير طريقة اللفظ. وكان الرمز الكودي للزعيم ماو هو أيضا  B52، وهو ما يطابق أسم الطائرة القاصفة الأمريكية الشهيرة أيضا، التي يعتبرها الصينيون المزعج الأكبر .

وكان المتآمرون يعدون ماو بوصفه " الطاغية الأكبر في تاريخ الصين " ويمضون إلى القول، أن B52 لم يبق من عمره سنوات كثيرة، والأعوام الأخيرة شهدت الأعداد لمرحلة ما بعد وفاته، وهو لا يثق بنا، ومن الأفضل أن تحمل المعارك الأخيرة أفضل من انتظار أم يزجوا بنا في السجن. ومن أجل كسب هذه المعركة الأخيرة، فإن كافة المعارك مشروعة: القصف، الغاز السام، الأسلحة البايولوجية، الخطف، القتل والحوادث ذات الإخراج الجيد، في المقام لابد من إبعاد ماو عن السلطة.

كان قد تم الإعداد والتخطيط لثلاث ضربات ضد الزعيم ماو، كان أخرها نسف القطار الذي يستقله وتفجيره في رحلته التفقدية إلى شنغهاي، والضابط الذي كلف بتنفيذ العملية، أصيب بالرعب قبل تنفيذ المهمة. بل أن الطيارون الذين اختيروا لقصف الفيلا الصيفية للزعيم ماو في شنغهاي ترددوا في ذلك ووضعوا الجبس في عيونهم ليصابوا بالتهاب في العين وبالتالي ليصبحوا في وضع لا يسمح لهم بالطيران. والمحاولة الثالثة والأخيرة جرت ليلة 12 / سبتمبر ـ أيلول، حيث كان أحد الضباط المتواجدين في مقر إقامة الزعيم ماو في بكين بواجب الساعي الخاص الذي ينقل الرسائل الخاصة للزعيم ماو، أبدى الحراس الشكوك حوله ولما جرى تفتيشه وجدت لديه الأوامر الخطية باغتيال الرئيس ماو. بعد ذلك كان قد غدا واضحاً، أن محاولة الانقلاب قد فشلت بصفة نهائية، ولم يعد أمامهم سوى الهرب.

 

خائن في العائلة ؟

في غضون ذلك سرت في صفوف القيادات الحزبية العليا أعلى درجات الإنذار، وكان من العسير التنبؤ أي وحدات عسكرية هي مع أو ضد الزعيم ماو. كما لم يكن واضحاً بدقة مدى عمق الخطط لدى الانقلابيين.

قرر رئيس الوزراء زهاو، فيما بعد، أن لا أحد في بكين كان على علم دقيق بخطط الانقلابيين. وفي 12 / سبتمبر ـ أيلول، لم تكتشف خطط المتآمرين إلا لاحقاً بعد الإطلاع على الملفات والتخطيطات التي كان المتآمرون قد أعدوها. وكان قد تناهى إلى الأسماع من الإشاعات الدائرة الزعم أن لين دودو ابنة لين بياو من زواجه الأول، كانت قد أطلعت رئيس الوزراء زهاو على خطط المتآمرين وأيضا على خطة هروب والدها في حالة فشل المؤامرة.

كان لين بياو وزوجته ياكون ونجله لين ليجو وبعض كبار القادة العسكريين، قد انسحبوا إلى بايداهي، والانتظار من هناك خطوات تنفيذ خطة المشروع 571 وتطوراته، حيث وصلتهم أخيراً أنباء فشل الانقلاب. ولاحتياطيات أمنية، كان لين بياو قد أمر بتحضير ثلاثة طائرات نفاثة من طراز ترايدنت (طائرة نقل ركاب بريطانية الصنع) التابعة لسلاح الجو الصيني، وكان رئيس الوزراء زهاو على علم بذلك، لذلك أصدر أمراً بمنع الإقلاع من كافة مطارات الصين.

ولكن لين بياو نجح في حمل موظفي ومستخدمي المطار على تعبئة الطائرة بالوقود، وفي اللحظات الأخيرة حاولت عربة وقود صهريج إعاقة الإقلاع بوقوفها في المدرج، ولكن قائد الطائرة نجح بحركة بارعة من رفع الطائرة إلى الأعلى متفادياً عربة الصهريج، والإقلاع بها باتجاه الشمال، ويرجح أن يكون هدف الرحلة: الإتحاد السوفياتي. وكان على متن الطائرة: لين بياو وزوجته وابنه وخمسة من كبار القادة العسكريين.

 

فشل الهروب

لم يكن حظ المتآمرين جيداً، فقد هوت الطائرة وتحطمت على الأرض، شرقي العاصمة المنغولية أولان باتور. والأسباب ظلت مجهولة. وبموجب المعطيات الرسمية المنغولية، أن الطيار قد أمتنع عن سلوك خط ووجهة طيران صوب الإتحاد السوفياتي، وبناء على ذلك فقد حصل أطلاق نار على متن الطائرة، هوت على أثرها وتحطمت على الأرض.

 

أراء أخرى تتناقض مع هذا العرض، إذ تفترض نقص الوقود في الطائرة لم يوصلها إلى هدفها، إذ تعمد رجال الخدمات في مطار بيدايهي عدم تعبئة الطائرة بالوقود تماماً، كما تناهت إشاعات تقول أن طائرات مقاتلة صينية أطلقت النيران على طائرة لين بياو وإصابتها مما أدى إلى سقوطها، ثم وكاحتمال أخير: أن تكون قوات الدفاع الجوي المنغولية قد قامت بإسقاط الطائرة.

ولكن من المؤكد أن لين بياو كان في عداد ركاب الطائرة ولقي حتفه فيها عندما تحطمت، وقد تمكن الأطباء السوفيات الذين فحصوا الجثث، أن يتثبتوا من ذلك، والتأكد من جثته وتشخيصه بدقة. وأخيراً فإن كافة الجثث لم تعاد إلى الصين، بل دفنت في مكان سقوط الطائرة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

Wie geschah es Wirklich

Reader Digest  /  The Beste

 

1990 Stuttgart

 

 

 

 

لقاءات مع ثلاثة

 قادة في الجيش العراقي

 

د.  ضرغام الدباغ

 

 

العميد الركن هاشم عبد الجبار

اللواء الركن سيد حميد سيد حسين الحصونة

اللواء الركن إسماعيل العارف


التقيت هذه الشخصيات العراقية المعروفة، وبعض وكان تعرفي عليهم بشكل شخصي وتكونت بيني وبينهم صداقة قوامها الثقة والاحترام، ومن خلالها تحدثوا لي بما لا يتحدثون به ربما مع الآخرين، وقد احتفظت لسنوات كثيرة ما أباحوا به لي من قبيل الحفاظ على أسرار الأصدقاء، ولكني اليوم وأنا أشعر بأن النهاية لم تعد بعيدة، وإن ما أدلى به هؤلاء القادة هي من حق التاريخ العراقي، وهم قادة لهم بصماتهم في تاريخ العراق السياسي والعسكري. وقد تسلسلت في استعراض الأحداث بحسب تعرفي عليها وليس بسبب القدم العسكري الذي أحترمه وأقدره، ولكني هنا في مجال سرد للأحداث التاريخية.


* العميد الركن هاشم عبد الجبار :

 

اشتغلت لفترة وجيزة إلى جانب عملي الأساسي كمستشار في سفارة الجمهورية العراقية في برلين / جهورية ألمانيا الديمقراطية، كقنصل بسبب الشواغر في الملاك، ومن بين مهام القنصل هي إصدار وتمديد جوازات سفر المواطنين العراقيين، ولم يكونوا في تلك الأيام بأعداد هائلة كما هي عليه اليوم، وحتى مع إضافة برلين الغربية التابع لألمانيا الغربية، إلا أننا كنا تسهيلاُ لأمور المواطنين نتعامل معها في سفارتنا، لم تكن الأعداد كبيرة، ربما بضعة مئات فقط.


ذات يوم دخلت علي سكرتيرتي الألمانية (النصف الثاني من 1975)، تخبرني أن مواطناً عراقياً يريد تجديد جواز سفره، وأعطتني الاستمارات، ولما قرأت الأسم وإذا به : هاشم عبد الجبار. فطلبت منها أن يتفضل إلى مكتبي ريثما ننجز جواز سفره احتراماً وتقديراً له. وعندما دخل على الرجل وهو متوجس بعض الشيئ، نهضت من كرسي تقديراً وصافحته ورحبت به. وطلبت له فنجاناً من القهوة.


وفي فترة إعداد الجواز علمت أنه يسكن في مدينة بوتسدام القريبة من برلين (40 ـ 45 كم) أعزب وغير متزوج. وبعد دقائق أرتاح من طريقة تعاملي معه، وأنا أظهر له الاحترام، فهو على كل حال أحد قائد إحدى القطعات الهامة في جيشنا العراقي (آمر اللواء العشرين مشاة) بصرف النظر عن الأحداث السياسية التي رافقت أسمه وتاريخه العسكري. فتلك أحداث مضت والرجل في شيخوخته، وهو إنسان وطني ومعاد للأستعمار، ومحب لوطنه العراق وهذه أهم الاعتبارات.


عندما شعر بالراحة التامة صار يحدثني عن تاريخه العسكري، وإنه يعرف معظم القادة العسكريين العراقيين وخاصة الذي عملوا في خلايا الضباط الأحرار، ولم يظهر عاطفة خاصة تجاه عبد الكريم قاسم،  وملاحظاته عنه لم تكن إيجابية، ولكنها ليست سلبية، اكتفى بالمرور السريع، وهي إشارة إلى عدم رضاه التام. ولكنه أبدى ملاحظات سلبية جداً بحق الرئيس المشير الركن عبد السلام محمد عارف، ومن ذلك سباب وشتائم بألفاظ مقذعة.  


وعندما أنهينا الجواز سلمناه له بكل احترام، ورجوته أن يزورني كلما تردد إلى برلين، وقد فعل ذلك بعد فترة وجيزة، إذ قام بزيارتي للمرة الثانية، وقمت تجاهه بكل الاحترام الذي يستحقه، إلا أني لاحظت بأنه كان متعباً(صحياً) وأبديت استعدادي لأي خدمة يطلبها، من السفارة أو مني شخصياً.


وبعد فترة قصيرة، ربما لم تتعدى بضعة شهور، جاءت سكرتيرتي لتخبرني أن هناك سيدة ألمانية تطلب مقابلتي، وهي صديقة العميد الركن هاشم عبد الجبار وكان قد توفي قبل أيام قليلة فحسب. وعندما دخلت على السيدة الألمانية لاحظت أنها تبلغ حوالي الستين من العمر، والحزن يكسو موقفها وملامحها وثيابها، واستقبلتها بود واحترام، وطلبت لها الضيافة من القهوة. وعرفتني بنفسها أنها صديقة المرحوم هاشم عبد الجبار، وأنه كان يسكن في بيتها، وأنها رغم معرفتها بحالته الصحية السيئة، فوجئت بوفاته، إذ فارق الحياة وهو في ترامواي المدينة. وقالت لي أنه كان ممتناً جداً من تعاملي معه كمسؤول في السفارة أو بشكل شخصي، وطلب منها أن تراجعني في حال حاجتها لشيئ، فأكدت لها ذلك.


وهنا أخرجت بعض النقود(قليلة)، من العملات الألمانية والعملة الصعبة، وقالت أنها كانت بحوزته وهي تريد إعادتها، فقلت لها أن بوسعها الاحتفاظ بها، ولكنها رفضت بصورة قاطعة، ولكنها، (ولن أنسى ذلك أبداً من الناحية الإنسانية) نظرت إلى بعيون يترقرق الدمع فيها: ولكني يا سيدي المستشار أريد منك شيئاً واحداً فقط، وإذا رفضت ذلك فإني سوف أتفهمه بدقة، أن هاشماً كان قائداً في جيشكم وليس ملكي أنا، فأيدت قولها نعم أن هاشم عبد الجبار كان أحد قادة جيشنا الوطني، وأنا أحترمه وأقدره كثيراً، أخرجت صورة من حقيبة يدها، وإذا بها صورة للعميد الركن هاشم عبد الجبار قد ألتقطها ربما في ستوديو بابل بقيافته العسكرية الأنيقة التامة ويضع أوسمته على صدره ويعتمر السدارة العسكرية، قالت لي ودموعها تجري على وجهها، " أتسمح لي بالأحتفاظ بهذه الصورة ..؟ إنها الشيئ الوحيد الذي بقي لي من هاشم " ..


وأمام هذا الوفاء الرائع لم يكن لي سوى أن أوافق على طلبها، وأكدت عليها أن تراجعني إن كانت بحاجة إلى شيئ، إلا أن السيدة غادرت بأحترام وشيعتها إلى باب السفارة تقديراً لوفاءها لضابط عراقي هو أحد قادة جيشنا الوطني.


* اللواء الركن سيد حميد سيد حسين الحصونة.

 

أثناء خدمتي في السلك الدبلوماسي، وفي سفارة الجمهورية العراقية ببرلين / ألمانيا الديمقراطية كمستشار في السفارة، تصادف وجود الأخ والصديق والرفيق العزيز المرحوم عبد الله غركان الحصونة كمدير لمكتب الخطوط الجوية العراقية في برلين.


وأخي عبدالله كان من ضباط الجيش العراقي أحيل لأسباب سياسية للعمل في وظائف مدنية في الخطوط الجوية العراقية في أستامبول وبرلين. وهو أبن عم اللواء الركن سيد حميد سيد حسين، وصهره(زوجة الأخ عبدالله هي كريمة السيد حميد الحصونة)، وعندما كان السيد حميد يريد الحضور إلى برلين كان الأخ عبدالله يطلب مني أن أرتب دعوة من السفارة للسيد حميد وهو ما كنت أفعله بسرور.


والحق أن السيد حميد الحصونة وبعد أن تعرفت عليه بصورة جيدة، وجدت في الإنسان الفاضل المثقف، المخلص للعراق، ويتمتع بلطف معشر، يجد القدرة على التلائم معنا وكنا نصغره سناً بكثير(ربما بثلاثين عاماً) ويقرأ باللغة الإنكليزية ولديه أفكار تستحق الاستماع. وبعد تلك المعرفة التي تحولت إلى صداقة بحيث زارني في برلين حتى بعد نقل الأخ عبد الله إلى بغداد، وبالضبط تابعنا معاً بأسف هو وأنا ومن تلفاز بيتي ببرلين، نقل وقائع زيارة الرئيس أنور السادات إلى الكيان الصهيوني. تلك الأجواء الصداقية وفرت إمكانية أن أتقدم إليه بسؤال وأنا كنت قد أنهيت الماجستير في التاريخ  السياسي المعاصر، فسألته أن يروي لي بالضبط ما يقال عن أوامر الزعيم عبد الكريم قاسم لأحتلال الكويت وعن امتناعه أو تلكؤه من تنفيذ الأمر، وأخبرته إن شاء أن لا أكتب ذلك يوماً في كتاب أو مذكرات وما شابه، وإن شاء أن ننسى الموضوع. فقل لي بالعكس أنه يقدر كوني مؤرخ سياسي شاب وأنه يثق بنزاهتي بصورة تامة وأنه من هذا المنطلق سيروي لي قصة اوامر الزعيم عبد الكريم قاسم بأحتلال الكويت.


وابتداء لم يخفي محبته واحترامه للفريق الركن عبد الكريم قاسم(وتلك رتبة الزعيم يوم مصرعه)، لجهتين: احترام الرتبة الأدنى للرتبة الأعلى، ثم العلاقة الشخصية التي كانت تربطهما. وروى لي بعض من ذكرياتهما الشخصية البحتة التي تدل على صداقة بين الرجلين. وأن الزعيم كضابط قائد كفوء لا يجادل أحد في ذلك، وكصديق شخص رائع ووفي . ولما قلت له : وفي السياسة. أجابني: أنا لا أفهم فيها ولا أستطيع أن أقدر، قالها مبتسماً وكأنه يريد التخلص من إجابة لا يريدها إخلاصاً لذكرى الزعيم وهذا ما أكبرته فيه.

 

وعن الأمر المزعوم الذي أصده الزعيم بأحتلال الكويت أجاب : ثق يا أخي، وأقسم لك أن الزعيم لم يصدر مثل هذا الأمر، ولو أنه أصدره كيف لي وأنا العسكري منذ أول صباي أن أتمرد عليه ولا أنفذه، وكيف يقبل مني الزعيم هذا التمرد ولا يحاسبني عليه وهو القائد الفذ للقوات المسلحة. بل وبعد أن أنهيت خدمتي كقائد للفرقة الثالثة، نقلني إلى منصب محافظ ديالى، وأستمر على تقديره ومحبته لي.


سيد حميد الحصونة كان يعيش في القاهرة، وقد تعرض لحادث على أيدي موظفين طائشين، ولكنه وكما أخبرني أنه أرسل رسالة إلى الرئيس أحمد حسن البكر يشكو فيه ضيق الحال ويرجوه بصرف راتبه التقاعدي، فأمر الرئيس البكر بذلك وصرفت له رواتبه وهو في القاهرة.

 

السيد حميد كان يتمتع بصحة جيدة، ويسير مسافات طويلة، ويقرأ كثيراً، ودقيق الملاحظة صافي الذهن، وعندما بلغنا وفاته في لندن وهو في رحلة شخصية لزيارة ولده الطبيب الذي يدرس هناك، كان الأمر مثار دهشتنا وهو قضاء الله وما تدري نفس ماذا كسبت وما تدري نفس بأي أرض تموت. استقبلنا جثمان اللواء الركن سيد حميد سيد حسين الحصونة، من مطار بغداد الدولي بتشيع عسكري مهيب شارك فيه الكثير من رفاق السلاح وفي مقدمتهم الشخصية الوطنية الكبيرة اللواء الركن ناجي طالب(الوزير ورئيس الوزراء) إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف. فعلى روحه الطاهرة الطيبة ألف سلام. 


* اللواء الركن إسماعيل العارف.

 

تعرفت على اللواء الركن إسماعيل العارف (الوزير والسفير، والدكتور فيما بعد) تعرفت عليه في ألمانيا وكنت دبلوماسياً مجازاً لدراسة الدكتوراه في العلوم السياسية عام 1982 والرجل قائد عسكري كان منذ مطلع حياته مهتماً بالعمل الوطني ويفكر بمستقبل بلاده، ثم أنه شغل مناصب مهمة في الجيش منها منصب الملحق العسكري في واشنطن، ووزير التربية في مطلع الستينات، ثم سفير للجمهورية العراقية في براغ، وفيها أكمل دراسة الدكتوراه، وأحيل على التقاعد وسكن في الولايات المتحدة قرب أولاده الذين درسوا هناك واستقروا فيها.

 

والرجل على ثراء تجربته الشخصية والسياسية في الحياة، يحاذر من إقامة العلاقات، ولكن بمرور الوقت وبعد لقاءات كثيرة، تحولت علاقتنا إلى صداقة كنا نتجاذب أطراف الحديث في موضوعات شتى، وبالطبع منها ذكرياته عن منظمة الضباط الأحرار. وإذا كان العارف قد ذكر الكثير مما يعرفه في كتاب له بهذا الخصوص، إلا أن هناك ما يستحق أن يسجل من مذكراته، لا سيما أنه كان يعتبر من بين أصدقاء الزعيم عبد الكريم قاسم المقربين.


أخبرني أنه كان قد تعرف على الزعيم عبد الكريم قاسم منذ فترة طويلة سابقة ل 14 / تموز / 1958 وما شد علاقتهما بربط قوي هو تقاربهما في الأفكار الوطنية، كما في العلاقات الشخصية، وسألته فيما إذا كان قاسماً ذا أريحية في العلاقة الشخصية، فأبدى عظيم شوقه لصديقه القديم، مترحماً على روحه وكان يسميه كرومي قائلاً : " من ...؟ كرومي ...؟ وهل تحلى جلسة ليس فيها كرومي الورد ...؟ " وتأخذه صفنة طويلة وكأنه ينظر إلى الأفق تكسو ملامحه حزن عميق ... أستطاع وإن ليس بسهولة، الإعراب عنها وتصويرها وأنا أحترم فيها عمق التجربة والمشاعر، وأساعده لنضع ملامح الصورة  ... نعم حزين على الماضي وما حصل، وكأنه ينظر للمستقبل ويقول ما نهاية هذه الصراعات بين العراقيين وهم أخوة في الدين والوطن والقومية ...؟ ولمصلحة من تدور هذه الصراعات ..؟


كان يستطيع أن يكون موضوعياً وعلمياً، ولعل دراسته للدكتوراه أعانته في ذلك، أن يعيد تقيم كل شيئ، منذ العمل في منظمة الضباط الاحرار والانقلاب على الملكية، ومرحلة الزعيم عبد الكريم قاسم، وهي مراحل كان هو فيها نافذ الرأي والموقف، والتجربة والزمن كفيلة بإجراء تعديلات على ما كنا نظنه ثابتاً ومستقراً كالأرض والجبال الرواسي، ليس هناك من الثوابت في السياسة سوى العراق والأمة والمصالح الدائمة وسوى ذلك زائل يتكرر ويتغير كل بضعة عقود.


روى لي أن ما حدث في الموصل كانت نقطة مفصلية، وإعدام الضباط القادة كانت الغلطة الأكبر التي ارتكبها قاسم، أرتكب تلك الغلطة تحت ضغط من عناصر كانت تحوم حوله، فالجميع يدرك أنها كانت أحكام مسيسة، لم يقبل بها حتى إثنان من أعضاء المحكمة ممن تخلصوا من الضغوط العقيد فتاح سعيد الشالي، والرائد إبراهيم عباس اللامي، وكان الوزير العارف في سفرة عمل خارج العراق، ويقول كنت الاحظ من بعض حاشية الزعيم التحريض على إعدامهم، لذلك وقبيل سفري بيوم واحد جلبت المصحف وجعلت قاسماً يقسم عليه أنه سوف لن يعدم الضباط القادة، وأكد لي بأنه سوف لن يفعل، وسافر العارف وعند عودته إلى العراق عن طريق بيروت التي أضطر للمبيت فيها ليلة واحدة ليأخذ الطائرة العراقية، وقبل مغادرتهم بيروت بوقت قصير أخبره مرافقه أن الإعدام قد نفذ بالقادة، وتوجه العارف من المطار إلى مقر الزعيم فور وصوله بغداد، والمظاهرات تعم العراق، ويقول، سألته بربك لماذا فعلت ذلك ... ألا تعرف ما هي قيمة رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي ..؟ ألا يكفي أن العشرات من الضباط الوطنيين إعدموا وقتلوا وسحلوا .. 


يستطرد العارف، أن الزعيم كان يقابله بالصمت مطأطأ الرأس وكأنه يدرك فداحة الخطأ الذي أرتكبه، ولكن لات ساعة مندم ... وبرأي العارف فإن الزعيم قد أرتكب غلطة العمر ... 


بقول العارف أدركت ومعي الكثيرون أن قاسماً قطع الجسر بينه وبين الضباط الأحرار وسلك طريقاً آخر بأختياره أو مرغماً وأنه رسم نهايته بيده، ومنذ ذاك طبعت الكثير من التصرفات وفقد النظام هويته، وصار حكماً فردياً محضاً لا غير. عبد الكريم فاسم يصلح أن يكون قائداً عسكرياً من طراز رفيع، وهو صديق شخصي رائع، يخدم ضيوفه بيده، ولكن الحكم سلب عقله، وهو الزعيم الأوحد يحكم كل هذا العراق من شماله إلى جنوبه كما يمليه عليه ضميره وسعة مداركه العقلية فقط، وهو غير مؤهل قطعاً لأن يحكم دولة ويحدث التحولات المطلوبة. وحتى رفاق الثورة بدأوا يستشعرون فداحة أن يكون العراق بخير ومستقبله واضح وزاهر بهذا الأسلوب ...


توفي إسماعيل العارف في الولايات المتحدة تغمده الله بوافر رحمته، ورحم الله كل قائد عراقي مخلص عمل وكان قصده خير العراق وأزدهاره، بلا تعصب بلا تشدد، ولنأخذ العبرة من تلك الأحداث كلها، فوطننا اليوم محتل، والسيادة فيه مهلهلة، والبلاد يعبث بها من يشاء مسلوبة منهوبة وقد فقدت استقلالها الذي شيد  بالغالي والنفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

 

 

 

 

يوليوس فوجيك

 ضرغام الدباغ

 

يوليوس فوجيك مناضل تشيكي، أعتقل وحوكم محاكمة صورية على يد المحتلين النازيين لبلاده، وحكم عليه بالموت بواسطة قطع الرأس بالفأس، وهي طريقة إعدام كانت تنفذ في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وربما دولاً أوربية أخرى، وفوجيك الذي ولد في 13 / 2 / 1903، واغتيل بهذه الطريقة بتاريخ 8/ 9/ 1943 في إحدى سجون برلين، أي كان له من العمر 40 سنة ونصف(ستة شهور)، ويوم مقتله لم أكن قد ولدت بعد، ترى هل كان فوجيك يعلم، أن مذكراته سوف تترجم إلى اللغة العربية، على يد عراقي. حقا الأبطال لا يموتون، فذكراهم تبقى خالدة في سفر الشعوب...!

 

 

إهداء

إلى المناضلين في بلادنا وفي الوطن العربي والعالم

إلى من يقدم روحه رخيصة من أجل المبادئ

إلى الشهداء من أجل الحرية

تحية ووفاء إلى بعض من رفاقنا، أصدقائنا، رموز جيلنا:  سليمة خضير الصريفاوي، مؤيد الملاح، عبد الصاحب الرماحي، أحمد العزاوي، صبحي محمد داؤد، عبد الكريم مصطفى نصرت، عبد الودود عبد الجبار، سليم عيسى الزئبق، وليد محمود سيرت، طراد نصر الله، ثجيل جديح الشحماني، شوكت أدهام الحديثي، وريحان خزعل (أبو لؤي)، سكران، خالد، وداد، معن وهيب، محمد عبد الطائي، عزيز حميد السامرائي، عبد الحسين عبد الأمير، مجدي جهاد ...وغيرهم مئات واليوم ألوف، قوافل تضخ للوطن الحبيب دمائها ...

إلى هؤلاء جميعاً ... لن ننساكم أبدا   

                       

ضرغام

مقولات يوليوس فوجيك

 

ــ إن منظر الإنسان وضميره عندما لم يعد نقياً، هو مفزع أكثر من رؤية جسد يتألم من العذاب

ــ أيها الضعيف المنهار، كأن هناك حياة أخرى تعيشها إن استطعت أن تبيع حياة أحد الرفاق ..!

ــ كنت أتوقع وأنتظر الموت، ولكن ليس الخيانة

ــ نعم هذا كان رجلاً عندما كان لديه عمود فقري

ــ هو لم يتجنب الرصاص عندما كان يناضل في الجبهة الأسبانية، ولم يخن عندما عاش تجربة الاعتقال في فرنسا، ولكنه يقف الآن ممتقع الوجه أمام أحد رجال الجستابو الذي يمسك بيده هراوة، يحاول أن يتماسك، ولكن كم كانت شجاعته سطحية، بحيث ضربات معدودة فقط أدت به إلى الانهيار، سطحياً مثل قناعته، كان قوياً في الحال الاعتيادي، عندما يكون محاطاً بالتعاطف، كان قوياً لأن قناعاته كانت تحركه، ولكنه الآن معزول عنها، وحيد، يهاجمه الأعداء، ترى هل فقد قواه نهائياً، لقد فقد كل شيء لأنه ابتدأ يفكر بنفسه، وأن ينقذ جلده، لذلك ضحى برفاقه، لقد سقط في الخوف، والجبن قاده إلى الخيانة، إن الجبان قد يفقد أكثر من حياته، لقد ضاع، فر من جيش المجد، وألحق بنفسه عار الخيانة والقذارة.

ــ الزنزانات لها عيون، إنها تنظر إليك عندما تمضي إلى الإعدام، وأنت تعلم أن عليك أن تمضي رافعاً هامتك لأنك مناضل ولا يجوز أن تمضي بأقدام متثاقلة مترددة، إنها أخوية دموية، ولكنك تدخلها طواعية، وبدون المساعدة الأخوية، فسوف لن يكون بوسعك تحمل هذا المصير.

ــ المخلص سيبقى صامداً، والخائن سيخون، الضعفاء سيصابون بالحيرة، والأبطال يناضلون. في داخل الإنسان تستقر غالباً عوامل القوة والضعف، الشجاعة، الخوف، التماسك، الاهتزاز، النقاء، القذارة، وإلى جانب بعضهم البعض، ولكن هنا، لا يمكن إلا لأحدهم البقاء، أو عندما يحاول أمريء، ويا للعجب، أن يرقص بينهما، فإنه سيكون عجيباً، كالذي يريد أن يرقص بريشة صفراء على قبعته، وبيده عصا ملونة في مسيرة جنائزية.

ــ وبتقديري أنهم قتلة، قتلة ذوو طبيعة بشرية، يتكلمون التشيكية وبأيديهم الهراوة والحديد

ــ كل من عاش بإخلاص للمستقبل وسقط من أجل الأشياء الجميلة ومن أجلكم، هو عملاق قدَ من الصخر، كل من أراد أن يبني من تراب الماضي سداً ضد طوفان الثورة، إنما هو مخلوق مصنوع من خشب

ــ بوسعكم أن تنتزعوا منا الحياة، أليس كذلك جوستي(زوجته ورفيقته في النضال) ..؟ ولكن ليس شرفنا وحبنا ...!

ــ الرفاق الذين سيبقون أحياء بعد هذه المعركة، والذين سيأتون إلينا، إنني اشد على أياديهم من لأجلي وجوستي، فإننا قد نفذنا الواجب. ومن أجلكم سوف نموت

ــ " أيها المار من هنا .... عندما تذهب إلى اسبرطة، أعلن هناك: أنك رأيتنا راقدين هنا ... كما يأمرنا به القانون ......."  (*)

ــ وما هي الحياة بالمقارنة مع مجد البطولة ...!!

ــ حياة الأفراد غير مهم بعد تمت مصادرة بلد بأكمله وحياة شعبه.

ــ " إن هذا سوف لن يفيدكم بشيئ، سيسقط الكثيرون منا، ولكنه سوف يقضى عليكم ".

ــ المجد ينادي الدماء بنشوة، والوحشية تقدم لها الجماجم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(*) كلمات خالدة لأبطال ملحمة أسبرطة، مدونة اليوم محفورة على صخور المرمر

 

لمحة من صورة الموقف

ضرغام الدباغ

 

من المفاهيم المهمة التي أفرزتها القضية الأوكرانية، والتي ربما لم ينتبه لها الكثيرون، سهواً من القراء أو تعمداً من الكتاب من رجال الإعلام  والصحافة.

أصنفها " القضية الأوكرانية "، لأنها لم ترتقي بعد للدرجة التي تريدها الولايات المتحدة، التي تؤهل تدخلها المباشر الذي ما برح يتطور ويتقدم من الدعم اللفظي، إلى درجة التدخل المباشر بقواته المسلحة وقوات حلفاءها، فالولايات المتحدة قد خططت لحرب طويلة الأمد ذات طابع لتدرج في الصراع بما لا يشكل مفاجئة في تطوره من حيث زج السلاح أو أتساع دائرة الصراع السياسي / العسكري، فقدرت 10 شهور لترسل صواريخ باتريوت (وهو أعلى ما وصلته تكنولوجيا السلاح المضاد للطائرات) وتزجها في الصراع العسكري، في اتساع لحجم التدمير والخسائر البشرية والاقتصادية، وهو أمر لابد وقد أدركته القيادة الروسية واستعدت له.

المخطط الأمريكي يهدف إلى إرهاق روسيا بحرب طويلة اعتماداً على موارد اقتصادية وقدرات لا تنضب(مبالغ بها) ، وهيمنة أمريكية على الاقتصاد الدولي(قطاع الطاقة في المقدمة) وتماسك حلف الناتو، والمعسكر الغربي بصفة عامة وهي توقعات متفائلة.                

فيما يتوقع الروس أن الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي ما برح بالتراجع حتى قبل اندلاع القضية الأوكرانية، سيواصل تراجعه بخطى أسرع، وأن دعم حلفاء أمريكا من المعسكر الغربي (بدرجات متفاوتة) سيتراجع دعمهم وصولاً لدرجة شكلية من الدعم، كما الداخل الأمريكي سيضجر من معطيات الحرب وحجم تصاعده وتكاليفه، كما يتقلص الوضع الأوكراني نفسه، وتتراجع قدرات القوى الأوكرانية الساعية للقتال.

تعتقد الولايات المتحدة أن انتصارها في أوكرانيا سيوقف تدهور مكانتها، بل وربما سيصعد من أسهمها. ويعزز من هيمنتها العالمية، وروسيا تعتقد أن صياغة أسس دولة أوكرانية من تجمع نازي، وقوى أوكرانية متعصبة، وأخرى لا يمكن اعتبارها حتى ديمقراطية وفق الإيقاع الغربي، فهذه لا تهم الولايات المتحدة كثيراً فما يهمها هو صياغة أسس دولة معادية لروسيا بشراسة، والإتيان بحكومة مثيرة للمشاكل (troublemaker) والهدف هو إيقاف تقدم وتطور روسيا الاقتصادي والتكنولوجي بنتيجة نهائية أن لا تكون هناك دولة أو دول بوسعها أن تقف بوجه هيمنة الولايات المتحدة والحيلولة دون نهوض تحالف دولى تقوده الصين وروسيا.

القوى الكبرى قد حسمت أمرها وتنضوي في تحالفات بهذه الدرجة من القوة أو تلك، وأخرى تفكر بالأمر وهي غاطسة في مشاكلها السياسية والاقتصادية، وإذا كانت روسيا والصين تقف بالكاد وبشق الأنفس بوجه الولايات المتحدة، فماذا تفعل الدول الأقل قوة وبأساً والصغيرة  ...؟

فهناك من قيادات الدول من يعتقد أن ليس سوى تحالفات وائتلافات تحمي وجود أي شعب وكياناته وممتلكاته من الطغيان الغربي، فالاجتياح وليس بضرورة توفر الغطاء القانوني الذي يمنح الشرعية الدولية لأي عمل هجومي على دول ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، وهناك سابقة غزو وتدمير العراق في عدوان واضح وصريح . هناك من الدول من هو سقف طموحاته واطئ، يخطط أن لا يقع في مواضع النزاع والصراعات، ولكن هناك دولاً تعتقد أن لها أسس لوجودها، وتريد صيانة حقوق ومصالح شعبها، ولكن أمام حقيقة أن الولايات المتحدة يمكنها اجتياح أي دولة حتى لمجرد تعكر مزاجها، وتهاجم دولاً صغيرة أو كبيرة، حتى لذرائع وهمية ويمكنها أن تجد آخرين وأن تظهر الاحتقار للقانون الدولي، وتستخدم هي بنفسها أسلحة محرمة دولياً ضد سكان مدنيين (كما فعلت في العراق)، فكيف ستحمي هذه الدول استقلالها ومصالحها ...!

دون أدنى ريب أن سياسة التوسع الأمريكية تتخذ أساليب خطرة باعتمادها المتزايد للقوة المسلحة، واستخدام متزايد لأسلحة خطيرة فتاكة، وأن هذه السياسة ستقود إلى تصعيد في التسليح، فماذا ستفعل بلدان صغيرة، ودون شك وبدون عناء كبير نتوصل إلى :

تصاعد التسلح بصفة عامة في العالم.

الجنوح إلى سياسة التحالفات العسكرية .

الميل إلى امتلاك أسلحة دمار شامل (نووي، بايولوجي، كيمياوي).

الميل إلى إنتاج أسلحة فعالة : صواريخ بالستية، طائرت مسرة ذاتياً (درونات).

قيادة أي دولة في العالم ستجتمع وتفكر فعليها الإجابة على سؤال مصيري : مالعمل للحفاظ على الاستقلال الوطني وضمان حماية المصالح الوطنية ؟

إما الاستسلام النزوات الأمريكية في كل شيئ ومجال صغيراً كان أم كبير، فقد حدث مرة أن أتصل رئيس جمهورية الولايات المتحدة برئيس جمهورية الفلبين وطلب منه رفع الحضر على سراويل الجنز في الفلبين ! وأن طلب الرئيس الأمريكي جون كندي، هاتفياً حاكم كندا، بناية معينة كمكتب لشرطة طيران بان أميركان في مدينة مونتريال !!!

مالعمل ... فالخيارات المطروحة حادة، وغير مستحسنة، ولكن بالمقابل أن تترك البلدان مصائر شعوبها للشهية الأمريكية فهذه قصة لا نهاية لها، ويلتهم الديناصور الأمريكي كل شيئ ولن يبقي سوى الفتات للشعوب، وحتى هذه الفتات سوف تلتهمها أقلية من أبناء البلاد ستكون بمثابة غيلان صغيرة تعمل كخدم للمصالح الأمريكية. وتدير المصالح الأمريكية سفارات هي أشبه بإدارة المستعمرات سوف يقررون حتى تعيين مخاتير القرى، أما الحكومات الوطنية فيأتون بأشخاص هم عبارة عن كركوزات ودمى لا تملك من أمرها شيئاً ولا تملك أي مستوى ....... هذا هو المطلوب وهذا لم يعد من الأسرار فهم يعلنون صراحة، أن العولمة (Globallisierung)  كنظام دولي جديد لا يعني سوى أن العالم عبارة عن قرية صغيرة ونحن قادته ....!

إنها مرحلة ينبغي أن يتنطح لها قادة محنكون أكفاء ......واتحاد القوى العالمية بوجه الاستعمار بألوانه الجديدة .... واتحاد القوى الشعبية في البلدان وعدم السماح لقوى العولمة بالتغلغل  في المجتمعات واتخاذها مسميات وشعارات مختلفة بعضها تنضح خزيا وعاراً مكشوفاً .... كالإبراهيمية والتجديد، واتخاذ براقع دينية وطائفية....

حذار ... حذار .... فالعولمة هي استعمار بأساليب جديدة وإمبريالية جديدة أهدافها أكثر عمقاً وبنهايات أتعس... حذار فقد تمكنوا بما يمتلكونه من قدرات مالية من شراء بعض النفوس الحقيرة وبعضها قيادات انهارت أمام إغراء المال والنفوذ فأرتضت أن تخون شعبها ... أيها الأحرار أتحدوا

 

البروليتاريا الرثة

Lumpenproletariat

 

ضرغام الدباغ

  

هو مصطلح أطلقه كارل ماركس، في وصف تلك الفئة التي هي دون مرتبة الطبقة العاملة ولا تمتلك مواصفاتها الطبقية وطبيعتها التكوينية ولا وعيها الاجتماعي، وبالتالي لا يرتجى منهم موقفا ثوريا في نضال الطبقة العاملة الثورية،بل قد تمثل في بعض الأحيان عائقا في مجرى النضال الطبقي، لأنها فئة لا تملك وعيا طبقياً ولذلك فقد تقع فريسة بيد الرجعية.

 وقد تتمثل البروليتاريا الرثة في الفئات الاجتماعية المنحلة في قاع المجتمع، ويشكل الفلاحون، النازحون للمدن، بأمل أن يجدوا شروطاً معيشية أفضل جزءا مهماً منهم، وحين يخيب ظنهم وأملهم، يتحولون إلى مجاميع من السراق، والأشقياء، والرعاع (Mobs)، وحين لا ينصفهم المجتمع، ولا يعتني بهم، يلجأون إلى أساليب غير شرعية. كالسرقة والدعارة والمقامرة، والتهريب وأعمال الشقاوات، وقد يشكلون في المدن مجاميع لها سطوة، ولكن دون قيمة اجتماعية. كتل بشرية تحاول أن تحصل على قوتها بأي وسيلة، لتواصل حياتها بأتباع أساليب غير قانونية، لأن القانون والنظام لا يحقق لهم أفقاً لحياة كريمة.

 وفي تشخيص الموقف الاجتماعي للبروليتير الرث، قد يعتبر بعض الكتاب أنه ذلك الفرد الذي لا يمتلك دخلا " كراتب شهري " وقد يذهب البعض إلى أعتبار العمال المياومين (فئة من العمال الموسميين، المرتبط بعمل زراعي محدد، كجني الفواكه أو المحاصيل، أو أي عمل وقتي)، ويتسع مفهوم البروليتاريا الرثة كثيراً ، وقد يقبل تعريف لينين لهم بقوله" هي فئة لا يمكن اعتبارها على الطبقة العاملة، كما لا يمكن أعتبارها من فئات المعدمون والسراق " (1)

 ومبكرا تنبأ لينين أن تطور الرأسمالية سوف تطرح نماذج أكثر . وتتميز البروليتاريا الرثة بحكم ابتعادها عن  (الطبقي/ السياسي) عن الطبقة العاملة ونضالها الطبقي، لأن تكون قوة محتملة بيد البورجوازية وأدواتها، وقد يصطف لجانبها مقابل قوته اليومي فيعمل ضد الطبقة العاملة الحقيقية.

 وبمقاربة مشابه عن كارل ماركس يعتبر البروليتاريا الرثة " أنها فئة تقع خارج علاقات الانتاج الرئيسية، فهي من جهو لا تملك أدوات الإنتاج، ولا هي في موضع بيع قوة عملها ". والحقيقة أن وضع البروليتاريا الرثة، المؤثر أحيانا، يرغم على حساب وزنها الاجتماعي والسياسي. والتطورات التي تتمثل بزج متواصل للتكنولوجيا ومعطياته، تدفع إلى البطالة بأعداد متزايدة من العمال في المدن، وبتأثيرات مقاربة في المدن الصغيرة والأرياف، وهذه لها تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

 ومن النتائج المباشرة للإقحام المتزايد للتكنولوجيا في الصناعة، أنها تقذف بأعداد متزايدة من البشر إلى البطالة، والبطالة الدائمة، تخلق، بما في ذلك فئات بدأت تبرز في المجتمعات الرأسمالية حتى المقدمة منها، كالمشردين (من هم بلا مأوى) والبطالة المقنعة، وأشباه البطالة، كالعمال الذين يعملون بأجرة يومية وحسب القطعة(الدين يوصلون وجبات الطعام " Delivery " )، أو البوابين والخدم، وفئة تعمل كحماية شخصية (Bodyguard)، وهذه مهن مؤقتة، لا يتمتع القائمون بها بأي كفاءة علمية ومهنية.

 العمل في ظل التطور التكنولوجي، له مؤثراته الاجتماعية والنفسية، وليس بمستغرب الانتشار الواسع للمدمنين على تناول الكحول والمخدرات .. وهذا سيقود بالضرورة إلى اختلال التوازن الأسري، وتزايد نسب الطلاق، والعزوف عن الزواج والإنجاب، مما قاد إلى تراجع الولادات وتراجع التنمية السكانية. وأعداد السكان، واضطرار  الإدارات إلى اللجوء إلى الهجرة المنظمة أو العشوائية لسد الفجوات السكانية.

 والهيكيلية الاجتماعية اليوم في الدول الصناعية، قد تغيرت، وفي بعض الاحيان بدرجة مهمة، عما كانت عليه قبل ثمانون عاماً أو أكثر، فالحدود بين الطبقات لم تعد حادة كما كانت، على الرغم من أن تمركز رأس المال يتكاثف بأيدي أعداد قلية من البشر، أو الأسر. وبرغم ذلك، فإن من يمكن تسميتهم بالبروليتاريا الرثة ليسوا بحدود ومواصفات محددة.

 ويتجه بعض علماء الاجتماع إلى تسمية أمثال هؤلاء من البروليتاريا الرثة، بالفئات  الطفيلية "  " Parasitic   " وهي إشارة كافية إلى وصف الوسط الاجتماعي لهذه الفئات، وضررها على الاقتصاد وعلى المجتمع. ولكن المعالجة بتقديرنا لا ينبغي أن تتجه لاجتثاثهم بأستخدام وسائل ارغامية، بل بالسعي لنقلهم عبر التعليم والتدريب إلى مستويات إنتاجية جديدة

 وقد يطلق على البروليتاريا الرثة كلمة الرعاع (Mob) وهذه تطلق على مثيري الشغب في الشوارع، ولعل في هذا ما ينسب للبروليتاريا الرثة من أعمال مماثلة، تطلق على اللصوص ومن سلب الناس، والقتلة المأجورين. ومن المعروف أن السياسين قد يستغلون عناصر من أمثال هذه الفئات. ومن المعروف أن المخابرات الأمريكية (CIA) استفادت من خدمات الرعاع والبروليتاريا الرثة، في إسقاط حكومة د. مصدق عام 1954 في إيران التي أقدمن على تأميم النفط.

 والحقيقة أن لمثيري الشغب (Trouble maker)  دورا بدأ يتزايد منذ مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، والتغيرات في الهياكل السياسية أواخر القرن التاسع عشر، في أن تستغل فئات سياسية قدرة مثيري المشاكل على خلق الفوضى. في إطار الصراعات السياسية. وقد نعتهم المؤرخ هيبليت تاين Hippolyte Taine في كتابه "تكوّن فرنسا المعاصرة "  بالكسولين، والمخادعين، والطفيليين، والمغامرين، والأشقياء، والمتمرسين والجريمة،.. ودهماء المدن،.. والفلاحين الكارهين دفع رسوم الدخول، والمشردين، والمهربين، والهاربين من العدالة، والهائمين الأجانب، والمجرمين. (2)

 

البروليتاريا الحقيقية، هي الطبقة العاملة التي تفتقر لوسائل الإنتاج وللملكية الخاصة، وقوتها العضلية هي وسيلتها للتعيش، ولكنها تتميز بكونها طبقة ثورية قادرة على العمل والتنظيم، والنضال من أجل إلغاء المجتمع الطبقي من أجل تحقيق العدالة البشرية التي هي حلم الإنسانية.

 

البروليتير الحقيقي حين يتألق يتصدى لتمثيل طبقته وأنتزاع حقوقها، في حين أن البروليتاريا الرثة، هي الفقراء حين يفسدون، يصبح عصا قمع بيد الفئات الفاسدة في المجتمع، وحين لا يكونون في مصلحة أهلهم، حين يتاجر بالمخدرات ليتغلب على فقره، حين يسرق ليسد ثغرة في كيانه(فقره) أو حين يقتل مقابل المال، فيصبح مجرماً، أو الدعارة، وحكينها يعرض البروليتير نفسه كسلعة سهلة بيد من يمتلك المال. وجزء من تكاليف الإنتاج.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

1. الموسوعة الألمانية

2.  ابتهال مبروك مقال نشر في 2021-02-09

 

المركز العربي الألماني برلين

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

معطيات تاريخية

 قادت لمستقبل مظلم

 

ضرغام الدباغ

 

السؤال الاهم ليس ان كانت هذه الانتفاضة الإيرانية (هي العاشرة) ستنهي نظام الملالي في طهران، لأن النظام ساقط تاريخياً، شرعيا وعرفيا، وكل المبررات المطروحة ليست اكثر من ذرائع لمواصلة وضع الكيان الايراني في شبكة المؤامرات الدولية وقد كتبنا مرارا أن الكيان الإيراني كان أسس (عام 1935) خصيصاً  لموجهة تطورات الموقف في المشرق العربي، بعد أن ثبت لمن خططوا معاهدة سايكس بيكو بعد 15 عاما في تطبيقاته العملية، أن ثغرات وأبعاد فات المخططين للمعاهدة حسابها بدقة، وأدركوا أن أنهم بصدد مواقف مواجهات كبيرة مقبلة، وأبرز تلك الأبعاد هي أقتصادية، متمثلة بالأهمية الواعدة للطاقة في المشرق العربي، وأن المنطقة العربية مقبل على تحولات سياسية واقتصادية وثقافية كبيرة ستضعها في مقدمة مناطق البؤر التحررية المناوئة للأستعمار وقد تنبأوا ذلك من خلال ثورة العشرين والثورة السورية العظمى والثورات والانتفاضات المصرية، الليبية، فكان لابد من خلق كيان صهيوني في فلسطين، وضرورة تأسيس كيان في هذه المنطقة المضطربة عرقيا (فرس" أكبر الاقليات"، آذريون / تركمان، كرد، لور، واقتطاع الأقليم الغني بموار النفطـ لمنع تشكيل بحيرة عربية وضم النفط الاحوازي للنفط العربي" واقتطاع جزء من افغانستان (بلوشستان" وأقامة كيان سياسي يمتد من تركيا وحتى البحر العربي) ومن جهة اخرى سيكون حاجزا لمنع توسعات محتملة للأتحاد السوفيتي وللافكار الاشتراكية التي كانت توعد بأنتشار واسع في تلك الارجاء، ولم يوقف الثورات الاشتراكية في تلك الارجاء إلا التدخل الاستعماري الكثيف وبشق الأنفس. لاحظ كم جوهرية هذه المعطيات.!

هذه كانت إذن ضرورات أستطلعها الانكليز والامريكان مبكراً بوصفهم قادة المعسكر الأستعماري الجدد الناتج عن الحرب العالمية الأولى. العالم كان يدار أستعماريا بشكل كامل، فالقارة ألأسيوية لم تكن تعرف دولا مستقلة إلا أمبراطورية اليابان وأفريقيا دولة ليبيريا، وأميركا اللاتينية كلها مستعمرة، فقط أوربا كانت دول مستقلة الغربية منها أستعمارية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، البرتغال، هولندة، إيطاليا)، لذا قرر الإنكليز التفاهم مع ضابط مغمور (بهلوي) لم يكن أكثر من سائس خيل في البلاط القاجاري، وسلموه نظاما ملكيا، برعايتهم وحمايتهم، وأسسوا دولة أحتاروا من أين يجدوا تسمية لهذا الكيان الغير مطروق في التاريخ، (إيران) حتى وجد الانكليز هذه التسمية تجمع بين الآريين والنهاية الاسيوية التقليدية( ان) وسيكون هذا مقنعاً للفرس العمود الفقري لهذا الكيان بوصفهم الأقلية الأكبر وقد تشيعوا لسبب واحد وحيد هو أن لا يخضعوا لدولة الخلافة العثمانيةالمركزية فجمعوا هذه القبائل المتناحرة في كيان سياسي واحد بقيادة قاسية شرسة، واجهت الانتفاضات والثورات الكردية والآذرية والعربية والبلوشية اللورية التركمانيةـ ولم يسقط النظام الإيراني وليس الدولة إلا بفعل ثورتين أثنين قام بها الفرس، إحداها عام 1954 بقيادة الحركة الوطنية الإيراني بقيادة د. محمد مصدق الأكاديمي الرصين، ذو الأفكار التحررية القريبة من الاشتراكيةـ فتوجس الغرب منه خيفة، وحين اقدم مصدق على تأميم النفط، قال الانكليز رضا بهلوي تنحى وسافر إلى المنفى مؤقتاً ريثما نتدبر الأمور، والشاه القليل المواهب الذي يفتقد لقاعدة سياسية او شعبية أو عسكري، ترك البلاد هاربا إلى روما. ولم يعد إلا بعد أنقلاب تمثيلي، أعدته المخابرات الأمريكية فعاد الشاه خائفا وطائعاً  .. ولكن إلى حين ...!

الحركة الثورية الثانية كانت حين تململ الشعب الإيراني إذ بلغ فساد النظام الشاهنشاهي الذروة. والغرب يعلمون بدقة فساد الشاه ولدبهم مؤشرات في استقيال الشاه في المانيا الغربية، وتظاهرات الإيرانين ضد استقباله، ومن استنكار دعوة الرئيس الأمريكي كارتر لأستقباله في الولايات المتحدة بمظاهرات عارمة، أن بضاعتهم الفاسدة على وشك ان تسقط، ولا مانع لديهم، ولكن من هو المقبل ..؟ العسكريون بطبعهم مجازفون استبعدا من الاحتمالات، اليساريون من نقابة العمل التي بادرت وأشعلت نيران الثورة، وايدتها ثورات العرب الاحوازيين. يستحيل القبول بهم. الحركة الوطنية الإيرانية مقسمة ولم تحسم خياراتها، والوطني البارز د. شاهبور باختيار، أخطأ بأخياره العمل خارج التفاهمات، وأختار العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتفاهم مع الشاه المنهار.

يبدو لنا أن الولايات المتحدة في إطار التفاهم الأمريكي / الإنكليزي بحسب ما لديهم من تداخلات عالمية، قرروا أن أفضل من يمكن عمله هو التصدي للتيار اليساري المتصاع في العالم، هو الأتيان بحواجز دينية معادية للأشتراكية، فلا شيئ يسقط النظام البولوني الاشتراكي المنخور من فساد القيادات الاشتراكية (عدد من أعضاء المكتب السياسي لحزب العمال البولوني)، لها ولاءت للأجهزة  الغربية في الخفاء ومن الوجود الشعبي القوى للكنيسة الكاثوليكية، فلا أفضل من أستخدام الكنسية بمواجهة الاشتراكية، فجيئ بالبابا البولوني كحبر اعظم للفاتيكان، وهو ما منح زخم قوي للتمرد البولوني وقيادته منظمة التضامن، وفي نفس الوقت كانت ثورة جنوب أفريقيا قد بلغت الذروة وجيئ بالقس ديزموند توتو رجل الغرب مرشحا للقيادة، وفي إيران بدا رجل الدين الفارسي الساخط والذي يلتف حوله الغوغاء ويتصف بالبرغماتية والمماطلة وكان يجيد الحوار وأعطاء الوعود لمنظمة مجاهدي الخلق، وللحركة الوطنية الإيراني بعد فصل بختيار وادار الحوار حتى مع الاكراد والحزب الشيوعي الإيراني، وهكذا بدا الخميني المطلوب المناسب للمخابرات الامريكية التي تولت إقامته بضاحية باريس في فيلا اجره الأمريكان له، وقدمت له التسهيلات يوم عودته لطهران على متن طائرة الجمبو التابعة للخطوط الجوية الفرنسية بحماية المقاتلات الأمريكية.

وبمعارضة وزارة الخارجية الامريكية وموقف غير حازم من السي آي أي(CIA) ورأي مرجح للرئيس كارتر الذي يكره شخصيا الشاه، بإنهاء عهد الشاه، فتفوق رأي الاستخبارات العسكرية الامريكية وعهد لجنرال من سلاح الطيران حنرال طيار روبرت هويزر(G. Robert Huyser) بتنفيذ المهمة ومنع الجيش إلإيراني من إنقاذ النظام وحفظ امن البلاد. وهو ما تم فعلاً في شباط / فبراير / 1979. وللخميني مهمة واحدة هي إغراق البلاد في بحر العداوات وتصفية الاجواء مبتدأ بالشيوعيين فأتهمهم بالتهمة المفضلة لمعادي الشيوعية بأنهم جواسيس موسكو، ثم تصفيات دموية للفصائل الكردية، ما لبث أن أبعدت كتلة مهدي بزكان، ثم الشيعة " الليبراليون" أول وزير خارجية للثورة قطب زادة، بعدها التيار التقدمي الشيعي المتمثل بمجاهدي خلق، واخيرا وليس آخرا كتم صوت الليبرالي التحرري (الرئيس ابو الحسن بني صدر ) الذي اعتقد بفكرة قديمة دارت في الكنيسة الاثودوكسية، وفي كذلك في الاسلام بأسم " الحركة الدهرية". وهي محاولة تجسير الهوة بين الدين والفلسفة (Schoolastic) "السكولاستية"، وناصبه الخميني العداء حتى تمكن بني صدر من أنقاذ نفسه في اللحظة الاخيرة، بالفرار إلى فرنسا وتوفي فيها. واغتيل آخر رئيس وزراء شرعي شاهبور باختيار، وأراد الخميني بعقله الحاقد توجيه لطمة للرئيس كارتر للوزارة الخارجية الأمريكية باحتجاز لا معنى له لطاقم السفارة الأمريكية، ولكن مع أختلاق الأسباب والمبررات للحرب مع العراق، ابتدأت مرحلة جديدة.

كان الخميني قد أوهم الامريكان أنه سيسقط النظام العراق بسهولة وهو أمر أسعد الأمريكان، ولكن بعد 8 سنوات من الحرب، كاد النظام الإيراني أن يسقط، قال لهم الأمريكان " قفوا هذه مهمة لن تقدروا عليه " وبمخطط دقيق ومدروس أجل الخميني معاركه العربية الأخرى لأنها تقع في مناطق حساسة، والعراق جدار صلب وعال ولا يمكن اسقاطه بسهوله وهو في المخطط الأمريكي منذعام 1973، فبدأت صياغة الخطط وتجنيد المشاركين واستنباط الذرائع، وللأسف أن يشارك عديد ممن ينبغي ان يضمهم الخندق العربي، أنظموا لجبهة العدو، واليوم يدرك الجميع انهم كانوا في عناصر في المخطط وفداحة ما ارتكبوا من خطأ، ولكن لات ساعة مندم ، فقد أسقطوا بأيديهم السد العالي وتفضلوا النتائج. وأميركا في تاريخها لم تقاتل من أجل حليف، ولكنها قاتلت في العراق على حسابها وخسرت الكثير جدأ وستخسر المزيد.

حسن نصر الله اللبناني اوهم بغداد بأنه قائد مقاومة، ولكنه كان يتفق سراً مع الإسرائيليين على حراسة الحدود. ثم توالت المؤامرات الأمريكية بتفاصيلها المعرفة تقريياً حتى يومنا الحالي، حين أتضحت المؤامرة الأمريكية / الأيرانية بأبعادها الكاملة .

اليوم العرب والمسلمون يواجهون خيارأ واحداً، أنت عليك أن تكون في خدمتنا بلا حدود، ونتدخل في شؤونك بلا حدود ونبتزك بصراحة بلا حدود، وبصراحة فجة لماذا .. لأن عبد الناصر كان قومياً، وصدام بعثياً، والسعودية تريد أن تنمو بدون موافقتنا، ودعم اللغم اليمني / الحوثي ليتسيد الساحة ويمثل تحديا دائميأ للخاصرة السعودية، والبحرين كذلك، ولنقسم سوريا، وندمر ليبيا، وندعم إسلاميوا الجزائر، ونعبث بشمال أفريقيا. والأدوات الأمريكية/الإيرانية، قائمة كبيرة نسبياً متفقة شكلياً، متناقضة جوهريا، ويبدو أن معسكر العدو قد اشتغل جيداً وأغدق الأموال بسخاء، ورغم واقعيتي الشديدة في السياسة، إلا أن بعض الأسماء التي باعت شرفها الوطني بصراحة أدهشتني بشدة ..!

الصراع الروسي / الغربي في الساحة الأوكرانية ستحسم قريباً، وهناك تقسيم دولي جديد، العالم سيشهد انبثاق أكثر من قطب، وزمن الأيديولوجيات ولى، والمصالح الاقتصادية / القومية / الطائفية ستكون هي دليل الكتل الرأسمالية حسب نظرية فرانسيس فوكويا  وصامويل هينتغتن، وهما ينظران لعالم التسيد الأمريكي ولكنه انتهى بكارثة دموية، أمريكا ستنكفئ في قارته، ومعها بريطانيا وكندا وأسترليا ونيوزيلندة، وهذا تصفيف أولي قابل للتعديل،

أوربا ستبقى في قارتها وصفوفها غير مترابطة، فخلاف الآراء متعدد وواسع، وروسيا ستكون القوة الأكبر في أوربا مع تحالف وثيق مع الصين وقوى آسيوية ... ومن بين هذه القوى الصاعدة، تتصاعد قوى عربية هي مصر والسعودي والجزائر، ويحتمل المغرب.، فأين العراق، وأين من باع الأوطان من أجل الكرسي في سورية ولبنان، واليمن .؟ ألا تعتبرون من عبرة رفعت الأسد الذي حلبوه  ثم طاردوه في أروقة المحاكم ..!

نظام الملالي ساقط ومنتهي،  لأن قوامه مؤسس على خطأ، نظام سياسي قائم على غيبيات، وشعب يدرى أنه أضاع عقوداً ثمينة في حروب توسع مستحيلة، بلد مهشم عرقيا وطائفياً ونظام يتدرع بالطائفية والعرقية، إليس في هذا تناقض غريب ..؟ يعتقدون أن بوسعهم بمعسول الكلام خداع الجميع، وإن بحر السياسة عميق والتأمر والخبث يصلح في جميع المراحل... وفي النهاية حين لا يعد هناك فائدة ترتجى، يقذفون بهم إلى سلة النفايات، فأنت لست قويا ولا كبيرا ولا تعرف كيف تدبر أمورك، منذ 43 عاما وأنت في السلطة ولم تنجح في موقعة إلا حين دفعنا نحن تكاليف نجاحك ...فانت لست أثمن من الشاه البهلوي الأول عباس والثاني رضا، وكلاهما مدفونان في خارج إيران.!

من خواطري، أني ذات يوم سألت صديقا حميماً وكان يعمل مدرسا للمنطق في حوزة النجف، قلت له " أخي الكريم، هل تخبرني بربك لماذا سقط وأندثر النظام الفاطمي بعد أن أتسع وبلغ شأنا عظيما في إحدى مراحله واليوم لا تجد شيعي واحد في تلك الساحات ؟" فذهل الرجل وقال " لا والله لا أعرف أخبرني رجاء " قلت " سأخبرك غداً لتفكر  بالجواب"، وفي اليوم التالي بكر بالقدوم عندي وطالب الجواب " قلت بأختصار " لاحظ أن الفاطميين / الاسماعيلية خانوا الدين والأمة وتحالفوا مع الصليبيين، هل عرفت رباط السالفة ...؟" تطلع إلى بعمق ... " طبعا دكتور ... طبعاً كل شيئ مفهوم".

والله بصدق أنا آسف على أصدقاء عراقيين وعرب أعرفهم، كانوا تقدميين وقوميين، وبعضهم ماركسيين، ومثقفين " يمكن وصف هؤلاء هكذا للأسف " اليوم باعوا أنفسم إما مقابل الامان أو المكاسب، أو أنهم مثقفين مزورين. أو أي شيئ آخر، لكنهم للأسف سقطوا .. شر سقطة ..جماهير الشيعة العريضة الواسعة ستشعر أنه تعرضوا لعملية غش وتدليس منقطعة النظير دامت لقرون ... الشيعة العراقيون عرب وعراقيون ...

ملالي إيران سيسحلون في شوارع طهران من عمائمهم، ... العمل السياسي الإسلامي سيسقط بما ذلك الاحزاب السياسية السنية، بعد أن فعلت الكثير وساهمت بخداع الناس البسطاء والسذج من الناس، واساؤا للإسلإم بشكل عميق, وأساءت لدول وشعوب المنطقة واعتدت على سيادتها بتفويض وتوجيه من الغرب، وبعد زوال نظام الملالي سيحتاج إصلاح الأوضاع لوقت غير قصير، ولكن الإسلام باق بقوة الرافض التحزب والجهل والطاعة العمياء بغباء.

المرتكزات الحقيقية للوجود المادي هي: العراق باق وموحد، وعربي الهوية، هذه هي المرتكزات الحقيقة الثابتة، وسيعاد إعماره مره بنظام سياسي متقدم يراعي الشروط السياسية والاجتماعية بالنكهة العربية الاسلامية الأصيلة وليس تقليداُ لتجربة أخرى ولا بأهواء طائفية, في مقدمة الشروط لكل عمل هو الأبتعاد التام عن علاقة خارجية مؤثرة على القرار الوطني، وسوى ذلك فهي مداولات داخلية. سنتوصل بطريقة قانونية سلمية ان نتفهم بعضنا، طالما نحن متفقون على الثوابت بلا تعصب ولا تطرف ولا غلو .... فليتخل الجميع عن أوهام السيطرة وعن الأعتقاد بأنه الأوحد على حق، وأن الجميع ... الجميع هم مواطنون من أكبر رأس وحتى أبسط عامل وفلاح ... لا يوجد فرد ولا جهة بمقدورها أن تقرر شؤون البلاد،

 

 

 

الكوزموبوليتيك أعلى

 

مرحلة للعولمة / الإمبريالية

 

د. ضرغام الدباغ

 

أولاً : الكوزمو بوليتية

أعترف بأني لم أكن أفهم السبب الجوهري للإصرار الغربي (الأمريكي خاصة)على تمرير، بل وفرض تشريعات وقواعد دولية ذات طابع اجتماعي، ذات طابع إنحلالي تفكيكي، ولكن اهتمامي تكاثف بعد ظهور واضح للمساعي الامريكية العلنية منها والخفية، في تشجيع ظاهر وخفي للمثلية الجنسية، وتمهيد لتشريع دولي للجنس الثالث، وفي هذا الاتجاه أيضاً قانون " اتفاقية استامبول للمرأة"، إذ لا يمكن قبول التبرير والتبسيط الشديد لمرامي هذه التوجهات التي تشهد مساجلات أقرب إلى التنازع حول فقرات وبنود تبدو في ظاهرها بسيطة، وعادية، وتدعو إلى حماية المرأة وحقوقها وهي توجهات إيجابية في ظاهرها، وهو ما دفع الكثير من الدول الموافقة عليها والتوقيع بالأحرف الأولى عليها (اتفاقية استامبول)،  ولكن حين أحيلت هذه المشاريع إلى لجان متخصصة، أحجمت العديد من الدول المصادقة النهائية عليها.

 

وتركزت ردة الفعل الأمريكية الغاضبة بشدة على رفض البلدان الإسلامية، رغم أن بلدان أوربية مسيحية عديدة قد رفضتها (بلغاريا، هنغاريا، التشيك، لاتفيا، ليتوانيا، سلوفاكيا، بولونيا)وغير أوربية أيضاً، إلا أن الولايات المتحدة كقائدة للمعسكر الغربي، تفترض أن الممانعة من الدول غير الإسلامية هو "خلاف" يمكن حله في المستقبل على يد حكومات "متفتحة / متساهلة" ولكن الاعتراض الإسلامي هو جوهري في مداه القريب والبعيد، كما يخشى من سريان مفاهيمه إلى مجتمعات ودول أخرى.

 

فكرت وتأملت طويلاً، عن الأسباب الجوهرية لهذا الإصرار على قانون المرأة والانفتاح التام للمثليين، وفي شرعنة حقوق لهم، بما في ذلك عقود الزواج، وحق المعيشة المشتركة، ثم منح المثليين الحق في تبني أطفال، من دور الأيتام والمجهولي النسب، وتغير مهم في قوانين الأرث، وتسهيل عمليات التحويل الجنسي (من ذكر لأنثى وبالعكس)، والقبول بما يسمى بالجنس الثالث (من المدهش أن إيران في مقدمة الدول التي تبيح التحول الجنسي)، وتشريعات وقوانين أخرى، ستحول المجتمعات إلى حقل تجارب، وبعد النهاية الرسمية للعائلة فإن الأبواب مشرعة لتحولات ستجعل من العائلة لا قيمة ولا أي اعتبار، سوى تحويل البشر إلى قطعان عاملة، ولكن ما هو الهدف الجوهري من كل ذلك ...؟

 

الغرب الذي يوظف أموالاً وجهوداً سياسية كبيرة، فهو  لا يستثمر المال والوقت هدراً، بل هو يفعلها من أجل أهداف سياسية واقتصادية، يأمل منها أنها ستعزز سيطرته العالمية ولتواصل الولايات المتحدة لعب دورها كمتروبول قيادي عالمي، ضمن توجه واسع له عناوينه الرئيسية وبمفرداتها، وفي مجموعها تمثل ملامح التوجه الجديد للرأسمالية العالمية في ضمان مواصلة هيمنتها ودورها القيادي، ومواجهة التحولات المحدقة التي على وشك أن تعرض نفسها بوضوح تام على مسرح السياسة الدولية ومن تلك : 

تشجيع الظواهر الانقسامية في الدول الكبيرة، بما يحول دون قيام أنظمة وكيانات قوية، يمكنها مواجهة التغول الأمريكي على المدى القريب والبعيد.

وهذا يستدعي مشروعاً يستهدف تدمير روسيا وتقسيمها (بصرف النظر عن حجم مخاطره)، وحرمان الصين من حليف قوى وقوة عظمى في آسيا / أوربا.

تشجيع الأقليات العرقية والدينية في الصين ومنحها الأمل في الانفصال والهدف هو تفتيت الصين.

والولايات المتحدة في سعيها للهيمنة على العالم لا تستبعد في خططها إضعاف  لألمانيا وفرنسا الدولتان الرأسماليتان، بدرجة تنهي الاتحاد الأوربي ككيان سياسي، منافس للولايات المتحدة في قيادة العالم الغربي / المسيحي.

ولكن الخطط والبرامج الأمريكية لا تغفل عن استخدام التوجهات الاجتماعية  بأعتبارها الحسام الفيصل، فالبرنامج الاجتماعي يهدف إلى تدمير المكونات الثقافية والاجتماعية للشعوب ولا سيما الأمم الكبيرة، كالهند، والدول الإسلامية، وشعوب هذه الدول تعد بالمليارات. وتجني الولايات المتحدة من هذه التوجهات، أولا أن لا تعلو قوة في العالم سياسية كانت أو اقتصادية أو عسكرية، أو ثقافية ما يمنح شعوبا وأمما في العالم ملامحها وشخصيتها المميزة. وبالتالي تحويلها إلى أفواه فاغرة، وشهوات مستحكمة بالبشر تفقدها إرادتها في ظل فقدانها لروابطها الوطنية والقومية.

 

وهذه توجهات تم إحاطتها وتغليفها بشعارات لزجة تفضلها الولايات المتحدة : كحقوق الإنسان، والديمقراطية ولا سقف لحرية الإنسان، وحرية الاختيارات الجنسية، ولكن في واقع الأمر هي مشاريع تمهد الأرض لخططها التوسعية، ولكي لا تجد أمامها من يواجهها ويفضح مرامي مخططاتها معارضاً.

 

وحين تلمست الولايات المتحدة أن هناك معارضا قويا كروسيا الاتحادية، والصين الشعبية، قسمت المواجهة الحالية وخصصت كأولوية المرحلة للمواجهة مع روسيا، التي أدركت بالطبع بصورة مبكرة أهداف الدعايات الديماغوجية، فتصدت القيادة الروسية لفضح جوهر هذه التوجهات، وأنها تستهدف إنهاء قدرة الإنسان على المواجهة، ولخصت القيادة الروسية ذلك بما يلي :

 

الغرب تخلى عن قيم الأسرة والعائلة، والمجتمع الروسي لن يتقبل التوجهات الغربية والأنماط السلوكية الشاذة،وولا يعتبره تطورا حضاريا ذات قيمة.

هل جننتم ؟ تريدون خلق صنف جديد عدا الذكر والأنثى !

كلا للجنس الثالث، كلا للمثلية.

هل تريدون نشر قيم الغرب في روسيا ويكون لدينا جنس ثالث؟ كلا لا ولن نقبل ذلك.

القوة هي التي ستحدد المستقبل السياسي في العالم.

 

ولم تبالي الولايات المتحدة أن تكون أوكرانيا وبضعة ملايين أوكراني ضحية لخططها التوسعية، وأن تكون ساحة للمعارك الحربية، لأحدث الأسلحة الفتاكة، وراحت تمد فئات النازيين الجدد في أوكرانيا بأحدث الأسلحة، دون اكتراث لحجم الخسائر البشرية والاقتصادية.

 

ولكن الموقف من التوجهات الكوزموبوليتية لم تقتصر على بلدان شرق أوربا، بل ها هي الأزمة تطل مع أي تحولات اجتماعية في الأقطار الأوربية، بل تحمل التوجهات الجديدة في أوربا الكثير من الاحتمالات، في تشكل رأي عام دولي كبير يعارض الثقافة الكوزموبوليتية، وأقرب وأوضح مثال على تخبط الغرب الرأسمالي المسيحي هو ما سينجم عن تشكيل حكومة يمينية من مواقف حاسمة ضد الثقافة الكوزموبوليتية، وهي توجهات واعدة في العديد من الأقطار الأوربية الغربية، وهذا ما رشح من خطاب رئيسة الوزراء الإيطالية الفائزة بالانتخابات من توجهات واضحة :  

 

لماذا الغرب الرأسمالي يبذلون جهود هائلة ضد الهوية التي تحدد كل شخص، ليكون الإنسان بلا هوية ولا جذور كمستهلك مثالي ...

كل ما يميز الإنسان أصبح عدواً، لا يريدون أن تكون هوية لكل شخص، يريدون تحوي البشر إلى قطعان مستهلكة.

يريدون تدمير الهوية الوطنية

الهوية الدينية

الهوية الجنسية

الهوية العائلية.

 

سنتوصل بمزيد من البحث   عن جذور المساعي لنشر قواعد الثقافة الكوزموبوليتية

تمهيداً لفرضها على العالم

ثانياً : الكوزمو بوليتية : المواطن العالمي مجتمعات بلا هوية

 

كلمة الكوزموبوليتسم (cosmopolitanism) أو (Kosmopolitismus) هو مصطلح، أفضل ترجمة له للغة العربية هي " المواطن العالمي " وهو مصطلح ظن الناس أنه خرافي، وسوف لن يأتي يوم نعيش فيه المجتمع العالمي الموحد، أو الوطن العالمي الموحد، الديانة الموحدة، القومية الموحدة، العائلة الموحدة، وبالتالي حكومة موحدة للكون بأسره. ونحن هذه الحكومة العالمية، وستفرضها بقوة الناتو، والأمم المتحدة، ومصرف النقد الدولي.(1)

 

ويعتبر الكوزموبولتيين أن جذر الفكرة تنحدر من الفلسفة الرواقية التي وضع أسسها ديوجين، الذي يعتبره البعض أنه كان مشرداً يحمل بيده شمعة ويطوف باحثاً عن الحقيقة في العهد الاغريقي، "ويطرح نموذج دوائر هيروكليس الممثلة للهوية التي تنص على أنه ينبغي لنا أن نعتبر أنفسنا دوائر متحدة المركز، تدور الدائرة الأولى حول الذات ثم مباشرة العائلة، الأسرة الممتدة، مجموعة الأشخاص المحليين، مواطني الدولة وأبناء البلد، ثم الإنسان عمومًا. يشعر البشر داخل هذه الدوائر، بشعور من " التقارب " أو "التحبب" تجاه الآخرين، عندئذ تصبح مهمة مواطني العالم " رسم الدوائر بطريقة أو بأخرى باتجاه المركز، ما يجعل جميع البشر أشبه بسكان مدينتنا، وهكذا ". (2)

 

حسناً ولكن من سيحكم هذا العالم .. الجواب البديهي هم الأقوياء، الأقوياء بماذا ..؟ بالسمعة النزيهة مثلاً، أو التمسك بأهداب الشرف والخلق الممتاز ... وسؤال كهذا ينم عن الجانب المرح في شخصية السائل ..! وميله للمزاح .. والإجابة الصحيحة هي طبعاً، الأكثر قوة وثروة، ومن يتملكه الفضول ليسأل لماذا الأكثر ثروة، والجواب مرة أخرى، لأن الأكثر ثروة هو بداهة الأكثر قوة وعدة وإلا لما صار شيخاً للحرامية وزعيماً للحكومة العالمية.

 

الشخصية الكوزموبوليتية تفسر كل تصرف بمقدار اقترابه من التسليم بمزيد الاحترام لمصطلح المواطنة العالمية وللحكومة العالمية، فسيعتبر عدم الأنظمام للمعسكر العالمي الموحد هو ضرب من ضروب الغباء والحماقة، قبل أن يصفها بالتمرد، وربما استطراداً إلى الإرهاب. وهذا يشمل جميع الأمم قاطبة، وأبتداء من أصغر الظواهر والملامح إلى أعلاها وأكبرها. " قد يعتمد مجتمع المواطنة العالمية على " الأخلاق الشاملة " وهذه مصطلح ذرائعي، يشمل العلاقة الاقتصادية المشتركة أو الهيكل السياسي الذي يضم جميع الأمم باختلافها. في مجتمع المواطنة العالمية، يشكل جميع الأفراد الذين ينتمون إلى أماكن مختلفة (مثل الدول القومية)، علاقات تستند على الاحترام المتبادل.

 

ويقترح أحد مفكري الكوزموبوليتيا على سبيل المثال:  إمكانية وجود مجتمع المواطنة العالمية، يدخل فيه الأفراد من مواقع وظروف مختلفة (المادية والاقتصادية إلخ) في علاقات تستند على الاحترام المتبادل رغم اختلاف معتقداتهم (الدينية والسياسية وما إلى ذلك). حُددت بعض المدن والمواقع المختلفة (جغرافيًا) سابقًا أو حاليًا، على أنها تمتلك سمات «المواطنة العالمية»، لكن هذا لا يعني بالضرورة اعتناق وإيمان جميع أو معظم سكانها بالفكرة الفلسفية المذكورة أعلاه. بدلاً من ذلك، يمكن تسمية سكان تلك المدينة بـ«المواطنين العالميين» لمجرد عيش الكثير من الأشخاص من خلفيات عرقية وثقافية أو دينية مختلفة على مقربة والتفاعل مع بعضهم البعض ". (3)

 

الكوزموبوليتيا تتفاعل إيجابياً مع الأفكار، والعقائد، ولكن بشرط واحد هو أن تبدي تلك المجموعة اعترافها التام بالمواطنة العالمية والحكومة العالمية، وأنها سوف تندمج (ربما في مرحلة لاحقة) وتتلاحم مع الفكرة العالمية لدرجة أنها تتلاشى في غياهبها.

 

والمواطنة العالمية هذه تشترط (فيما تشترط) على الألتحام التنظيمي، العقائدي، الاخلاقي، ولكن يستحق الملاحظة والأنتباه، أنها لا تعد البشر بحياة مماثلة في تقاسم الثروات والرفاهية.

 

مجتمعات بلا هوية

جوهر فكرة الكوزموبوليتانية هي أن الإنسان حيثما كان إنما هو كائن ينتمي لعالم واحد، وبالتالي أن المواطنة العالمية تسعى لتأسيس حكومة عالمية، انطلاقا من مبادئ العولمة.

 

ولكن الكوزموبوايتية لم تفلح في إقناع العالم، أن البشر حيثما كانوا في أقطارهم هم متحدون بذات الشروط السياسية والاقتصادية والثقافية والاخلاقية، وحيث لا يمكن الزعم مطلقاً بأن أي من المجتمعات والثقافات هي الأصلح والأفضل، ذلك أنها (الثقافات والمجتمعات) هي نتاج عوامل تاريخية عديدة، وبعضها موضوعية خارج عن إرادة البشر. لا يمكن أن تكون متحدة، وهذه ليس إلا فكرة خرافية، تخفي ورائها السعي لهيمنة عالمية مطلقة يصعب تحقيقها على أرض الواقع.

 

وفكرة الهيمنة العالمية من خلال المواطن العالمي(الكوزموبوليتس) فكرة طوباوية (خيالية)، فواقعيا نجد أنه تصطدم (وبشدة) مع أفكار أساسية بشرت بها الإمبريالية، ومن ثم العولمة، حيت تتناقض مع الدجيمقراطية بأوسع معانيها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي من أولى مبادئها، أحترام التوجه الثقافي / السياسي للفرد والمجتمع سواء في البلد الواحد أو في العالم، في حين أن الكوزموبوليتية تهدف إلى صياغة ثقافة سياسية /ثقافيةــ أجتماعي / اقتصادية،  وإذا كان منظروا الكوزموبولتية يستبعدون الإجراءات القسرية ففي ذلك نسف علني لما قد يتسلل من مفاهيم تستحق الأنتباه لمشروع الموزموبولتية.

 

والطوباوية في الكوزموبولتيك المعاصرة، فاقت ما تخيله ديوجين، وتتجاوز طوباوية توماس مور (1478 ـ  1535)( Utopie) فإذا كانت طوباوية القرن السادس عشر، خيالية محضة، تخيل فيها توماس مور حزيرة لم توجد، تسودها قوانين خيالية جوهرها إنساني حيال ماكان الفقراء يعانون (" فقد أعدم 72 ألف متشرد تحت حكم هنري السابع، وشنق 300 ـ 400 متشرد سنوياً تحت حكم الملكة اليزابث".(4)

 

ويصف المفكر برتراند رسل أفكار توماس مور بكونها خيالية، اتخذت شكل رواية من أحداث سفينة غرقت في بحر أو محيط مجهول(ربما المحيط الأطلسي)، وأقيمت دولة على أرض جزيرة خيالية، ويصف مور دولة هذه الجزيرة وصفاً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. ومن ذلك " لها مساكن متماثلة ويستطيع المرء أن يدخل أي منها، كل شخص يرتدي نفس الثياب، مع تميز ثياب النساء والمتزوجات من غير المتزوجات، ورئيس الدولة ينتخب مدى الحياة، ولكنه يعزل إذا أساء العمل، والجيش مؤلف من المرتزقة".(5)

 

ومن جملة الأفكار الاجتماعية التي تستحق الإشارة إليها هي " أن دولة يتوبيا تمتاز فيها الملكية بالاحترام، وبدافع من مفهوم الملكية الخاصة. ولكنه يعود ويثني على أفكار أفلاطون في الملكية الجماعية بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، ويعتبر الملكية العامة هي النظام الاقتصادي لليتوبيا". وتبدو أفكار مور تضم تشابه في ثناياها على أفكار أفلاطونية فيحدد سكان اليتوبيا بخمس وأربعين مدينة تحيط بها أراض متساوية، ترسل كل أسرة عدد متساوي من أفرادها للعمل في الأرض. والعوائل محددة وكذلك عدد أفرادها ومنازلها، ويتناولون الطعام بشكل جماعي. ثم يقترح مجلساً للشيوخ منتخب ويناقش المجلس قوانين اليتوبيا. ولا تحتل السياسة الخارجية إلا قدر ضئيل من أهتمام مور ولكنه إجمالاً يسعى إلى السلام ويبغض الحرب.(6)

 

ولا نجد الكوزموبوليتة أقل خيالية من اليوتوبيا، وإذا علمنا أن بين اليتوبيا / الطوباوية، والكوزموبوليتي / (Globalisation) أكثر من 500 عام، فإننا سنجد الفارق يتمثل فقط في شكل النظام والدولة، وقدرة الدولة الصناعية الجبارة، أما لجهة وهم الاعتقاد والتصور، فالمفكر توماس مور كان أكثر إنسانيا وتخيل أنه باليوتوبيا ينقذ ألاف المشردين من الموت، ولم يتخيل أن الجنسية المثلية لحل لأزمات الإنسانية.

 

الكوزموبوليتيا إذن لا تعد بكلمة واحدة عن اقتسام الثروات على نحو عادل، فهذه سيقربهم من المحرمات الكبرى(الاشتراكية)، ولا يتحدث عن مجتمعات لا عرقية وهذه تضعهم على مشارف مدن ودول المساواة والعدالة الاجتماعية، ولا حديث عن مراحل الاستعمار والإمبريالية، ونهب الشركات المتعددة الجنسية، ونهب المعادن والثروات الطبيعية، فهذه سياسة ستمارس بالسياط، أو بالقنابل النووية والبلاكوتر ، وجيوش الناتو من أجل فرض سياسة هي من تفاصيل الكوزموبوليتيا.

 

هذه هي بأختصار الكوزموبوليتية، الرأسمالية في أعلى مراحلها، الإمبريالية تحاول أن ترتدي وجهاً يلائم مسرح العلاقات الدولية المعاصر، تدمير شامل للبشر، مقال صعود إنسان جديد بلا خلق ولا قيم ولا أخلاق، وبلا ولاء لأي كائن أو كيان إلا من يمنحك راتبك الشهري وإيجار شقتك المريحة، ومقابل ذلك تمارس كل ما لا يسئ للكيان الكبير، تخرج الصباح للعمل وتعمل بأنضباط تام، كأي ماكنة، وتنبس ببنت شفة، وتعود لبيتك وتمارس حياتك كما تشاء، ولا يهمنا درجة الانحلال التي تسبح فيها. الوطن، الدين، العائلة، القومية، الثقافة الوطنية، هذه خرافات لا معنى حقيقي لها .....

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش

 

 

1. الموسوعة الدولية. الأنترنيت.

2. نفس المصدر

3. نفس المصدر

4. بابي، جان: القضايا الأساسية للاقتصاد السياسي للرأسمالية، ص46

5. رسل، برتراند: حكمة الغرب، ص38

6. الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص211

 

 

 

 

 

 

 

ثالثاً : كيف نواجه الكوزمو بوليتك

 

في مطلع الثمانينيات، عرضت القناة الثالثة في تلفزيون ألمانيا الاتحادية وضمن البرنامج الثقافي (أيرنا) ندوة مهمة كان يديرها ويحضرها عدد من العلماء الألمان من اختصاصات شتى، ينتمون إلى جامعات ومعاهد ومؤسسات علمية مختلفة. وموضوع الندوة الذي كان البحث يدور حوله هو (حماية الثقافة واللغة الألمانية) واستطراداً، عناوين ومفردات أخرى مهمة في الحياة الاجتماعية الألمانية عن تسلل ثقافات أجنبية. فقدم العلماء الألمان معطيات دقيقة مدعمة بالإحصائيات تعبر عن حجم هذا التسلل الذي أعتبر في وقته كبيراَ. وخلاصة ما دار في هذه الندوة الهامة، أن اللغة والثقافة الألمانية تواجه خطراً لا يستهان به في المستقبل القريب والبعيد. وبعد عقد من السنوات أو أكثر، يقول رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية في كلمة له أمام مؤتمر البرلمانيين الدولي: " إن على شعوب العالم أن تأخذ حذرها مما يسمى بالثقافة العالمية التي تدمر الهوية القومية والثقافية للشعوب" (1). وبعد ذلك اتخذت الدولة الفرنسية قراراً بمنع استخدام ألفاظ أجنبية في اللغة الفرنسية، منها كلمات بسيطة وشائعة.

 

ويحق لنا هنا أن نتساءل ونتأمل، إذا كان شعباً كالألمان أو الفرنسيين، ذوو الأمجاد الثقافية والاقتصادية والحضارية عامة من جهة، وقربهم من ثقافة وحضارة الثقافات المتسللة إليهم من جهة أخرى، يطلقون نداء التحذير ويتخذون الإجراءات المضادة، فما هي إذن المخاطر التي تتعرض لها أمم وشعوب هي في الواقع شبه عزلاء، لهجمة شرسة عاتية لا تبقي ولا تذر..؟ وإذا كانت الثقافة العربية تمتلك دروعاً ومعدات، وحصوناً منيعة، ترى ماذا يمتلك شعب بوركينافاسو مثلاً كي لا يفقد آخر ما يمتلك من مقومات الهوية الوطنية والقومية..؟ وهو لا يمتلك أساساً الكثير منها بسبب تعرضه لقرون طويلة، ولا يزال، للاستعباد وعمليات صيد وقنص للبشر، ونقلوا إلى قارات أخرى واستخدموا كعبيد هناك، أو تجنيدهم في الحروب والغزوات الاستعمارية لضم وإلحاق بلداناً أخرى إلى ممتلكات الدول الاستعمارية.

 

ولابد لنا بادئ ذي بدء أن نؤكد على حقيقة مهمة، هي أن النظام الرأسمالي لا يهتم كثيراً بالثقافة بوصفها نشاطاً أو موقفاً إنسانياً رفيعاً يسمو فوق نزعات النهب والاستعباد، وما هو إلا نشاط ترفيهي يهدف إلى التسلية، وفي هذا المجال يكتب المفكر الأمريكي جون نيف الأستاذ بجامعة هارفارد قائلاً: " منذ ظهور الصور المتحركة والمجلات والراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، شاعت فكرة مؤداها أن مستوى النجاح مرهون بعدد القراء والمشاهدين، وهكذا أزداد توجه وسائل الإعلام إلى تلبية طلبات ذوي المستويات الثقافية المتدنية الأفق بحجة أن هذه هي الوسيلة الأنسب لزيادة الأرباح. وهكذا أبتدع أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها أناساً يتصفون بالفراغ الفكري والابتذال واللامسؤلية والشهوة ".(2)

 

وقد غدت هذه التوجهات في أعلى مراحل تطور نظام الدولة الرأسمالية الاحتكارية خطوة على طريق دمج شعبها وشعوب أخرى ضمن نسيجها الاقتصادي والسياسي بالدرجة الأولى، وتكريس هذا الواقع من خلال قطع الأواصر التي تعبر عن كيانها وشخصيتها المستقلة واحتقار تقاليد وعادات الشعوب الأخرى وثقافتها وموروثاتها. والهدف النهائي هو : استنزاف قدراتها الاقتصادية وقوة العمل البشرية فيها، وأخيراً جعل هذه الشعوب والبلدان توابع ثقافية وسياسية، ولكن بالدرجة الأساس، جعلها وسطاً اقتصادياً تابعاً لا يمتلك أي طاقة روحية للنهوض، وإسناد دور نهائي لها في تقسيم العمل العالمي، يتمثل بتصنيع المكونات الثانوية أو الإمداد بالمواد الخام، أو ميداناً لنشاطات الشركات المتعددة الجنسية، وهذا الأمر لم يعد مقتصراً على منطقة واحدة، بل أنه موجه إلى أقطار العالم كافة لاسيما البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي هذا المجال يكتب الأستاذ البرازيلي كاردوز قائلاً : " هناك تبعية تنجم بالنتيجة، وهي تبعية متعددة الأوجه، سياسية واجتماعية وثقافية وعسكرية، بل أن عمليات التشكل الطبقي والفئوي تتأثر بالتبعية بشكل بالغ ".(3)

 

والحق فأن مثل هذه الفعاليات ليست جديدة تماماً في سياسة الدول الإمبريالية، فالشركات المتعددة الجنسية مثلاً وأساليب تغلغل رأس المال الاحتكاري معروفة منذ عقود غير قليلة، وكذلك فاعلية التأثير الثقافي الذي مارسته الدول الاستعمارية منذ فترة طويلة حتى في فترات ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، حيث انتشرت المؤسسات التعليمية الأجنبية حتى على مستوى الجامعات والمراكز والمعاهد الثقافية والإصدارات من الصحف والمجلات، بل وتأسيسها لدور النشر في مراكز عديدة من العالم منها أقطارنا العربية، وهذه المساعي مشخصة بدقة في العديد من البلدان النامية، وفي هذا المجال يكتب المفكر والمناضل الفرنسي / المارتنيكي فرانز فانون   عام 1961، أن الاستعمار يهدف في جملة ما يستهدفه، نسف المقومات الثقافية القومية للشعوب المستعمرة قائلاً: " أن الاستعمار لا يكتفي بتكبيل الشعب ولا يكتفي بأن يفرغ عقل المستعمر من كل شكل ومضمون، بل هو يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهده وأن يشوهه وأن يبيده. إن هذه المحاولة التي يحاولها الاستعمار إذ يجرد فيها تأريخ البلدان المستعمرة السابق على الاستعمار من كل قيمة، إنما تتخذ اليوم دلالاتها".(4)

 

وإذ لا يمكننا تجاهل الدور الثقافي والعلمي التنويري الذي مارسته هذه المؤسسات الأجنبية، لابد لنا من ذكر حقيقة موضوعية، أنها لم تكن تفعل ذلك هبة منها لوجه الله، بل كان ذلك ضمن مخطط له صفحاته التفصيلية، وبصفة خاصة، تسابق الفرنسيون والأمريكان والإنكليز والإيطاليون، فتنافست هذه الأطراف فيما بينها، بدا في بعض مراحله تناحرياً من أجل إحراز النفوذ الثقافي، وليس أدل على ذلك، حجم الأنشطة والفعاليات الثقافية التي كانت تتنازعها تيارات الثقافة الأنكلوسكسونية والفرانكفونية، بل وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، حيث كانت إيطاليا تسعى لتكريس نفسها كقوة عالمية، والهيمنة على البحر الأبيض المتوسط وجعله بحيرة (رومانية)، استخدمت بدورها المدفعية الثقافية، ففي العام 1937 سجل تصاعد مثير للدهشة رقم المدارس الإيطالية في مصر إلى 64 مدرسة تضم أكثر من 10 آلاف طالب، مقابل 39 مدرسة بريطانية تضم 5 آلاف طالب! (5)

 

وجدير بالذكر والإشارة، أن هذه الأطراف الاستعمارية والإمبريالية أدركت أن أحد مكامن قوة الأمة العربية هي في لغتها، فسعت دون هوادة إلى إضعاف أسس هذه اللغة وذلك بمحاولات إبدال الحروف العربية باللاتينية كمقدمة لتحجيم تطورها و إضعافها وتلاشيها على المدى البعيد، فحاولت ذلك في مصر ولبنان وإلى فرض اللغة الأجنبية على عرب شمال أفريقيا وبلاد الشام وإحلال الثقافة الفرنسية فيها، والإنكليزية في مصر والسودان والأردن، وقد بذلت مجهودات كبيرة في هذا الاتجاه، إذ سجلت نجاحا محدوداً تمثل بخلق نخب مشوهة، ولكنها في الإجمال باءت بالفشل الذريع.

 

ومن جملة مساعي الدوائر الثقافية الاستعمارية كانت ولا تزال تهدف إليه، إحلال اللهجات المحلية بدلاً من الفصحى، وكذلك في محاولاتها لإبراز خصائص معينة في ثقافة كلا قطر وتقديمها بشكل يطغي على الخصائص الموحدة للثقافة العربية وفي مقدمة ذلك اللغة العربية الفصحى، فسعت إلى الفينيقية في لبنان وإلى القبطية في مصر واستغلت في مساعيها المحمومة والخبيثة كل مكامن الضعف والثغرات، أو سعت بنفسها إلى خلقها وأحياء المتلاشي منها واستنهاض الضعيف فيها واستخدمت لهذه الغاية عناصر مرتدة، ارتضت للأسف التعاون مع الأجنبي لأسباب شتى، وربما أعتقد قسماً من هؤلاء(تحت ضغوط شتى) أن اعتناق ثقافة أجنبية هي ثقافة قوى عظمى ستمنحه قيمة مضافة.

 

واليوم إذ تشتد أوار الحملة الإمبريالية بكافة صفحاتها على بلادنا العربية ليست الجبهة الثقافية إلا صفحة منها، ربما الأكثر بروزاً بسبب تعاظم شأن الثقافة العربية والمجتمعات العربية، وذلك أمر لا نخفي سرورنا منه، ففي مطلع القرن العشرين كان الجانب الثقافي يأتي بعد الجانب السياسي والاقتصادي لعدم خطورة المستوى الثقافي العربي آنذاك، وكان التناقض الرئيسي الذي يلهب قضايا النضال الوطني والقومي، هو الاحتلال المباشر بقبعته ذات الريشة الحمراء يختال في شوارع مدننا، كما كان النضال ضد الوجود العسكري والقواعد الأجنبية والكفاح لاستعادة ما استولى عليه الأجنبي من مصادر الثروة القومية، كان شعار التحرر الوطني والقومي في المرحلة اللاحقة، والعامل الثقافي كان خلف هذه الأوليات، ولربما أيضاً بسبب ضعف الوعي الثقافي، أو بسبب تعطش الجماهير إلى الثقافة بغض النظر عن مصدرها، فقد بدت براقة وجذابة، وكان مستوى تخلف المجتمعات العربية موجعاً لذلك ارتضت الجماهير السم المداف في عسل الكلام.

 

وعلى الرغم من بدائية من بدائية التنظيم والوسائل والتنسيق، كان رد فعل الجماهير قوياً غريزياً وعفوياً في كثير من الأحيان، فقد أخفقت كل تلك المساعي على ضخامتها من جهة، وضعف جبهتنا السياسية والثقافية من جهة أخرى، وهزمت شر هزيمة ومن المؤكد أن لذلك أسبابه. ففي دراسة عميقة لحجم الفعاليات الاستعمارية في مؤلف هام صادر عن جامعة لايبزج بألمانيا عـام  1972 (6)، يشير إلى سعة الهجمة الاستعمارية وضخامتها مع غياب مواجهة حقيقية بينها وبين الثقافة العربية التي كانت قد نهضت لتوها في مطلع القرن العشرين من سبات عميق أستغرق قرون طويلة، منذ سقوط بغداد عام 1258 ، وفي غياب حكومات أو ممثلين للإرادة العربية، تصيب الدهشة كل من يطلع على تلك التفاصيل، إذ كيف استطاعت هذه الأمة الصمود  وإلحاق الهزيمة بتلك القوى المتفوقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وهي على هذا النحو من الضعف والتشتت ..؟ 

 

ليس هناك من إجابة منطقية سوى أن الجذر الثقافي لهذه الأمة بالغ العمق وثقتها بنفسها هائلة وعلى درجة كبيرة من الثراء الروحي والنفسي، يمنحها كل ذلك قدرة غير محدودة على امتصاص زخم الهجوم والتسلل الدخيل، في مطاولة أصابت بالعجز اعتي الإمبراطوريات والغزاة على مر التاريخ والعصور.

 

والهجوم الجديد الذي تواجهه الثقافة العربية والمتمثل بالعولمة Globallisatioin ليس الأول من نوعه، وأغلب الظن سوف لن يكون الأخير طالما تعيش على وجه الأرض حضارات وثقافات متعددة، وهو في الواقع مواصلة لعمليات تأثر وتسلل واقتحام وغزو ودس، اختلفت فيه الأساليب والهدف واحد، من الهيلينية Hellenism، إلى الغنوصية، إلى الإسرائيليات، إلى الشعوبية، إلى الفرانكفونية والانكلوسكسونية وعصر الاستعمار وما انطوى عليه من تحديات ثقافية، هذه المواجهات لم تتوقف قط، ربما اختلفت الأساليب والأشكال، وربما هناك تفاوت في قوة وزخم الهجوم إلا أنها لم تكف ولم يتغير الهدف الرئيسي فيها، ألا وهو جعل أقطارنا وثقفتنا جزء من نسيجها الاقتصادي أولا، ثم السياسي والثقافي وتدمير الملامح الرئيسية لهويتنا تسهيلاً لأهدافها الشاملة.

 

وفي الواقع، فأن الثقافة العربية قد ازدادت قوة وثراء من خلال مواجهاتها لهذه التيارات، فقد تفاعلت الهيلينية مع الثقافة العربية ويبدو ذلك بوضوح في أشكال العمارة والأثاث وفي النظم، وبالمقابل تلقت الهيلينية تأثيرات الثقافة العربية، بل أنها تحمل ملامح شرقية وعربية، كما استفادت الثقافة العربية من الثقافة المسيحية والغنوصية التي اعتبرت نفسها وريثة الثقافة اليونانيةـ وبالتالي مدارسها الفلسفية والفكرية الشهيرة.

 

والتيار الشعوبي الذي بدا قوياً عارماً في بعض مراحله أستفز أقلام المثقفين العرب لتفنيد أباطيلها ومزاعمها واعتبرت مساجلات الكتاب العرب في ردودهم على الشعوبية، قطع أدبية وسياسية نادرة، وقد استفادت من هذه المواجهات باتجاهين: فهي من جهة ازدادت خبرة وعمق وتجذرت في تربتها أكثر فأكثر، ومن جهة أخرى استفادت من التعرف بدقة على منجزات تلك الحضارات فازدادت رؤيتها شمولية وأتساعه.

 وبهذا الصدد نذكر، بأن هناك أجداث 60 مليون هندي من سكان أميركا الأصليين قتلوا في حملات إبادة منظمة على يد القادمين الجدد من أصل 80 مليون، كما قتل 200 100 مليون أفريقي أسود، اختطفوا وتعرضوا لحملات صيد البشر من أوطانهم الأفريقية ونقلوا كعبيد إلى أمريكا، ودفنوا في براري الغرب الأمريكي حيث استصلحوا الأراضي تحت سياط المستوطنين في عبودية جماعية.(8)

 

نعم إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أمة كبيرة وقوية في عملية تاريخية فريدة من نوعها، تجمع فيها سكانها بين مجرمين ومغامرين وشذاذ آفاق وباحثين عن فرص حياة جديدة، استولوا فيها على أراضي تزخر بكل الثروات وأبادوا فيها شعوباً، ولكن هل استطاعت الولايات  المتحدة تقديم مثل وقيم أخلاقية..؟ وإذا كان التقدم والثراء لا يخدم الإنسان وكرامته وأخلاقه فماذا إذن..؟ وعلى هذا التساؤل يجيب البروفسور الأمريكي جون نيف قائلاً : " لقد أدى ذلك إلى تدهور في الذكاء الفطري والفطنة والذوق" (9) وكذلك: " وهكذا عولج كل ما هو مخجل وأخفيت حقيقته حتى صار شيئاً محترما ً" (10) و " وكانت النتيجة تغليف العقل وتجريده من إنسانيته بوسائل متعددة إلى أن أصبح غير قادر على أن يقدم سوى القليل من الخدمة للإيمان والإنسانية والإدراك المتكامل للسعادة التي كانت لوحدها قادرة على تخليص الناس من أسر الدعاية ".(11)

 

أخبرني مرة دبلوماسي أوربي، كان قد عمل في سفارة بلاده في بروكسل (بلجيكا)، واستطاع أن يتوصل بدقة، أن أصل ثراء كل العائلات البلجيكية هي من حقب النهب الاستعماري في أفريقيا، فأي حضارة يمكن أن يشيد على القتل والتهب والسرقة وهذا ما يفسر انحدار مجتمعات الدول الاستعمارية إلى مستويات مرعبة من الجريمة والإباحية والمخدرات والفساد السياسي والحكومي والأمراض الجنسية الفتاكة.

 

نعم، لقد كانت منجزات عصر النهضة Renaissance رائعة على صعيد العلوم وفتحاً إنسانياً كبيراً وكذلك الثورة الصناعية، إلا أن البورجوازية الأوربية في الدول الصناعية المتقدمة اتجهت إلى قمع الطبقة العاملة في بلدانها أولاً، ثم إلى سحق الشعوب من القارات الأخرى، فخرج المشروع من إطاره وهدفه الإنساني الذي بشر به رواد عصر النهضة. فالمستعمر الأوربي مضى إلى قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين وهو يحمل السلاح وليس شمعة ديوجين، ويفرض نظاماً استعماريا ينهب ثرواتها الطبيعية وليجعلها أسواقاً لمنتجاته من جهة، وليسلب من جهة أخرى تلك الشعوب مقومات وجودها، من لغة وعادات وتقاليد صناعية بدائية، وتطور كانوا قد أحرزوه ومكتسبات غير بسيطة في معظم الأحيان.

 

وبهذا المعنى، فالاستعمار يعد مسئول تماماً عن سحق حضارات وثقافات كان يمكن لها أن تتطور تطوراً طبيعياً وفد فعل الاستعمار ذلك من أجل فرض أنماط ثقافية وحضارية لتخدم أهدافه بأساليب القمع والقسر فنجم عن ذلك اختلال في أطراف المسالة، فلا الشعوب تمكنت من تطوير حضارتها، ولا المستعمر استطاع أن ينتقل بها إلى مستوى حضاري راق، وتلك لم تكن من غاياته، وجل ما تحقق هو مجتمعات شوهاء فقدت الكثير من أصولها وجذورها وألوانها، وخير مثال على ذلك هي أفريقيا ثم أميركا.

 

وبطبيعة الحال، فأن الهجمة الثقافية الحالية تتميز بملامح عديدة ينطوي البعض منها على ما هو جديد في أسلوبه وأدواته، وابتداء لابد لنا من تشخيص أبرز الظواهر على مسرح العلاقات الدولية المعاصرة، وتحليل الاتجاهات المختلفة وعناصر الموقف الموضوعية منها وأبرزها:

 

أولاً: ـ ظاهرة القطبية الأحادية: ويتمثل هذا العامل باستفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالدور القيادي في الحياة السياسية الدولية واستخدامها لأساليب التهديد والترغيب، وللأمم المتحدة (كشرعية دولية) ومجلس الأمن لتحقيق أغراضها وأهدافها السياسية والاقتصادية، وفرض أنماط اجتماعية وثقافية.

ثانياً: ـ ظاهرة عولمة الاقتصاد: ويتمثل هذا العامل بتسارع وتائر حركة رأس المال المالي (المصرفي) وأتساع حركة الاستثمارات ليصبح العالم بأسره فعلاً سوقاً واحدة بقبضة الشركات المتعددة الجنسية في تعاظم متزايد لدورها.

ثالثاً: ـ الإمبريالية في مرحلة جديدة: ويتمثل بدخول دولة الاحتكار الرأسمالي (الإمبريالية) في مرحلة جديدة، ويتمثل داخلياً باشتداد التمركز المالي وذلك بميل رؤوس الأموال خوض غمار المشروعات الكبرى وقيام الاحتكارات العملاقة في فروع الإنتاج المهمة من جهة، والإقحام المتزايد للأجيال الجديدة من التكنولوجيا المتمثلة بالحاسبات العملاقة والروبوتات و الميكروالكتروتكنيك، والتطور الهائل في وسائل الاتصالات والنقل وفي وسائل العلام المرئية والمسموعة والمقروئة.

 

أما العناصر الذاتية في الحياة السياسية والثقافية العربية، فأبرزها :

 

أولاً: ـ المستجدات في العلاقات الدولية: أثرت المواقف المستجدة على مسرح العلاقات الدولية، على مفردات الموقف السياسي في الأقطار العربية، فهيمنت الولايات المتحدة وإرادتها السياسية، قادت إلى انهيارات(لا سيما في النصف الأول من عقد التسعينات)، مع ملاحظة:

 

 آ   ـ المساعي الفرنسية لبلورة موقف أوربي متميز يلتقي ولكنه قد يختلف أيضاً مع التوجهات

      الأمريكية في تصورها لأزمات للشرق الأوسط.

 ب ـ فشل الولايات المتحدة في طرح مشروعات سياسية وثقافية للشرق الأوسط بسبب المبالغة

      في استعراض القوة وأتباع سياسة الكيل بمكيالين، وتجاهل إرادة وكبرياء أقطار المنطقة و مصالحها.

ثانياً: ـ مشكلات أمام الثقافة العربية: على الرغم من النداءات والمؤتمرات والاجتماعات ولقاءات اتحادات الكتاب والأدباء والصحفيين والمؤتمرات الفنية على تعدد اختصاصها، ولقاءات المسؤولين عن الثقافة والإعلام والقنوات الفضائية والمهرجانات المسرحية والسينمائية والموسيقية، فأن الثقافة العربية ما تزال تعاني الكثير من مشكلات ومعوقات الانتشار، ومن سيف الرقابة، وعدم رعاية المطبوع العلمي التخصصي، وصعوبة انتقال المطبوعات بين الأقطار العربية، وضعف الأجور والمكافئات للعلماء والكتاب، الخلافات السياسية بين الحكومات العربية وانعكاساتها، هيمنة أجهزة الرقابة على المطبوع العربي والأجنبي، نعم هناك الكثير من الظواهر الإيجابية، ولكن ما زال هناك الكثير ما ينبغي التأكيد عليه، وفي مقدمة ذلك رفع القيود عن الكتاب وانتشار المطبوع العربي سواء كان كتاباً أو صحيفة أو مجلة، وكذلك المادة الثقافية، أفلام ورقوق سينمائية أو أعمال فنية وموسيقية.

 

ثالثاً: ـ لهذه وغيرها، شهدت الحياة السياسية العربية تخلخلاً وضعفاً أنعكس بشكل واضح على المستوى السياسي و الاقتصادي والثقافي، فانتهكت كثير من المحرمات الثقافية واعتبرت مجرد وجهات نظر قابلة للطرح والمناقشة، لا سيما تلك التي تتعلق بالتعامل مع العدو الصهيوني فكرياً وثقافيا تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان بالتعاون مع الولايات المتحدة، في حين تمارس من جهتها التطرف التلمودي وسياسة القضم والهضم. وقد شهدت محاولات التطبيع الثقافي جولات ونزالات تعيد إلى الأذهان تلك المساجلات التي كان يقيمها رموز الثقافة العربية بوجه الشعوبية ودعاتها، تلك التي أفادت الثقافة العربية وأكسبتها القوة، فما أشبه الوقائع والنتائج المرتقبة..!

 

وبتقديرنا فأن الجانب الأخطر من الهجمة الإمبريالية على بلادنا يتمثل بالدرجة الأولى بالإخضاع السياسي وذلك ما يسلب القدرة على التطلع إلى المستقبل بحرية واستقلال، أي قمع المشروع النهضوي العربي وفي مقدمة فقرات هذا المشروع :

تقليص حجم التبعية الاقتصادية: وفي تفاصيله الجانب الغذائي(الأمن الغذائي).

تقليص حجم التـخلف العلـمي: وفي تفاصيله التكنولوجي.

تقليـص التـبعية الاجتماعـية: وفي تفاصيله الحفاظ على شخصية مجتمعنا العربي الإسلامي.

تقليص التبـعية الثقافــــية: (الأمن الثقافي)، وفي تفاصيله مفردات التطور الثقافي ـ الحضاري، والسعي لرفع إسهام ثقافتنا العربية في الثقافة الإنسانية العالمية في إطار العمل المشترك مع الشعوب والأمم لأن يكون هذا العالم أكثر إنسانيا وأكثر رخاء وعدالة، والكف عن اضطهاد الإنسان للإنسان، والأمم الغنية القوية للأمم الأقل ثروة وقوة، عالم التعايش السلمي والتعامل القائم على التكافؤ، عالم يشعر فيه أي إنسان، إن أي تقدم علمي بسيط في أقصى بقعة في العالم ينتمي إليه مباشرة، ولكنه يشعر بالمقابل أن أي صفعة يتلقاها أي إنسان ظلماً في العالم يوجعه ويدمي كبرياءه وكرامته.

تلكم هي بتقديرنا أبرز مهمات المثقف العربي المعاصر، وسلاحه في ذلك الكلمة والريشة والأزميل والنوتة وكل عمل إبداعي.

 

والثقافة العربية إذ تواجه تحديات مختلفة، عليها أن تشخص واجهات عملية التسلل، وأن تفرق بدقة بين عملية تفاعل الحضارات وحتميات التطور، وهو أمر لابد منه، بل لا نريد الابتعاد عنه،  وبين تيارات تريد أن تفرغ الثقافة العربية من خصائصها وتحرمها من التطور الذاتي، وعزلها عن تاريخها وإدخال عناصر جديدة غريبة عليها لتندغم في تيارات تصب في النهاية في طاحونة النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، كمقدمة لجعل بلادنا وسائر البلدان النامية مجرد توابع تدور في فلكها، وبهذا المعنى فأن تيار العولمة Globalization، ليس سوى مرحلة جديدة من مراحل تصاعد النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، أنه مرحلة الإخضاع النهائي لشعوب الأرض لسلطان الرأسمالية الإمبريالية، باعتبار أن التقدم التكنولوجي والثورة في وسائل الاتصال والمواصلات جعلت من العالم قرية كبيرة، وبلغت فيها الرأسمالية مرحلة خيالية من تمركز رأس المال المالي.

 

وفي المرحلة الحالية تتميز فيها هيمنة الولايات المتحدة بوصفها متروبول الرأسمالية العالمية وتأبى أن تغادر هذا الموقع القيادي ولا تقبل المشاركة فيه، تهدف إلى تعميم ضرب من الثقافة التي لا تلامس جوهر مشكلات الإنسان، ثقافة سطحية تتعامل مع غرائز الإنسان وتشجع فيه روح التفوق والتسلط الفردي والنزوع المطلق نحو الثروة وإحراز النفوذ والهيمنة، وإطلاق لنزعات الجنس الشاذة، أن إنسان العصر الذي قدم منجزات كبيرة بفضل تراكم التجربة والعلم، تضعه في قمقم مشكلاته الذاتية لتخلق منه إنساناً نرجسياً على استعداد لفعل أي شيئ، حتى القتل الجماعي من أجل إشباع نزعاته، إنها نزعات وثقافة وتربية اجتماعية تهدف في النهاية إلى خلق الإنسان الكوزموبوليتي (الإنسان العالمي) Kosmopolit، الذي لا جذور له ولا يؤمن بقضية أو وطن بل بالمصالح والأرباح المادية وأي غرابة في ذلك؟ أليست البراغماتية Pragmatism، وهي جوهر الفكر السياسي الفلسفي للرأسمالية، التي لا تؤمن إلا بالنتائج بصرف النظر عن الأساليب وأخلاقياتها. والإنسان الكوزموبوليتي هو حيوان انتهازي منافق قد يتحول في أي لحظة إلى آلة شرسة مدمرة مكن أجل تحقيق مصالحه الذاتية، وهذا هو سر انحطاط الحياة الاجتماعية في الغرب الرأسمالي لاسيما في الولايات المتحدة، ونجد أصدائها الخافتة في بلادنا حيث تروج لها أجهزة الأعلام الغربية وصنائعهم وأدواتهم، يمكن إيجازها  بما يلي:

 

آ ـ محاولات لإفساد الوعي تقوم بها الحملة الإمبريالية ودفع الإنسان إلى زاوية مصالحه وهمومه الذاتية.

ب ـ عمل مدروس لإسقاط الالتزام بالشعارات العامة، الوطن، الشعب، الدين، القومية، والشعارات ذات الطابع الاجتماعي.

ج ـ العمل على خلق أنماط حياة تضم مظاهر الانحلال والفساد.(12)

 

وتيار العولمة هو جزء من هذه المرحلة، إخضاع العالم للثقافة الرأسمالية، وللمنطق الإمبريالي، ليس بقصد أن تنعم الإنسانية جمعاء بالمنجزات الحضارية والثقافية والعلمية، بل أنه فكر شمولي يهدف وضع شعوب العالم في خدمة الرأسمالية، فهو ليس مشروع خير، بل هو يهدف إلى صهر ثقافات أمم أخرى وإلغاء مميزات كياناتها، ولا يتميز هذا التيار بقدرة واسعة على التكيف والتلون وإمكانية الإصابة بالصدمة الثقافية، ولهذا التيار أعوانه سواء من الحلفاء الطبقيين، أو من المصابين بالصدمة، وممن انهار أمام الترف الرأسمالي، فاختار هذا المثقف أو ذاك الفنان أن يحل مشكلاته الذاتية(مالياً ودعائياً)وكأنه عندما أتجه صوب آفاق الفكر والثقافة والفن والإبداع، إنما كان يبحث عن خلاصه الذاتي، وليس نضالاً والتزاماً بقضية الفن والأدب والثقافة، وهي خدمة الوطن والجماهير والالتزام بقضاياها. إن ضرباً كهذا من (المثقفين)، قد تحولوا نهائياً إلى موظفي علاقات عامه ومروجي سلع وإعلانيين Propagandist مهما أسبغوا على أنفسهم الصفات وحاولوا الاختفاء والتخفي.

 

لن يخيف فوكوياما ولا هنتغتن أحداً، وليست هذه دعوة للاسترخاء بقدر ما هو نداء إلى المثقفين العرب لأن يستلهموا من تاريخ أمتهم وتراثها وموروثاتها ويؤسسوا فوقها، فاعلين متفاعلين مع الثقافة الإنسانية العالمية، فنحن جزء من هذا العالم وتلك حقيقة مادية موضوعية، وقد كنا مؤثرين فيه بدرجة كبيرة، ولابد أن نتأثر فيه بدورنا، ليس مطلوباً الانبهار أمام منجزات الغرب لدرجة فقدان الرشد كما ليس مقبولاً بذات الدرجة أقفال الأبواب والشبابيك، فمن الواضح أننا مستهدفون، وكياناتنا السياسية(المجزءة المشرذمة للأسف)وثرواتنا الطبيعية واقتصادياتنا الوطنية، ووضع الألغام في مجتمعاتنا، وأخيراً الجهاز على ثقافتنا القومية، أو جعلها صدىً باهتا، أو صورة سلبية للثقافة الرأسمالية الشوهاء، وحيال الانبهار والمنبهرين، لابد من وضع خطة مضادةً، ولابد أن تكون هذه الخطة مرنة متفتحة لا تبدي التعصب، كما لن يقودنا الغضب إلى ردود أفعال متشنجة، أن إهانة رموزنا أو التقليل من احترامنا لن يدفعنا إلا إلى المزيد من التمسك بقيمنا الصالحة، ولكننا سوف لن نخطو خطوة واحدة قائمة على الغضب أو تفتقر إلى النضج، وأعلموا أيها المثقفون العرب أن هدف أعدائكم هو جركم إلى ردود الأفعال الغاضبة، وأهملوا حفلة الشتائم والإهانات، ولا تنساقوا وراء ردود الأفعال.

 

لابد للمثقفين العرب من أداء دورهم، وهو الدور الذي يقوم على حراسة المنجزات الثقافية والحضارية وتطويرها من أجل أن تسهم ثقافتنا العربية في الحضارة العالمية، وزيادة حصة هذا الإسهام. والمثقفون العرب مدعون إلى التفاعل فيما بينهم وإنضاج مواقف موحدة حيال التيارات التي تقف ورائها القوى المضادة لحركة التقدم العربية وصياغة برنامج يؤكد على:

 

ـ الانفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى والتفاعل معها بإرادتنا على أساس من المبادئ والأخلاقيات الإنسانية التي تمتاز بها الحضارة العربية الإسلامية من جهة، وحماية أجيالنا من أوبئة تسللت إلى مجتمعاتنا التي تروج الإباحية والمخدرات والأمراض الجنسية والشذوذ ومظاهر الفساد الأخرى. 

ـ العلماء العرب مدعون اليوم، كل في اختصاصه إلى إيجاد العلاقة بين المستوى الحالي للعلوم، وبين ما توصل إليه العلماء العرب في عصور الازدهار، أي تجسير الفجوة بين عصور الازدهار وما أعقبها من سبات بعد انحطاط الحضارة العربية، وبين المرحلة الحالية لكي نتحرك على أرضية صلبة ونواصل البناء على أساس متين. لقد آن للجامعات والمعاهد العربية وقد بلغت مرحلة النضج في العمل والتعامل مع المنجزات الحديثة في العلوم، وصياغة نظريات عمل عربية. أن كثير من الجامعات الأوربية تعتبر أعمال العلماء العرب هي الأساس في العلوم التي تطورت فيما بعد على أيديهم في مختلف المجالات العلمية والإنسانية.

 

ـ الابتعاد عن التطرف والتعصب ومعاداة الثقافة الأجنبية لمجرد كونها أجنبية فذلك سيقودنا إلى العزلة، فالأمم الأخرى قد تمكنت من تقديم منجزات رائعة أغنت الثقافة الإنسانية، فكيف لنا أن نتجاهل أعمال فكرية وفلسفية، فنية / أدبية، موسيقية وسينمائية، عدا التقدم الكبير في مجال العلوم الطبية والإنسانية.

 

ـ إبداء الاحترام التام لحقوق الأقليات الدينية والقومية المتواجدة في البلاد العربية، وبهذا تحافظ الثقافة العربية على إحدى مميزاتها وهي ابتعادها عن الصيغ الشوفينية، وتواصل الثقافة الإسلامية في منح الأمان والحرية الأقليات الدينية الداخلين في ذمة الرسول(ص) والخلفاء الراشدين والمسلمين عامة.

 

قلبنا أراء كثيرة كتبت حول الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها : العولمة ـ الإنترنيت ـ القنوات الفضائية، وللأسف لابد من القول، أن معظمها أحادي الجانب، أي أنه يركز على جانب واحد من المشكلة، وعلى الأغلب بتهويل وفزع يقطع الأنفاس. ومن أجل بحث مجز لكافة جوانب المسألة، لابد من البحث بدقة وتفصيل، وبحث الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالدرجة الأولى. نعم، نحن نواجه مشكلات من نوع جديد وبأساليب وطرق متفوقة وغير معهودة. ولكن لابد لنا بادئ ذي بدء ألا نضع أنفسنا في موقع معاد للتطور، إذ من المؤكد أن كثير من هذه الأبعاد أو التحديات تحمل إمكانيات العمل في اتجاهين أو أكثر، منها ما قد يفيدنا، ولكن بالطبع مع وجود السلبيات والأضرار وكذلك الأخطار..! ولكن لماذا لا نفكر في الإفادة من الإنترنيت طالما أصبح حقيقة راهنه ! هذه الموسوعة الهائلة من المعلومات بسعر زهيد !إن القنوات الفضائية ومحطات التلفزة الدولية تنطوي على الكثير من الأضرار في مجال تنشئة الأجيال الصاعدة والسموم السياسية، ولكن ألا ينبغي أن يدفع ذلك مؤسساتنا الفنية، السينمائية والتلفازية والإذاعية وغيرها على الارتقاء بمستوى برامجهم والإكثار منها، وأجراء تبادل نشيط للأعمال السينمائية والتلفازية بين الأقطار العربية خاصة وربما حتى الإسلامية؟ وهناك الكثير من الاتفاقيات والمطلوب تنشيطها وتفعيلها.

 

وأعمال أو تعاون مشترك سيقودنا إلى مزيد من تشذيب اللهجات المحلية العربية اقتراباً من الفصحى، بل أن هذه العملية قد تساهم حتى في تعزيز الوحدة الوطنية ضمن القطر العربي الواحد، وما يجري ألان يدور بصورة عفوية أو لأسباب تجارية، يمكن أن تتحول إلى عملية منتظمة. ففي ألمانيا(وهي بلاد مشدودة قومياً) ، لهجات عديدة قد تنعدم إمكانية التفاهم بين لهجاتها، ولكن اللهجات المحلية في طريقها إلى الانقراض، بل هي متلاشية في أوساط المثقفين والإعلاميين والفنانين وقد حلت محلها الألمانية الفصحى.

 

إننا نبحث هذه المشكلات في إطار الحرص على ثقافتنا ومجتمعاتنا، ولكن للأسف أن هناك في  صفوفنا من هو معاد أصلاً للثقافة ولكل فروعها، من فئات وعناصر رجعية، تعيش في هذا القرن بأجسادها، فيما تغفو رؤوسها في القرون الميلادية الأولى! ولاشك أن وجود هذه العناصر، إذا لعبت دوراً مؤثراً (ويبدو أنها تلعب مثل هذا الدور للأسف مرة أخرى) يزيد في الطين بلة والمشكلة تعقيداً. إذن فبين صفوفنا من يسهل التسلل عبر خطوط دفاعاتنا التي تعتمـد بالدرجة الأولى على رد الفعل الغريزي وعلى ثراء الأمة الروحي بدرجة كبيرة.

 

إن الإمبريالية لا تحاربنا بالعولمة(كأداة سياسية واقتصادية وثقافية)، إنها قبل ذلك تمد خراطيمها في أجسادنا وتنهش ثرواتنا بفعالياتها الاقتصادية، وتحاربنا بالطائرة والبارجة وحاملة الطائرات، وبطائرة التجسس اليوتو..وللإمبريالية بين صفوفنا كعرب وكمسلمين حلفاء وأصدقاء في السر والعلن، ولابد أن يدركوا أن هذا الهجوم ليس مناورة، بل هو في غاية الجدية وأنه سوف لن يوفر أحداً، وهو ليس كلام صحافه لا وزن له، فالإمبريالي الفاشي فوكوياما ليس بقالاً في حارة مانهاتن بنيويورك، بل هو مستشار لوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يقرر علناً وليس في ندوات سريه. إن الصدام القادم هو مع العرب المسلمين(قال ذلك في أعقاب انقضاء الحرب الباردة)، وإنه آت لا محالة، وكذلك البروفسور الشوفيني الرجعي صامويل هنتغتن، HANTIGTON، الأستاذ في معهد الدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، وهو الآخر ينتمي إلى الأوساط التي تنضج الفرارات السياسية في أميركا، يكتشف فجأة (هو وليس نحن) أن النظام الرأسمالي يؤمن بالتفوق العرقي ويدعو إلى حروب عرقية، وكأن الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية كانت في المريخ، ولم تكن من ضروب الأنظمة الرأسمالية. بل إن النظام السياسي في الولايات المتحدة يتجه حثيثاً إلى هذه المواقع بسبب الأزمات التي يمر بها النظام الرأسمالي الاحتكاري داخلياً وخارجياً، لذلك فهم يطلقون النداءات المشحونة بالحرب والإبادة، لكنهم يتحولون فجأة إلى مدافعين عن (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) عندما يتعلق الأمر بالبلاد العربية والإسلامية أو الصين الشعيبة أو كوريا الشمالية أو كوبا، وهناك من يصفق لهم إعجاباً أو نفاقاً أو كيداً بجار له يضمر له الحسد.

 

 

 

إننا نطرح على المثقف العربي أن يعمل وفق الحديث النبوي الشريف " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان" حديث )، أن يكون في مقدمة أمته، قلماً حراً شريفاً، وليس مروجاً لسلع فاسدة يريد مصدروها أن يستولوا على عقولنا أولاً ثم تاريخنا، بل ومستقبلنا أيضاً. أن يكون جزء من درع بلاده وأمته، وجزء من مسيرة التحرر والظفر، وليس عضواً في جوقة مهرجين، وفي معسكر أعداء بلاده وأمته.

 

إننا كمثقفين وكمؤسسات ثقافية وحكومية اعتمدنا لحد ألان على الرد العفوي والدفاع الغريزي، ورصيدنا الحقيقي ومسـتودع أسلحتنا المضادة، هو ثراء هذه الأمة وعمق أسسها وجذورها لم يعبأ في المعركة بعد، ولكن فوق ذلك نحن بحاجة إلى تشخيص وتخطيط دقيق وإقامة صلات حقيقية مع الجماهير، فهي القوة التي تحمي أسوار الأمة، تحمي ماضيها وحاضرها وترسم لها خطوط المستقبل.

 

 

هوامش

 

 

1 ـ الأدهمي، د. محمد مظفر: العولمة والهوية الثقافية، في آفاق عربية، بغداد/1997

2 ـ نيف، جون      : الحرب والتقدم البشري ، ص 460              بغداد/1990

3 ـ كادوز، ف.هـ  : العالم الثالث يفكر لنفسه ، ص 59               بغداد/1981

4 ـ الطعان، د.عبد الرضا  : الفكر السياسي في العراق القديم،ص 51   بغداد/ ـ

5 ـ Rathmann, Pof.Dr. Lother : Geschichte der Araber, Teil 3 s.68 leipzig 1974      

6 ـ                                                                         Ebende Teil 4

7 ـ Alwin, M. Joseph : The American Heritage Book of Indian, P11 USA  1961     

8 ـ مهدي، سامي : الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، الموقف الثقافي، بغداد/1997-7

9 ـ نيف، جون   : نفس المصدر، ص521

 11ـ نيف، جون  : نفس المصدر، ص 512

12 ـ علوش، ناجي: دور المثقف العربي في مواجهة التحديات الراهنة، في الموقف الثقافي،

                      بغداد/ 1997-7

 

 

المركز العربي الألماني برلين

 

المراسلات

 

 Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

لماذا أنهار الغرب

 

ضرغام الدباغ

 

هناك مصدران مهمان، يبحثان في سقوط الإمبراطوريات العظمى في التاريخ: الأول وهو الأهم هو كتاب العلامة العربي الكبير أبن خلدون والذي لا غنى مطلقا عن دراسته وهو " المقدمة " والكتاب الآخر وهو حديث نسبياً وهو للعالم البريطاني / الأمريكي باول كنيدي (  Paul Kennedyصعود وسقوط القوى العظمى

 

لنتأمل ونتخيل، وفاة الاتحاد الأوربي، وأعتقد أنه قد توفي، ولكن إصدار شهادة الوفاة سيستغرق وقتاُ لا أستطيع تقديره ..! وسوف لن يكون هناك بيان يصدر فيه هتاف وصراخ .... كلا .. الناس هناك لا يحتفلون ولا يحزنون بالصراخ والضجيج ..! بل سيتم الأمر بهدوء، وبطريقة توحي لك أنهم استبدلوه بصيغ أخرى ... ولكنه في جميع الأحوال توفي ولا قيام بعده ولا ينفع نطس النطاسون مهما برعوا، في إعادته للحياة ..

 

الحلم الذي حلم به الرئيس الفرنسي ديغول والمستشار الألماني أديناور، والذي أستغرق بناؤه منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ثم توالت عملية الطبخ على نار هادئة على يد خلفاؤهما بهدوء لكي لا يثيروا هواجس الآخرين .. الآخرون الذين يرمقون قيام أتحاد كبير، ستشكل كتلة كبيرة في توازنات القوى السياسية / الاقتصادية / العسكرية في العالم، فأن تتقاسم العالم بين طرفين شيئ، وبين ثلاثة أو أربعة أطراف شيئ آخر، وهو أمر غير مستحب للولايات المتحدة، التي ستتهم الأوربيين بقلة الضمير والوفاء، أما (الأطراف) القوة العظمى الأخرى فهي الاتحاد السوفيتي والروس فهم يتقنون العزف على أوتار السياسة الأوربية فسترى أن التناقضات والصراعات ستعم الحلفاء الرأسماليون اليوم أو غداً بينهم، فالتاريخ العالمي لا يعرف حروبا إلا تلك التي كان التوسع وإعادة التقسيم وكسب المزيد من النفوذ والمكاسب ديدنها، دعهم يشعرون بالأمان، فسترى أن الصراع سينشب بعد وقت قصير، وقصير جداً.

 

لماذا توفي الاتحاد الأوربي، وكان يمنح صورة وردية، حين بلغ اليورو في بعض أيامه، دولاراً ونصف الدولار، ولكن تلك كانت في مرحلة انغماس (انحطاط) الولايات المتحدة في حروبها الدون كيشوتية في أفغانستان ثم في العراق، حيث كانت تحرق يوميا مئات الملايين من الدولارات لحروب عبثية لا معنى لها .. حينها انحط الدولار أسوء انحطاطه، وبلغت أوربا قمة ازدهارها، فكان رد فعل الولايات المتحدة، أن القارة الأوربية قد تمثل ثقلاً في التحالف الغربي / المسيحي العريض، وبالتالي فإن نفوذ الولايات المتحدة ماض في التقلص ضمن محيطها، إضافة للتقلص البطئ على الصعيد العالمي بتعاظم  قوة الصين، ومساعي الروس في استعادة هيبة وسطوة الاتحاد السوفيتي، عبر هيمنتها على أسواق الطاقة في أوربا.

 

بغباء مثير للدهشة، راحت الولايات المتحدة تدمر علاقاتها مع دول وكتل كان يفترض أن تحرص عليها اشد الحرص، فخسرت كتلة كبيرة في العالم تربو اليوم على مليار ونصف من البشر المسلمين منتشرين في جميع قارات العالم، وخسرت بسبب جموحها الشديد نحو الهيمنة في أوربا حلفاء وأصدقاء، وتسببت الاعتداءات والحروب التي شنتها على أمم وشعوب كثيرة، وميلها الشديد نحو النهب والسطو،  فالأطماع و السعي نحو السيطرة، ما أفقد العالم الغربي وحدته، ولم ينجم عن استخدامها القوة المفرطة إلا أسوء العواقب بنتيجة إجمالية ملحقة الضرر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية.

 الغريب أن لا تستفيد الولايات المتحدة من تجاربها ونكساتها، الولايات المتحدة لا تقبل بعلاقات صداقة، تحالف، بشروط متكافئة، وحين حاولت بريطانيا وفرنسا أن تتصرفا كقوتين عظميين عام 1956، وشنتا بالتحالف مع العدو الصهيوني العدوان على مصر، بدون استلام الأذن والموافقة من الولايات المتحدة، تلقيا عقابا صارماً قاسياً قذف بهما إلى الوراء كدرجة ثانية من القوى العظمى.

 

الولايات المتحدة كانت هي الساعي من إضعاف الاتحاد الأوربي بدرجة لا تقوى على امتلاك إرادتها، بل وقامت الولايات المتحدة بقيادة تكتلان ضمن الاتحاد الأوربي ضد محاولات ألمانيا وفرنسا في جعل وتطوير الاتحاد الأوربي إلى كيان سياسي / اقتصادي / عسكري قادر على المواجهات. وأسست الولايات المتحدة لها أكثر من رأس جسر في أوربا لهذا الغرض : بريطانيا، النرويج، بولونيا، وربما فلندة أيضاً، بدرجة دعت مؤسسات وشخصيات فرنسية وألمانية، التصريح أن معركة أوكرانيا هدفها هو إركاع ألمانيا وفرنسا ..!

 

ما هي ملامح الموقف الحالي (النصف الأول من عام 2022) في الاتحاد الأوربي ...؟

 

1. انسحاب بريطاني رسمي.

2. الاتحاد يوجه عقوبات لخروج المجر (هنغاريا) وإيطاليا من موقف الاتحاد حيال الأحداث الأوكرانية.

3. مظاهرات في العديد من البلدان تطالب بالانسحاب من أوربا (ألمانيا، فرنسا، جيكيا.

4. تلميحات تصل لدرجة التصريح، في شخصيات ومصادر في فرنسا وألمانيا، أن الحرب في أوكرانيا الهدف الأساسي منها تدمير فرنسا وألمانيا ...!

5. إحياء سياسات العسكرة والتسليح،

 

ولنتأمل كيف وماذا وبأي احتمالات وأي سيناريو، ومفردات سيتم هذا الأمر ..

 

تفسخ الاتحاد الأوربي بشكل تام، بعد أن ستقاتل الولايات المتحدة في أوكرانيا على حساب الأوكرانيين، وستحسب ما تمكنت من ذلك، دولاً أوربية، المتروبولات الرأسمالية الصغيرة تقاتل رغماً عنها من أجل المتروبول الأكبر.

تبقى ألمانيا وفرنسا (مؤقتاً) والنمسا، وهولندة وجيكيا وسلوفينيا ضمن الاتحاد الأوربي (كتلة البلدان الألمانية).

أن تنجح قوى اليمين في عدة دول أوربية بالوصول للحكم، فتنشأ تحالفات جديدة مناهضة للفاشية والنازية والعنصرية.

ستكون أميركا غائبة عن المسرح الأوربي، مع وجود بصمات غير فاعلة لها في: بريطانيا، النرويج، بولونيا.

بعد غياب الوجود الفاعل للولايات المتحدة في أوربا، سيشجع قيام أنظمة تميل للتعاون مع روسيا، وخاصة في شرق أوربا.

تشكيل تحالفات سياسية بين قوى:

الأحزاب الشيوعية السابقة، الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وخاصة (ألمانيا، فرنسا، النمسا، إيطاليا، أسبانيا).

التكتل الروسي / الأرثودوكسي (روسيا، بيلوروسيا، صربيا، وربما: اليونان، بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا أوكرانيا، عدد من الجمهوريات الصغيرة بعد أن تتضح الصورة الأخيرة).

تكتل البلدان اليمينية (في حاول نجاحها بالوصول للحكم).

 7. ستشهد الولايات المتحدة، في الداخل (هي الآن في مرحلتها الجنينية) تحركات وانشقاقات وصراعات أثنية وطائفية، ستتبلور بين أقطاب رأسمالية بكيانات مختلفة، ولكن بجوهر اقتصادي.

8. باختصار شديد .. الأزمة الأوكرانية أطلقت عمليات سياسية واقتصادية، وصراعات خفية وعلنية، والموقف سوف لن يعود إلى ما كان عليه قبل شباط / 2022، ولكن العملية تفضي إلى تضاؤل قيمة أوربا سياسيا واقتصاديا وعسكرياً.

 

هذه مرتسمات عامة، تحتمل التأخير أو التقدم، وشدة الظروف ستعمل على منح النتائج أبعاد جديدة .... ولكن التحولات انطلقت ولا تحتمل العودة

 

 

 

مشكلات الجرف

 القاري التركي / اليوناني

 

د. ضرغام الدباغ

 

بحر إيجة هو أحد أفرع البحر المتوسط طوله 643.5 كم وعرضه 322 كم، يقع بين شبه الجزيرة اليونانية والأناضول، يتصل ببحر مرمرة عن طريق مضيق الدردنيل، وتطل عليه تركيا واليونان.

 الموقع الجغرافي

يقع بحر إيجة بين اليونان من ناحيتي الغرب والشمال، وتركيا من ناحية الشرق، وجزيرة كريت إلى الجنوب. ويسمَّى أقصى جزء جنوبي من بحر إيجة بحر كريت. ويغطي بحر إيجة مساحة تبلغ 179,000 كم². ويبلغ طوله حوالي 640كم، وعرضه أكثر من 320 كم في أعرض جزء له. ويربط مضيق الدردنيل، الذي يقع في الشاطئ الشمالي الشرقي، بحر إيجة ببحر مرمرة.

 

الجزر

تقع جزر عديدة ـ تسمَى الأرخبيل اليوناني ـ في جميع أرجاء بحر إيجة. وتشكِل تلك الجزر مجموعتين رئيسيتين هما السيكلادية، والسْبُورادية. وقد حققت جزر بحر إيجة الجميلة شهرة في التاريخ الإغريقي والأساطير الإغريقية. وبعض تلك الجزر براكين قديمة، مكوَّنة من الحمم، بينما يتكون بعضها الآخر من الرخام الأبيض النقي. والجزر الأكثر أهمية هي : دِلوس وإيوبوي وساموس ولِسبوس ولِمنوس وباتموس ورودس. وتشكِل الجزر الدوديكانية (Dodecanese ) وأكبرها جزيرة رودوس، جزءا من المجموعة السبورادية. وقد انتزعت إيطاليا الجزر الدوديكانية من تركيا عام 1912 وبقيت تحت السيطرة الإيطالية، إلاً أنها ضمت لليونان بعد الحرب العالمية الثانية. وتشكِل جزر الأرخبيل اليوناني مجتمعةً مساحة تبلغ حوالي 6,470 كم².

 

تنقسم جزر بحر إيجه إلى سبع مجموعات

 

جزر بحر إيجه الشمالية.

ايوبا.

سپورداس الشمالية.

سايكلادس.

الجزر السارونية  أو  Argo-Saronic Islands    .

دوديكانس (أو سپورداس الجنوبية).

كريت.

 

الوضع السياسي للجزر

مثلت مشكلة جزر بحر إيجة بوصفها من مخلفات الحرب العالمية الأولى، بؤرة صالحة للألتهاب، فالكثير من هذه الجزر قريبة جداً من الساحل التركي (بضع مئات من الأمتار)، ومعظمها صغيرة لا تصلح لإقامة السكان، ومع ذلك تصر اليونان بالتمسك بها، بل وتسليحها وهو أمر مخالف للأتفاقية الخاصة بالجزر التي تنص على إبقاءها غير مسلحة.

 

الجزر اليونانية منزوعة السلاح في بحر إيجة

تحيط العديد من الجزر اليونانية الصغيرة (أغلبها ضئيلة الحجم) بتركيا من الحدود الجنوبية الغربية لها، ومع أحتمال تواجد مصادر الطاقة (النفط والغاز) تزايد اهتمام جميع الأطراف بها، وتريد اليونان أن تخلق منطقة بحرية اقتصادية واسعة لهذه الجزر، تمثل أضعاف مساحتها، تاركة لأنقرة مساحة اقتصادية ضئيلة لا تتناسب مع طول سواحلها على البحر المتوسط.

 

وكانت اليونان ودولاً غربية أخرى احتلت أجزاء من تركيا عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبعد تحرير البلاد من الاحتلال بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، فقدت تركيا عدداً كبيراً من الجزر، عبر عدد من المعاهدات ومنها معاهدة لوزان التي وقّعها أتاتورك، بعضها لصالح اليونان، والبعض الآخر لصالح إيطاليا، إذ قامت تركيا بتسليم جزر بحر إيجة لإيطاليا، مقابل تعهد روما بنزع السلاح في الجزر القريبة من الحدود التركية. 

 

وأثر هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، انتقلت السيطرة على هذه الجزر إلى ألمانيا خلال ألعمليات في الحرب العالمية الثانية، وبعد الهزيمة في الحرب سلم الألمان هذه الجزر للبريطانيين، الذين سلموها بدورهم إلى اليونان، وتم تثبيت ذلك في معاهدة السلام بين الحلفاء وإيطاليا عام 1947، مع إنكار حق تركيا في الجزر رغم كونها انتزعت من الدولة العثمانية بالأصل، وتشكل امتداداً جغرافياً طبيعياً للأناضول. وبالتالي فأغلب هذه الجزر نقلت ملكيتها لإيطاليا، ثم ألمانيا، فبريطانيا، ثم أخيراً اليونان.

 

وبأعتبار أن التنقيبات البحرية عن مصادر الطاقة في بحر إيجة ترجح وجود كميات اقتصادية من النفط الخام والغاز، فأبتداء منذ الألفية الثالثة، اكتسبت الجزر في بحر إيجة أهمية سياسية / استراتيجية، اقتصادية / عسكرية مضافة، مما رفع حدة التوتر في العلاقات بسبب الوضع الجغرافي للجزر وبعضها يقترب بمئات الأمتار فحسب من الجرف القاري التركي، يتيح لليونان غلق بحر إيجة، ولا يترك لتركيا سوى ممر ضيق جداً ملاصق للأرض التركية ويحرمها الكثير من المزايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وزاد من شدة التوتر وتجاهل المصالح التركية، حين عمدت اليونان إلى تسليح الجزر بما يخالف الأتفاقية الدولية.

 

تصاعد التوتر السياسي حول الجزر

 

ـــ الخميس 10 فبراير/شباط 2022، وزارة الخارجية التركية تعلن أن تركيا ستبحث مسألة السيادة على جزر بحر إيجة ما لم تتخلّ اليونان عن تسليحها، مؤكدة أن سيادة الجزر ستكون موضع شك ما لم توقف اليونان تحركاتها.

 

ـــ أرسلت أنقرة رسالتين إلى الأمم المتحدة بشأن انتهاك اليونان وضع الجزر منزوعة السلاح في بحر إيجة، مشيرة إلى أن هذه الجزر منحت لليونان بموجب اتفاقيتي لوزان وباريس للسلام بشرط نزع سلاحها، لافتة إلى أن أثينا قد بدأت انتهاك ذلك منذ الستينيات.وعلى مدار سنوات، ظلت قضية جزر بحر إيجة مصدراً للخلاف والتوتر بين أنقرة وأثينا،

ـــ وفي سبتمبر/أيلول 2020، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن اليونان سلّحت 18 جزيرة بشكل مخالف للاتفاقيات

 

الوضع القانوني الدولي لجزر بحر إيجة منزوعة السلاح

يمكن تلخيص الصكوك القانونية التي تحدد وضعاً منزوع السلاح لجزر بحر إيجة الشرقية من منظور تاريخي على النحو التالي:

معاهدة لندن لعام 1913: تُرك مستقبل جزر بحر إيجة الشرقية لقرار الدول الست في المادة 5 من معاهدة لندن.

قرار عام 1914 من ست دول: تم التنازل عن جزر ليمنوس، وساموثريس، وليسفوس، وخيوس، وساموس، وإيكاريا وغيرها، اعتباراً من عام 1914 إلى اليونان بموجب قرار عام 1914 من الدول الست (بريطانيا العظمى، فرنسا، روسيا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، المجر) بشرط إبقائها منزوعة السلاح.

معاهدة لوزان للسلام لعام 1923: في المادة 12 من معاهدة لوزان للسلام تم تأكيد قرار الدول الست لعام 1914. نصت المادة 13 من معاهدة لوزان على طرق نزع السلاح عن جزر ليسفوس وخيوس وساموس وإيكاريا. وفرضت بعض القيود المتعلقة بوجود القوات العسكرية وإقامة التحصينات التي تعهدت بها اليونان كالتزام تعاقدي بالمراعاة النابعة من هذه المعاهدة.

حددت اتفاقية المضائق التركية الملحقة بمعاهدة لوزان الوضع منزوع السلاح لجزيرتي ليمنوس وساموثراس. ونصت على نظام أكثر صرامة لهذه الجزر، نظراً لأهميتها الحيوية لأمن تركيا، لقربها من المضائق التركية.

اتفاقية مونترو (Montro) لعام 1936: لم تحدث اتفاقية مونترو أي تغيير في الوضع منزوع السلاح لهذه الجزر. مع البروتوكول الملحق بالاتفاقية المذكورة، تم رفع الوضع منزوع السلاح عن المضائق التركية لضمان أمن تركيا. لا يوجد في اتفاقية مونترو أي بند يتعلق بعسكرة جزيرتي ليمنوس وساموثريس.

معاهدة السلام بباريس لعام 1947: تم تأكيد وضع جزر بحر إيجة الشرقية منزوعة السلاح مرة أخرى في عام 1947، بعد فترة طويلة من معاهدة لوزان. تم التنازل عن "جزر دوديكانيز" من قبل دول الحلفاء لليونان، بشرط صريح، أن تظل منزوعة السلاح، وهذه الجزر  على مرمى حجر من الساحل الجنوبي الغربي لتركيا.

 

اليونان تنتهك الاتفاقات الدولية بشأن الجزر

كان تجريد جزر بحر إيجة الشرقية من السلاح بسبب الأهمية القصوى لهذه الجزر لأمن تركيا. إذ ترى تركيا أن تفسير هذه المعاهدات يجعل هناك صلة مباشرة بين امتلاك اليونان السيادة على تلك الجزر ووضعها منزوعة السلاح. وتقول إنه "لا يمكن لليونان ، في هذا الصدد، عكس هذا الوضع من جانب واحد تحت أي ذريعة ".

وتقول وزارة الدفاع التركية إن المعاهدات الدولية المذكورة أعلاه سارية، وبالتالي فهي ملزمة لليونان، وتحظر بشكل صارم عسكرة جزر بحر إيجة الشرقية، وتحمل التزامات ومسؤوليات قانونية على اليونان.

وتقول الوزارة مع ذلك، على الرغم من احتجاجات تركيا، فإن اليونان كانت تنتهك وضع جزر بحر إيجة الشرقية، من خلال عسكرة الجزر منذ الستينيات، في انتهاك لالتزاماتها التعاقدية. زادت هذه الأعمال غير القانونية لليونان بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وأصبحت نزاعاً حيوياً بين البلدين. وتتهم أنقرة أثينا بتجاهل النداءات العديدة التي وجهتها تركيا لليونان باحترام وضع هذه الجزر منزوعة السلاح.

من جهتها، قدمت اليونان تحفظاً على الاختصاص الإجباري لمحكمة العدل الدولية بشأن المسائل الناشئة عن التدابير العسكرية المتعلقة بـ" مصالحها المتعلقة بالأمن القومي"، بهدف منع إحالة النزاع حول عسكرة الجزر إلى محكمة العدل الدولية.

 

التبرير اليوناني لعسكرة الجزر اليونانية منزوعة السلاح

تحاول وجهة النظر الغربية التقليل من أهمية هذه المعاهدات، إذ تقول إن مسألة الوضع منزوع السلاح لبعض الجزر اليونانية الرئيسية معقدة بسبب عدد من الحقائق. تم وضع العديد من الجزر اليونانية في شرق بحر إيجة، وكذلك منطقة المضائق التركية تحت أنظمة مختلفة من نزع السلاح في معاهدات دولية مختلفة. وقد تطورت الأنظمة بمرور الوقت، ما أدى إلى صعوبات في تفسير المعاهدات.

وتقول اليونان إن من حقها عسكرة جزرها في نفس السياق مثل بقية أوروبا، حيث توقف تطبيق قانون نزع السلاح على الجزر والأقاليم مع إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو، أي وقف نزع السلاح من جزر بانتيليريا الإيطالية، ولامبيدوزا ولامبيون ولينوسا وألمانيا الغربية من جانب الناتو، ووقف نزع السلاح من بلغاريا ورومانيا وألمانيا الشرقية والمجر من جانب حلف وارسو، ووقف نزع السلاح فنلندا. من ناحية أخرى، تدين تركيا هذا الأمر باعتباره عملاً عدوانياً من جانب اليونان، وخرقاً للمعاهدات الدولية.

ولكن يجب ملاحظة أن السياق العام مختلف، فوقف تطبيق نزع السلاح كان مرتبطاً بالصراع بين الكتلة الشرقية الأوروبية بزعامة الاتحاد السوفييتي والكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة، وهو نزاع جد بعد الحرب العالمية الثانية، بينما النزاع اليوناني التركي أقدم، والمعاهدات التي فرضت عدم عسكرة الجزر اليونانية جاءت لتنظيم هذا النزاع.

 

أبعاد الصراع التركي اليوناني في البحر المتوسطـ

 

مرت العلاقات التركية اليونانية ، بفترات من المد والجزر منذ استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832م ، نشأت هذه الخلافات التاريخية بينهما بسبب الحدود البحرية ، وملف جزيرة قبرص ، بالإضافة إلى خلافات جديدة تتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز في منطقة حوض شرق البحر المتوسط وإيجة

حصلت اليونان ، بموجت معاهدة لوزان عام 1923م ، على مجموعة من الجزر في منطقة إيجة ، لا تبعد هذه الجزر عن الحدود التركية في منطقة إيجة سوى كيلومترين ، بل امتد الصراع إلى منطقة حوض البحر المتوسط الموجود فيها جزيرة قبرص، وذلك مع سيطرة تركيا على 37% من الجزء الشرقي لجزيرة قبرص عام 1974م ، التي أصبحت عقبة أمام تحسن العلاقات بين البلدين منذ عقود .

تركيا ترى أنه من غير المنطقي المطالبة بجرف قاري 40 ألف كيلومتر لجزيرة ميسالصغيرة ، وأن هذا الأمر مخالف للقانون الدولي .

تواصل تركيا كفاحها ؛ للدفاع عن حقوقها النابعة من القانون الدولي في المنطقة، وقد اشتد الصراع شرقي البحر المتوسط ، اعتبارًا من عام 2000م ، في أعقاب اكتشاف حقول الغاز، لتشرع دول المنطقة في تحديد نفوذها البحري .

بيد أن الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها قبرص اليونانية مع كل من مصر عام 2003، وإسرائيل عام 2005م ولبنان عام 2007، هي بداية الصراع الحقيقي في حوض البحر المتوسط، حيث تجاهلت حقوق القبارصة الأتراك، رغم عدم التوصل إلى حل لأزمة الجزيرة القبرصية، الأمر الذي عارضته تركيا وقبرص التركية بشدة ، بل واعتبرته أنقرة انتهاكًا صارخًا لجرفها القاري .

لقد اعتمدت قبرص اليونانية في هذه الاتفاقيات التي عقدتها مع دول المنطقة بشأن تحديد الحدود على مبدأ المسافة المتساوية، المعتمد لدى بلدان اليابسة ، إلا أن هذا المبدأ ليس قاعدة معتمدة في تحديد حدود الجرف القاري ، والمنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدان . في المقابل ينص القانون الدولي وقانون البحار التابع للأمم المتحدة على مبدأ التقاسم المتساوي، في تحديد الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة، وعلى أن الجزر تنال مساحات أقل من بلدان اليابسة بحسب مبدأ " الإنصاف " .

تحاول اليونان السيطرة على جميع الموارد الاقتصادية في حوض البحر المتوسط ، وحصار تركيا في شريط ضيق رغم أنها أكثر الدول إطلالًا على بحر إيجة والمتوسط  متذرعة بجزيرة " كاستيلوريزو "  باليونانية و " ميس"  بالتركية، وتبلغ مساحتها 10 كيلومترات مربعة ، وتبعد عن البر اليوناني نحو 580 كيلومتر، وتتبع لها عمليًا بموجب اتفاقيات دولية ، وتبعد عن البر التركي نحو كيلومترين، وتطالب اليونان بجرف قاري لهذه الجزيرة 40 ألف كيلومتر، لكن تركيا ترى أنه من غير المنطقي المطالبة بجرف قاري40 ألف كيلومتر لهذه الجزيرة ، وأن هذا الأمر مخالف للقانون الدولي .

كانت شركة " نوبل إينرجي " (ومقرها تكساس)  أول من أعلن عام 2011  اكتشاف الغاز قبالة قبرص في حقل " أفوديت "  الذي يقدر احتضانه 4.5 تريلون قدم مكعب من الغاز الطبيعي ، واستمرت قبرص بالاتفاق مع دول عدة دون الرجوع لتركيا .

عام 2014م أعلنت تركيا " قواعد الاشتباك "  في حوض المتوسط ، وأشارت من خلالها إلى استعدادها للتصدي لأي محاولة للتنقيب في جرفها القاري والمياه الإقليمية لقبرص اليونانية دون اتفاق معها، وإثر ذلك اعترضت سفن حربية تركية سفينة التنقيب التابعة لشركة " إني " الإيطالية المتعاقدة مع قبرص اليونانية في حوض البحر المتوسط ، لأن البوراج تقوم بمناورات عسكرية في المنطقة عام 2018م .

تُعتبر الاتفاقية التركية الليبية ، مكسبًا سياسيًا وقانونيًا مهمًا لتحركات تركيا في البحر المتوسط ، رغم أنها لا تعتبر الحل النهائي للخلافات القائمة

تُعتبر الاتفاقية التركية الليبية ، مكسبًا سياسيًا وقانونيًا مهمًا لتحركات تركيا في البحر المتوسط، رغم أنها لا تعتبر الحل النهائي للخلافات القائمة بشأن مناطق النفوذ البحرية في المنطقة .

في الآونة الأخيرة وصلت العلاقات بين البلدين ، إلى التصادم المباشر في المنطقة، إثر إعلان تركيا إخطارا يُعرف باسم " نافتكس"  لإجراء مسوح اهتزازية في منطقة من البحر، بين جزيرتي قبرص وكريت في 21 من يوليو / تموز من العام الحالي ، تحت إطار مُذكرتي التفاهم التركية الليبية، اعتبرت اليونان هذه التحركات محاولة للتعدي على جرفها القاري، أي الجرف القاري التابع لجزيرة " ميس "، وترى أنقرة أن هذا مخالفًا للقانون الدولي وقانون البحار .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 المصادر

1. الموسوعة الألمانية.

2. بحث كتبه الطالب العربي محمد عبد الكريم العلي.

3. كونسيريتوم : اتحاد مالي بين بنوك أو شركات من أجل هدف مشترك

 

المركز العربي - الالماني

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

 

مصير نظام ولاية الفقيه

 

ضرغام الدباغ

 

 

الأجراس تقرع ... فالمستحقات التاريخية قد أزفت، والصخب يعلو، تسمع حتى من به صمم، أن العالم بأسره على شفا متغيرات عميقة، ومن  لا يمتلك حساً تاريخياً سيفوته التحرك وفق الإيقاع الصحيح، وقد يخسر المباراة، ومن لا يؤمن بالشعب وبحركة التاريخ، سيقع في أوهام يحيكها بنفسها، ثم يقع فيها كشراك هو وليس غيره، وسيكون خارج جدول المباريات.

 

عام 1985، كنت ببغداد في جلسة مع 3 أصدقاء مخلصين، يمكنك التحدث أمامهم دون تحسبات، أن التيار السياسي الديني الإيراني قوي، لأنه يستولي على ذهن قليلي الثقافة والتعليم، وهم للأسف الأكثرية في إيران(وفي مجتمعات الشرق عموماً وإن بنسب متفاوتة)، قلت لأصدقائي، أن التيار الديني سيحكم إيران لنحو نصف قرن إلا إذا حدث أمر ما بتأثير خارجي. والتأثير الخارجي دائماً مؤثر في إيران. ومن يقرأ التاريخ بعلمية، يعلم أن المخابرات الأمريكية أسقطت حكومة د. مصدق عام 1954 أسقطت بواسطة مصارعي الزورخانات، ومدلكي الحمامات، وشقاوات وزعران البازار.

 

خلافاً لما يعتقده الكثير، وتروج له دوائر الغرب (مع معرفتها بأنه خطأ) أن إيران كيان سياسي حديث، والتاريخ لم يعرف كياناً بهذا الاسم إلا عام 1935، والمساحة خلف جبال زاغروس تناوب على الهيمنة عليها شعوب كثيرة من بينها الفرس، وبينهم سلالات تركمانية وآذرية/ تركية، وتسمية إيران تلفيق ابتدعته بريطانيا لتأسيس كيان يكون تماماً تحت خدمة مشاريعها السياسية. وله وظيفة واحدة، أن يقف حاجزاً بوجه الاتحاد السوفيتي، ويلعب دور المشاغب صانع مشاكل (Troublemaker) في الشرق الأوسط.

 

والغرب لا يهتم كثيراً من يقود الدفة، يهمه أن يقودها صوب أهداف يحددها هو، وفي حالة الفشل، أو ضرورات أخرى تحكمها السياسة، يمكن استبدالها بشخص آخر، ليس شرطاً ماذا يرتدي، عساه يرتدي مايوه سباحة، المهم أهدافنا ..! وهذه لعمري ممارسة صحيحة للبراغماتية ...! والغرب هو صانع الكيان السياسي المسمى إيران، لذلك هو من يحدد شكل وطبيعة الأهداف المقبلة، ومن سيلعب دور البطولة والأدوار الثانوية.

 

نظام الملالي كان خير من يحكم هذه الرقعة الجغرافية المستولى عليها والتي يمثل الفرس فيها الأقلية الأكثر تأثيراً، والكيان الذي أسسوه كان مهمته سلب العرب إقليم الاحواز لكي لا يصبح الخليج العربي بحيرة عربية، ولكي لا يضاف احتياطي نفطي هائل للأمبراطورية النفطية العربية. واقتطعوا بلوشستان من أفغانستان، لكي لا يضيفوا قوة 5 ملايين إضافية على قوة سكان افغانستان 40 مليون نسمة،  أما الآذريون فيمثلون حجارة سنمار في البيت الإيراني، إذا اقتلعت، وهي ستقتلع يوماً، للالتحاق بالوطن الآذري في الشمال، ينهار الكيان الإيراني بأسره، وتكون نقطة انطلاق لفعاليات تركية في عموم منطقة أواسط آسيا.

 

بوجيز العبارة، إيران كيان خلق لأغراض وغايات الدول الاستعمارية، ولهذا فأن مصيره بصرف النظر عن هوية النظام الذي يحكمه (قاجاري، شاهنشاهي، ولاية فقيه)، هو بنسبة كبيرة بيد وإرادة الدول العظمى. ونظام الملالي (ولاية الفقيه) الذي  تأسس عام 1979 تحت إشراف ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية هو مقبول ومدعوم ومسكوت عنه وعن جرائمه، طالما هو منفذ مطيع (كمحصلة) للتوجيهات، ولكن في اللحظة التي تصبح الخسائر أكثر من الأرباح، وأضراره أكثر من منافعه، تكون نهايته قد حلت.

 

نظام ولاية الفقيه نظام رجعي في فحواه وسداه، لذلك فهو معاد للتاريخ، ومعاد للتقدم ... وهذا العداء يتمثل بجلاء بالنتائج المادية لما يطلق عليه بالثورة الإسلامية، فهو في عداء مستحكم بكافة الشعوب المجاورة، فالنظام لا ينتج سوى الصدامات الدموية وأدواته من القوى والتشكيلات التي قائمة على مذهب التوسع بالقوة، ومنع عمليات التطور التاريخية في التنمية، ويصر على تصدير الخرافات الغيبية التي تتعارض مع جوهر التقدم والتنمية، وقمع دموي للقوى التقدمية في الداخل الإيراني وفي دول المحيط، وهذه النتيجة السوداء تضعه كمساعد أول للهجمة الإمبريالية على مشاريع التنمية والتقدم، وأن حالة العداء لا تتعدى الشعارات اللفظية، وأن النظام الإيراني (ولاية الفقيه) يقف في مقدمة المعوقات الحقيقية لمساعي بلدان وشعوب المنطقة في التحرر والتنمية.

 

الشعب الإيراني بكافة مكوناته، لأنه في الواقع مقدمة ضحايا هذا النظام المتخلف الدموي، هو في مقدمة من أدرك الطبيعة التراكبية للنظام، وهو ليس سوى أداة من أدوات حرف المسيرة التاريخية عن طريقها، لذلك يقدم الشعب الإيراني التضحيات بسخاء من أحل الخلاص من نظام الملالي، وما انتفاضته الحالية (أيلول / 2022) إلا حلقة في سلسلة ثورته التي ستتوج بالنصر .. كثمرة مستحقة للنضال الوطني، فالجماهير تهتف في الشوارع الإيرانية " آزادي " حرية .   والنظام يقمعها بوحشية وحراب  ما يسمى بالحرس الثوري، تحت وطأة غبار الخرافة والتخلف الولاءات الغير شرعية.

 

سينتهي كل هذا يوماً .... ويصبح من الماضي، والنظام الاسود الذي تريد أن تصدره بدعم الإمبريالية العلني والخفي سيرتد يوماً مدحوراً .. وستعيش الشعوب مرحلة جديدة من البناء والتعمير والتعاون المثمر المفيد سياسيا واقتصاديا وثقافياً. يوم سيأتي حتماً مهما غلت تضحيات النضال.

 

الزيادة كالنقصان

 

ضرغام الدباغ

 

 

هذا المثل / الحكمة، العربية الرائعة، وفي السياسة يقابلها التطرف (وقد كتبنا عن مخاطر الانزلاق للتطرف في مجال السياسة)، والزيادة مبالغة والمبالغة مأزق لا يقل ضررا بل ويصل لدرجة الخطورة وسوف أشرح ذلك.

 إذا أردنا أن نصل بسرعة فائقة لبيان جوهر أمر ما نقصده، يمكن أن نضرب مثلاً بنوع من الأدوية التي تسمى "المنقذة للحياة"، " life-saving medicines " وتحدد الوصفات التي تحتوي على الاستخدام الدقيق جداً للدواء، فقرة تنص، أن المريض وفق درجة حالته، عليه أن يأخذ نصف حبة، أو ربع حبة، أو نصف حية، أو حبة، أو حبة ونصف أو حبتين، وحين يأخذ نصف حبة يجب أن تقسم الحبة إلى نصفين متساويين بدقة تامة، وأي زيادة ولو بالمليغرام الواحد قد تكون مميتة ..!

 وكمثال أقرب أن هناك من أنواع الدواء ذا فعالية شديدة، ما أن يتناوله المريض يكون فعالاً في الشفاء، ولكن حبتان أو أكثر قد تؤدي إلى وفاته ..! وكم سمعنا وقرأنا من المشاهير انتحروا بتناول كميات كبيرة من حبوب العلاج ...!

إذا كان المثالان أعلاه واضحان بدرجة حاسمة، فإن الزيادة والنقصان في التعامل الإنساني يقترب أيضاً من الحسم بهذه الدرجة. وسأضرب بعض الأمثلة. فألتهام كمية كبيرة من الطعام اللذيذ سيؤدي للتخمة، ومراجعة المستشفى، وربما بحالة خطرة، كذلك فأن المحبة المفرطة وتدليل الطفل هي أفضل طريقة لإفساده وتدميره، والأم وأحيانا الأب يفعلان ذلك بدوافع المحبة الزائدة .. ولكنهما لا يدركان فضاعة ما يفعلان وغالبا بسبب الجهل.

 

بوسعي أن أضرب الكثير من الأمثلة المدهشة، الاجتماعية والصحية والتربوية. ولكنني أريد هنا أن أتوجه للموضوعات السياسية، فأقول، أن الزيادة في السياسة هي المبالغة، والمبالغة في الشيئ تعني التطرف فيه، وقد نصل إلى ذات النتائج العكسية كما في العملية الاجتماعية والتربوية. فالتطرف اليساري، يؤدي إلى موقف يميني، والتطرف في اليمين، يقود إلى الرجعية، والقبول بالبراغماتية كدليل نجاح أسليب العمل، سيؤدي إلى التنازل عن المبادئ، واليساري حين يصبح براغماتياً، يحلل لنفسه ما يتناقض مع الآيديولوجيا. فبحر السياسة فيه تيارات ودوامات مغرقة مهلكة.

 

أريد القول، أن على الذي يتعرض لموقف مهم وحاسم، عليه أن يقيم توازناُ بين الواقع الموضوعي ومعطياته، وبين المصالح العليا التي يريد السياسي تحقيقها ومعضلاتها. وإذا كان تحقيق المصالح العليا هي الهدف الاستراتيجي العام، فعلى السياسي أن يضع خططه، بحيث لا يتعرض موقفه إلى مأزق، بحيث يضطره التنازل عن جزء (غير معروف حجمه)، ولكي تكون خطواته موزونة مدروسة بعمق، (والسياسي المتمكن من مهنته)، عليه أن يدرس ردود فعل  الطرف المقابل/ الأطراف، وحتى ردود الفعل المحتملة، وتفاصيل الموقف برمته بكافة عناصره.

 

وإذا كنت تمتلك عناصر القوة، فلا تبالغ في أستخدامها، ولا تظهر التطرف والغلو، ولا تميل إلى إطلاق التصريحات السخية فكلمة لا داع لها قد تتسبب لك بمشكلة، أنتق عبارت حديثك، وتأمل دائماً موقف خصمك، وضع نفسك مكانه، ودع له فرصة ليجلس على طاولة المفاوضات، والخصومة حالة مؤقتة، والأفضل أن تتمكن من أن تحيلها إلى تعاون ومراعاة مصالح الطرفين.

 

استخدام القوة ستكون سببا مؤكداً أن تستخدم القوة ضدك وربما بقوة مضاعفة، وعليك أن تعلم أن لا أحد يسلم بحقوقه، ويتنازل عنها بالقوة، وحتى الأتفاقات تحت الإرغام هي اتفاقات لا أمد طويل لها، وضعت بكم ظروف سياسية، وسيعاد النظر بها في ظروف سياسية، بل وقد تخسر أكثر منها ...

 

 

الأمم المتحدة

 

ضرغام الدباغ

 

للحق لا يمكن وصف تراجع أداء الأمم المتحدة بالجديد ، فقد تعاملت الولايات المتحدة بوصفها دولة المقر، دائماً على أن الأمم المتحدة والمنظمات الاقتصادية الدولية تعمل (غالباً) وفق مشيئتها، ولاسيما المنظمات الاقتصادية،(صندوق النقد الدولي " IMF  " والبنك الدولي للتنمية والاعمار ." IBRD ") وقد نشرنا قبل سنوات، أن الأمم المتحدة كانت تتلقى " التعليمات " من وزارة الخارجية الأمريكية حتى في أعز أيامها،  وليست هناك سوى مرات نادرة خرجت فيها الأمم المتحدة عن إرادة الولايات المتحدة، ولا سيما في تلك التي تختص بالقضية الفلسطيني،. وفي المقدمة القرار التاريخي الذي وصف الصهيونية بالعنصرية.

تشهد الأمم المتحدة في تاريخها على مستوى الأمناء العامون (9 أمناء) قدرتها في عملية اختيار الأمين العام، ثم بممارسة نفوذها خلال عمله، وفي قضية التمديد له ولاية جديدة (استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو ضد إعادة انتخاب الدكتور بطرس غالي لولاية ثانية)، وهناك شكوك تحوم حول مصرع الأمين العام الثاني السويدي داغ همرشولد بحادث طائرة مدبر، لأن مصرعه (أيلول / 1961) كان ضرورة في مسار القضية الكونغولية.

وكان التعامل مع الأمم المتحدة يجري على أنها تقع تحت نفوذ الولايات المتحدة،  وحتى في مرحلة ذروة الحرب الباردة كانت الأمم المتحدة تعمل بتوجيه من وزارة الخارجية الأمريكية ونجد تلميحات وتصريحات، بهذا الصدد، ومنها موقف الأمم المتحدة أبان الأزمة الكوبية (تشرين الأول / 1962)، ورغم ذلك، لم تقدم الولايات المتحدة على منح تأشيرة الدخول (الفيزا) إذ كانت تلجأ إلى المماطلة والتسويف، ولكن دون الامتناع الصريح.

منذ عام 1989 وحتى نيسان / 2003 ناصبت الولايات المتحدة العراق حالة العداء،  وكانت منظمة الأمم المتحدة للأسف إحدى الأدوات السياسية الرئيسية التي استخدمتها الولايات المتحدة في العدوان على العراق، باستخدامها المنظمة كأداة لاستصدار القرارات المبنية على أدلة مزورة، أو بممارسة الضغط  السياسي والرشوة.

ومن المؤسف القول أن اختيار الأشخاص لمنصب الأمين العام كان أمرا يخضع للعوامل السياسية، وعلى الأرجح بالقدر الذي يتيح للولايات المتحدة ممارسة الضغط على الأمانة العامة، وبعض الأمناء العامون من أميركا اللاتينية وأفريقيا، كانوا عرضة للضغط السياسي والمالي، فلم يتمكنوا من أداء واجبهم بعيدا عن الضغط الأمريكي إلا نادرا. أما فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، فقد كانت عبارة عن فرق تجسس واضحة بصورة تامة، تابعة للولايات المتحدة، وفيما بعد، كشفت الأحداث اللاحقة أن هؤلاء لم يكونوا سوى عملاء لوكالة المخابرات الامريكية، سواء المواطنون الأمريكيون منهم، أم من حملة الجنسيات الأجنبية المختلفة، فقد عملوا وفق عقود مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية.

أما خلال الأزمة الأوكرانية الحالية (شباط / 2022 فصاعداً) فقد تجلت الهيمنة الأمريكية على المنظمة بأوضح صورها، حين امتنعت عن منح وزير الخارجية الروسي التأشيرة اللازمة للهبوط في مطار نيويورك، من أجل حضور الجلسات العامة للجمعية العمومية للأمم المتحدة، كما بدا واصحاً أن الأمين العام نفسه ليس سوى ضحية للتهديد والأبتزاز، وليس بوسعه أتخاذ حتى القرارات البسيطة.

تطرح هذه المعطيات وغيرها، التي تعطل عمل المنظمة الدولية، وتخرجها من إطار العمل الجماعي، إلى الضرورة الحاسمة لاستبدال المقر العام للأمم المتحدة، إلى بلد يستطيع مواجهة الضغوط الأمريكية، كفقرة أولى في الملف الدولي الذي يحمل عنوان ... " الحاجة الماسة لإصلاح جذري لمنظمة الأمم المتحدة ".

 

هل يتجه العالم لتصفية آثار

 

ونتائج الحرب العالمية الثانية

 

ضرغام الدباغ

 

مثل التوسع هدف الحروب الاستعمارية في ظاهرها وجوهرها، التوسع والضم والإلحاق، ونهب ثروات البلدان المستعمرة، وفي حالات كثيرة كان سكان وشعوب البلدان التي تتعرض للغزو الاستعماري يستخدمون جنوداً بالسخرة ووقوداً لحروب وفتوحات استعمارية، وضحايا مجانية للحروب الاستعمارية.

وكما في معطيات الطبيعة، هناك ما يطلق عليه في علم الجيولوجيا، الهزات الارتدادية (Aftershock) فكثيرا ما تقود الحروب الاستعمارية إلى حروب أخرى، ذلك أن المنتصرون في الحرب غالباً ما لا يحكمون العقل بقطف ثمار انتصارهم، فيبالغون في الاستيلاء على ممتلكات المنهزم، من منقولات: ممتلكات مصانع، وأموال وذهب، يتحولون بعدها إلى تقاسم ما يمتلك من مصادر ثروات غير قابلة للنقل، أراض ومصادر ثروات طبيعية ومناطق استراتيجية، موانئ، منافذ بحرية، إطلالات استراتيجية ...الخ

وإذا كانت الثروات والغرامات قضية يمكن أن تتجاوزها الدول بمرور الزمن، ولكن المناطق المستولى عليها (عبر اتفاقيات الإذعان) ستمثل عقدة يصعب حلها في العلاقات بين الدول، ولا سيما بعد زوال الظروف السياسية التي أدت إلى الصراع المسلح، وقيام معطيات جديدة وآفاق جديدة تستلزم العمل والتعاون السياسي/ الاقتصادي، وبالتالي العمل كفريق حيال مهمات ومستحقات حديثة، ستحول تلك العقد دون المضي  في قدما في مجالات التعاون، وستمثل عائقاً، وقد تقود إلى بؤر خلاف تحتمل الالتهاب والتطور إلى أزمة، والأزمة قابلة للتصعيد إلى حالات ومواقف قد لا تنجح الدبلوماسية في نزع فتائلها.

في أروقة الأمم المتحدة (ولابد من قول أنها لم تنجح تماماً في حل المشكلات وبؤر التوتر)هناك دوائر مختصة بدراسة الملفات العالقة، والتي تمثل قنابل موقوتة قابلة للألتهاب والانفجار في أي وقت، ومن يقرأ هذه الملفات يلاحظ أولاً كثرة عددها، وثانيا أنها تعود للعصور الاستعمارية والحربين العالميتين الأولى والثانية، فالمستعمرون حين اضطروا إلى مغادرة البلاد، خلفوا ورائهم مشكلات تستعصي الحلول، فيندر وجود إقليم في أوربا وآسيا (شبه القارة الهندية) وأفريقيا وأمريكا اللاتينية(جزر المالوين / فوكلاند)، تخلو من هذه المشاكل. ورغم مرور عقود على بعض تلك المشاكل إلا أن الملفات الشائكة ما تزال على الطاولة يمكن طرحها في أي وقت، وتلقي بظلالها القاتمة على العلاقات بين الدول.

وكان الروس قد اضطروا في الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى، إلى عقد معاهد صلح إذعان (معاهدة صلح بريست) مع ألمانيا، تنازلوا فيها عن أراضي واسعة ومدن، وثروات طبيعية، ولكنهم في سياق تطور الحرب العالمية الثانية، تمكنوا من استعادتها، وهناك مقاطعات أخرى تنازل عنها الروس طوعا، (فنلندة، بولونيا)، أو بسبب قيام الكيان السوفيتي التي استلزم بعض التعديلات الهامة، فتنازل الاتحاد السوفيتي (طوعاً) عن أقليم القرم (شبه جزيرة القرم) لصالح اوكرانيا وخلق كيان لم يكن موجوداً، وافق الروس على إنشاؤه (أوكرانيا). ولكنها اليوم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، تطرح جمهورية روسيا الاتحادية في خضم توتر دولي، مسألة إعادة النظر في تلك التعديلات.

في أوربا مسألة أخرى تطرح نفسها بوصفها ملفا ساخناً، هي جزر بحر إيجة المتنازع عليها بين تركيا واليونان، فهذه أخذتها من تركيا (بعد الحرب العالمية الأولى)رغم أن معظمها لا يبتعد علن الساحل التركي سوى مئات الأمتار أحياناً، وهو ما يخالف القانون الدولي، ومنح بعضها الآخر لإيطاليا، وبعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت إيطاليا من الدول المنهزمة، أخذت منها الجزر وسلمت لليونان، ولكن القرار الدولي نص أن تكون الجزر وكثير منها غير مأهولة، أن تكون غير مسلحة، ولكن اليونان أخذت تدريجيا مستفيدة من أجواء التوتر الدولي، تسلحها وتعتبرها من ضمن ملكيتها، وتضمها للمناطق الاقتصادية لها، بما قد تتوفر بها والمياه المحيطة بها من ثروات طبيعية، وهنا تتفاقم مشكلة من غير المستبعد أن تقود لنزاعات دولية.

وتعسف المنتصرون في ختام الحروب، قد يتجاوز في مداه ما هو محتمل ومقبول، لذلك يشتهر المثل " الحروب تلد حروب أخرى ". والمقصود بنتائجها وآثار ها الجائرة، وهذه تجلت بشكل متعسف في معادة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى في أوربا والشرق الأوسط، ومن تلك إضعاف ألمانيا بدرجة متطرفة وسلبها أراض وطنية عريقة تاريخياً  مثل بروسيا الشرقية، فدولة بولونيا لم تكن موجودة قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن بأراض اقتطعت من روسيا وألمانيا تأسست دولة بولونيا كما أن دولة جيكوسلوفاكيا لم تكن موجودة، وكذلك دولة المجر ويوغسلافيا.

وإذا كانت الحروب فرصة للتوسع، وتحقق الدول المنتصرة من خلالها إرادتها ليس في التوسع فحسب، بل وإضعاف الدول المنهزمة إلى أقصى درجة ممكنة بحيث لا تشكل خطرا في المستقبل القريب والبعيد. ولكن لا شيئ كالسياسة موضوعة قابلة للتغيير والتطور، فالضعيف لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد، وكذلك الصغير، فهذه معطيات قابلة للتغيير، وتطرح نفسها كمستحقات بعد تغير ملموس على مسرح العلاقات الدولية.

والحقيقة أن كل من هذه الملفات تحتاج لبحوث معمقة ولكن ما نريد قوله، أن النظام العالمي بدأ يتفتت، والدول التي سلبت منها أراض بنتيجة الحروب العالمية(الأولى والثانية) تلمح اليوم مطالبة بتسويات جديدة، وأن المنتصرون تعسفوا كثيراُ وألحقوا أضرارا جسيمة آن اليوم وقت تصحيحها. فالأراضي الألمانية التي انتزعت من ألمانيا وضمت لبولونيا خاصة، اليوم تلمح الحكومة البولونية أن ألمانيا ترمقها بعين المطالب بعودتها للوطن الألماني.  وكذلك تركيا تطالب بجزرها في بحر إيجة القريبة من سواحلها، وهي مطالب تبدو عادلة وتستحق إعادة التسوية.

وكما في أوربا، فهناك ملفات وبؤر قابلة للأشتعال في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، من مخلفات الحربين العالميتين، والعهود الاستعمارية، تم تصفية بعضها، ولكن ما تزال أخرى مطروحة تنذر بهبوب العواصف .

هذه ملفات نعد قراءنا بأن نبحث كل منها على حدة. في اليوم من الملفات التي وضعت تحت المجهر ...!

 

 

الشهور القليلة المقبلة ستحدد

 مسارات السياسة الدولية

 

ضرغام الدباغ

 

نشر الصديق الصحفي البارز ليث الحمداني في جريدته الورقية " البلاد " التي يصدرها في كندا / اونتاريو، العدد 245 / آب / 2022 الصفحات 28 / 29. مقالا في غاية الأهمية، مترجماً عم المجلة الامريكية المشهورة "    Foreign Policy  " السياسة الخارجية ". للكاتب ميشائيل هيرش (Michael Hirsh)  والمقال بعنوان

 "We are now in a Global Cold War  "  وقدمها مترجمها للعربي بعنوان " العالم مقبل على حرب باردة جديدة، وهذه ملامحها " ووضع لها عنوانا فرعيا " ربما تكون الحرب الباردة قد أنتهت قبل ثلاثة عقود، ولكن هناك نوعا آخر مختلفا تماماً من الحرب الباردة يبدأ الآن ".

ورغم أن كاتب المقال، وهو متمرس في الكتابة والتحليل، إلا أنه لم يفلح في إقناع القارئ لماذا قررت الولايات المتحدة تصعيد التأزم وصولاً إلى الحرب الباردة / الساخنة في بدايتها (أوكرانيا)، ولم يتمكن من تقديم ذريعة واحدة سوى توجيه  مصطلح غير معروف في السياسة " نظام سلطوي " ولكن لم يقدم لنا ولو مفردات بسيطة ما هو النظام السلطوي ..؟ مع أننا نعلم أن كل نظام لدية سلطات، لا يوجد نظام بلا سلطة، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية قبل غيرها، ولكن هذه لوحدها ليست مثلبة تستحق لا حروب باردة ولا حروب ساخنة  ..!

 ويضع الكاتب حدوداً لستار حديدي جديد من ماريوبول / البحر الاسود في أوكرانيا، وحتى تايبيه في تايوان  (فيه ثغرات واسعة)، لا يقوم على أساس عرقي ولا أيديولوجي، ولا ديني. ولكن القارئ اللبيب يقرأ بوضوح بين السطور، أن الولايات المتحدة لا تريد أن " تسمح " بقيام دولة كبيرة تنافسها، أو مجموعة دول وإن مثلت هذه الكتلة الأكثر سكانا ومساحة، وفي الحجم الاقتصادي، والولايات المتحدة والغرب عموماً (وإن بدرجات متفاوتة)، والكاتب لا يذكر " بالطبع " أسباب هستيريا الولايات المتحدة الحقيقية في تخبطها في منطقة المحيط الهادئ وحتى أوكرانيا.، فنراه يذك ذرائع شبه وهمية ويتبنى ما يطرحه المتحدث بأسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي :

 " أنه انعكاس لمخاوف جلفاءنا المماثلة بشأن الممارسات الاقتصادية السيئة، وأستخدام العمالة القسرية، وسرقة الملكية الفكرية والعدوانية ليس في المنطقة ولكن في أرجاء العالم ".

 وكل كلمة في هذه الجملة ليس لها مدلول محدد دقيق يستحق أن يكون أساساً لموقف دقيق. فماذا يعني مثلاً الممارسات الاقتصادية القسرية ...؟  فأنا متخصص بالعلاقات السياسية الدولية ولم أسمع أو أقرأ مصطلح الممارسات الاقتصادية القسرية، وهل مارس أحدا غير الولايات المتحدة وحلفاءها ممارسات اقتصادية سلبية ..؟ والعدوانية في جميع أرجاء العالم، فهل بالامكان ذكر مكان في أميركا اللاتينية وأفريقيا تدخلت فيها الصين أو روسيا بشكل عدواني ..؟

 

الصدام بين الاتحاد السوغيتي والغرب بقيادة الولايادة المتحدة، كان صراعا آيديولوجياً وبين الرأسمالية والاشتراكية، ولكن ما هو سبب الصراع بين الصين وروسيا والغرب ..؟

 وكاتب بمستوى هيرش، ومجلة بوزن فورن بوليسي، تنحدر لهذا المستوى الضعيف في تقديم (argumentation) علمي يقنع القراء، وليس طرح لا يرتفع عن مستوى نشرة إعلامية، من مستوى إعلام منحدر. ونشر مقالة كهذه وفي مطبوع عرف بالرصانة، لا يدل سوى على وضع محرج يجد الغرب والولايات المتحدة نفسها فيه بدرجة خاصة.

 الكاتب يعتبرها خطوة خطيرة جداً أن تعقد الصين اتفاقية مع دولة جزر سليمان، لرسو السفن وتقديم الخدمات لها، والولايات المتحدة تعتبر هذا توسعا خطيراً ولا تعتبر قواعدها الكثيرة في المنطقة أمراً مقلقا للأمن والسلم. رغم أنها شنت الحروب العديدة في منطقة المحيط الهادئ قديما وحدثاً " الفلبين، اليابان، كوريا، فيثنام، كمبوديا، لاؤوس ".

 في الولايات المتحدة يعتبرون تقدم أن الصين وروسيا الاقتصادي وفي ميدان التجارة العالمية تهديد وخطر داهم ...! والمقياس في تقييم أوضاع أي دولة هو قبولها بالهيمنة الأمريكية المطلقة، وهو ما لا تقبله حتى معظم الدول الأوربية نفسها، كفرنسا، وألمانيا ...

 حسناً أن يتيقن الكاتب هيرش وغيره، أنهم في الولايات المتحدة الأمريكية ارتكبوا جريمة العصر، بتدميرهم العراق بدون سبب، وكذلك ليبيا، وحتى أمعنوا بتدمير أفغانستان، وبعدها ليكتشفوا أن كل ما فعلوه كان خطأ فادحاً ... وماذا بعد ...؟

 ــ إذا كان طرفا دولياً ينتهج عقيدة مغايرة أو مخالفة للولايات المتحدة، يضع نفسه في موضع الخصوم.

ـــ إذا انتهجت دولة سبيلاً سياسيا / اقتصاديا/ اجتماعياً غير ما تفعله الولايات المتحدة، فأنت تضع نفسك في موضع الخصم.

ـــ إذا وجدت دولة مصلحة لها مع دولة لا ترضى عنها الولايات المتحدة، فقد وضعت نفسها في موضع المعاداة.

 والتقرير يشير بوضوح إلى أن احتمالات أن تتجه المساعي الصينية / الروسية إلى إنتاج نظام دولي جديد، هو أمر مرفوض تماماً من الولايات المتحدة، والنظام الدولي الذي لا تقبل بغيره نظاماً، هو ما يظمن أن يكون الدولار العملة الوحيدة للتبادل الدولي، وأن تقرر ما يصلح وما لا يصلح من قواعد للتجارة الدولية، وسقف القوة العسكرية، وبمعنى آخر الهيمنة المطلقة، ولا تقبل إلا بالقليل جداً من المشاركة حتى من طرف حلفاءها الغربيين.

 ويورد الكاتب هيرش مقولات مسؤولين أمريكيين، وكتاب،  ويكتب أحدهم (فيليب زيليكو) مسؤول في إدارة الرئيس السابق بوش الأبن حرفياً " إن الحاجة إلى نظام عالمي دولي جديد هو بكل وضوح هراء. وأن النظام الدولي القديم " بعد الحرب العالمية الثانية" ما يزال صالح للعمل رغم بعض الكوارث ، كوريا وفيثنام/ وكارثة غزو العراق 2003 ".

 ويضيف الكاتب، أن تاريخ الولايات المتحدة لم يشهد في مجال السياسة الخارجية كارثة أكبر من غزو العراق، وهي من بين "الذرائع التي اعتمتد عليهها بوش في حرب أوكرانيا وع أحداث ليبيا وسوريا والعراق وهذه جميعها تمت بدون معايير قانونية ".

 ويعترف ميشائيل هيرش، أن مهما أختلف الرؤساء الامريكان بين جمهوري وديمقراطي، فإن الأيادي الآثمة التي ارتكبت تلك الجرائم ما تزال طليقة، بل وتواصل الولايات المتحدة المضي في نفي الأساليب، المخالفة للمعايير القانونية والدولية والانسانية.

 مهما حاولت الولايات المتحدة، فإن النظام الدولي الذي تهيمن عليه وتضبط إيقاعه لم يعد تحت سيطرتها وهيمنتها، وتتزايد الرقعة الجغرافية التي تفلت من النظام الإمبريالي / العولمي وأعداد البشر على ظهر الكوكب خارج إشعاع سيطرتها، التي تتقلص باطراد متواصل، ولن تجدي كثير سياسة إشعال الحرائق، والشعارات الديماغوجية " حقوق الإنسان، الديمقراطية " ففي الواقع ليس هناك من يعادي هذه المثل الإنسانية أكثر من الولايات المتحدة نفسها، ومن المستبعد أن تنصت إلى صوت الحكمة  التي يطلقها فلاسفة ومصلحون، والازمة الأوكرانية ستكشف حقيقة، أن الشعوب التواقة للحرية والعدالة والتنمية بعيداً عن أيادي النهب والاستغلال ويتسع المعسكر المطالب بالتغير ... وليست هناك قوة بوسعها إيقاف عجلة التاريخ.

 

سيناريو الحقد الاسود

 ضرغام الدباغ

 

نزل الخميني (1/ شباط / 1979) في مطار طهران بطائرة فرنسية، وسرب طائرات أمريكية تقوم بحماية طائرته في الأجواء التركية والإيرانية، وفي جيبه برنامج يتضمن أمر واحد فقط : أحرق المنطقة ابتداء من العراق.

والمبالغة شأن فارسي تقليدي (شاهنشاه أريا مهر، الاميرة شمس الشموس، آية الله، حجة الإسلام والمسلمين)، لذلك كان الخميني قد تعهد لمن كان يقابله من رجال المخابرات الأمريكية " أسقطوا لي نظام الشاه والسافاك، ودعوا موضوع الشرق الأوسط بعهدتي، فسوف نشعل أوار حرائق لا تنطفئ .. وأحقاد دموية لا تجف. فقط أوصلوني لطهران " ..

ورغم أن الأمريكان لهم ولع بالاحصاء والرياضيات، إلا أنهم استمتعوا بهذا العرض السخي، المبهج لأقصى درجة، ولم يحقق الدور الذي تأسست بموجبه إسرائيل، والتي أوكل لها هذه المهمة بالتفاهم مع منظمة الصهيونية العالمية، لم يحقق النجاح المطلوب بصورة تامة، وفكر دهاقنة الولايات المتحدة، أن إيران يمكنها أن تلعب هذا الدور حين تلعب على الوتر الديني / الطائفي، فلربما أن يكون له صداه في بلدان شتى، وسنلعبها نحن على أساس نرفع لواء منح الأقليات حقوقها وديمقراطية وحقوق إنسان.. وهو ما سيقسم الوطن العربي .. وبهذا نضمن السيطرة والهيمنة ونضمن حقول نفط وغاز لا تنضب.

أعتقد الأمريكان أنهم وجدوا المعادلة السحرية، واكتشفوا حجر الفلاسفة، وحين بدأ الحلف الثلاثي بالعمل، وأقيمت غرفة العمليات .. وابتدأت الفعاليات .. أقام الأمريكيون العديد من عمليات التمويه (Camouflage) وكانت فاتحة تلك الخطط، جر العراق إلى حرب، ولكن العراق فاجأهم مفاجئة كبيرة، إذ لم يصمد فحسب، بل وأذاق الفرس السم الزعاف في حرب لن ينسون أهوالها.

الخميني، ترك وصية حاقدة، ووضع متابعة مشروعه التوسعي لصالح الغرب، واضعا نفسه في خدمة المصالح الإمبريالية، بهدف واحد وهو تدمير بلاد العرب والمسلمين، ولكنه فشل، ومات، وحقده يفور في قلبه. وهو حاقد على العراق، وقبله مات الشاه البهلوي، فأبوه لم يصمد أمام مناورات الحرب العالمية الثانية، وأبنه (محمد رضا) لم يصمد أمام متغيرات السياسة الدولية، وأسقط الامريكان نظامه وهم من أسس ملكه، وقدموا له الحماية، ولكنهم قذفوا به كجرذ ميت لا يجد مكانا يدفن فيه .. فلم يأويه سوى ملك عربي شريف كريم (السادات) آوى جثمانه ليدفن بجانب أبوه. أما ورثة الخميني لم يجدوا أفضل من متابعة مجون الحروب بحثا عن نصر تائه. ولن يجدوا حلفاء  أفضل (أميركا ، إسرائيل) يماثلونهم حقداً وبغضا بالعرب المسلمين، فأجتمع هذا الثلاثي الأسود، والسواد ليس سواد البشرة، بل هو سواد القلوب والمقاصد والأساليب ...! الفرس من خلفاء، يعتقدون أن الغرب قوي وسيمكنهم من تحقيق ما تصبو له أنفسهم المريضة، ولكن ها 44 عاما قد انصرمت، وحسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر.

وهكذا اجتمعت رغبة وإرادة أكثر ثلاث قوى كارهة للعرب وللمسلمين في العالم، وفي علم السياسة عندهم لا توجد أخلاق ومبادئ عند هذه الاقوام، فهذه مصطلحات عفى عليها الدهر، فكل شيئ مادي أو معنوي له سعر، يمكن التفاهم عليه. فعندما تلاحظ أنهم مختلفون، نعم هم مختلفون، وبأعتباره تحالف لا أخلاقي فكل طرف يريد الأكثر، ويتهاوشون، نعم لإنهم نهابون، ولكنهم علينا متفقون، وأياك .. ثم أياك أن تغشك الكلمات والوعود، وما عليك سوى بالوقائع المادية الملموسة، وسوى ذلك أبخرة وغازات .. أبتعد عنها .. أسمعها كدبلوماسي، ولكن إياك أن تصدق حرفا واحداً.

في جدول أعمال الثلاثي الأسود (الامريكي / الإسرائيلي / الإيراني) بند واحد، وهو " تدمير العراق " . قد يختلفون ويتكافشون، ولكنهم في قضية ذبح العراق لا يختلفون، قد يتهارشون، ويتهاوشون، ويتنابحون، ولكنهم في قضية تدمير العراق أحباب، وهذه قضية مألوفة بين الأمم التي تعتبر الاخلاق تقليعة قديمة، ولا حديث سوى عن المصالح.

والإسرائيليون عقدتهم قديمة، ولأسباب تتعلق إيمانهم بالخرافات، يعتقدون أن نهاية دولتهم تأتي من الشرق، ومن بلاد الرافدين. والفرس أنتهوا أكثر من مرة في العراق، وعلى أيدي العراقيين، وهم أجلاف وهمج ماتت مشاريعم قديما وحديثاً عندنا، لأنها مشاريع توسعية عدوانية نهابة، أما أميركا هذا الكيان الذي لا أب ولا أم له، فهم كيان عنصري، طائفي، فخططه تجمع بين المصلحة النهابة (طاقة واقتصاد ومصالح استراتيجية)، والحقارة في رغبتهم الخلاص من يهود العالم وجمعهم في مكان بعيد وأختاروا له فلسطين كمكب نفايات.

المخطط فشل في صفحته الدموية (حرب الثمان سنوات) وخرجت إيران تلعق دمائها، وقد أضافت لمحنها ومصائبها مصيبة جديدة، وخلال سنوات الحرب، كان الفرس يمنون حلفاءهم الأمريكان والإسرائيلين، بمعارك مليونية مقبلة، وساعدهم الأمريكان في معركة الفاو معتقدين أنه ستكون مسمارا في خاصرة العراق،  ولكنه صار مسماراً في نعشهم، وهنا فهم الأمريكيون قدرات حليفهم، وقالوا لهم بعد 8 سنوات (تحديداً بعد معركة الزبيدات) " كفى ... نحن سندير المعركة، سيسقط نظامكم إن واصلتم الحرب " .

وسكت الفرس وهم يبتلعون النار تحرق قلوبهم، كيف لا .. وقد أكلوا هزيمة تاريخية ستكتب في كتب تاريخ العالم، ولهذا لم يصدقوا أنفسهم من الفرحة حين كلفهم الأمريكان والصهاينة بمهمة ثانوية جداً، هو أن يحموا خطوطهم الخلفية وأن أن يعكروا مياه البحيرة بأن يستخدموا نفوذهم الديني وليصدر المرجع الأعلى فتوى بلزوم التعاون مع العدو ...! وفعلها ... ولكنه قبض نظير الخيانة 200 مليون دولار ..!

وأن تفرح بإنجاز غيرك .. عيب وعار.. ولكن هل سيفهمون العار في هذا اليوم ..! عيب أن تتمنفخ بقدرة غيرك، ودورك الحقيقي هو تنظيف مخلفات الحفلة ... لو كان لديهم ذرة من ناموس لخجلوا وأستحوا .. وتجنبوا ذكر وقائع البطولة والمجد ولأكتفوا بدورهم الذي قبلوه لأنفسهم وهو المسبات والشتائم وصب اللعنات .... ولكن ... إن شئنا أن ننظر إلى ما تحت جلودهم .. لوجدت أن دودة تهرش في جلودهم كرهاً لا ينتهي وحقداً لا يبرد، وغيرة وحسد من شعب الصحاري (هكذا يحاولون أن يبردوا قلوبهم)  ولكن شعب الصحاري غير عطشان، ولا جائع، ولا يرتدي أسمال الثياب، متعلم مثقف، مؤمن ... وهذا يزيد في نار الحقد اضطرماً وهياجاً ......

كيف يعالج الإنسان السوي الذكي مثل هذه الأوجاع الداخلية،  ببساطة شديدة نقول : " أنظر وأمتع نظرك بالأشياء الجميلة، في الطبيعة ومن صنع الإنسان لوحات وتماثيل وصور فوتوغرافية، وجمال الطبيعة، أسمع الشعر والأدب والموسيقى الرائعة، والعطور  التي ما تدخل خياشيمك تنقلك لدنيا وبساتين وحقول .. تذوق لذيذ الطعام .. ثم .. اقرأ .. اقرأ .. اقرأ ، إذ يقول الله سبحانه وتعالى في أول كلامه " اقرأ بأسم ربك .. قال ربك .. اقرأ ولم يقل ألطم  واشتم وألعن .. وإذا قرأت ستعرف أن هناك من الكتب  لو أنفقت كل حياتك تقرأ لما كفت سنوات عمرك وعمر جيرانك لتقرأها كلها .. كتب تاريخ، واقتصاد، وسياسة، وفلسفة، وعلوم صرفة، ومتاحف وأعمال ... يا إلهي .. أتترك كل هذا وتذهب للشتيمة واللعن والسب الذي لا يساوي فلساً واحدا، بدليل أنك تسب منذ مئات السنين ولا فائدة من سبابك، فلماذا لا تجرب أن تترك هذه السوالف التي لا تودي ولا تجيب ...! ولا تطيل شارباً كما يقول المثل العراقي .....!

الولايات المتحدة الامريكية  اليوم في أسوء وضع تمر به بتاريخها .. كل شيئ يتداعي ويوشك على الانهيار، الوضع الاقتصادي، الوضع السياسي الداخلي،  العلاقات مع أوربا (الاتحاد الاوربي) علاقات الناتو،  علاقاتها مع التجمعات والكتل ... تمضي من سيئ إلى أسوء وهي تحصد في الواقع ما زرعته من دسائس وتآمر وتدخلات ونهب علني. وهي الآن في وضع ستأمر فيه صنيعتها إيران بأختلاق مشاكل في الشرق الأوسط  ضد البلاد العربية والإسلامية، مستنفرة كل عملائها المحليين المكشوفين منهم والاحتياطيين، وهو دورها التقليدي والتاريخي ... ولكنها ستفشل هذه المرة أيضاً، والامريكان لا يذرفون دمعة مجاملة واحدة على وكلائهم وفق نظرية " الحمار يموت بأجرته " .

ولكن الفرس اليوم بوضع غير مريح، فهم يعانون من المشاكل الداخلية السياسية والاجتماعية، ومشاكلهم في البلدان التابعة لا تقل حرجاً .. ونرجح أنهم سوف لن يتدخلوا في المراحل الأولى من الصراع المرتقب، بل سيأمرون ذيولهم .. ثم ليروا ما ستسفر عنه الصدامات ...

كثيرا ما أقرر بيني وبين نفسي أن أركز اهتمامي بالشؤون الثقافية والفكرية وأن لا يكون لي تماس كثير بالشؤون السياسية التي تهب على منطقتنا العربية، بيد أن أني أشعر أن ألسنة لهيبها تلسعني وأنا في بيتي وسط برلين، ولأني للأسف صرت مقتنعاً، أن جبهة العدو (وهي واسعة وعريضة) قد استعدت بدرجة عالية،  وهيأت مسرح العمليات بذلت جهوداً كبيرة جداً، ونحن نعاني من ضعف في صفوفنا (والأسباب ذاتية وموضوعية)، وبعضنا أصبح عوناً للمعتدين، حتى أصل لقناعة تامة، أن أحد فقرات  الأتفاق السري بإنهاء النظام الدولي القديم تأسس بالاتفاق بين القوى الدولية على تصفية ما تطلق عليه الدوائر الغربية " عقد الشرق الأوسط " وأن مرحلة التفوق الأمريكي وضعت على رأس جدول أعمالها تصفية قضايا الشرق الأوسط وفي المقدمة القضية الفلسطينية كعنصر أساس ومحرك لسائر القضايا الأخرى.