الرئيسية || من نحن ||| اتصل بنا
 

د. ضرغام الدباغ استاذ جامعي باحث وكاتب عراقي مقيم في المانيا مؤسس المركز العربي الألماني برلين

  ( من كتاب البلاد)

 

 مقالات سابقة

على من تقرأ

 مزاميرك يا داود ؟

ضرغام الدباغ

 

هذا المثل العميق يقال لمن ينصح أناسا وهم لا يعيرونه اهتمامهم ولا يفهمونما يقول من معاني الحكم والنصائح المقدمة لهم، ولا يستفيدون من الكلام والنصح الموجه لهم، وربنا يسخرون منه. ومن الأمثال القريبة أيضاً : " أنت تنفخ في قربة مخرومة ". وكذلك قولة الشاعر الكبير المتنبي المشهورة : " لقد أسمعت لو ناديت حيّا .... ولكن لا حياة لمن تنادي" .

في أوائل الستينات في مطلع شباب، نصحني قريب لي أن أقرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي البير كامو " الإنسان المتمرد " ولا أنكر أن الكتاب كان عميقا جداً، ولكني بذلت جهدي أن لأقرأه بدقة وأن أستوعبه (قدر الإمكان)، وما زلت أذكر مقوله هامة لكامو " هناك محاكمات تجري بدافع الهوى، وأخرى استناداً لمعطيات عقلية ". وقد أثرت هذه المقولة، ولكنها لم تقنعني بما يكفي لأن أكف عن أحكام الهوى، إلا في بداية السبعينات، ولكن في عام 1973 انتهى عهدي مع أحكام الهوى نهائياً لأني اكتشفت بشكل قاطع، أن بداية خسارة المباراة هي حين تستند لأحكام الهوى والعاطفة. وتبين لي بكل وضوح أن الموقف السليم هو الخالي من الأحكام العاطفية، بما في ذلك في حياتك الشخصية، أما في الحياة السياسية فالاستناد إلى العاطفة ستقود إلى كارثة لا محالة ... نعم بهذه الدرجة من الحسم ...!

ثم أني في دراساتي اللاحقة قرأت مقولة هي موجودة في لغات وثقافات عديدة، أن أحكام الهوى كارثة، ومن تلك " إذا أشتبه عليك أمران، فأنظر إلى أقربهما إلى هواك فأجتنبه " . وفي السياسة لا تفكر برأس ساخن، لا تصدر قرارا في حالة الغضب. ومنذ زمن بعيد جداً وأنا لا أحب ولا أكره جهة أو فردا في السياسة، فالحب والكراهية هي البوابة الواسعة للقرارات الخاطئة.

هل يمكن أن يدب خلاف بين أطراف متحالفة ...؟

نعم وهذه ممكنة حتى في أشد التحالفات متانة، وأقوى تحالف سياسي كما أصنفه، هو التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وبريطانيا، ورغم ذلك، لم يقوض النفوذ البريطاني في العالم سوى الولايات المتحدة، الخلاف يمكن أن يقع في :

· ملفات أمور ليست لها الأولوية.

· الخلاف ينحصر في ذلك الملف المختلف عليه، فيما يتواصل التنسيق في الملفات المتفق عليها.

عام 1988 شاهدت بعيني وسمعت بأذني، ما يكفي لأن أعلم، أن إيران ستفعل كل شيئ (أكرر كل شيئ) للتخلص من ثقل الهزيمة في الحرب مع العراق، هزيمة هي سعت بنفسها لها، حين رفضت وساطات مشرفة كثيرة، كان يمكن أن تخرج منها مرفوعة الجبين، ولكنها رسمت لوحة هزيمة لا ينساها التاريخ حتى بعد ألاف السنين. والتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل لم يكن شيئاً نادراً، فهم سهلوا للملالي الوصول للسلطة عام 1979، وزودهم بالأسلحة سراً وعلناً، وإسرائيل كانت تمون إيران بالأسلحة، فأين الغريب العجيب ..؟ أنا أجزم أن هناك غرفة عمليات مشتركة بين أميركا وإيران وإسرائيل في العراق ربما أن المتحالفين يختلفون في هذه الفقرة أو تلك، ولكنه خلاف كعاصفة في فنجان لا يفسد في الغرام قضية .... وليسامح الله من لا يقبل أن يصدق هذه الحقيقة الصارخة ...!

عام 2003 وبعدها كتبت مراراً وتكراراً أن هناك تحالف مكتوب وممهور بين الولايات المتحدة وأميركا وإسرائيل، هاتفني بعض أصدقائي ورفاق، وبعضهم قال لي : لا يا دكتور ..إسرائيل وإيران معاً ..لا ..هذه مبالغة "، وبعضهم قال لي " دعنا لا نبالغ ..! " وآخرون كتبوا لي بهذا المعنى، ولم يوافقني على ما كتبت من رأي سوى القليل من القراء. ولكن بمرور السنوات، بدأ الدور التحالفي الوثيق جداً يتضح حتى

لضعاف البصر، والبصيرة، فالأمر لم يعد بحاجة لذكاء ودهاء، واليوم أصبح هذا الأمر جلياً علنياً... حتى لمن له عين واحدة، أو لمن مصاب بالحول ..

أدناه مقابلة للرئيس بوش الصغير مع صحيفة أمريكية ... لمن بقيت غشاوة في العين ..!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في حديث مع جورج بوش لصحيفة الواشنطن بوست في 14 / 8 /2016:

س. لما سلمتم العراق لإيران الفارسية بعد احتلاله مع أنه عربي مما ادى الى هذه الفوضى والمآسي التي لن تنتهي إلا مع خروج إيران منه ومن سوريا ؟

بوش: إيران قبلت التعاون مع أمريكا وإسرائيل في شأن العراق بينما العرب رفضوا ذلك.

س. ولكن إيران على خلاف مع إسرائيل ؟

بوش :لا..ليست على خلاف إلا بشأن المفاعلات النووية لصناعة القنبلة الذرية كما أننا كأمريكيين على خلاف معها ايضاً في هذا الشأن رغم تعاونها معنا في كل الأمور إذ أن الإتفاق المسبق معها كان بحضور إسرائيل قبل احتلال العراق لم يكن يتضمن صناعة القنبلة

س. ولكن وفق التصاريح الإيرانية هناك خلاف بين طهران وتل أبيب ؟

بوش : ربما خلاف على طريقة العمل، أو ربما للإستهلاك الداخلي لكل منهما . إذ أن العلاقة بين وإسرائيل وإيران امتن من أن يتصورها أحد .. بل ربما أمتن من العلاقة بين أمريكا وإسرائيل التي تعترض علينا في امور كثيرة...

س. وما هي هذه العلاقة ؟

بوش : كثيرة ولكن سأعدد أهمها وهو التعاون بين الموساد وإيران على خلق مناخ ملائم للإرهاب في المنطقة... ومن ثم وهو الأهم حماية حدود إسرائيل ومستعمراتها من هجمات المقاومة الفلسطينية كما حماية الجولان المحتل من هجمات الجيش الحر وحماية الجولان هي التي سمحت لإيران، بعد الاستئذان، من إدخال قواتها ومليشياتها في لبنان و سوريا ولولا المليشيات الإيرانية في جنوب لبنان لكان وضع الأمن في شمال إسرائيل في فوضى ثم أن العلاقة الأهم بينهما هو أنها تلبي مصالح إسرائيل في عرقلة قيام دولة فلسطينية إلا وفق النظرة الإسرائيلية وليس وفق مطامح السلطة الفلسطينية...

س. ولكن ما حاجة إيران لهذه العلاقة مع إسرائيل ؟

بوش : إنها علاقة قديمة من خلال وسطاء إيرانيين مع إسرائيل ولولا هذه العلاقة لا أعتقد أن النظام الإيراني في هذا الجو العدائي الذي يثيره في محيطه كان قادراً على الإستمرار لولا الدعم الإسرائيلي له في الدوائر الغربية ...

س. سؤال أخير : لما أدخلتم إيران إلى سوريا رغم سلبيات ذلك في العراق ؟

بوش : لسنا الذين أدخلناها بل إسرائيل فعلت ذلك بتفاهم مع الروس لتدمير قدرات الجيش السوري وتفتيته ولنزع السلاح الكيماوي الذي كان يقلق إسرائيل إذ ان الجيش السوري عربي النزعة لا يؤمن له ولولا إيران لما استطاعت إسرائيل نزع السلاح الكيماوي الأخطر في المنطقة على سلامة إسرائيل فيما لو أطيح بالنظام الحالي

انهي واقول لكِ إن وجود النظام الإيراني ساعد كثيراً لحفظ أمن إسرائيل بضرب الإرهاب الفلسطيني والعربي المحيط بها ولربما كان وجودها في خطر ايضاً لولا إيران

 

 

إيران تستشعر

الخطر وتخطئ برد الفعل

 

ضرغام الدباغ

 

يحكى أن تاجرا موسراً رأي في منامه، أن ملك الموت قادم ليقبض روحه، ففر من بغداد قاصداً سامراء يوم كانت هي عاصمة الخلافة. والسير إليها يستغرق عدة أيام، وفي الطريق كانت هناك خانات لأستراحة المسافرين والقوافل. وفي منتصف الرحلة، وبينما كان التاجر يستريح من وعثاء السفر، أتى بقربه شيخ مهيب ليجالسه، فرحب به التاجر، فسأله الشيخ إلى أين أنت ذاهب ..؟ فأجابه التاجر، " أنا قاصد سامراء لأهرب من ملك الموت الذي يبحث عني " ... فأبتسم الشيخ، وقال له " أنا ملك الموت ذاهب لبغداد لأقبضك، وها أجدك أنت من يبحث عني". 

مشروع الثورة الإسلامية الصفوية يهرب من حقيقة بارزة أمامه المتمثلة بفشل ذريع لحق به فلم يعد ينفعه لا طبيب نطاسي ولا علاج فنطازي. ربما ما زال ... (نقول ربما)... بعض من وقت لانسحاب منظم، هو أفضل من انسحاب أقرب للهزيمة المبعثرة ..! . فبعد انطلاقة بدت مبهرة، أبهرت العرب والمسلمين، فيها الكثير من العداء اللفظي للإمبريالية وإسرائيل، وكلام معسول جميل عن تحولات اجتماعية مهمة مرتقبة، ولكن هذه الآمال العريضة بدأت تتلاشى والاحتمالات تتبدد مبكراً في الواقع، ولم نشهد أي تحولات داخلية، بعد أن صدعوا رؤوسنا ببحار الاقتصاد الإسلامي وأزهار ورياحين الديمقراطية الشوروية في حين كانت الترجمة الواقعية لهذه الأحلام القمع هي بلا هوادة وإعدام وإبادة كل صوت معارض بما في ذلك تلك القوى المهمة الفاعلة في محاربة النظام الشاهنشاهي. فكانت افتتاحية إرهاب الجمهورية الإسلامية أن بطشوا بشيوعيو حزب تودة، المناضلين الأصلب لعهود الرجعية الملكية، ثم اردفوهم بمجاهدي خلق المناضلين المضحين في عهد الشاه، والمناضلين في إسقاط نظام الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية،  وأخيرا وليس آخراُ أنقضوا على الحركة الوطنية الديمقراطية الإيرانية (البزركان وصحبه) التي شاركتهم الحكم في أعقاب سقوط نظام الشاه، أما الحركات القومية غير الفارسية (من الأكراد والعرب والآذريين والبلوش والتركمان) فليس لها غير الموت الزؤام، فأمعنوا فيهم قتلاً وتصفيات.

النظام الإسلامي الإيراني يتربع على قمة الأنظمة التي تقتل، تغتال، تعدم لأسباب سياسية،  وتتفوق على غيرها من دول الطغيان والاستبداد في تربعها على مركز الصدارة بين الأنظمة التي تقمع شعوبها، فالقدر الأكبر من حالات تنفيذ عقوبة الإعدام شهدتها إيران (2020) بواقع 507 حالة. وقد نفذت إيران في العقود الأربعة الأخيرة مئات أحكام الإعدام بتهم منها زعزعة الأمن وتهديد استقرار الدولة، ولا تزال طهران مستمرة في تنفيذ أحكام الإعدام بكثرة رغم الإدانات الدولية وشيوع الفقر، وهجرة العقول والأيدي العاملة (يتصدر الإيرانيون قوائم اللجوء السياسي)، وإفلاس الدولة. ونهاية هذه الثورة اللفظية تساقطت الستر عنها وبعد 43 عاماً ثبت لنا في الواقع المادي، أن هذه الثورة لم تحارب إلا العرب والمسلمين وفشلت في أن تكون عنصر إيجابي في المنطقة، بل واصلت دورها البارز كمخلب قط للعالم الغربي في توازنات المنطقة. (1)

السقوط الأعظم بتقديري هو أنها سقطت (كنظام "ولاية الفقيه" ديني ثيوقراطي) لدى الشيعة أنفسهم، سقطت في أذربيجان والعراق وسورية، وقبلهم في إيران نفسها، فلم تعد المرجعيات تقنعهم، وسياسة التخلي عن المصالح الوطنية لمصلحة السيادة الفارسية، والتخلي عن الرباط القومي، لصالح الدولة الإيرانية المتعددة الأعراق والقوميات .. والتخلي عن الأهداف الاجتماعية / الطبقية، لصالح خرافات لا أساس مادي لها، فهذه فرضيات لم تعد مقبولة. وهكذا نسف الواقع الموضوعي أصباغ وبهرجة الشعارات وطوباويتها، والآن غدت القوة المسلحة، بل وبأشكالها المفرطة، والأجهزة الأمنية والأدوات القمعية هي الأداة الوحيدة المعبرة عن الدولة، وخط الدفاع الرئيسي عن نظام الملالي الآيل للسقوط. وكشف عن الهوية الأساسية لهذه الدولة القمعية، واللبوس الديني لا يمحو صفتها الفاشية، قمع في الداخل وتوسع في الخارج، هذا هو جوهر الدولة الفاشية، هي دولة لا تأخذ بنظام التطور اللارأسمالي، دولة قمعية أسوء بأضعاف مضاعفة عن نظام الشاه. ما تغير هو أن الحكام أستبدلوا البدلة الحديثة بالعباءة الدينية ..... فقط ..!

القيادة الإيرانية تدرك أن أوراقها احترقت، والسقوط سيكون له تبعات ولواحق ….. فمالعمل .....؟ مرة كتبت أن فلسفة الفارسي أن بوسعه أن يؤذ ... لذلك يفتخرون اليوم أنهم قادرون على غلق باب المندب ومضيق هرمز وهذه تستطيع دولة من الدرجة العاشرة فعلها بإغراق سفينة في الممر الملاحي الضيق، وخاصة في مضيق هرمز، ووضع ناقلة نفط مهترئة بباب المندب يهدد بتلويث البيئة البحرية،  ويمكن إصلاح الموقف بساعات. يفتخرون أن لدينا هنا وهناك مليشيات تعبث تقتل وتفجر وتخرب، هذه يعتبرها المسئولون الإيرانيون منجز كبير...  ولا يتصور درجة احتقار الناس لهم وكراهيتهم.

وعقل الملالي  بحكم تركيبته وتكوينه، لا يتجه للمشكلة مباشرة وأن يبحث عن حلول واقعية لها ... ففي أواخر شهر آذار / مارس، عقدت إيران اتفاقية مع الصين عرف من موادها المنشورة، تسليمها مطارات وموانئ البلد للصين، أما البنود السرية، فهي تدخل في حقل " ما خفي كان أعظم ". والناس في إيران أدركوا ما وراء الأكمة، فخرجوا ساخطين منددين، والسلطات الإيرانية لا تجد (كما هي دوما كذلك)، سوى إطلاق القوى الأمنية لإخماد سخط الجماهير، وفعلاً تمكنوا من إخمادها، التي سوف لن تكون الأخيرة، ولكنهم سوف لن يتمكنوا من وقف العملية التاريخية المتمثلة بتراكم الثورات والانتفاضات، وهذه ستبلغ ذات يوم حداً سوف لن يكون بمقدور قوى أمنية التعامل معها.

ونظام الملالي لم يقدم على هذه الاتفاقية تفهماً منه للنضال ضد الإمبريالية بالطبع، فهذا النظام، وقبله النظام البهلوي (1925 ــ 1979)، والقاجاريون (1779ــ 1925) من قبلهم، كانوا قد وجدوا في الارتباط بالغرب ضمانة لبقاء لدوام سلطانهم، في خضم الدوامات السياسية في الشرق الأوسط وأواسط آسيا، ولكن نظامهم كان أعجز من أن يواجه الحقب الاستعمارية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، فأستبدل بنظام رضا بهلوي، الذي كان قد التحم كنظام وكأهداف سياسية بصفة كلية مع الإنكليز ومخططاتهم. فالأرتباط بالغرب هو شيفرة الأنظمة الإيرانية منذ أكثر من 250 عاماً، تواصل في زمن الشاه، وبعد أن عمد الأمريكان بقلة ذكاء على إزاحة النظام الملكي الشاهنشاهي، تحت قناعة أن النظام الشاهنشاهي أخذ يتطلع للتوسع إقليميا، ونظام تحت هيمنة الملالي وبالشعارات الدينية الطائفية قادر على تمزيق كيانات الشرق الأوسط وبث عناصر الفرقة بينها، مما يمهد للكيان الصهيوني فرص البقاء والتجذر في المنطقة، ونجح هذا المخطط ولكن جزئياً، بسبب محدودية قدرات نظام الملالي عجزه عن إيصال الخطط إلى نهاياتها المطلوبة، إضافة أن النظام غطس في مشاكل داخلية : اقتصادية / اجتماعية /  ثقافية عميقة هو أعجز من أن يجد لها الحلول الناجحة المقبولة.

إذن فالفشل الشامل كامل الأبعاد :

فشل داخلي في تقديم نمط حياة أفضل لعموم الشعب الإيراني.

الفشل في المحيط العربي والإسلامي.

الفشل في إقناع أبناء الطائفة الشيعية، بأنهم النظام المرتجي.

الفشل في إقناع الحلفاء التاريخيين (الغرب الرأسمالي) أنهم حليف موثوق ولهم وزن في الشرق الأوسط.

صحيح أن عالم العلاقات الدولية المعاصر مليء بالفخاخ والتآمر، وتسعى الدول إلى تعزيز كياناتها  بطرق شتى ...! وهناك قاعدة أكيدة، أن التحالف بين طرف قوي وطرف آخر أقل قوة / ضعيف، فسيكون مآل التحالف لصالح القوي، لأن الوسط القوي قادر أن يؤثر على الوسط الضعيف، فالطرف القوي سيوظف قدرات الأضعف لصالحه، وهنا بيت القصيد، فعلى الدول أن تكون حذرة في الحفاظ على كياناتها، داخليا بإجراءات عديدة، وكذلك خارجياً. والنظام الإيراني يعاني من مشكلة خطيرة، أنه ككيان سياسي قائم على تعدد أعراق، وثقافات، واقتصاد منهك. وأنه في التحالف يبحث عن قوى يتراصف خلفها لحماية كيانه.

 وبتقديري أن النهج السياسة الأصح يتمثل :

ــ أولاً عدم اللجوء إلى أطراف خارجية لحل مشكلات داخلية، فهذه خطيئة كبيرة ترتكبها أي دولة في حل لمشكلاتها. فالحليف / الصديق الخارجي سوف لن يفعل ذلك كهبة مجانية، بل مقابل مكتسبات يحققها على أصعدة مختلفة.

ــ  يتعين على الدولة الإيرانية خلق أجواء لا تضطر إي من الشعوب المنضوية في إطار الدولة إلى البحث عن هويتها الوطنية والقومية خارج إطار الدولة، والدولة الإيرانية ترتكب الكثير جداً مما ترغم تلك الكيانات بالبحث عن نفسها خارج إطار الدولة.

ــ  ومن ذلك أن إيران (دولة الملالي) لا تنفك منذ أن تأسست عام 1979 عن تهييج المسائل العرقية والثقافية / الدينية (على ضعفها وبطلان صلاحيتها) في البلدان المجاورة دون أن تفكر أنها بذلك تشعل نيران سياسة سيمتد لهيبها إلى إيران نفسها..! ففي هذه الحالة هي كمن يقرب النار من بيته ..!

ــ تلعب الدولة الإيرانية بالعامل النووي وتناور وتداور وتقطع الحوار ثم تعود للحوار.. مع أن العنصر النووي لن يطور أوضاعها نحو الأفضل، والدليل متوفر أمامها يشير بوضوح إلى أن النووي لن يلغي مشكلات قائمة أو هي تحت الرماد، وإيران تعلم أن هناك من الدول من عمد بنفسه إلى تفكيك قدراته النووية. الأسلحة لا تجلب الأمن والسلام، وحيازة أسلحة دمار شامل، تعني احتمال دمار شامل يصيب من يمتلك هذه الأسلحة.  أم هي (إيران) تريد كسب الوقت والتأثير في ملفات أخرى ...! هذا الأمر يراوح في مكانة منذ عقود دون نتيجة ..!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش

الحق أن أحد مفكري الحزب الشيوعي السوفيتي (أوليانوفسكي) كشف في مقال مهم له، في مجلة السياسة الخارجية الألمانية كشف  بوقت مبكر في أول  أعوام الثمانينات  (1980 /1981)، عن كشف مبكر للهوية الرجعية للثورة الإسلامية، وأن لا يوجد سبب واحد يضعها خارج معسكر الإمبريالية العالمية، وإن كانت هناك خلافات فهي سطحية وغير جوهرية، وأثبت ذلك بشكل دامغ.

القرار رقم ١١٨ اج صادر من الكونغرس ومجلس النواب الأمريكي يدعم تطلعات الشعب الإيراني بإقامة جمهورية إيرانية ديمقراطية علمانية غير نووية...إنهاء إرهاب النظام الإيراني..تم إحالة القرار إلى لجنة الشؤون الخارجية للتنفيذ.

 

 

 

 

 

رجم ثريا

 

ضرغام الدباغ

 

فريدون صاحب جم ... صحفي وروائي وكاتب سيناريو (Freidune Sahebjam)  إيراني / فرنسي يعيش في المنفى (فرنسا)  وهو معارض لنظام الملالي، وقد نشر أعمال عديدة عن مآسي حقبة الملالي، ومن تلك رواية نشرها بعنوان " لم تبق لدي دموع " وهي عن مأساة صبي إيراني سيق إلى جبهات القتال في الحرب العراقية / الإيرانية، ليعمل كفالقة ألغام بشرية وشاهد المئات من الأطفال الإيرانيين يلقون حتوفهم أمامه، وكان حظه جميلاً حين وقع في أسر القوات العراقية، التي ما لبثت أن أطلقت سراحه وغيره من الأطفال بدون مقابل. وصحيفة ألمانية (Die Zeit) كتبت موجزاً لهذه الرواية (Ich habe keine Tränen mehr) قمت بترجمتها إلى العربية.

 

 

(غلاف رواية لم تبق لدي دموع)

 

فريدون صاحب جم (ولد عام 1933 في إيران، وتوفي عام  2008 في فرنسا)، صحفي فرنسي من أصل إيراني، عمل مراسلا حربيا وروائيا، وعاش في "نويي سور سين" في فرنسا. حظي بتقدير عالمي عن روايته رجم ثريا: وهي قصة حقيقية لإحداث جرت واقعياً.  وصاحب جم يعتبر أول صحفي يتناول جرائم إيران ضد المجتمع البهائي في إيران، والاستغلال السافر للأطفال في الجيش الإيراني خلال الحرب التي استمرت ثمانية أعوام بين إيران والعراق. تناولت آخر مقالاته الحرب على العراق ونُشرت في الصحيفة الفرنسية اليومية "لو تيليجراف"

  أكن أعلم أن للكاتب فريدون صاحب جم أعمالاً أخرى، ومنها تلك الرواية  " The Stoning of Soraya / رجم ثريا" ثم دهشت حين علمت أن الرواية قد أنتجت كفلم سينمائي أعتقد في كندا (تورنتو)، والفلم وإن لم يصب نجاحا كبيراً، إلا أن المهتمين بالشؤون السياسية اعتبروه عملاً جيداً جداً، وقد سعيت للحصول على نسخة من الفلم وشاهدته بتأمل. والكاتب، ومن ثم أعتقد أن المخرج والممثلون وكاتب السيناريو، نجحوا في تقديم المادة للناس. وهي محزنة تبعث على الأسى. جانبا مهماً من اضطهاد دولة ملالي إيران للناس لأسباب مختلفة، منها الرؤية الدينية / السياسية للعلاقات الشخصية، واحتكارهم لحرية الفكر وأنماط الحياة وأساليب العيش، وهو طغيان ومن أسوء أصناف الديكتاتوريات .

 

 

(الصورة: الكاتب فريدون صاحب جم)

  

ولا أريد أن أتحدث عن الفلم كثيراً وأصادر متعتكم واكتشافكم للزاويا ولأعماق العقدة الدرامية / المؤسفة، ولكني أجزم أن المشاهد ستكون له فرصة موضوعية لإدانة كل حكم همجي متخلف، وأن رجل الدين في جريمة رجم ثريا أمتطى الدين من أجل شهواته الحيوانية، ولم تكن عدالة السماء في ذهنه ولو لثانية واحدة. أن القرار بالإدانة الآن يتجاوز المجرم الذي أصدر قرار الإعدام رجماً بالحجارة، إلى إدانة نظام بأسره الذي يمثل هؤلاء المتخلفون سلسلة متماسكة متلاحمة يتسلون على الشعب الإيراني بمكوناته، وأطيافه وحركاته السياسية، ويعرضونهم إلى قمع فاشي دموي منذ استيلائهم المشبوه على السلطة عام 1979.

 اليوم ثريا لقيت مصرعها ظلماً وعدواناً بأيدي جلادين يدعون التدين كذباً وزوراً، والكاتب توفي وبلاده ترزح تحت ظلم الملالي المتخلفين، ولكن الجريمة ما تزال ماثلة، والمجرمون مطلقي السراح، والنظام الدموي ما يزال يعبث بمقدرات إيران والبلدان المجاورة.

 

مشاهدتكم للفلم، سيساعد في إصدار قرار الإدانة، كما يكتب منتجوا الفلم.

 أنتج الفلم في الولايات المتحدة.

المنتج شتيفان ماريناكوي.

ظهر الفلم عام 2008.

المخرج سايروس نوراستي

القصة من رواية رجم ثريا لفريدون صاحب جم

تصوير جول رانزوم

تقطيع ديفيد هاندمان

الموسيقى جون ديبني

طول الفلم 116 دقيقة

  رباط مشاهدة الفلم على اليوتيب

  https://www.youtube.com/watch?v=BwN8zP3BENU

  المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

اتفاقية استامبول ...

الأبعاد الحقيقية

ضرغام الدباغ

عقدت في مدينة استامبول التركية في 11 مايو/ أيار 2011، ، مؤتمرا تم التوقيع في ختامه على  اتفاقية، سميت " اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف الأسري". وتتضمن الاتفاقية:

التزامات قانونية، تشمل الاستثمار في التعليم.

وجمع البيانات حول الجرائم المتعلقة بالنوع أو الجنس.

وتقديم خدمات الدعم للضحايا.

وتم التوقيع على الاتفاقية من قبل 45 دولة أوروبية، فضلا عن توقيع الاتحاد الأوروبي أيضا كمنظمة.

وقد ورد في البيان أن المادة 80 من الاتفاقية تسمح لأي من الأطراف الانسحاب من خلال إبلاغ المجلس الأوروبي.

والاتفاقية لا تشير في مظاهرها العامة سوى إلى "حماية المرأة من العنف الأسري" ولكن شخصيات وهيئات وحكومات أوربية، وجدت أن مواد وفقرات الاتفاقية ومضامينها يمكن أن تفسر وأن توحي إلى أبعاد أخرى غير الأهداف الواضحة، كأن تكون مدخلاً يفضي إلى شرعنة دولية للجنسية المثلية واعترافاً بالأسرة القائمة على العلاقات الشاذة، وبالتالي اعترافا رسميا بوجود أجناس أخرى عدا " الذكر والأنثى "، وقبولاً متزايدً بعمليات التحول من جنس لآخر، وظهور أجناس أقرب للذكورة، وأجناس أقرب للأنوثة، وأصناف أخرى متوافرة اليوم في المجتمعات المنفتحة بلا حدود، حتى بدأت تعاني من ظهور مشكلات اجتماعية غير مألوفة من قبل (في تحديد الجنس)، معقدة في التعامل معها، وأن الانفتاح بلا حدود بدأ يظهر سلبياته ويتسبب في مشكلات عميقة، تفوق حدود مبدأ الحرية الشخصية بتصرف الإنسان بجسده، إلى منح سمات وأبعاد غير معروفة، ومنها ما يلحق الضرر بأعضاء في الهيئة الاجتماعية.

 

لماذا تثير الاتفاقية الجدل الآن؟

يرى المعترضون من المحافظين أن الاتفاقية تروج لحقوق وتعاليم المثلية الجنسية بما يتناقض مع ما يسمى بقيم الأسرة التقليدية، إلى جانب إشارة البعض لكيفية تعريف الاتفاق لمفهوم النوع باعتباره فئة موجهة اجتماعية إلا أن تلك المسميات المذكورة في الاتفاقية يتم استخدامها بهدف الإشارة للتأثير غير المتكافئ الذي يخلفه العنف على المرأة، فضلا عن عدم المساواة المتوارثة بين الرجل والمرأة. ولكن من وجهة نظر بعض المتشددين تتجاوز تلك المسميات الغرض منها، بالرغم من محاولات مجلس أوروبا المتكررة لتفنيد تلك الإدعاءات. ويقول الخبراء إن الاعتراض على الاتفاقية يعود لتصاعد المشاعر المضادة للغرب والمضادة للمثليين في البلدان التي تحكمها حكومات ذات توجه يميني.

وقد أثار الانسحاب التركي من الاتفاقية، الحديث عنها. ففي بولونيا،  شجع المسؤولين بالحكومة المحافظة في بولندا العام الماضي على الانسحاب من اتفاقية إسطنبول، والذي صدقت بولندا عليه في وقت سابق عام 2015. ووفقا لوثيقة رسمية مسربة ظهرت بتقرير صحفي منشور حديثا لشبكة البلقان للتحقيق الاستقصائي BIRN، تسعى الحكومة البولندية لاستبدال الاتفاقية بأخرى يمكن أن تمنع زواج المثليين والإجهاض.

 

كما تعمل كل من بلغاريا والمجر أيضا على البقاء بعيدا عن اتفاقية إسطنبول. فبالرغم من توقيعهما عليها، اتخذت الدولتان تدابير توحي بتخطيطهما لعدم التصديق على الاتفاقية. حيث وافق البرلمان المجري العام الماضي على إعلان برفض التصديق على اتفاقية إسطنبول، بينما أصدرت المحكمة الدستورية في بلغاريا في عام 2018 حكما بعدم دستورية الاتفاقية. وجدير بالذكر، تبقي سلوفاكيا كذلك الاتفاقية مجمدة.

ما مدى نجاح الاتفاقية؟

وترى باحثة بمنظمة أمنستي الدولية(Amnesty international)، أن من "الصعب للغاية" قياس الصلة المباشرة بين اتفاقية إسطنبول والتدابير التي يتم العمل بها على أرض الواقع لمواجهة العنف ضد المرأة. ولكنها أشارت للدنمرك كنموذج حديث، حيث مررت في شهر ديسمبر الماضي إصلاحات تعتبر ممارسة الجنس بدون رضا أي من الطرفين بمثابة اغتصاب، ما يعد تمسكا باتفاقية إسطنبول كواحدة من أسس تغيير التشريعات القانونية. ولكن الانتباه إلى أن "كيفية التطبيق عمليا هي مسألة أخرى" حيث أن القوانين تحتاج لتطبيقها على أرض الواقع. كما أطلقت فرنسا سياسة "الدبلوماسية النسوية" للدفع نحو تحقيق المساواة، مع اتخاذ اتفاقية إسطنبول كواحدة من ركائز السياسة الجديدة.

بدوره أكد وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، أن غياب الاتفاقيات الدولية لا يقلل من مسؤوليات الحكومة في حماية مواطنيها ضد كافة أشكال الجرائم. وأن "وجود أو عدم وجود اتفاقيات دولية لا يقلل أو يزيد من مسؤولياتنا لمنع أي شكل من أشكال الجريمة (المحتملة) التي سيتعرض لها مواطنونا". وأوضح وزير الداخلية التركي في بيان أن قوات الأمن تستمد صلاحيتها من الدستور والقوانين في ضمان السلام والنظام والأمن ومكافحة الإرهاب والسرقة والجريمة المنظمة والجرائم الإلكترونية والمخدرات والعنف وجميع أنواع الجرائم. ولفت إلى أن قرار تركيا انسحاب من الاتفاقية يستند إلى هذا السبب، وهي ليست الدولة الوحيدة التي لديها هواجس كبيرة بشأن الاتفاقية، فهناك 6 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي بلغاريا والمجر والتشيك ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا، لم تصدق على هذه الاتفاقية.وأكّد أن بولندا أيضًا اتخذت خطوات للانسحاب من الاتفاقية مستشهدة بمحاولة مجموعات المثليين فرض أفكارهم حول الجنوسة (النوع) الاجتماعية على المجتمع ككل.

وما يضعف الحملة الإعلامية ضد تركيا، أن انسحاب 6 دول (بلغاريا والمجر والتشيك ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا) لم يثر أي إشارة في الإعلام والاحتجاج الذي أثير بوجه تركيا، كما يستحق التساؤل هل تنهي الاتفاقيات العنف بصفة عامة، والقوانين لا تمنع الجرائم بل تعالجها وتعاقب القائمين بها، فالجرائم في العالم في تزايد رغم وجود القوانين، كما أن القوانين الجنائية تمنع الاعتداء على الرجال والنساء معاً وحتى الأطفال، والحيوان، فلماذا قانون خاص بالنساء ...؟

وعندما تبدي 7 حكومات أوربية قلقها من أبعاد أخرى في الاتفاقية فلماذا لا يحترم هذا القلق ...؟

والمدهش في الأمر أن المحتجين يعتبرون ان الحكومات التي وافقت على الاتفاقية يسارية، والرافضة لها يمينية ...! مع أن الأنظمة في الاتحاد الأوربية كلها ذات توجه اجتماعي متشابه وهي كلها أنظمة رأسمالية وغريب أن تعتبر المثلية الجنسية وتعدد الأجناس قضية يسارية ...! ففرنسا مثلاً لها قوات مسلحة نظامية تقاتل في عدة دول في العالم ... وتشن حملات عرقية ودينية ولكن بقبولها زواج المثليين تصبح يسارية ..! هل أصبح اليسار معني بالعري والتعري والانحرافات الجنسية وليس بالصراع الاجتماعية / الطبقية ...! هذا ما يسمى بالرقص على الكلمات والمصطلحات.

وهذه ملاحظات تنبئك أن هناك أمراً أكثر من الدفاع عن النساء إلى فرض واقع اجتماعي / ثقافي جديد تجعله أمراً مألوفاً ... والأيام ستنبئنا ما هو ..!

(كتب هذا المقال قبل أن تنفجر أزمة السفراء العشرة ...!)

 

أفغانستان ...  العدوان والخسران

 ضرغام الدباغ

 

 ربما هذه هي المقالة العاشرة التي أكتبها عن أفغانستان، بعد التحرير التام من العدوان الأمريكي / الأطلسي عليها، الذي استطال ليبلغ عقدين كاملين من زمن التاريخ الأسود. والموضوع يستحق دون ريب أن يكتب عنه بهذا القدر وأكثر، لأنني أعتقد أن انتصار طالبان هو مفصل تاريخي، ستتبعه هزات ارتدادية عديدة في المنطقة وأرجاءها.

 

في غضون هذه الفترة القصيرة جداً منذ التحرير وحتى يومنا هذا، (أكثر من شهر ونصف) قرأنا الكثير جداً من الآراء والتحليلات، وما أكثر القنوات التلفازية المستعدة لالتهام كل خبر وتعليق، الغث منه والسمين، فالإعلام اليوم كالفرن الذي يتقبل أي مادة تدخل فيه. ولم تكن في العديد منها تخلو من الخيال وأخرى كالسم يداف في عسل الكلام، وأخرى يفوح الحقد واللؤم منها، وقراء ينفعلون مع الأخبار، المفبركة، كأنهم يودون سماع كل ما هو سيئ، يطالبون قيادة طالبان وبإلحاح، خلال أيام من استلامها مقاليد كابول، ما عجزت عنه حكومات طيلة 20 عاماً تملك المال والسلاح، والعلم والكادر المتخصص...!

 

ابتداء يحلو للبعض ممن لا يود سماع أخبار انتصار طالبان، أن يرمي عليها  تخمينات ..تقديرات .. تحليلات، وصولاً إلى معلومات يزعم أنه سمعها، أو أطلع عليها من دوائر لها قدرة خارقة بالعلم والفهم أن الأمر لا يعدو كونه عملية مسرحية تسليم وتسلم مفاتيح ...! هكذا بكل بساطة يريد تجاهل نضال شعب لعشرين عاماً دموية ..في حملة كانت فيها خسائر أمريكا وحلفاءها أكثر من أن تعد وتحصى، وآخرين يتقولون بما لا يفقهون ويشطحون في خيالهم، أن وظيفة طالبان / أفغانستان هي التصدي للصين، وآخر يزعم أنها ستكون حلقة في مؤامرات أميركا ...مزاعم ولكن لا أحد يمتلك دليلاً مادياً، ولا حتى مؤشراً عقليا نصف مقنع ...!

 

أفغانستان تعرضت لعدوان ولاحتلال ظالم، وتعرضت طوال عشرين عاما للسحق والتدمير وتصادر إرادة الشعب، وتحرف عمليات النمو الاقتصادي، وبالنسبة لأميركا أن تسير فتاة بالشورت نصف عارية هو التقدم والحضارة، ويطالبون أفغانستان بعد أسبوع من التحرير بما لم يفعلوه خلال عشرين عام ... نريد ونريد، ونطالب، حسناً طالما أنتم بهذه الدرجة من الانفتاح والشمولية .. لماذا لم تحترموا إرادة الناس وما يريدون ..؟  أم أن الانفتاح والشمولية بالنسبة لكم هي أن تسير بضعة فتيات في الشارع بملابس خفيفة .. ماذا يمثل ذلك ..؟ إنه يمثل أن مجتمعكم يتحلل وتصبحون مثالاً في الانحلال لا في العلم والاقتصاد .. بهدف تدمير مرتكزات المجتمع .. وإفقاده هويته وتحويله لمجتمع هو أقل من تابع صغير، ولابد  أن تعلموا أن من المستحيل تحويل قندهار إلى شيكاغو .. لسبب بسيط، أن استكهولم / السويد لا يمكن أن تصبح شيكاغو ..

 

التفاوض، إعادة الانتشار، الانسحاب، مصطلحات يراد منها تجنب أو تخفيف وطأة كلمة الهزيمة. أخيراً وحين حانت ساعة تحديد المسؤولية، وأمام الكونغرس الأمريكي، وتحت طائلة المسؤولية، وفي جلسة استماع مطولة أمام مجلس النواب الأمريكي، قال رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي:  إنّ بلاده خاضت "حرباً خاسرة" في أفغانستان وأن هذا "الفشل الاستراتيجي" كان "نتيجة لسلسلة قرارات استراتيجية تعود إلى زمن بعيد". وأقرّ رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي الأربعاء (29 سبتمبر/ايلول 2021) أمام لجنة برلمانية بأن الولايات المتحدة "خسرت" الحرب  التي استمرّت 20 عاماً في أفغانستان وذلك بعد شهر على انتهاء الانسحاب الأمريكي من هذا البلد وما رافقه من تخبّط وفوضى. (*)

وقال الجنرال ميلي خلال جلسة استماع في مجلس النواب: "من الواضح والظاهر لنا جميعاً أنّ الحرب في أفغانستان لم تنته بالشروط التي أردناها، مع وجود طالبان في السلطة في كابول". وقال إنّ بلاده خاضت "حرباً خاسرة"، مضيفاً : "لقد كانت كذلك، بمعنى أنّنا أنجزنا مهمتنا الاستراتيجية لحماية أمريكا من تنظيم القاعدة، ولكن من المؤكد أن الوضع النهائي يختلف تماماً عمّا أردناه وأقر رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي الأربعاء (29 سبتمبر/ايلول 2021) أمام لجنة برلمانية بأنّ الولايات المتحدة "خسرت" الحرب، التي استمرّت 20 عاماً في أفغانستان، وذلك بعد شهر على انتهاء الانسحاب الأمريكي من هذا البلد وما رافقه من تخبّط وفوضى. وقال إنّ بلاده خاضت "حرباً خاسرة"، مضيفاً : "لقد كانت كذلك، بمعنى أنّنا أنجزنا مهمتنا الاستراتيجية لحماية أمريكا من تنظيم القاعدة، ولكن من المؤكّد أنّ الوضع النهائي يختلف تماماً عمّا أردناه ورأى الجنرال مارك ميلي أنّ ما حصل شكل "فشلاً استراتيجياً. فالعدو في الحكم في كابول. ولا مجال لوصف الوضع بطريقة أخرى". (*)

 

فيثنام لم تتخلى عن الشيوعية والاشتراكية بعد التحرير، والأفغان سوف لن يتخلوا عن نهجهم بعد 20 سنة قتال ودمار ..عن جوهر نضالهم. نعم ...واضح جداً، الهدف هو أن لا تكون هناك دولة إسلامية، هذا هو الخطر، والهزيمة هنا في جوهرها تعني: شعب قاتل بوسائل بدائية عدوا أطلسياً يمتلك قوى جبارة سياسية واقتصادية وعسكرية، وأنتصر كيف ...؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه المواطنون الأوربيون،  على حكوماتهم وعلى أنفسهم، فالهزيمة هنا هي للمبادئ، كل هذه التجمع الهائل لم يقنع الشعب الافغاني، بالتراجع، بل تمكنت خلال ساعات .. ساعات فقط، أن يتبخر كل ما وضعوه ووظفوه، وخونة اشتروهم وعملاء باعوا أنفسهم، وأخيرا تركوهم يتساقطون كالذباب من الطائرات ... في لقطة تاريخية كبيرة بحجم  الأنتصار الكبير ..  لعمري أن لفي هذا المشهد عبرة لمن يعتبر ...

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) فقرات منقولة من نشرة وكالة الأنباء الألمانية (DW)

 

 

عالم الظل

 كتاب : باتريك باب  و  روبرت هاركافي

 (Patrik Baab, Robert Harkavy)

 ضرغام الدباغ

 

هذا الكتاب مهم جداً، صدر بطبعات عديدة، والغريب أنه يختفي من المكتبات بعد وقت قصير جداً من عرضه، وشخصيا حصلت عليه من مكتبة أنا من زبائنها، وفكرت بترجمة الكتاب، ولكني فكرت بحقوق المؤلفين والناشرين، ولابد أنها ثقيلة. لك هذا المقطع هو تعريف بالكتاب وما يريده المؤلفان ..

مع تقديري

 

ضرغام الدباغ

 

 

 

قوة الظل

كارل يورغن مولر  (Karl Jürgen Müller)

 

لقد أغرقت القوى الخفية العديمة الضمير أوربا في الحرب العالم العالمية الأولى، وهم يحاولون أن يعيدوا ذلك اليوم ... وينبغي على أوربا أن المزيد من النضج في جمال السياسة الخارجية، وأن تهتم بمسائل الدفاع في المستقبل اعتماداً على نفسها. إن تهديدات أعضاء حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بأن بلادهم ستنسحب عسكرياً من أوربا مستقبلاً بسبب جحود حلفاءها المزمن، إضافة إلى أن بعض المسؤولين الأوربيين يتجهون بذات المنحى. (1)

ومن المؤكد أن ما سينجم عن ذلك أيضاً  هو " تحمل المزيد من المسؤولية في العالم " و " الوقوف على أقدامكم " والأمر لا يعني بحال من الأحوال ب "القوة الحمايوية "، لمكانة ألمانيا في الرؤية الاستراتيجية الشاملة ضد المنافس اللدود " روسيا "، والنص التالي يتناول كيف يمكن تصنيف المؤشرات الحديثة " في سياق هذه الأفكار "، عن الاستعدادات الحربية الانكلو سكسونية، وكيف يحاولون  إيهام (تضليل) الناس عن خططهم الحقيقية.

في عام 1914، أي بعد 100 عام من بداية الحرب العالمية الأولى، قام كاتبان اسكتلنديان: جيري دوشيرتي، وجيم ماكغلريغور بنشر كتاب عن أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى نشر بعد أشهر قليلة باللغة الألمانية أيضاً، " التاريخ الخفي "كيف سقطت نخبة سرية من الناس في الحرب العالمية الأولى "  والكتاب ب 400 صفحة مثير للاهتمام لمن يريد أن يعرف مرحلة ما قبل الحرب .

 

بأي حيل علينا أن نتعامل ؟

من وجهة نظر يومنا هذا، فإن الأوصاف كما وصفها الكاتبان بأنها " نخبة سرية " في تلك الأوقات،  بدقة بالغة هم مجموعة من الشخصيات يعملون من أجل تحقيق أهدافهم.

 

السؤال هو إن كنا نتعامل مع آليات مماثلة اليوم . وهي أن المواطنين وفيهم اليوم من لديهم مناصب مسؤولية  في السياسة والمجتمع، يجري خداعهم يتركون دون في عدم وضوح في الرؤية، وهذا في الواقع مخطط له، وأي دور في ذلك لقوى معدومة الضمير بوجهات نظرها ومصالحها، تلعبها في خلفية القرارات.

 

ولكن هذا الأمر هو في جوهرة، مرة أخرى، هو التخطيط  والإعداد لحرب كبيرة، وينبغي إسكات الأصوات المعارضة وذلك بإفسادها، أو بإجراء مناورات هامشية (للتمويه على الغرض الأساسي / المترجم) وأنه ينبغي جر ألمانيا إلى هذه الحرب خطوة فخطوة.

 

هل ينبغي أن تخرج الولايات المتحدة من أوربا ...؟

 

" يجب على الولايات المتحدة الخروج من أوربا " كان هذا عنواناً لمقابلة صحفية نشرتها صحيفة سويسرية  (Basler Zeitung)   "صحيفة بازل" نشرت بتاريخ 20/ تموز ــ يولية / 2019، مع ستيفن والت (Stephen Walt)   أستاذ العلاقات الدولية في كلية هارفارد كيندي، في جامعة هارفارد، وانتقد في هذه المقابلة السياسة الأمريكية على مدى السنوات الثلاثين الماضية، بما في ذلك سياسة الرئيس الحالي دونالد ترامب، وطالب بانسحاب القوات الأمريكية من أوربا، وفي الوقت نفسه بضرورة تواصل العلاقات السياسية والدبلوماسية من أجل إقامة علاقات وثيقة معها (مع أوربا).

 

واستطرد البروفسور والت قائلاً " أن أوربا اليوم مستقرة ومزدهرة سياسياً، ودول ثرية، ويمكنها أن تهتم بشؤون الدفاع عن أنفسها، وهذا مال تفعله الدول الأوربية منذ مدة طويلة جداً ". وأخيراً " بالموارد التي ستوفرها الولايات المتحدة، من نفقاتها في أوربا، فإنها (الولايات المتحدة)، يمكنها التركيز بدرجة أكبر على مصالحها في أسيا، وهي عملية بدأت في عهد الرئيس أوباما " هل هذه رسالة سلام حقيقية ...؟

 

ما هي جدية " التهديد " المعتقد ..؟

وبعد أيام قليلة، في 15 / آب ــ أغسطس /ذكرت الصحيفة نفسها، أن السفير الأمريكي في برلين / ألمانيا، ريتشارد غرينل (Rischard Grenell)، بسحب القوات الأمريكية من ألمانيا بقوله : " إنه لمن المهين حقاً، أن ننتظر من دافعي الضرائب الأمريكيين من أجل تغطية نفقات ال 50.000 ألف أمريكي في ألمانيا. فيما يستخدم الألمان فائضهم التجاري في أغراض داخلية ".

السفير الأمريكي في وارسو / بولونيا،  قال " أن بولونيا تفي بالتزاماتها لحلف الناتو بنسبة 2% من دخلها، وألمانيا لا تفعل ذلك ". إننا سنحييها لو أن القوات الأمريكية " هل ستفرح ألمانيا بذلك ...؟

 

ألمانيا دولة لا يستغنى عنها في حروب الولايات المتحدة.

ما أورده نفس  المقال استطراداً مثير للاهتمام حقاً وجاء في التقرير :" ومع ذلك من المرجح أن وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون (Pentagon) قد توصلت في تحليلاتها، أن الانسحاب الكبير من ألمانيا، سيكون باهضاً ومكلفا لبلد واحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية.

 

والأسباب :" هي نوع المنشئات الباهظة التكاليف التي أقامتها الولايات المتحدة في الأراضي الألمانية، للقوات المتمركزة هناك. وهذه  المنشئات هي مجموعة المقرات القيادية، والقواعد اللوجستية المهمة، التي تتجاوز أهميتها ألمانيا، سواء في العمليات أو للخطط الدفاعية الأمريكية.

 

ففي منطقة شتوتغارت (مدينة مهمة تقع جنوب غرب ألمانيا)، التي مهمة سواء في قيادة القوات المسلحة الألمانية الموجودة في ألمانيا، أو لقيادة قوات مشاة البحرية الأمريكية في أوربا عامة، وفي أفريقيا. وتمثل قاعدة رامشتاين (Ramstein) هي ليست واحدة من أكبر المكاتب خارج الولايات المتحدة وكمقر لقيادة القوات الجوية الأمريكية في أوربا فحسب، بل هي أيضاً مركز الإمداد الرئيسي للعمليات في الشرق الأوسط وأفغانستان وأفريقيا. وهي كذلك قاعدة مهمة في السيطرة على عمليات rwt الطائرات بدون طيار (Drohn) . وتستطرد الصحيفة، أن على الأراضي الألمانية توجد أكبر مستودعات للذخيرة الجيش الأمريكي خارج الولايات المتحدة. وغير ذلك من المعطيات ومن تلك نقرأ:

 

" وتخطط الولايات المتحدة استثمار مبلغ 2 مليار دولار حتى حلول عام 2013 في قواعد راينلاند فلاتس. (Rheinland - Pflaz) كما أعيد بناء وتحديث قاعدتي رامشتاين (Ramstein) ولاند شتول (Landstuhl) بمليارات الدولارات، وفي المدى القصير والمتوسط المنظور لا يمكن التخلي عنهما، وكذلك الأمر مع قاعدة (.....)  كما تتضمن خطط وزارة الدفاع الأمريكية / البنتاغون  أيضا على " بحلول شهر سبتمبر ـ أيلول / 2020 أن يكون هناك 1500 جندي أمريكي يرابط بشكل دائمي في ألمانيا ".

 

ونجد في نهاية المقال، " كل هذا، هكذا يفترض السفير غرينيل أنه سيكون مألوفاً، مشيراً إلى آليات وسائل الإعلام وردود أفعال السياسة وفن الاستفزاز " هل تستطيع ألمانيا حقاً، أن تتراجع بهدوء ..؟

 

وكان كارل هاينز كامب، رئيس الأكاديمية الألمانية لسياسات الأمن في برلين، قد وضع نفسه في مقال نشر في " صحيفة زيورخ الجديدة " بعددها الصادر يوم 13 / آب ــ أوغست / 2019  إلى جانب السياسة الأمريكية  بقوله " إلى جانب الولايات المتحدة، تمثل ألمانيا القوة الاقتصادية الثانية في بلدان الناتو، ومع ذلك لا تريد الإيفاء بالتزامات التحالف. وأن تمنح 2% فقط من الناتج الإجمالي لأغراض الدفاع. ودائماً يجدون الأعذار والمبررات، وهو ما يضع مصداقية حلف الناتو على المحك (موضع شبهة) ".

 

هل أعلنت أورسولا فون دير لاين الحرب على روسيا ؟

وزيرة دفاع الألمانية السابقة فون دير لاين تبدي إعجابها بكلمات أغنية كلماتها معادية لروسيا، ويبحث الكاتب هل هناك روح معادية لروسيا في ألمانيا وأوربا ..؟

 

العالم الغربي ما يزال تراوده أفكار النصر النهائي، وحروب لا تنتهي من أجل فرض هيمنة الأنكلوسكسون، من خلال حروب الناتو التي لا تنتهي، والمتعارضة مع القانون الدولي. ويدور همسا أو علانية : الدول التي كانت في فلك الاتحاد السوفيتي يجب أن لا تلعب أي دور أي دور في السياسة الدولية إلا إذا كانت تدور في فلك المصالح الأمريكية ..!

 

لمن تتبع ألمانيا ..؟

 

رفضت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة روسيا إلى محيط الدول الصناعية السبع (G8). والمستشارة الألمانية أنغلا ميركل صرحت عشية لقاءها مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسن: أن روسيا قد أخرجت لأسباب وظروف معينة،  وهذه الأسباب لا تزال موجودة. وقبل أيام من انعقاد قمة مجموعة الدول السبع (G7)  في باريس / فرنسا،  تحدث الرئيس الفرنسي أيضاً ضد استئناف عضوية روسيا ضمن المجموعة بقوله :" أ‘تقد أن عودة روسيا دون شروط، ستكون علامة ضعف لدول المجموعة السبعة، وسيكون خطأ استراتيجيا ". وعبر رئيس الوزراء البريطاني بمثل هذا الموقف أيضاً. أما الرئيس الأمريكي ترامب فقد أوصى بأن تعود مجموعة الدول السبع (G7) إلى صيغة الدول الثمانية (G8) وكانت موضوعات المناقشة تتناول روسيا في معظمها. وأتهم الرئيس ترامب سلفه الرئيس بارك أوباما، بأنه كان يدفع بإخراج روسيا من دائرة ومحيط مجموعة الثمانية.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش

1. تجاهل الكاتب مسألة هي في مقدمة الأسباب لتراجع دور الولايات المتحدة في أوربا، وهو التقلص المتزايد في ميزانية الدفاع لدول الناتو ولا سيما ألمانيا وفرنسا، وهي قضية خلافية منذ زمن طويل، من ولاية أوباما وربما قبلها.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

  أفغانستان ... راحت

 السكرة جاءت الفكرة ...!

 

ضرغام الدباغ

 

تمضي الأيام مسرعة كمرور السحاب، بعد كانت الأيام العشرة الأخيرة ثقيلة صورها موجعة، أخبارها مفجعة، كالأبرة الزيتية. الحلفاء الغربيين بين مصدقين ومكذبين، بين الواقعية والطموح الخيالي الذي يرفض الواقع. كنا قد كتبنا في مقال سابق قبل أيام، أن المستشار الألماني الحكيم هيلموت شمت، كان قد تنبأ بهذه النتيجة وقالها صراحة في ندوة تلفازية (فبراير/203) أن الحملة الأفغانية سوف لن تؤدي لنتيجة، والأمريكان قد يستطيعون الذهاب لأي بلد في العالم، بقصفون ويدمرون ولكن ليس بوسعهم تحقيق النصر. فالنصر كلمة كبيرة والفرنسيين أدركوا هذه النتيجة وسحبوا قواتهم قبل سنوات، ولا أدري على ماذا يلطم ماكرون.؟

الأفغان الحفاة العراة، هزموا التحالف الغربي، وقبلهم هزموا بريطانيا يوم كانت عظمى، وهزموا الاتحاد السوفيتي  يوم كان يحكم نصف العالم..! الأوربيين فهموا القصة على السريع، ولكنهم لم يستوعبوا العبرة، فرنسا هزمت شر هزيمة أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، ولم ترتدع، الإنكليز على درجة أعلى من الحصافة والتعقل، فقلصوا بيدهم أمبراطوريتهم التي لا تغيب عنها الشمس بعد أن خسروا درة التاج البريطاني (الهند)، ثم خسروا شرقي السويس حرباً، ثم خسروا الخليج العربي بعد خسارة السويس، وأخيراً خسروا ميناء عدن. ولكن بعض الأوربيين يرون هزيمة أفغانستان بالعدسة المكبرة ..وأن هذه الهزيمة المرة ما هي إلا مقدمة لضعف داخلي، وخسائر أخرى مقبلة ..ولكن المستعمرين لن يصبحون مهذبين مطلقاً ..!

وأخيرا ظهرت تشكيلة حكومية أفغانية .. تشكيلة تخلو من عناصر عميلة للغرب، حكومة لا يرغب الغرب بها، بل هو يريدها أن تكون حكومة قرقوزات لا لون ولا طعم ولا رائحة، لا تنفع ولا تضر، بل يريدونا من لأنها توفر الأسس المادية لحروب أهلية طاحنة، ولتبق هذه البلاد أسيرة التخلف . الغرب لا يريد الراحة لأحد، لكي يوفر الفرصة للتدخل دائماً، ويجعل الآخرون يحتاجونه سياسيا واقتصادياً.

 

هل استفاد الغرب من تجربته في أفغانستان ..؟

رغم أن منصات عديدة، سياسية واقتصادية وصحافية في بلدان الغرب الرئيسية (بعضها مهمة) تحدثت بهذه القوة أو تلك، أن على الغرب أن يستفيد من تجربته في أفغانستان، التجربة القاسية الباهظة التكاليف في الأموال والأرواح، فهل استفاد الغرب شيئا من محنة أفغانستان ... لا أعتقد. بل يغطسون في الغباء أكثر وأكثر ..حين يعتبرون أن إشاعة الشذوذ الجنسي، وزواج المثليين، وأن تتعرى المرأة هذه هي الحضارة والديمقراطية.. يجب أن تفكر جميع الدول مثلنا، ليس فقط في السياسة، بل في كل شيئ  ..وليس من المهم أن تفوز حكومة معينة بالانتخابا لتكون ديمقراطية، الديمقراطية هي حين نحن نرضى عنها وتنفذ ما نقوله لها.. ويجب أن تصبح قندهار سان فرانسيسكو ..وإلا سنقصفكم بالطائرات والصواريخ ..أي تخلف وغباء هذا ..كابل لا يمكنها أن تصبح الدوحة، والدوحة لن تصبح بغداد، وبغداد ليست القاهرة والقاهرة ليست بيروت ..وهذه ليست أستانبول وهلم جرا .. وإذا كانت كوبنهاغن مثلاً، تختلف بشكل كبير جداً عن شيكاغو، فكيف تريد من كابل أن تنقلب إلى واشنطن بلمسة زر ... وكأن الموضوع في هاتف خلوي (موبيل) ...؟

طالبان لا تعين إمرأة في حكومتها ..ما هذه الكارثة، حسناً ربما أكثر من نصف حكومات العالم لا توجد بها نساء، مالعمل، هل ستشنون عليها الحروب ..عينوا فلان واحذفوا فلان ..هل الموضوع يخص دولاَ أم  إدارة بلديات أم ماذا ..؟ ويحدثونك عن الأستقرار في بلد دمروه طوال 20 عاماً.

ولكن لا، فالقيادات الغربية ليست غبية لهذه الدرجة، لكن التصدي للإسلام وحركات التحرر العربية والعالمية فقرة أساسية عندها هو جوهر أهدافها، بهدف إبقاء هذه الكتلة البشرية والاقتصادية الضخمة جداً تحت السيطرة، موارداً وسكاناً، أو إيقاف نموها وتطورها.. فهم يلاحظون قوة التأثير في مجتمعاتهم، وبلداننا تحت القصف والتآمر والتدمير، فما بالك لو تركونا وشأننا ..وما رأيك أن قلت لك أحد كبار قادتهم قال هذه الكلمات بالحرف الواحد وبصراحة .. ولكن نضال الشعب علمهم.

هم عاتبون على الأمريكان على سرعة انسحابهم، والمفاجأة في إخلاءهم أفغانستان، ولكن الأمريكان لا يهتمون كثيراً بزقزقة الأوربيين، وبوسعهم القول للفرنسيين، لماذا هربتم من الجزائر .. لماذا سرعة ولماذا مفاجأة، الولايات المتحدة تجري مفاوضات منذ شهور طويلة مع طالبان، والمفاوضات لم تكن سرية ..! ففي خطاب بايدن أواخر آب / 2021 قال :

أفغانستان صارت أزمة مفتوحة لا نهاية لها  فنحن :

ــ ننفق 300 مليون دولار يومياً خلال 20 عام .

ــ الحملة كلفتنا 2400 قتيل.

ــ 20 ألف معوق .

ــ 18 جندي ينتحر يومياً .

ــ أفغانستان مقبرة اميراطوريات.

 

ومن يرغب بمواصلة الحرب من منتقدينا (يقصد الأوربيين والفرنسيين خاصة)...فليتفضل ويذهب ويحارب، فرنسا أرادت أن تركب رأسها، وذهبت لوادي بانشير وأرسلت مدير مخابراتها ليفي برنار لبضعة أيام بعدها فرت لا تلوي على شيئ..

يقولون أن الشعب الفلاني يكرهنا، يكره الغرب ..والسؤال هو : وهل هناك من يحبكم ..؟ حتى من حلفاءكم .. سوى أوغاد اخترتموهم من بين الشعوب ليكونوا عملاء مأجورين خانوا شعوبهم لقاء المال .. وها هم الآن الجيل الثاني من أولاد وأحفاد الخونة الفيثناميين يعيشون في نيويورك كأمريكان بعد أن قطعتم جذورهم بأوطانهم ..ومثلهم روس ومثلهم عناصر شاذة استبدلت أوطانها بالغرب، ولكن أولادهم وأحفادهم سيصبحون جنود في جيش استعماري ويقضون ربما في بلاد بعيدة ..يطوفون على وجه المياه الآسنة ..كقناني بلاستك فارغة ومهملات ..!

يتعاملون مع الأمر كأنه كارثة، ويبدون حرصهم على هذا وذاك، وكأنهم لم يكونوا محتلين مستعمرين معتدين متسلطين لمدة عشرون عاماً، هم يأتون بعملائهم ككم يحملون جنسياتهم، ويولونهم إدارة البلاد ليساعدوهم في قمعها ونهبها، ثم يطلبون منك بعد نضال دام أستغرق 20 عاماً أن تضع بيدك هؤلاء العملاء في الحكم .. فهل هناك صفاقة أشد من هذه ..؟

 

هل استفاد الغرب من محنته في افغانستان ...؟

كلا والف كلا .. ليس لأنهم أغبياء، وليس لأنهم يعتمدون على الكومبيوتر الآلي في قراراتهم، وليس لأنهم معدوموا الضمير .. ولكنهم فوق كل هذا وذاك كله، فهم نظام أعتاد على سحق الناس، فكيف تريد من ذئب أن يتحول إلى نباتي بمجرد النصيحة ..؟ لا سوف لن يتعلمون لا من عشرة .. ولا عشرين .. ولا حتى مائة وعشرون تجربة ..! وحتى يتحول الذئب إلى نباتب يجب لأن تخلع أنيابه، وتقلم مخالبه، ويقتنع أن لا يحق له يسلب حياة الناس ليعيش مترفاً ...!

الغرب يحرك أذنابه.. نسوة يتظاهرن يحملن لافتات مكتوب عليها " حرية " ويتفرج عليهم رجال الأمن من طالبان بصبر يحسدون عليه، عن أية حرية تتحدثن .. الجماعة في الحكم منذ 6 أيام فقط، وأنتن رضختن للأحتلال عشرون عاماً دون أن تتفوهوا بكلمة حرية لأن فيها غوانتنامو ..! أو لأنكم تخادنتم مع المحتلين ياللعار ...! في الحالتين عار على الاحتلال وفلسفته في الحكم، وعار على من يكون ذنبا للأحتلال، والعار للمرأة مضاعف ..!

في البدء كانوا يتشددون في وصف الهزيمة بالانسحاب، ثم إعادة انتشار، ثم  أصبحت فضيحة وعار ..ثم أصبحت هزيمة نكراء ..كان بعض المثقفين الهولنديين قد كتبوا قبل سنوات " لا نفهم ما هي مشكلتنا في جبال هندوكوش .. وقندهار "

اليوم يتداعون ليشكلوا قوة ردع قالوا أن قوامها 20 ألف جندي، ثم قالوا 50 ألفاً، وآخرين يصعدون بالرقم إلى ما هو أكبر من ذلك ... قال المفوض الأعلى للسياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل " إن دول الاتحاد وعددها 27 دولة يجب أن يكون لديها "قوة تدخل أولية" قوامها خمسة آلاف جندي. ونريد أن نكون قادرين على التدخل السريع " . ولكن هناك من سخر وقال " ما عليكم .. هذا كلام لن يرى النور، وإذا رأى النور لن يرى التنفيذ.

 

والله ما همني زيد، ولكن من

 خانني من أهلي لصالح زيد

 

ضرغام الدباغ

 

منذ أن أستعاد أهل كابل مدينتهم (15 / أب ـ أوغست / 2021)، وأسقطوا نظام الاحتلال الاستعماري وأذنابهم من المحتلين العملاء، وبعض وكلاء الأذناب، وبعض الناس  يتوهمون وآخرون يوهمون أنفسهم، وينظرون إلى إطار الصورة، وآخرون ينظرون إلى خارج الصورة، وبعضهم إلى طريقة عرض الصورة ... قد يفعل ذلك بعضهم لجهله بأصول التصوير ... وأشهد أن التصوير فن صعب جداً، حتى أني أعتبره بصعوبة الرياضيات ..لأن من الصعوبة التي تقارب المستحيل أن تلتقط صورتان متماثلتان 100% (درست التصوير لمدة عام) ، ولكن لا يهتم الكثيرون بعناصر الصورة الأصلية ...!

 قد يبلغ السخف بدرجة مذهلة بأشخاص كالأمين العام للأمم المتحدة، وحتى بعض كبار المسؤولين في البلدان الغربية التي شاركت في العدوان على شعب أفغانستان، أن يصبوا جل اهتمامهم بل حزنهم لدرجة التباكي على توافه الأمور ..كاحتمال فرض الحجاب على البنات، وكبت حرية النساء، ولم يتفوهوا بكلمة واحدة عن اضطهاد شعب لمدة عشرين عاماً أسوء أنواع الاضطهاد باحتلاله من قبل عشرات الدول، ويعتبرون عملاءهم وأذنابهم أطرافا سياسية ينبغي الجلوس معها وإشراكها بالحكم وهم المتعاونون للأمس القريب مع المحتل المعتدي ..

 عضهم يتمنى لو أستطاع أن يحرم الشعب الأفغاني انتصاره المجيد(ولكن هيهات)، والأفغان انتصروا من قبل على الإنكليز والسوفيت أيضاً، فيتقول أن العملية تسليم وتسلم، لماذا هل لأن الأمريكان توسلوا طالبان أن يسمحوا لهم بالانسحاب (عشرات الألوف من الجند، مئات الألوف من قطع الأسلحة، ودمروا ألاف القطع وأحرقوا تجهيزات)، كما فعل الفرنسيون حين فاوضوا رسل الثورة الجزائرية في جنيف قبل انسحابهم من الجزائر، وكما فعل الأمريكان حين فاوضوا الفيثكونغ الفيثناميين في باريس. الهارب هو من يبادر للمفاوضة وليس من يقاتل وظهره لشعبه.

ألم نقاوم عشرين عاماً أميركا ومعها دول عظمى(فرنسا وبريطانيا) ودول نصف عظمى غيرها  ألم نستعيد البلاد خلال أيام قليلة (7 أيام) دون مساعدة ؟

ألم نفعل ذلك بقواتنا المجاهدة ؟

ألم نهزم 300,000 جندي حكومي  بما يمتلكون من عدة وسلاح ( 4 ألاف مدرعة وطائرات)

ألم نبسط سيطرتنا على بلاد مترامية خلال أيام وهو ما عجزت عنه قوى تدعي أنها عظمى ؟

 هذه هي عناصر الصورة الأصلية وسواها رتوش لا أهمية لها، في الاحتلال ومكافحته والنضال ضده لا يوجد تقدمي ورجعي .. الاحتلال عمل رجعي، ومقاومته عمل تقدمي،  هذه لا تحتمل التفلسف .. وليس تقدميا من يرقص الروك أند رول مع غاصب محتل، ضد مجاهد متدين. 

 الغزو الأمريكي كان خطأ فادحاً، ليمتلك أحد قادة المعسكر الغربي الجرأة لأن يقول ذلك ..  ملفقوا الأخبار والوقائع آن لهم أن يعترفوا  أن زعماء الغرب انساقوا وراء تهديد رئيس أحمق غبي من أسوء رؤساء أميركا في تاريخها (جورج بوش) المشهور والغير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية " من ليس معنا فهو ضدنا " منطق الزعران والشقاوات .. هذا سقط اليوم بدماء وتضحيات الشعب الأفغاني، والغرب خسر خسائر فادحة ألاف القتلى وترليونات من الأموال .. ثمناً لحماقة ..!

 فبراير / شباط عام 2003 سمعت وشاهدت محاضرة  للمستشار الألماني  الأسبق الحكيم هيلموت شمت قال فيها نصاً " نعم الولايات المتحدة تمتلك من القوى (السياسية والاقتصادية والعسكرية) على قصف أي نقطة في العالم، والإنزال في أي بلد وربما احتلاله .. ولكن ماذا بعد ؟ لن تستطيع إنهاء الحرب بالنصر ..

كسب معركة لا تعني الانتصار .. الانتصار معنى كبير جداً لا يتم بأعمال وأساليب خسيسة.

 لا نقبل أن تكون دولة إسلامية في أفغانستان .. ومن أنت لتمنع ذلك .. وهل تتدخل في كل مكان في العالم حين لا يروق لك ذلك ..؟ بأي حق تطالب أفغانستان أن تسن قوانين تشبه قوانين بلادكم .. أفغانستان ليست نيوجيرسي .. ولكل مجتمع خصائصه الاجتماعية والثقافية بناء على معطيات كثيرة .. لماذا لا يطالبون الهند بإبطال أرتداء الساري للنساء بالشورتات (السراويل القصيرة).. مثلاً ...؟

 هناك من يحزن على منظر المتعلقين بالطائرة الأمريكية وهي تهم بالاقلاع، ويتساقط منها 3 أنفار .. وهناك من الغربيين من أعتبرها عار على الغرب وهناك من قال كارثة ..!

 أما هذا الشعب الذي سحقه مجنون أحمق لمدة 20 عاماً، ووافق عليه لمدة 8 سنوات أستاذ جامعي رصين (أوباما) وأرعن آخر (ترامب) فهذا غير مهم .. المهم هذا الذي أشتغل مخبراً وجاسوساً على شعبه لدى المحتلين، معتقداً أن التاريخ يوماً واحداً، اليوم يريد الوصول إلى لوس أنجلوس ليمارس السفاهة هناك بقوة القانون ..! متعلقا بطائرة المحتلين .. ولكن الأمريكان رفسوه (قتل 3 أفغان برصاص الأمريكان) قائلين له، أنت لم تشتغلك مجاناً ... بعبارة أخرى الحمار يموت بكروته ..!

 والله العلي العظيم ما همني زيد بقدر فلس واحد .. (وقد أقسمت)، ولكن ما همني بل وزادني هماً من خان من أهلنا وأصطف مع زيد .. تنكر للأمة والوطن والدين .. لماذا ..؟

 أما للمبهورين بالغرب أقول مخلصا .. استفيقوا ..إنه أفول ..انتبهوا ..كونوا مع شعوبكم، كونوا مع وطنكم .. كونوا مع تاريخكم، كونوا مع أنفسكم .. تنجون من عذاب ضميركم قبل شيئ آخر ..

             

 

احتضار الديمقراطيات الغربية

ضرغام الدباغ

 

لم تكن العنصرية الجديدة التي بشر بها الباحثان الأمريكيان: صاموئيل هينتغتن (Samuel  Huntington) وفرنسيس فوكوياما، (Francis Fukuyama) سوى المسمار الحاسم في نعش الديمقراطيات الغربية، مع أنها ليست جديدة كل الجدة على الاطروحات السياسية الرأسمالية. وكلا الباحثان عاشا وترعرعا (بصرف النظر عن اصولهما العرقية) وتعلما في المعاهد والجامعات الرأسمالية، وعايشا حقب الحرب الباردة بكل تفاصيلها، ثم أنهما عملا في المؤسسات العلمية المولجة بتقديم صياغات نظرية للقيادات السياسية الرئيسية (وزارة الخارجية ــ البنتاغون (وزارة الدفاع) والمخابرات الأمريكية  CIA ...الخ)، وبالتالي فإنهما ينتميان إلى أشد الدوائر رجعية واعتدائية في متروبول الرأسمالية العالمية ومؤسساتها السياسية، والتي تنظر (تؤدلج) للمناهج العدوانية. ويحاولان منح الفاشية الجديدة مسحة وأساساً (Foundation) لنظرية ذات قيمة علمية، ففشلا في ذلك فشلاً ذريعاً.

لابد من الإشارة إلى المرحلة التاريخية لطرح محاولة التنظير هذه. فقد بزغ نجم هذان الباحثان في ظروف تاريخية هي غير تلك الظروف التي برز فيها فلاسفة أمريكيون نظروا للبراغماتية (Pragmatism) ممن سبقوهم من فلاسفة من العصر الوسيط والحديث،  لذلك ليس من المدهش مطلقاً أن يبزغ نجم هذان الباحثان مباشرة بعد انقضاء الحرب الباردة، وانهمكا كثيرا في تقديم مسوغات وفحوى آيديولوجي لإبقاء تماسك وتلاحم المعسكر الرأسمالي العالمي، حتى بعد تفكك المعسكر الاشتراكي، وحلف وارسو، وانظمام روسيا الاتحادية والصين إلى نظريات السوق والتجارة الحرة، وهو ما أسقط الباعث الاقتصادي أو أضعفه بدرجة كبيرة، كمبرر نظري للتكتل وبهدف إضفاء التوتر في السياسة الدولية.

وقد شهد العلم السياسي الاستعماري في مختلف العصور تعديلات، ولكنها تكن بتعديلات جوهرية على أية حال  بل هو ضرب من أحداث ملائمة (Adaptation) ومسايرة للعصر ومتطلباته، تمثلت بالفلسفة البراغماتية (Pragmatism)، وهي فلسفة تستند أساساً إلى قواعد رجعية إنتهازية واعتداءيه، تعتبر أن النتائج العملية تبرر أساليب الوصول إليها، على هذا النحو فأن بريطانيا الاستعمارية أقامت أمجادها وثرواتها اعتمادا على الاعتداء على شعوب أخرى، بل هي استخدمت أبناء المستعمرات في الحروب الاستعمارية ضمن سياسات الضم والإلحاق، واستنكرت وقاومت وقمعت أي عملية تحرر ومقاومة أبدتها الشعوب المستعمرة، وعلى بحر من الدماء والآلام والتضحيات التي قدمتها شعبنا شعوب كثيرة في العالم. أو لم تكن %84، من مساحة اليابسة في العالم حتى مطلع القرن العشرين تدار استعماريا.

في أمريكا (الولايات المتحدة) بالذات وجدت المناخ المناسب (وتلك ليست مصادفة...!) لتطوير الأفكار البراغماتية، حيث دارت على الأراضي الأمريكية وعلى مدى سنوات طويلة صراعات سياسية / عسكرية  استعمارية، بريطانية / فرنسية / أسبانية، ثم لظروف وأسباب لا مجال لها هنا، تأسس مجتمع رأسمالي حديث (دون مقدمات تاريخية سابقة) يمتلك قدرات الانطلاق، كان (James William) وليم جيمس (1842 ــ 1910) أحد أبرز مفكري هذه المدرسة التي أطلق عليها البرغماتية، أي المذهب العملي. وقد وجدت هذه الأفكار إيضاحا لها عند الفيلسوف الأمريكي تشارلس ساند بيرس(Charles Sanders Peirce) (1839 / 1914) الذي أعتبر العمل مبداً مطلقاً بإعلان هذه القاعدة (أن تصورنا لأي موضوع هو تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر) . (1)

 

 مضى علماء آخرون في منح هذا المذهب الانتهازي، الاعتدائي القائم على مبادئ القوة والغلبة في منحه أبعاد فلسفية عميقة باستعارات من فلسفات أوربية مثل جورياروس الأمريكي (1855 - 1916)، والأهم كان الأمريكي جون ديوي ((1859 - 1952. وتصف الموسوعة الألمانية (Duden) مذهب البراغماتية باختصار (أن حقيقة كل الأفكار والنظريات تقيم بدرجة نجاحها) فهي أذن عملية تجميل وعصرنة  (Modernisation) للميكافيلية، على أن روحها الانتهازية مازالت تبدو واضحة ودقيقة، ولكن هذه النظرية (وهناك من ينتقدها في العالم الغربي الرأسمالي) كانت العماد النظري / الفلسفي للسياسات التي أتبعتها الدول الرأسمالية الاستعمارية التي أباحت لنفسها فعل كل شيء مقابل الحصول على أهدافها الاستعمارية التوسعية، والأخلاق مسألة نسبية تماماً ولا أهمية واقعية لها. لا تنطوي على أي قدر من الاحترام لمصالح الآخرين، بل مصالحها .. ومصالحها فقط ....! فنظام عصبة الأمم الذي وضعته الدول الاستعمارية المنتصرة في حرب استعمارية، في إطار اقتسام جديد للعالم، أباحت لنفسها فيه صراحة تسلطها (حق الشعوب المتقدمة من الآخذ بيد الشعوب المتخلفة.الخ) من خلال نظام الأنتداب (Mandatssystem) والتخلف هنا لم يكن يعني سوى هزيمتها (الدول الصغيرة والمتخلفة ) في الحروب الاستعمارية مقابل الدول الصناعية، وهذا الحق المزعوم أخذ استلابا وليس اتفاقاً أو بالاستشارة.

وبالطبع فأن الدول الاستعمارية مارست كل ما في وسعها في إطار السيطرة والهيمنة على مجتمعاتها، وعلى قارات العالم، وارتكبت آلاف المجازر وحملات الإبادة في العالم، وهناك مئات من الكتب والمصادر تحدثنا عن مئات ألوف من الهنود ماتوا وهم يحفرون أنفاق المترو في لندن، وملايين من العبيد الأفارقة ماتوا تحت سياط المستوطنين وهم يستصلحون أراضي الغرب الأمريكي، وكذلك الإبادة الشبه تامة للهنود الحمر في أمريكا، وقاتل عرب وسنغاليون وأفارقه آخرون في جيوش فرنسا الاستعمارية، وهنود وباكستانيون ( ضمن الجيوش الهندية) ونيوزيلنديون وأستراليون وكنديون وأقوام أخرى كثيرة ضمن الجيوش البريطانية، هذا عدا عن الاعتداءات التي شنتها دول استعمارية على شعوب آمنة فقتلت مئات الألوف بل الملايين من تلك الشعوب، وهذا ما فعلته بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا وهولندا والولايات المتحدة واليابان، وسائر المتربولات الرأسمالية.

 وإذا كانت التطورات على مسرح السياسة الدولية قد أرغمت الأساليب الاستعمارية على التراجع شكلاً، إلا أن جوهرها ما زال عدوانياً نهابا ويفتقر إلى الأخلاق والشرعية القانونية، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة لا حصر لها، ففي كل بقعة من الكرة الأرضية هناك شواهد شاخصة تطل على الإنسانية وهي تحمل آثار جروح أو نزف مستمر بسبب الأنشطة الاستعمارية : سياسياً واقتصاديا وعسكرياً وثقافياً، في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وفي استخدام مفرط للقوة المسلحة في العلاقات الدولية، وفيما يتعرض له العراق وفلسطين وليبيا والصومال وأفغانستان)تحررت 15/ أب / 2021 على أيدي شعبها)، ابرز شواهد وأدلة في العصر الحديث على ذلك، وما هذه العولمة Globalisation، إلا استعمار وإمبريالية الألفية الثالثة ونسخة حديثه عنها لنهب وجلد شعوب العالم.

بيد أن العولمة وهذه هي التسمية الثانية لها، إذ قوبلت التسمية (النظام الدول الجديد) الجديدة برفض عالمي واسع النطاق (New world system)، فقد بدت توسعية وعدوانية واضحة، أبدلت بمصطلح العولمة (Globalisation)، التي وضعت أهداف التوسع خلف كلمات براقة توحي بالأمل، ولكن ما تسرب من أقاويل أفصحت عن النوايا ... فالعولمة هي بأختصار، أن تعتبر الرأسمالية العالمية وتفرعاتها وأدواتها، أن العالم بأسره عبارة قرية كبيرة بقيادة العمدة الأكبر متربول الرأسمالية الاحتكارية الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك تفاهمات سرية بين أقطاب المتربول على تقاسم المغانم على الصعيد العالمي. وقد تدور بينها صراعات دموية من أجل هذه المغانم.

وإذا كانت الشعارات الآيديولوجية قد اضمحلت وتلاشت (تقريبا) ولم تعد تدور بين رأسمالية واشتراكية، فقد كان فر تواصل بل واشتداد حلف الناتو والسعي المحموم لتوسيعه في بلدان شرقي أوربا، ولم يعد هناك مغزى آخر سوى التوسع المالي وكسب النفوذ. وجاءت اطروحات هنتغتن وفوكوياما فقط من أجل إيجاد ذرائع لمواصلة التوتر والعداء، وشد أواصر التحالف الغربي (الرأسمالي / المسيحي) والإبقاء على قوته ونفوذه السياسي / الاقتصادي / العسكري في العالم. وسيتخذ هذا التحالف ذرائع غير مبررة لإبقائه متفوقا سياسيا واقتصادي وعسكرياً، و في مواقع الهجوم والسيادة.

وكانت الولايات المتحدة وحليفاتها، يتمترسون وراء شعارات خلابة :

اقتصاد السوق الحر.

اتفاقية التجارة العالمية.

الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وحين أتبعت البلدان الاشتراكية (روسيا والصين) نظام اقتصاد السوق الحر وأحرز نظامها الجديد (المطّْعّم)، تذرعت الولايات المتحدة بأتفاقيات التجارة الحرة، وحين أنظمت لها البلدان الاشتراكية، ضاقت الولايات المتحدة بالتجارة الحرة ذرعاً، وراحت تتمسك بحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان غير مخترقة في مكان في العالم كما هي في الولايات المتحدة والبلدان الرأسمالية، على أساس اللون والدين والمذهب، وليست هناك بلدان في العالم يتعرض فيها المواطنون إلى التميز كما في البلدان الرأسمالية ..! وللمسخرة والفكاهة، تعتبر الولايات المتحدة إسرائيل البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط وتحترم حقوق الإنسان. وهي تعلم علم اليقين أن إسرائيل دولة عنصرية بقرار دولي، وأن هناك 156 قانون عنصري يشمل من التملك حتى الزواج والتعليم والعمل ... وهذه العنصرية العلنية يعدها الغرب ديمقراطية.

 تتميز المرحلة الحالية، الألفية الثالثة بتراجع لمكانة الرأسمالية العالمية ومراكزها الكبيرة، والمحيطية، مقابل تقدم الاقتصاديات الناشئة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وبتراجع مكانتها الاقتصادية، تتكون مشكلات جنينية في البلدان الرأسمالية تقود تفاعلاتها إلى أزمات لم تكن معروفة، أو أنها لم تكن تمثل ظواهر مؤثرة.

فعلى سبيل المثال الظواهر العنصرية / العرقية معروفة في المجتمعات الرأسمالية الكبيرة (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا)  الفاشية في إيطاليا 1850، النازية في ألمانيا، 1919، الكلوكس كلان في الولايات المتحدة الامريكية 1866، القمصان السود بريطانيا 1930، واليمين الفرنسي الذي تمتد جذوره عميقا في فرنسا المعاصرة.

الجديد في الظواهر على الساحة، هو التطرف الديني الطائفي، ورغم أن التطرف ضد اليهود قديم في أوربا : روسيا القيصرية، فرنسا، ألمانيا، أسبانيا، والآن أضيف الإسلام بسبب الانتشار الإنساني في العالم، فالرأسمالية تزعم أن العالم صار وحدة اقتصادية ثقافية، ولكن ذا محض بروبوغاندا إعلامية، فالغرب لا يحتمل أن لا تأكل إلا مثل طعامه، ويريدك أن تكون الأزياء كما يرتأي .. وتفاصيل أخرى تدخل في صلب حرية الإنسان وخياراته الثقافية والاجتماعية.

وبدون أي مسوغ عقلاني / فلسفي هانتغتن وفوكوياما يقرران، أن صراع الغرب في الحقبة المقبلة ستكون مع الإسلام والكونفوشيوسية ..ولكنهما لا يشيران إلى الجذر الاقتصادي، وهو (Motivation)  (الباعث الحقيقي)، ودائماً جوهر الأنظمة الرأسمالية، وأساس للموجة الجديدة للإمبريالية المسماة العولمة (Globalisation)، وهكذا تفعل الإمبريالية في إيجاد تغطية وذرائع كعنوان لحملاتها التوسعية ترفعها كلافتات، بيد أنها أخفقت في شعاراتها العنصرية والدينية.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

 

1.  ترجمت كلمة البراغماتية (Pragmatism) إلى اللغة العربية بالتفسير الحرفي والمعنى للكلمة (الذرائعية) أن تتخذ ذرائع لتبرير تصرف معين. ونجدها ترجمة موفقة.

 

بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندة وأسبانيا والبرتغال كانوا يفعلونها بأسم المدنية ..! وبعد الحرب العالمية الأولى، وفي عصبة الأمم قالو حرفياً "" حق الأمم المتقدمة، الأخذ بيد الأمم المتخلف ...! ""، ستالين كان يفعلها بأسم الأممية الدولية والاشتراكية، وروسيا اليوم هي خلطة لا تعرفها روسيا من قبل ... روسيا إمبريالية .... اليوم يفعلها العالم الحر المتحضر بدعوى قتال منظمات هو أسسها، تلك المنظمات تقتل ألف، العولمة تقتل 100 ألف ..! بعض السذج من العرب وغيرهم، يشدهم حنين مرضي (Nostagia)  ويرون إرهاب روسيا بعين حولاء ... موسكو عاصمة كادحين العالم ...ولكن واقع الأمر وطعمه مر ...بل شديد المرارة .. الروس هم نفس الروس، يفعلون كل شيئ بدم بارد، مع فارق أنهم يقتلون عشوائياً ويتشابهون في ذلك مع الأمريكان، ربما الأمريكان يفعلونها بدقة وأناقة أكثر، والروس بهمجية أكثر، ولكن النتيجة هي ذات الخلطة، أسمنت وحجارة مطحونة ومعجونة باللحم والدم، وأطفال يتراكضون هنا وهناك، وأشلاء أطفال ونساء وشيوخ، فالشباب يعرفون كيف يحمون أنفسهم.

 

المركز العربي الألماني

برلين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

ماذا تريد

ميركا من أفغانستان

 

ضرغام الدباغ

 

 

" لا أرحمك ولا أدع غيري يرحمك، ولا أريد رحمة الله تنزل عليك ...".

 

هجمات أيلول (2001) رغم كل ما يحوم حولها .. عملية ردت عليها الولايات المتحدة وجيشت الجيوش وقامت بأحتلال أفغانستان، وكانت هناك خيارات عديدة غير الاحتلال، إلا أنها استسهلت استخدام القوة وخيل لها أنه قرار سهل يعبر عن القوة، بل وسحبت معها حلفاء الناتو وغير الناتو لحملة غير مجدية،  فأستخدام القوة لا يدل عن حكمة .. بل ربما العكس ..!

 

وهناك من العقلاء الأوربيين أدرك منذ البدء أنها مسألة غير مجدية .. ولكن كيف للولايات المتحدة الدولة القوية والعظمى فوق العادة تتراجع عن قرار خطأ، وهكذا واصلت الحملة في عهد عدة إدارات فيهم الأحمق وغير المتعلم، وفيهم الذكي المتعلم، وفيهم أستاذ الجامعة القانوني .. سواء بسواء مع علمهم الأكيد بإخفاقها وفشل مراميها ..

 

وأبرز دليل على معرفة الإدارة الامريكية بمآل حملتها ومصير أذنابها، هو أن الإدارة الأمريكية فاوضت طالبان تحت شعار " دعونا ننسحب " ولكم البلاد، وهم (سياسيا وعسكريا واقتصاديا) ليسوا في وارد فرض شروط، وهو يعلمون تمام العلم واليقين، أن مصير حكومة الأذناب والعملاء سوف لن يطول أكثر من بضعة شهور .. هكذا تحديدا تحدثوا عن " 6 شهور ". هي مدة سحب ما يمكن سحبه من معدات وأسلحة، وتدمير بعضها الآخر لأنهم يعلمون أنها ستقع بيد الأفغانيين، وحرق الأوراق والوثائق، وتسفير بعض الأذناب، إذ من غير المعقول أن يغادروا حفاة بدون أحذيتهم ..!

 

ولكن ستة شهور طويلة، وعملية التطهير بدأت مبكرة .. أنتهت أسرع مما كان يتصور لها .. بعض الدول الغربية غاضبة، بعضها زعلانة، لا أحد يفهم لماذا ..؟ أليس من من المنطقي كنس البلاد من بعض العملاء والأذناب ومن القمامة وعلب البيرة والكولا وبقايا المأكولات وغسل وتطهير الأماكن التي جاس فيها المحتلون وعبثوا ..؟

 

من المضحك .. بل هي فكاهة مميتة .. أنهم يخشون على البنات الأفغانيات من الحجاب .. وكأن هذه هي المشكلة الوحيدة في العالم ..؟ البنت الافغانية محجبة أم سافرة .. البلد الذي أحتل 20 عاماً وقتل ودمر وسحق لكي تمشي البنت في الشارع سافرة ..؟ أليس هذا دليلاً إضافيا على زيف الثقافة والحضارة .. من يحاول إشعال نيران جديدة سيفشل، وسوف ترتد عليه نيرانه فتحرقه ...

 

اليوم هناك من يخش أن يمتد الحريق .. ويحذرون ويعبرون عن قلقهم ... كلهم من عاقلهم لأحمقهم .. من أكبرهم لأحقرهم ... بالله عليكم أيها الناس هل رأيتم أغبى من هؤلاء وأسخف منهم .. منذ 43 سنة يعملون كمشعلي حرائق .. كمروجين لفتن طائفية حقيرة، انغمسوا في قاذورات الخيانة والعمالة لفوق آذانهم .. الآن يقلقون .. يخشون على أفغانستان من التطرف ..  أسمع السخافة .. من غيركم يا حقراء أشعل الفتن الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وحيثما امتدت أياديكم القذرة ..

 

أفغانستان في مرحلتها الأولى لم تعتد على أحد بل هي تعرضت ظلما لعدوان وأحتلال .. بلا فلسفة طويلة عريضة ومحاولات تنظير بائسة .. الأمريكان وحلفاءهم أحتلوا البلاد 20 عاماً وجربوا كافة أنواع السلاح، وأرتكبوا كل الجرائم التي يعاقب عليها حتى قوانين قطاع الطرق والسرسرية .. ولكنهم فشلوا أن يكسروا شوكة هذا الشعب .. نعم فشلوا بقضهم وقضيضهم .. بعباقرتهم وأغبياءهم .. وفشلوا ليس اليوم .. بل منذ بداية العدوان، نعم تستطيع أن تقتل وتبيد، وتشتري الخونة والعملاء، ولكنك لن تستطيع كسر إرادتي ..

ــ قبل سنوات كثيرة (عام 2003، وقد ترجمت ذلك ونشرته) قال الحكيم هيلموت شميت .. أمريكا تستطيع أن تهاجم أي بلد، وقد تستطيع احتلاله، ولكنها لن تنتصر ..! الأنتصار كلمة لها معنى آخر ..!

ــ الفيلسوف الأسباني ميغيل أونامونو كتب في الثلاثينات (ترجمنا ذلك في كتاب الحرب الأهلية الاسبانية)، قال المجانين والحمقى والمجرمين والقتلة قد يكسبون، ولكنهم لن ينتصروا ...

ــ وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزارايس قالت لإبراهيم الأشيقر : " أنتم تعلمون لولا حمايتنا لكم تعلقون على أعمدة الكهرباء ".

 

كتب الفلسفة والتاريخ والسير فيها كل حكم وعبر الحياة .. ولكن الناس لا يقرأون، وإذا قروا لا يفقهون ...! لو تقرأون وتفهمون لكنت قد شاهدتم ما يحدث كمشاهدة لفلم معاد. أقسم بالله العلي العظيم ما يحدث اليوم في افغانستان أتوقعه حرفيا كما يحدث في الواقع ..لأني موقن بصفة تامة على الهزيمة المؤكدة لأميركا وعملائها وحثالاتها .. هل يمكن لحثالات أن تنتصر على التاريخ ..؟

 

أنظر ماذا كتبت (حرفيا بدون تعديل) قبل شهر ويومان من الآن :

 

" الآن رحل المحتل ... ومن كان يعتقد أن الاحتلال سرمدي تبين أنه جاهل، ومن كان يعتقد أن الشعب يبدل قياداته الوطنية (أي كان صنفها) بحكومة المكدونل والهامبرغر تبين أنه غشيم ...ومن أعتقد أن القتل والتدمير والسجن والاغتيال مفيد، تبين أنه غبي لا يفهم التاريخ .. ثم أن الاحتلال أخذ معه أفضل كلابه من المتعاونين (من غير المعقول أن يأخذهم كلهم)، وترك الباقين لتذروهم الرياح، تحت شعار "هم قبضوا أتعابهم، والحمار يموت بكروته "، ماذا سيفعل بقية المتعاونين ماذا سيفعلون ..

النظام العملاء الذي أقامه الأمريكان لا يريد أن يصدق أن الحلم انتهى، وهيا انقلعوا إلى الأماكن التي جئتم منها، سائر الناس : البعض منهم سيأتي راكعاً خاضعاً باكياً طالبا السماح والعفو ...وأرجح أن طالبان اليوم، هي غير طالبان قبل 20 عام خلت. التجربة الكبيرة لها دروسها، هناك من لعب دور الخادم والمتملق، والأجير هذا قضيته سهلة ...وهناك من الخونة من تبلغ درجة الصفاقة والوقاحة به درجة عالية، فيريد أن يحجز تذكرة ليشارك في حفل الانتصار ...هذا أيضا قضيته سهلة، وهناك من الخونة من تلطخت أيديهم بدماء الشعب مقابل حفنة دولارات وهذه مسألة فيها نظر، ولكن هناك من الخونة والمتعاونين من يريد أن يتطاول فيناكف الثورة الظافرة المظفرة المنتصرة ولا تعرف ما يريد بالضبط ... سوى إثارة المتاعب وهؤلاء سينالون من يكفي أن يلزموا جحورهم ...

قوى اقليمية هالها أن تكون أفغانستان حرة، فهم يفضلون التعامل مع القوي الذي لا يحترمهم، بدل قوة إقليمية واعدة، ستحاول أن تضع لها موضع قدم، وأن يكون لها في العرس قرص ... هذه ستفشل وتنكفئ خاسئة خاسرة. الروس سينظرون بعين من يترقب الأهوال ... ويترددون بين لعبة الحوار والسياسة، وأستعرض العضلات، مع أنه جرب لغة فرض القوة، والنتائج كانت مأساوية.

سيفوز من أدرك قواعد حركة التاريخ بالعلم والثقافة، أم بالسليقة ... وبالحكم والثقافة الشعبية (جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة) ولم ترهبه قعقعة السلاح ... وسيساهمون في خلق أفاق جديدة لأفغانستان ولعموم المنطقة، وأرجح أن نهاية الاحتلال الأمريكي لأفغانستان سيكون فاتحة لمرحلة جديدة لأفغانستان وللمنطقة، هذه الخطوة الأولى فحسب .....!" .

 

أريد أن أقول لجميع العراقيين : سجلوا مأثرة عظيمة، تحالفوا وأتحدوا من الآن لليوم المقبل، لا تلجأوا للثأر والانتقام، هذا لا يليق بحضارتك العظيمة، ولا بدينكم الحنيف، أكبروا على الجرح النازف الدامي .. كونوا أكبر منه .. إنه ليس بجرح، بل هو خدش سوف ننساه بمرور الأيام.

 

ما ينبغي أن نؤكد عليه، هو أن نشيد وطنا حديديا لا تهزه الرياح ..أيها العراقيون ..الوحدة ..الوحدة .. الوحدة

 

 

العراق في انتقال ......!

ضرغام الدباغ

 

خلال 20 عاماً عجاف، لنتحدث بلغة الأرقام والتجريد فقط لكي لا يتقول علينا أحدهم ويرمينا بما ليس فينا ..!... هذه درزن صغير من الحقائق التي بوسع أي ضعيف بصر أن يراها ..! وهزيل البصيرة أن يفهمها ... والله من وراء القصد ...!

س 1.  هل هناك جيوش دول أجنبية في العراق أم لا ....؟

س 2 . هل يبسط العراق سيطرته على كافة أراضيه ..؟

س3 .  هل هناك شبكات تجسس وجواسيس لدول أجنبية ...؟

س4 . هل تنتشر العاهات الاجتماعية بكثرة في العراق : المخدرات، الدعارة ..!

س5 . هل الوضع الصحي في العراق في تقدم أم في تأخر ...؟

س6 . هل الوضع السكني للمواطنين ميسور أم صعب ...؟

س7 . هل الاقتصاد الوطني في العراق يتقدم أم يتراجع ...!

س8 . هل الوضع التعليمي في العراق يتقدم أم يتراجع ...؟

س9 . هل نسبة الفقر عالية في العراق ...؟

س10 . هل الأمن والأمان متوفران في العراق ...؟

س11. هل العراق كدولة محترمة عالمياً ...؟

وفي الختام السؤال 12 وهو سؤال الأسئلة والخاتمة المسك والنتيجة :

س 12 ـــ هل العراق دولة مستقلة ....؟

 

ما هي مؤشرات الدولة الفاشلة والدول الجيدة ..؟

الإجابة على كل هذه الأسئلة هين .... بوسع أي طفل أن يجيب عليها .. بما يؤكد أننا في جب عميق حفر بعناية لنا، هدف هذه الكتابة أن نتمعن الحال، وأن نفكر كيف نستطيع الإفلات الآن حتى القتلة خاسرون ... خسروا براءتهم ونقاءهم، وصاروا مجرمين، ولكن علينا أن نفهم القصة، ثم نتحد بيد واحدة زيل الركام ونشيد العراق.

 

 

القرارات السياسية في الولايات المتحدة

حسابات خاطئة، ونتائج كارثية

د. ضرغام الدباغ

 

يسود الاعتقاد في بلداننا، أن القرار السياسي الأمريكي عملية دقيقة معقدة. فالمعلوم أن هناك حلقات وقنوات ودوائر عديدة (بالطبع متفاوتة في الأهمية) معنية بهذا الأمر، تدقق وتناقش، وتفحص، من أجل أن تصدر القرارات صائبة خالية من أدنى خطأ. كما يساهم في العملية، إنضاج القرار بصيغه الابتدائية والمتقدمة، (حين يدور الأمر عن خيارات متعددة، بدرجات تصعيد مختلفة)، علماء وفلاسفة واستراتيجيون، وقادة عسكريون أذكياء مجربون محنكون وخبراء أمن، دورهم هو العمل على إنضاج الخيارات، وحساب ردود الأفعال : من يحتمل أن يكون معنا، أو ضدنا، أو يقف على الحياد لحين، أو غير مكترث، أو عديم القدرة على إبداء رد فعل يستحق الاعتبار.

وبالطبع أن هذه التقديرات لا تخلو من المبالغة، وبعض من ذلك بسبب أن العقل الشرقي ميال تلقائيا للمبالغة، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن معلوماتنا وإدراكاتنا عن الولايات المتحدة تحملنا على الاعتقاد أن قدراتها هائلة وغير نهائية. والأمريكان أنفسهم بأعتبارهم المالكون لهذه القدرات الكبيرة بالطبع لابد أن يكون هناك شيئاً من الغرور والعجرفة في اتخاذهم لقراراتهم، وربما هناك من القادة السياسيون والعسكريون (من بلداننا وبلداناً أخرى) من يعتقد أن قناعات وقرارات القيادة الأمريكية، هي إرادات سامية وقرارات يجب أن تنفذ وتسود. ودون ريب أن قدرات الولايات المتحدة هي كبيرة، وبالفعل تشارك قنوات وجهات عديدة في إنضاج وصياغة القرارات السياسية، ولكن إذا فكرنا بشكل براغماتي، وتقييم دقة وصواب عمل هذه القنوات من خلال النتائج النهائية، (والأميركان لا يقربون السياسية بالنظريات والآيديولوجيات العقائدية) فإننا سنلاحظ أن أعمالها حافلة بالأخطاء، فطالما سمعنا من مسؤولين أمريكان إدانتهم لقرارات كبرى سبق وأن اتخذتها قيادات سابقة، وتعثر سبيل تحقيقها، بل آلت إلى فشل ذريع، وأحياناً يصح وصفها بالهزيمة. فهل أخطأت كل هذه القنوات والفلاسفة والشخصيات والقادة، والمؤسسات الأستخبارية والعلمية ...؟

 

(الصورة: غلاف مجلة التايم، وهي تمثل قيمة سياسية / إعلامية مهمة،

 ثم لاحظ الصورة في المقدمة مكبرة صوت وله دلالة مهمة جداً، هاتف ملقى على الأرض،

 أكداس ملفات غير منجزة وخراب كامل وإحباط، وكلمة (اليوم الأول) هي جملة تستخدم للإشارة اليوم الأول بعد الكارثة)

 

وأعترف أن شيئ من هذه القناعات كانت عندي أيضا، ولكنها ابتدأت تتضاءل تدريجياً، أو بعبارة أدق وأكثر وضوحاً بدأت تفقد ذلك الوهج وتلك المصداقية (credibility). ترى ما السبب في ذلك، هل هو بسبب قناعتي أن الولايات المتحدة هى العدو الأول للعراق والأمة العربية، أقول ... كلا، فأنا منذ أن امتهنت السياسة صرت لا أحب أحد ولا أكره أحد. وامتهان السياسة، وسوف أوضحها (منعاً للالتباس) هي عندي ابتدأت منذ أن صرت موظفا دبلوماسياً، أتقاضى راتباً على عملي السياسي، وتعزز ذلك بعد أن درست السياسة كعلم على أيدي علماء جهابذة، وتعلمنا أن نتعامل مع القضايا السياسية كحالات (Cases) ولا علاقة للأمر بالمزاج والمعنويات، بل أن أي قضية سيصيبها عطب شديد إذا مرت عليها نسائم المزاج والعواطف.

ولكن هل بوسع السياسيين أن يتخلوا عن المزاج وأحكام الهوى ....؟

يفترض نعم ... وبالمقدار الذي تتسلل في العواطف في السياسة سيلحق العطب أو الوهن بالموضوع / القضية. ولكن هذا لا يعني أن السياسي يعمل بدون قلب ...! بالتأكيد أنه يحب بلده، ومخلص لها، ولقضاياها، وعليه أن يعمل، ويعمل كثيرا جداً لكي يخدمها أفضل خدمة. ولكن بالوسائل المفيدة. وبأساليب علمية ناضجة، ليضمن لها النجاح.  ومنذ السبعينات (1973 فصاعداً) صار نصيب حكم الهوى يتضاءل في أحكامي وتصوراتي السياسية. وكنت منذ بداية عملي في السياسة كحزبي، أعلم تماماً أن المرء يتعلم عن سبيلين أثنين :

العلم.

التجربة.

إذا كان العلم موجود في الكتب التعليمية، وفي الجامعات، فالتجربة تستمد مصادرها، من تجاربك الشخصية، وتجارب غيرك، وتجارب الغير تشاهدها أمامك، أو تسمعها، أو تقرأها في كتب ومصادر التاريخ الرصينة. وهكذا ابتدأت تتراكم في الفكر التجارب والدراسة والقراءة الكثيفة، وهي المسؤولة عن مزيد من الرؤية العميقة فكريا وعملياً. من التجارب تعلمت مبكراً الكثير. ومن الكتب المهمة التي تلقي الأضواء الكشافة على السياسة الأمريكية :

ــ كتاب: (نغودين خاكفين: عجز التقنية الأمريكية في فيثنام، بيروت 1968) قرأت بدقة  كيف تجرد الأرقام قشور وتهريج البربوغاندا. في هذا الكتاب، تحليل مادي علمي كيف أن صمود الشعوب، يوقع التقدم التكنولوجي بالعجز، وأن تعميق النضال وتوسيعه يشتت قوى العدو ويضعفها. وبهذا المعنى، قال القائد غيفارا " لابد من فيثنام ثانية وثالثة لإيقاع الهزيمة بالإمبريالية ".

 

في وقت لاحق، وحين تعمقت دراستي السياسية، قرأت كتبا كثيرة مهمة ومن تلك:

ــ نشوء الولايات المتحدة. وهذا كتاب ينبغي أن يقرأ بعمق ليطلع الدارس على الأصول التاريخية لنشأة الولايات المتحدة ودور القوى المختلفة في هذه العملية.(باللغة الألمانية / مترجم).

ــ مذكرات الجنرال الأمريكي روبرت هويزر" أياديكم ملطخة بالدماء " عن دور الولايات المتحدة في الثورة الإيرانية عام 1979.(باللغة الألمانية/ مترجم).

ــ مؤتمر بوتسدام / 1945، وفي هذا المؤتمر يلاحظ الكثير من المساعي الأمريكية واستخفافها وغدرها حتى بحلفاءها المقربين. (باللغة الألمانية/ مترجم).

ــ الإمبراطورية الأمريكية، كلود جوليان،(رئيس تحرير صحيفة الموند الباريسية)، وفيها حقائق مذهلة عن القرارات الأمريكية السياسية والاقتصادية.

ــ استراتيجية للغد، هانسون بالدوين (باحث أمريكي)، وهذا كتاب يوضح أصول القرار السياسي الأمريكي في حقبة الحرب الباردة.

ــ محاضرة للمستشار الألماني الأسبق هيلموت شمت، التي تنبأ فيها بضعف متواصل للولايات المتحدة وعجزها عن كسب معاركها. (باللغة الألمانية / مترجم).

ــ عقد من القرارات، وليم كوانت.

ــ الاشتراكية والبلدان المتحررة، (Uljanowiski, A.: Der Sozialismus und die befreiten Länder, Berlin 1973)

ــ بريماكوف، يفغيني: تشريح نزاع الشرق ا(وسط، دمشق 1979

وأعمال أخرى كثيرة أكثر من أن تحصى، وفي اتجاهات متعددة، أوصلتني لقناعة أن ليس من الضروري أن يتمتع القادة السياسيون والعسكريون الأمريكان بالنزاهة التامة كما نتصور. ولا بالعبقرية التي نعتقدها، وإلا بماذا نفسر الحجم الكبير جداً من الفشل والاخفاقات وتراجع مكانة الولايات المتحدة السياسي والأخلاقي قبل الاقتصادي، رغم الاستخدام الكثيف جدا للقوة المسلحة المتفوقة، وللقوة المالية. وقد قرأت تقارير عديدة ومن مصادر ممتازة، تشير بدقة إلى تورط قادة سياسيون بقضايا فساد مالي، وضباط من القوات المسلحة الأمريكية، بتهريب المخدرات (أفغانستان) وتورط آخرين بغسيل الأموال، وتهريب الذهب والأحجار الكريمة، وفي العراق كانت البيوت التي تتعرض للتفتيش (لأي سبب) وتتعرض لسرقة الأموال النقدية، الدولار والعملات الصعبة، والذهب، والتحف. وقد تعرضت دوائر عراقية كثيرة لسرقة الآثار الخيالية السعر، وقضايا تحف من القصور الرئاسية، وآثار وأعمال فنية (لوحات ومنحوتات). وكنت خلال دراستي وإقامتي في ألمانيا قد أطلعت على معلومات ومعطيات مؤكدة، أن الجنود الأمريكان (بشكل خاص من قوات الاحتلال)، سرقوا ونهبوا الكثير جداً من التحف ألالمانية التي كانت حتى الاحتلال من البلدان الراقية والثرية في العالم. عدا الموجودات من العملات الصعبة في البنوك .

أما عن تورط العسكريين في جرائم حرب وإبادة، والاغتصاب، فهذه أكثر من أن تعد وتحصى، في ألمانيا وفي كوريا، وفيثنام والعراق وأفغانستان لا حصر لجرائم الاعتداء والاغتصاب والقتل والتعذيب حتى الموت، وحتى إقامة مجازر بإشرافهم المباشر، أو بتوجيه أذنابهم من العملاء المحليين. وفضائح السجون السرية، وانتهاكات غوانتنامو.

أما على الصعيد السياسي، فلا تتورع القيادات الأمريكية من استغلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن استغلالاً بشعاً، فأساليب الضغط على الدول الأعضاء كثيرة ومتنوعة، تبدأ من الضغط، إلى التلويح والتهديد، إلى عرض مزايا (قروض)، وصولاً إلى تقديم الرشاوي، وهناك شبكة لها امتدادات خيالية، وأبعاد مذهلة.  فعلى سبيل المثال كشفت الأحداث صدفة، أو من خلال صحفيون يتميزون بالجرأة، أن عصابة الأربعة " الرئيس بوش، ورامسفيلد، وديك شيني، وكونداليزا رايز" هم في الواقع من كبار المتنفذين في الشركات والبنوك العملاقة، واحتكارات صناعة الأسلحة. وقد شاهدت لقطات تلفازية، الشعب يهينهم ويحتقرهم، ولكن هذه قليلة الأهمية في العالم الرأسمالي، فالاعتبارات المعنوية والكرامة لا قيمة كبيرة لها، فالمهم هو حجم الرصيد في البنوك، والأسهم والمداخيل.

القادة الأمريكيون، يحكمون دولة عظمى، تمتلك قدرات هائلة، ومع ذلك فقادتهم ورؤساءهم لا يتورعون عن الإتيان بأعمال مخجلة، حتى يصاب المرء بالذهول، كيف بلغت هذه الطحالب إلى قمة الهرم، ولا يتورعون عن إطلاق الشتائم البذيئة، وبعضهم هزيل المستوى الثقافي بدرجة مخجلة. وإذا كان هذا مقبول تقريباً في أي مكان، وإذا كان النظام الأمريكي دقيق للغاية ونصدق ذلك، إذن كيف يتكرر هذا الأمر، بلوغ قادة للصف الأول على هذه الدرجة من الضعف. وكيف تتواصل الهزائم الأمريكية والنكسات والأخطاء الفادحة (وفق تقديراتهم). وكيف تقبل المؤسسات البريطانية وهي دولة قديمة ورزينة، أن يكذب رئيس وزرائها بطريقة غير لائقة أبداً على الحكومة والبرلمان والشعب علنا ..؟ وبعضنا يعتقد أنهم دول عظمى مهمة ...! يمتلكون أسلحة فتاكة نعم، ولكنهم عظمى ومهمة ... للأسف لا ...!

الولايات المتحدة لم تحقق النجاح التام في كوريا، رغم أنها كانت تحتكر السلاح الذري، ووجود عسكري وسياسي طاغ في شرق آسيا، وجلبت معها جيوش الناتو، ثم أرغمت على هزيمة مرة في فيثنام، وكابرت لمدة 20 عاماً في أفغانستان هذا البلد الفقير الذي لم يساعده أحد، شعب باسل قاوم الأمريكان وحلفاءهم بقدراته الذاتية المتواضعة، وبلحم صدورهم عشرون عاماً. وفي حملة حمقاء في العراق تتراجع وتتخبط في تصريحات قادتها " أننا أخطأنا... فننسحب بتعقل كما تورطنا بحماقة ". ولكن المعطيات تشير إلى أنهم فعلوا كل شيئ بتخطيط دقيق، ولكنه تخطيط عدواني وبقيادات فاسدة، فلسفة رجعية معادية لحركة التاريخ، تعاملت في الشأن العراقي كصفقة، وفي حرب لم يكن لها داع، خربوا بها بلداً كاد أن يغادر قطاع البلدان النامية، وأعادوه كما خططوا للعصور ما قبل الحجرية. ولكن المطامع في التهام الشرق الأوسط بقضه وقضيضه. والهدف النهائي هو وضع العالم بأسره تحت هيمنتهم وخدمة اطماعهم التي لا سقف لها، فهي كالوحش الذي يجوع أكثر كلما ألتهم أكثر.

أميركا بلد عملاق ذو اقتصاديات جبارة، ولكنه اقتصاد فاسد، هناك ثراء فاحش جداً، وفقر مدقع جداً والمشردين في الشوارع، مجتمع يفتقر تماماً إلى روح التضامن بين أفراده (solidarity) وهذا البلد الثري ليس فيه التأمين الطبي، والمواصلات العامة في أوطأ درجاتها، اعتادوا على النهب وأدمنوه، وسوف لن يتمكنوا من العيش من دونه، خططهم قائمة على معطيات خاطئة، لذا يصطدمون حتى مع أقرب حلفاءهم وأصدقاءهم، فهم مكروهين في كافة أرجاء العالم.

هناك دائماً خطأ ما في مكان ما يبحثون عنه بعد حلول الكوارث ... ولا يجدوه لماذا ...؟  لأن الخطأ يكمن في الجوهر، ولا أحد يقوى على ذكر الحقيقة الكبرى ...  فعلوا المستحيل لكي يضعوا أقدامهم في أفريقيا، ولكن الأفريقيين لا يودون حتى رؤيتهم، فالسياسة الأمريكية هي خلطة / تركيبة (Combination) من الأحلاف، والتعامل الاقتصادي غير المتكافئ، والاستهانة والاستصغار، والتدخل في الشؤون الداخلية، وإذا احتاجت اللوحة إلى اللون الديني لتكتمل ألوانها، فيستعينون بالمؤسسة الدينية المسيحية والإسلامية واليهودية، لا يهم، فالمهم والأهم أن تخدم الغرض السياسي، ولا يساعدون في حل أبسط مشكلة في البلاد التي يتدخلون بها، بل يزيدون الصراعات الداخلية تأججاً، ويبحثون عن ثغرات الضعف ليعمقوها .... لذلك سوف لن يأسف أحد على أفول شمس الإمبريالية الأميركية.

في السياسة لا يوجد شيئ نهائي ....هذه سنة الحياة في السياسة، لأنها تعتمد على أسس قابلة للتغير. والولايات المتحدة ستفقد قلاعها إن عاجلاً أو آجلاً، (وأرجح عاجلاً) ستتساقط في كوريا الجنوبية، وفي إيران بفعل التناقضات الداخلية والخارجية، وإسرائيل بوصفها الكيان الخطأ في المكان الخطأ، هذه الأطراف الثلاثة مرغمة ومحكومة بالتحالف مع الولايات المتحدة، فهي أساس وجودها.

 

المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

أفغانستان ..... إذا حلت

المقادير بطلت التدابير

ضرغام الدباغ

هذه هي مقالتي الثانية بعد هزيمة الأمريكان في أفغانستان، وهي هزيمة متوقعة. ليس لأن حركة طالبان عظيمة لدرجة أنها استطاعت أن تهزم قوة عظمى كالولايات المتحدة في ذروة صعودها ومعها حليفاتها، في مرحلة القطبية الاحادية والعولمة. ولا تخلو حركة طالبان من مكامن قوة طبيعية مكنتها من إحراز هذا الانتصار التاريخي، فالأمريكان استخدموا قنابل تذيب الجبال، وأنفقوا أموالاً يشترون بها الأنس والجن، ولكن أيضاً وهذا مهم، أن الإمبريالية العالمية بلغت درجة الاهتراء القصوى داخليا بتناقضاتها العميقة، وخارجياً خسرت مكانة التفوق الاقتصادي لصالح مراكز أخرى.

حضرت مرة مؤتمرا دوليا في كلية الحقوق ــ جامعة روما / إيطاليا، والموضوعة الأساسية فيه حق الشعوب في المقاومة، والشعب العراقي كمثال. ولكن المؤتمر تطرق إلى حالات عديدة، منها مقاومة الشعب الأفغاني للاحتلال الأمريكي/الغربي وموضوعات طابعها قانوني/ فلسفي، ومن تلك، تأكيد أن لا يوجد احتلال شريف مهما كانت الذرائع، والقوة الشعبية الأخلاقية (بالدرجة الأولى) بوسعها أن تتصدى لآله الحرب المتقدمة وتهزمها، لأنها تتمتع بالقوة المادية التاريخية. أحد المتداخلين، قلل من قيمة المقاومة الأفغانية لأن الطابع الديني هو الغالب، هذه قوة روحية يتمتع بها الشعب، يوحد بها صفوفه، وينتصر على من يحاول احتلاله .. فقاطعه أحد الشيوخ من أساتذة القانون من الإيطاليين، وهو شيوعي مخضرم، ونهر المتكلم بشدة، وقال هل يعني أن هناك قوة تسمح لبلد أن يعتدي على بلد آخر ويصادر استقلاله، إن مقاومة الاحتلال أي احتلال هي قضية مشروعة وبأي وسيلة متاحة.

إذن فالاحتلال ومآله يقع في مدى التحولات المادية التاريخية، وفي الأفق المنظو وليس البعيدر، والامر ليس بقضية نظرية خيالية. ومن البديهي أن سيناريو انتصار حركة مقاومة شعبية على تحالف قوى عالمي كالولايات المتحدة وحلفاءها، سوف لن يتوج بسقوط العاصمة واشنطن، أو بروكسل (مقر الناتو)، بل النصر يتحقق بعجز القوى الاستعمارية / الإمبريالية من تحقيق ما تريد، وما تريده هو القضاء على جذوة الحرية لدى الشعب وإلحاقه في مخططاتها. وقد تحطمت أكف المتدخلين وتكنولوجيتهم الحربية المتقدمة، من القرع على البوابات الخشبية/الفولاذية لكابل وقندهار وقندوز، وبادروا بهذه اللغة أو تلك بالطلب : رجاء أسمحوا لنا بجمع حوائجنا والفرار ..!  ضاعت مئات المليارات وضحاياهم في الهواء ...وهذا برهان آخر وعبرة أن مصير أي احتلال هو الزوال، وأعوان الاحتلال وأذنابه هو التبخر في الهواء الطلق .....! 

الآن رحل المحتل ... ومن كان يعتقد أن الاحتلال سرمدي تبين أنه جاهل، ومن كان يعتقد أن الشعب يبدل قياداته الوطنية (أي كان صنفها) بحكومة المكدونل والهامبرغر تبين أنه غشيم ...ومن أعتقد أن القتل والتدمير والسجن والاغتيال مفيد، تبين أنه غبي لا يفهم التاريخ .. ثم أن الاحتلال أخذ معه أفضل كلابه من المتعاونين (من غير المعقول أن يأخذهم كلهم)، وترك الباقين لتذروهم الرياح، تحت شعار "هم قبضوا أتعابهم،  والحمار يموت بكروته "، ماذا سيفعل بقية المتعاونين ماذا سيفعلون ..

النظام العملاء الذي أقامه الأمريكان لا يريد أن يصدق أن الحلم انتهى، وهيا انقلعوا إلى الأماكن التي جئتم منها، سائر الناس : البعض منهم سيأتي راكعاً خاضعاً باكياً طالبا السماح والعفو ...وأرجح أن طالبان اليوم، هي غير طالبان قبل 20 عام خلت. التجربة الكبيرة لها دروسها، هناك من لعب دور الخادم والمتملق، والأجير هذا قضيته سهلة ...وهناك من الخونة من تبلغ درجة الصفاقة والوقاحة به درجة عالية، فيريد أن يحجز تذكرة ليشارك في حفل الانتصار ...هذا أيضا قضيته سهلة، وهناك من الخونة من تلطخت أيديهم بدماء الشعب مقابل حفنة دولارات وهذه مسألة فيها نظر، ولكن هناك من الخونة والمتعاونين من يريد أن يتطاول فيناكف الثورة الظافرة المظفرة المنتصرة ولا تعرف ما يريد بالضبط ... سوى إثارة المتاعب وهؤلاء سينالون من يكفي أن يلزموا جحورهم ...

قوى اقليمية هالها أن تكون أفغانستان حرة، فهم يفضلون التعامل مع القوي الذي لا يحترمهم، بدل قوة إقليمية واعدة، ستحاول أن تضع لها موضع قدم، وأن يكون لها في العرس قرص ... هذه ستفشل وتنكفئ خاسئة خاسرة. الروس سينظرون بعين من يترقب الأهوال ... ويترددون بين لعبة الحوار والسياسة، وأستعرض العضلات، مع أنه جرب لغة فرض القوة، والنتائج كانت مأساوية.

سيفوز من أدرك قواعد حركة التاريخ بالعلم والثقافة، أم بالسليقة ... وبالحكم والثقافة الشعبية (جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة)  ولم ترهبه قعقعة السلاح ... وسيساهمون في خلق أفاق جديدة لأفغانستان ولعموم المنطقة، وأرجح أن نهاية الاحتلال الأمريكي لأفغانستان سيكون فاتحة لمرحلة جديدة لأفغانستان وللمنطقة، هذه الخطوة الأولى فحسب .....!

 

ـــ خسائر الأمريكان في أفغانستان :

من القتلى / خلال المعارك : 1897 قتيل.

قتلى حوادث : 415 قتيل.

من الجرحى والمعوقين :أكثر من 20,660 جريح ومعاق.

مجموع القتلى 2312 قتيل

حرب استنزاف طيلة 21 عاماً، خسروا خلالها ما بين 800 مليار و3 تريليونات دولار، بحسب مصادر مختلفة، ليقرروا أخيراً الانسحاب منها دون أن يتمكنوا من القضاء على عدوهم الصغير (حركة طالبان).

دمروا أشياء مثل السيارات المدرعة وأكثر من 15000 قطعة أخرى من المعدات التي اعتُبِرَت ملكية زائدة.

تقرير لمجلة Militarytimes الأمريكية بعنوان "الحرب الأفغانية كلفت أكثر من تريلوني دولار أمريكي و240 ألف قتيل"، فصل تلك الفاتورة اعتماداً على تقرير أمريكي رسمي صادر عن وزارتي الدفاع (البنتاغون) والخارجية.

التقرير تكلفة إرسال القوات الأمريكية إلى أفغانستان منذ عام 2001 وحتى نهاية 2020 وأعداد تلك القوات، إضافة إلى الأموال التي أنفقها البنتاغون والخارجية لإدارة الصراع وعلاج ومساعدة العسكريين الأمريكيين الذين أصيبوا هناك، ويخلص التقرير الصادر الجمعة 16 أبريل/نيسان الجاري إلى أن الفاتورة المالية تتخطى حاجز 2 تريليون دولار أمريكي.

وعن تفاصيل الأموال وجد تقرير تكاليف الحرب أن البنتاغون ضخ 933 مليار دولار من خلال صندوق التمويل الطارئ للعمليات العسكرية عبر البحار، بينما باقي المبلغ الضخم جاء في صورة 443 مليار دولار من ميزانية البنتاغون السنوية وزياداتها المخصصة لدعم الحرب في أفغانستان منها 296 مليار دولار لرعاية قدامى المحاربين، إضافة إلى 59 مليار دولار من صندوق التمويل الطارئ الخاص بوزارة الخارجية و530 مليار دولار لتغطية فوائد وأقساط القروض التي حصلت عليها الوزارتان لتغطية نفقات الحرب على مدى 20 عاماً.

ورصد تقرير آخر لهيئة الإذاعة البريطانية BBC تفاصيل أخرى لتلك الفاتورة تمثلت في أنه بحلول عام 2018 بلغ الإنفاق السنوي على القوات الأمريكية في أفغانستان نحو 45 مليار دولار، بحسب ما قاله مسؤول كبير في البنتاغون للكونغرس الأمريكي في ذلك العام، ووفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية بلغ إجمالي الإنفاق العسكري في أفغانستان (من أكتوبر/تشرين الأول من عام 2001 وحتى سبتمبر/أيلول من عام 2019) 778 مليار دولار.

ورصد تقرير آخر لهيئة الإذاعة البريطانية BBC تفاصيل أخرى لتلك الفاتورة تمثلت في أنه بحلول عام 2018 بلغ الإنفاق السنوي على القوات الأمريكية في أفغانستان نحو 45 مليار دولار، بحسب ما قاله مسؤول كبير في البنتاغون للكونغرس الأمريكي في ذلك العام، ووفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية بلغ إجمالي الإنفاق العسكري في أفغانستان (من أكتوبر/تشرين الأول من عام 2001 وحتى سبتمبر/أيلول من عام 2019) 778 مليار دولار.

 

 

الإعلام البائس

ضرغام الدباغ

من يتمكن من مشاهدة وقراءة الإعلام الأوربي، وخاصة الإعلام المتقدم (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وأسكندنافيا)، وافترض أن وسائط البث والتقاط القنوات الكثيرة بواسطة الصحن تتيح ذلك اليوم بوفرة، فاليوم أجهزة صغيرة الحجم تلتقط ألاف من القنوات بلا صحن (دش)، ويقرأ الصحف بتفحص، يتعلم شيئاً مهماً : كيف تتشكل قناعات الناس ..؟ كيف يؤثر الإعلام على الرأي العام ...؟

الفرد الأوربي حتى الشبان اليافعين منهم، أو الأولاد والصبيان، يتمتعون بشخصية قوية، بقناعات راسخة، لا تتعرض للاهتزاز بسهولة، من خلال تغذية العقول بمواد صيغت بدقة، في المدرسة أولاً، ثم في الثقافة العامة، والإعلام، ثم حتى في البيت الذي لا يلعب إلا دوراً هامشياً، بعقلانية ومنطق محكم، فلا يستطيع مخرف أن يلعب بعقولهم، والإعلام قوي ولابد أن يكون قوياً لكي يتمكن من التأثير على متلقين أذكياء، معظم الجمهور ذكي، والثقافة متجذرة، يتقن أكثر من لغة،  لذلك تعتبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية بالغة التأثير على السواد الأعظم من المتلقين.

فالإعلام لكي يخلق جمهوراً متلقياً راقياً، لابد أن يتمتع بدرجة صدقية عالية، وبمستوى عال من الحيادية تقنع المتلقي أن الإعلام لا يحقن فكره بمواد مسمومة مصبوغة بالأوان خادعة، إعلام يريد أن يكسب المتلقي لجانبه، لا أن يغشه اليوم لتنكشف الخدعة غداً، وحينها يفقد المتلقي الثقة بأجهزة الإعلام، وهكذا نجد مجتمعات فيها ورق مطبوع يسمى صحافة، فيها الكثير من الضجيج والصياح والصراخ ويسمى هذا بالراديو، وبث تلفازي لا يستحق مجرد إلقاء نظرة عليه، مقدمين برامج هم أشبه بالمصارعين رياضة الزومو (أحد اللاعبين يقذف خصمه خارج الحلبة). وأحياناً يجاري الضيوف مقدمي البرنامج وينغمسون في حفلة التهريج، والمحصلة لا يمكن المتلقي أن يحصل منها على ثقافة نظيفة، بل دعاية رخيصة بطريقة التهريج.

أنا لا أشاهد التلفاز إلا قليلاً جداً، أجازف أحياناً وأتفرج على القنوات العربية (عبر الانترنيت)، القليل، القليل جداً منها يستحق المشاهدة، لدرجة تصاب باليأس، فخبر واحد تذيعه ثلاث قنوات كل بطريقتها، يستحيل معها أن تعرف الحقيقة كما حدثت، إلا إذا عملت بطريقة أستقرائية تجمع وتطرح وتقاطع، وتستنتج وتكتشف ربما الحقيقة. أما المقابلات ففي معظمها يريد فيها مدير الحوار أن يرغم الضيف ما ينبغي أن يقوله، ثم يريد أن يصبح هو نجم الحلقة، في زمن الظهور على الشاشة، يحاصر ضيفه من هنا، ويدفعه هناك، ويسحبه ثم يضغط عليه ... ما هذا ... حرب شعبية إعلامية .. مقدم البرنامج لا يدع ضيفه يقول رأيه ... بل يريد منه رأياً يتفق مع هواه .. أو مع هوى أصحاب القناة، وأحياناً يعتقد بعض مقدمي البرامج البدائيين أن من الشطارة الإعلامية الضغط على الضيف واستفزازه وإغضابه ليقول ما لا يريد قوله بقصد الإثارة، وتقديم فضائح وإثارات (من أي نوع) للمتلقين، وربما غاية مقدم البرامج هو التسلية وليس تقديم مادة إعلامية / ثقافية.

روي لي صديق إعلامي عمل عشرة سنوات في ال (BBC) التي تعتبر مدرسة إعلامية، والعامل فيها كالذي يتخرج من جامعة عريقة، قال لي، أن مدراء الاقسام يجتمعون بالعاملين يومياً و ويتبادلون وجهات النظر، وهناك قاعدة شهيرة في صياغة الخبر بحيث لا يدعك تعرف (لشدة الحيادية) من صياغة الخبر هوية الاذاعة..! حيادية إلى أقصى درجة، وشحنة عالية جداً من المصداقية والنزاهة. ولكن هل أن المحطات الشهيرة كا (BBC) لا تمارس الغش والكذب نهائياً ..؟

طبعاً هناك توجيه، وهناك لمسة مهنية راقية لا تبدو للمستمع أو المشاهد أو القارئ، بطريقة أنيقة جداً، تحترم ذكاء المتلقي، وتتقبل رفضه، وتواصل محاورته، ونادراً ما يلجأون إلى أكاذيب مبتذلة، ورجل الإعلام متعلم للمهنة وممارسها لفترة طويلة جداً ليصيح شيئاً مذكوراً، ومن بين مئات العاملين يبرز عدد قليل جداً هؤلاء استفادوا من تجاربهم، وتعلموا كثيراً، فصياغة الجملة الإعلامية فن، وكذلك صياغة الخبر الصحفي، وإذا كان مطلوب من الصحفي أو الإعلامي، أن يوجه ويثقف بأتجاه معين، فإنه يفعل ذلك بصبر وذكاء حاد، يحاول بعض كافة جوانب الأمر، ولكنه يركز على الجانب الذي ينبغي عليه الدفع بأتجاهه. لذلك فالإعلام في الدول المتقدمة ذكي، إن مارس الخداع، فيمارسه لطريقة فنية لا يعثر عليها المتلقي إلا الأذكياء المثقفون. فإذا كان الإعلامي مبتذلاً، فمادته ستكون كذلك أيضاً، ولك أن تتخيل نوع وطبيعة الجمهور الذي يتلقى إعلاماً مبتذلاً ... ولن تؤدي هذه العملية إلى ثقافة.....!

نعم هناك عمل دعائي وسياسة اعلامية في أوربا، وأحياناً غسل دماغ المتلقي، ولكن ذلك يجري بطريقة فنية دقيقة، وعلى مستوى عال من الحرفية. معظم مقدمي البرامج العربية، وتركيزاً العراقية بائسون حقاً، يريد أن "يسيطر" على الضيف، يريد أن " يستولي على الشاشة بفضاضة، وإن سمح للضيف بالحديث فيتدخل بصوته كل نصف دقيقة بصوت مجموج  " أهة " كأنه يريد القول " أنا ما زلت هنا ". والمخاشنة بلا داعي، حتى تصل درجة استخدام الفاظ سوقية.

لا أدري أن كان إعلاميونا قد درسوا الإعلام، ولكنهم في جميع الاحوال يخضعون لسياسة صاحب المحطة، فلقاء الراتب الذي يتقاضاه، عليه أن يثبت كل دقيقة أن الأرض مسطحة، ولمن يشعر بالغبن، فإن المتلقي/ المشاهد / القارئ في بلادنا مظلوم، مظلوم جداً، لذلك يلجأ نكاية بقنواتنا الجادة إلى الإعجاب بأغاني هابطة وسخيفة، ورقص مبتذل، والمحصلة النهائية هي، أن من يحترم نفسه لا يشاهد هذه القنوات .. ولكن هناك على أية حال من يتابعها، ولذلك تجد الكثير... الكثير ممن يتحرك وينزل للشارع بإشارة وبغمزة عين .

 وبكلمة واحدة، هذه القنوات (معظمها) لا تساهم في تثقيف المتلقي، ولا إثراء معلوماته .. وهي تدمر الأعصاب ...الله يعين الناس سوء الطقس (الحر) وجور الانظمة، وميليشيات ...قبضايات ...زعران ... شبيحة ...عصابات النظام أو زعماء الطوائف الوالغين بدماء الناس ... هذه جميعها تنتج سمفونية مرعبة من أبشع ما يكون ... وظيفتها الوحيدة هي اضطهاد الناس وتدمير أعصابهم بلا رحمة ..!

 

لماذا خسرت أميركا والغرب

 المعركة في أفغانستان ...؟

 

ضرغام الدباغ

 

بين يدي بحث أقوم بترجمته عن الألمانية، وهو بعنوان " لماذا خسرت ألمانيا الحرب الصاعقة في الاتحاد السوفيتي " (في الحرب العالمية الثانية). وبالطبع التساؤل والبحث لا يدور عن جزئيات الموضوع في بل في مرتكزاته الأساسية، فالخطأ والنتائج الكارثية الكبيرة، غالباً ليس بسبب غلطة أرتكبها جنرال، ولا بطولة قام بها جنرال من الطرف الآخر، بل المشكلة تكمن في جذور الأمر وفي مبادئه واستراتيجيته.

وبهذا المنهج سنقوم ببحث النتيجة المريعة التي بلغتها الولايات المتحدة والتي بها سحبت معها التحالف الغربي بأسره إلى المأزق الذي لا مفر من نتائجه الكارثية، فلنقل بدون تزويق ولا تلوين للكلمات: الهزيمة مرة ساحقة، هزيمة سيكون لها تداعياتها الواسعة النطاق.

التساؤل يبدأ هل كان من الضروري أن تذهب الولايات المتحدة إلى أفغانستان ..؟ هل كان الذهاب للمغامرة الافغانية نتيجة غضب ..؟ أو دفاعاً عن هيبة الولايات المتحدة، أم كان قراراً ينسجم مع السياسة الأمريكية الشاملة، ومثلها كان أرتكب خطأ فيثنام وكمبوديا، ولاوس، وقبلها كوريا، التي ما تزال تمثل جرحاً نازفا للولايات المتحدة، مكلفة سياسياً واقتصاديا وعسكرياً. فالأمر في أفغانستان إذن لم تكن نزوة غضب ..!

الولايات المتحدة عاقبت الشعب الأفغاني بأسره، والاحتلال هو عدوان وإهانة، سوف تلاقي حتماً من يقاومها، والمقاومة وفق القوانين الدولية والوضعية، هو عمل مشروع، والولايات المتحدة اعتمدت فيه كلياً على عنصر واحد فقط: القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، واستخدامها لمجلس الأمن وفق مشيئتها ...ولا شيئ أكثر من ذلك البتة.

وبناء على هذا الخطأ الجسيم، توالت أخطاء جسيمة أخرى، وانحدرت في لجة من القرارات الخاطئة. والأوربيون أذكياء، أصحاب خبرة طويلة في الحروب الاستعمارية والتوسعية وحروب التدخل، لذا تبينت أطراف أوربية عديدة الخطأ مبكراً وشخصته وتنبأت بهذه النهاية التعيسة، منها فرنسا، وألمانيا الاتحادية، وعبرت عن تشخيصها للخطأ بوسائل ناعمة. نقول ناعمة، لأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها ذات دالة كبيرة على أوربا، بسبب دورها المهم الحاسم في الحربين العالميتين (الثانية خاصة) ومن ثم لعبت دور الحارس الأكيد والدرع الحصين لأوربا من اكتساح الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرق لأوربا الغربية. بوصفها العمود الفقري لتحالف الناتو (التحالف بين ضفتي الأطلسي). وكان رفض الذهاب لأفغانستان سيعد نسفا أكيداً لحلف الناتو، وللعلاقات الأمريكية الأوربية. وهذه معركة لم تكن القيادات الأوربية فتح أبوابها مع الولايات المتحدة.

فرنسا ديغول، عبرت بوضوح تام أنها ضد حروب من هذا النوع، ورفض شيراك الحرب على العراق بوضوح تام، ولكنها سايرت الولايات المتحدة في الشأن الأفغاني، وبالطبع دفعت ثمن هذه المسايرة، ومثلها سائر الحلفاء الغربيين. وألمانيا بقيادة غيرهارد شرويدر رفضت الحرب على العراق بوصفها عدوانا واضحاً مخالفا بصراحة للقانون الدولي، ومن يشارك فيها يرحل على ملاكات خرق القانون ونتائجه.

وكنت قد أطلعت عام 2005 على محاضرة ألقاها المستشار الألماني الأسبق هيلموت شمت (27 / فبراير / 2005)، وهو من عباقرة من قادوا ألمانيا في كافة العهود، تحدث فيها هذا الاستراتيجي متشائماً عن مستقبل الغرب، وشخص مبكراً أن هناك قوى سياسية واقتصادية (اقتصادية خاصة)، وعسكرية وسكانية جديدة في العالم ونحن نشهد تغيرات، قد تكون في العقود المقبلة حاسمة، وعبر عن عدم رضاه عن الحلول والأساليب، ومن تلك قوله نقطة جوهرية " أن الولايات المتحدة، ما زالت تمتلك القوة للتدخل في أي بقعة في العالم، ولكنها غير قادرة على حسم الصراعات لصالحها ". وتصلح هذه الجملة لتكون مدخلا لدراسات وبحوث وتأملات في السياسة الدولية وفي ميزان القوى العالمي. وبتقديري أن المستشار الألماني المفكر، توصل بسرعة إلى رؤية العجز وإلى التخبط في زج القوى الحربية في مشكلات يمكن أن يجد العقل البشري حلولاً لها بعيداً عن القتل والتدمير، وأن الولايات المتحدة تمتلك (أو هكذا يفترض) أنها تمتلك القوى الفكرية للتوصل إلى حلول، القنابل والصواريخ ليس من بين وسائلها المعبرة. بمعنى أن بوسعها إشعال الحرائق، ولكن ليس إخمادها  ....!

مشكلة القيادات الغربية، أنهم يتعاملون مع قضايا الشعوب الأخرى، وكأنها معطيات رقمية، يضعوها في ذاكرة الحاسوب، وهذه المعطيات لا تنظر إلى جوانب المنظر وتفاصيله الإنسانية، وبالتالي يتبين خطأ جنرال من لوس أنجلس، يتحدث عن الوضع الاجتماعي في قندهار، وبالتالي وفق المعطيات والحسابات الدفترية، فبرأيه أنه أكثر رقيا من مجتمع قندهار، وقد يكون الأمر مختلفا كلياً. ووفق تسجيلات أمريكية وغربية كثيرة (لدي ملفات تحوي على عشرات التقارير) أن العسكريين الأمريكان يظهرون من سوء التصرف والوحشية ما لا يفعله أي شخص غاطس في التخلف لفوق أذنيه، وأن التحضر ليس تناول المكدونل والهمبرغر، التحضر هو غير هذا تماماً .... أبعد بكثير.. إنها عملية إنسانية ثقافية متكاملة الأبعاد والأهداف. والمجتمع الأمريكي وعقله السياسي والتربوي والثقافي ينقصه الكثير جداً ليبلغ مستوى الأمن والسلام الداخلي، والشاهد على هذا الاحصائيات الأمريكية نفسها.

الأرقام والإحصائيات تشير إلى تزايد الإصابات العقلية لدى الجنود الغربيين، وميلهم الشديد للقتل وإطلاق النار بشكل عشوائي والتلذذ بالتعذيب والقتل والاعتداء الجنسي، وهذه نتيجة مدهشة لمجتمع يفترض أن أفراده يتلقون دراسة ابتدائية والمتوسطة والثانوية، ناهيك عن الجامعية، بمستويات راقية، وإذا بهم يأتون أفعال وحشية تندى لها جبين الإنسانية. ويمارس أفرداه السرقة والتهريب، وغسل الأموال، بما في ذلك سرقة ونهب الآثار والتحف الثمينة، والمصوغات الذهبية، والعملات. لم يعد سراً أن النظام التربوي الأمريكي فاشل، وهذا ما يصرح به علماء أمريكيون بارزون.

وخلاصة هذه التصرفات، أظهرت للناس في أفغانستان، وقبلهم في فيثنام أن ليس لدى هؤلاء ما يجلبوه لنا سوى الخراب والدمار والقتل والنهب، وبهذه النتيجة تم تصنيفهم كوباء يجب التخلص منه مهما كبرت التضحيات. وهذه القناعة مثلت الخطوة الأولى في مسرة الفشل التي أضطر الأمريكان للأعتراف بعد نحو عشرين عاماً أنهم اخطأوا وسينسحبون. اخطأوا في فيثنام وانسحبوا، واخطأوا واعترفوا بأنهم سلموا العراق الرائع في طبق من ذهب للنمل الأبيض الإيراني، ملالي همج متخلفين يسحقون كل شيئ في بلد كان على وشك أن يغدر العالم الثالث ... لماذا ...؟

بين يدي تقارير كثيرة تتحدث عن الخسائر التي تكبدها الأمريكان والغرب في أفغانستان، الخسائر البشرية والمادية، وحتى في المصادر الرصينة منها متناقضة بشكل غريب، ولكن الخسائر في الأرواح بالنسبة للأمريكان لا تقل عن 3 ــ 5 ألف عسكري في أفغانستان، و 4 ــ 5 ألف عسكري من الناتو، أما الخسائر المادية فهي لا تقل عن ترليون دولار في أفغانستان، وعشرات المليارات لبقية دول الناتو أقدرها بين 50 ــ 100 مليار دولار. هذا ناهيك عن أعداد الجرحى والمعوقين ونفقات تشغيل الأنظمة الحربية (معدات، طائرات، سفن ..الخ). هذه الجهود والأموال والضحايا من كل الأطراف لماذا ...؟ ألم يكن بالإمكان استثمار ذلك في نتائج أفضل ..؟ في حرب لم تكن ضرورة حتمية مطلقاً  ...!

وهناك تقارير شبه مؤكدة تشير استناداً إلى معطيات أمريكية، كجمعيات المعاقين، والمحاربين القدماء، وجرحى الحرب، أن الخسائر الأمريكية هي أضعاف ذلك. فلقد ثبت أن الجيوش الأمريكية تستخدم أجانب بصفة جنود على أمل منحهم الجنسية الأمريكية، فإن قتلوا لا تعتبرهم أمريكيين، وهناك قتلى تعتبرهم ضحايا حوادث، كحوادث سقوط الطائرات مثلاً، ناهيك عن استخدام الولايات المتحدة شركات تقوم بالحراسات، والدوريات والقتال كشركة بلاك ووتر مثلاً، ولا تعتبر هؤلاء جنوداً في جيشها، وبالتالي ليسوا في عداد الخسائر الأمريكية. وتسجل لهم هذه البدعة الغير مسبوقة في تجنيد المرتزقة   ..!

الغريب أن الولايات المتحدة والعالم الغربي يتحدثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان كثيراً، ولكنهم بالمقابل يستخدمون الأسلحة والقتل والاغتيالات، والمال للرشوة والفساد، ويسرقون وينهبون ويقيمون السجون السرية والعلنية ويمارسون التعذيب والتصفيات أكثر من غيرهم ... لماذا ..؟ الولايات المتحدة تقدمت بنظرية العولمة (Globalisation) وفي التطبيقات العملية كانت تعني فقط : دعنا نسرقك، وننهبك، ونحيلك إلى تابع، وإلا فأنت إرهابي تستحق أن نطلق صواريخنا عليك ..!

 

إلى ماذا ستقود مجموع هذه السياسات ..؟ هل ستؤدي إلى إعجاب الشعوب بالمبادئ والمثل الأمريكية ..؟ أم إلى احتقارها ..؟ كم خرج علينا كتاب ومدعي الفكر بلافتات " القوة الناعمة "، ومن هذا الدجل وشعوب العالم تكتوي بنيران صواريخهم .. مخلفة القتلى والجرحى والمعاقين ..! فلينظروا في سجلاتهم كم مواطن يقتل يوميا سواء بإطلاق النار المباشر أو بكسر عظام الرقبة (وهذا منجز بوليسي يسجل بأسم الحضارة البوليسية الأمريكية)، فليذكروا صراحة احصاءات عن الأعتداءات العنصرية ضد ملونين (ضد أصول أفريقية وصينية ويابانية وأسيوية)، فليصرحوا عن الاعتداءات ضد الساميين المسلمين واليهود المسجلة في سجلات البوليس، فليذكروا عدد المنظمات الإرهابية المسلحة التي تستهدف هذه الفئات، بل وحتى بين الطوائف المسيحية ذاتها (بروتستانت، كاثوليك، أرثودوكس شهود يهوة ....الخ)، وبعدها ليخجلوا من اعتبار أنفسهم المدافعين عن حقوق الإنسان، سيفاجأ القراء عندما يعلمون أن عدد هذه المنظمات هي بالمئات، ومن أشهر أعمالهم الإرهابية هو تفجير مركز التجارة العالمي في مدينة أوكلاهوما الأمريكية (19 / نيسان/ 1995) أسفر عن قتل 168 وإصابة 600 آخرين.

العنصرية موجودة في الولايات المتحدة منذ الحقبة الاستعمارية، فقد أُعطي الأمريكيون البيض امتيازات وحقوقاً انحصرت بهم فقط دوناً عن كل الأعراق الأخرى، منح الأمريكيون الأوروبيون (خاصة البروتستانت الأنجلوسكسونيون البيض الأغنياء) امتيازات حصرية في مسائل التّعليم والهجرة وحقوق التّصويت والمواطنة وحيازة الأراضي والإجراءات الجنائية طوال التّاريخ الأمريكي. وأقاموا مجتمعا عنصريا أعتدائيا في الداخل، توسعياً في الخارج ... لذلك يندر أن تجد شعبا لم يكتوي بنيران الإمبريالية الأمريكية. لذلك لا أحد يحزن على هزائمها ....!

 

 

قمة الناتو : بروكسل :

حزيران ــ 2021

د. ضرغام الدباغ

تأسس حلف الناتو (North Atlantic Treaty Organization/ NATO)  عام 1949 مؤسسا لمرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين : الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.

يتألف حلف الناتو أو حلف شمال الأطلسي حالياً (وهو تحالف عسكري دولي) من 30 بلد عضو مستقل في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا. (وكان في مرحلة التأسيس يتألف من 12 دولة) وتشارك الآن 21 دولة أخرى في برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لمنظمة حلف شمال الأطلسي، مع مشاركة 15 بلدا آخر في برامج الحوار المؤسسي. ورغم أن أسم الحلف يشمل ضفتي الأطلسي، إلا أن الحلف شارك في صراعات ونزاعات وحروب في جميع أرجاء العالم منها  كوريا، وأفغانستان، والعراق. والفقرة الأهم في جدول أعمال لقاء القمة، هو اتخاذ سياسيات وتدابير مشتركة لمواجهة خطر التمدد الصيني.

من المؤكد أن قمة الناتو الأخيرة (14 يونيو/ حزيران 2021 ) هي من أهمم قمم الناتو ما لم تكن أهمها وأخطرها على الإطلاق.كما من البديهي أن اللقاء شهد اجتماعات ثنائية لبحث الكثير من القضايا العالقة  والسعي لخلق فهم موحد حيال قضايا  في أوربا وغيرها والعمل على صياغة موقف موحد أو شبه موحد، وتتطلع الدول أعضاء الحلف إلى تجاوز الخلافات التي دبت في الحلف منذ إدارة الرئيس اوباما بدرجة رئيسية بصعود الصين على الساحة العالمية، والقضايا الأمنية المرتبطة بتغير المناخ، والدفاع الإلكتروني(السبراني)، والتكنولوجيا العسكرية الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن يوقع الحلفاء على خطة إصلاح لعام 2030 ويقرروا رسميًا البدء في إصلاح جوهر عقيدتهم الإستراتيجية، والذي كان أخر تحديث أجري عليه في عام 2010. . كما من المتوقع أن يرسل القادة رسالة محددة إلى روسيا، الخصم التقليدي للتحالف العسكري الغربي.

وقد دعا الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ قادة دول الحلف، إلى وضع سياسة مشتركة أقوى لمواجهة الهيمنة المتزايدة للصين.  وقال ستولتنبرغ في مقابلة إعلامية، إن الصين تملك ثاني أكبر ميزانية دفاعية في العالم وأكبر بحرية وتستثمر بشكل هائل في المعدات العسكرية الحديثة، وهذا "يؤثر على أمننا". وأضاف "الصين لا تشاركنا قيمنا. ونرى ذلك في طريقة قمعها للاحتجاجات الديموقراطية في هونغ كونغ واضطهادها أقليات مثل الأويغور" في غرب الصين، وكذلك في استخدامها التكنولوجيا الحديثة لمراقبة سكانها "بطريقة غير مسبوقة".

وكان قادة مجموعة الدول السبعة قد وجهوا انتقادا حادا للصين على سجلها في حقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ المسلم ودعوا إلى الحفاظ على قدر كبير من الحكم الذاتي في هونج كونج وشددوا على أهمية السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، وكلها قضايا في غاية الحساسية لبكين.

وقالت سفارة الصين في لندن إنها مستاءة بشدة وتعارض بكل حزم الإشارات إلى شينجيانغ وهونج كونج وتايوان والتي شوهت الحقائق وفضحت "نوايا شريرة لبضع دول مثل الولايات المتحدة". وأضافت السفارة "سوف ندافع بكل حزم عن سيادتنا الوطنية وأمننا ومصالحنا التنموية ونتصدى بكل حزم لكل أنواع الظلم والتعديات التي تُفرض على الصين".

وأدانت الصين اليوم البيان المشترك الذي أصدره زعماء مجموعة السبع الذي انتقد بكين فيعدد من القضايا ووصفته بأنه تدخل صارخ في الشؤون الداخلية للبلاد وحثت المجموعة على الكف عن التشهير بالصين.

هل باتت الحرب بين الصين والولايات المتحدة وشيكة؟

 وخلص الأمين العام للحلف إلى أن كل هذا "يجعل من المهم لدول حلف الناتو، تطوير سياسة تجاه هذه التحديات وأيضا تعزيز سياستنا عندما يتعلق الأمر بالصين". و أنّ من المهم للدول الأخرى أن تتعامل مع الصين بشأن المشكلات المشتركة مثل التغير المناخي والحد من التسلح.  وكذلك حيال أحتجاز السلطات الصينية لمواطنين كندين بتهمة التجسس، وتعتبر أوتاوا احتجاز الرجلين بأنه "تعسفي" وانتقاما لاعتقال كندا مسؤولة تنفيذية في شركة هواوي الصينية العملاقة للاتصالات بناء على طلب من الولايات المتحدة.

 

وكان هناك من يتوقع أن ينتهي حلف الناتو لانتفاء الضرورة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ولكن الولايات المتحدة، تجد في أي بقعة في العالم مصالح لها، وينبغي الدفاع عن هذه المصالح بالقوة المسلحة، لتضمن بذلك الولايات المتحدة الموقع القيادي الريادي في العالم، ومع متابعة تطورات العلاقات الأمريكية الصينية، إذ يبدو أن صراع النفوذ بين العملاقين وحلفائهما قد دخل مرحلة اصطفاف جديدة تعترضها عقبات مهمة أولها اقتصادية. وفي المرحلة الراهنة تعتبر الولايات المتحدة أن صراع النفوذ بين القوى الغربية والصين قد دخل مرحلة اصطفاف جديدة تستحق وقفة استراتيجية حيالها.

يعمل الرئيس جو بايدن إلى تغيير الأولويات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية، كما ظهر ذلك بمناسبة أولى جولاته الأوروبية، بتأكيده أن روسيا لم تعد منافسا مباشرا لواشنطن، مصنفا إياها كلاعب ثانوي بالمقارنة مع ما يعتبره صعودا مقلقا للقوة الصينية على الصعيد العالمي.، بمعنى أنها (الولايات المتحدة)، لا ترى فيها تهديداً لدورها كقوة عالمية. وبذلك سيسعى بايدن إلى وقف تدهور، وترميم العلاقات الأمريكية الروسية ودرء خطر نشوب صراع نووي. وقال بايدن بعد اجتماعه مع بوتين إن روسيا " تستميت كي تظل قوة كبرى". وأضاف قبل أن يستقل طائرته الرئاسية عائدا من جنيف "روسيا في وضع صعب للغاية الآن. الصين تُضيق عليها بشدة".

وذهبت صحيفة " tagesanzeiger" السويسرية (16 يونيو/ حزيران 2021) في نفس الاتجاه معلقة بشأن اجتماع جو بايدن وفلاديمير بوتين في جنيف "على عكس الصين، لم تعد الولايات المتحدة تنظر إلى روسيا على أنها خصم استراتيجي جاد، وبالتأكيد ليس كمنافس اقتصادي، ولكنها تنظر إلى روسيا كعامل تخريبي. وهي تسعى إلى بناء "علاقة مستقرة معها يمكن التنبؤ بمسارها"، كما يقال في واشنطن.

وهذا معناه أن على روسيا التوقف عن إثارة المشاكل، حتى لو لم تعد تشكل تهديدًا وجوديًا من وجهة نظر واشنطن، فإن هذا لا يغير حقيقة أن موسكو لا تزال تُعتبر خصمًا سياسيًا وربما أيضًا عسكريًا. وهذه الإشارات الخاطئة في جنيف يمكن أن تؤدي إلى سوء فهم خطير. هناك ما يكفي من بؤر الصراع في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى حيث يتواجه الروس والأمريكيون بشكل خطير وحيث التصعيد محتمل دائما".

الناتو يرص الصفوف في مواجهة الصين

وعبر أعضاء حلف شمال الأطلسي في بيان لهم (14 يونيو/حزيران) إن "طموحات الصين المعلنة وسلوكها المتواصل تشكل تحدّيات لأسس النظام الدولي المستند إلى قواعد، وفي مجالات لها أهميتها بالنسبة إلى أمن الحلف". غير أن الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ أكد في الوق ذاته أنّ "الصين ليست خصمنا أو عدوّنا. لكن علينا أن نواجه التحديات التي تطرحها الصين على أمننا (..) نلاحظ أن روسيا والصين تتعاونان بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد العسكري. وهذا يمثل بعدا جديدا وتحديا جديا للحلف الأطلسي".

ولكن صحيفة (jungewelt) البرلينية اليسارية (16 يونيو/حزيران) انتقدت التوجه الجديد للسياسية الأمريكية وكتبت "لا يمكن للأمر أن يكون غير ذلك "أمريكا أولاً" ليس شعار تحتكره الأوليغارشية الرجعية فقط، وإنما هو شعار قوة عظمى تحاول وقف اندحارها، إذ قال بايدن قبل بضعة أيام "نحن في منافسة من أجل النصر في القرن الحادي والعشرين"، وقد تم بالفعل إطلاق الشرارة الأولى (لهذه المنافسة) إن التنافس المتصاعد على النفوذ العالمي لا يترك مجالًا لتقديم تنازلات لحلفاء الولايات المتحدة. تأثر المصالح الأمريكية ولو بشكل طفيف، الوحدة موجودة فقط على شكل تحالف مفتوح ضد الصين، وبشروط القوة العظمى(الولايات المتحدة) التي بدأت في التراجع. هذا هو أساس التحالف عبر الأطلسي اليوم".

 

رد فعل الصين على تصنيفها كمتحدي استراتيجي للناتو

رد فعل بكين لم يتأخر، إذ سارعت إلى اتهام دول حلف شمال الأطلسي بنهج عقلية "الحرب الباردة وسياسة التكتل" على حد تعبير البعثة الصينية لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وأضافت أن "الصين ملتزمة بسياسة عسكرية، ذات طبيعة دفاعية. وسعينا للتحديث الدفاعي والعسكري مبرر ومعقول ومنفتح وشفاف". ودعت دول الحلف إلى التوقف عن المبالغة "في نظريةالتهديد الصيني".

أما وزارة الخارجية الصينية / بكين، فقد  أعربت عن عدم فهمها، واتهمت حلف الناتو بتطبيق "معايير مزدوجة" من حيث مطالبة الدول الأعضاء في الحلف زيادة إنفاقها العسكري. ومع ذلك، أشارت الخارجية إلى أن الصين تتعرض لانتقادات بسبب إنفاقها العسكري الذي لا تتجاوز قيمته 1.3 % من إجمالي ناتجها المحلي. وأضافت أن الصين لا تمثل تحديا ممنهجا لأحد، إلا أنها مصممة على حماية سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية. وجدير بالذكر أن الأنفاق العسكري لدول الناتو يفوق كثيراً حجم الانفاق الصيني.

"الصحيفة الألمانية (frankfurter allgemeine) (16 يونيو/حزيران) لخصت مقال رأي نشر في صحيفة "بكين نيوز" التابعة للحزب الشيوعي الصيني. وكتبت الصحيفة الألمانية أن "أجهزة الدعاية الصينية رافقت رحلة جو بايدن إلى أوروبا برسالة باتت معروفة الآن، تتعلق باندحار مزعوم للغرب وصعود الشرق. وفي مقال رأي في الصحيفة الصينية، وصف عالم اجتماع صيني بارز مجموعة دول السبع على أنها "غسق سقوط القوة الغربية".

حرب باردة ـ دور أوروبا في مواجهة الصعود الصيني

مع استمرار توسع مبادرة طريق الحرير والتنامي المطرد للقدرات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية للصين، فإن التصادم مع القوة الأمريكية، مبرمج (مرجح / محتم) بالضرورة في عدد من الجبهات في العالم. ومن كان يعتقد أن الحرب التجارية التي أعلنها دونالد ترامب مجرد نزوة رئيس متقلب المزاج، فهو واهم. فقد بات صناع القرار في الولايات لمتحدة على وعي تام بالتحدي الإستراتيجي الذي تشكله القوة الصينية بالنسبة للهيمنة الغربية على العالم.

وفي هذا الصراع ستحتاج الولايات المتحدة إلى شبكة قوية من الحلفاء والشركاء للمساعدة في توفير التوازن مع صعود بكين، كما كان عليه الأمر إبان الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتي. وبات الغرب يرى أن الصين تعمل  على إعادة تشكيل النظام العالمي بأسلوب من شأنه إلحاق الضرر بالمصالح الحيوية للقوى الغربية، قد يعزز نموذج الدولة المستبدة ويضر بالديموقراطيات ودورها في العالم.

وكما في الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعي، تبدو الكتلة الأوروبية سواء من حيث ثقلها البشري والعسكري والسياسي الحليف الأقرب الذي يتقاسم مع الولايات المتحدة نفس القيم، في وقت تسعى فيه الصين بدورها لبناء تكتل اجتذبت إليه روسيا وإيران.(وهي دولة باطنية: تظهر غير ما تبطن) على المستوى العسكري تحول بحر الصين الجنوبي إلى ساحة مواجهة بين واشنطن وبكين، حيث تدعي الأخيرة سيادتها البحرية عليه.

وقد تعهدت ألمانيا وفرنسا بدعم الأمريكيين لضمان حرية الملاحة البحرية هناك. كما تعمل واشنطن على دعم حلفائها في المنطقة (أستراليا والهند واليابان). أما على الصعيد الاقتصادي، فالعنصر الأساسي للتحالف الأمريكي الأوروبي في مواجهة الصين، يرتبط بمدى قدرة كل من الولايات المتحدة وأوروبا على تنسيق مواقفهما بشأن التجارة والتكنولوجيا.

التحالف ضد الصين ـ أوروبا وألمانيا في فخ بايدن!

اتفق الرؤساء الأمريكيون على تقسيم العالم إلى خير وشر حسب المصالح العليا لبلدهم، فجورج بوش الإبن كان يتحدث عن "محور الشر" كانت إيران وكوريا الشمالية ركناه الأساسيان، فيما فضل دونالد ترامب مقولة "أمريكا أولا" وها هو جو بايدن يؤسس لحرب باردة جديدة تلعب فيها الصين دور العدو الإستراتيجي، حيث رسم ملامح عالم يقوم على منافسة منهجية بين القوى الغربية الحليفة وجمهورية الصين الأوتوقراطية تحت شعار "أمريكا عادت".

ورغم أن بايدن، وخلافا لسلفه ترامب، يرى في الأوروبيين حلفاء وليس منافسين، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل من مصلحة ألمانيا وأوروبا الدخول في حرب اقتصادية ضد الصين؟ فإذا كانت أوروبا تتقاسم قيما مشتركة مع الحليف الأمريكي، فإن مصالحهما الاقتصادية مختلفة أحيانا حينما يتعلق الأمر بالصين.

وبهذا الصدد كتبت مجلة (Spiegel online) الألمانية(12 يونيو/حزيران) "يظهر الحساب الجاري للولايات المتحدة الأمريكية مع الجمهورية الشعبية عجزًا كبيرا، في حين أن الحسابات الجارية لأوروبا وألمانيا متوازنة أو إيجابية. ينظر الأمريكيون إلى الصين باعتبارها منافسًا عسكريًا وتكنولوجيًا، وبالنسبة للأوروبيين، فإن الصين تمثل سوق نمو ضخم بالنسبة لشركات الهندسة الميكانيكية والكيميائية والسيارات، حقيقة تبدو أكثر جلاء في زمن ما بعد كورونا.

أولئك الذين يسعون لعزل بكين اقتصاديًا رغم هذه الحقائق، كما يخطط البعض في الولايات المتحدة، يتحدثون عن صراع تجاري يجب على برلين وبروكسل على وجه الخصوص خوضه". وفي هذا السياق دعت المستشارة أنغيلا ميركل حلفاءها في "ناتو" إلى الحفاظ على التوازن فيما يتعلق بتعامله مع الصين في سعيه لمواجهة تنامي القوة العسكرية لبكين، رغم أنها أكدت بدورها أن التعامل مع روسيا والصعود الصيني ومنطقة المحيطين الهندي والهادي تمثل التحديات المركزية التي تواجه الناتو.

أعرب قادة دول حلف الناتو عن قلقهم حيال طموحات الصين والتهديد المتنامي لترسانة روسيا العسكرية، ونددوا بـ"تكثيف الأنشطة الهجينة" والتضليل، مؤكدين على خطر التهديدات السبرانية والإرهاب بكل أشكاله، والتزموا بدعم أفغانستان.

طموحات الصين المعلنة وسلوكها المتواصل  تشكل تحديات لأسس النظام الدولي المستند إلى قواعد، وفي مجالات لها أهميتها بالنسبة إلى أمن الحلف"، معربين عن قلقهم إزاء "السياسات القمعية" لبكين.وأضاف البيان أن "الصين تعزز بشكل سريع ترسانتها النووية وتستحوذ على عدد كبير من الرؤوس الحربية والنواقل المتطوّرة من أجل التوصل إلى الثالوث النووي".

والثالوث النووي مصطلح يشير إلى طرق إطلاق الأسلحة النووية من الترسانة الاستراتيجية والتي تتألف من ثلاثة مكونات، قاذفة قنابل استراتيجية، صاروخ بالستي عابر للقارات، صواريخ بالستية تطلق من الغواصات. وتابع البيان أن الصين "تتعاون عسكريا أيضا مع روسيا خصوصا من خلال المشاركة في تدريبات روسية في المنطقة الأوروبية-الأطلسية".

يشار أيضا إلى أن حلف الناتو بحث قضية أخرى مهمة وهي انسحاب الناتو الجاري حاليا من أفغانستان بعد 20 عامًا تقريبًا من الغزو الأمريكي على خلفية هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001. وفي الوقت الذي يتعين فيه على حلفاء الناتو مواصلة التمويل والدعم الأمني والمدني، فإن طبيعة التعاون المستقبلي مع السلطات الأفغانية لم تتقرر بعد. ويتزامن الانسحاب، المقرر استكماله في وقت لاحق من العام الجاري، مع زيادة نزيف الدماء في أفغانستان، واستعادة حركة طالبان الإسلامية المتشددة السيطرة على المزيد من الأراضي. وأبدت تركيا استعدادها لحماية مطار كابول بعد انسحاب القوات المتحالفة.

تريد الولايات المتحدة أن تفرض رؤيتها (الانفتاح أو التشدد) بحسب مصالحها ورؤيتها للموقف، فتقود الدول الحليفة والصدقة  إلى سياسة فرض العقوبات أو المقاطعة، أو الحرب الاقتصادية، أو الحرب الباردة، وتصعيداً إلى الحرب مع الصين، أو مع من تشاء وترتأي .. والأوربيون لا يمتلكون ذات المصالح وذات الرؤية، وهم (الأوربيون) يعتقدون أن أعقد المشاكل وأصعبها، يمكن حلها بالوسائل الدبلوماسية، وأن التنافس التجاري هو أمر مشروع، والأوربيون لا يعانون في هذا أي مشكلة مع الصين.

ملاحظة أخيرة نقولها لمن يتابع الشؤون الأمريكية. هناك من يعتقد أن الجمهوريون هواة حروب ومشعلوا حرائق، نعم هذا صحيح ... ولكن بايدن الديمقراطي الآن يحمل مشعل الحرائق ويطوف على البؤر لإشعالها .. فهذا يعني أن الديمقراطيون أيضا مشعلو حرائق بدرجة لا تقل عن أشقائهم الجمهوريون .. فكلهم في الإمبريالية والعدوان سوا ...!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصادر البحث: مواقع رسمية، ومطلعة

 

المركز العربي الألماني

برلين

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

القمة الروسية الأمريكية

 جنيف: 16 / حزيران / 2021

 

د. ضرغام الدباغ

 

في واحدة من أهمم القمم الروسية / الأمريكية، كان لقاء الرئيسان بوتين وبايدن في مدينة جنيف / سويسرا (26/ حزيران / 2021). في لقاء أستغرق لمدة أربع ساعات.

 

وكان الطرفان: الروسي والأمريكي قد عبرا بوضوح، أن العلاقات بين البلدين هي في أدنى مستوياتها، وغير ذلك، القضايا الخلافية كثيرة ويبدو أن المناقشات ستكون شاقة وحادة خصوصاً بشأن أوكرانيا وبيلاروسيا. وابتداء لم يكن أي من الرئيسان قد تنبأ أو تفاءل بنجاح اللقاء، ونجاح اللقاء يعني التوصل إلى تفاهمات أولية حول الملفات العديدة المطروحة وهي على كثرتها وتعددها إلا أن يمكن تشخيص أبرز تلك الملفات الساخنة:

 

السجال الاستراتيجي مع الصين.

في هذا المجال سيسعى الرئيس بايدن، إلى فك، أو إرخاء (حلحلة) أو تخفيف قوة التحالف الصيني الروسي، وإن كان  ذلك مستبعداً، ولكن السياسة لا تعرف المستحيل، وإخفاق هذه المساعي تدل على متانة التحالف  الصيني / الروسي، من جهة، وضعف الموقف الأمريكي/الغربي من جهة أخرى. ودون شك فإن الروس والصينيين لديهم مؤشراتهم الدقيقة، التي يؤسسون مواقفهم بموجبها. وبتلك المناسبة، عبّر وزير خارجية الصين عن استعداد بلاده لرفع  العلاقات مع موسكو إلى مستويات أكثر عمقاً وأكثر شمولاً في الفترة المقبلة، كما رد نظيره الروسي متجاوباً، بالتأكيد على أن "موسكو وبكين مساندان دائمان لتشكيل نظام عالمي أكثر عدالة وديمقراطية وبالتالي أكثر استقراراً وتعددية من النظام الحالي ".

 

حول قضية أوكرانيا والقرم.

يتمسك الروس بأتفاق كان إحدى قواعد إنهاء الحرب الباردة، هو عدم انضمام أي دولة من دول الاتحاد السوفيتي إلى حلف الناتو، وتمسك الروسي بهذه الفقرة له أساسه القانوني. وفي اللقاء أكد الرئيس بوتين على موقفه بهذا الصدد. وبالنسبة للقرم ليس هناك ما يمكن التفاوض بشأنه.

 

اتفاقية ستارت للأسلحة النووية والصواريخ البالستية:

       التقت رغبة الطرفان بتمديد العمل بالاتفاقية لمدة 5 سنوات جديدة. وكانت الولايات المتحدة وروسيا، قد مددتا معاهدة نيوستارت لنزع السلاح لخمسة أعوام بداية شباط . المعاهدة التي كانت قد وقعت عام 2010 وتنص على الحد من ترسانتي الأسلحة لدى البلدين بحيث لا تتجاوز الواحدة منهما 1550 رأسا، ما يعني خفضا تناهز نسبته 30% مقارنة بالسقف السابق الذي حدد العام 2002.

 

بصدد الهجمات السبرانية: 

يعتبر الروس أن الولايات المتحدة تتهم جزافاً دون تقدبم أدلة مع أن حجم الاختراقات والقرصنة الالكترونية عالمياً، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى تليها كندا، وبريطانيا بالمرتبة الثالثة.. ومع ذلك أتفق الطرفان على ضرورة الأمن الالكتروني في تعاون مشترك وتدابير لاحقة. تُعتبر إحدى أكثر القضايا حساسية، المعلومات المضللة عبر الإنترنت والهجمات الإلكترونية، بمعزل عن محاولة التدخل في انتخابات 2016 لمصلحة ترامب، أزعجت الهجمات الإلكترونية الهائلة واشنطن مؤخراً نُسب إلى موسكو العديد من هذه الهجمات، التي كان بين أهدافها مجموعات "سولار ويندوز" إلى "كولونيال بايبلاينز" و"جي بي إس"، أو إلى مجموعات من القراصنة المتمركزين في روسيا.

من جانبها، تنفي روسيا ذلك وتتهم بدورها واشنطن بالتدخل في شؤونها عبر دعم المعارضة أو تمويل منظمات ووسائل إعلام تنتقد الكرملين.

 

بصدد سوريا:

ليس للولايات المتحدة موقف محدد بل تخبط بين عدة خيارات. من جهة تريد أن تعرقل عمل الروس، وتريد خلق مشاكل لتركيا، كما تريد أن تواصل استخدام الأكراد في ألعابها !

 

عودة العلاقات الدبلوماسية والسفراء: 

تم الاتفاق عليها والقضية الآن إجرائية.

 

الموقف حيال الصين:

الموقف الروسي واضح: الصين جارة لنا، لنا حدود بحرية وبرية طويلة معها، ولا نرى في ما تقوم به ما يضر أمننا. ولا يمكن لأحد أن يصدر هواجسه لنا. وأن التسليح الروسي ما يزال أقل من مستحقات دولة ذات مساحة شاسعة وسكان يربو على المليار ونصف.

 

حول الأنشطة الروسية في القطب الشمالي:

هي أنشطة إنسانية وعلمية بحثية وهناك هيئة دولية للعمل في القطب الشمالي تعمل روسيا من خلالها.

 

التخبط في الأنشطة:

الولايات المتحدة تتخبط وتتهم الآخرين، فأنتم من تخبط في ليبيا، وأفغانستان، الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى.

 

عسكرة الفضاء:

الروس ضد العسكرة وزيادة مستوى التسلح في كل مكان في الفضاء وفي القطب الشمالي، وفي الأسلحة النووية والصواريخ.

 

تبادل السجناء:

الروس مستعدون لتبادل السجناء وعقد اتفاقية لتبادل السجناء.

 

قضايا حقوق الإنسان:

الولايات المتحدة ترى في إجراءات روسيا في حفظ الأمن الداخلي وفق القوانين، خرق لحقوق الإنسان، وهناك قانون الأمن هو من يحكم في هذه القضايا كما في الولايات المتحدة ذاتها. كذلك فإن اعتقال روسيا للمعارض الروسي البارز لبوتين، أليكسي نافالني، تسبب بانتقاد واشنطن لموسكو، وكان بايدن قد حذر قبل القمة مع بوتين من احتمال وفاة نافالني وقال: "سيكون ذلك مأساة". 

 

دعم القوى المعادية:

صنفت الولايات المتحدة روسيا، ك "دولة عدوة" وتعلن واشنطن دعم تنظيمات سياسية معارضة في روسيا، وغيرها.

 

متابعة اللقاء:

لم يجر تبادل للدعوات بين الجانبين، بل ترك المجال لوزارات الخارجية للمتابعة. اتفق الرئيسان الأمريكي بايدن والروسي بوتين في القمة التي جمعتهما في جنيف على استئناف محادثات الحد من التسلح وعودة سفيري البلدين بعد سحبهما في وقت سابق. الرئيسان قالا إن الاجتماع بينهما كان بناء وخلا من المشاعر العدائية.

 

بيلاروسيا:

دافع الرئيس بوتبن عن موف حليفه بيلاروسيا، بالحجة والمنطق. قائد الطائرة الايرلندية تلقى إبلاغاً بوجود قنبلة على متن الطائرة، واتخذ قراره بالهبوط في عاصمة بيلاروسيا مينسك. وسلطات بيلاروسيا ألقت القبض على مطلوب على متنها، والأمر ليس بدرجة سوء إرغام السلطات النمساوية هبوط طائرة رئيس فنزويلا (2013) وتفتيشها بطلب أمريكي.

 

مثير للدهشة، أن تكون إدارة سياسية بحجم الإدارة الأمريكية تبني موقفها حيال دولة عظمى أخرى بناء على اتهامات غير دقيقة، وباطلة أحياناً، فالإدارة الأمريكية تريد فرض تصورها التام للأمور وردود الأفعال على مقاييسها ووفق فهمها وتقديرها، ترى كيف سيكون الحال مع دول صغيرة أو لا قدرة لها على مواجهة الولايات المتحدة.

 

بتقديرنا إذا لم يكن بالإمكان وصف لقاء القمة بالنجاح،(وهو لم يكن ناجحاً)، إلا أنه نجح في إزالة ركام من الجليد على العلاقات، وبرود وتراجع في مستوى العلاقات أستغرق لسنوات، واللقاء فتح الأبواب للقاءات أخرى بين وفود بدرجات الخبراء والفنيين.

 

الأمريكيون ليسوا في وارد توسيع جبهة الخصوم (الأعداء)، لذلك حضروا لقاء القمة وفي نيتهم إزالة ركام من الجمود والتكلس في العلاقات، ومحاولة تحييد الروس أو تخفيف تحالفهم مع الصين، لذلك نرجح أن اللقاء كان مفيداً للروس بصفة عامة، وسيواصلون (قدر الامكان) الوجود في سورية، والتواجد الخفيف في ليبيا، والعلاقات الآخذة بالتطور مع مصر، والجزائر، والسعودية، وعلاقات تفاهم مع تركيا يتيح لها تواجدا في البحر المتوسط .

 

الروس يفهمون الأوربيين بدرجة جيدة جداً، وقادرون على التعايش معهم، إلا أن تأثيرات الولايات المتحدة في أوربا ليست بسيطة، لذلك ينبغي إبداء المرونة حيناً، والشدة حيناً آخر ..

 

بالطبع الروس سوف لن يفكوا تحالفهم مع الصين، فهم يدركون قوة المستقبل ويراهنون على الضعف المتواصل للولايات المتحدة، وتفاقم تناقضاتها الداخلية والخارجية، بما في ذلك مع حلفاؤها. والروس يجيدون فنون المناورة في خطوط الجبهة، وفي الخطوط العرضية ويجيدون حساب عناصر القوة والضعف.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

https://www.youtube.com/watch?v=1wUAuwzd53c

المؤتمر الصحفي للرئيس بوتين

https://www.youtube.com/watch?v=feSjFTxbIUs

مقابلة الرئيس بوتين مع القناة الأمريكية

 

المركز العربي الألماني

برلين

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

ظواهر الهزيمة

 على المسرح وكواليسه

 

د. ضرغام الدباغ

 

 

تتألف العملية المسرحية من أربعة عناصر رئيسية: النص والمخرج والممثلون ثم المشاهدون، وتدور عمليات غير سهلة من تدريبات شاقة وحفظ للنص، ثم يلعب الديكور وحجم إضاءة المسرح وعناصر مساعدة عديدة ثم يقدم العمل بصيغته النهائية للجمهور بعد تفاعل العناصر الثلاثة الأولى، ويجهل الجمهور (على الأغلب) تعقيدات ومشاق ما جرى تحضيره خلف الكواليس. أما مسرح السياسة فلا يختلف كثيراً(شكلاً)، فهناك (بشكل رئيسي) مسرح يطل على الرأي العام، وعمل كثير خلف الكواليس، ومؤامرات ودسائس ولا يشاهد الجمهور من العمل إلا ذلك الجزء الذي يريد المخرج إظهاره، والممثلون يجتهدون في تقديم أدوارهم، وربما يخرجون عن النص، وفي السياسة كما في التمثيل ينال الممثل سخط المخرج، أو رضاه وحبوره إن كان الخروج عن النص مفيداً.

 

اليوم تدور في حلف الناتو بوصفه الأداة الرئيسية لتنفيذ المصالح السياسية بالقوة المسلحة (هذا هو جوهر الأمر) محادثات وترى المسؤولين أما عدسات التلفزة يحملون حقائبهم ويمضون مسرعين وهم لا يفضلون الأضواء، يجتمعون لساعات طويلة، ويخرجون بتوصيات لقادتهم، غالباً ما تتضمن عمليات جراحية دموية (Bloody Operation) هنا أو هناك من هذا العالم المنهك المثخن بجراح الأقوياء المهذبين، الذين يتحولون إلى وحوش كاسرة، آكلين للحوم البشر عندما يجرأ طرف ضعيف على مخالفة مصالحهم.

 

قرأت في مجلة فوكوس الألمانية (Fucus) في مطلع التسعينات، مقابلة أجراها محرر المجلة مع الجنرال، ثم وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، ألكسندر هيغ Alexander) Haig) قائد عام قوات حلف الناتو للفترة من 1974 إلى 1979، شغل منصب وزير الخارجية من 22 يناير 1981 إلى 5 يوليو 1982 في عهد الرئيس رونالد ريغان. وقبل ذلك كان قد شغل منصب المعاون العسكري لهنري كيسنجر الذي كان مستشاراً للأمن القومي في عهد ريتشارد نيكسون.

 

والجنرال هيغ، لم يكن أول جنرال يتولي منصب وزير الخارجية، وسوف لن يكون آخرهم: فقبله كان الجنرال حورج مارشال قد تولى وزارة الخارجية الاميركية 1947، وبعده تولى الجنرال كولن باول هذه الوظيفة، ومن المؤكد أن للأمر مغزاه في بلد لا يفتقر لدبلوماسيين محترفين، الجنرال مارشال تولى الخارجية بعيد الحرب العالمية الثانية مباشرة لاستثمار ما تم حصاده في جبهات القتال، وتولاها هيغ في ذروة المواجهة الباردة وبرنامج ريغان لحرب النجوم، أما الجنرال كولن باول، فلاستثمار وحصد انتصارات إمبريالية العولمة، وشؤون الحروب العدوانية.

 

وليس مصادفة أن الجنرالات الثلاثة لم يكن حظهم جيداً في العمل، فجورج مارشال استقال بعد سنتين لأسباب صحية(مرض عقلي)، ومثله فعل الجنرال هيغ إذ استقال بعد سنتين أيضاً، أما أتعسهم حظاً فكان كولن باول، فسيرته العسكرية غير مشرفة منذ أن قاتل في فيثنام، وختمها في حرب العراق، أما كوزير للخارجية فأشتهر بتلك اللقطة التي تصلح لأفلام هوليود عندما أمسك بأمبولة أصغر من عقدة الإصبع، وخاطب مجلس الأمن يختلق ذريعة العدوان: ايها السادة هذه هي أسلحة الدمار الشامل العراقية، فغدا أضحوكة للتاريخ، ثم أعترف بنفسه فيما بعد أن تلك كانت أسوء لحظة في عمره فأحترق، وكم من الأشخاص حرق العراق.....!

 

الشيئ بالشيئ يذكر، لنعد لأكسندر هيغ. يسأل الصحفي الألماني هيغ سؤالاً منطقياً، ما هي مبررات وجود حلف الناتو بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو ؟ .. الوزير والجنرال الذي لم يكن على قدر هذا السؤال المعقد والذي يحتاج لدهاء في الإجابة، رد ببساطة: أن الولايات المتحدة تحتاج دائماً إلى ما يبقي المبرر للتحالف الغربي على ضفتي الأطلسي بقيادتها طبعاً. تلك إجابة يفهم منها، أن الولايات المتحدة ستسوق دول التحالف في صراعات مسلحة وحروب دونكيشوتية، ولأنها حروب أعتدائية غير مقنعة، فأن رائحة الهزيمة تفوح منها حتى قبل بدئها. لنتذكر مقولة القائد صدام حسين عندما قال أن أمريكا ستسقط إن هي أعتدت على العراق سقوطاً مدوياً لا قيام بعده تتدحرج إلى أن تصل إلى القاع، وكانت رؤية ثاقبة قائمة على الرؤية الاستراتيجية بالطبع.

 

وبالأمس فقط (17/ أكتوبر/ 2010) صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة كلينتون: انه يتعين "الحفاظ" على حلف شمال الاطلسي (ناتو) كما هو " كانجح" تحالف دفاعي "في تاريخ العالم".

 

وباختصار أن الأمريكان وحلفائها مقبلون على هزيمة نكراء جميعهم من أقصاهم إلى أدناهم، تصبح أمامها كارثة فيثنام نزهة فحسب. إليكم التفاصيل.

 

* الولايات المتحدة وبعد أحداث 11/ سبتمبر دعا الصقور فيها تفعيل مخططات لا بد وأن تكون قد وضعت خطة بعناية بالغة قبل سنوات طويلة(ربما من أواسط السبعينات ـ احتلال منابع النفط)، كانت قد باشرت بعض صفحاتها بإسقاط نظام الشاه برعايتها، وإيصال الملالي للحكم، ثم الحرب العراقية / الإيرانية، تتدخل سياسياً، ثم اقتصادياً، ثم عسكرياً حسب اقتضاء الموقف والحاجة للتدخل، وفي حالات أخرى، تحرك وكلائها في توتير للأوضاع وتصعيد في الموقف، وتحرشات عسكرية فالحروب بالنيابة Proxy wars    مصطلح معروف في علم السياسة إلى جانب الخيارات السياسية / الاقتصادية / العسكرية. 

 

* لما فشلت إيران في أهدافها ضد العراق، تولت الولايات المتحدة بنفسها إزاحة (الخطر العراقي)، وحركت عناصرها هنا وهناك في المنطقة لتطبخ أزمة الخليج، وصولاً إلى اشتراكها بقواتها المسلحة في احتلال بلد دون مسوغات قانونية للحرب.

 

* أميركا شربت كأس الهزيمة المرة في العراق، نعم يحاول حلفاؤها وعملاؤها التغطية على ذلك، بالانسحاب من المدن، ثم إعادة الانتشار، نعم أنهم يتسترون بذكاء على خسائرهم في الأرواح والمعدات، ولكنهم يعلمون أنهم هزموا، وهناك دائماً رقم يقفز دون رقيب من هنا أو هناك، ومعلومة مفيدة تفر من أفواه قائليها،  يدعون أن لا علاقة لهم ببلاك ووتر، ولكننا نعلم، وهم يعلمون بأننا نعلم، والكل يعلم أن ليس هناك من هو ساذج وغبي غيرهم، والقتل والتدمير ليس علامة ذكاء أو تحضر.

 

* يقوم موقع (ويكيليكس) بتنظيف مسرح الجريمة، فضائح لا نراها بعيداً عن نفوذ أجهزة الاستخبارات الغربية (الولايات المتحدة وبريطانيا) بنشر وثائق فذرة عن الحرب، تسريب تحت السيطرة والهدف هو تنظيف مسرح الجريمة وتهيئة مناخ الانسحاب والهزيمة، هم أبطال المسرحية ومخرجوها يعرفون كيف يخرجون أنفسهم من هذا المأزق، ولكن الويل للممثلين الكومبارس(ممثلين الأدوار الصغيرة والتافهة) فسيكون الحساب معهم عسير دون ريب.

 

* العسكريون يصعب عليهم تقليدياً الإقرار بالهزيمة، ولكن عساكر أميركا يقرون بالهزيمة جهاراً نهاراً، وليس هم لوحدهم، بل حتى عسكريو حلفائهم، بأن من العبث إلقاء أرواح بشر في محارق هندكوش أفغانستان لمجرد الحفاظ على هيبة كاذبة.

 

* من أجل هزيمة تبدو كإعادة انتشار، أو انسحاب، هم يبثون الشائعات ويسربون الأخبار بأنهم يرتضون التفاوض مع أطراف أفغانية، ولما لم يجدوا طرفاً يقبل أن يفاوضهم، قالوا أنهم يقبلون بفصيل معتدل من طالبان، واليوم (11/ أكتوبر ـ تشرين الثاني / 2010) يؤكد صنيعتهم ورجلهم كرزاي علناً أنه يجري مفاوضات مع طالبان من أجل وقف الحرب. وتشمل الهجمات ضد قوات التحالف الدولي حتى أكثر المناطق أماناً كمدن الشمال،(قندوس ومزار شريف). وتفقد القوات الألمانية المتمركزة هناك المزيد من عناصرها، ليرتفع عدد قتلى القوات الألمانية في أفغانستان منذ بداية المشاركة في المهمة العسكرية إلى 44 قتيلا، بينهم 27 جنديا سقطوا في هجمات ومعارك مع المتمردين. (تشارك ألمانيا ضمن القوات الدولية في أفغانستان بنحو 4800 جندي من بين 120 ألف جندي ينتمون لـ 47 دولة.

 

* طالبان تعلن بمناسبة الذكرى التاسعة لبداية الحرب أنها تسيطر على 75 % من مساحة البلاد، فعلى ماذا يفاوضون ..؟ ويعتبر العام 2010 العام الأكثر دموية بين سنوات الحرب التسعة للقوات الأجنبية في أفغانستان، إذ بلغ عدد قتلى تلك القوات حتى شهر أكتوبر / 2010 حوالي 588 قتيلاً منهم 314 أمريكي. أما الشهر الذي شهد أكبر عدد من القتلى من قوات التحالف الدولي، فهو شهر يونيه/حزيران الماضي، حيث بلغ عدد القتلى من تلك القوات 103 جنود، بمن فيهم الجنود الأمريكيون. وفي يوليو/تموز الماضي، لقي 65 جندياً أمريكياً مصرعهم في هجمات، وهو أعلى عدد قتلى شهري للقوات الأمريكية في أفغانستان منذ الغزو في العام 2001.

 

* الحرب على الإرهاب أسفر عن نتيجة مذهلة: اعتراف (هو جزء ضئيل من الحقيقة) مكافحي الإرهاب بأنهم إرهابيون يتوارى أمامهم هولاكو تواضعاً، بل هم أفضع الإرهابيين عبر التاريخ، وأن مجتمعاتهم المتحضرة ما هي سوى قشرة زائفة، يختفي خلفها مجرمون متمرسون في القتل والتعذيب، لاشك أن وراء هذه الحرفية مؤسسة كاملة، فالأمر لا يمكن أن يكون عشوائياً، وأكثر من ذلك، فقد قدموا الحماية والدعم للإجرام الطائفي والعرقي، وسمحوا لأنظمة ثيوقراطية متخلفة بالزحف على المشرق العربي، لتمارس القتل والاغتيال والتعذيب والتصفيات بإشرافهم وحمايتهم.

 

* الهزيمة تخلق أجواء التداعي، فعندما يتداعي حلفاء الناتو، فالأمر لم يعد سراً، الخلافات ظاهرة حتى بين أكثر العلاقات الثنائية حميمية، وتتراكم دون حلول منطقية مقنعة، الدرع الصاروخي أكذوبة كبرى الهدف منه إبقاء أوربا تحت الوصاية الأمريكية وخلق بؤر توتر لا داع لها، نظام العلاقات بين دول التحالف الغربي وأسسه لم يعد مقنعاً، البحث والاشتباك مع أعداء وهميين، وخلق جبهات لا داع لها، بدأ يرهق بطلباته ويؤثر ليس فقط على دافع الضريبة، بل على التماسك الأخلاقي لشعوبهم.

 

* وزارة المالية البريطانية تطالب بتخفيض من تخصيصاتها الدفاعية بنسبة بنسبة 10 % من ميزانية الدفاع البالغة 37 مليار جنيه استرليني في الفترة من 2011 إلى 2015، والولايات المتحدة تعتبر ذلك إضعاف في وحدة وتماسك حلفاء ضفتي الأطلسي. المشكلة أن الولايات المتحدة ترى أن هناك تهديدات، وبريطانيا لا تشاركها الرأي...! وهذا الخلاف مهم وجوهري ولم يحدث في تاريخ العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.

 

* هناك خلاف غير بسيط بين دولتين مهمتين في الاتحاد الأوربي: فرنسا وألمانيا، حول الأسلحة النووية، فحيث تعتقد ألمانيا أن المزيد من التسلح النووي لم يعد له معنى، وترحب بالجهود السياسية لخفض الأسلحة النووية وصولاً إلى إلغائها، تعرض فرنسا هذه السياسة وتعتقد أن هناك دول تطور أسلحتها النووية، لذلك ينبغي الحفاظ على المستوى الحالي، وربما تطويره.

 

* لم تثمر جهود فرنسية / ألمانية مشتركة لإقناع روسيا بخطط الناتو حول نشر منظومة الدرع الصاروخي الأوربي ضد الصواريخ البالستية(التي ستعتمد على الأرجح في اجتماع نوفمبر القادم)، بل ويدور في أوساط أوربية الحديث عن ضرورة السعي لضم روسيا لعضوية كاملة في حلف الناتو، وليس مجرد علاقات وطيدة(مشاركو ومراقبة) وتلك إشارة بدت من وزير الدفاع الألماني الأسبق فولكر روهه أن لأوروبا وأمريكا وروسيا مصالح مشتركة في مجالات ذات أهمية حيوية بالنسبة لنا. إذ تواجه هذه القوى التحديات نفسها كالإرهاب والسطو على شبكات الاتصالات الدولية والتهديدات المتنامية بشن هجوم بصواريخ تحمل رؤوسا نووية وانتشار أسلحة الدمار الشامل وقبل كل ذلك حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.

 

* في 14 / أكتوبر ـ تشرين الثاني، أجتمع في بروكسل (مقر حلف الناتو) وزراء دفاع وخارجية الحلف(28 دولة) لبحث:

                       آ. شبكة الدرع الصاروخي المضاد للصواريخ.

                      ب. الحرب المعلوماتية (الهاكرز).

                      ج. الوضع في أفغانستان.

                      د . طلب بعض الدول خفض النفقات العسكرية لمواجهة

                          الأزمة المالية.

 

* يحاول الوزراء صياغة نظرية استراتيجية جديدة للحلف، في ظل (معطيات جديدة) وصفت بأنها ضرورة لدفاع عصري لمواجهة مخاطر عصرية، سوف تطرح لإقرارها في اجتماعات قادة الحلف في نوفمبر القادم. ومشروع الوثيقة الذي يقع في (11) صفحة فقط، المخاطر المحتملة، والمتمثلة بالانتشار النووي والبالستي، وكذلك مخاطر الإرهاب الدولي المتنامية. وستكون شبكة الدرع الصاروخي في مقدمة الوسائل الرادعة لتلك الاحتمالات. ومن المرجح أن الولايات المتحدة سعت لإقرار هذه الوثيقة، المقبولة ربما في إطارها المبدئي، ولكن مع رؤية لدى العديد من الدول ومنها ألمانيا، ضرورة بذل المساعي من أجل خفض وإلغاء الأسلحة النووية.

 

* في الوقت الذي تحاول فيه دول عديدة من أعضاء الناتو إجراء تقليص في نفقات الدفاع لمواجهة تداعيات الأزمة المالية القاسية التي تؤثر على العديد من البلدان، تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على المستوى الحالي. وفي ظل الرضوخ لتداعيات الأزمة المالية، يبدو أن سياسة تقشف ضرورية تخفض النفقات، ولا تلحق الوهن بقدرات الحلف، فما أطلق عليه بإصلاح أنظمة الحلف الأطلسي العسكرية بخفض عدد الجنود وأعداد مقراته العامة ووكالاته المتخصصة. التي تبلغ حاليا 11500، سيجري تخفيضها إلى نحو 8900.

 

* التوجه نحو تمتين العلاقات مع روسيا تحت شعار من أجل عالم أكثر أماناً، أقر مبدئياً، رسميا بعد لقاء الرئيس الروسي ميديف والمستشارة الألمانية ميركل، والرئيس الفرنسي ساركوزي، بيد أن درجة رفع تمثيل الروسي في الحلف سيتقرر في اجتماع قادة الحلف، وسيسبق ذلك جولات من المشاورات الثنائية والمتعددة الأطراف.

 

* مخرج المسرحية يعد لفصل جديد، فصل ما بعد الهزيمة، والفشل، مالعمل ... نتوقع ؟

     

هنا مصطلح استراتيجي يقول: الموقع التبادلي، أو الهدف التبادلي .. ستحاول الولايات المتحدة بوصفها قائد لتحالف الناتو إيجاد وسائل تشد الحلف ..

 

ـ شعارات جديدة.....

ـ خصوم جدد ......

ـ أيديولوجية رجعية جديدة بدل تلك المنتحرة صراع الحضارات ونهاية التاريخ ..

ـ محاولة تعديل مواقف المقاولين الثانويين في الشرق(إيران / إسرائيل) عبر حلول جديدة ..

ـ في ظل الظروف الاقتصادية والعسكرية التي لا يمكن وصفها بالممتازة، فإن الولايات المتحدة ستلجأ لخيارات الضغط السياسي ...

 

كم سيطول ذلك .... لقد قاومنا ذلك حتى الآن بنجاح، وأسقطنا قوى أكبر تحالف شهده الشرق (الولايات المتحدة / إيران / إسرائيل) وبأخبث وأقذر الأسلحة السياسية والعسكرية والثقافية نعم أسقطنا برامجهم، صحيح لم نحتل واشنطن، ولكنهم بدورهم لم يكسروا إرادتنا .. وهي هدف الحرب جوهرياً ....

 

أما شهدائنا ..... فقد فازوا والله فوزاً عظيماً ....

 

سنسقط سائر قوى التحالف واحداً بعد الآخر.... بس بدها شوية صبر......

 

وباللهجة لعراقية نقول:  تجيك السالفة .................

 

 

 

حسابات توقع المنطق في الفخ

ضرغام الدباغ

إذا أجرينا حسابات (Calculation)، بالاعتماد على الرياضيات العالية واستبعاد  الأهواء والمزاج، فسترى أن الموقف الداخلي العميق(في العراق والمنطقة)، أو السطحي الظاهري يشير إلى أن الأطراف المعنية  وهي عديدة : فمنها من يدها في الفرن، ومنها من يساند هذا الطرف أو ذاك علناً، وهناك من يمد أسباب الدعم سراً، وهناك من يدعم بلسانه وقلمه، وهناك من  يدعو بقلبه وهذا أضعف الأيمان، وهناك من ينفخ في الكير ليزيدها التهابا وله فيها مصلحة ... والله  والأذكياء والحاسوب يعلم بما في القلوب والخطط في الأدراج المقفلة ...!

منذ العدوان الاسرائيلي على غزة (الاعتداء الأخير أيار / 2021)، وإسرائيل تحوص ... والغرب يحوص أكثر من إسرائيل لأنه توصل لرؤية الأفق مبكراً وهذا شعور يطفح ويفيض من ثنايا مواقفها ...ونلمحه من تصريحات قادة الغرب، هي أن (إسرائيل) شيئ لا ضرورة له في المنطقة، خطأ أرتكبناه في ساعة حماقة، واليوم تحوم حول الشرق الأوسط وعلى أجنابه تقديرات كبيرة، وهموم كبيرة ليس من بينها الحفاظ على إسرائيل، اليوم تراجعت قيمتها الاستراتيجية بسبب بروز شواغل كبيرة جديدة، لم يعد أحد  يحسب حسابها بقيمة الماضي ... لماذا ...؟ لأن ثمن تأييدها والوقوف لجانبها ودعمها أصبح باهضاَ ...!

ابتداء لأن إسرائيل ككيان لم  تتقدم بمشروع سياسي / حضاري سوى الأعتداء والتوسع، وأرهقت حلفاءها وأصدقاءها بالطلبات التي لا تنتهي للأموال لتمويل الحروب والاعتداءات، وسياسياً في دعم مواقفها، وفي النهاية هي ليست أكثر من كيان مكلف ومحرج لأصدقائها الغربيين، يتولون واجب حمايتها والدفاع عنها من مجلس الأمن وحتى أسلحة الدمار الشامل، ولكن حتى هذه سوف لن تنقذها من مصيرها المحتوم. ثم أن الصهيونية العنصرية لم تنجح في بناء كيان ديمقراطي متحضر(في إسرائيل 157 قانون عنصري ينظم الزواج والملكية والوظائف وغيرها بناء على معطيات عرقية / دينية)، بوسعه أن يقدم حلول للعيش بسلام من شعبها أولاً (30% من غير اليهود)، ثم مع محيطها الاقليمي (بنسبة تقارب  ال100%). لذلك صارت عبئاً يجب أن ينتهي، لتحل ديمقراطية تنظر للأفق كله وتقبل بالجميع، لأن الجميع له الحق في الحياة بدرجة متساوية، من سيستبعد عن المشهد هم مشعلوا الحرائق، العنصريون، الطائفيون، هواة التفجير والتخريب، أصحاب اللافتات المشتعلة، الثرثارون في زوايا المقاهي، تجار القضايا، اليمين العنصري الذي يواصل إشعال الحرائق منذ نحو 100 عام، دون أن يثبت لنا أنه على حق ...!

لن نحاول أن نثبت أن عصر السيادة والهيمنة الأمريكي يتراجع، وبقوة، ليس بسبب الصعود القوي للصين العظمى .. وليس بسبب أن روسيا اليوم أقوى من الاتحاد السوفيتي المندثر، فحسب ..! بل وأيضاً لأن المعطيات في الداخل الأمريكي، بالإضافة إلى جديد مسرح العلاقات الدولية،  يتنبأ بمستقبل جديد للولايات المتحدة ..! أميركا الامبريالية بوسعها إشعال الحرائق في أي بقعة في العالم، ولكن ماذا بعد ذلك ..؟ ليست حاملات الطائرات وكروز وطائرات الشبح من تحسم المعارك السياسية، لذلك هي لم تنجح في كل معاركها (كوريا، فيثنام، العراق، أفغانستان). وتشير المعطيات الواقعية الجديدة أن ....

 ليس كل رغبة امريكية تنفذ.

 ليس بالضرورة من تدعمه أمريكا ينتصر.

نعم بوسع الولايات المتحدة التدخل في أية بلد في العالم، ولكن ليس بوسعها حسم المعركة.

 أميركا مقبلة على هزائم أكبر.

تدخل في القضية الفلسطينية أطراف كثر... وكما يقول المثل الشامي " الكل بدو من العرس قرص "  ويمد يده ليشحذ ولو نقطة عسل. ومن هؤلاء من يريد التدخل في النزاع، ليضمن له كرسي على طاولة المفاوضات، وأن ينال قدراً من القدر والقيمة، ليحتسب من بين حراس الأمن في المنطقة، أو ليكون دركي .. أو وكيل مصالح القوى العظمى ..!. " أنظر ... بوسعنا أن نثير الإضطرابات ...! ".

 

إسرائيل لا تكف عن إبداء الرغبة في الوسع ... ولكن إلى أين تتسعون ..؟ فأنتم لستم أكثر من بضعة ملايين نسمة، أقل من حجم السكان في مدينة القاهرة وبغداد، فكيف تتسعون، ولغتكم العبرية لا يتقنها حتى معظم اليهود، واقتصادكم بالكاد يغطي عوراتكم .. وتعانون من أصناف المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد ورد أكثر من مرة أن طرح شعار " أنقذوا إسرائيل من إسرائيل "، فالعدو الأكبر لإسرائيل، هو اليمين الفاشي الصهيوني، الذي عجز منذ مؤتمر بازل / سويسرا 1897، أن يقود مشروعاً سياسياً مقبولاً وقابل للتحقيق.

تردد أن الولايات المتحدة هدفت في إطار رؤيتها لشرق أوسط جديد، تجنيد الأقليات في مخططها، ومن تلك إيران، التي ابدت استعدادها لتحريك أذناب لها في بعض الدول، والهدف هو تقليص حجم النفوذ القومي العربي. وضرب بمخيلة الإيرانيين صناعة مجد دولة تمتد إلى الشرق الأوسط، وأن تقيم امبراطورية تمتد حتى البحر المتوسط. وفانها أنها كأسرائيل تفتقر أكثر من إسرائيل إلى مقومات التوسع، فأخذت تناور بالأتباع والأذناب، تأخذهم من باكستان، وتزرعهم في النجف، وتأخذ الهزارة الأفغان وتضعهم في تخوم حمص السورية، وبدا لها أن الهدف كبير والرقعة صغيرة .. وما موجود لا يكفي لسد الأحلام، بل أن إيران نفسها تعاني كإسرائيل، فهي ليست متينة داخل حدودها، تهبث بها العواصف والرياح،  وتبحث عن القوة خارجها ...! اللعب في الحلم شيئ، والتعامل على الأرض شيئ آخر تماماً..!

إذا وضعنا فرضية عريضة "Hypothesis" هل يفيد إيران أن تحرز حركة التحرر العربية نصراً أو حتى نصف نصر في أي مكان حتى في الصحراء المغربية. الجواب وفق الفقرة أعلاه هو : أن أي مكسب لحركة التحرر العربية هو مضر لكافة أطراف التحالف المعادي للأمة،  فما بالك إذا كان النصر في جزء تشاغب عليه إيران وتلعب في ملعبه 43 سنة وأشبعته تحايلأ وخدعا .. بل هو جزء رئيسي من الخداع الاستراتيجي الذي تقوم به ... للعبث في الساحات العربية ...

وسنجد النتيجة المادية الملموسة وفق معطيات علمية...كلا بالطبع، فإيران هي الخاسر الأعظم من أي انتصار عربي  حتى لو كان انتصاراً في جزر القمر لا يفيدها، ولا سيما في فلسطين بشكل خاص أكثر من غيرها. فالأمر في الواقع  يستحق إقامة مجالس عزاء...! كما وليس من مصلحتها أن تساعد الفلسطينيين، نعم هي تقدم شيئاً، لتحقق شيئا أكبر، تناور وتكتك في هذا الميدان، ولكن شرط أن لا يؤدي ذلك الوصول إلى هدف. وإيران استغلت بدقة، الميل العربي العام ضد الوجود الاسرائيلي، ومن أجل أن تحقق تعاطفا واسعاً مع شعاراتها الديماغوجية، وتحقق لها ذلك بالفعل. وفي أولى سنوات الثورة الإيرانية، تمكنت من كسب شعبي كبير، وخاصة في لبنان. ولكن  بأعتبار أن حبل الكذب والمناورة قصير، بدأ هذا الانبهار والالتفاف بالانحسار تدريجيا وببطء، بعد أوغلت إيران في إظهار العداء وتدمير وتخريب حيثما وصلت أياديها في الأقطار العربية: العراق وسورية ولبنان، وأخيرا اليمن. وهكذا تبين للجميع أن المشروع الإيراني هو مشروع توسعي، بالتفاهم والتنسيق مع القوى الدولية والاقليمية (الولايات المتحدة وإسرائيل)، مشروع لا علاقة له بالدين، ولا بشعارات التحرر والعداء للإمبريالية.

الولايات المتحدة هي اليوم في حال لا تحسد عليه، وهي مضطرة لإعادة النظر في حساباتها، فهي ليست في وارد أن تفكر بهموم حليف أو مقاول ثانوي (Second Contractor)، فلسان حالها يقول لملالي إيران : لقد ساعدناكم وأتينا بكم للسلطة، وهيئنا لك سبل النجاح، وقاتلنا خصمكم اللدود الذي مرغ وجهكم بالتراب، وحاربناه، وسلمناه لكم لتغتاله بخسة يحسدها عليكم الضباع، في ليلي شتائي ... إلا أنكم لم تدبروا أحوالكم، 18 سنة، تقتلون وتنهبون وتمارسون قبيح الأفعال، وحين تفشلون تريدون منا أن ننجدكم ..! مولانا دبر أحوالك .. اليوم تفر المرضعة من رضيعها، والولد من أبيه ...  الصين تقتحم العالم ..!

ولسان حال الولايات المتحدة يقول لإسرائيل : فعلنا كل شيئ لترسيخ كيانكم، بالمال والسلاح، وساءت علاقاتنا مع عشرات الدول العربية (22 دولة) والإسلامية (52)، وفعلنا كل شيئ لأجلكم، ولكن الخطوة الحاسمة للنجاح كان ينبغي أن تقوموا بها، ولكنكم لم تدركوها، ولم تتمكنوا من توفير سبل الحياة لدولتكم في الشرق الأوسط.

 

هذا ملخص لما حصل، وتنبؤات لما سيحدث، ربما أحياناً خطأ بسيط من هنا، ومن هناك، ولكن هذا هو الخط العام، وسائر ذلك تفاصيل، أميركا كانت تدرك أن أفضل طريقة لتدمير ثلاث بلدان عربية مسلمة كانت راقية ومتقدمة هي العراق وسوريا ولبنان وتسليمها لهذا الفصيل المتوحش ليمعن فيها قتلا وحرقا .. هدفا مخجلاً معيباً، أوكلته للصفوي الهمجي، وأميركا لم تقاتل حتى من أجل إسرائيل ولكن فعلتها لخاطر عيون الفرس  فلاحظ عمق العلاقة ..! بل كبر الهدف ، فأميركا لا تشتغل بالعواطف، ولكن رغم ذلك إيران ستهزم لأن لا قدرة لها على التوسع لا سياسية ولا عسكرية ولا اقتصادية ولا ثقافية، والصراع العربي/ الإسرائيلي سيشهد تحولات مهمة، وإذا سمحتم لي بالتنبؤ: ستقوم دولة فلسطينية، النظام الصهيوني العنصري الفاشي سينتهي، وتقوم دولة ديمقراطية، وأعتقد أنها ستسعى " للتكامل " مع الدولة الفلسطينية.

 

نظام الملالي سيبدو مثل النشاز في المنطقة، وقد احترقت أوراقه التي لعب عليها نحو نصف قرن، وخسر الشعب الإيراني هذه المدة مقادير خيالية من الثروات والجهد والبشر من أجل لا شيئ ...! أرجح أن شعبهم سيحاسبهم حسابا عسيراً ...!

 

الوضع الآن بين الحلفاء الغربيين سيئ، ولا ينبئ بالخير .. الثقة مفقودة بين الاطراف، التعامل السياسي والتجاري مهزوزة بسبب فقدان الثقة، العلاقات ضمن الناتو ليست في أفضل مستوياتها. الولايات المتحدة ستحاول أن تمنع تمدد الصين وحليفتها روسيا، وأن لا تصل إلى المناطق المسيحية :  أوربا، الأمريكيتين، أستراليا ونيوزيلندة، وسيكون لها أساليب عمل جديدة، ولست متأكداً من حجم نجاحها ..! ما حدث وما سيحدث تنبأ به بعض العباقرة من الاستراتيجيون قبل عقدين من الزمن ... اليوم فصاعداً هناك متغيرات كبيرة.. السياسيون المحترفون يفهمونها بسرعة، أما الذين ختم على قلوبهم ..... الله يعينهم ...!

 

 

الاستحقاق التاريخي

كيف ولماذا انتهى حزب الاستقلال ..

ضرغام الدباغ

 

هي تجربة تاريخية كبيرة، مثيرة للإعجاب وللدهشة معاً. و مدهش أكثر أن لا يتطرق لها أحد  لا من بعيد ولا من قريب. وسأسوق ملاحظة هي أن لا أحداً من كتاب التاريخ المحترفين (أساتذة وعلماء)، أو من هواة تسجيل التاريخ (chronologie). أن يبحث فيها المختصون والباحثون، وهي تجربة مثيرة تستحق البحث التفصيلي، ومن المؤكد أن في ثنايا الأحداث الكثير من القصص الصغيرة والروايات التي تستحق عناية المدونين.

ما أريد بحثه اليوم، هو ظاهرة التلاشي التدريجي لحزب الاستقلال في العراق.  وهي قضية بتقديري مهمة للغاية، وتستحق الدراسة والتمعن، لا سيما في الظروف الحالية. وهو تساؤل كبير: كيف ولماذا أنتهى حزب الاستقلال ... وحزب الاستقلال كان حزبا سياسيا رئيسياً في العراق، قاد التيار القومي التحرري لسنوات طويلة (من الأربعينات وحتى الستينات)، وكان يضم النخب الممتازة من الشباب والرجال الناضجين، والعديد منهم كان يمتلك قدرات فكرية وسياسية مهمة. وتميز بخط وطني / قومي، معاد للأستعمار، وله أهداف اجتماعية كانت جذابة وجديرة بالأهتمام. وقادة الحزب من أمثال : محمد مهدي كبة، ومحمد صديق شنشل، وفائق السامرائي، وآخرون، كانوا يتمتعون بالاحترام التام في كافة الأوساط لمكانتهم، وثقافتهم، ووطنيتهم الخالصة، وبعدهم التام عن الطائفية المقيتة، وعن المناطقية والعشائرية، فكانوا يمثلون بحق خطاً وطنيا تحررياً لا تشوبه شائبة.

وكمعظم الحركات التاريخية، لم يولد حزب الاستقلال بمرسوم حكومي، ولا برعاية أجنبية من دولة قريبة أو بعيدة، بل أنحدر من تجمع وطني معاد للأستعمار قومي الاتجاه، هو نادي المثنى الذي نشط بصفة خاصة في مطلع الأربعينات، دعماً للحراك الوطني العراقي عام 1940/ 1941، وتأسس حزب الاستقلال (كانون الأول / 1945) في ظروف عصيبة بعد فشل حركة مايس 1941، أبان حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات البريطانية. ومثل حزب الاستقلال  آنذاك التجمع الوطني القومي العراقي النظيف الذي يجمع العناصر الوطنية العراقية في عمل موحد ضد الاستعمار وقوى الأنتداب البريطاني مؤكداً على الوحدة الوطنية العراقية ووحدت التوجه صوب الاستقلال، وصيانته والدفاع عنه. وكان نادي المثنى في الوقت نفسه يضم بين جناحيه في ذلك الوقت المبكر الشخصيات الوطنية / القومية الساعية للأستقلال كالسيد رشيد عالي الكيلاني، ومحمد يونس السبعاوي، ويحضى بتأييد الضباط الوطنيين وفي مقدمتهم ضباط المربع الذهبي العقداء الركن الأربعة (الشهداء فيما بعد) : صلاح الدين الصباغ، محمد فهمي سعيد، كامل شبيب، محمود سلمان.

كان حزب الاستقلال يفتقر إلى الوضوح النظري، ومتانة الجانب التنظيمي، ورؤيته السياسية لم تكن عميقة بحيث تقنع الجماهير، وتدفعها إلى تنظيم حديدي، وهو ما حال أن يكون حزب الجماهير الشعبية في الشارع الملتهب، ورغم وضوح خطه القومي، إلا أن الحزب أفتقر للجانب الآيدولوجي، وبدا هذا النقص في حينه مهماً، ولكن الحزب الذي كان يحترم قواعد العمل الديمقراطي، كان موقفه المعارض واضحاً كل الوضوح، بدرجة كان مشاركا بالأنشطة الوطنية، حتى توجها بالانظمام إلى جبهة الاتحاد الوطني، التي تأسست عام 1956 من : الحزب الشيوعي العراقي، حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب الاستقلال، الحزب الوطني الديمقراطي، الحزب الديمقراطي الكردستاني  التي كانت بتقديري، هي أفضل حالة تحالفية متقدمة شهدها العراق في تاريخه.

ومن سوء الحظ، أن لا تتولى جبهة التحالف الوطني الحكم والسلطة الفعلية في العراق، لمدة انتقالية معينة (سنة أو سنتان) تمهيداً لنظام ديمقراطي انتخابي برلماني، في غضون ذلك الابتعاد عن كل فكرة متطرفة وعن الاتجاهات التوتالية، وترسيخ سيادة الدولة والقانون، والابتعاد عن صيغ العنف في العمل السياسي، وبتقديري أن حزبين كانا في وارد مثل هذه السياسات البناءة، هما : حزب الاستقلال، والحزب الوطني الديمقراطي.

 

ولكن الساحة في العراق وفي المنطقة كانت ملتهبة بشعارات ثورية، والتطرف كان يتسيد المواقف النظرية والسياسية، ويبدو لي أن حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي كانا سابقان لعصرهما، ومتأثران بالحياة الحزبية في البلدان السابقة في التجربة.

حزب الاستقلال كان حزبا قوميا رائداً، ولكن الحزب لم يكن لينظر إلى عمق الواقع، وتنقصه الرؤية العريضة، في تشخيص الأوضاع والتطورات، وفي تحليلها، وأفتقر للمؤتمرات، تخلق التفاعل الضروري، فكان يبتعد عن المسرح السياسي العراقي...وبأسف أقول: كان الحزب بتضاؤل دوره وأهميته ... يتلاشي تدريجياً ويندثر.

وما أن أطلت أحداث شباط / 1963، ونهاية حكم الزعيم كانت ذلك يؤشر آخر تواجد لحزب الاستقلال الذي كان وجوده بعد 14/ تموز / 1958 شكلياً في الساحة السياسية العراقية وأصبح أثراً بعد عين بعد أن تواجد على الساحة نحو عقدين من الزمان (20 عاماً).

في هذه العجالة أريد التنويه : أن الأحزاب التي تعبر عن إرادة وتطلعات الجماهير، لا تسحق بالإرهاب، بل قد يلحق بها الإرهاب بعض الخسائر، ولكن من جهة أخرى هناك مكاسب، الحزب يتجذر بين الجماهير إذا كان ملبيا لطموحاتها، والطموحات هي الرؤية العصرية المتجددة لمشكلات اليوم، كيف نتصدى لمشكلات الوطن والأمة، ما هي جوهر المشكلات، وكيف نضع لها الحلول المناسبة، الحديث العام والعائم ... المشحون بعبارت ملتهبة لا تصيغ واجبات ومهمات وآليات العمل السياسي .... 

سيقول لي أحدهم ... أنك نلمح لشيئ ولا تصرح به ...!

 

أقول: أنا لا ألمح، بل أصرح ..... أنظروا إلى الساحة وتجدون ما ألمح له حاضراً ماديا ملموساً ...!

 

حسابات الحقل وحسابات البيدر

ضرغام الدباغ

قصص وحكايات كثيرة في عالم ميثولوجيا الأطفال، يستغرق الكبار ضحكاً حتى يقعوا على قفاهم، ولكنهم في الطفولة كانوا يصدقونها، والأمهات والجدات ونطلق علهم في العراق (بيبي) كن يفعلن ذلك، لألهاء الأطفال وصرف رغبتهم في الطعام بأصناف الحيل البريئة، الخالية من الخباثة لكسب الوقت:

ــ فمثلاً أنهم تأخروا في إعداد الطعام، أو أن الأطفال عادوا للبيت مبكرين.

ــ أو أن الأطفال لعبوا في الشوارع كثيراً حتى عضهم الجوع.

ــ أو أن الفقر وضعف الحال يرغمهم على الكذب على الأطفال وهذه محزنة.

وقد يحدث أن الفقر يقود إلى حيلة، أن تضع الأم أو البيبي قدر على النار في ماء ساخن يغلي تضع به بضعة حصوات، ويرسل البخار فيدفئ الغرفة من جهة، ويخدعون الأطفال أن الطعام على النار .. وهذه محزنة أيضاً

والأمهات لا يفعلن ذلك بسوء نية أو خبث، ولكنهن مرغمات ... حتى أن يشاع بين الناس مثلاً بغداديا شهيرا فيقال على أمر وهمي لا ينتج عنه ما يفيد بأنه " طبخة حصو ".

رباط السالفة، جيراننا الغير محترمين، يحاولون إيهام وخداع الناس "بطبخة حصو" ولكنهم نجحوا في خداع بعضنا للأسف، هناك دائماً  أطفال، أو حديثي تجربة، أو غشمة .. فيصدقون التهويل الاعتيادي عند جيراننا كديكور في الحياة، وجيراننا مضوا بعيداً وطوشوا رؤوسنا ب : فيلق القدس، طريق القدس، قيادة أركان القدس .... جيب قدس وأخذ عتابة ... ولكن في الشفهي فقط.... لماذا ...

كما قلنا أن عند الجيران السياسة مسرح وتمثيليات ولعب وتمثيل وديكور من الضروري أن يكون فخماً، أحياناً ينقلب إلى لعب حقيقي، ولكن عندما يكون في ذلك مصلحة فيها شفط ... أو فيها أذى لطرف من الأطراف. ولكن الأمر يحتمل أيضاً أن يكون مجرد تمثيل وديكور ... كما حدث معنا حين شربنا شوربة طريق القدس ..

شهد الله أن لم أخدع يوماً، بل ولا ساعة ولا دقيقة، على طريقة المرحوم عبد الحليم حافظ : في يوم في شهر في سنة ". لأن طريق القدس مضى على الشروع به 43 عاماً بحوله وطوله ... وهذا لو كان حقيقة وليس طبخة حصو لكان بلغ القطب الجنوبي والشمال ....! وخلال هذه العقود العجاف لم نرى حادلة، ولم نرى ماكنة، ولم نسمع بضربة حصوة واحدة على مغتصبي القدس ... ونحن لا ننكر أن الأمر ليس نزهة، ولا شمة هوا ... العداء لفضي فقط ... لا..لا .. بالطبع هناك مآرب خبيثة فالجيران لهم شطارة بهذا المجال، إذ يدخلون القدس ضمن برنامجهم التفاوضي مع العم سام ... وكذلك النووي .. ومشاريع أخرى، ليظهورا قدراتهم وما بوسعهم أن يفعلوا ..

ترى هل أنا أبالغ ... ولو قليلاً ...

لا والله ... فأنا منصف حتى مع خصومي ...  فالجيران يقولون نحن نساعد الجماعة في فلسطين .. نعم .. يساعدون، نحن نصنع لهم الصواريخ، ونقول لهم لا .. هذه لا .. مساعداتكم مدروسة محسوبة، مثل برنامج المساعدات الأمريكية للبلدان النامية، هي حقيقية، ولكنها لم تشبع أحداً من يوم تأسيها حتى اليوم. وهم يمنحونها بطريقة تخلو من المنطق، ولكن أي منطق ..؟ منطقك أنت ومنطق العقلاء، ولكن أنتبه نحن لا نشتغل بدار الحكمة ...! وهذه السوالف ما بيها لا منطق ولا حكمة ... بيها مصالح وعلاقات عامة بعبارة أخرى ... نعطيك شوربة تدمن عليها، ولكنها سوف لن تشيعك يوماً، بدليل أن حاجتك لها تتصاعد ولا تتراجع ..!  كيف أضرب لنا مثلاً يا أبو فراس ... حسناً ... إليكم لغة الأرقام :

 

ــ إسرائيل : تحضى (بالطبع) بالقدر الأكبر من المساعدات (الاحصائيات هي لعام 2017) :

مجموع حجم المساعدات الأمريكية العام هو (3,711,07 دولار). حجم العسكري منها (3,175,00). لاحظ رجاء أن من بين حوالي 4 مليارات دولار، فقط نحو 500 مليون فقط، هو حجم المساعدات غير العسكرية، هذا مع حبيب القلب إسرائيل وماذا مع الغير.

ــ مصر : الدولة الأكبر والأهم عربيا وأفريقياً والتي تخوض معركة تنمية صعبة لصعوبة الظروف المحيطة وبحجم سكان يزيد عن 100 مليون نسمة، أي أكثر من حجم سكان إسرائيل بأكثر من عشرة مرات، ولكن لاحظ كيف تفهم الولايات المتحدة هذه المساعدات.

مجموع حجم المساعدات الأمريكية العام هو (1,475,61 دولار). حجم العسكري منها (1,302،28 دولار). لاحظ رجاء أن من بين هذا المبلغ، نحو  175 مليون فقط، هو حجم المساعدات غير العسكرية.  وحلل براحتك هذه المعطيات المذهلة. مع أن شعار منظمة المساعدات الأمريكية هو مصافحة، ولكن في الواقع مقاتلة ..! وكذلك يفعلون ...!

بعد .. رباط السالفة، عن الناس اللي يثرثرون أكثر مما يفعلون ... يعطوك السم بالأطنان، ويعطوك العلاج بالغرامات .. قلنا أنه لم يضربوا في طريق القدس حصوة ...  يقولون نحن صنعنا لهم الصواريخ، وهذا بهتان مفضوح، فهناك من مناضلي الشعب الفلسطيني عباقرة بوسعهم أن يصنعوا صواريخ تصل للقمر .. ومنهم شهداء ... الشهيد المهندس يحي عياش، والشهيد المهندس دكتور جمال الزبدة .. في محاولة رخيصة لسرقة المكاسب الفلسطينية ... وأخيرا نقول البطل هو من يصنع السلاح والبطل أكثر من يستخدمه ..!

عندما يتعلق الأمر بالأفعال الحميدة ... أستلم كذب بالأطنان، والأعذار جاهزة وهي حفنة أكاذيب، ولكن حين يتعلق بالحبث واللؤم .. تفضل إلى هذه الحقائق المثيرة ... هم يكرهون السعودية ليس كرها بالعائلة السعودية، بل كرها بمكة والمدينة وما تحتويهما، والجماعة لا يخفون ذلك ولا ينكروه، بل يقولونه ويفعلون ما يقولون جهاراً نهاراً، وإن كان من دواعي خبثهم، أن يدعون غيرهم يقذف الشر وإليك جانب من خبثهم وتجارة الكلام والدين، إليك هذه الإحصائية :

ــ هجمات الحوثيين على المملكة العربية السعودية حتى 9 / آذار ــ مارس / 2021

335 صارخ بالستي

550 طائرة مسيرة

62 زورق مفخخ

المجموع 947 هجمة ....... !

كم طلقة على القدس : صفر

هذا ليس طريق القدس ... هذا طريق حرب مكة والمدينة ... أما حرب القدس فلها معسول الكلام الكاذب المفضوح ... وحفنة دولارات بائسة ...!    وهناك دائماً فرق بين حسابات الحقل بالتقديرات النظرية .... وحسابات البيدر ... بحسابات الوزن والمكيال ...!

 

 

 

هل الإسلام  جزء من أوروبا

 

د. ضرغام الدباغ

 

هل الإسلام جزء من أوربا ....؟

الحقائق والوثائق والوقائع كلها تشير، أن الإسلام جزء من أوربا .... ومنذ قرون كثيرة على الأقل منذ نزول المسلمين العرب في الأندلس، ونجاحهم في الالتحام في الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية بدرجة كبيرة. ويصعب حقاً تحديد الصلات بين أوربا والعرب والمسلمون. ترى هل ابتدأت حتى قبل الإسلام ...؟ اقتصادياً وسياسياً، فقد وجدت آثار تدل على علاقات تجارية قبل الإسلام والمسيحية في شمال أوربا، وهناك مصادر تذكر عن علاقات وطيدة بين تجار من حوض الدانوب وبلاد ما بين النهرين.

 

كتب عن هذا الكثير وعبر عنها فنيا بلوحات فنية جميلة، وبقطع موسيقية رائعة، والتواصل الثقافي كان عميقا ومؤثراً بدرجة أكبر مما يحاول البعض طمسه. والدليل وجود 550 كلمة عربية في اللغة الألمانية ...! وأكثر في اللغة الإنكليزية، والكلمات العربية شائعة جداً في اللغة الأسبانية، أما اللغة المالطية ... فتكاد تكون عربية ...! ويقول أحد العلماء الأوربيين المعاصرين، " لو بحثنا في أصل كل المعارف والعلوم لوجدناها عربية في الأساس " .. ومع ذلك يحلو للبعض أن ينكر هذه العلاقات والتأثيرات ...! مع أنه يستخدم الرقم العربي (5 4 3 2 1 0) يومياً في تسجيله لكل شيئ..!

 

هل الإسلام جزء من أوربا ...؟

قد يصبح التساؤل والإجابة على هذا السؤال ينطوي على مخاطر في أوربا المتنورة المتمدنة ..! بل وقد يطيح بقادة سياسيين وشخصيات اجتماعية، فالأوربيون في وقت ما كانوا يعدمون من يقول بكروية الأرض ... ! والأوربيون اعتقدوا أن بوسعهم محو الديانة اليهودية من الأرض ... ومارسوا هذا الاعتقاد فعلياً، فأصدروا القوانين ونصبوا المحارق ..!

 

مع ذلك، يتصدى بين الحين والآخر متنورون، منفلتون من دوامة الكراهية ومرض الخوف وهاجس حماية الذات (الفوبيا / Fobia)، متحررون من العقد وأوهام التفوق .. فيكتبون ويتحدثون وينتجون الأعمال الجميلة، ويتحدون أنفسهم فيذكرون الحقائق، فقد تمكن باحث ألماني أن يذكر في مقابلة تلفازية أن الأوربيين تعلموا من العرب الاستحمام في حمامات، وأن يكون في كل بيت مرحاض ..! واليوم في القرن الأول من الألفية الثالثة بدأ الأوربيون يتعلمون فائدة الاستنجاد بالماء في المرحاض. واليوم يدرك الأوربيون المضار الصحية لتناول لحم الخنزير .

 

لذلك واعتماداً على علماء يخلصون للحقيقة، سوف لن نقيم بحوثنا على إثبات الحقيقة، وسوف ندع هذه المهمة للعلماء الأوربيون أنفسهم، وهنا نورد هذه المقابلة المهمة مع الأستاذ في جامعة همبولت / برلين مايكل بورغولت، التي نشرتها صحيفة وموقع : (العالم / Welt online)  . أجرى المقابلة كريستوف آرينز. في البحث لوحات نادرة كلوحة الإنزال في جبل طارق، ولوحة للقائد طرق بن زياد.

 

الإسلام جزء من أوروبا منذ القرن الثامن

" لولا وساطة العلماء المسلمين لما توصلت أوربا لمعرفة علوم العصور القديمة إلى أوروبا. حيث تواصلت وتطورت فيها، بينما تعرض العالم الإسلامي إلى الجمود ".

 

 

كتابة : كريستوف آرينس

ترجمة : د. ضرغام الدباغ

 

 

" يزعم حزب البديل (اليمين المتطرف) وغيره من الشعبويين ممن يكنون الكراهية للأجانب، أن الإسلام لا ينتمي إلى أوربا. ويقول البروفسور دكتور مايكل بورغولت أستاذ القرون الوسطى بجامعة همبولت / برلين، ومؤلف العديد من الدراسات والبحوث حول  العلاقة بين المسيحية اللاتينية، والإسلام واليهودية، أن الثقافة الغربية للمعرفة وفق رأيه " لا يمكن تصورها دون مساهمة العلماء المسلمين ".

 

فالإسلام لا ينتمي إلى أوروبا، كما يزعم حزب البديل من أجل الديمقراطية وغيره من الشعبويين الكارهين للأجانب. من ناحية أخرى، يقول مايكل بورغولت، أستاذ تاريخ القرون الوسطى في جامعة هومبولت في برلين ومؤلف العديد من الدراسات حول العلاقة بين المسيحية اللاتينية والإسلام واليهودية: إن الثقافة الغربية للمعرفة، وفقاً لعقيدة له، لا يمكن تصورها دون مساهمة العلماء المسلمين.

 

خلال عهد هارون الرشيد (763 ــ 809) في عصر الخلافة العباسية، كانت بغداد المركز الساطع في العالم، وفي عصر الرشيد تحقق علاقات وثيقة مع أوربا من خلال تواصل سياسي / دبلوماسي بين الرشيد وكارل الكبير (شارلمان)، وتلك العلاقة أرخها الرسام الألماني يوليوس كيكارت في لوحته الرائعة (بلاط الرشيد في بغداد ". (صورة الغلاف)

 

فيما يلي الحوار الذي أجراه محرر موقع وصحيفة العالم مع الأستاذ مايكلبورغوت:

 

سؤال: بالنسبة لحزب ألمانيا البديل، الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا. كيف ترى ذلك كمؤرخ؟

ــ مايكل بورغولت: يجادل العديد من السياسيين الآخرين أيضاً بأن المسلمين ينتمون إلى ألمانيا، ولكن ليس إلى الإسلام. أجد هذا النزاع غير مجد وغير مفيد إلى حد ما. ولكن من وجهة نظر مؤرخي القرون الوسطى، يجب علي أن أعيد ترتيب الأولويات وأن أوضحها: ليس المسلمون هم الذين ينتمون إلى ألمانيا، ولكن الإسلام هو أحد أسس الثقافة الأوروبية والألمانية.

 

سؤال: كيف توصلت إلى هذا البيان؟

ــ بورغولت: من جهة، لم يكن عدد أكبر من المسلمين يعيشون في ألمانيا إلا منذ بدء توظيف العمال الضيوف الأتراك فن عام 1961 فصاعداً. على الرغم من وجود عدد قليل من الدبلوماسيين المسلمين أو أسرى الحرب في بلاط شارلمان في القرن التاسع أو في القرن الثامن عشر في بروسيا، إلا أنهم بالتأكيد لم يشكلوا نسبة مهمة في البلاد.

 

سؤال: ومن جهة أخرى؟

ــ بورغولت: من جهة أخرى، في العصور الوسطى، ساهم العلماء المسلمون مساهمة كبيرة في الحفاظ على المعرفة بالفلسفة اليونانية والعلوم الطبيعية ونقلها إلى أوروبا اللاتينية. وسواء في بغداد أو في إسبانيا المسلمة، ترجم علماء الإسلام نصوص الفلاسفة والمفكرين اليونانيين إلى اللغات الشائعة، ومنها ترجمت إلى اللاتينية. بدون الإسلام، لم تكن المدرسة السكولاستية لتوجد، لا جامعات ولا علم في شكلها الحالي. ولولا وساطة المسلمين، واليهود أيضاً، في السلع الثقافية القديمة، لما كان أزدهار وصعود الغرب الأوروبي ليتحقق حتى العصور الوسطى العالية. لذلك نحن ما زلنا نستفيد من هؤلاء العلماء الإسلاميين حتى اليوم.

 (الصورة: الفيلسوف العربي المسلم أبن رشد " 1126 ــ 1198 م " وزميله الفيلسوف اليهودي ميمون)

 

سؤال: ولكن ألم يكن هذا التأثير محدوداً في أبعاده؟

ــ بورغولت: هذا صحيح. وقد تطورت الثقافة العلمية، التي أصبحت مهمة في تاريخ العالم، في جامعات المسيحية اللاتينية. ضد المقاومة التي أبداها رجال الدين المسيحيين، تم استيعاب المعرفة اليونانية وتطويرها في جامعات أوروبا. لقد استفاد المسيحيون اللاتينيون من المعارف والعلوم التي حصلوا عليها ومن المسلمين والمسيحيين اليونانيين أيضاً، لكنهم شيدوا فوق الأسس الأجنبية. ولكن المسلمين بالمقابل لم يفعلوا شيئاً مماثلاً، ولم يطورا ثقافة وقيم بحثية مماثلة.

 

سؤال: لماذا كان هذا؟

ــ بورغولت: كان في بغداد، التي تمثل مركز العالم الإسلامي في ذلك الوقت، في بغداد، منع الخلفاء ببساطة البحوث العلنية وتداول الأفكار. وبشكل خاص، سمح للعلماء المسلمين بإجراء الدراسات والتدريس. لكن انتقالها إلى المؤسسات التعليمية العامة كان ممنوعاً. في إسبانيا، كان المسلمون في أواخر العصور الوسطى تحت ضغط شديد من (Reconquista)"حملات الاستعادة / ملوك الكنيسة الأسبانية". لذلك ساهم بعض العلماء  في إثراء العلوم المسيحية، ولكن لم يعد بإمكان المسلمين تطوير أجندتهم الخاصة.

 

 

 

 

(الصورة: حتى نهاية العصور الوسطى،تواصلت الإمبراطوريات الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية(أسبانيا). وهذه اللوحة الجدارية الفرنسية من بروفانس، تصور فارس مغاربياً يحتضر، وتظهر كم هذا الجيران المسيحيين غير المستقرين).

 

سؤال: ألم يكن للإسلام أيضاً تأثيراً سلبياً على أوروبا: من خلال مشاعر التهديد التي أحدثها الأتراك في القرنين السادس عشر والسابع عشر؟

ــ بورغولت: أنا هنا متحفظ جداً في هذا الأمر. بالطبع الحال، كان هناك خوف من الأتراك، والتي كان لها تأثير على ممارسات العقيدة الكاثوليكية: وبطبيعة الحال، كان هناك قلق في أوروبا الشرقية والوسطى، حول المزيد من الفتوحات العثمانية وتواصلها في أوربا.. ولكن إذا نظرنا إلى ملفات المجالس الكاثوليكية ومصادر الكنيسة الأخرى، يلاحظ المرء أن الإسلام لم يكن قضية ساخنة بالنسبة لألمانيا وأوروبا الغربية. وعلاوة على ذلك، لم تكن الجبهات بين الدول المسيحية والإسلامية راسخة بأي حال من الأحوال. ففرنسا الكاثوليكية كانت قد عقدت اتفاقاً مع العثمانيين ضد هابسبورغ الكاثوليكية. على المرء أن يكون منتبهاً وأن لا يعرض صراعات اليوم على أحداث الماضي.

 

سؤال: لقد ذكرت إسبانيا. لذلك هناك بالتأكيد بلداناً في أوروبا التي لعبت فيها ليست الثقافة الإسلامية فحسب، ولكن أيضا المسلمين لعبت دورا أكبر ...

ــ بورغولت: نعم. هذا صحيح ليس في إسبانيا وإيطاليا فقط. بل وفي ليتوانيا والمجر أيضاً، كانت هناك في أواخر العصور الوسطى مجتمعات مسلمة وجزر استيطانية إسلامية كانت موجودة قبل الفتوحات العثمانية. فهنغاريا، على سبيل المثال، كانت بلداً متعدد الديانات،  لأن كانت هناك أيضا جاليات يهودية كبيرة. كما أسس الملك ستيفان، الذي تقدره الكنيسة الكاثوليكية كقديس، كان قد أسس أديرة وكنائس  وأسقفيات يونانية ــ أرثودوكسية. وهذا ما تتجاهله الحكومة الهنغارية الحالية هذا الأمر. فالإسلام كان جزاًء من أوروبا منذ القرن الثامن .

 

سؤال: كيف كانت أوروبا مسيحياً حقاً في العصور الوسطى؟

ــ بورغولت: لم تكن أوروبا مسيحياً موحدة مطلقاً، ولم تحتضن القارة الأوروبية البعثة المسيحية بشكل كامل في أي وقت من الأوقات، وفي الواقع، كان هناك إلى جانب استمرار الوثنية أو تعدد الآلهة، كانت هناك ديانتان توحيديتان أخريان على نطاق واسع، هما اليهودية والإسلام. فالإسلام كان جزءاً من أوروبا منذ القرن الثامن، وعندما تم طرده من شبه جزيرة إيبريا (أسباني) غرب البحر الأبيض المتوسط الكبرى من القرن الثالث عشر فصاعداً، تقدم الأتراك الإسلاميون في الشرق (شرق أوربا).

 

سؤال: هل هناك من وجهة النظر االتأريخية، إجابة عما إذا كان الإسلام يناسب ألمانيا وأوروبا؟

ــ بورغولت: الآلية الأساسية والتاريخية التي ربما ناجحة بشكل فريد لتاريخ أوروبا، هي القدرة الإنتاجية والتفاعل مع التأثيرات الأجنبية. لقد أصبح تاريخ أوروبا ديناميكياً بشكل خاص، لأن كل وحدة تحققت أصبحت موضع شك على الفور من خلال كسر التنافر. لقد حارب المسيحيون واليهود والمسلمون بعضهم البعض في بعض الأحيان، ولكن هذا لم يؤد أبداً إلى الإبادة الكاملة للآخرين. وفي هذه الديانات كانت هناك أنظمة للحماية وكان هناك دائماً حوار وتعايش ناجح. لقد كانت أوروبا وما تزال، تتميز بالتفاعل والالتحام. إنه  أمر مرهق، لكنه مبدع.

 

 

 

(عام 710 م نزلت الجيوش لأول مرة بقيادة القائد طارق بن زياد عبر المضيق ومنطقة الإنزال الذي أطلق عليه جبل طارق ومضيق جبل طارق، وبقيت المنطقة بإمرة العرب المسلمين حتى عام 1492)

 

 

 

(صورة: القائد طارق بن زياد يهتف بجنوده يوم الإنزال : العدو من أمامكم والبحر من وراءكم، وما لكم غير الله وسيوفكم )

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

لماذا خسرت أميركا والغرب

المعركة في أفغانستان ...؟

ضرغام الدباغ

بين يدي بحث أقوم بترجمته عن الألمانية، وهو بعنوان " لماذا خسرت ألمانيا الحرب الصاعقة في الاتحاد السوفيتي " (في الحرب العالمية الثانية). وبالطبع التساؤل والبحث لا يدور عن جزئيات الموضوع في بل في مرتكزاته الأساسية، فالخطأ والنتائج الكارثية الكبيرة، غالباً ليس بسبب غلطة أرتكبها جنرال، ولا بطولة قام بها جنرال من الطرف الآخر، بل المشكلة تكمن في جذور الأمر وفي مبادئه واستراتيجيته.

وبهذا المنهج سنقوم ببحث النتيجة المريعة التي بلغتها الولايات المتحدة والتي بها سحبت معها التحالف الغربي بأسره إلى المأزق الذي لا مفر من نتائجه الكارثية، فلنقل بدون تزويق ولا تلوين للكلمات: الهزيمة مرة ساحقة، هزيمة سيكون لها تداعياتها الواسعة النطاق.

التساؤل يبدأ هل كان من الضروري أن تذهب الولايات المتحدة إلى أفغانستان ..؟ هل كان الذهاب للمغامرة الافغانية نتيجة غضب ..؟ أو دفاعاً عن هيبة الولايات المتحدة، أم كان قراراً ينسجم مع السياسة الأمريكية الشاملة، ومثلها كان أرتكب خطأ فيثنام وكمبوديا، ولاوس، وقبلها كوريا، التي ما تزال تمثل جرحاً نازفا للولايات المتحدة، مكلفة سياسياً واقتصاديا وعسكرياً. فالأمر في أفغانستان إذن لم تكن نزوة غضب ..!

الولايات المتحدة عاقبت الشعب الأفغاني بأسره، والاحتلال هو عدوان وإهانة، سوف تلاقي حتماً من يقاومها، والمقاومة وفق القوانين الدولية والوضعية، هو عمل مشروع، والولايات المتحدة اعتمدت فيه كلياً على عنصر واحد فقط: القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، واستخدامها لمجلس الأمن وفق مشيئتها ...ولا شيئ أكثر من ذلك البتة.

وبناء على هذا الخطأ الجسيم، توالت أخطاء جسيمة أخرى، وانحدرت في لجة من القرارات الخاطئة. والأوربيون أذكياء، أصحاب خبرة طويلة في الحروب الاستعمارية والتوسعية وحروب التدخل، لذا تبينت أطراف أوربية عديدة الخطأ مبكراً وشخصته وتنبأت بهذه النهاية التعيسة،  منها فرنسا، وألمانيا الاتحادية، وعبرت عن تشخيصها للخطأ بوسائل ناعمة. نقول ناعمة، لأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها ذات دالة كبيرة على أوربا، بسبب دورها المهم الحاسم في الحربين العالميتين (الثانية خاصة) ومن ثم لعبت دور الحارس الأكيد والدرع الحصين لأوربا من اكتساح الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرق لأوربا الغربية. بوصفها العمود الفقري لتحالف الناتو (التحالف بين ضفتي الأطلسي). وكان رفض الذهاب لأفغانستان سيعد نسفا أكيداً لحلف الناتو، وللعلاقات الأمريكية الأوربية. وهذه معركة لم تكن القيادات الأوربية فتح أبوابها مع الولايات المتحدة.

فرنسا ديغول، عبرت بوضوح تام أنها ضد حروب من هذا النوع، ورفضت الحرب على العراق بوضوح تام، ولكنها سايرت الولايات المتحدة في الشأن الأفغاني، وبالطبع دفعت ثمن هذه المسايرة، ومثلها سائر الحلفاء الغربيين. وألمانيا بقيادة غيرهارد شرويدر رفضت الحرب على العراق بوصفها عدوانا واضحاً مخالفا بصراحة للقانون الدولي، ومن يشارك فيها يرحل على ملاكات خرق القانون ونتائجه.

وكنت قد أطلعت عام 2005 على محاضرة ألقاها المستشار الألماني الأسبق هيلموت شمت (27 / فبراير / 2005)، وهو من عباقرة من قادوا ألمانيا في كافة العهود، تحدث فيها هذا الاستراتيجي متشائماً عن مستقبل الغرب، وشخص مبكراً أن هناك قوى سياسية واقتصادية (اقتصادية خاصة)، وعسكرية وسكانية جديدة في العالم ونحن نشهد تغيرات، قد تكون في العقود المقبلة حاسمة، وعبر عن عدم رضاه عن الحلول والأساليب، ومن تلك قوله نقطة جوهرية " أن الولايات المتحدة، ما زالت تمتلك القوة للتدخل في أي بقعة في العالم، ولكنها غير قادرة على حسم الصراعات لصالحها ". وتصلح هذه الجملة لتكون مدخلا لدراسات وبحوث وتأملات في السياسة الدولية وفي ميزان القوى العالمي. وبتقديري أن المستشار الألماني المفكر، توصل بسرعة إلى رؤية العجز وإلى التخبط في زج القوى الحربية في مشكلات يمكن أن يجد العقل البشري حلولاً لها بعيداً عن القتل والتدمير، وأن الولايات المتحدة تمتلك (أو هكذا يفترض) أنها تمتلك القوى الفكرية للتوصل إلى حلول، القنابل والصواريخ ليس من بين وسائلها المعبرة. بمعنى أن بوسعها إشعال الحرائق، ولكن ليس إخمادها ....!

مشكلة القيادات الغربية، أنهم يتعاملون مع قضايا الشعوب الأخرى، وكأنها معطيات رقمية، يضعوها في ذاكرة الحاسوب، وهذه المعطيات لا تنظر إلى جوانب المنظر وتفاصيله الإنسانية، وبالتالي يتبين خطأ جنرال من لوس أنجلس، يتحدث عن الوضع الاجتماعي في قندهار، وبالتالي وفق المعطيات والحسابات الدفترية، فبرأيه أنه أكثر رقيا من مجتمع قندهار، وقد يكون الأمر مختلفا كلياً. ووفق تسجيلات أمريكية وغربية كثيرة (لدي ملفات تحوي على عشرات التقارير) أن العسكريين الأمريكان يظهرون من سوء التصرف والوحشية ما لا يفعله أي شخص غاطس في التخلف لفوق أذنيه، وأن التحضر ليس تناول المكدونل والهمبرغر، التحضر هو غير هذا تماماً .... أبعد بكثير..  إنها عملية إنسانية ثقافية متكاملة الأبعاد والأهداف. والمجتمع الأمريكي وعقله السياسي والتربوي والثقافي ينقصه الكثير جداً ليبلغ مستوى الأمن والسلام الداخلي، والشاهد على هذا الاحصائيات الأمريكية نفسها.

الأرقام والإحصائيات تشير إلى تزايد الإصابات العقلية لدى الجنود الغربيين، وميلهم الشديد للقتل وإطلاق النار بشكل عشوائي والتلذذ بالتعذيب والقتل والاعتداء الجنسي، وهذه نتيجة مدهشة لمجتمع يفترض أن أفراده يتلقون دراسة ابتدائية والمتوسطة والثانوية، ناهيك عن الجامعية، بمستويات راقية، وإذا بهم يأتون أفعال وحشية تندى لها جبين الإنسانية. ويمارس أفرداه السرقة والتهريب، وغسل الأموال، بما في ذلك سرقة ونهب الآثار والتحف الثمينة، والمصوغات الذهبية، والعملات. لم يعد سراً أن النظام التربوي الأمريكي فاشل، وهذا ما يصرح به علماء أمريكيون بارزون.

وخلاصة هذه التصرفات، أظهرت للناس في أفغانستان، وقبلهم في فيثنام أن ليس لدى هؤلاء ما يجلبوه لنا سوى الخراب والدمار والقتل والنهب، وبهذه النتيجة تم تصنيفهم كوباء يجب التخلص منه مهما كبرت التضحيات. وهذه القناعة مثبت الخطوة الأولى في مسرة الفشل التي أضطر الأمريكان للأعتراف بعد نحو عشرين عاماً أنهم اخطأوا وسينسحبون.

اخطأوا في فيثنام وانسحبوا، واخطأوا واعترفوا بأنهم سلموا العراق الرائع في طبق من ذهب للنمل الأبيض الإيراني، ملالي همج متخلفين  يسحقون كل شيئ في بلد كان على وشك أن يغدر  العالم الثالث ... لماذا ...؟

 بين يدي تقارير كثيرة تتحدث عن الخسائر التي تكبدها الأمريكان والغرب في أفغانستان، الخسائر البشرية والمادية، وحتى في المصادر الرصينة منها متناقضة بشكل غريب، ولكن الخسائر في الأرواح بالنسبة للأمريكان  لا تقل عن 3 ــ 5 ألف عسكري في أفغانستان، و  4 ــ 5 ألف عسكري من الناتو، أما الخسائر المادية  فهي لا تقل عن ترليون دولار في أفغانستان، وعشرات المليارات لبقية دول الناتو أقدرها بين 50 ــ 100 مليار دولار. هذا ناهيك عن أعداد الجرحى والمعوقين ونفقات تشغيل الأنظمة الحربية (معدات، طائرات، سفن ..الخ). هذه الجهود والأموال والضحايا من كل الأطراف لماذا ...؟ ألم يكن بالإمكان استثمار ذلك في نتائج أفضل ..؟ في حرب لم تكن حتمية مطلقاً ...!

وهناك تقارير شبه مؤكدة تشير استناداً إلى معطيات أمريكية، كجمعيات المعاقين، والمحاربين القدماء، وجرحى الحرب، أن الخسائر الأمريكية هي أضعاف ذلك. فلقد ثبت أن الجيوش الأمريكية تستخدم أجانب بصفة جنود على أمل منحهم الجنسية الأمريكية، فإن قتلوا لا تعتبرهم أمريكيين، وهناك قتلى تعتبرهم ضحايا حوادث، كحوادث سقوط الطائرات مثلاً، ناهيك عن استخدام الولايات المتحدة شركات تقوم بالحراسات، والدوريات والقتال كشركة بلاك ووتر مثلاً، ولا تعتبر هؤلاء جنوداً في جيشها، وبالتالي ليسوا في عداد الخسائر الأمريكية. وتسجل لهم هذه البدعة الغير مسبوقة في تجنيد المرتزقة ..!

الغريب أن الولايات المتحدة والعالم الغربي يتحدثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان كثيراً، ولكنهم بالمقابل يستخدمون الأسلحة والقتل والاغتيالات، والمال للرشوة والفساد، ويسرقون وينهبون ويقيمون السجون السرية والعلنية ويمارسون التعذيب والتصفيات أكثر من غيرهم ... لماذا ..؟ الولايات المتحدة تقدمت بنظرية العولمة (Globalisation) وفي التطبيقات العملية كانت تعني فقط : دعنا نسرقك، وننهبك، ونحيلك إلى تابع، وإلا فأنت إرهابي تستحق أن نطلق صواريخنا عليك ..!

 

إلى ماذا ستقود مجموع هذه السياسات ..؟ هل ستؤدي إلى إعجاب الشعوب بالمبادئ والمثل الأمريكية ..؟ أم إلى احتقارها ..؟ كم خرج علينا كتاب ومدعي الفكر بلافتات " القوة الناعمة "، ومن هذا الدجل وشعوب العالم تكتوي بنيران صواريخهم .. مخلفة القتلى والجرحى والمعاقين ..!  فلينظروا في سجلاتهم كم مواطن يقتل يوميا سواء بإطلاق النار المباشر أو بكسر عظام الرقبة (وهذا منجز بوليسي يسجل بأسم الحضارة البوليسية الأمريكية)، فليذكروا صراحة احصاءات عن الأعتداءات العنصرية ضد ملونين (ضد أصول أفريقية وصينية ويابانية وأسيوية)، فليصرحوا عن الاعتداءات ضد الساميين المسلمين واليهود المسجلة في سجلات البوليس، فليذكروا عدد المنظمات الإرهابية المسلحة التي تستهدف هذه الفئات، بل وحتى بين الطوائف المسيحية ذاتها (بروتستانت، كاثوليك، أرثودوكس شهود يهوة ....الخ)، وبعدها ليخجلوا من أعتبار أنفسهم المدافعين عن حقوق الإنسان، سيفاجأ القراء عندما يعلمون أنها بالمئات، ومن أشهر أعمالهم الإرهابية  هو تفجير مركز التجارة العالمي في مدينة أوكلاهوما الأمريكية (19 / نيسان/ 1995) أسفر عن قتل 168 وإصابة 600 آخرين.

 

العنصرية موجودة في الولايات المتحدة منذ الحقبة الاستعمارية، فقد أُعطي الأمريكيون البيض امتيازات وحقوقاً انحصرت بهم فقط دوناً عن كل الأعراق الأخرى، منح الأمريكيون الأوروبيون (خاصة البروتستانت الأنجلوسكسونيون البيض الأغنياء) امتيازات حصرية في مسائل التّعليم والهجرة وحقوق التّصويت والمواطنة وحيازة الأراضي والإجراءات الجنائية طوال التّاريخ الأمريكي.  وأقاموا مجتمعا عنصريا أعتدائيا في الداخل، توسعياً في الخارج ... لذلك يندر أن تجد شعبا لم يكتوي بنيران الإمبريالية الأمريكية.

 

 

 

سد النهضة

 تداعيات واحتمالات

 

د. ضرغام الدباغ *

 

في أزمة سد النهضة بين مصر وأثيوبيا، يلاحظ بكل بساطة أن الموقف الأثيوبي هو مرسوم وبحدود مثبتة، ويبدو أن المفاوض الأثيوبي، مع أطراف الأزمة: مصر والسودان، أو الأطراف الأفريقية التي تعرض وساطتها، يبدو خلالها الوسيط الأثيوبي بالغ التصلب، وموقفه يفتقر لأي مرونة، مما يؤكد أن الوفد الأثيوبي المفاوض بصرف النظر عن مستواه، يفتقر إلى صلاحية اتخاذ القرار، فالمناورة في أزمة كهذه هي أكبر بكثير من قدرات أثيوبيا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، واستعداء دولتين كمصر والسودان بثقلهما، مقابل مكاسب تبدو هزيلة قياساً إلى المتوقع من الخسائر، مما يشير بوضوح أن هناك قراراً قد أملي على الموقف الأثيوبي، بالمضي بالتصلب، إلى أبعد حد، وتجاوز جميع الاحتمالات .. وأن هناك طرفا خفياً يريد استثمار الأزمة إلى أقصى درجة والحصول على جائزة ... ترى ما هي الجائزة، وبما وعدوا أثيوبيا، وماذا يريد من هو وراء الأزمة ...؟

أثيوبيا سوف تتحكم بجزء كبير من مياه نهر النيل شريان الحياة في مصر، وتمتنع أثيوبيا من التوصل لأي أتفاقية ملزمة، دون إبداء أسباب وجيهة مقابل مخاطر جدية وحيوية لمصر والسودان. فبوسع أثيوبيا أن تنتج الكهرباء، وبوسعها أن تقيم التنمية وبوسعها أن تحقق الأمن والسلم الاجتماعي، ولكن دون إلحاق الضرر الشديد بمصر. وبوسع السودان أن تقيم السد وأن توفر المياه، ولكن بخطوات مدروسة وبرنامج متفق عليه لا يخسرها شيئاً، ولا يلحق الضرر بمصر والسودان. ولكن اثيوبيا ترفض وتصم أذنيها عن كل حل معقول، كل الحلول المفيدة التي لا تضر أحد من الأطراف مرفوضة، فالخطة التي فرضت على أثيوبيا " ألحاق الضرر بمصر والسودان هو الهدف الأول والأخير ".

ومن تلك السيناريوهات التي عرضت على أثيوبيا منها ما يتعلق بالأحداث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات. كما وضع أمام الإثيوبيين عدة احتمالات لتفادي أي أضرار محتملة لسد النهضة، منها في حالة أن يكون السد العالي وسد النهضة ممتلئين بالمياه، فماذا سيكون الوضع وكيف يمكن تشغيلهما سويا؟ وماذا لو كان السدان ممتلئين وكان الفيضان عاليا وكبيرا فماذا نفعل؟ وما الكمية المتاحة للتخزين والتصريف؟ فالمخاطر هنا شديدة فيما لو تعرض السد الأثيوبي لحادث أو لضغط وأضراره على السودان، وعلى السد العالي (مصر)، فستجرف المياه المنفلتة مدناً كاملة.

حسناً، الأمر لن يعبر على الإدارة المصرية ذات الباع الطويل علماً ومقدرة كفاءة في أدارة المياه، وأي أزمة مماثلة. فمصر تسعى ما استطاعت لذلك سبيلاً، أن تتجنب تصعيد الأزمة مع أثيوبيا إلى حدود قد تتجاوز القدرة على السيطرة، وتبذل جهوداً دبلوماسية كبيرة، وتستخدم نفوذها وثقلها الأفريقي، ولكن دون أن يتزحزح الموقف الأثيوبي قيد شعرة رغم إدراكها التام أبعاد العداء مع مصر ذات الثقل العربي والإسلامي والأفريقي، وهذا يؤكد مرة أخرى أن هناك من يوحي ويلقن ويحرض ...!

ولا يحتاج الأمر للكثير من الذكاء لمعرفة من وراء الاستشراس الأثيوبي ...! وقد سربوا الرسائل لتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة لمصر ... وتحقيق جملة أهداف بعيدة وقريبة، تجعل مصر تنشغل بحالها ضعيفة لا آفاق كبيرة أمامها، وتحديد عدد السكان ... والهدف المباشر هو رسالة مقتضبة من كلمتين : تخلوا عن سيناء لتقام عليها الدولة فلسطينية. سيناء مقابل النيل ...

والقيادة المصرية بالطبع تدرك أبعاد الأزمة، ومن معها ومن خلفها، وأدوار المشاركين الأبعدين والأقربين.، وهم أفضل من يجيد قراءة الأجندات والاحتمالات، وقد استعدوا لها وللمشكلات المتوقعة، وسبل تفادي أزمة مياه. والخيارات المصرية(بتقديري)، هي أبرزها:

أجرت الأجهزة المصرية دراسات عن نقل مياه الكونغو من مسافة 600 كم من خلال 4 محطات ضخ،  وقدراته الكبيرة إلى مجرى النيل عبر السودان الجنوبي والسودان، ومصر، ومن ثم ليعوض عن شحة المياه الأثيوبية. ونهر الكونغو هو ثاني أكبر نهر في العالم من حيث الدفق المائي بعد نهر الأمازون حيث يلقي هذا النهر ما يزيد عن ألف مليار متر مكعب من المياه في المحيط الأطلسي. يشمل حوض نهر الكونغو، عدة دول هي جمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى والغابون وجزءا من غينيا. وكشف المقترح عن إمكانية توليد طاقة كهربائية تبلغ 300 تريليون وات/ ساعة وهي تكفي لإنارة قارة أفريقيا، والمشروع يمكن أن يتم على عدة مراحل حسب توافر ظروف التمويل، وأن المدى الزمني لتنفيذ المشروع، في حالة تنفيذ السيناريو الثالث يستغرق 24 شهرًا بتكلفة 8 مليارات جنيه مصري وهي تكلفة محطات الرفع الأربع لنقل المياه من حوض نهر الكونغو إلى حوض نهر النيل، بالإضافة إلى أعمال البنية الأساسية المطلوبة لنقل المياه.

تنظيم ممتاز للموارد المائية المصرية وذلك عبر الاستفادة من بحيرات توشكي والقنوات المائية المرتبطة فيها.

ترشيد استهلاك المياه، والتصرف بحكمة بالموارد المتاحة.

تعبئة منخفض القطارة : إما بالمياه العذبة الفائضة من السد العالي، أو بملئها بمياه مالحة من البحر الأبيض المتوسط، مما سيساعد على تحسين البيئة، وزيادة نسبة الأمطار.

تكثيف إقامة محطات تحلية المياه، لتخفيف أزمة الماء للشرب.

نحن على يقين أن القيادة المصرية ستختار أفضل الخيارات لمواجهة .. هذا الموقف وتفرعاته .. اللهم أحفظ مصر العروبة وشعبها وجيشها ...

الأهداف البعيدة لتطويق مصر بالأزمات، معروفة، وهي بخلاصة واحدة: رسم أبعاد جديدة للشرق الأوسط، ولهذه سنفرد يوماً بحثاً لهذه الموضوعة ..!

*اكاديمي عراقي مؤسس المركز العربي – الالماني (من كتاب البلاد)

 

 

 

 

ما هي الابراهيمية

 وإلى ما تهدف

ضرغام الدباغ

 

يتردد كثيراً في أجهزة الإعلام هذه الأيام مصطلح " الإبراهيمية ــ الديانة الإبراهيمية "، لفظة تتردد في الأجهزة الموالية للغرب والتي تتولى تسويق سياساته، وبعض الناس يحتارون في إدراك كنهة هذا المصطلح وأبعاده، ولكن وكالعادة هناك من رجال الدعاية (Propagande)  ممن يعتبرون أنفسهم إعلاميين (وهناك فرق بين المهنتين)، من يعملون كمروجين ومسوقين بالأجرة، فيحاول,k أن يشرحوا هذا الدين السياسي الجديد، ويعرضوا متانته وقوته، والفوائد التي ستجنيها شعوب الشرق الأوسط .... وهم يدركون تمام الإدراك أنه يعرض سلعة مزورة ... فشأنه شأن من يبيعون جوازات السفر المزورة في الأزقة المظلمة ..!

المصطلح الجديد يفتقر جداً ل (Argumentation)، ويفتقر أكثر للمحتوى لكي يمثل قوام "الأساس" (Fundament) .. فلنقل : الأساس النظري أو الروحي، وحتى كمبرر تلفيقي يمثل العنصر المساعد في تجرع هذه الفرية الكبيرة، التي حكمت على نفسها بالفشل لأنها فقيرة جداً ولا تمثل شيئاً يستحق الذكر.

يزعم مروجوا الدين الجديد أن إبراهيم بوصفه أب الأنبياء، فهو بهذا المعنى مثل نيكولاي غوغول الذي خرج الأدب الروسي من معطفه، فإن الأديان السماوية الثلاثة وهنا بيت القصيد : اليهودية والمسيحية والإسلام هي من أرومة واحدة ومن معطف إبراهيم ... حسناً وماذا بعد ... أن هذه الديانات هي واحدة  ... وهذا يتيح لي أن ألعب كما أشاء في هذه المنطقة ..!

بهذا المنطق المفلوج يسوقون السموم، منطق يصطدم فوراً ببديهيات واضحة كنور الشمس التي لا تغطيها عشرة غرابيل. إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تتحد أولاً الطوائف المسيحية الثلاثة: الأرثودوكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، والطوائف اليهودية المختلفة : مثل الصدوقيين واليهودية الهلنستية خلال فترة الهيكل الثاني، والقرائيين والسبتانيين خلال الفترة المبكرة واللاحقة من العصور الوسطى، وبين شرائح الطوائف غير الأرثوذكسية الحديثة. والفروع الحديثة لليهودية مثل اليهودية الإنسانية، أكبر الحركات الدينية اليهودية هي اليهودية الأرثوذكسية (والتي تضم اليهودية الحريدية واليهودية الأرثوذكسية الحديثة) واليهودية المحافظة واليهودية الإصلاحية.

وسؤال بديهي آخر يطرح نفسه، إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فهل هذا يعني أنها ستشمل العالم كله ...؟ وماذا عن البوذيين وعن الديناات الأخرى وهم بالملايين كالسيخ والهندوس ..!

ولماذا كل هذه المشاق .. إن كان لطرف من الأطراف فكرة تحالف سياسي أو اقتصادي فليعرض الفكرة وفوائدها ومحاسنها ... وكفى الله المؤمنين إبراهيميين أو غيرهم شر القتال ..!

وثمة وجهة نظر أخرى، إذا كان طرف، كان من يكون قد ضجر من انتماؤه الديني، فليعبر عن ذلك صراحة، ولماذا يطرحه ويسوقه للناس كمنهج جديد ..!

ولندخل لصلب الموضوع ... إذا كان طرف من الأطراف يريد أن يلتحم مع دولة واحدة أو عدة دول فليفعل ذلك وهذه لا يحتاج لا لإبراهيمية ولا لديانة أخرى، المطلوب فقط أن تكون النوايا مخلصة ولا تنطوي على رغبات دفينة بالتوسع.

سأسهل الأمر على من يريد التوسع ويتخذ من الأديان لافتة مهترئة ... هذه دروب مكشوفة، غير مخلصة، ومن يريد أن يطبل فليفعل بغير هذا الطبل ... فهذه طبول ممزقة، وقد حاولت جهات التوسع حتى بأسم الإسلام وفشلت، وهناك من حاول التوسع بأسم الطائفية وفشل ... وهناك قوى استعمارية عملاقة اقتصاديا وعسكرياً حاولت أن تتسع بواسطة التبشير وفشلت أيضاً، وسأقول أيضاً لم وضع هذه الفكرة برأسه أن القوى الاستعمارية القوية المتمكنة والتي غلفت التبشير بمغريات لا تقاوم، فأقامت المدارس، والكنائس، والمستشفيات، على شعوب فقيرة وبائسة، في أفريقيا وفشلت كذلك ... ولم تنجح إلا بجهد جهيد بكسب أقلية ضئيلة جداً وحتى هذه الأقلية الضئيلة رفضت الأستعمار والدعايات الاستعمارية.

ولينظروا إلى الفرس، الذين حاولوا أن ينجحوا بأستخدام أساليب مشابهة وأجمل، فمنحوا المنح الدراسية لطلبة يدرسون في جامعاتهم، وربما بعضهم في مجال الدراسات الدينية، وأخذوهم زيارات إلى إيران ليقضوا أيام " ممتعة " ولم يقصروا بالانفاق عليهم، وما نجحوا إلا بشق الأنفس مع أعداد قليلة لا تستحق هذا العناء .

أقول لكل من يحاول تمرير أفكار ومشاريع سياسية أن يتذكر هذه الأمثلة الحقيقية وهي ليست قديمة بل معاصرة، وليتذكر أن الدين هو نظام اعتقادي يحدده الإنسان بنفسه، بعلاقته بالخالق، وبالتالي الأمر أبعد ما يكون عن طريق إصدار مراسيم، وتشكلات فنية. وفي العمل السياسي تتجه حتى الحركات الدينية صوب العلمانية، ومشكلات المجتمعات اليوم لا تحلها توجهات دينية، بقدر ما يحلها تعاون اقتصادي وسياسي.

 

الاتفاق الجنائي

ضرغام الدباغ

 

لست ضليعاً بالقانون لأتفلسف بموضوعاته  وفروعه،  ولكني درست القانون بدرجة جيدة في الكلية على أيدي أساتذة أفاضل، وأعتقد أنهم بذلوا جهداً طيبا معنا، بدرجة صار بوسعنا  التعامل مع قضايا قانونية، وبالنسبة لي، أظن أنه صار بمقدوري أن أستخدم فهمي للقانون فيما أريد استخدامه في مجالات السياسة والعلوم السياسية.  وأريد بهذه المداخلة أن ألقي الضوء وأشعل مصباح التنبيه ...!

أخ وزميل بل هو صديق العمر، (اللواء الدكتور حكمت موسى) أنجز أطروحة دكتوراه رائعة قرأتها بدقة تامة، وتولى هو مشكوراً إيضاح فقرات منها لي، والأطروحة كانت بعنوان " موانع المسؤولية الجنائية " وحضرت دفاعه في جامعة بغداد ونال الدكتوراه بأستحقاقه وتميزه بدرجة الأمتياز حقاً وفعلاً، ومما يفيدني الآن ذكره واقتباسه، هو أن موانع المسؤولية عديدة منها: فقدان المتهم الأهلية العقلية (لأي سبب من الأسباب العديدة)، ومن مباحث موانع المسؤولية، أن يزعم موظف حكومي (جندي، شرطي، موظف حكومي) الدفع عن مسؤوليته بجريمة ارتكبها، أن " قادتي / مدرائي/ المسؤولين الكبار، أمروني بالقيام بهذا الفعل ". على أساس دفع مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبها.

 وهذه الذريعة (أمرني رؤسائي) تذرع بها مجرموا حرب ممن أتهموا بأعمال قتل منظمة، أو إبادة للسكان، أو تصفيات سياسية وعرقية، خلال الحرب العالمية الثانية، وأثارت هذه مناقشات عميقة في فقه القانون لدى محاكمة هؤلاء المجرمين أمام المحكمة الدولية في نورنبرغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية / 1945. وتوصل مشرعون وفقهاء من عدة دول عدم اعتبار مقولة " أمرني رؤسائي " ذريعة، ودفعاً غير مقبول عن إسناد الجريمة والتجريم، باعتبار ليست هناك سلطة قانونية تتيح فعل مخالف للقوانين، وبالفعل أدين عدد من هؤلاء ومنهم مدراء سجون وآمري وقادة تشكيلات قامت بتصفيات بشرية على أساس العرق، وأطباء أجروا تجارب طبية على أسرى حرب وسجناء، أو منعوا عن السجناء المرضى العلاج ليموتوا ببطء. فهؤلاء الأشخاص ومن يماثلهم بالفعل تنطبق عليه بدقة تامة جرائم القتل والإبادة. وأن هذا الصنف من الجرائم لا تسقط بالتقادم. بل ويمكن إثارة الدعوى على من قام بها حتى بعد وفاته ومقاضاته وتجريمه.

كنت قد كتبت غير مرة عن هذا الموضوع، ولكن ما أريد إليه الإشارة اليوم، هو مسؤولية، ليس من يصدر الأوامر فحسب (القائد، الآمر، رؤساء الهيئات)، بل ومن معه ممن يشترك في القرار بحكم المسؤولية الجماعية للقيادات السياسية والحكومية بالتكافل والتضامن،  ولا ينفعه قوله ودفعه أني لم أكن أعلم ما يدور، أو لم أكن أعلم أنها جريمة فهناك قاعدة فقهية معروفة " لا يجوز الدفع بجهل القانون "  فعلى سبيل المثال أن أعضاء أي حكومة هم في الواقع متضامنون متكافلون، في الأعمال والنتائج خيرها وشرها. وهنا أريد التنويه، أن الموافقون على القرارات في معرض الحاجة إليه، يشتركون في المسؤولية الجنائية بحكم الاتفاق الجنائي كفريق واحد وتحملون تبعات قاراتهم وما ينجم عنها.

ويسري في هذه الحالات أحكام وتفاسير الاتفاق الجنائي:

ــ إذا أتفق شخصان أو أكثر على ارتكاب مخالفة للقانون، جناية كانت أو جنحة، واتخذوا العدة على وجه لا يتوقع معه أن يعدلوا عما اتفقوا عليه، ويعد كل منهم مسئولاً عن اتفاق جنائي ولو لم تقع الجريمة موضوع الاتفاق،  أو خاب أثره .

ــ إن الاتفاق الجنائي، او كما يسمي الاتفاق علي إتيان جريمة معينة، إنما هو عبارة عن تلاقي إرادتين بين شخصين أو أكثر علي ارتكاب جريمة معينه، علي ان تكون لكلا منهما مصلحه فيها، ويقوم كلا منهما بارتكاب فعل او جزء من الركن المادي المكون للجريمة، وفي تلك الحالة، ويعد من اتفق علي أن يقوم بإتيان الجريمة، شريكا في الجريمة، أو شريكا في الركن المادي للجريمة  وبالتالي فأنه ينال عقوبة الفاعل الأصيل، إلا إذا نص القانون علي عقوبة اخري للشريك في الجريمة

 

ــ الاتفاق الجنائي هو اتفاق بعض الأشخاص على القيام بجريمة للوصول إلى هدف معين .سواء نفذ هذا الاتفاق أو لم ينفذوا وسواء أن وقع الفعل أم لم يقع .ومجرد الاتفاق على تلك الفعلة لا يعفي المتفقين من العقوبة، لأن ركن الجريمة قد تم اكتمل حتى  ولو  كان المتفقون يجهلون القانون الجهات المعنية لا تنتظر وقوع الجريمة  لكنها تسعى لمنع وقوعها.

هذه مداخلة قانونية أعتقد أنها تصلح لسوق كل من ساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بحكم وجوده ضمن مجموعة الاتفاق بالنتائج ومستحقاتها. وبتقديري من يمارس مسؤولية تنطوي على أفعال وإجراءات ينبغي عليه أن يتأكد سلامة هذه الأعمال وعدم تعارضها مع القانون بما لا يضعه تحت طائلته، لا سيما .. وهنا يستحق التأكيد أن :

 جرائم الإبادة والمنافية للحقوق الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وشخصيا شهدت محاكمات على جرائم مر أكثر من 30 عاماً على حدوثها،

وليس بوسع جهة أو دولة أن تمتنع من تسليم مدان بواحدة من هذه الجرائم.

أفترض أن هذه المداخلة ستثير العديد من ردود الأفعال، وهي غاية البحث وهدفه، إشاعة وعي قانوني بين الناس، وأعتقد أن ملاحظات ومداخلات الزملاء القانونيين ستكون ذا أهمية وفائدة خاصة.

 

 

 

اتفاقية استامبول ...

الأبعاد الحقيقية

ضرغام الدباغ

عقدت في مدينة استامبول التركية في 11 مايو/ أيار 2011، ، مؤتمرا تم التوقيع في ختامه على  اتفاقية، سميت " اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف الأسري". وتتضمن الاتفاقية:

 

التزامات قانونية، تشمل الاستثمار في التعليم.

وجمع البيانات حول الجرائم المتعلقة بالنوع أو الجنس.

وتقديم خدمات الدعم للضحايا.

وتم التوقيع على الاتفاقية من قبل 45 دولة أوروبية، فضلا عن توقيع الاتحاد الأوروبي أيضا كمنظمة.

وقد ورد في البيان أن المادة 80 من الاتفاقية تسمح لأي من الأطراف الانسحاب من خلال إبلاغ المجلس الأوروبي.

 

والاتفاقية لا تشير في مظاهرها العامة سوى إلى "حماية المرأة من العنف الأسري" ولكن شخصيات وهيئات وحكومات أوربية، وجدت أن مواد وفقرات الاتفاقية ومضامينها يمكن أن تفسر وأن توحي إلى أبعاد أخرى غير الأهداف الواضحة، كأن تكون مدخلاً يفضي إلى شرعنة دولية للجنسية المثلية واعترافاً بالأسرة القائمة على العلاقات الشاذة، وبالتالي اعترافا رسميا بوجود أجناس أخرى عدا " الذكر والأنثى "، وقبولاً متزايدً بعمليات التحول من جنس لآخر، وظهور أجناس أقرب للذكورة، وأجناس أقرب للأنوثة، وأصناف أخرى متوافرة اليوم في المجتمعات المنفتحة بلا حدود، حتى بدأت تعاني من ظهور مشكلات اجتماعية غير مألوفة من قبل (في تحديد الجنس)، معقدة في التعامل معها، وأن الانفتاح بلا حدود بدأ يظهر سلبياته ويتسبب في مشكلات عميقة، تفوق حدود مبدأ الحرية الشخصية بتصرف الإنسان بجسده، إلى منح سمات وأبعاد غير معروفة، ومنها ما يلحق الضرر بأعضاء في الهيئة الاجتماعية.

لماذا تثير الاتفاقية الجدل الآن؟

يرى المعترضون من المحافظين أن الاتفاقية تروج لحقوق وتعاليم المثلية الجنسية بما يتناقض مع ما يسمى بقيم الأسرة التقليدية، إلى جانب إشارة البعض لكيفية تعريف الاتفاق لمفهوم النوع باعتباره فئة موجهة اجتماعية إلا أن تلك المسميات المذكورة في الاتفاقية يتم استخدامها بهدف الإشارة للتأثير غير المتكافئ الذي يخلفه العنف على المرأة، فضلا عن عدم المساواة المتوارثة بين الرجل والمرأة. ولكن من وجهة نظر بعض المتشددين تتجاوز تلك المسميات الغرض منها، بالرغم من محاولات مجلس أوروبا المتكررة لتفنيد تلك الإدعاءات. ويقول الخبراء إن الاعتراض على الاتفاقية يعود لتصاعد المشاعر المضادة للغرب والمضادة للمثليين في البلدان التي تحكمها حكومات ذات توجه يميني.

 

وقد أثار الانسحاب التركي من الاتفاقية، الحديث عنها. ففي بولونيا،  شجع المسؤولين بالحكومة المحافظة في بولندا العام الماضي على الانسحاب من اتفاقية إسطنبول، والذي صدقت بولندا عليه في وقت سابق عام 2015. ووفقا لوثيقة رسمية مسربة ظهرت بتقرير صحفي منشور حديثا لشبكة البلقان للتحقيق الاستقصائي BIRN، تسعى الحكومة البولندية لاستبدال الاتفاقية بأخرى يمكن أن تمنع زواج المثليين والإجهاض.

 

كما تعمل كل من بلغاريا والمجر أيضا على البقاء بعيدا عن اتفاقية إسطنبول. فبالرغم من توقيعهما عليها، اتخذت الدولتان تدابير توحي بتخطيطهما لعدم التصديق على الاتفاقية. حيث وافق البرلمان المجري العام الماضي على إعلان برفض التصديق على اتفاقية إسطنبول، بينما أصدرت المحكمة الدستورية في بلغاريا في عام 2018 حكما بعدم دستورية الاتفاقية. وجدير بالذكر، تبقي سلوفاكيا كذلك الاتفاقية مجمدة.

 

ما مدى نجاح الاتفاقية؟

وترى باحثة بمنظمة أمنستي الدولية(Amnesty international)، أن من "الصعب للغاية" قياس الصلة المباشرة بين اتفاقية إسطنبول والتدابير التي يتم العمل بها على أرض الواقع لمواجهة العنف ضد المرأة. ولكنها أشارت للدنمرك كنموذج حديث، حيث مررت في شهر ديسمبر الماضي إصلاحات تعتبر ممارسة الجنس بدون رضا أي من الطرفين بمثابة اغتصاب، ما يعد تمسكا باتفاقية إسطنبول كواحدة من أسس تغيير التشريعات القانونية. ولكن الانتباه إلى أن "كيفية التطبيق عمليا هي مسألة أخرى" حيث أن القوانين تحتاج لتطبيقها على أرض الواقع. كما أطلقت فرنسا سياسة "الدبلوماسية النسوية" للدفع نحو تحقيق المساواة، مع اتخاذ اتفاقية إسطنبول كواحدة من ركائز السياسة الجديدة.

 

بدوره أكد وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، أن غياب الاتفاقيات الدولية لا يقلل من مسؤوليات الحكومة في حماية مواطنيها ضد كافة أشكال الجرائم. وأن "وجود أو عدم وجود اتفاقيات دولية لا يقلل أو يزيد من مسؤولياتنا لمنع أي شكل من أشكال الجريمة (المحتملة) التي سيتعرض لها مواطنونا". وأوضح وزير الداخلية التركي في بيان أن قوات الأمن تستمد صلاحيتها من الدستور والقوانين في ضمان السلام والنظام والأمن ومكافحة الإرهاب والسرقة والجريمة المنظمة والجرائم الإلكترونية والمخدرات والعنف وجميع أنواع الجرائم. ولفت إلى أن قرار تركيا انسحاب من الاتفاقية يستند إلى هذا السبب، وهي ليست الدولة الوحيدة التي لديها هواجس كبيرة بشأن الاتفاقية، فهناك 6 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي بلغاريا والمجر والتشيك ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا، لم تصدق على هذه الاتفاقية.وأكّد أن بولندا أيضًا اتخذت خطوات للانسحاب من الاتفاقية مستشهدة بمحاولة مجموعات المثليين فرض أفكارهم حول الجنوسة (النوع) الاجتماعية على المجتمع ككل.

وما يضعف الحملة الإعلامية ضد تركيا، أن انسحاب 6 دول (بلغاريا والمجر والتشيك ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا) لم يثر أي إشارة في الإعلام والاحتجاج الذي أثير بوجه تركيا، كما يستحق التساؤل هل تنهي الاتفاقيات العنف بصفة عامة، والقوانين لا تمنع الجرائم بل تعالجها وتعاقب القائمين بها، فالجرائم في العالم في تزايد رغم وجود القوانين، كما أن القوانين الجنائية تمنع الاعتداء على الرجال والنساء معاً وحتى الأطفال، والحيوان، فلماذا قانون خاص بالنساء ...؟

وعندما تبدي 7 حكومات أوربية قلقها من أبعاد أخرى في الاتفاقية فلماذا لا يحترم هذا القلق ...؟

والمدهش في الأمر أن المحتجون يعتبرون الحكومات التي وافقت على الاتفاقية يسارية، والرافضة لها يمينية ...! مع أن الأنظمة في الاتحاد الأوربية كلها ذات توجه اجتماعي متشابه وهي كلها أنظمة رأسمالية وغريب أن تعتبر المثلية الجنسية وتعدد الأجناس قضية يسارية ...! ففرنسا مثلاً لها قوات مسلحة نظامية تقاتل في عدة دول في العالم ... وتشن حملات عرقية ودينية ولكن بقبولها زواج المثليين تصبح يسارية ..!

هذه ملاحظات تنبئك أن في الأمر أكثر من الدفاع عن النساء إلى فرض واقع اجتماعي / ثقافي جديد تجعله أمراً مألوفاً

 

الثقافة العربية ...

هموم وشجون

 

د.ضرغام عبد الله الدباغ

        

القسم الأول

  

في مطلع الثمانينيات، عرضت القناة الثالثة في تلفزيون ألمانيا الاتحادية وضمن البرنامج الثقافي (أيرنا) ندوة مهمة كان يديرها ويحضرها عدد من العلماء الألمان من اختصاصات شتى، ينتمون إلى جامعات ومعاهد ومؤسسات علمية مختلفة. و موضوع الندوة الذي كان البحث يدور حوله هو :(حماية الثقافة واللغة الألمانية) واستطراداً، عناوين ومفردات أخرى مهمة في الحياة الاجتماعية الألمانية عن تسلل ثقافات أجنبية. فقدم العلماء الألمان معطيات دقيقة مدعمة بالإحصائيات تعبر عن حجم هذا التسلل الذي أعتبر في وقته كبيراَ. وخلاصة ما دار في هذه الندوة الهامة، أن اللغة والثقافة الألمانية تواجه خطراً لا يستهان به في المستقبل القريب والبعيد. وبعد عقد من السنوات أو أكثر، أعلن رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية في كلمة له أمام مؤتمر البرلمانيين الدولي : " إن على شعوب العالم أن تأخذ حذرها مما يسمى بالثقافة العالمية التي تدمر الهوية القومية والثقافية للشعوب". وبعد ذلك اتخذت الدولة الفرنسية قراراً بمنع استخدام ألفاظ أجنبية في اللغة الفرنسية، منها كلمات بسيطة وشائعة.

ويحق لنا هنا أن نتساءل ونتأمل، إذا كان شعباً كالألمان أو الفرنسيين، ذوو الأمجاد الثقافية والاقتصادية والحضارية عامة من جهة، وقربهم من ثقافة وحضارة الثقافات المتسللة إليهم من جهة أخرى، يطلقون نداء التحذير ويتخذون الإجراءات المضادة، فما هي إذن المخاطر التي تتعرض لها أمم وشعوب هي في الواقع شبه عزلاء، لهجمة شرسة عاتية لا تبقي ولا تذر..؟ وإذا كانت الثقافة العربية تمتلك دروعاً ومعدات، وحصوناً منيعة، ترى ماذا يمتلك شعب بوركينافاسو مثلاً كي لا يفقد آخر ما يمتلك من مقومات الهوية الوطنية والقومية..؟ وهو لا يمتلك أساساً الكثير منها بسبب تعرضه لقرون طويلة، ولا يزال، للاستعباد وعمليات صيد وقنص للبشر، ونقلوا إلى قارات أخرى واستخدموا كعبيد هناك، أو تجنيدهم في الحروب والغزوات الاستعمارية لضم وإلحاق بلداناً أخرى إلى ممتلكات الدول الاستعمارية.

ولابد لنا ابتداء أن نؤكد على حقيقة مهمة، هي أن النظام الرأسمالي الاحتكاري لا يهتم كثيراً بالثقافة بوصفها نشاطاً أو موقفاً إنسانياً رفيعاً يسمو فوق نزعات النهب والاستعباد، وما هو إلا نشاط ترفيهي يهدف إلى التسلية، وفي هذا المجال يكتب المفكر الأمريكي جون نيف الأستاذ بجامعة هارفارد قائلاً: " منذ ظهور الصور المتحركة والمجلات والراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، شاعت فكرة مؤداها أن مستوى النجاح مرهون بعدد القراء والمشاهدين، وهكذا أزداد توجه وسائل الإعلام إلى تلبية طلبات ذوي المستويات الثقافية المتدنية الأفق بحجة أن هذه هي الوسيلة الأنسب لزيادة الأرباح. وهكذا أبتدع أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها أناساً يتصفون بالفراغ الفكري والابتذال واللامسـؤلية والشـهوة".

وقد غدت هذه التوجهات في أعلى مراحل تطور نظام الدولة الرأسمالية الاحتكارية خطوة على طريق دمج شعبها وشعوب أخرى ضمن نسيجها الاقتصادي والسياسي بالدرجة الأولى، وتكريس هذا الواقع من خلال قطع الأواصر التي تعبر عن كيانها وشخصيتها المستقلة واحتقار تقاليد وعادات الشعوب الأخرى وثقافتها وموروثاتها. والهدف النهائي هو : استنزاف قدراتها الاقتصادية وقوة العمل البشرية فيها، وأخيراً جعل هذه الشعوب والبلدان توابع ثقافية وسياسية، ولكن بالدرجة الأساس، جعلها وسطاً اقتصادياً تابعاً لا يمتلك أي طاقة روحية للنهوض، وإسناد دور نهائي لها في تقسيم العمل العالمي، يتمثل بتصنيع المكونات الثانوية أو الإمداد بالمواد الخام، أو ميداناً لنشاطات الشركات المتعددة الجنسية، وهذا الأمر لم يعد مقتصراً على منطقة واحدة، بل أنه موجه إلى أقطار العالم كافة لاسيما البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي هذا المجال يكتب الأستاذ البرازيلي كاردوز قائلاً : " هناك تبعية تنجم بالنتيجة، وهي تبعية متعددة الأوجه، سياسية واجتماعية وثقافية وعسكرية، بل أن عمليات التشكل الطبقي والفئوي تتأثر بالتبعية بشكل بالغ " .

والحق فأن مثل هذه الفعاليات ليست جديدة تماماً في سياسة الدول الإمبريالية، فالشركات المتعددة الجنسية مثلاً وأساليب تغلغل رأس المال الاحتكاري معروفة منذ عقود غير قليلة، وكذلك فاعلية التأثير الثقافي الذي مارسته الدول الاستعمارية منذ فترة طويلة حتى في فترات ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، حيث انتشرت المؤسسات التعليمية الأجنبية حتى على مستوى الجامعات والمراكز والمعاهد الثقافية والإصدارات من الصحف والمجلات، بل وتأسيسها لدور النشر في مراكز عديدة من العالم منها أقطارنا العربية، وهذه المساعي مشخصة بدقة في العديد من البلدان النامية، وفي هذا المجال يكتب المفكر والمناضل الفرنسي / المارتنيكي فرانز فانون   عام 1961، أن الاستعمار يهدف في جملة ما يستهدفه، نسف المقومات الثقافية القومية للشعوب المستعمرة قائلاً : " أن الاستعمار لا يكتفي بتكبيل الشعب ولا يكتفي بأن يفرغ عقل المستعمر من كل شكل ومضمون، بل هو يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهده وأن يشوهه وأن يبيده. إن هذه المحاولة التي يحاولها الاستعمار إذ يجرد فيها تأريخ البلدان المستعمرة السابق على الاستعمار من كل قيمة، إنما تتخذ اليوم دلالاتها" .

 

وإذ لا يمكننا تجاهل الدور الثقافي والعلمي التنويري الذي مارسته هذه المؤسسات الأجنبية، لابد لنا من ذكر حقيقة موضوعية، أنها لم تكن تفعل ذلك هبة منها لوجه الله، بل كان ذلك ضمن مخطط له صفحاته التفصيلية، وبصفة خاصة، تسابق الفرنسيون والأمريكان والإنكليز والإيطاليون، فتنافست هذه الأطراف فيما بينها، بدا في بعض مراحله تناحرياً من أجل إحراز النفوذ الثقافي، وليس أدل على ذلك، حجم الأنشطة والفعاليات الثقافية التي كانت تتنازعها تيارات الثقافة الأنكلوسكسونية والفرانكفونية، بل وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، حيث كانت إيطاليا تسعى لتكريس نفسها كقوة عالمية، والهيمنة على البحر الأبيض المتوسط وجعله بحيرة (رومانية)، استخدمت بدورها المدفعية الثقافية، ففي العام 1937 سجل تصاعد مثير للدهشة رقم المدارس الإيطالية في مصر إلى رقم مدهش: 64 مدرسة تضم أكثر من 10 آلاف طالب، مقابل 39 مدرسة بريطانية تضم 5 آلاف طالب !

وجدير بالذكر والإشارة، أن هذه الأطراف الاستعمارية والإمبريالية أدركت أن أحد مكامن قوة الأمة العربية هي في لغتها، فسعت دون هوادة إلى إضعاف أسس هذه اللغة وذلك بمحاولات إبدال الحروف العربية باللاتينية كمقدمة لتحجيم تطورها و إضعافها وتلاشيها على المدى البعيد، فحاولت ذلك في مصر ولبنان وإلى فرض اللغة الأجنبية على عرب شمال أفريقيا وبلاد الشام وإحلال الثقافة الفرنسية فيها، والإنكليزية في مصر والسودان والأردن، وقد بذلت مجهودات كبيرة في هذا الاتجاه ولكنها باءت بالفشل الذريع.

ومن جملة مساعي الدوائر الثقافية الاستعمارية كانت ولا تزال تهدف إليه، إحلال اللهجات المحلية بدلاً من الفصحى، وكذلك في محاولاتها لإبراز خصائص معينة في ثقافة كلا قطر وتقديمها بشكل يطغي على الخصائص الموحدة للثقافة العربية وفي مقدمة ذلك اللغة العربية الفصحى، فسعت إلى الفينيقية في لبنان وإلى القبطية في مصر واستغلت في مساعيها المحمومة والخبيثة كل مكامن الضعف والثغرات، أو سعت بنفسها إلى خلقها وأحياء المتلاشي منها واستنهاض الضعيف فيها واستخدمت لهذه الغاية عناصر مرتدة، ارتضت للأسف التعاون مع الأجنبي لأسباب شتى، وربما أعتقد قسماً من هؤلاء(تحت ضغوط شتى) أن اعتناق ثقافة أجنبية وهي ثقافة القوى العظمى ستمنحه قيمة مضافة.

واليوم إذ تشتد أوار الحملة الإمبريالية بكافة صفحاتها على بلادنا العربية ليست الجبهة الثقافية إلا صفحة منها، ربما الأكثر بروزاً بسبب تعاظم شأن الثقافة العربية والمجتمعات العربية، وذلك أمر لا نخفي سرورنا منه، ففي مطلع القرن العشرين كان الجانب الثقافي يأتي بعد الجانب السياسي والاقتصادي لعدم خطورة المستوى الثقافي العربي آنذاك، وكان التناقض الرئيسي الذي يلهب قضايا النضال الوطني والقومي، هو الاحتلال المباشر بقبعته ذات الريشة الحمراء يختال في شوارع مدننا، كما كان النضال ضد الوجود العسكري والقواعد الأجنبية والكفاح لاستعادة ما استولى عليه الأجنبي من مصادر الثروة القومية، كان شعار التحرر الوطني والقومي في المرحلة اللاحقة، والعامل الثقافي كان خلف هذه الأوليات، ولربما أيضاً بسبب ضعف الوعي الثقافي، أو بسبب تعطش الجماهير إلى الثقافة بغض النظر عن مصدرها، فقد بدت براقة وجذابة، وكان مستوى تخلف المجتمعات العربية موجعاً، لذلك ارتضت الجماهير السم المداف في عسل الكلام.

وعلى الرغم من بدائية من بدائية التنظيم والوسائل والتنسيق، كان رد فعل الجماهير قوياً غريزياً وعفوياً في كثير من الأحيان، فقد أخفقت كل تلك المساعي على ضخامتها من جهة، وضعف جبهتنا السياسية والثقافية من جهة أخرى، وهزمت شر هزيمة ومن المؤكد أن لذلك أسبابه. ففي دراسة عميقة لحجم الفعاليات الاستعمارية في مؤلف هام صادر عن جامعة لايبزج بألمانيا عـام 1972، يشير إلى سعة الهجمة الاستعمارية وضخامتها مع غياب مواجهة حقيقية بينها وبين الثقافة العربية التي كانت قد نهضت لتوها في مطلع القرن العشرين من سبات عميق أستغرق قرون طويلة، منذ سقوط بغداد عام 1258، وفي غياب حكومات أو ممثلين للإرادة العربية، تصيب الدهشة كل من يطلع على تلك التفاصيل، إذ كيف استطاعت هذه الأمة الصمود وإلحاق الهزيمة بتلك القوى المتفوقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وهي على هذا النحو من الضعف والتشتت..؟ 

ليس هناك من إجابة منطقية سوى أن الجذر الثقافي لهذه الأمة بالغ العمق وثقتها بنفسها هائلة وعلى درجة كبيرة من الثراء الروحي والنفسي، يمنحها كل ذلك قدرة غير محدودة على امتصاص زخم الهجوم والتسلل الدخيل، في مطاولة أصابت بالعجز اعتي الإمبراطوريات والغزاة على مر التاريخ والعصور.

فالأمة العربية تمكنت بنجاح( ليس بدون تضحيات بالطبع)من التصدي للغزو المغولي والصليبي، رغم أنها كانت تعاني من التمزق والتشرذم وأفول مجد الدولة العربية الإسلامية، وفي مراحل لاحقة بدت فيها الأمة العربية أكثر انسحاقاً وتخلفاً وابتعاداً عن الاستقلال وركب الحضارة والتقدم عندما تعرضت لهجمات وغزو الدول الاستعمارية، أسبانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا لأي هجمة استخدمت فيها هذه القوى كل عناصر تفوقها العسكرية والاقتصادية، والثقافية أيضاً وكان تفوقها كاسحاً وهجومها عاتياً باغياً مدمراً، والجنة التي خيل للمستعمرين أنهم تمكنوا منها، هبت بوجوههم في كل مكان في ثورات وانتفاضات بطولية مسلحة، في ريف مراكش وفي الجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان وسوريا والعراق والثورات الفلسطينية، هذه الثورات لئن كانت جميعها(بدرجات متفاوتة)، تفتقر إلى التنظيم والتنسيق، وهي أقرب إلى العفوية منها إلى الانتفاضة المنظمة، إلا أنها عبرت جميعها عن حيوية الأمة ورفضها الاستسلام، وإذا لم يكن بوسع قوانا العسكرية إلحاق الهزيمة الحاسمة بالعدو، فأن الصمود والالتصاق بالأرض جعل من المستحيل اقتلاعنا، ومكوث المستعمر على تربتنا حلماً بعيد المنال، وإن الهجوم العاتي المتفوق لم يستطع أن يحول دون استقلال الأقطار العربية، وأن تخوض صراعاً دامياً من أجل صيانة الاستقلال وجعله حقيقة واضحة، ونضالاً لا يقل دموية من أجل تحرير الثروات الطبيعية ومصادر الاقتصاد الوطني من براثن المستعمرين وأن تواصل مسيرة تقدمها الثقافي رغم كل العراقيل والعصي التي وضعت أمام عجلة تطوره لتعج المدن العربية بعشرات الجامعات ودور العلم.

والهجوم الجديد الذي تواجهه الثقافة العربية والمتمثل بالعولمة ليس الأول من نوعه، وأغلب الظن سوف لن يكون الأخير طالما تعيش على وجه الأرض حضارات وثقافات متعددة، وهو في الواقع مواصلة لعمليات تأثر وتسلل واقتحام وغزو ودس، اختلفت فيه الأساليب والهدف واحد، من الهيلينية، إلى الغنوصية، إلى الإسرائيليات، إلى الشعوبية، إلى الفرانكفونية والانكلوسكسونية وعصر الاستعمار وما انطوى عليه من تحديات ثقافية، هذه المواجهات لم تتوقف قط، ربما اختلفت الأساليب والأشكال، وربما هناك تفاوت في قوة وزخم الهجوم إلا أنها لم تكف ولم يتغير الهدف الرئيسي فيها، ألا وهو جعل أقطارنا وثقافتنا جزء من نسيجها الاقتصادي أولا، ثم السياسي والثقافي وتدمير الملامح الرئيسية لهويتنا تسهيلاً لأهدافها الشاملة.

وفي الواقع، فأن الثقافة العربية قد ازدادت قوة وثراء من خلال مواجهاتها لهذه التيارات، فقد تفاعلت الهيلينية مع الثقافة العربية ويبدو ذلك بوضوح في أشكال العمارة والأثاث وفي النظم، وبالمقابل تلقت الهيلينية تأثيرات الثقافة العربية، بل أنها تحمل ملامح شرقية وعربية، كما استفادت الثقافة العربية من الثقافة المسيحية والغنوصية التي اعتبرت نفسها وريثة الثقافة اليونانية ـ وبالتالي مدارسها الفلسفية والفكرية الشهيرة.

والتيار الشعوبي الذي بدا قوياً عارماً في بعض مراحله أستفز أقلام المثقفين العرب لتفنيد أباطيلها ومزاعمها واعتبرت مساجلات الكتاب العرب في ردودهم على الشعوبية، قطع أدبية وسياسية نادرة، وقد استفادت من هذه المواجهات باتجاهين: فهي من جهة ازدادت خبرة وعمق وتجذرت في تربتها أكثر فأكثر، ومن جهة أخرى استفادت من التعرف بدقة على منجزات تلك الحضارات فازدادت رؤيتها شمولية وأتساعه.

وحيال هذه الظواهر، لابد من الإقرار بادئ ذي بدء أن الحضارات الكبرى وغير الكبرى في التاريخ، تحمل بذور انتقالها إلى مجتمعات أخرى، وهذا أمر لا نعيب ولا نلوم عليه أحداً فقد انتقلت معطيات حضارات أمم كثيرة عبر القارات والمحيطات وربما بوسائل بدائية وحلت في مجتمعات أخرى وربما بعيدة، ثم ساهمت بهذه الدرجة أو تلك في تطوير منجزات حضارية عديدة بين حضارات وادي الرافدين والنيل، وبين حضارات أميركا القديمة مثل حضارة الأولميك والأزتيك في أميركا الشمالية(المكسيك)، والأنكا في أميركا الجنوبية(البيرو). وهذه الظواهر التي تشترك مثلاً في نظام العبادات والتقاويم الزمنية وفي فن المعمار، أو في أشكال بناء السفن ونواح أخرى، فهناك افتراضات كثيرة عن رحلات بحرية بين أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين، كانت تتم في عصور سحيقة ويصاحب ذلك عادة انتقال سلمي لمنجزات ثقافية. والإنسان هو أخ للإنسان وهذا هو ديدن البشرية منذ خلقت ولكن !

 

من المؤكد أيضاً أن الانتقال الثقافي الحضاري قد أتخذ أبعاداً قسرية في عملية تاريخية لم تتوقف عبر الأزمنة. فالمحتل يجلب معه نظم إدارة واستغلال واستثمار للموارد الاقتصادية، ولكنه من جهة أخرى يجلب معه لغته وآدابها وأنماط عمارة وأشكال وصياغات ثقافية عديدة، وغالباً ما يحاول فرض هذه الثقافة بأساليب تسلطية، وبتقديرنا فأن حضارة أي أمة ما لم تكن إنسانية في جوهرها وتقدمية في مضمونها وسلمية في أساليب انتقالها، فأنها ستفتقر إلى المغزى والهدف الأخلاقي في عملية التشكل الحضاري وفي النتائج المادية لهذه الحضارة.   

وبهذا الصدد نذّكر، بأن هناك أجداث 60 مليون هندي من سكان أميركا الأصليين قتلوا في حملات إبادة منظمة على أيدي القادمين الجدد من أصل 80 مليون، كما قتل 200 – 100 مليون أفريقي أسود، اختطفوا وتعرضوا لحملات صيد البشر من أوطانهم الأفريقية ونقلوا كعبيد إلى أمريكا، ودفنوا في براري الغرب الأمريكي حيث استصلحوا الأراضي تحت سياط المستوطنين في عبودية جماعية.

نعم إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أمة كبيرة وقوية في عملية تاريخية فريدة من نوعها، تجمع فيها سكانها بين مجرمين ومغامرين وشذاذ آفاق وباحثين عن فرص حياة جديدة، استولوا فيها على أراضي تزخر بكل الثروات وأبادوا فيها شعوباً، ولكن هل استطاعت الولايات المتحدة تقديم مثل وقيم أخلاقية..؟ وإذا كان التقدم والثراء لا يخدم الإنسان وكرامته وأخلاقه فماذا إذن...

على هذا التساؤل يجيب البروفسور الأمريكي جون نيف قائلاً : " لقد أدى ذلك إلى تدهور في الذكاء الفطري والفطنة والذوق"  وكذلك: " وهكذا عولج كل ما هو مخجل وأخفيت حقيقته حتى صار شيئاً محترما ً" و " وكانت النتيجة تغليف العقل وتجريده من إنسانيته بوسائل متعددة إلى أن أصبح غير قادر على أن يقدم سوى القليل من الخدمة للإيمان والإنسانية والإدراك المتكامل للسعادة التي كانت لوحدها قادرة على تخليص الناس من أسر الدعاية ".

 

أخبرني مرة صديق دبلوماسي أوربي، كان قد عمل في سفارة بلاده في بروكسل (بلجيكا)، واستطاع أن يتتبع بدقة، أن أصل ثراء كل العائلات البلجيكية هي من حقب النهب الاستعماري في أفريقيا، فأي حضارة يمكن أن يشيد على القتل والتهب والسرقة وهذا ما يفسر انحدار مجتمعات الدول الاستعمارية إلى مستويات مرعبة من الجريمة والإباحية والمخدرات والفساد السياسي والحكومي والأمراض الجنسية الفتاكة.

نعم، لقد كانت منجزات عصر النهضة رائعة على صعيد العلوم وفتحاً إنسانياً كبيراً وكذلك الثورة الصناعية، إلا أن البورجوازية الأوربية في الدول الصناعية المتقدمة اتجهت إلى قمع الطبقة العاملة في بلدانها أولاً، ثم إلى سحق الشعوب من القارات الأخرى، فخرج المشروع من إطاره وهدفه الإنساني الذي بشر به رواد عصر النهضة. فالمستعمر الأوربي مضى إلى قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين وهو يحمل السلاح وليس شمعة ديوجين، ويفرض نظاماً استعماريا ينهب ثرواتها الطبيعية وليجعلها أسواقاً لمنتجاته من جهة، وليسلب من جهة أخرى تلك الشعوب مقومات وجودها، من لغة وعادات وتقاليد صناعية بدائية، وتطور كانوا قد أحرزوه ومكتسبات غير بسيطة في معظم الأحيان.

وبهذا المعنى، فالاستعمار يعد مسئول تماماً عن سحق حضارات وثقافات كان يمكن لها أن تتطور تطوراً طبيعياً وفد فعل الاستعمار ذلك من أجل فرض أنماط ثقافية وحضارية لتخدم أهدافه بأساليب القمع والقسر فنجم عن ذلك اختلال في أطراف المسالة، فلا الشعوب تمكنت من تطوير حضارتها، ولا المستعمر استطاع أن ينتقل بها إلى مستوى حضاري راق، وتلك لم تكن من غاياته، وجل ما تحقق هو مجتمعات شوهاء فقدت الكثير من أصولها وجذورها وألوانها، وخير مثال على ذلك هي أفريقيا ثم أميركا.

 

 

 

الحكمة في اتخاذ

 الموقف الصحيح ...!

 

ضرغام الدباغ

ما هو الموقف الصحيح ...وكيف نتوصل إليه ...؟

هل هو الموقف الذي يلبي مصالحك بصورة تامة ....؟

أم هو القبول بالأمر الواقع مهما كانت نتائجه..

أم أن السياسي المحنك قادر على صياغة الموقف الأفضل الملائم لمصلحته.

 

في الحالة الأولى :

تحقيق المصالح الوطنية البعيدة المدى / الشاملة، أو الأهداف التكتيكية، هو هدف العمل السياسي وأداته المختصة المحترفة الدبلوماسية. ولكن ينبغي فحص كل حالة بدقة تامة وتفصيلية بواسطة موظفون سياسيون مختصون وبالاعتماد على مصادر دقيقة. وتبلغ الدقة درجة رفيعة حين يتمكن السياسيون، والموظفون الأكفاء قياسها باستخدام الرياضيات العالية، ووسائل أخرى (تبادل الأدوار)، للتوصل إلى أدق نتيجة ممكنة، وعلى ضوء نتائج الفحص والجرد والتدقيق الذي يشترط أن يكون على درجة عالية جداً من النزاهة، والابتعاد عن الانفعال وأحكام الهوى، تصاغ قرارات تضمن (بدرجة كبيرة) نجاح المسعى السياسي. أو باستخدام المؤثرات. وفي حالات كثيرة تحول ظروف موضوعية وذاتية دون الحصول على كامل الأهداف، والأقل من النجاح التام هو أيضا نجاح، وإبقاء الطريق سالكاً للمساعي السياسية، هو أفضل من قطع الجسور وأقفال أفق العمل.

 

في الحالة الثانية :

القبول بالأمر الواقع ونتائجه، هي الفقرة الأخيرة قائمة الممكن، وهنا يقدم  السياسي / الدبلوماسي البارع أفضل ما يمكن من المساعي السياسية بأستخدام أساليب عمل مدروسة، حيال العجز التام في تحقيق موقف لصالحه، مستخدما ثقافته وتجربته وحكمته، في تقليص حجم الخسارة، بالقدر الممكن، ومحاولة تليين مواقف الطرف/ الأطراف المقابلة، وإعادة صياغة الموقف، والنتائج، بصبر وتوءدة، ولا تبخس قيمة أي جهد يمكن أن تصحح وتعدل النتائج النهائية مهما كانت بسيطة، فهذه الدرجة البسيطة ستشكل ربما القاعدة التي ترتكز عليها فعاليات ومجهودك اللاحق في تصليح الموقف.

 

نسعى ... البشر والحكومات لتحقيق الأفضل .. والأفضل هو كامل برنامجك ومخطط وما تريد، ولكننا وخاصة في عالم اليوم، يصعب الحديث عن مصالح لا تصطدم أو تحتك، أو تمس مصالح الآخرين، أفرادا كانوا أو حكومات، وحتى حين تسكن في شقة بمفردك،  سيسألونك أت كنت تحتفظ بكلب أو حيوان في الشقة، فذلك قد يزعج بعض الجيران بدرجة ما، وسوف لن يسمح لك بأن ترفع صوت التلفاز أو الراديو بعد الساعة العشرة مساء، وتصرف الأولاد يجب أن يضبط بدقة، والبعض يستاء أن حضرت وجبة رائحة الطبخ فيها نفاذة ...الخ إذن الحديث عن تحقيق برنامجك لا يخلو من صعوبات، وعليك ان تخطط لتنفيذ مشاريعك بصبر، ولا بأس على مراحل لكي لا تبدو طموحا جموحا حيال الآخرين فيخشونك ..!

 

المهم هو أن تحقق درجة من النجاح وتحقيق تقدم بأي نسبة من برنامجك، هو أمر جيد ..

 

مثال مهم : حسب الظروف السياسية والعسكرية المعروفة إلى أدت إلى نتائج سلبية، تمكن العدو من احتلال كامل شبه جزيرة سيناء البالغ مساحتها (60088 كم مربع)، بأستثناء جزء من محافظة بورسعيد الواقع على الجانب الشرقي لقناة السويس (بورفؤاد)، وتحديدأ منطقة صغيرة لا تتجاوز بضعة كيلومترات (رأس العش)، تمركز فيها فصيل من القوات الخاصة / الصاعقة (30 جندي)، وحين أراد العدو إتمام سيطرته على سيناء (1 / تموز / 1967) صمد فصيل الصاعقة وقاوم إرادة العدو ومنعه من تحقيق هدفه وتواصلت القوات المسلحة المصرية في المنطقة، وهذه المنطقة أصبحت رأس جسر لعمليات تحرير سيناء في حرب اكتوبر / 1973.

 

والسياسي الحكيم هو الذي يمكنه التوصل إلى قرارات صحيحة، أو خالية من الأخطاء أو قليلة الثغرات، ويستعين السياسي بخبراء ومساعدين ومستشارين اخصائيين، وصناعة القرار ليست عملية عشوائية، بل هي أشبة بورشة تمر بمراحل ودوائر عديدة وقد تستغرق وقتاً طويلاً، وبمرور الزمن، ومع ارتقاء الاقتصاد إلى مستويات عالية  من الأهمية في العلاقات الدولية، توجب على القادة السياسيون متخذو القرار السياسي، الاعتماد بدرجات أكبر على العلماء والخبراء، وإعطاء فسحة أكبر للمداولات، وتغيرات في المادة موضوعة التداول، فإن طرأ تحسن بدرجة معينة، تعدل الخطط المقابلة، وإن ازداد سوءاً فسينعكس على أوساط متخذي القرار ويبرر أتخاذ قرارات صلبة.     

 

التفكير في البدائل 

بتقديري أن للسياسي أن يلجأ للمناورة وأن يجيد ذا الفن ...!، بل من الضرورة أن يضع السياسي في حساباته مواقف بديلة، أن أصطدم قراره أو مشروعه بموانع صلبة، فمن أجل تجنب الفشل وتراجع العزم والاندفاع، فهو يمكن له أن :

يعيد صياغة مشروعه ليبدو أقل أستفزازاً للآخرين، وأكثر مقبولاً.

أن يقبل بتجزئة برنامجه إلى مراحل.

أن يطمئن الجهات التي تعتقد أن في برنامجه هواجساً لها.

أن يشرك آخرين في برامجه ويشعرهم أن من مصلحتهم دعم مشروعه.

أن يتقبل بواقعية أن مشروعه لا يلقى القبول اللازم، أو نه سيصادف عراقيل جمة، أو خسائر أكثر من الفوائد، لذلك عليه أن يحدث التغير المناسب لكي يكون مقبولاً.

أن يتقبل أخيرا إذا لاحظ أن أمام المشروع موانع جمة،  عليه أن يجد البديل، وقد يكون البديل لا يصيب الهدف، ولكنه سيقذفك بالقرب منه، أو يبقيك لاعباً في الميدان.

ليست هناك نظرية سياسية تقام على أساس " أنا والآخرين في الطوفان " مصالحي أنا ومصالح الآخرين في الجحيم "، هذه طروحات لا علاقة لها بالسياسة.

حتى إذا كنت قوياً بدرجة خارقة وقادراً بقواك الذاتية المادية والمعنوية، على فرض إرادتك، عليك أن تحسب ردود الفعل في الملعب وعلى أطرافه القريبة والبعيدة.

من الضروري أن يكون كل موقف يقام على أساس مراعاة القانون وقواعد التعامل، وحتى الجوانب الأخلاقية على ضعفها في عالم اليوم ...!

 

الدبابة الحديثة تزن 60 طناً من الفولاذ، طائفتها مكونة من 4 جنود مدربين تدريبا ممتازاً، سعرها بين 4 ــ 5 مليون دولار، تحمل 50 ــ 60 قنبلة متنوعة : خارق للدروع، مهداد ضد المباني والموانع، منثار ضد الأفراد، وربما أنواع حديثة، مزودة بمقدرة مدى، وجهاز للرؤية الليلية، بوسع سلاح خفيف يديره جندي واحد لا يستغرق تدريبه أكثر من يوم واحد، بقاذف لا يتجاوز سعره 100 ــ 300 دولار أن يدمر هذه الدبابة بصاروخ لا يتجاوز سعره 80 دولار. وعلى قائد الدبابة أن يحسب في عمله أن يطلق النار وينتقل فورا بلا تأخير إلى موقع بديل يختاره سلفا، وإلا فسيتلقى صاروخاً (بحشوة جوفاء) يدمره بعد ثوان.

المقاتل يفعل ذلك بحسه القتالي العالي، وربما بتجاربه، والسياسيون لا يرون ذلك عيانياً، لأن ذلك هو في فلسفة العمل السياسي لا يشاهد بالعين المجردة، ولا يدرك إلا بأستخدام العقل ..

 

لاحظوا (والأمثلة على الممارسات السياسية كثيرة)  درس ألقاه الرسول محمد (ص)، متنبئاً بحدوث فتن سياسية : " ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي ".

ثم لاحظوا الذكاء الفطري عند أعرابي نطقها بصراحة البدوي الذكي، حين سأل مع من هو في النزاع  بين علي بن أبي طالب ومعاوية: فقال "  اللقمة مع معاوية أدسم ، والصلاة وراء علي أتم، والجلوس على التل أسلم.

ولاحظوا موقف فرقة المرجئة من الخلاف بين علي أبن أبي طالب ومعاوية :

 

نرجئ الأمـور إذا كانـت مشـبهة            ونصدق القول فيمن جار أو عندا

وما قضى الله من أمر فليس له مرد            وما يقضي من شيء يكـن رشدا

أمـا عـلي وعثـمان فإنـهما                عبدان لم يشركا بالله منذ عبدا

يجزي علي وعثـمان بسعيهما                 ولست أدري بحق أية وردا

الله أعلـم ماذا يحضـران به                  وكل عبد سيلقى الله منفرداً

 

ثم لنلاحظ كيف تعامل أثنان من الرؤساء الأمريكان حيال قضية الحرب في فيثنام :

ــ عرض المستشارون في القصر الأبيض على الرئيس ليندون جونسون 1964، بعد أن تفاقم الوضع في فيثنام وغطست الولايات المتحدة في مستنقعات فيثنام، وكان على الطاولة خياران: الأول إما قصف فيثنام الشمالية (هانوي) بالسلاح النووي ولهذا تداعياته السياسية، أو تطبيق خطة تدمير شامل بالأسلحة التقليدية، وغير التقليدية الخفيفة (غازات، رش الكيمياوي على الغابات وإبادتها، قنابل عنقودية، ونابالم) وسميت الخطة النيران المتدحرجة (Rolling Thunder). فأعتقد الرئيس جونسون أن الخيار النووي الأول ستكون له تداعياته الخطيرة جداً غير مرغوبة، فلجأ للخيار الثاني وجرى تنفيذه.

ــ حين تسلم الرئيس ريشتارد نيكسون (1969) كانت الحرب في فيثنام في أسوء مراحلها، تأكد الرئيس بفطنته (وهو من أكفأ الرؤساء الأمريكان) أن لا حل عسكري لهذه الحرب، وأن تكاليفها باهضة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فأيقن أن الأمر بحاجة لاتخاذ قرار كبير، وصعب، وتسليم بالحقائق، وهو ما عبر عنه بالتفاوض في باريس مع الثوار الفيثناميين (1973)، والانسحاب من هذا البلد.وهذا الخيار على صعوبته، إلا أنه كان الممكن الوحيد، وتم الوصول إليه بطريقة سياسية / قانونية. واتخاذ الموقف الصحيح العب، هو موقف كفوء وذكي، ويدل على حكمة وبعد نظر، خير من المضي في طرق المهالك.

 

 

الانتخابات المقبلة...

اتجاهات وأبعاد

د. ضرغام الدباغ

الانتخابات لو جرت ...أقول لو جرت لأننا نسمع تسريبات من هنا وهناك فكرة تأجيل الانتخابات، ويبدو بوضوح أنها، أقصد الانتخابات، ليست مهمة بصفة جوهرية، ففي العراق لا يحتاجون البرلمان إلا حينما يحتاجون تمرير قانون قذر ليضعوها بلحية النواب الكسبة على باب الله المساكين الذي يفعلون كل شيئ من أجل أن يأتي الراتب في آخر الشهر مع الامتيازات الأخرى اللازمة في بيع علني للضمير ... فالنواب يهرولون إلى قوائم من يطلق عليهم مفاتيح الموقف، وهؤلاء يفحصون الأمر ليس من قبيل كفاءة ونزاهة المرشح، بل يتأكدون من سهولة إذعانه وطاعته، وسكوته عن التفاصيل المحرجة.

ولرئاسة المجلس هم يحتاجون إلى مهرج يلهي الجمهور بين الفقرات التي تقدم على السيرك، مهرج يقبض راتبا دهيناً، لا يأتي بكلمة الكرامة على طرف لسانه، شغله أن يكون " ملهية الرعيان "، هذا العصفور النطاط الخبيث الخنيث الذي يعرفه أهل البوادي وتضرب به الأمثال، ومن أصول المصلحة أن لا يبقى في منصبه أكثر من دورة واحدة إلا إذا أثبت قدرات متميزة ليست السيادة والكرامة من بينها، فماذا يفعل إذن هذا المشوه، الذي يتحول أحياناً إلى حاجوز بين المتكافشين والمتكافشات من الدلالين والدلالات ... وقد يناله بطل ماء، أو علبة كلينيكس ... وعليه أن لا يغضب ولا يزعل فبين الأحباب تسقط الآداب وهو جالس في مكان، تبدو المقهى البرازيلية القديمة بالمقارنة أعلى منها شأنا ومقاماً .

الجولة المقبلة للانتخابات في الوطن الأسير، في بلد مستباح إلى أقصى حدود هذه الكلمة، ومن أبسط مظاهر الاستباحة هي وجود قوات مسلحة، بل وترتدي ملابس عسكرية وتحمل علامات وإشارات طائفية على الكتف، وينتظمون في وحدات عسكرية، ولهم من الأسلحة الساندة والساترة حتى الصواريخ والطائرات المسيرة الدرونز (موضة العصر)، ولهم سياسات وأهداف تختلف كثيرا أو قليلا عن سياسات الدولة. بلد في سجون قطاع خاص، وفيه محاكم، بلد يقيم أحكام الإعدام حتى خارج المحاكم الهزلية، فماذا نقول أكثر عن بلد فاقد للسيادة ...!

إذن لماذا الانتخابات ... قيل عن البرلمان الشرعي المنتخب في البلدان المحترمة، أن بوسعه أن يفعل كل شيء عدا تحويل الذكر لأنثى، فتشنا في زوايا المنطق بعد محاولات لا تخلو من الصعوبة البالغة عن مصلحة لهذا المجلس البائس، وحاولنا أن نكون موضوعيين لأقصى درجة، فلم نجد سوى وظيفة واحدة هي أن يكون المجلس كما يقول البغداديون " ممسحة زفارة " وما هي ترجمة هذا المثل في الواقع ..! هي أن يشتغلون في صياغة قوانين تسهل السرقات، وتغطية عورة النظام بأغطية لكي تكون لائقة بحكومة ترتدي العمائم، وتشريع الظلم ... ولهذا يجب أن تكون لرئيس المجلس وأعضاؤه قابلية بدية خارقة في الرقص على الحبال والتخلي عن مصطلحات بائدة : كالعيب والناموس ... والإتيان برجال ونساء درسوا أصول الفشار والردح، ودك الفج ...! (الثرثرة).

كيف وصل السقوط إلى هذا المنحدر، وإلى هذه الدرجة من الانحطاط ..؟

ابتداء، الغزو والاحتلال عمل منحط وليس  تصرفا راقياً، فهو عمل غير قانوني وينطوي على تخريب ووسائل عنفية،  وسيبحث عن عناصر تتعاون معه من أهل البلاد، ولم يكن لأحتلال العراق أهداف تنموية وسياسية متقدمة،  والمتعاونون مع المحلتين هم الفئات المنحطة  وحثالات المجتمع، فماذا  يمكن أن ينجم عن  بداية منحطة، بأيدي عناصر منحطة وحثالات ..؟ ناهيك عن أن الاحتلال بأطرافه الثلاثة كانت مصممة على تفكيك وتدمير العراق لأنه بلغ علميا واقتصاديا واجتماعيا حداً ما ينبغي أن يصله، لذلك كان التدمير على رأس جدول الأعمال.

لمجمل هذه الأسباب الخارجية والداخلية، لم تنجح العملية السياسية، وإذا كان التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مستهدف أساساً، فإن برامج الحكومات المتعاقبة خلت من أي إشارة لمعالجة حقيقية لتراكم هائل من الإشكالات على كافة الصعد، والبرلمان في دوراته المتعاقبة لم يتمكن بل لم يتطرق ولو تلميحاً إلى إشكالات رئيسية هي تعتب من مقومات الحياة الأساسية وهي : التعليم، الصحة، الإسكان، المواصلات، الطاقة. بل تم تدمير ما كان موجوداً من أساسيات هذه القطاعات، والتراجع فيها بلغ حدوداً صعبة.

الفساد في البلاد لوحدة يمثل عقبة لا تقل خطورة عن الاحتلال. فالفساد في العراق اليوم ليس محصوراً في مجال معين، بل قد غدا للأسف جزء من الحياة الاقتصادية في البلاد، والفساد الذي يمثله موظفون فاسدون، قضية يمكن معالجتها بسهولة (نسبياً)، لكن ما يعانيه العراق اليوم هو فساد هيكلي (strukturell korrupten)، وعلاجه يستدعي تطهير شامل وواسع النطاق وهو ما سيدخل البلاد في أزمة، وعملية تطهير كهذه لا تقوم بها سوى حكومة قوية، ومؤسسات متينة، وهذه مستحقات لا تستطيع أن توفرها أنظمة منبثقة من بيئة سياسية فاسدة أصلاً، ومن ثم فالأمر ينطوي على توجه سياسي / اقتصادي / اجتماعي، من المستبعد أن يكون بوسع سلطة منبثقة من رحم العملية السياسية التي تدور من بعد الاحتلال. 

لننظر للأمر من زاوية أخرى ...  هناك عدة عناصر متلاحمة ببعضها بشدة، المجلس النيابي ليس مكرمة من أحد، فهذه فكرة مرفوضة، وجميع السلطات تصغر أمام سلطة المجلس، الجميع موظفون يمكن إقالتهم أو تعينيهم، إلا البرلمان، وهو ليس قطعة ديكور وزخرفة لتجميل المشهد، وجميع السلطات الأخرى يمكن الاستيلاء عليها وتسخيرها في خدمة هدف معين إلا البرلمان، فهو أكبر من أن يدخل في جيب شخص أو جماعة. البرلمان يتقدم العناصر الأساسية التي لا يستقيم وجود الدولة بدونها: القضاء والحكومة.

عناصر أساس الدولة ووجودها تشكل منظومة واحدة كمؤسسات قيادية، أو كفروع، وإن أي خلل في فقرة منها، يضعف كيان الدولة ويعرضها لمخاطر جسيمة، بل وربما يعيق عمق سائر المؤسسات الأخرى. ولكن كيف يمكننا أن نتخيل وجود دولة سيادتها في مهب الريح، الفساد قد أنتقل لمرحلة من العلنية، قوى مسلحة تعمل لمصلحة أفراد وجماعات ودول أجنبية، سجون غير حكومية، وتنفيذ لأحكام خارج المحاكم، اختطاف لمواطنين ونقلهم خارج البلاد، مناطق واسعة من البلاد خارج سيطرة السلطة، جهات تستوفي ضرائب علناً، هل أوضاعا كهذه يمكن أن تسفر عنها برلمان ...؟ وماذا يمكن لبرلمان كهذا أن يفعل ...

عضو البرلمان يعلم متأكداً مقدر راتبه وما ينال من إكراميات وبقشيش، وحمايات وحراس وسيارات، لكن بشرط التزام الأدب وأتباع فلسفة " التطنيش " وهذه مفادها أن يكون لك أذن من طين وأخرى من عجين ... وأتباع الحكمة المعروف " لا أرى ... لا أسمع ... لا أتكلم ".

ناموا ولا تستيقضوا ما فاز إلا النوم

 

 

الواقعية  ...  سيدة المواقف

ضرغام الدباغ

مع أن أعتبار نحن في مرحلة هدر للوقت والجهد، وأن النظام الحالي العراقي ليس بنظام ويصعب إطلاق وصف محدد عليه، هذا ما يجمع عليه الأغلبية الساحقة من العراقيين، بما ذلك فئات واسعة من الجماعات الحاكمة.  ونسمع ونقرأ الكثير جداً من كافة الأطراف أقاويل شتى، والقاسم المشترك الأعظم بين المتحدثين والكتاب والمعلقين هو ضياع تلمس الوجهة Concepttion) ) أو البوصلة، وقد فات معظمهم حقيقة أن الموقف في العراق بل وفي عموم المنطقة، يمر بمرحلة كالمرجل في أقصى درجات احتمالة ... وأن الفدرالية والكونفيدرالية، والأقاليم، والتقسيم والتشظية والتمزق والتشرذم هي ليست ضرباً من ضروب التشاؤم، بل من الأمور المطروحة على بساط البحث والمداولات كأحتمالات ...! فيما  يتحدث الجميع عن الديمقراطية وكأنها خيار مطروح في متناول اليد بباب البيت ..! لا أحد يريد أن يقتنع أنك تودع الديمقراطية وتستقبل الطغيان والتفرد وصولاً للديكتاتورية بأشكالها الناعمة والدموية، مباشرة بعد عبورك للبسفور وتضع قدمك في القارة الآسيوية الخالدة ..!

منذ 64 عاما وأنا أشتغل وأقرأ وأعمل كسياسي وأدرس السياسة للطلاب، لم أشاهد ولم ألاحظ لليوم أحدا يسعى للديمقراطية، ولكن الناس يتراشقون بهذه الكلمة كنوع من المكائد والتعجيز في الناش، نسيم من الديمقراطية (أقصد بالديمقراطية دولة القانون المستقرة) عشناه في العراق في العهد الملكي، دفعت العائلة المالكة ثمنه من دماءهم وحياتهم، وسحلناهم وعلقناهم عراة في الشوارع، بلا تحقيق ولا محاكمة، هذا ونحن أكثر من يتشدق بالدين وبالحلال والحرام. وأراهن أن ثلاثة أرباع من يتحدثون بالديمقراطية لا يعلمون ما هي الديمقراطية، معظمهم يعتقد واهماً أنها تبادل سلمي للسلطة فحسب، طيب ألم يصل موسوليني في إيطاليا للسلطة بالانتخابات (في العشرينات)، وكذلك هتلر في ألمانيا(في الثلاثينات). ألم يصل شخص مثل ترامب للسلطة في أميركا بالانتخابات، وكاد أن ينالها مرة ثانية بالعنف (الديمقراطي)، لولا تدخل ديمقراطي من العسكر، وقبله أحمق سخيف شبه أمي يدعى جورج بوش الأبن، ألم يحكم بريطانيا العظمى (مهد الديمقراطية... ومهد الاستعمار ...!) شخص كذاب محتال أسمه بلير، يتضمحك بخفة ويعترف بقيامه بجريمة لا داع لها، أدخل البلاد باعترافه في حرب لا داع لها ..! وفي سلة الدول الرأسمالية (الديمقراطية)  1287 تجربة نووية وهي المتسببة بتلوث العالم وانهيار النظام المناخي.

الولايات المتحدة: أجرت 1032   تجربة بين عامي 1945 و 1992.

المملكة المتحدة : أجرت  45      تجربة بين عامي 1952 و 1991.

فرنسا            : أجرت  210    تجربة بين عامي 1960 و 1996.

وفي سجل احتقار الديمقراطية هناك  الكثير جداً من الأحداث، أحدثها هو التآمر ليل نهار على الرئيس التركي الفائز ديمقراطياً لأنه لا يوافق مصالحهم.

إذا وافقتموني على هذه النظرية (وقد تحدثت عن وقائع مادية)، ستصبح معها الضمة والشدة في الخطاب، وأبوك لم يسلم على أبي، وفلان كان يقود اللوري ودهس  في طريقة (س + ص) وسائر الطروحات الشخصية وشبه الشخصية من هذا القبيل، تصبح من نوافل الكلام وتوافه الأمور، وينبغي أن نضعها جانبا، رغم أن بعضها مؤلم، ولكننا حين نناقش قضية حياة أو موت إنسان على طاولة العمليات، والجميع يعلم أنه ليس بإنسان ... بل وطن .  تصبح قضية ثانوية.

الجميع يطرح الحل المثالي الأقصى، فيما يدور البحث الواقعي عن الممكن، وقبل أيام كان يحدثني صديق ويطرح الحلول الضخمة المثالية والحد الأقصى،  وهو لا يملك بجيبه أكثر من قلامة الأظافر ... فليتفضل مشكورا من لديه حل أفضل يوفر كامل القوة والسطوة والبأس .. حل مضمون وليس مغامرات سندباد .... نحن نتذابح بوحشية تحسدنا عليها حتى الضواري، العراق يمضي بسرعة إلى التدمير والتلاشي، ونجد من يعترض على مفردات تافهة لا معنى لها سوى البحث عن ذرائع ... لكي أقول لا فحسب... وهل يدرك من يقول لا ماذا يكمن خلف هذه العبارة ... هل لديه حلول ذهبية وماسية لمريض يلفظ أنفاسه ..! نحن بحاجة حتى لعربة طنبر يسحبها حصان، وهناك من يشترط " لا ..ما أريد .. إلا بسيارة إسعاف مرسيدس موديل 2021 " . هذه مهزلة مثيرة للسخرية، والمؤلم فيها أنها واقعية.

كنت أحادث صديق عاش كل حياته في ألمانيا  منذ أن كان عمره 10 سنوات، وله ميل للشيوعيين، عن دور غورباتشوف في تفكيك الاتحاد السوفيتي فاجئني بالقول " غير .. صدام حسين " ولما بهت وتصورت أني لم أسمع أو أنه يمزح، فقال " أي لو..ما صدام ما سقط الاتحاد السوفيتي ...... !".

نعم هناك استعمار وإمبريالية وصهيونية وقوى معادية لنا .. ولكني أعتقد أن جوهر المشكلة الأساسية كامنة فينا نحن ...! الواقع الموضوعي صعب، ولكن نحن لا نتعامل مع  الأحداث بمستوى الأحداث ... السلطة في بغداد تقبع في درجات منحطة للغاية، هم فعلاً حثالة المجتمع العراقي، طيب ولكن ماذا يمنع أن تتفاهم سائر قوى الشعب العراقي وفيها شخصيات سياسية وعلماء وسياسيين محترمين ... هذا سر من الأسرار ، هل هو بسبب ارتفاع منسوب ودرجة الأنا عند الفرد العراقي .. نعم، هل أن الثقة اهتزت بين الناس .. نعم وهذه أيضاً، هل بسبب تداخل واختلاط الرؤية، نعم ... ولكن السياسة هي فن الممكن، وليس فن الحديث وزخرف الكلام...! أنت تريد خارطة الوطن كله، وأمامك سلطة مدعومة من المحتلين غير قادرين السيطرة على محافظة واحدة ..! لا أدري ماذا نحتاج بعد لنكون واقعيين ..! وأعيد هنا مثل ألماني كنت قد أورته قبل فترة ..

 Ich habe viele Wünsche, aber leider nicht genug Geld .....! "  "

لدي أمنيات كثيرة ... لكن للأسف ليس الكثير من المال ".

كثيرون لديهم أفكار رائعة مخلصة، ولكن العبرة تكمن في التطبيق، فلنتحدث رجاء عما هو ممكن، فمن الأفضل أن أشتري دراجة بخارية، أو حتى هوائية بقدراتي، على امتطاء رولزرايز فخمة في الأحلام،  الحديث في الخيال العلمي سهل في التخيل،  وللفرجة الآنية فقط،  وفي بعض الأفلام يكتبون ملاحظة في بداية الفلم ونهايته، جملة موجهة للصبيان والفتيان،  " رجاء لا تقم بهذه الحركات فهي مميتة ".

بعد هذا البؤس الذي نعيشه نحن لا نستطيع التفاهم على حتى المسلمات ... وعلى أبسط الأمور، لأن كل واحد منا يعتقد أنه زعيم وقائد، وعبقري ومفكر وفيلسوف ومؤرخ لا يشق له غبار، أليس هذا ضرب من الجنون المطلق ..! هناك عناصر وعوامل عديدة يمكن البناء عليها ولكن هناك عجز غير مفهوم ... لنكن واقعيين فليصعد البناء لحد الشبابيك والباقي يصير خير ... أحسن من النوم في العراء .... نحن في العراء الآن ... لا توجد رواتب للشهر القادم، العراق مهدد بأنهيار كامل ....

حالتنا تشبه : قطعة الأرض موجودة، الطابوق والحديد والسمنت موجود، المهندس حاضر والعمال المهرة واقفين بالاصطفاف ... والمال موجود بوفرة ... ولما لا يصعد البناء ...؟

 

سؤال عويص .... لكن يستحق الإجابة وليس للترك ...!

 

 

 

فلم لابد من مشاهدته

ضرغام الدباغ

" تحت الرمال " هذا عنوان الفلم الألماني، وأنا أعتقد أنه في مصاف أعظم الأفلام في تاريخ السينما .. في هذا الفلم إعادة تثقيف لمن عبأوا رؤوسهم بالخرافات والحقد والكراهية ... هذا الفلم يعيد النقاء لمن غادرت أرواحهم النقاء الإنساني البشري، هذا الفلم يصحي من كان سادراً في غيه .. يستعذب الوحشية والجهل وتناول اللحم البشري ...  هذا الفلم هدية مني ... للمفكرين ... للمثقفين العراقيين والعرب ... فلتكن مهمتنا جميعاً التوجه لشبابنا وإنقاذهم من منحدر الوحشية والعنف والدموية ... ألا يكفي .. ألا يكفي .. لقد ولغنا بدماء بعضنا أكثر مما تفعل الذئاب المصابة بالسعار .. والحيوانات المتوحشة ... المنفلتة من شرع الله والقانون، وناموس الانسانية .. وفضائل البشرية ... كفى لا تقتلوا بعضكم بعضاً ... سجل أسمك في قائمة البشر ... ولا تكن مع الوحوش ...

الألمان النازيين في الحرب العالمية الثانية ارتكبوا الأهوال ... نعم هذا صحيح، فعلوا كل ما هو معيب ومخجل ... نعم لا جدال ولكن ليس كل الألمان كذلك ... بل أن الشعب الألماني قاوم النازية وقدم مئات ألوف التضحيات في الشجون والمعتقلات، الألمان شعب راقي أنتج للعالم كل ما هو جميل وممتع، كثير جدا من الأشياء البديعة (ومنها هذا الفلم) هو صناعة ألمانيا، الكثير جداً من أهم الأدوية المنقذة للحياة هي من أيدي ألمانية، وهذا الدواء الذي نكافح به كورونا ألماني، الألمان شعب عاطفي مظلوم سابقا ولاحقاً وحالياً ... سلبت منهم أراضي غالية، بما تعادل مساحة دول، نعم كانت الفاشية لطخة عار، جلب الخراب والدمار للبلاد، ولكن الشعب الألماني عرف كيف ينهض، وكيف يعيد بناء بلاده، وكيف يعود إلى ركب الإنسانية بل وأن يكون في الطليعة ...

اليوم يخاطب العقل الألماني الراقي، المثقف الفنان، يخاطب من يأخذ (س) بجريرة (ص) ويقول للجميع .. لا تحاسبوا أبرياء بما فعله المذنبون ... وهذا الفلم أني أجزم سيدفع بالكثيرين إلى مرتبة جديدة .. وأقول للجميع : رجاء ... رجاء .... تفاعلوا من الكلمة الطيبة .. تفاعلوا مع الصورة الجميلة ... انفعلوا مع الفن الراقي .. أنصت لضميرك .. وليس لنداء الثأر والوحشية ... كن مخلصاً لعمق ذاتك الإنسانية.

شاهدوا هذا الفلم بأنتباه .... وراقبوا حتى قسمات وجه الرجال والأطفال ..

الرجاء من الجميع مشاهدة هذا الفلم

سيزيدك شيئاً ... سوف لن تنساه مطلقاً طيلة حياتك

فلم سيجعلك تتأمل كثيراً

شاهده أرجوك قوى فيلم الألماني على مر التاريخ روعة The most powerful German film HD 2017

https://www.youtube.com/watch?v=u6qV3G7ChUw

 

ظواهر سياسية

 أولاً : التكتلات والانشقاقات

 في الحركات الثورية

ضرغام الدباغ

 

كنت قد كتبت في أوقات متفرقة، تقارير عن موضوعات سياسية اعتبرتها هامة، كما تضمنت جانباً من أعمالي المؤلفة نصوصاً، أو هوامشاً وملاحظات على أعمال قمت بترجمتها. ومن تلك أعمال تتناول ظواهر سياسية مهمة، وذات تأثير مباشر على وعي الجماهير، إلا أنها للأسف ما زالت تختلط بدرجة مؤثرة في خلق الوعي النهائي للجماهير، ومنها مثلاً عدم الاتفاق بصفة تامة حتى يومنا عن جوهر أحداث مصيرية مر بها وطننا العراقي أو أمتنا العربية، وما زال الطابع العاطفي لبعض تلك الأحداث يطغي على كتابات حتى السياسيين، والأحزاب السياسية، ومن تلك مثلاً عدم التشخيص الدقيق لحدث معين بوصفه ثورة أم انقلاب عسكري، وعدم التميز الدقيق بين معاهدة / أتفاق، وتحالف، وبين تحالف سري والمعني العلمي للمؤامرة، والفرق بين جيش وقوات مسلحة، ناهيك عن معرفة الفرق الجوهري بين دولة وحكومة. وما هي نظرية الحكم التي يقوم عليها أي نظام سياسي .

 

ولابد من التنويه، أن مثل هذه الظواهر تكون نادرة جداً في المجتمعات الأوربية، والأسباب كثيرة في مقدمتها، تقدم طبيعة العمل السياسي إلى مستويات راقية، والوعي العالي وانتشار المعرفة للجماهير التي يصعب غشها وخداعها، والمستوى المتقدم لأجهزة الثقافة والإعلام. وشبه انعدام للأمية والأمية السياسية، يقود إلى تحديد دقيق للمصطلحات السياسية وطريقة التعامل بها.

 

ونفتتح سلسلة هذه التقارير بموضوعة مهمة هي التكتلات والانشقاقات في الحركات الوطنية والثورية، وهي تمارس في الساحة السياسية والكثير منها يفشل ويتلاشى بعد عدة سنوات، ولكن دون أن يتساءل الوسط الثقافي / السياسي لماذا فشلت تلك الحركة الثورية التي كانت ترفع شعارات رائعة ..هللت لها الجماهير من فرط توقها للعمل الثوري الصادق وتوجه صادق نحو أهدافها. وضرورة أن تدرك القواعد وجماهير الحزب والجماهير الشعبية العوامل الحقيقية وراء التكتل (الفلاني) الذي يدور في حركة ما وإلى ما يهدف حقيقة.

 

من المتوقع جداً، أن تعمد الدوائر المعادية لبلادنا وأمتنا (وليس من الصعب معرفتها)، أن تتصدى للحزب أو للحركة (س) وتبذل جهداً كبيراً في التآمر والتكتل ومحاولات أنشقااق ....وقد تفشل محاولة، فيقوم بأخرى، ويزج بالاحتياطي الأخير ويضطر إلى كشف عناصر بذل جهداً في كسبها وغطى عليها لسنوات ....! والجهة المشغلة للتكتل لا ترعى ذمة ولا شرف للمشاركين في التكتل، المشغل هو ضابط مخابرات لا وجدان ولا ضمير لهل، فما يهما هو أهدافها ليس إلا.

 

من المؤكد أن الأسباب ذاتية وموضوعية.. نعم، ولكن أين يكمن الذاتي وأين يقع الموضوعي منها. وبتقديري أن هذه أسئلة مهمة جداً، وقد يتوقف على فهما الدقيق تقيمنا النهائي الصائب الموضوعي لتلك الظاهرة السياسية أو مرحلة برمتها. فمن حق الشعب العراقي أن يعرف بعد مرور قرن على الاستقلال معرفة دقائق وجوهر التحولات المفصلية في تاريخه المعاصر، وما حدث خلال هذا المسيرة. معظم التحولات كانت نتائج لانقلابات عسكرية وخلافات سياسية جوى التعامل معها خطأ، وكل هذه جرت وتجري لأننا نفتقر إلى نظام سياسي جامع مانع. مهم جداً أن نعرف الأحداث بدقة .. أنقلاب أم ثورة ؟ مهم جداً أن يتمكن أي مواطن أن يميز بين الدولة والحكومة،  وبين الجيش والقوات المسلحة، وبين الميليشيا والقوات النظامية.

 

ظاهرة التكتلات والانشقاقات في الحركات الثورية، هي ظاهرة ليست الجديدة تاريخياً، كما أنها لا تقتصر على حركة ثورية دون غيرها، في حين أن الحركات والأحزاب اليمينية لا تعرف مثل هذه الظاهرة (تقريباً)، وإن حدثت، فتكون ناعمة رخوة، والانشقاق ليس حاداً ولا حاسماً، ولا ينطوي على تباينات ملموسة بين الأطراف المتكتلة(التكتل والحركة الأم).

 

وفي تكتلات الحركات اليمينية، (كالاحزاب الاشتراكية الديمقراطية)، فأوج ما يبلغه التكتل، هو تشكل خط يميل لليسار، في المواقف السياسية، ولكنه لا يطرح خطاً متميز نظرياً، ومثل هذه التجارب جرت في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في النمسا، وألمانيا، وفرنسا، وخاصة في أسبانيا.

 

الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية كانت في مطلع القرن العشرين، أي بعد الانشقاق عن الحركات الاشتراكية العمالية، كانت تميل لليسار منها لليمين، وتفتح مؤتمراتها بنشيد الأممية، وتضع صورة كارل ماركس في صدر قاعاتها ومؤتمراتها، ولكن الدول الرأسمالية تمكنت من تدجين هذه الحركات، وأصبحت جزءأ من النظام الرأسمالي وأندغمت في أجهزته السياسية والحكومية، فأصبح يصعب تميزها عن الأحزاب اليمنية إلا بتشديد الرؤية والتمتع بحس ومعرفة عميقة. وإلا مالفرق بين حزب العمال البريطاني و حزب المحافظين، أو بين الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الديغولي ..!

 

المنطق العلمي يقودنا في التحليل، في البحث عن جوهر الأمور، وهنا لا نجد سبباً جوهرياً للتكتل والانشقاق إلا إذا كان هناك تناقضا جوهريا مهما، بحيث تصبح الأداة السياسية (الحزب) عديمة الفائدة، أو ينبغي إدخال تعديل حاسم على منهج الحزب وسياقات عمله. والانشقاق (الذي يسبقه تكتيكياً تكتل يستغرق العمل في معظمه وراء الكواليس، وأحياناً كواليس سميكة) والتناقض بتقديرنا هو ذا أتجاهين على الأرجح لا ثالث لهما :

 

خلاف نظري (آيديولوجي) عميق، بحيث يمس هوية الحزب النظرية بشكل جذري.

خلاف سياسي ذو طبيعة حاسمة، الخلاف بصدده ليس عابرا يمكن تجاوزه ضمن أطر العمل الحزبي التقليدي. ويشترط في كلتا الحالتين (1 +2) أن الخلاف في الحزب قد أتخذ أبعاده الأفقية والعمودية، بمعنى أنه شق يمتد من القيادات وحتى القواعد.

 

وهذان الصنفان من التكتلات والانشقاقات حدثا في تاريخ الحركات الوطنية والقومية والتقدمية في الوطن العربي، ولكن وبسبب مستوى الثقافة العامة الجماهيرية والحزبية، فإن الخلاف النظري والسياسي ليس بالضرورة أن يكون واضحاً وجلياً لا ألتباس فيه ولا أشتباه. فكثيراً ما ينطلي على الجماهير العامة، أو القواعد الحزبية المنظمة شعارات براقة مطلوبة من الجماهير العامة والحزبية، جرى تخريجها بصورة فنية يتفاوت إحكامها. فمثلاً تحت شعار وطني / قومي مقدس للجماهير، يطرح بطريقة قد لا تخلو من الذكاء، ولكن بالتأكيد مع الكثير من الخبث واللمسة الاستخبارية. فقد حدثت تكتلات حزبية أو أنشقاقات كان مسقط رأسها في محطات المخابرات المعادية ..! وتبدو بوضوح من خلال نشاط  التكتل وأساليب عمله بصمة العمل المخابراتي

 

ومن الاحتمالات التي يمكن أن تقع، قيام جهات أجنبية (قوى خارجية، أجهزة أستخبارية) بالتخطيط (بدقة متفاوتة) تنظيم تكتل على أن يفضي في تطور لاحق إلى انشقاق، والهدف بالطبع هو وحيد أن تدمير تلك الحركة أو الحزب الثوري، تدميراً شاملاً أو جزئياً بإضعافه لدرجة يفقد فيها طاقته الرئيسية.

 

وبالطبع فإن تلك الجهة الاستخبارية المعادية، فاتها أن تفقه (وتلك واحدة من أخطاءها) أن الحزب الثوري ليس عبارة عن تجمع أشخاص تصادفي في ظرف تاريخي عشوائي، بل أن الحزب الثوري هو استجابة تاريخية لضرورة وطنية أو قومية، وهذه الاستجابة لها هدفها المادي بوحدة الوطن، وتعبئة الجماهير لتحقيق أهداف الشعب التاريخية والتي تعد من ثوابته المادية الأكيدة، التي لا تراجع عنها، بإجماع الشعب، وقواه الطليعية. ولذلك فإن الحزب الثوري التاريخي لم يكن من فعل وإرادة أشخاص معدودين، بل هو فعل جماهيري تاريخي، لذلك ليس بمقدور أية قوة مادية أن تقضي عليه، ولكن من الممكن أن تخسره من أعضاء من القيادات والقواعد، وتراجع أداء الحزب بدرجة معينة، ولكن سرعان ما سيستعيد الحزب قوته أضعافاً مضاعفة. فالجماهير آنذاك تكون قد لمست لمس اليد أن تلك القوى الجبارة لم تستطع أن تقضي على الحزب، بل هي لم تستطع أن تطوي لافتاته بين الجماهير وإنها لم تستهدف الحزب الثوري إلا لأهميته التاريخية ودوره في تعزيز المكتسبات الوطنية.

 

وبالطبع يمكن للحزب الثوري أن يكتشف بسهولة تامة، أن التكتل أو محاولة الانشقاق مخططة بتوجيه مباشر من قوى أستخبارية نظامية، وضباط أمن محترفون، فالحزب الثوري يمتلك بالتأكيد عناصر خبيرة بمكافحة النشاط المعادي بل وربما يمتلك مؤسسات وأجهزة متخصصة بإدارة خبراء وطنيون قادرون على كشف الأنشطة المعادية بدرجة احتمال الخطأ تقرب من الصفر. والمشكلة هنا، يمكن أن تكشف العناصر الوطنية خطط المتكتلين، والخطأ في معالجة التكتل قد يكمن في أن قيادة الحزب تتردد في اتخاذ الموقف الصحيح لأي سبب من الأسباب.

 

ورغم ذلك، فمن المحتمل بنتيجة ظروف وعوامل داخلية أو خارجية، أن ينجح التكتل المعادي المرتبط بجهة أجنبية، ينجح في إحداث خروق قد تكون بسيطة في الهياكل القيادية، إلا أنها قد تتسع في الكوادر الوسطية، والخرق يكون أكبر في القواعد الدنيا من التنظيم الحزبي.، وقد يتراصف أنتهازياً كم من العناصر الحزبية التي تجد في التكتل أو المحاولة الانشقاقية فرصة لتسوية حسابات لا مبدأيه، فتتخذ موقفاً ينطوي على طابع من المساومة.

 

برغم اللمسة الاستخبارية الاحترافية للتكتل، إلا أن التكتل فاسد بطبيعته من أساسه، فطبيعة الأسماء المتورطة في التكتل، وتاريخها السياسي والنضالي، ودرجة احترامها من القواعد الحزبية. وأحياناً تلهم الخيانة وتدفع مرتكبيها إلى أخطاء فادحة، تنبأ بدرجة لا تقبل الالتباس بمرجعيتهم الخيانية. فتنتاب عناصر التكتل الأرتباك والعصبية فيسرعون في خطوات تستحق التأني، فيقعون في مزيد من الأخطاء التي ستعري خطهم الانتهازي المشبوه، وسيسقط التكتل والانشقاق على أيدي القواعد الحزبية وليس بفعل قرارات قيادية حصراً لتداعياته.

 

كل تكتل ليس له طابع أيدولوجي ... يشير إلى انتهازية .

كل تكتل ليس له ضرورة سياسية ... يشير إلى مشبوهية العمل.

في العمل الثوري ليس هناك أسماء مهمة، كل منحرف سيسقط خارج الخط الوطني.

 

المتكتلون والساعون للانشقاق يهدفون إلى إبعاد الحزب عن طريق النضال، وتقليص دوره. ولكن الحزب الثوري التاريخي يمتلك وسائل الديمومة والتواصل، لسبب جوهري، أنه يطرح حلولاً ثورية لأزمات سياسية واقتصادية مستعصية. وبصرف النظر عن ملاحظات إعلامية تمارس التضليل والتحريض، ووضع الأخطاء تحت عدسة مكبرة، إلا أن المنجزات التاريخية على الأرض لا يمكن تجاهلها في تاريخ النضال الوطني والقومي، في حين لا يقدم الآخرون سوى ترجمة لخطوات التراجع عن الخط الوطني، وعاجزون عن تقديم منجزات مهما كانت صغيرة، ستبقى المنجزات التاريخية مرتبطة في وعي الجماهير بحركة صعود كبيرة، قد تنطوي على بعض الأخطاء التفصيلية غير التاريخية.

 

المتكتلون والمنحرفون يعرفون أنفسهم ...  ويعرفون مصيرهم ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحوظة : البحث نظري علمي صرف لا علاقة له بحدث معين

 

وداع أنجيلا ميركل

صورة للقيادة، صورة لوطن

د. ضرغام الدباغ

تابعت من على شاشة التلفاز، جلسة الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) (أواسط كانون الثاني / 2021) الجلسة الختامية لمؤتمر الحزب وفيه حضرت المستشارة ميركل للمرة الأخيرة كرئيسة الحزب، فالمؤتمر شهد توديع تاريخي مثير لهذه السيدة الرائعة ... من يشاهد هذا التوديع ستقتحم ذاكرته وثقافته السياسية مادة مبهرة ومؤثرة ...!

في المرات التي شاركت فيها بإدلاء صوتي في الانتخابات الألمانية، لم أدلي بصوتي ولا مرة للمستشارة ميركل أو لحزبها، ولكني اليوم، أدرك أن هذه السيدة تمثل قيماً ومعان كبيرة، ولو أتيح لي التصويت لها لفعلت ..! هكذا بلا محاولة إقناع من جهة أو شخص ... الأمور هي توضح نفسها بنفسها ...

وفي وداع رئيسة الحزب، مؤتمر الحزب المؤلف من مئات المندوبين، وكلهم شخصيات كبيرة سياسية وعلمية / أكاديمية يقفون جميعاً إجلالاً لمدة عشرة دقائق يصفقون لها .. بدون هتافات وزعيق، فقط البعض حمل ورقة كتب عليها بخط اليد " شكراً لك ميركل "، أي كلمة أخرى تقال ستكون بلا معنى، مهما كانت ستكون صغيرة ملونة مزركشة بألوان التزلف والتملق .. أو الهمهمة خوفا أو رعباً ... لم يكن هناك زعيق : ماكو زعيم إلا كريم، وبالروح بالدم، ولا حزبي العظيمي ..لا شيئ من هذا ... هذه السيدة حازت على احترام الناس أجمعين لمدة 18 سنة كرئيسة للحزب، و21 سنة كأمين عام، 16 عاماً مستشارة (رئيسة للوزراء) نحو عشرة سنوات وزيرة ..... لا يستطيع أحد أن يجد ثغرة في هذه الشخصية التاريخية لا في سلوكها السياسي، ولا الحكومي، ولا حتى الشخصي. ولم يهان مجرد إهانة ... شخص واحد من أجلها ... وآخرين يسحقون الملايين دون أن ترف لهم جفن ... ويلعب بمنخاره أمام العدسات ويقول " ما ننطيها ....

شخصياً كنت غاضباً  مرة أو مرتين خلال حكمها، ولكن درجة احترامها لم تتراجع أبداً قيد أنملة، هي تحكم بلداً بحجم ألمانيا وهي ليست هنا من أجل أن ترضيني أو ترضي شخصاً بعينه ...هي تنظر لكل خارطة ألمانيا ... ولا تنظر لمزاج شخص، وهذا ما يفوت الغاضبين ... وبهذه المناسبة أليس في شرعنا الإسلامي استبعاد الغضوب والفاجر من الحكم والإدارة ..؟

ميركل ....العالمة الحقيقية،  الدكتورة (في علم الفيزياء) أنجيلا ميركل، الأستاذة الجامعية  الوزيرة السياسية التي أختارها العبقري هيلموت كول لخلافته، واصلت السكن في شقة بسيطة بالقرب من الجامعة، يقف شرطي واحد على بعد 10 أمتار من مدخل بنايتها القديمة الطراز، هذه السيدة حكمت ألمانيا 16 عشر عاما كمستشارة (رئيسة وزراء)، 18 عاما كرئيس للحزب، 21 عاماً كأمين عام للحزب، ولم يقترب من هذا سوى المستشار الكبير أبو الوحدة الألمانية أوتو فون بسمارك،(1871 / 1890)، أما هتلر الذي بلغ منصب المستشارية بالانتخابات عام 1933، وواصل حكم ألمانيا كديكتاتور (لم يحكم ألمانيا كمستشار ولا كرئيس جمهورية، بل بلقب الزعيم) من (1933 / 1945). أما ميركل  التي ولدت عام 1954، وأصبحت للمرة الأولى كوزيرة لشؤون المرأة عام 1991 ، ثم وزيرة لشؤون البيئة، ثم كمستشارة منذ عام 2005. وستكمل ولايتها كمستشارة حتى الانتخابات هذا العام، ويرجح أن تتقاعد بعدها نهائياً، إلا أنها ستخلد بأنها فازت في الانتخابات لأربع مرات متتالية كمستشارة .

الشعب الألماني بأسره يتفق أن ميركل عبرت بهم مصاعب كثيرة، أهمها : الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأقوى الاقتصاديات الأوربية (هولندة، فرنسا، النمسا، إيطاليا) ولعب الاقتصاد الألماني دور القاطرة التي تسحب قاطرة الاقتصاد الأوربي، واجتازت عقبات هزت الاتحاد الأوربي، وأزمات المصارف والإفلاسات، وأزمة الهجرة وجائحة كورونا ..  حقا إنها لسيدة ملهمة ... ! في أتعس الظروف كانت تطل على الألمان وقالت كلمتها المشهورة " سننجح " (Wie schaffen das)...! 

الرابط أدناه الجلسة التاريخية لمؤتمر الحزب (CDU) المؤتمرون يقفون بالمئات دون استثناء يقفون ويصفقون لها والدموع تسيل من عيون الكثيرين منهم ... يرفضون الجلوس حتى تطلب هي بنفسها وبرجاء .. " أشكركم ... لدينا الكثير مما يجب فعله ...! ".

هكذا تقتحم الشخصيات العظيمة التاريخ .....!

https://www.youtube.com/watch?v=F7emdD4f6mA

 

 

 

أزمة ثقافة أم محنة مثقفين

 

ضرغام الدباغ

 

 

هذا عنوان يصلح لأن تقام حوله ندوات نقاشية عريضة، يساهم فيها أخصائيون ومثقفون من حقول معرفية شتى، بهدف تحليل عناصر الأزمة التي ينبغي حقاً أن توصف بأنها أزمة. من أولى سماتها أنها متشعبة الأسباب منها ما هومن العناصر الكامنة ((invisible أو الظاهرة (Visible)، وفي تعدد العناصر الضاغطة (Preßfaktor)، الخارجية منها (External factor ) والداخلية منها  (Inerenn factor). والتخلف (backwardness ) المتعدد الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية.

 

بتقديري أن هذه هي أهم عناصر الموضوعة (Theme)، التي تمثل المؤشرات الأساسية للبحث، ولا يمكن أن نضع الأزمة وأبعادها على كاهل المثقفين، كما لا يمكن تبرئة المثقفين من بعض أبعادها. وقد يضيف عليها زملاء باحثون جوانب أخرى من أجل أن يأخذ البحث أبعادة الحقيقية. فالأزمة هي نتاج تلاقح عناصر عديدة، نرجح أن يكون للتأثيرات الخارجية التي عانى منها العراق والأقطار العربية، منذ أن أنطفأ سراج النهوض والتواصل، وفقدت البلاد إرادتها السياسية، وأستمر هذا الانكفاء قرون طويلة، كان العراق وأقطار الأمة بصفة عامة بعيدة (جوهرياً) عن المسارات التي تضعها في فلك التطور، فتواصلت أسباب التخلف حتى القرن التاسع عشر.

 

وهذا المقال يأخذ على عاتقه استهلال لمهمة التشخيص (Diagnose)، على أن مجهوداً كبيراً كهذا، يستحق مساهمة واسعة النطاق، إذ يبدو لنا أن الموقف الحالي يحمل مؤشرات هامة كثيرة ربما تحمل في ثناياها علامات مفصلية، وأن بلادنا والأمة تعيش مرحلة في غاية الأهمية والخطورة معاً، لذا أدعو مفكري الأمة ومثقفيها كافة، إلى موقف يتجرد الكل عن هواه السياسي والعاطفي للتنقيب في فروع الأزمة، من أجل خلق تصورات علمية عن المسببات، وخلق صورة فيها قدر من التنبؤ العلمي (Prognose) وجهد فكري لإنضاج مبكر لما هو الآن في حالة جنينية. وبتقديرنا أن حوارات في جو من الموضوعية والعلمية كهذه ستساهم إلى حد بعيد في استشراف ما يدور في أذهان المفكرين والكتاب، ولكي نمنح المرحلة التاريخية استحقاقاتها.

 

ــ الأسباب الكامنة  (invisible): وهي العناصر المتمثلة بالموقع الجغرافي، وطبيعة الأرض والمناخ، وطبيعة المحاصيل الزراعية والمواد المستخدمة في البناء. ولكل من هذه العناصر تأثيراتها في التكون والتشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لبلداننا العربية إن كانت في المشرق العربي أو في المغرب العربي. ومن البديهي القول أن البلدان الواقعة على البحر تتيح لها ظروفها الاتصال النشيط بمصادر أجنبية، وتكون التجارة النشاط الاقتصادي الرئيسي، والنشاط التجاري يدفع إلى التعارف ومعرفة الآفاق والمغامرة والمجازفة، وكل هذه توسع من المدارك والمعارف في معرفة الطريق واكتشاف آفاق المستقبل وتحديد علاماته.

 

ــ الأسباب الظاهرة (Visible): وهي العناصر المتمثلة  بالتطورات التاريخية لبلدان المنطقة وتفاعل تجاربها  بأطوارها السلبي والإيجابي، الأقطار العربية كلها خضعت تحت هيمنة قوى أجنبية، استعمارية، لذا تأخر عصر النهضة العربي، وحين بزغ فجره، (بتقديري 1850) كانت الولادة قيصرية، تمت في ظروف دموية، فهناك عناصر كثيرة تتخلل عصر النهوض، عناصر دافعة للأمام، ولكن هناك أخرى تسحبها إلى الخلف وتبطئ من حركتها. ولا مناص من ذكر حقيقة ساطعة ، أن الصراعات الدولية وضعت امتنا لأسباب عديدة في مهب تفاعلاتها

ــ العناصر الدافعة:  تتمثل بنهوض جيل جديد، أدرك أن تخلف الأمة، فيكفي أن يقرأ المتعلم العربي مقدمة أبن خلدون، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وكتب أبن أبي الربيع، وأبن الأزرق، وكتاب الخراج لأبي يوسف، ابن رشد، والطرطوشي، والفارابي، وأبو حامد الغزالي، ليعرف أن سبات الأمة كان (أو ربما ما يزال) بفعل عناصر خارجية مدمرة بالدرجة الأولى، وليس بسبب عجزها وضعف أبناءها.

ــ  المحيط الخارجي: لابد من الإقرار أن الأمة تأثرت بمحيطها الخارجي، وهذا لا ينقص من اصالتها، بل نجده من غير المنطقي أن يتأثر أي وسط بما يحيط به، وهذه عملية تدور منذ أقدم العصور وحتى الآن دون توقف بين المراكز الحضارية الكبرى في العالم، أن النهوض كان مرتبطاً بالتحرر، وخلق حركة تحرر تضيئ الأفاق.

 ــ العناصر الضاغطة الداخلية (Inerenn factor): وهي العناصر المتمثلة بالثقل الذي تتمتع به المؤسسة الدينية بصفة رئيسية، منذ العصور الوثنية، ثم الديانات السماوية التي انبثقت من قلب المنطقة وكذلك التراث العريق من التقاليد والعادات المتأصلة والمتجذرة ولها تأثيرها في تكبيل المساعي للتطلع وتجاوز عقبات الحاضر في رؤى مستقبلية للأنماط الإنتاجية والعلاقات الاجتماعية.

ــ العناصر الضاغطة الخارجية (External factor): وهي العناصر المتمثلة، بالقوى الأجنبية التي حاولت غزو المنطقة، ولكنها رحلت بعد أن خلفت أنماط من علاقات واتجاهات ثقافية، ولمحات من حضارتها،

ــ التخلف الاقتصادي / الاجتماعي / الثقافي (backwardness): وهي محصلة لكافة العناصر السلبية التي أثرت بصورة مباشرة وغير مباشرة في التشكل النهائي في بلدان المنطقة.

 

ولو وجهنا نظرة دقيقة فاحصة، لوجدنا أن الموقف الثقافي في جميع بلدان العالم يعاني من مشاكل، قد تتفاوت في حجمها وطبيعتها، ولكن المشاكل موجودة على أية حال. وهي نابعة من مصادر عديدة، منها أيضاً الذاتية والموضوعية، ولكن في جميع الأحوال هناك شكوى من الانتشار والتوسع وقد يكون لهذا التوسع المتزايد لعالم الانترنيت نتائجه السلبية أيضاً، فحقوق الملكية الفنية، تتعرض للضياع، وكذلك التزوير المتقن للأعمال الفنية والأدبية، وعناصر أخرى عديدة. ولكن لابد من القول أيضاً، أن الدوائر الثقافية والفنية تحاول جهدها تقليص الآثار السلبية، ولكن الأزمة ما تزال تطل برأسها.

 

وبتحليل عناصر الموقف في بلادنا والوطن العربي نجد أن العناصر تتداخل وتتلاحم بطريقة يصعب فصمها حقاً، ولكن لا شيئي يستعصي على التحليل العلمي والجرد لفقرات أية موضوعة. ولكن لابد من الإقرار بالتفاوت الذي يبدو أنه ليس سهل أو بسيط، بين البلاد العربية وغيرها، كأوربا وأميركا مثلاً. ولكن مع وجود عناصر متشابهة جوهرياً. فلا يعتقدن أحداً بأن حرية النشر مفتوحة على مصراعيها دون حسيب أو رقيب،  نعم قد لا يكون هناك القمع الجسدي الموجود في بلداننا،  ولكن هناك خطوطاً ملونة عندما يجتاز الكاتب الخطوط الأولى، ويصل الخط الأحمر، بعدها لن يكون بوسعه متابعة مغامرته وليس بالضرورة بأساليب قسرية، فقد يحرم من الكتابة في الصحف الممتازة، وعليه أن ينزوي في صحيفة بسيطة وبوضع مالي أبسط، بلا طموح ولا أمل بالتقدم، وهناك تفاصيل أخرى.

 

ولكن الأمر لن يبلغ إلى مستوى التصفية لجسدية بالقتل الصاخب أو برصاصات سلاح كاتم للصوت، وقبل فترة قصيرة اغتيل أديب عراقي (علاء مشذوب) لينظم في الواقع إلى قافلة شهداء الثقافة والعلم مؤلفة من المئات وتتسع القائمة حتى تكاد أن تبلغ الألف، وقمع الثقافة والعلم والمتعلمين قاد إلى نتائج كارثية في إنحدار مستوى التعليم بكافة مستوياته إلى درجة التلاشي (الشهادات العراقية غير معترف بها )، واختفاء الحياة الثقافية بكافة مظاهرها، وهنا تطغي العوامل وتتداخل فلا نكاد نتبين الذاتي من الموضوعي، والسبب الخارجي عن الداخلي.

 

 ويشير الرقم الكبير للاغتيالات (أكثر من  800 شخصية) وأعداد أكثر من العلماء والمثقفين والأدباء والكتاب ممن غادروا العراق  إلى المهاجر أولاً لعدم إمكانهم الكتابة في وطنهم، والثاني هو خشية أغتيالهم بدم بارد، ولم تكشف أبعاد حادثة أغتيال واحدة من هذه المئات، فالأمر إذن هو عام وبتوجيه من قوى كبيرة، لا يهمنا الآن أن نحقق بالتفصيل ولكننا نتوصل إلى حقيقة ثابتة واضحة للعيان : أن الثقافة والعلوم ممنوعة وحتى إشعار آخر. بأمر من ذات القوى التي مثل العراق تقدماً غير مقبول بالنسبة لها، وهو فحوى موضوع بحثنا هذا.

 

قرأنا من خلال متابعاتنا، أن هناك شخصيات متنفذة في الشأن العراقي من دول الاحتلال، تتذمر بأن ما حاجة بلد (صغير) كالعراق بهذا العدد من الجامعات، ولماذا تمثل العلوم الثقافة والأدب والفنون ثقلاً كبيراً سياسيا واجتماعياً وثقافياً ضخماً لا يمكن تجاهله في العراق، فتقدم الفنون التشكيلة مثلاً (الرسم والنحت) في العراق مثلت ظاهرة ملفتة للنظر، وهي أسباب لها جذرها التاريخي، فهو ليس سوى امتداد لما جبل عليه الناس وأبدعوا منذ فجر الخليقة بوصفه من رواد الحضارة الإنسانية،  قبل ألاف السنين، بأعمال فنية هي مثار الإعجاب في بوابة عشتار، والثور المجنح، وأبنية وعمائر مدهشة تعد من معجزات إنجاز البشر كالجنائن المعلقة والمدرسة المستنصرية وجامع الخلفاء، والقصر العباسي، وهنا رسم الواسطي قبل أكثر من 800 عام، رسوماً خالدة في قيمتها الفنية والتكنيكية، ومن نافلة الكلام القول أن انتشار التعليم والثقافة ومظاهرها وتعبيراتها، هي من العوامل الأساسية التي لها إشعاعها على سائر الفعاليات الاجتماعية الأخرى، بما في ذلك الاقتصاد والسياسة. فلا يمكن تصور مجتمعاً متطوراً، دون أن تكون الحياة الثقافية فيه مزدهرة، بل أن شتى الفعاليات الثقافية هي عنصر أساسي من عناصر شد المجتمع.

 

وتشير التجارب الواقعية، وتجارب الشعوب في النضال ضد الهيمنة الأجنبية من أجل السيادة والاستقلال ، وبموازاة ذلك نضال دائم في رفع المستوى الثقافي والعلمي، وقوى القمع الأجنبية منها والمحلية تدرك أن قمع الإنسان يبدأ بقمع فكره وقلمه، وحتى خياله الثري العابر للزمن لذلك تشير المعطيات أن الإنحدار يبدأ بإبادة المنجزات العلمية والثقافية. لذلك شاهدنا عبر التاريخ القديم والوسيط، بل وحتى شواهد في العصر الحديث، التدمير الممنهج للثقافة ومؤشرات الحضارة، واحتلال مخطط مدبر للمتاحف (متحف بغداد)، ونهب وتخريب للمكتبات العامة(المكتبة المركزية / بغداد)، وقصفها بالطائرات (جامعة الموصل)، وتدمير للآثار (بابل وأور)، وقتل الفنانين (قصف مسكن الرسامة ليلى العطار)، والكتاب وتشريد الفنانين، فهذه لم تكن أعمال عشوائية، بل هي فقرة أساسية في مشروع التدمير الشامل، وفاتحته، ومنسجمة مع الهدف العام المعلن بتصحير البلد، وهنا كان رواد الثقافة والعلم هدف هذا المخطط ومظهره الأساسي.

 

العلماء والمثقفون والفنانون هم ذاكرة البلد الحضارية، وواجهته الأمامية، ومصد للتيارات الغريبة، وهويته الوطنية والقومية، لذلك لم يكن غريباً أن تكون هذه الفئات هدفا لم يغب عن أسلحة الغزاة الأجانب،  وأجهزة الغزاة والاحتلال تتشابه في عقليتها الاعتدائية، ويكتب المؤرخ الأمريكي ولين شرير في  عمله الموسوعي الكبير " سقوط الرايخ الثالث " أن الإدارة النازية عندما فكرت بأقتحام الجزر البريطانية في الحرب العالمية الثانية، كانت مخططات دوائر الاستخبارات تعد قوائم منظمة لعلماء والمثقفين والفنانين في بريطانيا، والشخصيات الاجتماعية التي تعتبر نقاط استقطاب في البلاد

 

مساعي التوسع والهيمنة، هي مساعي مدانة إنسانياً وأخلاقياً، لذلك ليس بوسع جهة ما الإدعاء أنها تمارس خططاً دموية بدواعي الخير، أو التحضر، حتى لو قامت بذلك أمم تدعي الحضارة، الثقافة مستهدفة، والمثقفون معرضون للقمع اغتيالاً واعتقالاً، وقمعاً بشتى الأساليب. المثقف مطلوب منه أن يكون طليعياً ولا يخضع للأبتزاز، وأن يضحي قدر ما يستطيع ليستحق أن يكون نبراساً لشعبه. المثقف يواجه مخاطر جمة فهو كالجندي في مهمته بل وأكثر تضحية، فهو الساع لأقتحام الظلام وتمزيق ستائر سميكة من الجهل والتخلف والقوى الرجعية ويتربص به الأعداء في كل زاوية ومنعطف.

 

قلما يعرف الناس أن الشاعر والكاتب المسرحي الألماني المشهور، بيرتولد بريشت، كان كاتباً مرموقاً أيضاً، ولطالما كتب بحوثاً ومقالات لها قيمتها العلمية والفنية. بعض من هذه المقالات التي تلج في عالم الفن والسياسة، كتبها بريشت في فترات متقطعة، في ثلاثينات القرن المنصرم، ضمها في كتاب: حول الفن والسياسة (Über Kunst und Politik) والبحوث التي تضمنها هذا الكتاب شيقة ومهمة، أخترنا لقرائنا هذا البحث الهام وهو بعنوان (Fünf Schwierigkeiten beim Schreiben der Wahrheit)، خمسة صعوبات عند كتابة الحقيقة، وكنت قد قرأت هذا الكتاب خلال دراستي الجامعية العليا في ألمانيا، واقتبست منه مقاطع ضمنتها في دفاعي وسط دهشة الأساتذة. والذي أجد من الضروري أن يطلع كتابنا عليه.

 

وبريشت في هذه المقالة يمزج بين وظيفته ككاتب سياسي، وكمناضل، وهو ما وضعه في مهب العواصف القمعية، وهو يضع على كاهل الكتاب السياسيين والفنانين والأدباء الذين ينحازون لقضايا الوطن، مهمة مقدسة، لا ينبغي أن يتملص من هذه الفئة الطليعية من الشعب. فيقول له بصراحة تامة : قف مع شعبك وإلا فأنت مع الجلاد. كتب بريشت هذا البحث في الثلاثينات (1935)، أبان أشتداد النضال داخل ألمانيا ضد النازية، وعلى الأغلب لم يكن منتمياً لأي حزب سياسي من أحزاب المعارضة، وهذا يمنح موقفه الثوري مصداقية أكبر، تحدى بريشت نظاماً إمبريالياً (النظام النازي)، كان يعد بحملات دموية داخل ألمانيا، ويخطط لأكثر دموية في أوربا والعالم. دولة كانت تسعى للحرب بألآف الطائرات والدبابات، وبملايين الجند المدججين بالسلاح حتى الأسنان، نظام يريد فرض إرادته بقوة السلاح، كل هذه الضجة الكبرى، والضجيج، ولهيب يستعر، مقابل كل هذا .. رفع بريشت قلمه .... قلمه فحسب.

 

وبتقديري، أن  الطليعي لا يستطيع أن يتبرأ من ضميره، لا يستطيع أن يتنكر للأيدي التي رفعته، وعن مئات بل ألاف الرموز المادية والحسية، ويشبع حين يتغدى، ويتخم عندما يتعشى، ويتجشأ ويلف رأسه وينام ... هكذا غير مبال بالعمليات التي تدور من حواليه وصخبها يصم الآذان .. الفنان أو الأديب، والمثقف، هو إنسان طليعي وتقدمي بالضرورة، الطليعي هو منطقياً مع العملية الصاعدة، مع المسيرة المتقدمة إلى الأمام تشق عباب بحر الظلمات بقلمه بريشته بأزميله، هو مع المحرومين والمظلومين، وليس من المعقول أن يدافع عن القوى التي تهين بلاده وتحتلها، أو عمن بيد سوط، أو سلاح يهرق به دماء الآخرين ويبدد أحلامهم في الحياة .. لابد له أن يتضامن مع صيحات العذاب، لابد له أن ينفعل مع بكاء الأطفال .. لابد ... وإلا فهو فاقد لمشاعره، فهو ليس إذن بإنسان طليعي، بل هو ربما آداة بيد القوى الغاشمة المحتلة والمستعمرة أو الطغيانية.  

 

في حسابات من ينزوي وراء الجدران العالية، فإن عمل المثقف / الكاتب يعتبر جنونياً لا محالة، ولكننا اليوم وبحسابات بسيطة ودونما كثير ذكاء، نقر أن هذا العمل الإشعاعي في  قمة الذكاء، ليس لأنه ناصب العداء معسكرً فولاذياً تسيل الدماء من جوانبه، بل لأنه أختار الحق، والحق سينتصر وإن يتأخر مجيئه، فلكي تغرب مرحلة وتأتي مرحلة أخرى، هناك استحقاقات مادية يجب أن تكتمل حلقاتها ... وهناك ضحايا حتماً، وهناك أبرياء سيسحقون، وإلا كيف سنصدر إدانتنا جميعاً بصوت واحد وعال ... للمجرمين ..للقتلة ..إدانة جماعية وتاريخية، إلا إذا خضنا غمار المرحلة الرهيبة ودفعنا استحقاقاتها الباهضة.. لابد أن يحدث هذا التدمير لتنشأ وتتكون حركة مضادة .. كيف يمكن أن تمسح النازية بكل قوتها ما يكن هناك متملقون، قتلة، وضحايا، وعمود تراكم لابد أن يمتلئ حتى آخر قطرة منه، فيطلع الجديد النظيف، حتى يندحر الظلام إلى الأبد ..

 

الكاتب الطليعي يقرر أن ينحاز إلى المظلومين والمقهورين، وأن يكون واحداً منهم، ويتخذ موقفه هذا بقرار وجده بديهياً لأنه لم يصله دفعة واحدة، بل عبر تثقيف ذاتي طويل المدى، ولمسيرة طويلة المدى، ولكن لكي يكون رفضه وموقفه برمته ناجحا ومثمراً عليه أن ينظم رفضه، ويهندس انتفاضته الداخلية، لتنجح خارجياً، الكاتب الطليعي ينصح المثقفين ككاتب طليعي، أكتبوا اليوم، وأكتبوا غداً، وأكتبوا كل يوم، ولكي تكتبوا كل يوم فإنكم لن تستطيعوا أن تقولوا كل ما عندكم دفعة واحدة، وإن فعلت ذلك فماذا ستفعل في الأيام والمراحل المقبلة، ثم أنك ستثير انتباه من حولك، لذلك فإنك لن تستطيع أن تؤثر في مجاميع بشرية هائلة إلا عندما تعلم ماذا تكتب وكيف تكتب، ولمن تكتب ...

 

الكاتب الطليعي يرى صعوبات في الكتابة الموجهة ... بالطبع فالقوى المعادية لها آذان تسمع وعيون تلاحظ، والكتاب ... ينبغي أن ينتبهوا لمتاعب الكتابة، هي حرب ولابد أن تكون لك قواعدك .. لا تجازف ولا تغامر، ولكن واصل حمل المشعل دون هوادة ..

 

وأخيراً فالكتابة هي عمل نضالي وقد تنطوي على مخاطر .. عليك أن تتقبلها .. من أجل القيم، ومن أجل من تكتب لهم.... أمض في طريقك لا تخف، وتقبل ما ينجم عن ذلك ..وإن سقطت دون مبادئك وقناعاتك وما تؤمن .. فهي نعم النهاية، والشعب لن ينسى مشاعله وأشجاه الباسقة الباسلة. أما غير ذلك فستذروه الرياح أثراً بعد عين ...!

 

المثقف لشعبة كشجرة السنديان الصلبة التي لا تهزها الرياح، تشع بالأمان وبنور الإيمان والمعرفة ...

 

المركز العربي الألماني برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

العالم ما بعد كورونا .....!

ضرغام الدباغ

قبل نحو عام من اليوم، وبنظرة متابعة للمواقف السياسية والاقتصادية والثقافية / الاجتماعية، فتحت ملفاً (Folder) في الكومبيوتر بمكتبي، تحت عنوان " عالم ما بعد كورونا " وبدأت بإيداع المعطيات والمعلومات والتقارير عن هذا الموضوع وتداعياته على كافة الأصعدة، وقد بلغت حتى اليوم 182 بحث وتقرير باللغات : العربية، والأكثر باللغة الألمانية، والقليل باللغة الانكليزية.

ورغم أن تقديراتي من البدء كانت تشير إلى أن معركة الكورونا (Covid 19)سوف تكون طويلة، ونتائجها ستكون عميقة الغور، إلا أن لابد من القول أن الأمر تجاوز التوقعات الأولية بكثير، حتى بدأت أسجل مشاهدات عيانية وأحداث تحدث معنا في الحياة العامة، رغم أننا نعيش في وسط متحضر، يستبعد حدوث انعطافات حادة. إلا الأحداث تترى بشكل تدفعك للتنبوء لتدرك معها طبيعة المرحلة المقبلة و ملامح العالم بعد كورونا.

وأولى تلك الظواهر المعتمدة منذ الآن، هي التعليم عن بعد باستخدام الدائرة الفيديوية الذي بدأ ينتشر ويفرض نفسه بطريقة نجد أن التراجع  عنه لم يعد ممكناً، واليوم يجتمع الطلبة والباحثون مع أساتذتهم باستخدام الهاتف المحمول الذكي (Smartphone)   بكل سهولة وعملية، وحتى يمكن إجراء امتحانات وجلسات دفاع عن رسائل ماجستير واطاريح دكتوراه، ومحاضرات. واليوم ينتشر أكثر فأكثر التسوق  (Online) والتسوق يبدأ من يشاء التسوق اليومي للمواد الغذائية إلى شراء الالكترونيات والأثاث، وما تشتريه يصلك إلى البيت. وقد يسرت البنوك استخدام البطاقات الدفع بكل سهولة.

هذا ناهيك عن الكتالوكات التي تصل إلى صندوق بريد بيتك، وهي تحمل لك ما موجود في البلد من تجارة وبيع ومودة، وكل ما يخطر على البال، والمحلات الكبيرة بكافة الاختصاصات (ملابس، أثاث، الكترونيات، مواد غذائية، صيدليات، مطاعم ... الخ) لها مواقع على الانترنيت تخبرك على مدار الساعة المعروض من منتجاتهم ومبيعاتهم. وهنا أشياء أخرى كثيرة لا تخطر على البال. وحتى المواد المستعملة أو الجديدة، وكل ذلك خلال لحظات وبسهولة تامة.

والنتائج ستكون اعتماد متزايد على التعامل عن بعد، وبذلك نلاحظ اليوم محلات ضخمة ثمل استثمارات عملاقة في عالم التسوق (Shopping) تعلن عن تصفيات وغلق الأبواب، كمركز التسوق العملاق ذو الفروع الكثيرة في برلين وعموم ألمانيا (Karstadt) فلا طاقة لهذه المحلات دفع نفقات تشغيل (رواتب للعاملين، تأمينات، إيجارات، مصروفات طاقة، تقادم البضاعة المخزنة لدرجة تقارب التلف) والكثير من المطاعم والمقاهي تغلق أبوابها، ولا أحد يدري متى ستعود الفعاليات الاجتماعية الثقافية إلى النشاط، مثل السينمات، المسارح، حفلات الموسيقى والغناء، السيرك. فهذه الآن ومن العام  المنصرم تعبر من الذكريات الجميلة. وفي مفردات هذه المواقف ستؤدي إلى تناقص عدد المواليد الجدد، وبالتالي اعداد السكان، وتقديرات القوى العاملة والإنتاج الصناعي خاصة. وهو ما بدأ المراكز الصناعية تشكو منه.

في ألمانيا تسجل أرقام مقلقة حقاً لجهة الإصابات، أو لحالات الوفيات، وهو ما يدفع الحكومة لاتخاذ قرارات صعبة لا تودها، ولكن الموقف الصعب يفرض إجراءاته. ولكن دائماً تجد هناك من يحاول التمرد على النظام، ومن تلك أيضاً انهيار التقاليد الاجتماعية، فحجم الإصابات بلغ (22,123)، أما حجم الوفيات اليومي (15/كانون2) المرتفع جداً (1511) يدفع بعض الناس حبا بالحياة إلى ممارسات مجنونة، من تلك مثلاً حفل جماهيري أقامه المثليون، للمرة الأولى نشاهد رجال ونساء مثليون عراة بشكل تام، وبعضهم مارس الأفعال الجنسية أمام عدسات المصورين ..! والشذوذ ينتشر بشكل ملفت للنظر، بما يشير أن الشذوذ سيصح أمر أكثر من طبيعي، في المستقبل القريب. وهو أمر سيكون له تداعياته الاقتصادية والثقافية وبدرجة ليست بسيطة.

جائحة كورونا عالمياً تؤشر إلى حرب عالمية من طراز غير معهود، فلماذا القصف وتهديم المدن، وتمحو آثار ثقافية مهمة، فايروس كورونا (Covid 19) يقوم بما يلزم وأكثر . والأرقام لغة صعبة تتجاوز التخفيف والمواساة، وتشير هذا اليوم (16/ كانون الثاني) في جميع أرجاء العالم إلى (94,132,992) حالة وفاة، وإلى حالة وفاة   (2,015,323 ).  وهي أرقام فاقت معدلات الخسائر والإصابات بالأرواح في الحرب العالمية الأولى. تتقدم الولايات المتحدة، والهند والبرازيل، وروسيا، والمملكة المتحدة الدول من حيث حجم الإصابات والوفيات.

كان البروفسور جون نيف (John Nef) عالم أمريكي مهم (أستاذ في جامعة هارفارد) قد ألف كتاباً في غاية الأهمية بعنوان " الحرب والتقدم البشري "(War and Human Progress) والكتاب يمثل مجهود علمي خارق قام المؤلف بإدخال تعديلات كثيرة عليه وأعتقد صدر بطبعاته اللاحقة في الخمسينات في جزئين، ترجمته وزارة الثقافة والإعلام العراقية إلى العربية في الثمانينات، والكاتب يثبت بدقة وعلمية، أن الحروب هي من كوارث البشرية، ولكن كل حرب تعقبها تقدم ومنجزات علمية. ولو لاحظنا اليوم بعين فاحصة كم هي المسافة بعيدة بين 1970 وعام 2020 ، وتبدو لنا وكأنها قرون، وليست مجرد نصف قرن، ومن هنا يحق لنا أن نتوقع أن العقود المقبلة وحتى عام 2050 ستكون حافلة بمنجزات علمية وثقافية، وستندحر بطريقة مهينة أفكار الخرافات والجهل، وإرادة القوة والتعسف ستكون محتقرة ومدانة، والبشرية سوف ترفض الأشكال البدائية.

 ولكن من جهة أخرى يدفع تفاقم الجائحة وضحاياها، آخرون إلى الشراسة والعدوانية، وهذا سبب غير مرئي، لتصاعد موجة اليمين المتطرف في أرجاء كثيرة من العالم (الولايات المتحدة، بريطانيا، هولندة، ألمانيا، فرنسا ..الخ) . وهذا التيار يحفز بالمقابل التوجهات الوطنية والقومية وتصاعد التعايش الاجتماعي ونبذ الصراعات. فاليمين المتطرف يروج لفكرة تخفيض سكان العالم إلى 2 مليار نسمة، وهناك جهات تروج لفكرة أن العقود المقبلة ستكون حافلة بالأمراض والأوبئة من شاكلة كورونا، وربما بما هو أشد.

الفضاء الخارجي سيزدحم بالأقمار والمركبات، ومشروعات تأهيل أجرام وكواكب، إذ لا ريب أن العالم سيزدحم بالسكان، فمن غير المعقول أن يتجاوز العشرة مليار نسمة، ونحن منذ الآن على أبواب هذا الرقم ..! وستكون هناك شحة في المياه، وبالمقابل سيتصاعد منسوب ومستوى سطح البحر، مما سيتسبب باختفاء أراض كثيرة من دول، بل ربما ستختفي بعض الدول، بسبب حرارة الأرض وانبعاث الغازات الدفيئة، وذوبان القطبين (الشمالي انتهى أمره) والقطب الجنوبي مهدد. ستختفي حيوانات كثيرة ربما القليل منها سيتكاثر بواسطة حدائق الحيوان.

ما أقصده ليس إثارة اليأس، بقدر ما أريد التنويه أن نحتكم العقل والعلم، نبعد المخرفين فهؤلاء لن يوصلونا إلى أبعد من مدى رؤيتهم القصير بالطبع ...!

 

القوي الاحمق، والضعيف الذكي

 

ضرغام الدباغ

 

كم قرأنا في القصص والأساطير والحكم، وكم شاهدنا في الأفلام، أن على القوي أن لا يغتر بقوته، فليس محتماً أن يفوز القوي في ختام الصراعات، بل من يخوض النزال بذكاء، ولا يلعب وزنه وضخامته في نتائج النزال النهائية إلا دورا يسيراً.

العبرة في الأمر، أن القوي يعلم انه وافر القدرات، وقد يبالغ في الاعتماد عليها، وربما هو محق بعض الشيئ، فالقوة وإدارك أبعادها أمر مهم في توازن القوى، ولكن تجاهل المعطيات الأخرى هو الخطأ الذي قد يكون مميتا. وتروي لنا القصص والأساطير الكثير منها .. ومنها: الأسد القوي الذي أحتاج لفأر أن ينقذه من الحبال التي تكبله، والسلحفاة البطيئة الذكية، وكيف انتصرت على الأرنب السريع ... وأخيرا وليس آخرا، قصص القط توم، والفأر جيري، وفي 161 نزال(هي عدد هذا المسلسل)، يفوز بها الفار جيري الصغير الأريب بذكاؤه .. ويخسر الهر توم القوي بحماقته .. ماذا تريد الأسطورة أن تنبؤنا ... وما هي العبرة ...؟

في الطبيعة كما في الاسطورة، الفأر حيوان صغير ضعيف جداً، بحيث ينفق بضربة أصبع لا غير، هو الفريسة المفضلة للصقور والبوم، وللثعابين، وعرضة للقتل على يد الإنسان حيث يوجد سواء في البيوت، أو في الحقول، وتتفنن الدول والمنظمات في مكافحته وتبذل جهوداً جبارة، ولكنه (الفأر ــ الجرذ) مع ذلك متواجد بقوة في المجتمعات على اختلافها، المتقدم منها والمتخلف ، ومن المدهش أن الفئران تعتبر حيوان التجارب الأفضل للمواد المختبرية والدوائية.

إذ كان من الصعوبة، أو المحال تقريباً، أن تقنع القوي، نسيان هذه الميزة المهمة (القوة) أو التنازل عنها،  ولكن لنتقدم بنصيحة : على القوي أن يتذكر أن استخدام القوة هو من أجل تحقيق نتائج عادلة فقط، وإلا فإن القوة ستصبح غاشمة، وبصفة أخرى همجية ووحشية، وتدخل في إطار عملية باطلة ابتداء من مبادئها، و انتهاء بنتائجها. والتعامل مع هذه الواقعة فهناك من الحيوانات المتوحشة في الغابات من تتصف بالقوة الفائقة، ولكن هذه القوة لا تمنع في ختام الأمر من اصطيادها لفراءها أو حتى على سبيل المتعة ..!

القوي في الحسابات السياسية، عليه أن يفكر ملياً، أن تحالف قوى أقل قوة منه، تخلق قوة يمكن أن تردعه، أو أن ترد كيده إلى نحره، فتبوء خطط بالفشل، وإذا فكر بعمق وأستمع لرأي العقلاء والحكماء لربما سيتمكن من رؤية عاقبة أعماله قبل الشروع بها.

حسناً .... القوة ضرورية، ولكن الأهم والأكثر ضرورة تكمن في حسن استخدامها، فعدالة الموقف تمنح قوة إضافية وهي الحاسمة في النزال واستخدام القوة. القوة تغري على التهور، والقوي يعتقد أن بوسعه اختصار مسافة ومساحة من التفكير وحشد الأصدقاء وإقناع الأعداء، وبذل جهد، والمحاورة والمناورة أو وربما حتى التنازل قليلاً لتجنب النزال المجهول النتائج .. فقد تزل قدم من يتصارع بسبب أرضية ساحة المنازلة .. أو بسبب موقف الجمهور من المتفرجين .. أو في تجهيز الغذاء والمؤن، أو بسبب وباء قد يلحق به. إذن ليبذل جهدا ووقتاً وليتجنب النزال رغم أنه الأقوى ...بالعضلات(البدنية منها أو السياسية والاقتصادية والعسكرية)، ولكنه إذا أستخدم عقله سيكون أقوى بكثير ....!

في السياسة أثبتت تجارب الحياة، أن استخدام القوة إن توصل إلى تحقيق انتصار، فغالبا ما يكون هذا الانتصار مؤقت، تعقبها خسارة بمعنى الاندحار، أما من يستخدم الحكمة والعقل، فإنه سيتوصل إلى نتائج مستقرة، ولو أن لا شيئ في الحياة عرضة للتغير دون توقف كالسياسة. ولكن الحكيم هو من يتوصل إلى فهم قوانين التطور التاريخي، ولا يقف بوجه التغيرات الحتمية، فيتلائم معها، بناء على فهم دقيق للمعطيات الجديدة وعلى سمت التحولات المقبلة.

القوة حق ... والحق قوة، وكقاعدة أكيدة أن تستخدم الحق وفق المعقول والمقبول، والفقه القانوني ينص : على لا إفراط ولا تعسف ولا مبالغة في استخدام الحق،  وعلم السياسة يقول أن لا يجوز أن تحقق مكاسب شرعية بأساليب غير شرعية، وتذهب الأخلاق على نحو مقارب " لا يمكن أن تحقق أهدافاً شريفة بوسائل غير شريفة ". وقواعد الشرع تنص " لا يمكن تحقيق منفعة شرعية بوسائل محرمة " العدوان فعل مدان أخلاقيا وقانونيا وسياسياً. وينص القانون الدولي، " لا يمكن الاعتراف بمكاسب تحقق بواسطة العدوان ".

وأخيراً .. القوة قد تفرض واقعاً ... ولكن كم سيطول الأمر الواقع هذا ... القوة تسكت الجمهور المتفرج، وبعض المشجعين، وربما بعض اللاعبين، وقد ترهب حكم المباراة ... فيحول النتيجة لصالح القوي، وهذه حدثت كثيراً، ولكن القوة لا تمنح شهادة حسن السلوك أو الأخلاق ... والقوة لا تمنحك من هو ليس لك (والاستيلاء هو أمر وقتي) الصكوك المزورة، أو المستحصلة تحت تهديد السلاح، أو التهديد، لا قوة قانونية لها  :" أنت استوليت على غرضي وأنا مقيد اليد مكمم الفم ".  فلا شرعية لكل ما أستوليت عليه ...!

نقرأ لنتعلم ونستفيد، ولتكون لدينا قدرة التحليل .... والتنبؤ .......!

 

الجيش العراقي :

 100 عام هوية وتاريخ

ضرغام الدباغ

اليوم تمر ذكرى مئة عام على تأسيس الجيش العراقي. المعطيات معروفة، والشخصيات التي كان لها شرف البدء والإقلاع محفوظة، ونريد الإشارة هنا بالتحديد ملامح الشخصية التي كرست هوية هذا الجيش بشكل خاص، وهو ما جعل منه بفضل قانون التجنيد الإلزامي، مدرسة وطنية، فشل كل من حاول العبث بأسس المدرسة ومقوماتها التي حددت   خلال قرن كامل شخصية الجندية العراقية.

التحق إلى الجيش منذ تأسيسه نحو 200 ضابط من رتبة العقيد وحتى الملازم ممن كانت لديهم خدمات ميدانية وخبرة قتالية في الحروب الثمانية، ولاحقا في الحرب العالمية الأولى، ومن بينهم من نال أوسمة وأنواط من دول أجنبية لأدوارهم الهامة في مجريات الحرب في مختلف الجبهات، الأوربية والقفقاس / القرم، وشمال أفريقيا، منهم : جعفر العسكري، ونوري السعيد، وياسين الهاشمي، وطه الهاشمي، وبكر صدقي، وإبراهيم الراوي،(ضباط قادة وأركان)، وضباط برتب صغيرة منهم : صلاح الدين الصباغ، كامل شبيب، محمود سلمان، فهمي سعيد، صالح صائب الجبوري وحسين مكي خماس

كان الرفض العراقي للوجود البريطاني في العراق قد عبر عن نفسه بأشكال مختلفة، كانت ثورة العشرين في مقدمتها، إضافة إلى  ضغط النفقات التي تنفقها بريطانيا على قواتها في العراق يقف في مقدمة الأسباب الداخلي والخارجية التي دعت بريطانيا، إلى تحوير سياستها حيال العراق، وإلى منح العراق استقلالاً شكلياً.(1)

وكانت من جملة الأسباب أيضاً التي دعتها إلى تأسيس تشكيلات عديدة من اجل ضبط النظام وفرض السيطرة التامة، كانت نفس الأسباب التي دعتها إلى تشكيل قوات عراقية (هكذا كانت الأفكار البريطانية)، لذلك فقد تضمنت أول حكومة عراقية (قبل الانتداب) وزارة دفاع.

ولكن الإنكليز واجهوا مشكلة نفقات تشكيل الجيش العراقي، وتوصل مجلس الوزراء العراقي المؤقت في جلسته بتاريخ26  / أيار/ 1921 قرار تأسيس الجيش العراقي وسن قانون التطوع للخدمة العسكرية وفي 22 / حزيران/ 1921، ألقى وزير الدفاع خطاباً إلى الشعب العراقي، وأفتتح التطوع في صفوف الجيش.( 2)

لذلك صادق مؤتمر القاهرة على قرار المندوب السامي البريطاني، السير برسي كوكس، تأسيس جيش عراقي مؤلف من 15,000 رجل، واستخدام 15% من الموارد العراقية في هذا المجال، ولكن هذه النسبة تصاعدت فيما بعد إلى 25% . ولكن بريطانيا وتحت ضغط الأنشطة العسكرية الضرورية والحاجة المتزايدة إلى المزيد من القوات اضطرت لتشكيل قوات عاملة تحت قيادتها مباشرة ولكن جنودها من أبناء البلاد أطلقت عليها قوات الليفي(Leives) كما قامت ببناء ستة قواعد جوية معززة بالقوات، وقد انتخبت مناطق استراتيجية لتمركز قواتها.(3)

وإذا كانت الدولة هي البناء الفوقي للمجتمع، وبهذا المعنى هي أيضاً هيمنة الطبقة المسيطرة، وأن طبيعة البناء الفوقي هو انعكاس للنضال الاقتصادي والاجتماعي وتكمن في قواعده. " أن تمركز سلطة الدولة مع المنظمات التي تقودها، على مبدأ تقسيم العمل، والجيش أحد أهم هذه المنظومات، بالإضافة إلى الشرطة والبيروقراطية، ورجال الدين وكذلك الجهاز القضائي".(4)

وتضع الدولة في الجيش والشرطة الأهمية الكبرى وهي تحاول لأن تحكم السيطرة على هذه الأجهزة بوصفها قوى مسلحة للدولة من اجل بسط سيطرة قوانينها، وأنظمتها في توزيع الإنتاج، وقمع قوى المعارضة والحركة الشعبية.

 

" إن تركيز قوى الدولة في المجتمع البورجوازي، (يتكون في مرحلة فقدان السيطرة المطلقة)، في مؤسستان تحظى باهتمام الدولة قبل أي شيء، ألا وهي مؤسسة القضاء والجيش."(5)

والعناصر الوطنية العراقية اعتبرت أن تأسيس الجيش هو إشارة مهمة من في سياق استكمال شروط تأسيس الدولة، وإن الظرف التاريخي والتطور الداخلي والخارجي الذي قاد إلى تأسيس الجيش العراقي، كان يتألف من عناصر وعوامل عديدة، بل أنه كان ينطوي على تناقضات كبيرة، ففي الوقت الذي أرادت منه سلطة الاحتلال أن يكون عوناً لها على السيطرة على البلاد، أرادت القوى الرجعية المحلية أن يكون القوة التي تحافظ على امتيازاتها، هكذا كانت الواجبات التي من المؤمل أن يتولى الجيش القيام بها، ولكن الجيش الذي كان معظم عناصره من الجنود والضباط الصغار من أوساط الشعب المتطلع إلى الاستقلال  والحرية، لذلك كانت الأفكار المهيمنة على قواعد الجيش هي أفكار وطنية وقومية معادية للاستعمار.

لماذا إذن وافق الإنكليز على تأسيس الجيش العراقي ؟ كان لبريطانيا في ذلك مصلحتان : ـ

الأولى: كان الإنكليز يأملون من خلال الجيش العراقي أن يساهم ذلك في تخفيض عدد القوات البريطانية العاملة في العراق، ومن ثم تخفيض النفقات المالية التي يكلفها هذا الوجود. والتي كانت قد بدأت تثير تذمر دافع الضريبة البريطاني. (6)

وكانت بريطانيا تأمل أيضاً أن يقوم الجيش العراقي المزود بالخبراء والمستشارين والمفتشين الإنكليز، وبقيادة عناصر صديقة لبريطانيا، أن تقوم بلعب الدور الذي تطلبه منها بريطانيا، ألا وهو حماية المصالح البريطانية، مع العلم أن بريطانيا لم تخلي الساحة العراقية من القوات العسكرية فقد احتفظت بقواعد جوية استراتيجية وعناصر عسكرية مختارة، قادرة على التدخل، وبمعاهدة أبرمتها مع السلطات العراقية تتيح لها إدخال قوات بريطانية على وجه السرعة من الهند أو من قبرص أو عدن إذا لزم الموقف.

الثانيةً : إن الدولة التي قامت على أساس من تحالف زعماء القبائل (وهم يمثلون في الغالب قوة سياسية) مع الإقطاع (الذين يمثلون القوة الاقتصادية الرئيسية)، ونيلها مباركة المؤسسات الدينية، كان لابد لها أن تؤسس لنفسها القوة التي تضمن الحفاظ على الدولة ومكتسبات هذه الفئات.

على أساس من حسابات الواقع الذي يشير إلى تفوق هذا التحالف(المحتل والعناصر المحلية) تم تأسيس الجيش العراقي، وتولى الإنكليز تسليحه بأسلحة تكفي لقمع الانتفاضات الشعبية، ولكن حتى لهذه الأسلحة البسيطة كان لابد من استيراد الأعتدة وقطع التبديل لها من بريطانيا ومن ثم كان هناك الدور الخطير الذي كان المستشارون والخبراء والمفتشون يمارسونه في واجب مزدوج، الأول يتمثل في السيطرة على توجهات الجيش وواجباته، والثاني، في مراقبة عناصره  الوطنية ومنع النشاط الوطني داخل صفوف الجيش، وكان هذا الدور هو لضباط استخبارات إنكليز ذو خبرة في هذا المجال.

وكانت العناصر الأولى التي أنظمت إلى الجيش، تتألف من الضباط السابقين في الجيش العثماني، وأبناء العشائر، وكبادرة تشجيع للانخراط في صفوف  للجيش الجديد، قام الملك فيصل بإدخال نجله الأمير غازي إلى الكلية العسكرية التي تأسست في بغداد.(7)

ولكن كل هذه الإجراءات لم تكن تطمئن الإنكليز، فسرعان ما تقدموا باتفاقيات عديدة لعقدها بين العراق وبريطانيا على مختلف الأصعدة، بصفة خاصة الأتفاقية العسكرية(الموقعة ببغداد بتاريخ 25 أذار 1924 ) وهذه الاتفاقية العسكرية تنطوي على ذات الهدف  للاتفاقية العسكرية بين العراق وبريطانيا الموقعة ببغداد أيضاً بتاريخ 10 تشرين الأول 1922 التي تتيح لبريطانيا التدخل في الشؤون الداخلية والسيطرة على العراق عندما يكون ذلك ضرورياً لقضايا الأمن.(8)

وكذلك اقتصرت الجهة الوحيدة لتدريب الضباط العراقيين على بريطانيا، وكذلك الأساليب والنظم العسكرية، وكذلك انتقلت التقاليد العسكرية البريطانية إلى الجيش العراقي. وبتاريخ 6 كانون الثاني 1921 ، افتتحت مقر ورئاسة أركان الجيش العراقي والدوائر الملحقة به، وبتاريخ 22 شباط 1921 عين أول رئيس أركان للجيش العراقي. والمجموعة الأولى من الضباط التي التحقت بالجيش، كانوا عراقيين وعرباً من الذين كانت لهم خدمة سابقة في الجيش العثماني.(9)

 ولكن من الجهة الأخرى كانت التناقضات تتطور لغير مصلحة الإنكليز وحلفائهم المحليين، فإن هذا التدخل الواسع في الشؤون العراقية وفي الجيش بصفة خاصة، كان التناقض بين المصالح الوطنية والقومية تدفع العناصر الوطنية في الجيش العراقي إلى بلورة وعيها ونضجها. وكانت التطورات العديدة على مختلف الأصعدة تساهم في خلق حالة من العداء بين الإنكليز وقوى الشعب، وكان هذا التناقض ينتقل إلى الجيش عبر الجنود والضباط القادمين من صفوف الشعب ويدفع باتجاه المزيد من التناقض واحتدام القضية الوطنية.

 وسوف تظهر لنا المراحل المقبلة، أن الجيش المؤلف من الجنود الذين ينتمون إلى أوساط الفلاحين والكادحين، ومن الضباط الوطنيين والقوميين، سواء ممن خدموا في الجيش العثماني وعملوا في النضال الوطني، تأثروا بمنجزات الثورة الكمالية، وبدأ هؤلاء الضباط بتكوين رأي عام داخل الجيش، يهدف إلى طرد النفوذ البريطاني من العراق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

 

1.كوتلوف: ثورة العشرين ، ص.112:" تصاعدت تكاليف الأنفاق على الجيش البريطاني في العراق إلى ما يناهز 35 مليون جنيه إسترليني.

2. الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، جزء1 ص.25،        بيروت/1974 

3. الحسني، عبد الرزاق: تاريخ العراق السياسي الحديث، جزء1            بيروت/ 1975

4. ماركس، كارل: الحرب الأهلية في فرنسا، المختارات جزء2 ص.186، موسكو/ 1960

5. لينين،ف.إ: الدولة والثورة، مختارات جزء2 ص.384                     موسكو/ 1960

6. الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الثورة العراقية، جزء 1 ص.28             بيروت/ 1974

7. الأيوبي، علي جودت: خطاب يوم تأسيس الجيش،1956-1-6 ص.12    بغداد/ 1957

8. الراوي، حسن: المعاهدات والاتفاقيات، ص.80-71

9. الإدارة السياسية لوزارة الدفاع : خمسة وأربعون عاماً على تأسيس جيشنا الشجاع" ، ص. 32-30 بغداد 1966:" أول وزير دفاع للجيش العراقي كان الفريق جعفر العسكري، والفوج الأول (فوج موسى الكاظم) تأسس في تموز 1921 وكان آمر الفوج العقيد رمضان علي.

 

الساعة 0 /التاريخ : 1 / 1 / 2021

ضرغام الدباغ

وماذا بعد ... سوف تتساقط الأيام والرزنامات، والدفاتر اليومية .. كما يتساقط المطر .... وتثير ذكريات الماضي .. ووجوه كانت قريبة صارت اليوم لشتى الأسباب بعيدة، أصدقاء ورفاق وأحبة ... وحتى أنا لم أكن لأعتقد مطلقاً أن يمتد بي العمر حتى يوم 1 / 1 / 2021، فلا تكاد تمضي سنة دون أن أواجه فيها مشكلة كبيرة تتعلق بحياتي وسبل العيش حتى أني اعتدتها وألفتها ... ومن تلك أني لم أسكن في بيت أكثر من سنتين أو ثلاثة .... فأهج بحثاً عن مكان جديد مضطراً أخاك لا بطل ...

في حياتي منذ أن تستحق التسجيل بعد تخرجي من الثانوية صيف عام 1961، غادرني الأمان والاستقرار، فهذه ستون عاماً .... لقد أمضيت منها 18 عاماً في السجون ...وسنتين أو ثلاثة مختفياً هنا وهناك، 32 عاماً خارج العراق في المنفى أو هارباً بحجة الدراسة،  وما تبقى من السنوات وهي قليلة لا تصلح للبدء بمشروع ...

عشت في دول عديدة (4 دول)... في وطني المعشوق، وفي سورية ولبنان، وألمانيا، في سورية ولبنان اتخذتهما كوطن لي، وفكر البعث لعب في عقلي وأقنعني " بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد " فقد أحببت سوريا كحبي العراق، وناضلت فيها ودافعت عنها باليد والسلاح والقلم، وما زلت أحب سورية كما أحب سائر أقطارنا العربية، وأنا لا يعجبني كثيراً القول هذا مصري وذاك تونس أو أردني، بل هذا من بغداد وذاك من دمشق وذاك من القاهرة، وذاك من مدينة تونس،  وألمانيا التي لم أكن أعتقد للحظة واحدة أن أقيم فيها، وأعيش، هي دون ريب بلاد رائعة عظيمة لأهلها، ولكني عملت فيها، ودرست، وأحببت مرة فتاة ألمانية حباً ملك فؤادي وعقلي، ولكني خسرتها غصباً، كما خسرت الآلاف من كتبي واسطواناتي وأشيائي المحببة، وتعلمت لغتها فأحببتها (رغم صعوبة اللغة الألمانية) فكتبت بها، وترجمت منها للغتي الأم فأنا عربي عراقي حتى آخر ذرة من أعماقي.

ليلة رأس السنة الميلادية لم تكن حدثاً ذي بال ... ولكنها تتحول تدريجياً إلى مناسبة، نبدأ بها سنة جديدة، ومن هذه السنوات الستون، أمضيت 17 ليلة رأس سنة في السجون،  وليلة في عمان، وأخرى في بيروت، وليلتان في دمشق، وليلة في براغ / تشيكوسلوفاكيا، وليلة في أستامبول، و25 ليلة في ألمانيا، وما تبقى منها في بلادي ..

كثيرا ما كان طابع تلك الليالي نضالي، ولكن بعضها كان يعبر عن الأمل في حياة مستقرة، وبعضها كان مغعماً بالحب، وأخرى لا تغيب فيها وجوه الأصدقاء والرفاق الذين أستشهد منهم، أو من هو خلف القضبان، وأحينا نقرأ القصائد الجميلة، وأحياناً نستمع إلى الأغنيات والموسيقى ... وغالبا ما أعيش طقوسي الخاصة فلا يلهيني شيئ مما يحيط بي .... وطقوسي الخاصة لها فقراتها المميزة ... وجوه الرفاق ممن رحلوا عبر المسيرة ... وجوه الأحبة الذين كان فراقهم لمجرد ساعات أمر في غاية الصعوبة ...!  ومن أحبني كان عليه أن يدرك بعمق، أن حياتي ليست ملكاً شخصياً لي ... وقد نجوت مرات كثيرة جداً لدرجة الممل من الانتظار من الموت برصاص الاغتيال أو صريعاً في قتال، أو معلقا على مشنقة في احتفالية مع رفاقي ..! نتقدم للموت غير هيابين وفق قاعدة :

سأحمل روحي على كفي والقي بها في مهاوي الردى ... فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا

                          وأني لعمرك أرى مصرعي  .......  ولكني أحث إليه الخطى

كنت أنتظر تلك اللحظة وقد استعديت لها أتم الاستعداد منذ أول شبابي، وكنت دائما في المكان الذي يجب أن أكون فيه، وحيث يطلبني الواجب، ومراراً كنت أتطوع بنفسي وبإلحاح حين ألمح في عيون الرفاق إشفاقاً على من نفسي ....!

كانت ساعات ودقائق مواجهة الموت الأكيد تنقلب إلى ذكريات وأحاديث ضاحكة، وكنا نفرح إذ نجتاز المحنة ونحن ما زلنا على قيد الحياة، لكي نواصل المسيرة ... إلا مرة واحدة تمنيت فيها الموت، حين شاهدت جنود الاحتلال في العراق ... لن أزيد ......!

اليوم دخلنا عامي ال 77، ولا أعرف ما هي العبرة في بقائي حياً ... لذلك فأنا أعمل أكثر من 10 ساعات يومياً قراءة وكتابة وترجمة، وأحاول أن أكون مفيداً بأي درجة كانت ...فقد قرأت جملة للفيلسوف البريطاني كولن ولسن مرة : قيمة كل شخص هي درجة افتقاد الناس له حين رحيله ...!

اليوم أنا في شقتي الصغيرة ببرلين أستقبل صباحاً رماديا هو اليوم الأول من عام 2021 ، وهي من السنوات النادرة جداً أن نصبح والثلج الأبيض لا يغطي كل شيئ ... وكورونا اللعين منع الناس من الفرح كما ينبغي الليلة المنصرمة في استقبال السنة الجديدة ...  فلم يكن هناك سوى شبان عابثون أطلقوا الألعاب النارية الضوئية ... لدقائق فقط .. ثم عم السكون ................

بالنسبة لي قد أنجزت إعادة نشر مؤلفاتي وأعمالي المترجمة التي اشتغلت عليها منذ عام 1977، ووزعتها مجاناً، ولم يبقى سوى القليل جداً (ربما نحو عشرة كتب) وسوف أصدر بها نشرة لأزود من يطلبها، وكذلك بحوثي، وبعضها يستحق الاحتفاظ به، وكلها الكترونية سهلة الحفظ.

قلت ما عندي .... أتمنى للجميع سنة خالية من التعقيدات والمتاعب، أتمنى لوطني أن يتاح له أن يرتاح أخيراً لنشيد بلداً مثل الخلق والناس ......

اللهم لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ

 

 

 

 

 

حرب كورونا العالمية

ضرغام الدباغ

أني أفترض، وافتراضي قائم على أسس مادية سأوضحها، أن ما نشهده من مضاعفات وأحداث جائحة كورونا هي عبارة عن حرب عالمية ثالثة، وليس بالضرورة أن نشاهد الدبابات والطائرات والمدفعية على شاشات التلفاز، بل هذه حرب لها أسلحتها، وجنودها، وضحاياها، وخسائرها، وإعلامها المتفوق . كما يجدر التنويه، أن الحربين العالميتين تميزت كل منها بخصائص لم تكن في الأخرى، فالحرب العالمية تحددها بالدرجة الأولى الوسائل التي تستخدمها (السلاح والعتاد)، وفيما يلي المعطيات المادية :

ــ الحرب العالمية الأولى : تموز / 1914 انتهت تشرين الثاني / 1918

ــ شهدت آخر استخدام لسلاح الفرسان الذي كان سيد الصنوف.

ــ شهدت استخدام سلاح الغازات السامة.

ــ أول استخدام للسلاح الجوي، وكانت الطائرات بدائية الصنع والنتائج (من الخشب).

ــ مجموع الخسائر بين القوى المتحاربة  كما يلي :

القتلى : 8,538,315

الجرحى : 21,219,452.

أسرى ومفقودون : 7,750،919.

الإجمالي : 37.508,686

بواقع 2 مليون ونصف سنوياً قتيل بين العسكريين. والخسائر في صفوف المدنيين لم تكن عالية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ الحرب العالمية الثانية :أيلول / 1939 . وانتهت أيلول / 1945

ــ نهاية سلاح الفرسان، الصنف الأهم في القوات المسلحة.

ــ نهاية استخدام الغازات السامة.

ــ بداية استخدام سلاح الصواريخ.

ــ بداية استخدام الأسلحة النووية.

ــ مجموع الخسائر بين القوى المتحاربة  كما يلي :

نحو 50 مليون نسمة بين مدنيين وعسكريين.بواقع 8 ملايين ونحو 333 ألف نسمة سنوياً، ويلاحظ تصاعد حجم الخسائر في صفوف المدنيين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ كورونا ...... البداية كانون الثاني / 2020، لم تنتهي بعد .............!

ــ الافتراض : استخدام الأسلحة الجرثومية. (حدوث تراشق اتهامات بمستويات قيادة الدول الكبرى).

ــ الإصابات أكثر في الدول الصناعية.

ــ الأسلحة الحربية: البرية والجوية والبحرية، تقف بالإنذار .

ــ شمول كافة القارات.

ــ تقدم العلوم الطبية قلص من حجم الوفيات بدرجة مهمة.

ــ التقدم الاجتماعي / المدني / الحضري، قلص من حجم الانتشار.

ــ قلة الإصابات في البلدان الفقيرة.

ــ الانتشار الواسع جداً (Social Media) للسوشيل ميديا، لعب دوراً بارزاً في التعامل مع الأحداث.

ــ مجموع الخسائر المرصودة (وبتقديرنا هي أقل بكثير من الأرقام الواقعية). حتى يوم 25/ 12 / 2020

ــ عدد الإصابات في العالم بكوفيد 19 تجاوز 80 مليون إصابة.

ــ عدد الوفيات في العالم تجاوز 1,75 مليون وفاة. والخسائر تستهدف القوة البشرية ولا تميز بين المدنيين والعسكريين.

فمن ناحية حجم الإصابات، حجم الإصابات تجاوز حجم الحربين العالميتين، ولكن ارتفاع مستوى النظام الحضري / الثقافي، والخدمات الطبية قلص من حجم الوفيات، علماً بإن الاحصائيات الحالية لا تعني أنها إحصاءات نهائية.

 

 

 

مع تواصل الصراعات الثانوية ..

. فتش عن الاستعمار

ضرغام الدباغ

يمكننا القول بكل صراحة موجعة، أن معظم (ما لم نقل كل) الصراعات السياسية التي شهدها العراق لم تكن ضرورية مطلقاً، بل كانت خدمة للقوى الأجنبية الطامعة بالعراق، أو بدفع منها.

وهنا لا أريد أن أوزع التهم، ولكن لابد من القول أن تلك القوى الأجنبية عملت بحرفية  ومهنية عالية في العراق، فكسبت العديد من القوى إلى جانبها، أما بصفة وكلاء وأذناب، أو حلفاء، أو أصدقاء. القوى العراقية من يسارها إلى يمينها، خاضت الصراعات (وبعض تلك الصراعات كان داميا)، ولكن لم تكن في تلك الصراعات مصلحة وطنية عراقية، بل كانت نتائج المعارك والصراعات  تصب في طاحونة المصالح الأجنبية.

العراق كان وما يزال يمر بمرحلة التحرر الوطني، فالبلاد كانت لتوها قد نالت الاستقلال السياسي، المنقوص عام 1923، ثم الشبه الكامل عام 1932 (نهاية نظام الانتداب/ في العهد الملكي)، ثم بخطوات لاحقة : تصفية القواعد الأجنبية (الشعيبة والحبانية / في العهد الملكي)، بدايات خطط التصنيع (مجلس الإعمار / العهد الملكي) ثم الخروج من منطقة الاسترليني، وحلف بغداد،1959/1960 (عهد ثورة تموز) ثم قانون رقم 80 النفطي(في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم)، ثم القانون الحاسم بتأميم النفط عام 1972 (الرئيس أحمد حسن البكر). كانت هذه خطوات في مراحل تم خلالها إحراز الاستقلال السياسي، وتقليص حجم التبعية للقوى الأجنبية بدرجة كبيرة جداً.

نلاحظ في هذه المسيرة، أن العراق الحديث مر بعهود عدة ومنجزاته الوطنية تحققت عبر انظمة عديدة، ولكن الصراعات الجانبية لم تكن لتتوقف، وهي صراعات الحقت بالعراق ضررا كبيراً أوصلته لما نحن فيه منذ الاحتلال 2003 وإلى حد الآن.

لا أريد أن أتجاهل الأهداف الاجتماعية، والوطنية القومية وأهميتها، ولكن لابد من التركيز على قضية جوهرية، هي أن العراق كان حديث الاستقلال، والتشكل الاجتماعي لم يكن تاماً، وبالتالي فإن الحياة الحزبية في غياب التبلورات الطبقية، هي في الواقع تشكيلات نخبوية. وإذا كان النشاط السياسي الحزبي مقبولاً ومطلوباً، إلا أن التناقض الحاد الذي كان يفضي إلى صراعات دموية لم يكن يتناسب مع الشروط التاريخية للمرحلة التي يمر بها العراق. وبالتالي كان التثقيف السياسي غير موفق في تشخيص الموقف الاجتماعي.، أو الموقف القومي العام المناهض للاستعمار والإمبريالية .فخاضت القوى الوطنية والقومية والتقدمية العراقية حربا لا هوادة فيها فيما بينها، صراعات كانت في بعض الأحيان دموية، لم يكن لها داع حقيقي.

واليوم إذا دققنا في جوهر المواقف السياسية التي قادت إلى الصراع الدموية، نجد أن الصراع قاد في نتائجه لمصلحة القوى المتربصة بالوطن، وخسر الجميع في نهاية المطاف، ومن شدة المأساة أننا نجد من لا يقبل هذا الطرح، رغم أن طمى الخطب قد علا حتى غاصت الركب ...!

والغريب أن بعض أطراف العمل الوطني، ارتضت أن تتفاهم وتتعانق وتتحالف مع المحتلين الأجانب من أفضلهم إلى أسوءهم، وقدم وما زال يقدم التنازلات العقائدية والسياسية، وبتهاون في مصلحة الوطن، ويتخذ مواقفاً أنعم من الحرير معهم، ولكنه في اللقاء الوطني يشترط وينفخ ويغضب ويتوعد ... ويتذرع بالحجج كي لا يتفق على ماذا .....؟ على تحرير الوطن ..! اليوم أمام كل عراقي أفراداً كانوا أم حركات سياسية، هدف واحد يعلو جداول الأعمال، وهو استعادة العراق لسيادته، ومن المؤسف القول أن من لا يرى ذلك، عليه مراجعة طبيب عيون لتصحيح نظره ونظارته ...!

 

التشيع الصفوي في مأزق

 

ضرغام الدباغ

 

التشيع الصفوي يمر في مأزق شديد الوطأة، وقد يكون حاسماً. فقد سالت الأصباغ على وجه الممثلين، بسبب سخونة المواقف في المنطقة، وبانت حقيقة مزاعمهم وإداعاءاتهم. فالتشيع الصفوي لم يكن منذ بدايته ليس سوى توجه انتهازي، أستغل شعارات دينية لأغراض سياسية بالمطلق، ولم يترك منبراً يمكن استغلاله لإثارة التمزق الطائفي، ودعوات الانعزال، والكراهية، إلا ومارسها بشكل مكثف، مستخدماً أساليب تنطوي على إثارة الذعر والخوف، حتى برز من بينهم  من هم أساتذة في فن الدجل والتضليل، واستخدموا الأساليب المسلحة،  لإعلاء صوتهم وكلمتهم ليس بقوة المنطق والحجة، بل بأعمال الإرهاب، وبرز من معسكرهم إرهابيون من الطراز الأول، من إنتاجهم، وآخرون قدموا الدعم والرعاية لهم.. ولكن للزمن فصوله و تقلباته تفضح كل من يحاول التستر بالأوهام ...

ففي البدء كان إثارة الذعر والاضطراب، والفوضى المطلقة، من مصلحة القوى المناوئة، لتوجهات التحرر الوطني، وسياسات النأي بالشرق الأوسط عن الصراعات الدولية، والسير بالتنمية إلى آفاق تنقل البلدان والمنطقة إلى مواقع جديدة في السياسة والاقتصاد العالمي، وهو ما ركزت عليه مؤتمرات القمم العربية في الثمانينات فصاعداً، وهو لا يتفق مع رغبات القوى التي تريد إبقاء الشرق الأوسط وأقطاره في فلكها. وهذه هي فحوى وهدف المؤامرات التي استهدفت المنطقة.

والتشيع الصفوي ليست صيحة جديدة، فهي تعود لعام 1501 وهي الوسيلة المبتدعة لتأسيس دولة (فارسية) حديثة يمكنها الصمود بوجه المتغيرات في آسيا الصغرى وأقطار الشرق الأوسط عموماً، الذي شهدت نهوض دولة إسلامية قوية (الخلافة العثمانية) ستعيد عصر الخلافة الإسلامية الني انتهت بسقوط بغداد (1258) بأيدي المغول، وكانت الدولة العثمانية تحكم بأسم الدين ودانت لها الأقطار الإسلامية في آسيا الصغرى، وهنا أرادت بلاد فارس، أن تخرج عن القبول بالقيادة التركية العثمانية، فكان أن هيمن على مقدرات الدولة المنقسمة والضعيفة القائد العسكري إسماعيل الصفوي الذي أراد أن يمنح الدولة الفارسية شخصيتها وفكرها الديني والسياسي لتكون نداً منافساً للدولة العثمانية، وشرع بترسيخ مبدأ التشيع بالقوة في البلاد (وهو السني المذهب)، وحيثما استطاعت قواته الوصول، لذلك كان عهده وعهد المرحلة الصفوية عبارة عن حروب وصراعات مسلحة، وتبعاً لذلك كانت مناطق السيطرة الهيمنة تتسع وتتضاءل بناء على تلك الحروب.. وهناك الكثير من الأنباء عن أصول الأسرة الصفوية والتداخل العرقي والديني. (آذري، وكردي، تركماني، جيورجي، ويوناني).

بدأ التاريخ الصفوي بتأسيس الطريقة الصفوية، على يد مؤسسها الذي سميت على اسمه صفي الدين الأردبيلي (القرن الثالث عشر وكان صفي الدين قد أسس المدرسة الزاهدية ــ  الصوفية في جيلان. وكان صفي الدين يمتاز بشخصية دينية قوية وكاريزما جذابة، فأُطلق على تعاليمه بعد ذلك اسم الطريقة الصفوية. وسرعان ما أصبح للطريقة الصفوية دورا كبيرا في مدينة أردبيل وأرجاءها، حيث كان أغلب الناس متأثرين بتلك المدرسة وتعاليمها. ويوجد حتى يومنا هذا شعر ديني كتبه صفي الدين باللغة الآذرية القديمة (وهي لغة إيرانية شمالية غربية صارت اليوم بائدة).

بعد وفاة صفي الدين، انتقلت قيادة الطريقة الصفوية إلى صدر الدين موسى (المتوفي عام(1392  كانت الطريقة في ذلك الحين قد تحول إلى حركة دينية وراحت تبث دعاياتها الدينية في جميع أنحاء إيران  وسوريا وآسيا الصغرى، والأرجح أنها كانت حتى ذلك الوقت ما زالت على أصولها السنية الشافعية. ثم انتقلت قيادة الطريقة / الحركة من صدر الدين موسى إلى ابنه خواجة علي (المتوفي عام 1429)، الذي انتقلت منه القيادة أيضا إلى ابنه إبراهيم (المتوفي عام 1447). عندما تولى الشيخ جنيد (ابن إبراهيم بن صدر الدين موسى) قيادة الطريقة الصفوية في عام 1447، تغير المسار التاريخي للحركة الصفوية تغيرا جذرياً، إذ: لم يكن الشيخ جنيد راضيًا عن السلطان الديني، ولذا سعى إلى تحقيق سلطان مادي دنيوي. في ذلك الوقت كانت أقوى أسرة في إيران هي أسرة قراقويونلو (وتعني: الخرفان السوداء)،  فلجأ الشيخ جنيد إلى الأسرة المنافسة لأسرة قراقويونلو التابعة لجهان شاه، أسرة آق قويونلو (الخرفان البيضاء التركمان) التابعة للخان أوزون حسن، وعزز علاقته بها وذلك من خلال زواجه بخديجة بيغوم أخت أوزون حسن. ولكن الشيخ  جنيد قتل أثناء عملية اقتحامه لأراضي شروانشاه، وخلفه في منصبه ابنه الشيخ حيدر الصفوي.

تزوج حيدر من مارثا العمشا بيغوم، أبنة أوزون حسن، التي ولدت إسماعيل الأول، مؤسس الأسرة الصفوية. كانت أم مارثا، ثيودورا التي تُعرف أكثر باسم دسبينا خاتون، أميرة يونانية بونتيكية، وكانت بنت الكومنينيون الأعظم يوحنا الرابع ملك طرابزون، وقد تزوجت بأوزون حسن في مقابل حماية الكومنينيون الأعظم من العثمانيين.

بعد أن مات أوزون حسن، شعر ابنه يعقوب بالتهديد، بسبب تعاظم النفوذ الديني الصفوي. تحالف يعقوب مع شروانشاه. ثم قتل حيدر في عام 1488. بحلول ذلك الوقت كان أغلب أتباع الطريقة الصفوية من الأوغوز الذين يتحدثون بالتركية، وقد كانوا قبائل من آسيا الصغرى وأذربيجان، وكانوا معروفين باسم قزلباش، وتعني ذوي الرؤوس الحمراء، لأنهم كانوا يلبسون عمائم حمراء مميزة. كان القزلباش محاربين، وموالين دينيًّا لحيدر، ومصدرًا لقوة الصفويين عسكريًّا وسياسيًّا.

وبعد وفاة حيدر، اتحد أتباع الطريقة الصفوية حول ابنه علي مرزا الصفوي، الذي طارده يعقوب أيضًا حتى نجح في قتله. وفقا للسجل الصفوي الرسمي، كان علي قبل رحيله قد عيّن أخاه الصغير إسماعيل قائدًا دينيًّا للطريقة الصفوية.

كانت إيران تدين بمذهب السنة ولم يكون فيها سوى أربع مدن شيعية هي: آوه، قاشان، سبزوان، قم. وعقب تتويج إسماعيل الصفوي ملكا على إيران أعلن المذهب الشيعي مذهبا رسميا للدولة بأستخدام مفرط للقوة، فيقول المؤرخ السني قطب الدين النهروالي عن إسماعيل الصفوي " قتل خلقاً كثيراً لا يحصون عن ألف ألف نفس" ويصف المؤرخ الشيعي محسن الأمين ذلك "بالكذب الصريح" بينما يقول عنه: و أجبر البقية على تغيير مذهبهم توجهت أنظار إسماعيل إلى منطقة جبل عامل في لبنان،  التي كانت آنذاك أحد معاقل الشيعة، وقراً لكثير من علمائهم.

وإذا كان إسماعيل شاه فد أسس التاريخ الرسمي للتشيع الفارسي، إلا أن المرحلة الصفوية انتهت بعد حروب طويلة وصراعات، حققت خلالها نجاحات محدودة، لكن دون أن تحقق مركزاً قياديا لإيران كما كان الهدف الحقيقي للسياسة الصفوية، ولكنها كرست تقليداً أن يكون المذهب الشيعي أساس للحكم في بلاد فارس وما جاورها، والتي تأسست دولة إيران لاحقاً (1923)، ولكن بعد أن أصبح التشيع هو العمود الفقري والعصبية لتجمع إيران في دولة أطلق عليها (إيران) لتضم شعوباً ليست فارسية، وليست على المذهب الشيعي، وسرعان ما دخلت ميدان ومسرح السياسة الدولية وكواليسها وتوازناتها، فأصبح وجود القوى العظمى في إيران يؤشر مصالح عديدة ومتناقضة أحياناً إلا أنها تشير في نهاية المطاف إلى مصالح الغرب في أهمية وجودها ككيان سياسي لتمثل جدار الصد من قوى وشعوب أواسط آسيا، وبين شعوب الشرق الأوسط العربية، وتزاد الأهمية بالنظر للمعطيات الجيوبولتيكية، والاقتصادية للمنطقة. ولكي يكون الكيان الإيراني العنصر المهدد والمثير للمتاعب في الكيانات الإسلامية.

 

وتحول التشيع ليصبح الآيديولوجية / الرابط لكيان الدولة حتى بعد العهد الصفوي، في العهد القاجاري، والبهلوي، ويتضمنها الدستور الإيراني صراحة بنص واضح،  والمدارس الدينية وطقوسها كانت المخدر الأساسي للشعوب الإيرانية كي لا تتجه صوب شعارات سياسية / اجتماعية، وكانت سرنجة (أبرة) المخدر بيد السفارات البريطانية والأمريكية، ومن يقرأ تاريخ فارس / إيران الوسيط والحديث يتوصل لحقيقة أن سفارات بريطانيا والولايات المتحدة كان المسير الحقيقي للسياسة الفارسية / الإيرانية. وأخيراً قررت هذه الدوائر التدخل واىستخدام المخدر حين بدا لها أن قوى سياسية / اجتماعية قد حطمت حاجز الخوف من نظام الشاه الرجعي وأجهزته القمعية، وقد أشعلت للمرة الأولى في تاريخ إيران نيران ثورة اجتماعية طابعها عمالي / تقدمي تساهم فيها الفئات الكادحة المسحوقة، والأحزاب الوطنية والتقدمية والدينية المتنورة (حزب تودة، نقابات العمال، مجاهدي خلق، حزب الجبهة الشعبية).

 

فقدرت المخابرات الأمريكية التي كانت (وما تزال) تدير الملف الإيراني (منذ نهاية الحرب العالمية الأولى)، أن نظام الشاه ساقط لا محالة، ولا يمكن إعادة تأهيله أو إنتاجه (reproduction) كما فعلت في أزمات داخلية سابقة، كما أن تحالف القوى الوطنية المعادي للشاه، يحمل في ثناياه احتمالا بأن يتطور الموقف السياسي في مستقبل ليس ببعيد ويفرز موقفا ومعطيات مقلقة. وبما أن التاريخ لن يعود للوراء (لعام 1954) لإنقاذه بعملية انقلاب (الجنرال زاهدي)  تسانده جموع غوغاء من المصارعين ومدلكين الحمامات الشعبية، إذن لا مندوحة من ترك المؤسسة الدينية من أن تطلق الغوغاء للشوارع وتقلب الطاولة على رأس الجميع، فهي أفضل الخيارات السيئة المطروحة، وسيبقى النظام غير بعيد عن تأثيرات الولايات المتحدة وحدود أفلاكها.

ولكن لا شيئ في الحياة عرضة للتغير قدر التحولات في السياسة، سواء في مآربها أو في وسائلها، ذلك أن التحولات الاقتصادية التي لا تعرف التوقف، سوف تفضي إلى مستويات جديدة، تستلزم فهم ومستحقات جديدة لها. ومثل هذه الإنتقالة في الموقف ابتدأت تفرز آثارها ونتائجها بعد مؤتمر مالطا  (3 و 4 / كانون الأول / 1989) إلى أفاق جديدة، خففت إلى حد بعيد من مخاطر نشوب حروب شاملة بين المعسكرين، وبالتالي تضاءلت قيمة المخافر الأمامية، ومواقع الرصد، أو النقاط الأمية، وبالتالي تضاءلت أهمية إيران في الاستراتيجية الأمريكية، فراحت (إيران / الملالي) تبتكر المواقف وتحاول تثبت أهميتها كلاعب مهم في الشرق الأوسط بوسعه أن يتواجد بقوة ويشعل معارك في ساحات مختلفة بما يخدم المصالح الغربية.

ولكن حتى تلك المحاولات في التدخل هنا وهناك لم تسفر عن نتائج ذات قيمة تستحق ما صرف عليها من تكاليف مادية وسياسية وبشرية، رغم أن الغرب وفر لها الغطاء السياسي الكافي للتدخل في جميع الساحات، أما في العراق فقد سلموها لهم تسليم اليد، ولكنهم لم يستطيعوا أن يستثمروا هذه التسهيلات والدعم، فأنغمست عناصرهم (الإيرانية والعراقية) في فساد ونهب قل نظيره في تاريخ العراق، إضافة إلى افتقار تام إلى القدرات السياسية في استيعاب الموقف السياسي والاجتماعي والثقافي، فطيلة عقدين من الزمن تقريباً، فشل مشروعهم السياسي فشلاً ذريعاً، إلى جانب سقوط إدارة الدولة، ولم يعد لديهم ما يواجهون به الشبيبة العراقية الساخطة سوى القمع الوحشي الذي أودى بحياة المئات من الشبان.

والوضع داخل إيران لم يكن بأفضل من التوجهات الخارجية الفاشلة، فالاقتصاد الذي يواصل هبوطه وانحطاطه بدرجات غير مسبوقة بسبب تخبط السياسة الداخلية والخارجية، ولم تكن النتيجة سوى تراجع  في مستوى حياة المواطنين، يعبرون عنه بأكثر من 14 أنتفاضة، وبألوف القتلى في المصادمات وأمام محاكم دينية رجعية لا علاقة لها بالقوانين والعدالة، ولم يجد الشبان أمامهم سوى الهروب إلى اللجوء في بلدان العالم وتسرب الكفاءات الإيرانية إلى الخارج.

 

وبهذا ألتحم الفشل الداخلي بالفشل الخارجي وأطاح بالجوهر الآيديولوجي للثورة الإسلامية   (مشروع تصدير الثورة) وأن نظرية الإمام الخميني بتحديث الفكر الصفوي من خلال محاولة بائسة في منح شرعية غيبية مزعومة في نظام الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه، وهي ليست سوى تشريع لديكتاتورية بائسة وبذلك سقطت نظرية ولاية الفقيه سقوطاً ذريعاً، والذي أسقطها هو ديماغوجيتها، والتوجه صوب أهداف مستحيلة، رغم أنها لم تواجه مقاومة حاسمة، لأن العالم العربي والإسلامي يواجه مؤامرة شرسة جداً من الغرب وإسرائيل،  ولكن هناك خلل كبير في نظرية ولاية الفقيه، بل وحتى القسم الأعظم من الشيعة لم يقتنعوا بها، إلا من وقعوا في براثن الاستخبارات الإيرانية، وخضعوا لعملية غسل دماغ محكمة. فالتحم الفشل الداخلي مع الفشل الخارجي، لينهار المشروع برمته، وبات لا يراهن سوى على القوة المسلحة وتجنيد المرتزقة.

 

هذا هو بتقديري السبب الرئيسي لسقوط التشيع الصفوي الجديد، الخلل في البرنامج السياسي، وفي الجانب الذاتي هناك مجموعة كبيرة من الاخطاء التكتيكية في الداخل جعلت من النظام دولة قائمة على القمع الدموي الواسع النطاق، أضعاف ما كان عليه نظام الشاه، وفي الخارج لم يحاول ... مجرد محاولة أن يدخل عقول وقلوب الناس بالحوار والإقناع وباتباع أساليب حضارية ومثقفة، بل جل ما فعلوه هو اعتماد الشتائم والسباب  والتفسيق، والتفنن بالاغتيالات، وبالمغالاة والتطرف التي أبعدتهم كثيرا حتى الكثير من جمهورهم ...! لم يفعلوا طيبا في سورية ولبنان واليمن .... لذلك ما جنوه هناك هو كراهية الجمهور، وعدا الهرولة في الشوارع شاهرين أسلحتهم يطلقون صرخات مسعورة، والميليشيات المسلحة والتي تسفك الدماء في ظل الأفتقار التام لأي منجز سياسي واقتصادي وثقافي، لا شيئ البتة ...! هذا هو حصاد 42 سنة من نظام ولاية الفقيه " التشيع الصفوي الجديد ".... !

أما ذروة السقوط الآيديولوجي / السياسي فقد تمثلت بكل جلاء بتطورات أحداث القضية الآذرية ....! وبتقديري فقد مثلت الضربة القاضية، وبددت يقايا أحلام من كان يعتقد خيراً في نظام ولاية الفقيه. وفي الحقيقة لم يكن الكثير من المراقبين والمتابعين يتوقعون أن تؤيد الجمهورية الشيعية الإيرانية، جمهورية أرمينيا الأرثودوكسية، وتؤيدهم في أستيلائهم على الأرض الآذرية (ناغورنو قرة باغ) وتخالف بذلك أبسط قواعد وبنود الدستور الإيراني. وهي خطيئة كبيرة وقع فيها الملالي، فقد كان بوسعهم الوقوف على الحياد على الأقل، والدعوة لوقف الحرب، والدعوة لحوار العقل والتعقل، ولكنهم وجدوا أن المصلحة تكمن في الوقوف مع ارمينيا ومساعدتها، بل والقتال إلى جانبها، وحتى بالوقوف إلى جانب غلاة الأرمن وتشجيع  المتمردين/ المتطرفين منهم بالسلاح، فأندفعوا دون تبصر وتأمل.

يستطيع كل خبير في الشؤون الإيرانية أن يتبين حجم وشدة الهواجس الإيرانية حيال القضايا الآذرية، (تمثل أذربيجان الجنوبية نسبة كبيرة من أرض وسكان إيران) فالأطراف الدولية التي تعول على القيمة الاستراتيجية لإيران، ستكتشف دون عناء، أن إيران فقدت حتى الآن الكثير منها، والتفاعلات المقبلة للقضية تنبأ بفقدان المزيد من المزايا، وانهيار متزايد لنظرية ولاية الفقيه البائسة، التي تفتقر للأسس العلمية والقانونية، فوزارة الخارجية الإيرانية تصرح علناً: حيث يوجد ضريح لأل البيت هي منطقة مصالح لنا، من المؤكد أن نظريات السياسة الخارجية لم تسمع بنظرية كهذه من قبل، والعالم يعلم أن آل البيت لم يكونوا من الفرس، ولم يعيشوا حتى في بلاد فارس، إلا ربما كزيارة، ولم يكونوا من الشيعة (هم لم يؤسسوا هذا المذهب) الذي بدوره يتألف من عدة مذاهب ..! وما العمل إذا كان أحد من آل البيت من الجيل الخامس أو السادس أو الأربعين قد سافر إلى استراليا وتوفي هناك ..؟ حسناً .. ملوك الأردن هم من آل البيت، وملوك المغرب كذلك، وآل البيت كانوا ملوكا في العراق وسورية واليمن وليبيا .. مالعمل هل نقلب التاريخ رأسا على عقب  ليتناسب مع مزاج مخرفين يريدون إنشاء امبراطورية فارسية على أشلاء الملايين ..!  

 

بعد أن ظهرت فساد هذه النظرية الرجعية، وأن الجماهير الإيرانية قبل غيرها سيتبين لها أنها في ظلال عظيم. وأن القناعة المطلقة بالغيب هو تسليم لمصائرهم بأيدي مخرفين يريدون تحقيق شعارات سياسية بوسائل منحطة. تأتي إيران لتقدم المال والسلاح والدعم لمتمردي قرةباغ الأرمن الأرثودوكس ضد السلطة الآذرية الشيعية .. هل نحتاج لعبقرية لندرك أن القصة دجل في دجل ...!

 

ولا تخفي تركيا السعي لمنظومة الجامعة للشعوب التركية، التي تمتد من بحار مرمرة وإيجة والمتوسط والأسود، وبحر قزوين وتصل حتى الصين، كيان سيكون عازل بين روسيا والشرق الأوسط ، الغرب لا يفضل رؤية كياناً قويا كهذا، ولكن إذا كان في الأمر ما يحبط خطط الصين أو روسيا ... فهنا يصبح الأمر يستحق النظر .. فهذه كيانات تتحد بناء على التماثل العرقي القومي (التركي)، والمعتقد الديني (الإسلامي)، فيما إيران تهيمن بالقوة والعنف على شعوب داخل الكيان (الإيراني) كالآذريين والتركمان  والكرد والعرب والبلوش. ولكن بين الدول الغربية من أقفل نظره وعقله ومداركه ضد العرب وضد المسلمين، مالعمل ... القضية كبيرة وتستحق موقفاً كبيراً .. وسوف تتغير استراتيجيات. وعلى الأرجح أن الولايات المتحدة تتفهم المتغيرات، واستراتيجيوها يفكرون بالمصالح فقط، وبمعطيات الواقع المادي الموضوعي، ويعملون بدون محرمات (Taboo)، فيما تتداخل في أفكار الأوربيين مفاهيم الديانة والطائفية (بروتستانت، أرثودوكس، كاثوليك) والأثنية ومستحقاتها..الخ ... وظلال التاريخ والذكريات.

وتشير أحدث المستجدات، أن هذا الكيان التركي قد اجتاز مرحلة التشاور وسيتخذ شكله النهائي قريبا، بصيغة : تحالف/ تجمع دول، منصة تعاون سيضم مبدئياً معظم دول المنطقة، وقد تدعى أرمينيا إليه، وهناك منظمات أرمنية متطرفة تحضى بدعم طهران، هي رافضة للحلول الواقعية وللسلام في المنطقة، ومن المؤكد أن أذربيجان الجنوبية سوف تتطلع (وهي تفعل ذلك منذ قرن) إلى الالتحام بنصفها الآخر، وهذا سوف يثير الهواجس الإيرانية، وقد شرعت فعلاً بردود الأفعال، وإطلاق تصريحات تنافي المنطق والعقل.

ذات يوم كنت أحادث صديق لي وهو من الشيوخ في حوزة النجف، سألته: لماذا فشل حكم الفاطميين في مصر بعد تعاطفت معهم في البداية  شعوب شمال أفريقيا في ليبيا ومصر ومدوا نفوذهم إلى الحجاز ولبنان وسورية(رغم كون سكان هذه الأقطار من السنة)، واستطال حكمهم 250 عاماً ثم أنطفأ دون أن يترك حتى بصيص ..؟ لماذا ... فذهل الرجل، وقال حقا أمر غريب لا يخطر على البال ..! فقلت له " فكر ....لأنهم اتفقوا مع الصليبيين ضد أبناء قومهم العرب المسلمين ..! رباط السالفة ...! ",

أبتسم الرجل وقال ... " نعم واضح .. فهمت .."

نعم ... سيفهمها الجميع ... إن عاجلاً أو آجلاً ...!

 

 

الرأسمالية في قمة تطورها

 

 ضرغام الدباغ

 

 

حين كتب كارل ماركس قبل أكثر من 100 عام، أن الدولة هي ديكتاتورية وسلطة الطبقة الحاكمة، وأن أدواتها هي البوليس والمحاكم لتحقيق سطوتها ونفوذها العالي الذي لا يقهر. اعتقدنا بنسبة ما، أن في الأمر مبالغة بنسبة ما ...

 

يكتب جان جاك روسو في مؤلفه الفذ " العقد الاجتماعي "، " أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ... وسوف لن توجد أبداً "، وأضيف كمتخصص في الفكر السياسي، أن الدولة تربط المواطن بسلسلة طولها (؟ متر) والأهداف الصعبة (التي يحافظ عليها النظام) تبعد عن مدى السلسلة بنصف متر، وهذا يعني أن المربوط بالسلسلة إلى عمود صلب (الدولة) سوف لن يبلغ الهدف مطلقا مهما صرخ واحتج وفعل ما يريد .... والعمود (الدولة) يقرر ماذا يضع في متناول المربوط بالسلسة (المواطن) إلا إذا قطع السلسلة ..! (الثورة) آنذاك يبلغ المواطن ما يشاء من أهداف وفي مقدمتها بالطبع رأس السلطة السياسية.

 

كنا نعتقد أن ماركس يبالغ شيئاً ما ... وأن الماركسيون يبالغون ..!

 

كتب الكاتب البريطاني جورج أرول عدة أعمال في معظمها يهاجم النظام التوتالي (المطلق) وهو بنفسه كان يساريا ولكنه أعتقد أن النظام الاشتراكي في مواجهته لخصومه يمارس السلطة بقسوة، وفي روايته الشهيرة " 1984 " ، تخيل أو الدولة الاشتراكية تستخدم البوليس بكثافة، ومجهزا بأشد وسائل القمع، وأن الدولة عبر أجهزتها تنصب الكاميرات في الساحات ومواقف القطارات والأماكن العامة لمراقبة الناس، ةفي روايته الأخرى  "حديقة الحيوانات " (Animal Farm) بالغ في وصف الدولة التوتالية معتبرا أن المحاكم والسلطة مسخرة كليا بأيدي الطبقة المتسلطة. والآن تنصب الأنظمة الرأسمالية الكاميرات في كل مكان وتقنع الناس أن هذه لخدمتهم ...!

 

شخصيا عشت في دولة اشتراكية، لمدة 8 سنوات، لم أجد أي من هذه الملامح التي تحدث عنها الكاتب أورول حين تنبأ مما سيحدث، ولم أصادف طيلة تلك السنوات حادثا يعبر عن العنف والقسوة من جانب البوليس ولا الناس، فالاشتراكية تخفف بدرجة كبيرة من الميل للعنف بوصفها مبدأ للسلم الاجتماعي والعالمي بل كان رجال البوليس يحملون جعب المسدسات فارغة من السلاح، محشوة بالقماش، بل على العكس كانوا بالغي التهذيب واللطف والأدب، ويبالغون في خدمة طالب الخدمة. في حين بالعكس هذه المظاهر نشاهدها بكثافة في الدول الرأسمالية وبكثافة ...!

 

وأجد من المناسب أن أسجل ما حدث مرة بعلمي، أن سيدة ألمانية (في زمن ألمانيا الاشتراكية) تعمل في وسط ثقافي معين ومشهورة بدرجة ما، دخلت محلاً لشراء الأحذية، ووسوس لها شيطانها أن تسرق زوجا من الأحذية تلبسه وتغادر المحل، وخيل لها أن ذلك سهل جداً وأن مظهرها وربما شكلها معروف للناس، سيساعدها بأن تخرج بأمان. ولكن ما أن كانت على وشك المغادرة، أن وجدت نفسها أمام إحدى بائعات المحل التي طلبت الشرطة. وعندما أخذها الشرطة إلى سيارتهم وتقول كدت أن أموت خجلاً وعارا.. رغم أن الشرطة أخرجوها باحترام (بدون تقييد اليدين)، ومضوا بها إلى قسم البوليس (يسمى هكذا في ألمانيا /  Polizeirevier)، وفي الختام، وبعد دراسة قضيتها، قرروا عليها حكماً، أن تملأ دفترا كاملاً بجملة " لقد أخطأت .. سامحوني "  وتملأ كل يوم عدد من الصفحات، في قسم البوليس حضوراً،  وتقول بعد عدة صفحات تعبت نفسياً، وقلت لهم  لقد أخطأت، ولكني لا أستطيع مواصلة كتابة الجملة. فأعفيت من العقوبة ومن تبعاتها. واليوم المواقف والسجون مليئة بصبية وشبان لأسباب بسيطة ... وتسجل في قيودهم وتشهر بوجوههم في كل مناسبة ...!

 

العقوبة ليست انتقام، والشرطة ليست عدو للناس،  الشرطة أداة شعبية لوقف الاعتداء على الناس، ولمنع الجريمة الجنائية والاقتصادية، أي منع الاعتداء على الناس وممتلكاتهم. ولكن أنظروا إلى مئات الأفلام في اليوتيب والأنترنيت عن مشاهد تستخدم فيها الشرطة الأمريكية والبريطانية وحتى السويدية أشد صنوف القسوة البالغة بحق متهمين لدرجة إطلاق النار من الأسلحة على متهمين أو مشبوهين والقتل بقضايا تافهة لا تستحق هذه الإجراءات العنيفة، كتجاوز إشارة مرور مثلاً. في الولايات المتحدة خاصة، فرجال البوليس عبارة عن وحوش آدمية .

 

كانت لدي إحصائية (فقدتها للأسف)  عن عدد القتلى من ضحايا البوليس الأمريكي السنوية بإطلاق النار بتهمة " نودي عليه بالوقف فلم يمتثل " وهي أعداد تصيب بالصدمة لمن يطالعها. حتى الشرطة البريطانية التي كانت توصف بالاتزان والحصافة والمهنية، ولا يحمل أفرادها الأسلحة، عدا العصي، يرتكب اليوم أفرادها جرائم واضحة خلال العمل، ولا يلاقون العقوبة الرادعة، بدليل تزايدها. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فالأمر، قاد وسيقود إلى كوارث، والسؤال لماذا لا يتم السيطرة على هذه الخروق. ثم أن هناك أمرا آخر مقلق، هو تفشي اليمين المتطرف في المجتمعات، بدرجة بلغ مداه إلى أجهزة الشرطة والأمن والجيش (في قوات النخب خاصة).

 

الدولة ينبغي أن تكون بعيدة تماماً عن الانصياع للغضب أو الفرح وبالتالي لردود الفعل. عدوانية البوليس وشراسة الحكومة لا تبعث مؤشرات طيبة، الحكومة تطبق القانون بواسطة الشرطة، وكما هو الترهل والارتخاء والتلكؤ غير مقبول، كذلك الحماس ومزج الرأي الشخصي بالإجراءات مرفوض تماماً. وما نراه بشكل شبه يومي على شاشات التلفاز من شرطي يسحق عظام رقبة مواطن حتى الموت بدون سبب ودون أن يقاوم، وشرطي آخر يسحق فتاة شابة يوقعها أرضاً بنفس الأسلوب، وما هو سيئ جداً ومثير للإحباط، أن الشرطة الأوربية يقلدون زملاءهم الأمريكان في هذه التصرفات، والسويد المعروفة بأتزانها، تمارس الشرطة أعمالاً لا يمكن وصفها قانونية، وهذا يشير إلى قضية مؤسفة، أن الشرطة بوصفها جهاز مكلف بتطبيق القانون قد تسلل إليه اليمين وربما توصلت لمراتب قيادية فيه، والنزعات الاعتدائية، والتمتع بإظهار السطوة والقوة.

 

اليوم مسؤول كبير بدرجة رئيس جمهورية في دولة تعتبر نفسها عظمى (فرنسا) يقف وراء المايكرفون ويحرض علناً على الكراهية والحقد والانتقام، والعوازل ... ووزير داخليته يتدخل في طريقة عرض بيع اللحوم ..! أيحدث هذا في بلد التنوير ...؟ أم أنه يفعل ذلك لينال (بالأستجداء) أصوات اليمين المتطرف، هو فعلها على أية حال، وتحسب سلباً على النظام " الديمقراطي "  وأكد نظرية أن لا ينبغي أن يتولى المسؤولية الأولى شبان طائشون في مقتبل العمر. وفي تبادل ناري للحديث بين الرئيس ترامب ومنافسه بايدن في آخر مناظرة بينهما (22/ اكتوبر) حول التمييز العرقي، قال جو بايدن إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "يصب الوقود على كل حريق عنصري". وقال ترامب عندما سئل عن الاحتجاجات المتعلقة بالعدالة الجنائية في الولايات المتحد ة : " أنا أقل شخص عنصري في هذه الغرفة" (معنى ذلك الغرفة (البلد ــ الدولة) مليئة بالعنصريين ...! ياله من اعتراف مذهل ..!). ورد بايدن قائلاً إن ترامب من بين "أكثر الرؤساء عنصرية في التاريخ الحديث" (لاحظوا كم هو دارج وسلس الحديث عن العنصرية في بلد كأميركا يتألف من كل الأعراق والأديان، والكل غرباء ومن أصول ليست أمريكية، بلد يتزعم الديمقراطية " لفضاً " ...!) .

 

ولكن لنستعرض الأمر بشكل أعمق، هل هذه المظاهر صدفة .. أو عرضية ..؟ لا بالطبع فما يحدث هو تراكم لانحدار وانحطاط ثقافي عام، ولكن هناك من يمارسها بوحشية وهمجية، وهناك من يمارسها بصورة مخففة ..!  فهذا الشرطي، او الجندي الذي يرتكب جرائم حرب وحشية، ألم يدرس في مدرسة ابتدائية، وقبلها في روضة أطفال ..؟ ومدرسة متوسطة، ثم تأهيلاً متقدماً، وماذا تعلمه من قياداته ..؟ لذا تشيع بشكل متكاثف ظواهر وتربية الشراسة والقوة في المدارس ( (schulmobbing وقد تحولت إلى مشكلة حقيقية، وتدرس في مناهج التربية والتعليم في الولايات المتحدة خاصة، وفي العالم الرأسمالي عامة، وهي في نهاية المطاف حصيلة ضغوط اجتماعية واقتصادية وثقافية عديدة، وهذه هي بالضبط التي تقود إلى حوادث الإجرام المعروفة بالقتل الجماعي العشوائي (Running amok)، والتي تروع المجتمعات بين الحين والآخر، ولأن جذر التربية فاسد، وتتكرر في الولايات المتحدة وفي دول رأسمالية أخرى.

 

ولا تخلو ملاعب الرياضة أيضا من حوادث العنف، سواء بين المتفرجين، أو اللاعبين أنفسهم، وبعض تلك الشجارات دامية، ذلك لأن الرياضة ابتعدت كثيرا عن كونها نشاط إنساني نبيل، وأصبحت صناعة كاملة الأبعاد، تدر مئات المليارات، ويباع الرياضيون ويشترون كأي ماكنة وآلة إنتاج ..!  وهكذا يبدو أن هناك سلسلة حلقات من المعايشة والتربية والتعليم التواصل والتدريب، وصولاً إلى عالم التنافس الذي لا يرحم، والخطأ يكمن في أكثر من مرحلة، وتبدأ بتقديري منذ الطفولة وعند أولى خطوات التربية. وأن هناك خللاً مهماً في أساليب التربية سواء في البيت، أو في رياض الأطفال والمدارس. وأن ثقافة التحريض العنصري لا تلاقي مقاومة المقاومة، أو التثقيف المضاد ... بل تساهلا وتغافلا يبدو أحياناً أنه متعمد، فعندما تتطور هذه الممارسات من حوادث عابرة إلى ظاهرة ..لا شيئ يدور بالصدفة ..!  في ألمانيا يهتمون بشكل خاص بهذه الظواهر ويعملون بجد لأستصالها وخاصة من الدوائر الحساسة (الجيش والشرطة)، ولكني لا أعتقد أن ذلك يجري في بلدان أوربية أخرى.

 

إن ثقافة حقوق الإنسان هو شعار ولافتة سياسية، موجهة بوسائل الإعلام وغيرها، بالمزاج وبمعايير مزدوجة .. وقد غدا هذا أمرا مفهوماً بدرجة تامة. هل أصبح عدم تناول هذا الصنف من اللحوم مشكلة أو موضوعة تستحق مناقشات (بدرجة وزير) في حلقات عليا ... ؟ وهل أصبح ارتداء الحجاب مشكلة كبيرة تقود إلى الكثير من الاعتداءات في الشارع .. وهل تستحق هذه القضايا البسيطة، كل هذه القوانين والعناء  ؟ لقد جرى تسخير القوانين ومشرعوها قبلوا أن يصبحوا رماح بيد المتطرفين، فمحكمة تتخذ موقفا رسمياً من إنسان لأنه يقبل أو لا يقبل المصافحة ..! حين أجازوا رسمياً السخرية من (س) على أنها حرية رأي، ولكنهم  يعاقبون بأشد العقوبات  مجرد إن شككت ب (ص) مجرد تشكيك ..!

 

الفاشية والنازية كانت مراحل (في العشرينات والثلاثينات) مرت بها بلدان (إيطاليا / ألمانيا) تحولت إلى مرحلة الصناعة المتقدمة وكانت هناك احتكارات رأسمالية عملاقة، ومعطيات قادت أن تقوم فيها حركات سياسية عنصرية متطرفة، فازت بالانتخابات واستلمت الحكم وقادت إلى كوارث. وبعد أن حل الدمار الكبير في الحرب العالمية الثانية، قررت هذه الشعوب أن لا تدع الفرصة لأفكار مدمرة أن تستولي على عقول الناس وتقودهم إلى تدمير سيكون أشد وطأة من التدمير الأول.

 

ترى لماذا النظام الرأسمالي يصبح عنيفا في ذروة تطوره، فثراء البلدان الصناعية الرأسمالية بلغ حداً خيالياً، ولكنهم بالمقابل تقتر هذه الأنظمة على شعوبها، فهناك حقاً اشتداد للتمايز الطبقي وفقراء ينامون على الأرصفة، وناس يأكلون من القمامة، وبشر يموتون متجمدين على الأرصفة في الشتاء القارص .. ففي الولايات المتحدة حين أقر الرئيس اوباما التأمين الطبي، هاجت الفئات العليا وماجت، وسرعان ما ألغيت في عهد الرئيس ترامب. ويدهش المرء حين يجد مدن أمريكية كبيرة لا تتمتع بمواصلات عامة أو حتى بمستوى مقبول، وهذا غير مفهوم بالنسبة حتى لأوربي قادم من الدول التي فيها خدمات عامة ممتازة كألمانيا وبريطانيا، وهذا بسبب قدم فكرة الخدمات والضمان الاجتماعي فيها.

 

الدولة الرأسمالية في ذروة تقدمها، قليلة التسامح، التضامن والتكافل الاجتماعي مفقود في المجتمعات، الدولة تظهر وتجسد أكثر فأكثر أنها تميل وتمثل مصالح فئات دون فئات ..! (حين قال ماركس أن الدولة أداة القهر الطبقي أعتقنا أنها مبالغة ...!) وحين يمارس بعض من مجانين المجتمع الرهاب (الفوبيا / Phobia) يتفاعل معهم قادة سياسيون، ورجال قانون ومجتمع، ويصبح الأمر حقا بحاجة إلى تأمل عميق ..... وقريباً ستنتقل ممارسة الفوبيا على صعيد أوسع، فهناك دولاً لا تطيق أن تسمع مكتسبات تقدمها دولة لا تحبها ... أو لا تفضلها، وتضع حدود لتقدم كل دولة حسب العنصرية والطائفية .. أو تريد أن ترغم البشر على ثقافة وتقاليد وسياسات اجتماعية كما تراها .. وكما تعتقدها حتى يصل الأمر إلى درجة استخدام القوات المسلحة ...  ترى كم بقى من فكر وممارسة الديمقراطية لم يشبع ضرباً وإهانة ...!

 

النظام الوطني القومي ممنوع ونحاربه كما فعلنا مع عبد الناصر وصدام حسين، النظام الإسلامي (المزمع إقامته) ممنوع ونقاتله، النظم كنظم الخليج، محاربة ويضايقونها ليلا نهار ... نظام كالسودان لا يرضيهم، والآن الجزائر نصب عينيهم .. مالعمل ...!

 

التجسس على رؤوس الأشهاد

في مقال طويل، نشرته وكالة الأنباء الألمانية (DW)، وأشارت له قنوات تلفازية إلى أمر كانت الناس تتوقعه وتحزره ...

ــ تطبيق "مسلم برو".

ــ تطبيق "مسلم مينغل".

ــ شركة "بابل ستريت" التي طوّرت أداة أمنية اسمها "لوكايت إكس".

ــ شركة "إكس-مود" الوسيطة باعت المعلومات لشركات عسكرية مرتبطة بالجيش الامريكي.

ــ  تطبيق شركة "بيتس ميديا".

ــ التطبيق على منصتي "غوغل أب ستور" و" آبل ستور".

بل هناك من يقول إن غوغل يعرف عنك أكثر من نفسك، وتقول سارة جيونغ من نيويورك تايمز في مقال لها، إنه حالما يتم جمع البيانات الخاصة، يصير بإمكان أيّ كان شراؤها أو بيعها، ولا توجد منافذ قانونية لطلب تعويض من هذا البيع. لكن هناك شركات تحاول خلق نظام جديد من "سمسرة البيانات" يعوّض النظام الحالي.

 وتنقل الكاتبة عن رئيس شركة أحد التطبيقات الصحية كيف يتم جمع البيانات من شركات تتوفر على السجلات الصحية للمرضى، ويتم بيعها إلى باحثين وإلى شركات التسويق، لكن بهدف أن يستفيد المرضى من نسبة معينة من عمليات البيع.

 

 وهكذا تسمح السلطات لنفسها، أو شركات حكومية تعمل تحت غطاء، التجسس على ملايين المواطنيين الأمريكيين (25 ــ 28 مليون مسلم)، بالإضافة إلى نحو 50 ــ 60 مليون مسلم خارج الولايات المتحدة، التجسس وسرقة بيانات ومعلومات شخصية بصفة غير مسوغة وغير قانونية. وبذلك تؤكد أن الدولة هي المخترق الأول للقوانيين. والمنتهك الرئيسي لحقوق الإنسان التي يتشدق بها الغرب.

 

خلاصة القول :

ــ أدعك تتحدث بالقدر الذي لا يزعجني ..... وأن لا تخالف رأي في القضايا الأساسية ..!

ــ ممنوع أن تصبح قومياً، وممنوع أن تصبح اشتراكياً، وممنوع أن تصبح متديناً ...!

ــ أمنحك حق أن تختار، ولكن بين أثنين أو ثلاثة هم من نسخة واحدة والاختلاف بلون السترة، وفوق هذا  أنا أختارهم لك ...!

ــ أسمح لك أن تصرخ بالقدر الذي لا يقلق منامي الهادئ ولا يزعجني حين أتناول طعامي، أو أقرأ كتاب أو حين اتفرج على التلفاز ..أو حين أحل الكلمات المتقاطعة ....!..

ــ أعطيك الحق أن تأكل وتشرب، بالقدر الذي لا تموت فيه من الجوع لأني بحاجة لك أن تعمل لي، وتغسل سيارتي، وترتدي الثياب العسكرية وتحمل البندقية لكي تدافع عن مصالحي ..! ..

 

هذا عصر يبدو أمامه عصر الاستعمار القديم ... رحمة ومرحمة ...!

 

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

عملية في طهران

ضرغام الدباغ

المعطيات الأولى للعملية التي تمت في طهران يوم 27 / تشرين الثاني، والتي اغتيل فيها الشخصية العلمية الإيرانية محسن زادة، تؤشر ابتداء،  أن الموقف السياسي / الاجتماعي في إيران سهل الاختراق، بدرجة تنفيذ عمليات ضد شخصيات مهمة، ويفلت منها الجناة. ومن المؤكد أن السلطات سوف تجري تحقيقات، وأرجح أنها سوف لن تتوصل لشيئ، لأسباب كثيرة ليس من بينها قلة إمكانات الأجهزة الأمنية وضعف التحقيق. وعلى الأرجح ستقوم السلطات بأعتقال الكثيرين، وإخضاعهم لتعذيب، وسيعترف العديد منهم أنهم الفاعلون، للتخلص من التعذيب، ويعدمون كالعادة على الملأ بواسطة الرافعات، الحكومة تقنع نفسها أنها لا تخلو من حزم، والشعب يعلم أن هؤلاء أبرياء في مسلسل رعب يتواصل منذ 41 عاماً بدون انقطاع.

ولا نريد أن نتطرق إلى العملية التي تشير المعلومات الأولية أنها عملية كبيرة، من حيث عدد الأشخاص المساهمين بها(62 شخص)، أو المنفذين الرئيسيين  لها (12 شخص)، بالإضافة ل( 50 شخصا) قدموا الدعم اللوجستي للعملية.والخدمات الأستخبارية المتوفرة، دقة المراقبة والمعلومات، وهذه المعلومات تؤشر حجم العملية ودقة التخطيط، والأهم القاعدة الممتازة التي وفرت قدرات هذا العمل داخل إيران. و الاستنتاج الأرجح الذي توصلت له فور سماعي الحادث (قبل سماعي لردود الأفعال الدولية)، هو أن المخابرات الأجنبية تلعب بسهولة في إيران، ليس بسبب هذا الحادث فقط، بل لتكرار الحوادث، وامتلاك القوى الأجنبية (الولايات المتحدة / إسرائيل) المعلومات التفصيلية عن مفردات الموقف في إيران وقدرتهم على الحركة، وشن الهجمات بالطائرات، وبالتخريب، بل وأحيانا لا تعلم السلطات إن كان ذلك نتيجة قصف جوي، أو عملية تخريبية ...! وتطال هذه العمليات مواقع حساسة جداً.

بوسعي أن أتصور أسباب هذه الاختراقات الأمنية / السياسية الخطيرة ، وبالطبع لست في موضع تقديم النصيحة أو المشورة، ولكن الدولة الإيرانية من رأسها حتى أساسها منشغلة ومنهمكة بقصص وحكايات، لا طائل منها، فالبلد منذ 41 عاماً، يشتغل مع لبنان والعراق والبحرين واليمن والعراق، وأفغانستان، وأذربيجان، والباكستان، والله أعلم مع جهات ودول ومجتمعات أخرى، الدولة والمخابرات تبذل جهداً خطيراً لكسب جزائري واحد للمذهب، وهذا المحظوظ يطلع في النهاية عنصر مخابرات ...!

الدولة منهمكة لقمة رأسها بالتوسع ... حسناً التوسع سوف لن يفيدكم شيئاً، بل سيتسبب بالهزائم والتراجع في أداء الدولة، وهو سبب تذمر الناس، وتكرر الانتفاضات الشعبية العارمة ..! والتراجع في الاقتصاد، وفي العلاقات الاجتماعية، وانهيارات مقبلة منها عزوف الشباب عن الزواج، والميل الشديد للهجرة، والشباب الإيراني في الخارج، لا علاقة له بالدين، فقد تحول الدين إلى حزب سياسي للسلطة، (فلان يحكم بالصيغة الفلانية ... وهذه سياسة وليس دين ..!) التوسع بماذا وكيف ...؟ هل تملك إيران من وسائل التوسع غير إقامة حفلات البكاء واللطم والندب ..؟ أي ثقافة، أي اقتصاد، كان عندهم مغنية حسناء، (كوكوش/ وهي آذرية) هي اليوم في المهجر أي علوم ...لا شيئ من كل هذا، بل شبان مهوسون يربطون رؤوسهم بخرق خضراء أو سوداء .. يهرولون في الشوارع، يدعون للانتقام والثأر والقتل ونبش القبور وكيل اللعنات والشتائم ... أهذا الذي ينتظره الناس من التوسع ...!

لهذا كله، فالنظام الإيراني، ومثله ظلاله الباهتة من الأذناب، اليوم هي تعتاش من النهب والسرقة والتهريب، الشعوب الإيرانية تجد في الإجابة على تطلعاتها بالقمع من الحرس الثوري والبسيج وأصناف من القوى القمعية، حتى يمكن القول تماماً أن هذا النظام لن يبات ليلة واحدة لولا القمع ... بل والافراط في القمع، لهذا تتظاهر الناس، وتنتفض، وتثور، وتقيم الدولة حفلات الإعدام في الشوارع والساحات بوسائل وحشية (بواسطة الرافعات)، بهد كسر عيون الناس ... ولكن هذا النظام الذي أنهى نظام الشاه لم يستفد من تجربة نظام الشاه حين أعتمد على القوى الأمنية، وعلى زعران وسرسرية الزورخات والمدلكين والمصارعين، كذلك يعتمد اليوم نظام الملالي على سقاطة الناس من السذج والعاطلين عن العمل الذي يعتاشون من رواتب هي في القواقع رشوة وثمن استزلام لا أكثر. وكأن هذه قد أصبحت من تقاليد السياسة الإيرانية، وانتقلت إلى أذنابهم في البلدان المحيطة، لا يستطيعون الاعتماد على مثقفين والكوادر وأخيار المجتمع.

 

 الشعب يدرك تمام الإدراك أن هذا النظام لم يحقق شيئاً بعد 41 سنة عجاف، وإذا كان ثمة شيئ يلوح في الأفق، فهو مزيد من القمع، ومزيد من الإرهاب، ومزيد من المغامرات، لهذا فهناك فراق بين الشعب والنظام، ولهذا يطوف النظام فوق بحيرة من الاختراقات، التي تقرر متى وأين وكيف توجه الضربات للنظام، لأن النظام يبحث عن مستقبله في بيروت ودمشق وبغداد واليمن ...ولكن حصاد هذه السياسة هي المزيد من الجثث والنكسات، والنظام لا يريد أن يقتنع أنهم مرفوضون، ولعبة المصالح الدولية باتت معروفة حتى التفاصيل  ..!

تكتب صحيفة وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal ) وهي صحيفة واسعة الانتشار (تبيع نحو 3 مليين نسخة يوميا) تصدر في نيويورك. الصحيفة قالت إن : اغتيال فخري زاده يعكس تغلغل الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية داخل إيران على الرغم من هوس نظام طهران باتهام المدنيين الأجانب بالتجسس. وتعكس ضعف القبضة الأمنية داخل إيران وسهولة تجنيد الجواسيس لصالح أجهزة المخابرات الأجنبية، والعمليات الاستخباراتية المتزايدة في إيران تدل على سهولة تجنيد الجواسيس لصالح أجهزة المخابرات الأجنبية، وهو ما سهله الاحتقان الداخلي المتزايد خاصة بعد قمع احتجاجات العام الماضي. ومؤشر على ضعف الأمن الداخلي وخطر حدوث اضطرابات داخلية بسبب معاناة الشعب اقتصادياً واجتماعياً وهذه كلها عوامل تزيد من صعوبة استمرار نظام طهران في دعم أذرعه العسكرية في المنطقة، وتكشف أن الهيكل العملياتي الإسرائيلي في إيران متطور للغاية، ويعتمد على معلومات دقيقة.

الأبعاد السياسية، بالإضافة للقدرات تمثل الدروس المستفادة. ولكني أستبعد أن يستفيد النظام الإيراني من جوهر الحدث وأبعاده لأن الطريق الذي يمضي فيه بعيد عن أحتمال التراجع ...!

 

 

هل نحن أقل

وعيا من الآذريين ...؟

 

ضرغام الدباغ

لم يجد الآذريون في معركتهم المصيرية على الأرض والوجود ... إلى جانبهم جارهم المسلم (إيران) الذي ينتمي لنفس طائفتهم والذي يرفع شعارات شيعية صرفة (وإن كانت مشحونة بغايات وأهداف سياسية) ويدعي الغيرة على الشيعة في كل مكان، إيران التي من صلب أهدافها تلك التي تلزم المسلم الشيعي أن يقف وراء إيران وسياستها وأهدافها وإن كانت غير أهدافهم، بل لم تلتزم إيران حتى الحياد (كأضعف الإيمان) بل عبرت إيران وجسدت موقفها الديني / السياسي بالوقوف إلى جانب العدو .. بالمال والسلاح ..! ولم يجد الآذريون إلا في الأتراك البعيدين الحليف المخلص الذي قاتل إلى جانبهم بالمال والسلاح..!  أما الدولة الإسلامية الشيعية فوجدت مصالحها مع الدولة الأرمنية الاثودوكسية ...!

بعض الناس اأستغربوا الموقف، ولكن للمراقب والمحلل المادي الموضوعي ، الأمر بديهي ..فأساس وجذر المواقف الإيرانية لا علاقة لها بالدين إلا بالقدر الذي يخدع البسطاء من الناس ويدفعهم لتفليق الألغام ...!

كيف نفسر هذا الموقف ..؟

الثورات هي عملية تاريخية، وقضية وعي بالدرجة الأولى تمارسه الجماهير الشعبية، ولا أقصد هنا النخب المثقفة وهي عملية تستلزم وقتاً وجهداً ومستحقات اجتماعية / اقتصادية، لكي تكتشف الملايين أين تكمن مصلحتها ..؟ وفي العراق تطلب ذلك نحو 18 عاماً ...! وأظن أن الرأي العام في العراق بات مستوعبا لهذه الحقيقة، وأن الأمر برمته هو " دعني أحتل لك وطنك " بزعم مشكوك به أن الحسين بن علي (رض) قد تزوج سبية فارسية من سبايا الحروب ...!

ومن سوء الحظ أن يجد بعضنا أن هذا سبب كاف ليسمح بإيران تحلم وتمارس أحلامها برؤوسنا وعلى حسابنا ... ولكن الآن دخلنا مرحلة جديدة من مواجهة الذات وهي مرحلة حاسمة ... أدرك العراقيون تفاصيل المشروع وأدواته ...

 

 

 

الأحداث تحرق أوراق إيران

ضرغام الدباغ

 

ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً    *   ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ

 

أعتقد أن هذه الأبيات للشاعر طرفة بن العبد، (وهو عصر الجاهلية أحد شعراء المعلقات السبعة نحو 500 ميلادية) وفيها مغزى كبير وعمق رؤية وصبر العالم على من لا يعلم... فالأحداث المقبلة ستعلمه، البعض يكتشف الأمور بالفكر واستخدام الفلسفة، وآخرون من تجارب غيرهم، ولكن هناك من لا يصدق إلا الحدث الذي يقع أمام ناظريه ويلمسه بيده.

ربما أعتقد بعض الناس، أني أبالغ (كعادة شرقية أصيلة) في زعمي أن إيران منضوية  في إطار تحالف دولي، أستغرق التخطيط له وقتا طويلاً، وأتخذ تنفيذه صفحات متعددة، ساهمت فيه أطراف عديدة، على طريقة المشاريع الكبرى، مقاولون مباشرون كبار رئيسيون، ومقاولون ثانويون، وآخرون يحاطون علماً، لكي لا تتصادم الخطط أثناء التنفيذ. وفي القضية العراقية المقاولون الرئيسيون هم دائما (وفق هذا الترتيب): الولايات المتحدة، إيران، إسرائيل. كما اختلفت درجة المكاشفة بنوايا خطط التحالف الجوهرية، ولكني أعتقد لدرجة تقارب اليقين، أن الخطط المعدة حيال الشرق الأوسط (الأقطار العربية بدرجة خاصة)، كانت مطروحة وإن بشكل مبتسر على طاولة مفاوضات مؤتمر مالطا ـ 1991 (بوش / غورباتشوف)، وهي من أولى ثمار إنهاء الحرب الباردة وافتتاح المرحلة الجديدة في العلاقات الدولية. وقد أحيط الاتحاد السوفيتي (لاحقاً روسيا الاتحادية) أحيط علماً بأن الشرق الأوسط سيتعرض لتغير واسع النطاق، ولم يكن لا في قدرة السوفيت / الروس ولا بين رغباتهم، الوقوف ضد هذا المشروع، فهم كانوا يتطلعون بتفاؤل (مبالغ به)  إلى مرحلة تحالف جديدة مع الولايات المتحدة، يجري  فيها تقسم نفوذ ومصالح،  تنال فيه روسيا شيئا يكفي أن يشكل قاعدة نفوذ روسية جديدة للمرحلة المقبلة.

ولكن الأمريكان أعلنوا النصر في الحرب الباردة، وإن ليس بالضربة القاضية، ولكن بقبول السوفيت بفوز الإرادة الأمريكية وتفكيك منظومة هائلة تتألف من :

أولاً : البلدان الاشتراكية المنضوية في إطار حلف وارسو: الاتحاد السوفيتي، ألمانيا الديمقراطية، بولونيا، تشيكوسلوفاكيا، هنغاريا، بلغاريا، رومانيا، وبلدان التعاضد الاقتصادي ويسميها الغرب (الكوميكون) : الاتحاد السوفيتي، ألمانيا الديمقراطية، بولونيا، تشيكوسلوفاكيا، هنغاريا، بلغاريا، رومانيا وكوبا وفيثنام، ثم مالبث أن تفكك الاتحاد السوفيتي ذاته، وعمد الغرب إلى تفكيك يوغسلافيا، ثم إنهاء الحكم الاشتراكي في ألبانيا، وتفكيك تشيكوسلوفاكيا ....

ثانياً، إنهاء كل خبر عن الاشتراكية وما ينضوي تحتها من مفاهيم وسياسات وطنية، حتى غدا الحفاظ على القطاع العام مجازفة في البلدان النامية السائرة في طريق التطور اللارأسمالي، وهي بلدان ذات نهج وطني، عزمت الولايات المتحدة على إحداث تصفيات كبيرة بها، في النظام السياسي، وآفاقه الاجتماعية / الاقتصادية.

ثالثاً: تفكيك شبكة واسعة من المنظمات والتشكيلات السياسية / الاجتماعية المناهضة للرأسمالية في البلدان الرأسمالية نفسها. وفي العالم كمنظمات: السلم العالمي، الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، اتحاد الطلاب العالمي. ... وغيرها ..... فالولايات المتحدة لم تكن لترضى بأقل من النصر الكامل.

وفي مطلع الثمانينات، في  ذلك الوقت المبكر، بعد سنتين لا أكثر من استيلاء الملالي على الحكم في إيران، كتب أحد أبرز المنظرين السوفيت البارزين أوليانوفسكي( Ulianowski) مقالة مهمة في مجلة السياسة الخارجية الألمانية (1981) ذكر فيها أن نظام الملالي لا يتجه إلى إحداث تحولات اجتماعية وليست هناك آفاق تدل على عزمهم إجراء تحولات (على الصعيد الاقتصادي / الاجتماعي (وهو جوهر أي نظام سياسي) بعد الثورة الإسلامية.

سرعان ما تبخرت آمال الذين اعتقدوا أن إيران ستصبح من قلاع الثورة العالمية ضد الإمبريالية .. والحق يقال أن من أعتقد ذلك كان وقع في شرك المبالغة والأوهام (Illusion)، من فرط التفاؤل والشعارات السطحية، فلماذا يقدم نظام ديني ثيوقراطي أكرليكي على تحويلات اجتماعية جوهرية ..؟ ، فأعتقاد كهذا يخالف المنطق، وفي الواقع تحول نظام الملالي إلى دور الحادلة التي تمهد للعمل والخطط الأمريكية. 

لقد أعتاد العرب على التعايش مع الوجود الفارسي / الإيراني، ولم يحدث قط في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث، أن وقف الفرس إلى جانب العرب والإسلام، فالعقل السياسي الفارسي المسكون بالهواجس والمخاوف وإنتاج المشاكل (Troubelmaker) الميال للمناكفة وإيجاد نقاط التناقض بدل التعاون والعمل السلمي. والفرس وضعوا أنفسهم في خدمة الاستراتيجيات الغربية في تخادم يتواصل منذ العهد القاجاري، والصفوي والشاهنشاهي وصولاً إلى عهد الملالي، دون توقف، إذ وجد الغرب في إيران كابحاً يستخدم ضد الدولة العثمانية، وضد العرب المسلمين، وقاعدة للتحرك في كيانات أواسط آسيا، فمن جهة تمثل جدار الصد ضد التوغل السوفيتي، ومن جهة أخرى تخدم سياسات واستراتيجيات الغرب في الشرق الأوسط. وبالمقابل ضمن الغرب النظام الإيراني (وحدة البلاد والنظام). والأنظمة الإيرانية على اختلافها أدركت أهمية مكانتها للغرب، وهم يصيغون سياستهم الخارجية والداخلية انطلاقا من هذه الحقيقة.

فأقليم بلوجستان إذا تحرر فسيلتحق بباكستان وهذا ما لا ترغب به القوى الغربية، وأذربيجان إذا تحررت فسوف تنظم لدولة أذربيجان وتصبح كياناً مهماً وهذا حدث سيكون له تداعياته السياسية. والأحواز العربي ضم إلى إيران لكي لا يكون الخليج العربي بحيرة عربية، وتنظم إلى الأسرة العربية المنتجة للنفط. فالغرب حريص على إيران بقدر حرص الفرس على هذه الدولة المعبرة عن طموحات فارسية في إقامة كيان (لملوم) يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية عامة.

والغرب قدم لإيران عبر هذه العلاقة الملتوية ذات الخفايا الكثيرة، خدمات كبيرة. فحافظ على النظام الشاهنشاهي في أزمات كثيرة، كما أحبط مرات عديدة انفصال أقاليم أسست كيانات سياسية خاصة بها (جمهورية إيران الاشتراكية، جمهورية مهاباد، جمهورية أذربيجان الشعبية) كما ألحق الغرب دولة الأحواز العربية بالكيان الإيراني ليوفر له موارد اقتصادية. ولكن بالمقابل قدمت إيران خدمات كثيرة للغرب العلنية منها والسرية ، خدمات علنية في الكونغو، وعمان، وفي العراق وسورية ولبنان، هذا عدا الخدمات السرية الكثيرة، ولا يزال الكثير منها طي الكتمان، أو غير معلن رسمياً.

وفي صفقة التخادم الإيراني / الأمريكي ــ الإسرائيلي هذه، الملاحظة الأولى هي أن التحالف بين القوى المشاركة غير متكافئ، لذلك فالطرف الأقوى في التحالف (أقوى سياسيا واقتصاديا وعسكرياً) هو من يقود التحالف وبالطبع لمصلحته. والمهم بالنسبة للولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط، هو الحفاظ على جوهر الاتفاقات، وفي حال الخروج عن نص وروح الاتفاق (وهذا وارد غالباً حتى بين أكثر الحلفاء حميمية) إذ يدور خلاف سري وعلني يمكن يتم تسوية الخلاف بطريقة لا تنطوي على خشونة ولا كسر عظم، وبما يبقي التحالف قائماً. ولكن الولايات المتحدة تحملت الكثير من إيران الكثير من الفظاظة والوقاحة (مع العلم أن الحملات الإعلامية وسيل الشتائم والسباب، بين الأطراف المتحالفة لا تمثل موقفا رسمياً، فالدول تتعامل فقط عبر القنوات الرسمية عبر المذكرات الرسمية) والغرب عموماً لا تزعجه هذه التهجمات .. لأنها لا تعبر عن شيئ مهم...!

 

ولكن ماذا فعلت إيران لتنال هذه المكافئات ..؟

وهذا تساؤل جوهري ومهم. فالولايات المتحدة قاتلت بضراوة وخسرت الكثير من الأفراد والعتاد، عدا سمعتها ومكانتها، ولكنها سلمت فوزها ونتائجه على طبق من ذهب لإيران .... لماذا ...؟ الولايات المتحدة لا تقدم حتى المواقف السياسية مجانا ناهيك عن الخدمات، فكل شيئ له ثمن، وهي تفعل كل شيئ بثمن حتى مع أقرب المقربين من الحلفاء من الأوربيين. إذن لا شيئ مجاني .. وحتى لإسرائيل التي تتكفل الولايات المتحدة رسمياً حماية أمنها ووجودها، وتتلقى ما تسمى " بالمساعدات " وهي ليست مجانية خالصة، بل هي مقابل أن تلعب دورها كقاعدة أمريكية (كحاملة طائرات كبيرة) تؤدي أغراضا سياسية وعسكرية استراتيجية. ولكن الأمر يختلف نوعا ما في التحالف مع إيران، فوجود الدولة " الإيرانية " ضروري ومهم للولايات المتحدة على أصعدة كثيرة، مهم لمواجهة مساعي التوسع السوفيتي (الروسي اليوم)، وحيال تركيا ومساعي الوحدة التركية (رابطة الدول والشعوب التركية)، ومهم لتلعب دور اللغم في العالم الإسلامي، ومهم لمنطقة الخليج، ومهم حيال المساعي العربية في الشرق الأوسط.

أمريكا لم تقاتل قط من أجل إسرائيل، ولكنها قاتلت من أجل إيران، وضمان مكاسب لا تستحقها... مالسر في هذه العلاقة الغريبة ...؟

رغم تلك الخلافات التي يمكن أن تنشب بين أكثر الحلفاء حميمية (كالولايات المتحدة وبريطانيا مثلاً) والإيرانيون (الفرس) ليسوا ممن  يتصفون بالمهارة والحذاقة، فهم يرزحون تحت ضغوط داخلية وخارجية عديدة، وميلهم لإبداء الغطرسة، وهوسهم لأن يكونوا قوة إقليمية، هم لا يمتلكون مقوماتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وبذلك يظهرون كحليف غير مأمون (موثوق) الجانب، ميال للعب خارج الخطة (النص).

وفي رؤية تحليلية وتنبؤية (Prediction) للمستقبل، لا نرجح أن إيران ككيان سياسي جامع لعدة اثنيات، وديانات وطوائف، سيتواصل لعقود طويلة قادمة،  وإيران كيان سياسي حديث (1923) قد واجه الكثير من العواصف خلال القرن الذي يوشك أن يمضي على تأسيسها. نعم لعب النظام الإيراني حتى الآن دور الإطار الذي يتولى جمع هذه الكيانات تلبية لضرورات استراتيجية / سياسية، ولكن قيمة إيران الاستراتيجية هذه سوف تتضاءل، أو تهبط بدرجة لا تعود عنصراً أساسياً في السياسات الغربية، بفعل عوامل داخلية في مقدمتها فشل السياسة الإيرانية أن تكون الدولة الإيرانية كياناً سياسياً لكافة المواطنين الإيرانيين بدرجة واحدة، وانهيار السياسة الخارجية بسبب افتقارها الشديد إلى معطيات ومستلزمات العمل الخارجي السياسي والاقتصادي والثقافي كعوامل خارجية، وتناقضات كثيرة لدرجة الاصطدام مع قوى كثيرة في المنطقة، وسوف تتأثر بنتائج وأبعاد وتطورات الصراع الآذري / الأرميني ونتائجه، تطورات النزاع العربي / الإسرائيلي، ومسارات جديدة للقضية الفلسطينية، والتطور المهم في مكانة تركيا السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.  التطورات السياسية المقبلة في لبنان وسورية والعراق لا تمنح إيران مكانة مهمة، لذلك سيزداد عبأها على صانعي السياسة الغربية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

بتقديرنا هناك مرحلة مهمة في العلاقات الدولية تظهر ملامحها وهي غير تلك التي كانت سائدة على مسرح العلاقات الدولية في القرن العشرين، فهناك قوى جديدة تبرز، وأخرى يتضاءل دورها، ويتراجع تأثيرها، وأن القوى الجديدة سيكون لها وزنها ولمواقفها قيمة سياسية والشرق الأوسط مقبل على تغيرات كبيرة ستقلص من دور إيران كمحرك أو كمؤثر في الأحداث.

 

 

ما جرى للعراق في

 مسرحية من فصل واحد

 

ضرغام الدباغ

ألم تقرأ أبدا مسرحية من فصل واحد ...

كتب لكم حسين الطائي …..  وليد الهندي مشكورين هذه المسرحية ذات الفصل الواحد (في ذكرى رحيل الدكتور أحمد الچلبي) هذه مسرحية رائعة من فصل واحد، يختلط فيها الكوميدي بالتراجيدي ... ووضعت الكل في صيغة سوريالية .... بدون مبالغة أنها من أجمل النصوص التي قرأت بما حل بالوطن العزيز على أيدي أنصاف متعلمين، خونة يعلمون ماذا يفعلون، .. شذاذ آفاق ... .. إمعات ... وسرسرية صايعين في البارات والجايخانات ....وجهلة لا يعلمون ما يفعلون ... مأساة ملهاة ... تحالف بين هتلية هذا الزمان ... عاشت أيد الكاتب فقد تمكن بجهد قليل، ولكن بعمق كبير أن يعرض على مسرح الفيسبوك ... ما حدث ... وهول ما حدث ... حين وجد أعداء العراق بضعة معتوهين .. ومعقدين .. ومعوقين .. وحرامية ... وسلموهم مفتاح القاصة ...... على حسب المثل البغدادي .... أودع البزون شحمة ....! هذه المسخرة تستحق أن نجتهد بتصويرها شعرياً وفنياً ومسرحياً ......أسمح لي أخي الكريم أن أستخدم هذا النص ودائما مع الإشارة إلى الذكاء الفني لحضرتكم ... مع خالص تقديري.

 

ضرغام الدباغ

النص ....

"" وقف احمد الچلبي على منصة ساحة احتفال محافظة ذي قار بعد سقوط نظام (صدام) مخاطبا الجموع الجماهيرية :

 

" اليوم انتهى عصر الظلم والظلام اليوم انتهى صدام وحكم البعثية، فهلموا لبناء عراق مدني متحضر بلا خوف ولا عسكرة ولا حروب واحذروا أن يخدعونكم بأسم الدين فهناك من سيقول لكم دوله إسلامية وسيخدعونكم مثل هدام " .

وكانت ابنته بجنبه تنظر إلى الجموع الغفيرة المتهرئة الملابس، والوجوه الشاحبة التي لاح عليها التعب والمرض .. مرتدية بنطال وقميص وشعرها الطويل يتدلى على كتفيها ...

 

فانبرى له احد الحضور يرتدي (دشداشه وصخه وغتره مزرفه) قائلا :

وهاي بنتك شنو لابسه ؟

 

فهتف الجميع لا شرقية  ولا غربية نريد دوله أسلاميه

فامر الچلبي ابنته بالرجوع إلى المبنى ..

وتكلم الجلبي بصوت عال قائلا :

 

الا تريدون الحياة والتغيير والرخاء والمدنية الم تتعبوا من الحروب فصاح احدهم :

وين ثار الصدر وينه ؟ ضيّعوا دمه علينه ...

ولطم الجميع بحرارة .

وصاح آخر :

نعم نعم للحكيم فهتف الجميع : وينه الحاربك وينه .... صدام النذل وينه ؟ ..

وصرخ احدهم تاج تاج على الراس ... سيد علي السيستاني ..

الجلبي ابتسم هادئا ودخل الى المبنى ..

 

وخرج معمما اشقر هو السيد (علي العلاق) فهتف الجميع :

 

واحسيناه.. واحسيناه ..

 

وتجمعوا حول العلاق كأنه (نبي)

وتكلم بزهو عن حب الحسين .. وذكر شهداء من المراجع والناس تلطم طبعا ... وهتف ابو دشداشه المزرفه :

 

ماكو ولي الا علي ونريد حاكم جعفري .. ويالثارات الحسين

 

والكل يهتف مرددا ما قال ...

 

وخرج احمد الجلبي مبتسما قائلا :

اذهبوا لدياركم امنين لا بعث بعد اليوم ولا توغلوا بالدماء والثارات وانتظروا تاسيس الدولة وعودة الدوائر الخدمية ونظفوا شوارعكم واهتموا بمدينتكم وانتظروا الخير بعون الله ......

فهتف ابو دشداشه المزرفه : دوله دولة اسلامية .. دولة دولة إسلامية ..

 

فهز الجلبي يديه وانسحب وانسحبت الجموع ...

 

يا ترى اين هذا الرجل ابو دشداشة مزرفه الان، هل شبع من الدولة الاسلامية، هل حقق شعار: هيهات منا الذله!!

ام بقي متمسكا بالذله ؟

سلاباتك ياوطن ....  ""

أنتهى النص .....  وا أسفاه عليك يا عراق ....!

 

 

الانتخابات الأميركية

وتداعياتها في أوربا

ضرغام الدباغ

تهتم ألمانيا وعموم أوربا، بل والعالم بأسره بالانتخابات الأمريكية ونتائجها، رغم أن النتائج سوف لن تكون حاسمة بتقديري، ودليلي على ذلك، أن لا شيئ جوهري يتغير في السياسة الأمريكية الداخلية منها والخارجية كنتيجة مباشرة للانتخابات، وإذا كان ثمة تغير سيحدث، فذلك ليس بسبب تغير الأسم (أسم الرئيس)، ولا سياسة الحزب الحاكم (الجمهوري أو الديمقراطي)، والتاريخ الأمريكي يؤكد ما نذهب إليه في هذا التقييم.

وإذا كان ثمة تغير سيحدث، فذلك سيكون نتيجة مباشرة وغير مباشرة، لمجمل التطورات السياسية الداخلية والخارجية على الصعيد الاقتصادي بالدرجة الأولى، وحسابات المعطيات الهامة على مسرح السياسة الدولية.

يتبادل الجمهوريون والديمقراطيون الحكم بشكل متوال منذ عام 1853 (16 عاماً7 عام)، ولم يشذ عن القاعدة منذ انتخاب الرئيس الأول، سوى عشرة رؤساء (الرئيس الأول جورج واشنطن:  1789 /  1797).  يمثلون :

رئيس مستقل (الرئيس الأول).

     1. رئيس من الحزب الفيدرالي.

     4. رئيس من الحزب اليميني.

     4. رئيس من الحزب الجمهوري الديمقراطي

     16. رئيس من الحزب الديمقراطي.

     19. رئيس من الحزب الجمهوري.

 

وغالباً يعاد انتخاب الرئيس لولاية ثانية إلا ما ندر (بسبب الوفاة أو الاغتيال، أو الاستقالة).

وقانون انتخاب الرئيس الأمريكي معقد بدرجة قد لا يفهمه المواطن الأمريكي العادي، وأما الترشيح لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فمعقد غاية التعقيد، يمر بمراحل عديدة أبتداء من طرح أسمه كمحتمل للترشيح من قبل دوائر سياسية / أمنية ذات قيمة اعتبارية عالية، ومراقبة ردود الأفعال على طرح أسمه، ويتم تداول الأسماء المقترحة سراً، ثم تبرز للعلن، وتجري مراقبة دقيقة لردود الأفعال وأصداء الترشيح، وتجمع المعلومات التفصيلية عنه وعن انحداره العرقي والديني والعائلي الشخصي.

وهناك عرف (قاعدة متعارف عليها) أن لا يصل إلى منصب الرئيس إلا من فئة واسب (WASP) وهي اختصار لكلمات : أبيض، أنكلو سكسون، بروتستنانت. وقد نفذ هذا العرف في تاريخ الولايات المتحدة الانتخابي طيلة 167 عاماً، وقد خرقت هذه القاعدة مرتين: الأولى في ولاية الرئيس الأمريكي الرابع والأربعون الكاثوليكي جون كندي الذي اغتيل في 22 / تشرين الثاني / نوفمبر / 1963. وفي ولاية الرئيس السادس والخمسون بارك أوباما، الذي ينحدر من أب أفريقي (كينيا) وأم أمريكية بيضاء.

وبتقديري (وقد تخصصت بدراسة الولايات المتحدة واستراتيجياتها) أن السياسة الأمريكية تنبع من المصالح الأمريكية، والرئيس الأمريكي مطبق لها ومنفذها، ولكن ليس هو من يضع حدودها القصوى والدنيا، فهذه ترسم بدقة تامة من قبل جهات متعددة، ويعهد بتنفيذها إلى جهات متعددة على رأسها الرئيس الذي يمثل المصالح الأمريكية، وكل هذه يحددها الدستور والتقاليد التي ترسخت عبر ممارسات 167 عاماً، لذلك لست ممن يميلون لإلقاء تبعة هذا الفعل وتلك السياسة على ولاية رئيس بعينه. ومن ذلك السياسة الأمريكية حيال أوربا التي يتبرم منها الأوربيون، بتقديري هي ليست من ابتكار الرئيس ترامب، فجذور الأزمة بين ضفتي الأطلسي (الولايات المتحدة / أوربا) موجودة وقديمة، وسياسة القيادة من الخلف (Drive behind)، كانت قد أقرت منذ عهد أوباما، الحفاظ على نقاط أرتكاز، ولكن " لندع الأوربيين يقومون بواجبهم في الحفاظ على أوربا  والشرق الأوسط كخاصرة الأتحاد الأوربي " .

وقد احتدمت واشتدت العلاقات والنقاشات منذ عهد الرئيس أوباما، وأصبحت تمثل أزمة ناضجة للانفجار (وقد كتبنا في المركز العربي الألماني عدة تقارير بهذا الصدد)، ومن المحتمل كان اختيار دونالد ترامب كشخصية تصادمية، مناسبة لحل الأزمات المتراكمة للولايات المتحدة، فمثل ترامب البلدوزر المطلوب، وبتقديري أن هذه السياسة الأمريكية سوف تتواصل، سواء على يد ترامب أو على يد بايدن، بنعومة أو خشونة وبهذا المستوى أو ذاك فذلك ما  تقرره دوائر الأمن القومي والمخابرات الأمريكية (CIA) والبنتاغون والخارجية.

اليوم والولايات المتحدة مقبلة على الانتخابات الرئاسية، ما هي مستحقات العلاقات الأمريكية ــ الأوربية .. لقد تصاعدت قائمة المطالب الأوربية حيال ما تظهره الولايات المتحدة للسياسات الأوربية، ولكن أبرز نقاط الخلاف (وهي غير بسيطة) :

ــ الخلاف حول التخصيصات العسكرية في إطار تحالف الناتو.

ــ الخلاف حول الاتفاق النووي مع إيران.

ــ البيئة.

ــ المهاجرون واللاجئون.

ــ مشروع خط أنابيب "نوردستريم "

ــ قلق أوروبا على حرية التجارة.

ــ قلق صناع السيارات الأوربية والتحذير من حرب تجارية مع واشنطن.

ــ فشل قمة مجموعة السبع، فشل الحلول التوافقية.

 

 

ولا تخفي أوربا رغبتها العارمة من انتصار المرشح جو بايدن على ترامب، على أنل أن يكون هناك تخفيفاً وتنفيسا للاحتقان الخفي في العلاقات. وقد عبرت أمنيات الأوربيين بموقفهم من المناظرتان بين المرشحان وكما يلي :

في افتتاح المناظرة التي أقيمت قبل 12 يوماً على الانتخابات، هاجم بايدن الرئيس الأمريكي بشأن إدارته للأزمة الناجمة عن وباء كوفيد-19 قائلاً إن: "شخصاً مسؤولاً عن هذا العدد الكبير من الوفيات يجب ألا يكون قادراً على البقاء رئيساً للولايات المتحدة". وتوقّع بايدن أن تواجه البلاد "شتاء قاتماً" بسبب الجائحة التي حصدت لغاية اليوم حياة أكثر من 222 ألف شخص في الولايات المتّحدة.

 

العنصرية: وفي تبادل ناري للحديث حول التمييز العرقي، قال جو بايدن إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "يصب الوقود على كل حريق عنصري"وقال ترامب عندما سئل عن الاحتجاجات المتعلقة بالعدالة الجنائية في الولايات المتحدة: "أنا أقل شخص عنصري في هذه الغرفة". ورد بايدن قائلاً إن ترامب من بين "أكثر الرؤساء عنصرية في التاريخ الحديث".

 

الهجرة ...هاجم المرشح الديموقراطي خصمه بشأن الهجرة، متهماً إياه بانتهاج سياسة "إجرامية" حيال المهاجرين من الأطفال. وكانت منظمة حقوقية ووثائق قضائية كشفت أنّ السلطات الأمريكية فشلت في تحديد أماكن ذوي 545 طفلاً مهاجراً فصلوا عن عائلاتهم عند الحدود الأميركية بموجب سياسات الهجرة المتشدّدة التي بدأت إدارة ترامب بتطبيقها في أيار/مايو 2018. وقال بايدن: "هؤلاء الأطفال لوحدهم، ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه (...) هذا سلوك إجرامي".

 

جائحة كورونا... ألمح الرئيس ترامب إلى أن الولايات المتحدة تجاوزت المحنة الأكبر في وباء كورونا، وهذا غير صحيح. فالأرقام الرسمية تبين للمرة الثالثة تزايدا كبيرا في عدد الإصابات الجديدة: فيوم الخميس (22 تشرين الأول/ أكتوبر 2020) أي في يوم المناظرة سجلت مؤسسة الصحة الأمريكية عن أكثر من 65 ألف إصابة بعدوى فيروس كورونا.

 

التأمين الصحي ... جو بايدن لا يخطط لإلغاء التأمين الخاص. فمخطط بايدن للتأمين الصحي من شأنه إيجاد إمكانية لألئك الذين يريدون الحصول على التأمين العام. ومن يرغب في الحفاظ على تأمينه الخاص، يمكنه فعل ذلكوفي عام 2018 كان نحو 218 مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية لديهم تأمين صحي خاص، فيما كان 111 مليون شخص لديهم تأمين عام.

ثم يخشى الأوربيون أن تتواصل سياسة اليمين في الولايات المتحدة، وانتقال العدوى الموجودة أصلا في بيئة غير خامدة في أوربا، فتنال جرعة منعشة منشطة. ولسان حال الإدارة الأمريكية يقول للأوربيين، ها أنتم لا تعرفون تصريف أزماتكم بدون الرعاية الأوربية، ولا شك أن محاول أوربا أن تلعب دوراً كبيرا في الأزمات الأوربية وفي حوضها، سيكلف الكثير جدا من الجهد والنفقات، وربما الصراعات العسكرية التي إذا ما اندلعت فسيحرق لهيبها امكانات وقدرات وأوربا ليست في وضع اقتصادي مريح للقيام بمناورات مكلفة ... فمشكلة الديون الأوربية لم تتعافى منها دول الاتحاد الأوربي، كما أن وضع كورونا أضاف للمشكلة مفردات أخرى ... ناهيك عن ملامح أزمة اقتصادية عالمية، ستكون أجواء التوتر تصعيداً

وبرأي الأوربيين أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد  ألحق الكثير من الضرر بالعلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. وبقاؤه أربع سنوات إضافية سيكون بمثابة كابوس بالنسبة إلى الكثيرين من الساسة في الاتحاد الأوروبي.

أما في حال فرض جو بايدن نفسه في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، فستكون هناك آمال بالنسبة للعلاقات بين ضفتي الأطلسي. ولكن ليس هناك أحد بهذه السذاجة ليعتقد أنه ستحصل عودة إلى وقت ما قبل ترامب. لكن الأمل يسود في أن الأمور قد تتحسن، كما يقول مدير مركز الدراسات الأوروبية في بروكسل.

وإذا لم ينجح مرشح الديمقراطيين في الحل محل الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، فإن الخبراء الأوربيون يخشون أن تسوء العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي أكثر. "ربما سيعمل في فترة حكم ثانية على ممارسة مزيد من الضغط على أوروبا أكثر من الفترة الأولى. لقد وصف أوروبا كشر أكبر من فاعلين آخرين في العالم. وهذا ما قاله علنا علما بأنه قال الكثير في السنوات الأربع الأخيرة ".

وستكون العلاقات موضع شد وجذب، فكلا الطرفان : الولايات المتحدة وأوربا، يحتاج كل منهما الآخر، فالولايات المتحدة تحتاج أوربا في مواجهاتها مع الصين وروسيا.

رئيس مثل جو بايدن لن يفعل كل شيء بطريقة مختلفة، كما يعتقد الخبراء الأوربيون، لكن يمكن الانطلاق من أنه سيعتمد على الحلفاء التقليديين وسيستمع إليهم ويبحث عن جوانب مشتركة، "سيان من يفوز في نوفمبر/ تشرين الثاني، وجب علينا الاستثمار في التعاون. لدينا مجال تحرك في بعض الموضوعات مثل إصلاح منظمة التجارة العالمية. هنا يمكن لنا عزف نفس النغمة".

في دراسة أجراها في الصيف "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" في بروكسل، قيل إن الأوروبيين فقدوا الثقة في الحليف الوثيق سابقا الولايات المتحدة الأمريكية. ولاسيما "التدبير الفوضوي لوباء كورونا من طرف الرئيس ترامب ساهم في أجواء قاتمة".

وينطلق الباحثون في المجلس الأوروبي من أن الفائز الانتخابي جو بايدن سيبحث عن التقارب مع الأوروبيين. وهم يتوقعون أن تنضم الولايات المتحدة  مجددا لاتفاقية باريس لحماية المناخ ومنظمة الصحة العالمية. وحكومة تحت بايدن ستعمل على تقوية الناتو كحلف حتى ولو أن الديمقراطيين مثل الجمهوريين يضغطون لرفع ميزانيات الدفاع الأوروبية. وسبق للرئيس باراك أوباما والكثير من أسلافه أن طالبوا بنفقات عسكرية أكبر. وفي حال انتخاب ترامب لفترة حكم ثانية، يتنبأ مستشاره الأمني السابق جون بولتون بأنه يجب على الناتو أن يتهيأ لما هو أسوء. فحسب بولتون هدد ترامب حتى بانسحاب من الناتو، ما سيعني نهاية الحلف.

وعلى إثر ذلك أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الناتو يعاني من "موت دماغي" وعبر عن طلبات للحصول على "سيادة أوروبية" أكبر. وحتى زعماء حكومات آخرين في الاتحاد الأوروبي يرون دورا جيوستراتيجيا أكبر للاتحاد الأوروبي في علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية، على خلاف دونالد ترامب. فرئيسة المفوضية الأوروبية، أورزولا فون دير لاين تتمنى خصوصا عودة إلى نظام مبني على قواعد. "الحقيقة هي أن إصلاح النظام المتعدد الأطراف بات ملحا أكثر من ذي قبل، فنظامنا العالمي يعاني من شلل متسلل". وتفيد فون دير لاين أن قوى كبيرة تنسحب من مؤسسات دولية أو "تأخذها رهينة لمصالحها الذاتية".

والأمل السائد في بروكسل هو أن تتحقق هذه الأشياء مع رئيس مثل جو بايدن. لكن يحذر الخبراء الأوربيون من أوهام. فالموقف الناعم الذي عاملت به أوروبا إلى حد ما الصين حتى الآن لن يروق لرئيس ديمقراطي. "قد يتمثل أحد التحديات في أن تتعاون حكومة بايدن الجديدة في موضوعات دولية في حماية المناخ وفي منظمة التجارة العالمية، لكنها ستطلب في المقابل من أوروبا أن يكون لها ظهور أقوى تجاه الصين". وحتى مع بايدن في سدة السلطة قد تطالب الولايات المتحدة بتحمل فرض عقوبات، مثلا على شركة هواوي للتكنولوجيا دون نقاش والقيام برد على استفزازات عسكرية في بحر الصين الجنوبي.

وبعد الانتخابات يعتزم الأوروبيون، كيفما كان الرئيس الأمريكي، التحدث عن العلاقات التجارية. ومازال يسود تهديد ترامب الرامي إلى فرض رسوم جمركية عالية على السيارات وبضائع أخرى عبر الأطلسي. ولقد اتفق في يوليو/ تموز 2018 مع الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية جان كلود يونكر على نوع من وقف إطلاق النار، لكن النزاع يبقى بدون حل. وحينها أشاد دونالد ترامب بشكل مفاجئ بالاتحاد الأوروبي كأكبر شريك تجاري للولايات المتحدة. وفي الحملة الانتخابية لم يلعب الموضوع أي دور لدى ترامب ولا بايدن.

وتأمل غالبية رؤساء حكومات ودول الاتحاد الأوروبي في فوز جو بايدن كرجل ليبرالي ليس له شحناء في خطابه. فالعلاقة بين المستشارة أنغيلا ميركل والرئيس دونالد ترامب لم تكن ودية. وبولندا ودول أوروبية شرقية أخرى لها حكومات شعبوية كانت لها علاقة أفضل مع ترامب.

وفي النهاية سيقف الاتحاد الأوروبي في صف واحد لتمثيل مصالحه تجاه الولايات المتحدة بصرف النظر عمن من الرجلين سيجلس في المكتب البيضاوي، كما يعتبر أحد الخبراء.

 

 

التطرف

 

ضرغام الدباغ

 

يلحظ كل ذي بصر وبصيرة، كما نسمع تذمراً وشكاوى، عن أفعالا تنم عن التطرف والغلو. وهذه أفعال هي في الكثير منها مؤشر إلى بلوغ الحلم حده، والصبر منتهاه، ولكن في أغلبها هي فكر أنغلق على مرتكزاته الخاصة به، وأدار ظهره لحقائق كثيرة، فأبتعد عن الطريق العام، ودخل في متاهات الطرق الفرعية، ودهاليزها، وراح الغلو يستدعي غلواً أبعد وأعمق، والتطرف يتبعه تطرف مقابل في عملية تشبه سباق التسلح، ويثير ردود أفعال، أمر لا نهاية سلمية له على الأرجح، فالتطرف (Extremism) هو نتاج فكر أنغلق، وعين باتت لا ترى إلا مقترباتها القريبة منها جداً، وفي الحالاات القصوى لا يرى إلا ما تحت قدميه ..! ولا يعود يتقبل حتى المقربين له في الأمس القريب. ويستثير التطرف عاصفة الغلو من حوله ، وفي ذروته، يصبح خطراً يهدد الآخرين ليس في أمور معيشتهم وأفكارهم، بل وفي وجودهم أيضاً.

وهنا تظهر أمامنا مجموعة من القواعد الفقهية : القانونية والسياسية والاجتماعية لا جدال في علميتها.

ــ الزيادة كالنقصان : قاعدة فقهية قانونية. فالإفاضة في الأمر والمبالغة فيه يقود إلى خلل يخرجه عن طوره ويخلق إشكالات يصعب علاجها. فحبة من علاج قد تكون منقذة، ولكن حبة ونصف قد تكون مميتة ... !

ــ لكل فعل رد فعل يعادله في القوة ويعاكسه في الاتجاه : قاعدة علمية دقيقة، فمن يريد أمراً معيناً يراه مشروعاً، ولكنه لا يستطيع أن يمنع ردود الفعل المعاكسة.

ــ كل زيادة في الكمية تؤدي إلى تغير في النوعية : قاعدة علمية تشير إلى أن في كل تطرف، خروج يبدو مستحب لفاعليه، ولكنه يغير من طبع الأشياء ويمنحها أبعاد جديدة.

ــ المبالغة في الأدب السياسي صفة يذهب إليها بعض الناس لغرض تثبيت مؤكد لأمر يريده، ولكنه بقصد مباشر أو غير مباشر يضيف مزايا هو يراها طبيعية، ولكنها موضوعياً تغير من صفة الأشياء وطبيعتها، فيسيئ إلى الفكرة وإلى الهدف الذي يريد تحقيقه.

وقد شهدت الحياة السياسية العربية الإسلامية على مر عصورها، التطرف وعانت منها، وقادت إلى مشاحنات ابتعدت كثيراً عن نقطة الخلاف الأولى، حتى اتخذت لنفسها مسميات ونواميس وأساليب عمل، فأضحت بذلك مشكلة جديدة تضاف فوق تراكم المشكلة الأصلية.

وقد لاحظنا عبر دراستنا للتاريخ السياسي العربي / الإسلامي، أن التطرف والغلو، كان السبب الأول والرئيسي في نهاية حركات سياسية كان دورها مهماً وكان مقدراً لها أن تكون أكثر أهمية لو أنها ابتعدت عن التطرف والغلو. سأقتصر في مقالتي بذكر ثلاثة منها فقط هي أشهر تلك الحركات السياسية، المعتزلة والخوارج، والقرامطة. فهذه حركات لاقت رواجاً كبيراً بين الناس، ذلك أن أفكارها كانت تهدف إلى إقامة العدل الاجتماعي، وهي شعارات لبشائر تهفو قلوب الناس إليها ويتلهفون لها.

والحركات الثلاث بلغت شأواً كبيراً في فضاءات السياسة العربية / الإسلامية، والمعتزلة في مقدمتها كتيار جذب المثقفين (بمقاييس تلك الأزمنة) من أدباء وشعراء وحتى رجال دين، إلا أنها تهاوت عندما باشرت العمل السياسي في زمن الخليفة العباسي المأمون، ثم عندما تحملت إساءات وأخطاء الدولة، قمعت معارضيها، وكانت فاتحة الانحدار، في تراجع لا يتوقف حتى انتهت أثراً بعد عين.

والخوارج كانوا أتقياء السياسة، وهم على نزاهتهم ونقاءهم استحقوا احترام حتى من خرجوا عليه، الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب (رض) وكان يصلى على قتلاهم، ومنع الحديث عنهم بالسوء، ولكن منهج العدل والحق ما لبث أن وقع صريع آفة التطرف والغلو والتكفير بداع وبدون داع، ليقتلوا بفتاويهم حتى الأطفال الرضع من خصومهم. وما لبث أن وضع الأزارقة وهي الفرقة الأكثر تطرفاً الخاتمة لهذه الحركة بما ذهبوا إليه من مبالغة في الغلو والقسوة والدموية.

والقرامطة، الذين مثلوا أولى حركات المحرومين والفقراء في السياسة العربية / الإسلامية، ولكنهم ربطوا مصيرهم بفرقة دينية (الإسماعيلية)، وعلى أهمية المحتوى الديني للخطاب السياسي في ذلك الوقت، إلا أن ربط حركة القرامطة بفرقة الإسماعيلية بدا حتى في مقاييس ذلك الوقت تطرفاً وغلواً، ثم أن الصراعات السياسية على الأرض والنفوذ والكسب المالي أوقعهم في تناقضات وصراعات قادتهم إلى التطرف، ومن ذلك سلبهم للحجر الأسود من الكعبة، وممارستهم الابتزاز المالي والسياسي، ثم تنافسهم مع الفاطميين في مصر (مع أن كلاهما شيعة ومن الإسماعيلية) الذي تطور إلى تنافس انتهازي الطابع والمآل، ثم إلى صراع، ثم لحروب دموية، أخرجت الحركة من طبيعتها الاجتماعية، وأدخلتها صراعات حملت نهايتها لهذه الحركة.

وربما قائل يقول، إن العقل الشرقي مجبول بالعاطفة الجياشة، والمبالغة والتطرف. يحب ويتعاطف بشدة، ويكره ويخاصم بشدة، نعم هذا صحيح إلى حد بعيد، والحق يقال أن التطرف هو داء أصيبت به الكثير من الحركات في أصقاع العالم كله. والتطرف ليس حكراً على الشرق، بل هو مآل لا نستبعد منه مصير حركات سياسية ودينية عديدة في أوربا، ومن تلك التدهور والاضمحلال الذي أصاب حركة اللاسلطوية الذين عرفوا بأسم الفوضويين (Anarchist)، وهي تسمية لحقت بهم نتيجة لرفضهم أي سلطة ونظام،  والبيوريتانيون (Puritan)  لتعصبهم واتجاهات دينية أخرى.

اليوم يكتسح المنطقة العربية لهيب التطرف، بحيث تجيز أي جهة لنفسها أن تشكل بسهولة كياناً سياسياً تطلق عليه صفة (الجهادية) في تطرف يبدو كسباق محموم أشبه بسباق التسلح، والمبالغة في القسوة لأثبات القوة والسيطرة، وإثارة الرعب وإرغام الآخرين على قبول الأمر الواقع، وابتداع أساليب ومناهج ومقولات تجيز اضطهاد الغير، بتأويل خارج ما ينص عليه الكتاب (القرآن) والسنة. والتطرف يدفع لتطرف مماثل وفق القواعد العلمية للفعل ورد الفعل (مطلع المقال)، بل ربما يعتبره البعض دفاعاً عن الذات والوجود بأسلحة مماثلة.

وما دخول حركات سياسية إسلامية على خط النضال الوطني التحرري بأساليب غريبة باتت معروفة للجماهير الشعبية وبأهداف مشبوهة تتبع مسالك اعتدائية على حياة المواطنين، فتربك خطط الثورة وتحاول حرف مساراتها من ثورة وطنية / ديمقراطية الفحوى والمحتوى، إلى غرض بائس يتمثل بجر الجماهير الثائرة لأن تتناسى قضية الوطن المحتل المستباحة كرامته الوطنية وثرواته ومقدراته ومنجزاته، لأن تتناحر فيما بينها على أسس طائفية، بل ومارسوا القتل والتصفيات بطريقة عشوائية هي أقرب إلى جرائم الإبادة الجماعية.  بأساليب قتل متقدمة يرجح أن تكون جهات خارجية لهم فيها عوناً ومرشداً. ومن حيث المقاصد والأهداف النهائية لا نجد تبايناً جوهرياً بين الحركات الطائفية أي كان لونها، وإن اختلفت التكتيكات إلا أنها متحدة في الاستراتيجية، ومنبع هذه الحركات هي من خارج الوطن، وصياغتها في أدراج أجهزة الاستخبارات الأجنبية.

الطائفية وهي صنو التطرف بل منتج عنه، مرض وبيل يفتك بأعتى الدول والشعوب. ولا يتصدى لها إلا من يثبت ذلك قولاً وفعلاً. وبأسرع من المتوقع انكشفت أبعاد اللعبة سواء في العراق أو حيثما مدت خراطيمها النتنة، ونعترف أن ما رصد لإنجاحه كان كبيراً سواء لجهة التخطيط، أو رصد الامكانات، وتوزيع الأدوار، ولكن الخلل كان في التمثيل والإخراج، لذلك جاء الفشل مدوياً. وسيان من هي الجهة التي نصحت وخططت ونفذت، فالعملية كبيرة ومتعددة الأطراف، وهي حتماً على قدر كبير من الدراية بأوضاع المنطقة، ورغم أن الفكرة وضيعة، إلا أنها محكمة، ولكن من يتحدث عن الأخلاق هذا اليوم ...؟

الطائفي مريض نفسياً، ممتلئ بالأوهام والخرافات، والقوة هي لعبته المفضلة، يعوزه المنطق والحجة التاريخية فيسعى لتصحيح المعادلة بالقتل وإشاعة الإرهاب، والدم يطلب الدم، الفعل يقود إلى رد فعل، تهديد الوجود يؤدي إلى دفاع مقابل عن الوجود، المطاردة تستدعي ردود أفعال، ومن يتطرف سيجد سياسيون ووطنيون يترفعون عن الطائفية، ولكنه سيقابل أيضاً من هم غير ذلك، أناس يريدون الدفاع عن وجودهم، يرفضون أن يكونوا هوامش في أوطانهم، يدافعون عن استقلال بلادهم، ويرفضون الاحتلال تحت أي مسمى كان ...! ونتساءل أليس من الغريب أن يكون أكثر من يلجأ إلى القتل والتصفيات الدموية والمجازر هم من يتخذون الدين غطاء لتلك الجرائم، مع أن كافة الأديان والدين الإسلامي خاصة ينهى بصفة حازمة عن قتل البشر، ومن يعارض بالرأي والمذهب ...؟

ــ المتطرف في فعله المبالغ يريد أن يلفت الأبصار إليه، ولكنه سوف لن يخاطب العقول مطلقاً.
ــ المتطرف يبالغ في الانتقام والثأر، وفي ردة الفعل بما يخرج فعله عن الخطاب السياسي الرزين.

ــ المتطرف يصاب بقصر النظر فلا يرى سوى مصالحه، ويبالغ في منحها الشرعية، ولا شرعية لسواها.

ــ المتطرف مصاب بعمى الألوان، فتختلط عليه الرؤية بما لا يصح شرعاً وقانوناً وتقاليد وطنية.
ــ التطرف بأختصار آفة تلحق الضرر المميت بصاحبها أولاً، وسهم أفلت من يد مطلقه، فرد كان أو دولة، أو جهاز أستخباري ...!  كمشعل حريقاً ليس بوسعه إطفاؤه ..!

ــ ثبت اليوم بالأدلة المادية والعقلية، أن الأجهزة الاستخبارية لها اليد الطولى بتشكيل حركات متطرفة، مستفيدة من تطور العلم الاستخباري والالكتروني، تعمد إلى تشكيل منظمات لها ظاهر يختلف عن الجوهر، بهدف التشويش ووضع خطة سياسية / ثقافية بهدف إحداث تأثير سلبي يلحق الضرر على مسار أحداث مطلوب حرفها عن طبيعتها. فليس من المستبعد أن تجد في كل حركة متطرفة بصمات أجهزة أجنبية ..!

ــ في معرفة هذه الحقائق، تتضح أبعاد المؤامرة الخبيثة التي لجأت إلى حرف الوعي الشعبي وأشكاله الثقافية والاجتماعية إلى صراعات طائفية، تقذف الجماهير الشعبية في أتونها لتتخلى عن أهدافها الوطنية والقومية والاجتماعية، فتحدث شرخاً في ولاء الجماهير الوطني، وأهدافها.

ــ وهكذا تلتقي، بل تتلاحم أهداف الطائفي والمتطرف، مع أهداف ومساعي الجهات الأجنبية المعادية للوحدة الوطنية والنهضة الاجتماعية وتحقيق أهداف

التطرف ... الخطوة الأولى للنهاية

قراءة التاريخ هي حتماً ليست لإزجاء الوقت، وكتابة التأريخ هي أيضاً غير التسجيل الكرونولوجي (Chronology) للأحداث بتسلسلها، دراسة التاريخ فلسفة التاريخ تعني في المقام الأول علم التطور المادي للتاريخ، دراسة الأسس التي يقوم عليها التطور، ودراسة عميقة لجوهر الأساسيات في الحياة.

 

السياسة هي

مجموع الفعاليات (Total actvities) والنشاطات الداخلية والخارجية التي تعتمد بالدرجة الأولى على التوصل إلى قناعات مشتركة من أجل الشروع بفعاليات مشتركة، وهو عمل يعتمد أساسا الحوار واستبعاد اللجوء إلى القوة، وفي مجال بحثنا، تمارس الدول هذه الفعاليات كإحدى سبل تأمين المصالح الوطنية العليا.

 

والسياسة (تعني بصفة أساسية) التعامل مع الحقائق والعناصر التي تلعب دوراً في إطار الوضع السياسي والاقتصادي العام في مرحلة تاريخية معينة من أجل الوصول إلى هدف تسعى إليه فئة أو فئات اجتماعية وأدواتها التي تفرزها وتمثله: الأحزاب والحركات السياسية، أو بين تحالف يضم عدداً منها. وتمارس السياسة بصورة اشمل وأعمق وأكثر فاعلية إذا جرت ممارستها من مواقع السلطة وفي قيادة الدولة، ومن البديهي أن تشمل دائرة فعالياتها، العلاقات الدولية والأحداث الدائرة على مسرح السياسة الدولية.

 

والسياسة بهذا المعنى ضرورة، بل حتمية التعامل مع قوى وحركات وأفراد وفئات وكتل اجتماعية وكيانات، وهذه العناوين تختلف في الموقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وبالتالي فإن لكل منها وجهة نظرها،  ومصالحها، ومن المؤكد مواقفها. ولا يمكن لواحد من القوى أن يلغي الآخر، بل من الأنجح أن تتقارب هذه العناوين لدرجة إمكان صياغة برامج مشتركة، وحتى إذا كانت هذه الفرصة بعيدة المنال، فعلى الأقل تجنب التصادم الذي سيكون مؤذياً لكل من الطرفين، أو لمجموعة الأطراف.

 

ومن هنا فإن دراسة التاريخ بعمق، وبالذات تاريخ الحركات والاحزاب الاجتماعية والسياسية، والتيارات الفكرية، التي تظهر مسار هذه الحركات التي تبدأ بطرح فكر جديد، يتجاوز ما قبله، فيجد سبيله للنجاح، ولكن هذا النجاح سيكون وقتياً ما لم تنجح تلك الحركة بأستيعاب ظروف ومعطيات التطور، وأن تسايرها، وأن تخضع نفسها للتطور، وأن تتجنب الجمود العقائدي (Dogmatism) الذي يعني فيما يعنيه العجز عن الأيفاء بمستحقات المرحلة، وعدم قبول الفكرة البديهية العلمية بحتمية التطور، وبالتالي سيعجز عن فهم سائر الظواهر ومتطلباتها.

 

التطرف بأختصار هو مسار حتمي للحركة / الحركات التي تعجز أو تفقد القدرة على التواصل القائم على القناعات والحوار ضمن محيطها الذي تعيش فيه، وتفتقد تدريجياً الصفة التي أحرزتها في بداية نهوضها وأصطفافها الطليعي، ويواجه عناصرها هذا الخلل تدريجياً حتى يصبح ظاهرة، فتتحول الحركة إلى معسكر، بمواجهة الناس.

 

في هذه المرحلة وضعت الحركة جداراً شاهقاً بينها وبين الآخرين، وقد يصل الأمر في سياق تناقض مطرد إلى اشتباكات نظرية، مفتوحة على أحتمالات أوسع ، وغالباً ما يجري  تصعيد (Eskalation)،  وربما أحياناً يكون غير مقصود، بدافع الحماس أو التدافع والتنافس، ومن دون السيطرة على هذا التصعيد الذي ينفتح على احتمالات، ربما لم تكن في ذهن قيادة الحركة، فإن الموقف برمته يكون قابلاً للأنفجار.

 

في معسكر الحركة، سيتراصف الدوغماتي (الجامد / المتعصب) إلى جانب الأقل ثقافة ووعياً، وإلى جانبهم ستقف مجموعة ممن يمتهنون العلاقات العامة (هو تعبير معاصر مهذب للأنتهازية "Opportunismus")، والمنتفعين أقتصادياً، وستحشى الحركة على صفوفها من التبعثر والأندثار الفكري والتنظيمي، فستسعى الحركة إلى إطلاق موجات متعاقبة من التعصب والتطرف (Fanaticism) لشد صفوفها وطرح تصور لا يبتعد عن الإطار القديم، بل يغطس في غياهب المبالغة ومنح القناعات السياسية (الثقافية) طابعاً تسلطياً فوقياً، لا يجوز التطرق له، أو الشك بشرعيته (Legitimation) والتقرب منه والشك بسلطانه.

 

والأفراد في هذه الحالة يتحركون سياسياً كأدوات، فهم لا يمتلكون قناعات عميقة، لذلك تسهل عمليات أختراقهم، ويكون مجمل الوضع قابل للتصدع في حالة الأهتزازات، أو الخلخلة في الموقف العام ولاسيما في حال زوال أو ضعف قوة التحريم . ومن هنا نشاهد الشبان الذين كانوا أكثر أندفاعاً، عندما يعيشون في أجواء الحرية يتحولون إلى بدائل واحتمالات كانت بعيدة جداً .

 

التطرف هو الخطوة الأولى للنهاية، وهذا العنوان لا يهدف إلى أن تتراجع الحركات المتطرفة للعدول عن تطرفها، فالمتطرف قد وضع حركته ونفسه في عملية تاريخية (Historical Prozess)  لا يستطيع التراجع عنها، أو لنقل أن التراجع عسير. ولنا من الأمثلة الكثير جداً في التاريخ القديم والحديث. وبوسع القارئ أن يطلع على تاريخ الحركات السياسية والفكرية منذ مطلع تاريخ الفكر السياسي القديم، والوسيط والحديث. وكذلك في أعمال كثيرة تفصل تاريخ الحركات السياسية التي بدأت قوية، وتصاعدت قوتها كثيراً، ولكنها انحدرت بسبب تطرفها، وأبرز تلك الحركات في العصور العربية الوسيطة : الخوارج، المعتزلة، القرامطة، وبدرجة ما حركة الزنج.

 

هذه الحركات بدأت حركات كان ينتظر منها أن تفعل الكثير ولا سيما الخوارج كحركة سياسية مسلحة، الذين كانوا مثار الإعجاب بنزاهتهم وشجاعتهم، إلا أنهم بالغوا، وتطرفوا، وبلغ الأمر بفرقة من أكبر فرقهم (الأزارقة) أن مالوا لتكفير حتى الأطفال، وبالغوا في استخدام العنف. والمعتزلة الميالون إلى الفلسفة والمناظرات الكلامية، كان لهم مفكريهم العباقرة، وبتقديري هم والخوارج أيضاً، من أوائل الحركات الديمقراطية في الإسلام (بعد الخلافة الراشدية)، ولكنهم تدخلوا في الحكم، وكثرت أخطاؤهم، ثم صاروا يقمعون بشدة من يعارضهم، وانتهى الأمر بتشتت وتلاشي مذهل لهذه الحركات الضخمة فكراً، وانتشاراً في المجتمعات العربية والإسلامية.

 

أما حركات الزنج والقرامطة، فنهايتهما كانت أسوء بكثير من الخوارج والمعتزلة، فالزنج الذين ثاروا من أجل تحرير أنفسهم واستطراداً مجتمعهم من العبودية، وبعد أن حققوا بعض المكاسب وصار لهم شبه كيان، سرعان ما مال قادتهم ورؤسائهم لامتلاك العبيد، والإقطاعات. والقرامطة الصف الأول من قادتهم تميزوا بالإخلاص والنزاهة، ولكت القيادات التالية ارتكبت القيادات القرمطية الكثير جداً من الأخطاء الفادحة، من الفساد الإداري والمالي، إلى امتلاك القصور، والتطرف الذي صاروا بالنتيجة لا يستطيعون التفاهم لا مع دول ولا حركات عاصرتهم، بل واختلفوا حتى مع الفاطميين وحاصروا عاصمتهم، وكادوا أن يدمروها.

 

التطرف سيجد طرق الحوار أمامه مغلقة، لأنها قد تعني التراجع مما أعتاد عليه وأتقنه، ويجده سهلاً في التطبيق، وما دامت لديه القدرة على ممارستها، وحمل البعض على مسايرتها، والمتطرف يستصغر شأن الآخرين، ويضع الأكثرية الصامتة (وهي الغالبة في معظم المجتمعات) يضعها في حسابه، وسينتهي الأمر به أن تعتبر هذه الحركة نفسها ملهمة، وتحتكر الحق والصواب، ولا تقبل من الجهات الأخرى إلا أن تردد ما يطرح من سياسات ومفردات.

 

ويقود التطرف في تفاعلاته إلى اضمحلال وتلاشي الإدارة الجماعية سياسياً، مقابل صعود أفراد، لأن سباق التطرف سيفرز قادة يفرضون أنفسهم أمناء على "الخط" طغيانيين على الأرجح، طالما أن المحيط السياسي عاجز عن التصدي لمثل هذه الظواهر، وبروز ظواهر ملهمة، والقائد الملهم هو جزء من ديكور التطرف ومستلزماته ولواحقه. وقد يكون بعض القادة الطغاة في التاريخ هم حقاً على درجة كبيرة من قوة الشخصية والقدرات القيادية، وقد لا يخلو الأمر من منجزات على أصعدة مختلفة، ولكن النظام السياسي في أي دولة ناجحة، هو متعدد الصفحات، والنظام الديكتاتوري لن يكون بوسعه أن يقدم النظام ويطوره، فهذه تخالف مسارات النظام الديكتاتوري.

 

الديكتاتورية ( Dictation / وهو مصطلح غربي يقابل الطغيان في الثقافة العربية) وتعني: سلطات غير محدودة، وانتهاج سياسة الإملاء، أو فرض الإرادة، أو التصور المسبق، وأوامر خارجة عن المداولة. ويمكن أن يمارس الطغيان من قبل شخص، أو حزب، أو طغمة وهو مصطلح سياسي بالدرجة الأولى، وهو يعني التفرد بالحكم، بأستخدام القوة، وتجاهل أراء الإطارات الدستورية والسياسية في أي بلد، وقمع المعارضين، وتجاهل إرادة الشعب في التغير، من أجل تداول سلمي للسلطة وتقديم الأفضل، والهيمنة على الرأي العام بوسائل عديدة. وعلى هذا النحو، فهم هذا المصطلح في الشرق والغرب على حد السواء ومورس بأساليب وأشكال مختلفة، إلا أنها كانت متشابهة في جوهرها.

 

وكما للديمقراطية مؤسستها، كذلك للطغيان له مؤسساته، وإذا كانت مؤسسات الديمقراطية العامة المفتوحة للشعب كالبرلمان الفعال، والصحافة الحرة، والتعددية الحزبية، والقوانين التي تحترم حقوق الإنسان، ودستور يصون الحريات الديمقراطية ويكفلها، الديمقراطية تسعى إلى زج أكبر قد من الناس في الحياة السياسية والاجتماعية، وبالمقابل الطغيان له مؤسساته (وإن كانت تفتقر إلى شرعية النظام الديمقراطي الدستوري) التي تتمثل بأجهزة عديدة للمخابرات والأمن، وهي مؤسسات نظمها القانون، ولكنها تتوجه إلى معادة الشعب في النظم الديكتاتورية، مهمتها مراقبة أصغر التحركات حتى التافهة منها بين صفوف الشعب واتجاهات الرأي العام، وتتغلغل في أفكار وتصورات الشعب، وتصادر كل شيئ معنوي. وتفعل ذلك بحرفية عالية جداً، وقد تعمل الأجهزة غالباً من وراء الستار، ولكنها تمد أذرعها في كافة مفاصل الدولة والمجتمع. وأجهزة الأمن هي محصورة للنخبة وأبنائهم، وحاشية السلطة ومن العناصر المضمون ولائها الشخصي.

 

الطغيان والأنظمة الديكتاتورية استفادت من التجارب في بلدان عديدة، ومن اللافت أن الطغاة يعتقدون أن العلة تكمن في خطأ تكتيكي أرتكبه أحد رجال النظام، ويتجنب الاعتراف بأن الخطأ هو في جوهر النظام الطغياني الديكتاتوري، كما يأبى الاعتراف أن الأنظمة الطغيانية آلت إلى الزوال ولقى الطغاة مصائرهم على أيدي المضطهدين والمسحوقين، وغالباً بصورة بشعة هي أقل بكثير من بشاعة النظام الطغياني الذي مارسوه.

 

والطاغية (Dictator)، وهو يمثل ابتداء ميل جارف للتسلط، وهذا الميل قد يكون قد رافق الطاغية منذ طفولته، فعاش الهاجس في تكوينه النفسي وأثر على كل تصرفاته اللاحقة، فإبداء اللين والموالاة والطاعة، ربما كانت السبيل لما يمور في دواخله، ولكنه لم يبرز لدية إلا في لحظة تاريخية مواتية. وأبرز دليل على ذلك هو الديكتاتور الباكستاني الجنرال ضياء الحق(1924 ــ 1988)، الذي كان موالياً لرئيس الوزراء ذوالفقار بوتو، بل وظن أنه من بطانته، حتى سلمه قيادة الجيش، فقام بأنقلابه العسكري وزج ببوتو في السجن وأعدمه لاحقاً بعد محاكمة مشكوك في نزاهتها. ومثله أيضاً الديكتاتور الجنرال أوغستو بينوشيت(1915 ــ2006) (تشيلي) الذي هو نسخة مطابقة للجنرال الباكستاني لضياء الحق، الذي سار في تأييد الرئيس سلفادور اليندي، ثم قاد أنقلاباً عليه، وقصف مقره مما أدى إلى مصرعه. ومثلهم فعل الجنرال الاندنوسي سوهارتو(1921 ــ 2008)، الذي أستغل ظروف أمنية معينة، فأستلم مقدرات البلاد من الرئيس أحمد سوكارنو، وما لبت أن أنقلب عليه وعزله وأحتجزه حتى وفاته.

 

ويجزم الكاتب الكولمبي غارسيا ماركيز، أنه تتبع الأصول العائلية لطغاة أميركا اللاتينية فوجد أن جلهم يعاني من طفولة شقية، ومن اضطهاد أسري أو بيئي، رافقت مراحل مهمة من حياتهم، فالطغيان هو نزعة عصابية غير طبيعية، تمثل تنفيساً لعقد وكوامن نفسية، ظاهرة أو خفية، وتعويض لما تمثله هذه العقد من حفرة عميقة في النفس، هي من بين العوامل الرئيسية التي تمثل المحرك الخفي للسلوك الطغياني اللاحق.

 

ومن أجل تكريس زعامة شاملة، لا يتواني الطغاة عبر التاريخ من وضع أسمائهم بصفة هالة من التقدير والتقديس(موسوليني ـ دوتشي"القائد" هتلر ـ فوهرر " الزعيم "، عبد الكريم قاسم " الزعيم الأوحد ")، وتساهم أجهزة الدولة الرسمية بهذا الجهد، فتمنح الطاغية ألقاباً وأسماء، ناهيك عن الرتب العسكرية والأوسمة لمزيد من الهيبة، ويضعون صورهم الشخصية على العملات الورقية والمعدنية، وربما صياغة قصصاً وأساطير. ففي التاريخ الشرقي القديم (في بلاد الرافدين، ومصر القديمة، وحتى في الحضارات الأخرى كالأزتيك والمايا والأولميك في أميركا اللاتينية)، كان الملوك يشبهون أنفسهم بالملائكة، فقد أدخل الملوك بناتهم وزوجاتهم في خدمة المعابد وأصبحن كاهنات، بل وأن ابنة الملك الأكدي الكبير سرجون، كانت كبيرة كاهنات(نانا)، وكان يحظر على الكاهنات إقامة الاتصالات الجنسية مع الرجال في الظروف الاعتيادية، وذلك هو السبب في أسطورة ولادة الملك سرجون إذ وضعته أمه الكاهنة في سلة من والقصب في تيار النهر (كما حدث للنبي موسى) وأنقذه بستاني. وهناك ما يشير إلى الافتراض الواضح أن الملوك كانوا يمارسون الاتصال الجنسي الطقوسي مع الكاهنات، حيث تقوم الكاهنة بدور الآلهة أينانا ويمثل الملك دور الإله دوموزي(تموز) وفي الأساطير كان هذا الإله في الأصل بشراً، لذلك فقد كان الاعتقاد سارياً وسائداً بأن الحكام(ملوك وأمراء) إنما يحكمون بتفويض من الآلهة (Divine Right) أو أن الآلهة قد حلت فيهم (Incarnation) بصورة من الصور، والحكام هم أصلاً كانوا ممثلين اكبر القبائل والأعراق عدداً وقوة (من حيث المحاربين) وهم بالتالي أكثرها ثراء، ولذلك يحوزون على القوى المادية التي تترجم سلطانهم إلى هيمنة على الفعاليات التي تدور في المجتمع. ولم يتوانى بعض مروجي نظام الزعيم عبد الكريم قاسم أن يهولوا بأن صورة الزعيم موجودة في القمر ..!

والطغاة (الديكتاتوريين) في العصور الراهنة، يمارسون هذه بوسائل أخرى ولكن بذات النتائج، وأن تقلصت بدرجة كبيرة جداً إمكانية تأسيس أنظمة طغيانية، بسبب وعي الشعوب، وتطور العلاقات الدولية التي بات من المستهجن قبول أنظمة ديكتاتورية والتعامل معها على قدم المساواة كالأنظمة الديمقراطية، برغم أن المصالح الانتهازية للدول تتغاضى أحياناً عن أنظمة كهذه، إلا أن هذه الأنظمة فقدت احترام شعوبها والمجتمع الدولي على حد السواء، بسبب التطور الكبير في الفقه القانوني والدستوري، وتطور نظم الدول إلى مستوى رفيع بات معه تنظر وتتعامل مع النظم الديكتاتورية كنظم متخلفة، وشعوبها تستحق العطف.

 

والطغيان هو نتاج ومزيج (Product & Combination) لعناصر اجتماعية / اقتصادية / سياسية، فالديكتاتورية الفاشية في إيطاليا (أكتوبر 1922/ ابريل 1945) والنازية في ألمانيا (يناير 1933 / أيار 1945) فشهدت إيطاليا وألمانيا في أعقاب تطور صناعي تطورات نقلها إلى مصاف الدول الصناعية، وباتت الدولتان تطالبان بمزايا الدول العظمى، وتشير التجربة التاريخية إلى أن قادة كهتلر وموسوليني نجحا بإثارة المشاعر العدائية لشعوبهم إلى الحد الأقصى، مستخدمين ببراعة  الموقف السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تمر بها بلدانهم(فساد السياسيين التقليديين، كساد وتضخم اقتصادي، مرحلة تمفصل طبقي/ أجتماعي)، ونجحوا بتأسيس أنظمة طغيانية يحكم في ظاهرها الحزب، ولكن في واقع الأمر كان (الدوتشي/ القائد) موسوليني و(الزعيم /الفوهرر) هتلر هما من يقودان البلاد بديكتاتورية، مع تجاهل المؤسسات الحكومية الشرعية .

 

والدراسة والتعليم تمثل بصفة عامة جانباً غير مشرق في حياة الطغاة، فغالباً ما يكون شخصاً قد نال حظاً قليلاً من التعليم، ليس بسبب قلة قدراته، بل إما بسبب التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لبيئته الاجتماعية المتواضعة، أو لانغماسه الكثيف في العمل السياسي، واستهلكت المناورات، والأنشطة السرية، والتخطيط للتفرد من قواه، فلذلك فإن الديكتاتور (على الأغلب) شخص لم ينل فرصة كبيرة من التعلم، ويميل الديكتاتور والطاغية إلى احتقار أراء الخبراء والعلماء، لأنهم يناقضون آراؤه السطحية، ويحاول إضفاء مظاهر العلم مزيفة (كعقدة نفسية) على شخصه، فيحاول طرح نفسه كمفكر، أو كعبقري في الرؤية المؤسسة على ألمعية لا يتواني بعضهم أن ينسبها إلى قوى غيبية أو خفيه، تبلغ عند بعضهم أن يقرنها بعلامات إلهية، ومن المدهش أن تمارس هذه الأفكار الغيبية حتى عصرنا الحالي بصور متفاوتة، ولكن بمؤدى واحد، وهو ترسيخ الطغيان.

 

وعندما ما يدرك الطاغية صعوبة تقارب الاستحالة ممارسة الحكم بعلاقاتها المتشعبة، دون الاستعانة بالأجهزة، وتتسلل لإلى مخيلته نظرية أن الحكم في واقع الأمر لا يستمد قوته من المجتمع / الناس، بل بما تؤمنه له الأجهزة. ويستسلم لهذه النظرية طائعاً مختاراً أو تسليماً بالأمر الواقع، لمؤسسة صار لها جذورها وفروعها، وأعداد كبيرة أرتبطت مصيرياً بهذه الأجهزة، ومنهم من تورط بعمليات لا توصف بالنظافة، من اغتيال وقتل، وتهريب وغسيل أموال، وصارت هناك ثروات سوداء مودعة في بنوك سرية، وأنشطة اقتصادية الكثير منها يدخل في إطار الممنوعات، وهكذا فالطغيان يفرز الفساد أيضاً كمحصلة ضرورية، وكثرة أعداد من يرتبط بهذا الفساد، حتى أصبح النظام الديكتاتوري والفساد وضروب القمع قطعة واحدة متلاحمة يصعب فصمها.

 

إن التطور التاريخي لا يطرح نفسه بشكل انقلابات وهبات، بل بحتميات تاريخية، وتقود الواحدة منها للأخرى، وبتسلسل لا تتحكم فيه شعارات التطرف أو الطاغية الذي يقود التطرف، ولكت المراحل تحل بأستحقاقاتها، كنتائج تاريخية لا مناص منها. الطرف يقود إلى الفردية والطغيان، وهذا يقود إلى تراجع نظام الدولة وتصاعد دور الفرد، وهذا سيؤدي للفساد، وهذا يقود للقمع، والقمع يؤدي للثورة ... هذا تطور ديالكتيكي حتمي، لا محيد عنه، وبدون فهمه بشكل عميق سيستعصي فهم سائر الفقرات...

 التطرف مهلك ...  والسائر فيه كالذي يخطو نحو النهاية

 الطغيان مآله الهزيمة المؤكدة

 مرحلة التحرر الوطني، ومنها استبعاد قوى الاحتلال والهيمنة، وتحقيق الوحدة الوطنية.

 المركز العربي الألماني

برلين

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

لماذا تقاتل إيران مع أرمينيا

 

ضرغام الدباغ

 

نلاحظ في إعلام اليوم دهشة لدى بعض القراء .. وربما خيبة أمل لدى بعض آخر ..أن تقف إيران التي تعلن في دستورها أن الدين والمذهب من أسس الدولة.. تقف دون مواربة ولا تردد ولا حياء ضد أذربيجان المسلمة والشيعية، مع أرمينيا المسيحية الأرثوذوكسية، ولا تكتفي بالتأييد المعنوي السياسي، بل تقاتل إلى جانبها بالقوات المسلحة، وهذه لمن فاتته الحقائق، هي المرة الثانية التي ترسل إيران قواتها المسلحة لدعم أرمينيا، فما هو الخطب الجلل الذي يحمل إيران على هذا الموقف المتناقض بدرجة صارخة مع التعصب الديني والمذهبي ..؟

 

يعتقد البعض أو يروج (وهم غالبا من مؤيدي ولاية الفقيه) أن جذر الموقف سياسي ويتعلق بتعاون أذربيجان مع إسرائيل ... أو الولايات المتحدة . وبصرف النظر عن درجة صدقية هذه الأنباء، وأهميتها بالنسبة لإيران المتعاونة بنفسها مع إسرائيل والولايات المتحدة، فلماذا تحرم هو حلال لها. من المؤكد أن هذا ليس بالسبب الحقيقي الدافع لهذا الموقف الذي سيعمق التناقض الإيراني / الآذري، ولكن على الأرجح أن إيران لم تتخذ هذا الموقف الحاد (التأييد والدعم لدرجة إرسال القوات المسلحة) لو لم يكن الأمر قد بلغ هذه الدرجة من التدهور في العلاقات.، ولنذهب إلى المديات الأعمق ...!

 

أذربيجان (سكانها نحو 8 مليون نسمة) ويمثل الشيعة فيها نسبة 50%  من السكان (وفق معطيات الموسوعة الدولية) و45% من السنة، و5% مختلط من الطوائف المسيحية، وأقلية من اليهود والبهائيون. إلا أن الثقافة العلمانية هي السائدة في المجتمع، وهو السبب الجوهري في استقرار أذربيجان، لولا الإشكالية المتمثلة بالتداخل الأرميني .

 

أذربيجان الشرقية (وسكانها نحو 4 مليون نسمة) تقع تحت الاحتلال الإيراني ، وقد فعل الإيرانيون كل شيئ ليبعثروا هذا الشعب، من تهجير داخلي وخارجي، إلا أن القضية الآذرية موضوعة ساخنة تطرح نفسها كل بضعة سنوات، وهناك منظمة مركزية تسعى بالانفصال عن إيران والالتحاق بالوطن الأم، وهذا بالضبط ما يشكل القلق الدائمي (إلى جانب حركات أخرى) فالانفصال المحتمل لأذربيجان الشرقية ستكون له تداعياته العديدة في مقدمتها وأولا، سقوط نظرية المذهب القائد المهمة جداً لإيران الدولة، باعتباره رباط يجمع بين الفرس (العنصر القائد للدولة) وأقليات متناثرة بالكاد تمنح الدولة الصفة الدينية وهذا ما كان في الاعتبار لدى كافة قيادات إيران منذ عصر الملكيات وحتى عصر الملالي.

 

والأمر الثاني، فإن الانفصال المحتمل لأذربيجان يؤدي إلى هزة في الموزائيك الإيراني، يتسرب منها التخلخل إلى مناطق أخرى الرفض الشعبي العام فيها تام النضوج كحركة شعب الأحواز، والبلوش، والأكراد. ومن هنا فإن القيادات الإيرانية (على تنوعها) تتعامل مع القضية الآذرية كقنبلة موقوتة، وبهذا القدر من الخطورة بحيث يدفعها لإرسال قوات مسلحة تقاتل مسلمون شيعة .....!!!!

 

إيران هو مصطلح فني، لم يكن موجود عبر التاريخ ولم يتأسس إلا عام 1923، وتسميتها التاريخية بلاد فارس. وأهمية وجود "الكيان الإيراني" له تداعياته في المنطقة والإقليم، عدا التداعيات الدولية، وهو سبب ألتحاق إيران (في كافة عصور الدولة الإيرانية) في الاستراتيجيات الغربية. والأمر له علاقة وثيقة بثلاثة أمور في غاية الأهمية:

 

1. أحتمالات التوسع الروسي.

2. الحيلولة دون تكامل الوجود التركي في حلقة الدول التركية ( منظمة الدول التركية : أوزبكستان، كازاخستان، تركمانستان، أذربيجان، طاجكستان، قرغيستان وصولاً إلى أفغانستان).

3. موضوعات الطاقة، وتوزيعها الجغرافي، والخطط التكاملية لشعوب المنطقة.

 

هذه بأختصار شديد بعض أهم أبعاد القضية، وهناك أصعدة أخرى، وهذه الأسباب والمعطيات تحمل القيادة الإيرانية على إرسال قوات مسلحة إلى أرمينا للقتال ضد الآذريين، وهو أمر سوف يسجل بحروف بارزة ومؤثرة في تاريخ العرقات الآذرية الفارسية.

 

نكتفي بهذه المعطيات، وفي التأمل بتفاصيلها، يمكن فهم القلق، بل الهلع الإيراني، من تطورات قادمة، تحمل في طياتها مواقف وأوضاعا سياسية جديدة.

 

 

طغيان الدولة

مقدمة لإرهاب الدولة

ضرغام الدباغ

تصدير الثورة

لو سلمنا جدلاً بشرعية فكرة تصدير الثورة (وهي نظرية غير علمية)، فلابد له على الأقل من توفير أسس ومرتكزات سليمة لهذه الثورة، رغم أن فكرة تصدير الثورة هي أساساً فكرة رجعية مهما كان الشعار الذي يعلوها، فالثورات لا تُصدّر وليس هناك إمكانية نظرية أو عملية تجيز وتشرعن فكرة أن يُحرّر أي شعب، شعباً آخر. وإن ادّعى ذلك تقدميون من أصحاب الفكر والمنهج السياسي والاجتماعي، ففي هذه الحالة ليسوا سوى ثوريون رومانسيون حالمون، إذ أن الثورة قائمة أساساً على قوانين ومعادلات ليست بسيطة، إن فكرة تصدير الثورة اعتماداً على البندقية لوحدها عملاً مستحيلاً، فهناك العمل السياسي النضالي، وهناك الحتميات التاريخية وقوانين الثورة بصرف النظر عن هوية رافع هذه البندقية وحامل اللواء.

عبر التاريخ لاقت فكرة تصدير الثورة نتائج كارثية حيثما فكر وأقدم من قام بها. فإذا أوغلنا في ملفات التاريخ، نجد أن الثورة الفرنسية عندما استتب لها الأمر استقرت، أبدت استعدادها لتحرير أوربا من ملوكها المتعسفين. وكانت هذه الفكرة  تبدو شاعرية في البدء وفي غاية النزاهة، لكن سرعان ما تحولت إلى استعمار عندما تحقق لفرنسا السيطرة على أوربا وتحول الفرنسيون إلى غزاة على الرغم من جمال وجاذبية شعارات:  حرية مساواة وإخاء. إلا أن الاحتلال الأجنبي في النهاية هو احتلال، وهو إهانة لشرف أي بلاد مع أن الفرنسيين هم من أرومة مشتركة مع الإيطاليون والألمان والنمساويون وغيرهم من الشعوب الأوربية، وينتمون إلى الديانة المسيحية المشتركة، بل إلى كنيسة واحدة في أغلب الأحيان.

وكان الجنرال نابليون قد ادعى أن جيش الثورة الفرنسية مستعد لأن يحرر أوربا على أن تدفع تلك الشعوب نفقات التحرير، ولكن ما لبث أن تحول هذا الشعار الخيالي إلى حملات وفتوحات، سعياً وراء التوسع السياسي الاقتصادي والعسكري، باسم الثورة، وحتى الشعوب الرازحة تحت الظلم والطغيان قاومته لأنها ترفض السيادة الأجنبية.

تصدير الثورة إذن خرافة، وفكرة بائسة عندما تستخدم كشعار سياسي، إذ بالإمكان تبين القهر بين أنيابه، في إرغام شعب آخر على اتباع منهج يماثل منهجه. ثم أن الأمر لا يعدو في النهاية عن خلق وسط سياسي / اقتصادي / استراتيجي، مرتبط وتابع. والعملية برمتها لعب على الألفاظ والكلمات، فمن ذا الذي يحق له إصدار مراسيم احتلال..؟ أيّاً كان شعار هذا التوسع فهو استعمار أيّاً كان لونه.

وبالإمكان أيضاً مراجعة مصير أيديولوجية تصدير الثورة لتروتسكي في الاتحاد السوفيتي، إذ لم تلاقي هذه الفكرة القبول من الغالبية الساحقة للأحزاب العمالية، ولم تعد في النهاية سوى تجمعات هزيلة هنا وهناك، لم تنجح في تقديم الدليل على صواب فكرة الثورة الدائمة. وحتى تلك الأفكار والفعاليات الأكثر تقدماً التي قام بها ثوريون محترفون في بناء الخلايا الثورية في مجتمعات لا تتوفر فيها شروط ومقدمات الثورة، لاقت هي الأخرى فشلاً مؤسفاً في بعض الأحيان، والدليل على ذلك فشل تجربة بناء البؤر الثورية في أميركا اللاتينية، رغم أن الفكرة تبدو للوهلة الأولى جذابة وبراقة، وأضفت عليها شخصية الثائر الكوبي / الأرجنتيني، أرنستو غيفارا الرائعة الكثير في مغزى التضحية والشجاعة الثورية، لكن تجربة بوليفيا كانت بائسة ومؤسفة، وكانت جهات كثيرة  وفق رؤية علمية للأمر قد قدّرت مخلصة الفشل المسبق لهذه التجربة.

حركة التاريخ محكومة بقواعد علمية لا تتغير تقريباً، وهناك قواعد للتطور والنمو، وقوانين اجتماع، وهي التي تحكم التطورات بطابعها بما يظهرها وكأنها تكاد أن تكون متشابهة لدرجة التماثل.

هناك دائماً غزاة ومحتلون، يطلقون على أنفسهم المحررين، أو مندوبي الحضارة والمدنية، أو رسل الديمقراطية، والسلام، والإنسانية ... الخ .. ما في موسوعة القواميس السياسية من مصطلحات وتعبيرات .. ولكن كل هذه المصطلحات تعبر في نهاية المطاف عن رغبة وإرادة في التوسع، ومهما اختلفت الحقب فالمسميات واحدة، والنتائج متشابهة.

بالنسبة لدولة مثل إيران مثل مشروع تصدير الثورة فقرة رئيسية في مخططات الدولة الإيرانية، وبرنامجا حكومياً علنياً لتصدير الإرهاب تحت عناوين وأساليب شتى، يقع التدخل العسكري المباشر في مقدمتها، إلى جانب فقرات أخرى في سياسة التدخل في الشؤون الداخلية، مما يخلق منها جاراً يتسبب بخروق للأمن القومي ويهدد البلاد، ويشيع الأعمال الإرهابية.

بتقديري أن فكرة تصدير الثورة هي جذر الإرهاب بصرف النظر عن الشعارات التي تطرحها، وهوية القائمين عليها. وتصدير الثورة يتم بوسائل ووتائر مختلفة. وفكرة تصدير الثورة مؤسسة  (Fundament) قوامها : " أن الجهات التي يستهدفها مصدروا الثورة يفترضون أن تلك الجهات قاصرة على "الثورة"، ونحن نقوم بمساعدتها ".

وتتخذ الجهات المصدرة للثورة من الشعارات "الثورية" ستاراً للأهدافها الحقيقية المتمثلة بالتوسع وإحراز النفوذ السياسي والاقتصادي وسائر المكاسب الأخرى، إن القانون العلمي للثورة لا يحتمل التعميم، بل أن أي من المجتمعات تعيش بنفسها احتدام التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى تتجاوز مرحلة التناقض الثانوي، إلى مرحلة التناقض الرئيسي وصولاً إلى درجته التناحرية، حين يعجز نظام العلاقات عن جمع المتناقضات وتعايشها، وحين يبلغ عمود التراكم حده الأقصى، تنفجر الثورات. وأي حديث خارج هذه القوانين هو خارج العلم وقوانين التطور التاريخية.

أستخدم نابليون مصطلح تصدير الثورة صراحة، ولكنه كان يخفي برنامجاً توسعياً، وهو ما وحد الأوربيين ضده، ثم حاول تروتسكي تصدير أفكار الثورة الروسية، فكانت تلك محاولة فاشلة أيضاً، وفي القرن العشرين أيضاً حاول الثائر الارجنتيني / الكوبي أرنستو غيفارا ذو الوجه الملائكي تصدير الثورة بكثير من النزاهة والأخلاق، وبمحتوى آيديولوجي نبيل، وبوسائل العنف الثوري، لكن قضية تصدير الثورة تحمل في أساسها أسباب فشلها لأنها تتجاهل الظروف الذاتية والموضوعية لذاك البلد، وبالفعل كانت نتائج جميع محاولات تصدير الثورة فاشلة في نهاية المطاف سواء الثورة الفرنسية، أو التروتسكية، أو ثورة غيفارا.

أما فحوى التوسع الإيراني فهو ليس سوى طموحات قومية فارسية لا علاقة لها بالدين، ولكنها تستغل الدين كغطاء للتضليل والتمويه، ويفتقر المشروع الإيراني لأي محتوى وجوهر فكري أو فلسفي، والشعارات الإيرانية بائسة، تفتقر بصورة تامة للمشروعية أولاً، ثم إلى محتوى اقتصادي وأجتماعي،  وبذلك ليس مستغرباً التدمير الشامل للبلدان التي وصلها التأثيرات الإيرانية. ونلاحظ :

رافق "الثورة" الإيرانية إرهاب لم تشهد له إيران في تاريخها مثيلاً.

ربط حتمي بين الانتماء المذهبي والولاء التام المطلق لإيران وسوق تأويلات باطلة لتبرير هذا الشرط ليصبح جزءاً من العقيدة ... في مؤداها النهائي تكريس لولاية الفقيه قائم على عبودية فكرية وإلغاء تام لشخصية الفرد في إطاعة عمياء للمرجع.

إلغاء تام لفكرة الدولة الوطنية والقومية، وهذا الإلغاء ينفي أي احتمال لتطور النظام السياسي، تطور تحكمه الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، محلياً ودولياً.

غوص متزايد في عالم الغيبيات، في عصر تتوالى فيه الحقائق المادية العلمية ومنجزاتها الباهرة، وبلوغ التراكم المعرفي والثقافي درجة كبيرة.

أن الحجم الكبير للجهد الإيراني في اختراق مجتمعات إسلامية، سينجح نجاحاً محدوداً في اجتذاب عناصر محدودة، مشخصة هي على هامش المجتمع أو في قاعه، وهي لا تساوي الجهد الذي في معظمه استخباري / مالي قائم على الكسب بتقديم إغراءات (بعثات، علاجية، إغراءات مالية زواج مؤقت، منح لدراسة العقيدة).

 

إن الثقافة هي أفضل وسيلة التنوير، ومنها نصل إلى بناء شخصية متينة للأفراد، لا تعبث بها الخرافات والأحلام، والتعصب وثقافة الكسب بالقوة والثأر والأنتقام ... فهذه كلها لن تبلغ بأي مجتمع، (بما في ذلك مجتمع البلد مصدر الثورة)، إلى إلى مرحلة يمكن وصفها بالتقدم، فتتحول إلى سلطة غاشمة تفرض الأمر الواقع بقوة السلاح وعنف الدولة الذي يصبح طغياناً واضحاً مهما تغلف بشعارات براقة شعبوية.

ليس سوى تقديم المكاسب المادية للمجتمع، ليس سوى زج كافة القوى البشرية، ليس سوى برنامجاً سياسياً / اجتماعيا يتجاوز التعصب والتشدد وطرح الفكرة الواحدة، ليس سوى نظام سياسي / اجتماعي يتجاوز الطائفية والعنصرية، ويطرح ديمقراطية شعبية تنهض بالبلاد لا تعيده إلى الخلف ..

 السمات المميزة للفكر العربي

 

د. ضرغام الدباغ

 

تطرح المقارنة بين الفكر السياسي العربي ـ الإسلامي، والفكر السياسي المسيحي، (بوصفه فكراً واسعاً)الفرصة أمام الباحثين، طرق مباحث لم تكن قد وردت في خلد الباحث عند الشروع بالبحث، بل تطرح أمكانية القيام بدراسات ذات توجه اختصاصي، عميقة الأهداف، والنتائج أيضاَ. وبلا شك لا يمكننا دراسة أي من التجربتين على أسس وقيم موحدة بسبب التباين في ظروف نشأة هاتين الحضارتين وما سبقتهما، وأبان احتدام الظروف الموضوعية والذاتية والتناقضات، والتفاوت في معطيات اقتصادية واجتماعية كثيرة، تجعل إخضاع التجربتين لمقاييس واحدة و ضرباً من ضروب العبث والتلاعب بالألفاظ ومغامرة فكرية ليس إلا.

 

ولكن مع ذلك، هناك سمات وملامح متشابهة، والسبب هو أن الصلات بين الحضارتين كانت مستمرة متواصلة من جهة، ولأن مسعى الإنسان في التقدم والكمال، وفي تحسين ظروفه هو مسعى عام ودائمي، يمضي صوبه الإنسان حيثما كان وحيثما تأسست حضارات من جهة أخرى. ورغم أننا خلال مباحث الفصول الأربعة التي تضمنها الجزء الثاني، حيث عرضنا الأفكار واتجاهات تطور الفكر السياسي بأسلوب يسهل على القارئ ملاحظة الفروق الأساسية بين الفكر العربي الإسلامي، وبين الفكر السياسي المسيحي الليبرالي في محاور ستة هي من حيث: ـ

1 ـ ظروف النشأة .

2 ـ العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على تطور الفكر السياسي .

3 ـ تأثير الدين على الفكر السياسي.

4 ـ تطور فكرة الدول.

 5ـ المؤثرات الثقافية بصورة عامه.

6 ـ المؤثرات الخارجية.

 

إلا أننا سنقدم باختصار، ما طرحناه من أراء وأفكار واستخلاص العناوين الجوهرية والأساسية، ولا بد من ذكر حقيقة، هي أننا لم نجد دراسات في الفكر السياسي المقارن باستثناء مقالة من صفحات قليلة للدكتور فاضل عبد الواحد علي (وكان ذلك بعد الفراغ من إنجاز عملنا تقريباً) في أوجه المقارنة بين حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل. فمن المؤسف أن لا تكون هناك دراسات كثيرة في هذا الاتجاه (باللغة العربية على الأقل)، إذ بوسع الباحثين التوصل حقاً إلى حقائق كثيرة وأستخلاصات جديدة وإماطة اللثام عن تساؤلات كثيرة وأسئلة حائرة، ربما يبدو بعضها كالألغاز.

 

1 / ظروف النشأة : ـ

 

كانت المسيحية قد انتقلت إلى أوروبا من الشرق بواسطة الدعاة الأوائل في ظروف صعبة، فالاضطهاد الديني كان يمارس بشدة وقسوة ضد المسيحيين صادراً عن اتجاهين أثنين: الأول من اليهود الذين كانوا يخشون انتشار الدين الجديد، فقاموا بتسليم السيد المسيح إلى الرومان الذين قاموا بإعدامه. والاتجاه الثاني، كان من السلطات الوثنية الرومانية.

 

وقد فر أول الدعاة إلى شبه جزيرة أبنينو (إيطاليا)، فظهرت المسيحية أولا في أواسط القرن الميلادي الأول في الولايات الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وما لبثت أن وصلت إلى اليونان في بداية القرن الثاني، ومضت تكسب عواطف الفقراء والفلاحين والفئات المحرومة لسببين: ـ

 

الأول / أن وضع هذه الفئات المتردي دفعها إلى قبول المبادئ المسيحية التي كانت تتحدث عن الإخاء والمساواة في الحياة الأخرى. 

الثاني / أن العبادات الوثنية في أوربا كانت تتطلب القرابين التي كانت مرهقة مادياَ ومعنوياَ، كما كان نظام طقوس العبادة الوثنية معقداَ، فيما بدت التعاليم المسيحية عبر الدعــاة الأوائل بسيطة في تقاليدها وطقوسها.

 

ولكن ما أن أنظم إلى المسيحية بعض وجهاء المجتمع بسبب سخطهم على السلطات لأسباب تنافسية أو شخصية، أو لعداوتهم مع السلطات لأي سبب من الأسباب، حتى أخذ تيار المسيحية بالأتساع ليشمل الفئات الميسورة أو الغنية، وقد تصادف ذلك مع مظاهر شيخوخة نظام الدولة الرومانية بسبب عجزها عن حل تناقضات كثيرة أو انحطاطها وكذلك حدوث انشقاقات عديدة في الحركة الفلسفية الرواقية، أدركت السلطات أن اعتناق المسيحية سيمنح الدولة رباطاَ جديداَ وسيكون من مصلحة الدولة حتماَ، والفئات المتسيدة فيه، ومن ثم استيعاب التعاطف الشعبي مع المسيحية، الذي أنطلق وأصبح في القرن الرابع تياراَ شعبياَ قوياَ.

 

كان إعلان المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع 325 م. فاكتسبت المسيحية بذلك قوة مهمة إلى جانبها (قوة الدولة) ولكنها من جانب آخر بانحيازها إلى الدولة والملك، كفت عن كونها أيديولوجية الفقراء والكادحين والمضطهدين، بل أصبحت جزأ من الدولة، وأصبح الدعاة المناضلون، رجال كهنوت ما لبثوا أن اتخذوا لأنفسهم هيئة مراتبية (درجات في السلك الكهنوتي)، وتربع قادة الكنيسة على قمته ومارسوا النفوذ والهيمنة، متحالفين مع الملك وأمراء الإقطاع.

 

وهكذا كانت نشأة المسيحية والدولة المسيحية في أوربا، والأمر يختلف عنه في الإسلام، مع أن كلتا الدعوتان لاقتا الاضطهاد، وكان افتتاح ذلك نضال صعب خاضه الرسول محمد (ص)

ضد أبناء قبيلته وجلدته قريش ( 612 م. ـ الإجهار بالدعوة ). وقد مر نضال الحركة الإسلامية بثلاث مراحل :

 

 آ  ـ   مرحلة دفاع استمرت من 612 م. وهو عام الهجرة حتى  622م..

ب ـ   مرحلة تعادل ابتدأت منذ الانتصار في معركة بدر 62 م، وتخللتها الكثير من المعارك والوقائع والأحداث السياسية الهامة، وانتهت هذه المرحلة سنة 630 م. وذلك بدخول الرسول(ص) مكة منتصراً على الأرستقراطية القبلية وابتدأت مرحلة التفوق.

 

كانت هذه مراحل نضال دامية تمكن الإسلام فيها من إقامة دولته الأولى 622 م. إثر الهجرة من مكة إلى المدينة التي أصبحت بؤرة الثورة وعاصمة الدولة. وكانت منطقة وسط شبه الجزيرة العربية (مثلث: مكة، يثرب "المدينة"، الطائف) ترزح تحت تخلف اجتماعي، واقتصادي، وثقافي، أكثر من أي الأمصار العربية الأخرى، لأسباب عديدة في مقدمتها العناصر الموضوعية التي تتمثل في الطبيعة الصحراوية القاسية، وندرة وسائل العيش التي لم تكن تتيح إلا قدراَ بسيطاَ من حياة وعلاقات متخلفة، بدوية متنقلة ( جنتيلية ) تهيمن فيها أرستقراطية قبلية على نظام إدارة بسيط، ولم تكن منطقة وسط شبه الجزيرة قد عهدت قيام دول ومؤسسات، إلا تلك القبلية منها وقوانين عرفية. فيما كان نظام العبادة الوثني الغيبي يقسم ولاء الناس، والمظاهر الثقافية كانت ضعيفة، والأنشطة الاقتصادية كانت تقتصر على التجارة تهيمن الأرستقراطية على مفاصلها الرئيسية، مع زراعة رقع صغيرة.

 

وانتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية لم يتم عبر تحالفات مع السلطات، وكانت الأرستقراطية التي تهيمن على إدارة المدن الرئيسية الثلاث في وسط شبه الجزيرة قد عرضت على الرسول محمد (ص) التعاون معهم وإشراكه في السلطة وفي سائر الامتيازات الأخرى، مقابل التخلي عن الدعوة للدين ومنهج التغير الذي كان يهدد مصالحهم الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكن الرسول(ص) رفض ذلك، فقد كان يريد السلطة بأكملها ووضع العقيدة ( المنهاج )

 

موضع التطبيق،  ولا بد أن التناقض كان جذرياَ فقد كان هناك عبيد من بين القيادات والزعامات الإسلامية التي لم تكن تقيم وزناَ لمكانة الفرد القبلية وانحداره الطبقي.

 

وإذ تطلعت القيادة الإسلامية ( الدولة الإسلامية ) إلى خارج منطقة البؤرة الثورية (شبه الجزيرة العربية) فأنها فعلت ذلك لسببين رئيسيين: ـ

 

الأول ـ كانت القوى التي تهيمن على هذه المراكز( العراق ـ الشام ـ مصر)، تمثل قوى أجنبية، فارسية، رومية، أرادت أن توجه ضربة إجهاضية استباقية لبؤرة الثورة التي نجحت خلال فترة وجيزة من إقامة الدولة، ثم بسطت هيمنتها على مثلث شبه الجزيرة، وما لبثت أن بسطت سيطرتها على كامل شبه الجزيرة، فقررت توجيه ضربة إلى هذه الدولة الفتية، التي رأت فيها تهديداَ لمصالحها التوسعية.

 

الثاني ـ كانت هذه القوى تمثل قوى عظمى في عصرها، وقد استولت بالقوة المسلحة على هذه الأمصار العربية ومنعتها من أن تشكل أنظمتها السياسية التي تختارها، وبدلاَ منم ذلك أقامت كيانات تابعة هي عبارة عن فقرات في نهجها التوسعي. فقد أقامت الإمبراطورية الفارسية مثل هذه الكيانات في العراق، وأقام الروم البيزنطيون كيانات مماثلة في بلاد الشام ومصر. وقد قمعت القوى العظمى هذه كافة المحاولات للتحرر من قبضتهما، وحاولت تمزيق الصلات والعلاقات الاقتصادية والثقافية بدرجة أساسية، كما كانت تعرقل الفعاليات التجارية و كانت سبباَ في التخلف الاقتصادي.

 

وعلى هذا الأساس فأن انتشار الإسلام إلى خارج شبه الجزيرة العربية كان يمثل إشعاعا تحررياً استقبلته شعوب تلك الأمصار العربية، وأبدت المساندة التأييد، فقد كان ينطوي في ثناياه وإن لم يكن ذلك قد تبلور بصورة واضحة، على أيقاظ للوعي القومي. فقد قاتل مسيحيون عرب إلى جانب الجيش العربي الإسلامي في سوريا ومصر ضد الرومان والبيزنطيون المسيحيين، كما قاتل وثنيون عرب في العراق مع الجيش العربي الإسلامي ضد الفرس الوثنيين، فالأمر إذن كان ينطوي بهذا القدر أو ذاك على بواكير الوعي القومي، والشعور بالرابطة القومية.

 

وبالفعل، فأن العامل القومي (أطلق عليه علماء السياسة العرب مصطلح العصبية) لم يبرز في أوربا المسيحية إلا بعد حركة الإصلاح الديني، اللوثرية في القرن السادس عشر أو السابع عشر، أي بعد ظهور الإسلام بعشرة قرون، ولم يحدث ذلك إلا على أيدي البورجوازية التي رأت فيه (العامل القومي) رباطاَ يحل بدلاَ من الو لاءات الطائفية التي قادت في أوروبا إلى حروب دموية، ويساعد على بلورة مقدمات لدولة حديثة على الأساس القومي كشرط ضروري، كي تواصل البورجوازية برنامجها السياسي والاقتصادي والثقافي.

 

فالإسلام أنتشر تحت شعارات التحرر الوطني والقومي في الأمصار العربية، بل وغير العربية، مثل الفرس اللذين انظموا بسرعة إلى الإسلام تخلصاَ من جور وظلم حكامهم وتناقضات متفجرة عميقة بين قياداتهم ولسماحة التشريعات الإسلامية. وكذلك فأن العرب لم ينزلوا الأندلس (أسبانيا) إلا بناء على رغبة فئات كثيرة منها: تخلصاً من صراعات داخلية بين الأمراء الأسبان والصراعات بين الكنيسة والأمراء واضطهاد الأقليات لا سيما اليهود منهم

 

2 ـ دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في التأثير على تطور الفكر السياسي:

 

من المؤكد أن الموقف الاقتصادي / الاجتماعي هو من العناصر البالغة الأهمية في التأثير على مسيرة تطور الفكر السياسي بصفة خاصة. وقد يختلف المفكرون في أولوية العامل الاقتصادي و الاجتماعي، ولكننا نعتقد ولأسباب بديهية سوف نستعرضها، أن لا مناص من الإقرار بتأثيره الكبير على تطور الفكر السياسي.

 

ويقول الأستاذ الفرنسي المعاصر بيير بورجلان Pierre Burgelin  في تقديمه لمؤلف جان جاك روسو الشهير " في العقد الاجتماعي  : " السياسة بالنسبة لنا هي فن إدارة المجتمع والمحافظة على السلم الاجتماعي فيه، وتحويل التشريع لمطابقته مع التغيرات التي يجلبها التاريخ ومراقبة مختلف فعاليات الناس بحيث تكون المؤسسات عادلة وفاعلة وضبط العلاقات بين الدولة والدول الأخرى "(1)

 

ودون ريب فأن ما يقصده الأستاذ بورجلان، في تعريفه للسياسة هو من ضمن المفاهيم السياسية للرأسمالية المعاصرة، ويقصد بالسلم الاجتماعي، هو الحفاظ على مستوى الموقف الحالي الذي تهيمن فيه الطبقة السائدة على النظام، وإبقاء التسلسل الاجتماعي وهذا الهدف، وهو تعريف صحيح تماماَ بالنسبة للفكر البورجوازي.

 

أذن والأمر كذلك، فلا بد أن الموقف الاجتماعي كان على الدوام مؤثراَ بدرجة كبيرة عند نشأة الفكر الإسلامي أو المسيحي الليبرالي، وفي التطورات اللاحقة وهذه حقيقة لا غبار عليها وهو مؤثر في كافة مراحل التطور السياسي في كلتا التجربتين.

 

ففي ظروف النشأة، وهي ظروف مهمة في تأريخ الفكر السياسي العربي الإسلامي، كان مجتمع البؤرة الثورية والذي هبت منه رياح التحول، مجتمع منطقة وسط شبه الجزيرة العربية مثل العقدة الأكثر تخلفاَ على كافة الأصعدة وخصوصاً مكة التي كانت تخلو من أي نشاط اقتصادي سوى التجارة. فقد كانت تقع على طريق مرور القوافل القادمة من اليمن والمتجهة صوب غزة على ساحل البحر المتوسط. وكان تقديم الخدمات على أصنافها العديدة إلى القوافل تمثل النشاط الرئيسي لها، ولكن ما لبثت أن تحولت الأرستقراطية القبلية إلى ممارسة التجارة وانتزاع ذلك الدور من أيدي تجار اليمن بسبب الأحداث السياسية التي سادت اليمن من تدخل وهيمنة القوى الأجنبية (حبشية وفارسية)وإطلاقهم لعواصف الإصطراع الديني والطائفي بين مسيحيين ويهود ووثنيين، الأمر الذي أحال مكة إلى مركز تجاري مهم.

 

كان الربا( الفائدة على رأس المال )الظاهرة الاقتصادية الثانية، فقد نشأت اشتدت بسبب الظاهرة الأولى(التجارة)، إذ كان كل فرد يطمح بتطوير وضعه الاقتصادي ومداخيله وتحسين مستوى معيشته، يجد في التجارة والنشاط التجاري ميداناً للمغامرة. والنشاط التجاري كان يتلخص باستلام السلع والبضائع الواردة إليهم من الهند وأفريقيا (عبر موانئ اليمن) وتسويقها إلى العراق والشام ومصر(ومن هناك ربما إلى اتجاهات أخرى) وشراء سلع من تلك الأمصار والاتجار بها في شبه الجزيرة العربية بما في ذلك اليمن، ومواصلة تصديرها إلى أفريقيا والهند. وبناء على ذلك فقد مثل الربا الظاهرة الأكثر بروزاَ في التسلط الطبقي، وهو قائم على أساس اقتراض مبالغ من المال من المرابين (العاملين بالربا) لقاء فوائد عالية تتراوح بين    40 - 100 %، تمثل فرصة الفرد في المساهمة في النشاط التجاري. لذلك كان محتماَ على الإسلام كثورة أن يتصدى لهذه الظاهرة التي كانت تلحق أوخم العواقب بالفئات الفقيرة، إذ يضطر الفرد عند عجزه تسديد القرض والفائدة إلى بيع أحد أفراد أسرته أو نفسه كعبد أو حمل امرأته أو أبنته على ممارسة البغاء، ولهذا السبب فقد أدان الإسلام الربا والمتعاملين به بشدة أكثر من عشرة مرات في القرآن.

 

وعندما تصدت أرستقراطية مكة المتمثلة بقريش للدعوة الإسلامية، اكتسبت الحركة الدينية طابعاَ ثورياَ بتصديها للفساد الاقتصادي والاجتماعي، الربا والعبودية، بمساواتها بين العبيد والأحرار. ومنع استلاب الإنسان للإنسان واضطهاده طبقياَ واجتماعيا، فقد لاقت الحركة شعبية واسعة بين الفقراء وأفراد البدو والمضطهدين ورسخت بذلك نهجها الثوري، بل أن مؤرخاَ أوروبياَ يقرر: أن جوهر الإسلام كان سياسياَ واقتصاديا أكثر مما هو دينياَ، ومستشرقاَ هولندياَ يرى أن الداعي لظهور الحركة الإسلامية كانت تتيح حياة متساوية للبشر، ولكن تطبيق مثل هذه المبادئ في تلك العصور يعد شيئاَ كبيراَ وفريداَ، فقد كانت حياة الفقراء والصعاليك في عرضة دائمة للإخطار والعذاب، فلا قانون يحميهم ولا شريعة تنقذهم من هاوية الموت الاجتماعي والرق الأبدي، وكانوا يعيشون في وديان وشعاب البلدة وأطرافها البعيدة في بيوت حقيرة وحياة ضنك وجوع مستمرة.(2)

 

وعلى هذا الأساس، مثل الفكر السياسي الإسلامي والدولة لاحقاَ، إنقاذا لهؤلاء البشر الذين جاء عنهم في القرآن (فقال الملئ الذين كفروا من قومه، ما نراك إلا بشراَ مثلنا، وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا " 27 هود ) وقد أستمر هذا الطابع هو الغالب على الحركة ولكن المتغيرات اللاحقة عندما أصبحت الدولة إمبراطورية عالمية عملاقة وأصبحت الفئات الأرستقراطية، طبقة إقطاعية تمتلك الأراضي والمزارع وقطعان الماشية. وتضاعفت مكانة وقوة ونشاط الرأسمال التجاري، وتغيرت موازين القوى الاجتماعية ومالت لصالح الفئات الثرية، وشابت الدولة الراشدية الدسائس وتخللتها الفتن وتحولت من جمهورية إلى ما يشبه النظام الملكي. ودارت عمليات التحول من نظم الأرستقراطية إلى الإقطاع والتجارة الدولية. وتحركت تناقضات سادت أرجاء الإمبراطورية، أصابت نظام الدولة بالشلل والعجز عن مواجهة المشاكل المتفاقمة، ولما سقطت الدولة العربية الإسلامية على أيدي القبائل الهمجية البربرية، كانت أولى أجنة الورش اليدوية والحرف تنهض في المدن، وكانت ستتحول إلى أجنة البورجوازية، لو قيض لها الاستمرار والتطور والنمو. ولكن تلك المنجزات التي تحققت أو تلك التي كانت على وشك التحقق، أجهضت وتوقفت عملية التطور المنشود في حدوده الدنيا.

 

كانت مسيرة التطور في أوروبا تختلف، فأن حياة البداوة لم تستمر طويلاَ بين القبائل، إذ استقرت قبائل آوروآسيوية وأخرى جاءت من شرق أوروبا استقرت حيث تتوفر المياه الوفيرة والمراعي، وأقامت دول المدن في اليونان قبل الميلاد وفي شبه جزيرة أبنينو (إيطاليا) مستفيدة ومتفاعلة مع التجارب الشرقية التي سبقتها في مسيرة الحضارة، ولم تتعرض إلا بدرجة محدودة لغزوات خارجية (الفرس والقرطاجيون)، وفي القرون الميلادية الأولى، كانت أنماط العبودية تتجه إلى التلاشي بعد أن أصبحت عائقاَ أمام تقدم وتطور علاقات إقطاعية أكثر تقدماَ، الأمر الذي حسم أيضاَ مصير دولة روما العبودية.

 

وقد شهدت القارة الأوربية في تلك القرون، أغارات من قبائل جرمانية بصفة خاصة وسلافية وغوطية وفايكنك وهون وغيرهم، وبنتائج تلك الإغارات وصراعات قبلية داخلية، سقطت الإمبراطورية الرومانية سنة 476 م وكان ذلك إيذانا بنهاية العلاقات العبودية وبدء العلاقات الإقطاعية، فيما لم تبدأ العلاقات الإقطاعية في البلاد العربية الإسلامية قيل القرن السابع أو الثامن الميلادي لا سيما في الأمصار المتخلفة ذات الطبيعة الصحراوية ولأنماط العلاقات البدوية، وبذلك فقد قطعت التطورات الاقتصادية في أوروبا أشواطاَ أسرع من تلك التي جرت في أماكن أخرى، ولكن حلول الإسلام وانتشاره السريع بصفة استثنائية (لم تستغرق الفترة بين تأسيس دولة المدينة وهيمنة العرب المسلمين على أجزاء واسعة من قارتي آسيا وأفريقيا و جزء من أوروبا سوى 13-15 سنة) قطع فيها الفكر العربي الإسلامي أشواطاَ سريعة وأكتسب نضجاَ أكثر بكثير مما توصل إليه الفكر السياسي المسيحي حتى حلول القرن السادس عشر، حيث تزامن عصر النهضة مع حركة الإصلاح الديني، الأمر الذي أعطى دفقه حيوية مهمة للفكر السياسي الأوربي الذي كان يتعثر بين المنجزات الفلسفية الإغريقية /الرومانية وبين اللاهوت المسيحي، حتى حل عصر الليبرالية، ومن ثم عصر التنوير الذي وضع هذه المنجزات في إطار فلسفي / سياسي / قانوني متماسك. ووضع أوروبا، الأقطار المتطورة منها بصفة خاصة، على طريق التحولات العميقة وفي المقدمة منها الاقتصادية / والصناعية / السياسية و الدستورية .

 

  3ـ  تأثير الدين في الفكر السياسي : ـ

 

أدركنا في كافة مراحل تطور الفكر السياسي، أن الدين مثل على الدوام عنصراً مهماَ في الحياة السياسية للمجتمعات منذ أن عرف الإنسان الاجتماع، فقد لعب دور الملاذ الروحي للإنسان لا سيما حيال القضايا التي تمثل لديه المجهول: الموت، القدر، الظواهر الخارقة، الكون، البعث.الخ ناهيك عن تفاصيل ومفردات كثيرة، كان عقل الإنسان يقف أمامها عاجزاً. ولكن هذا الجدار الحاجز كان يقل ارتفاعاَ ويقصر مدىَ كلما تقدم الإنسان في معارفه وكلما تقدمت المجتمعات وصار الإنسان سنداَ للإنسان، وتمكن من السيطرة على القوى الطبيعية وأدرك أسرارها.

 

وقد مرت المجتمعات الإنسانية في مرحلة كان المعبد فيها هو مقر الحكم، والكاهن الأعظم هو الملك بنفس الوقت، ونظريات حكم تزعم الحلول الإلهي، أي أن جزاْ من الآلهة قد حلت في الملك نتيجة اتصال بين الآلهة ووالدة الملك، التي كانت على الأرجح من العاملات في المعبد أو وفق نظرية التفويض الإلهي، أن الملك يحكم باسم الآلهة وتفويض منها.

 

وفي تاريخ العرب قبل الإسلام، لعبت الآلهة (وكان نظام العبادة عند العرب يعتمد نظام العبادة المتعدد القوى الغيبية Polodomnisim ) دور الوسيط بينهم وبين الخالق. وكانت الإلهي كثيرة العدد والوظائف، وربما كان لكل قبيلة آلهتها الخاصة بها. وكان في ذلك تشتيت للقبائل. وكانت القيادة الأرستقراطية تتخذ من الكعبة رمزاَ دينياَ ووسيلة للسيطرة السياسية، إذ كانت مستقراَ لعدد من الآلهة المهمة. وتمارس أيضاَ من خلالها نفوذاَ اقتصاديا خلال مواسم الزيارة والحج بتقديم القرابين والهدايا للأصنام والأوثان وإقامة الأسواق التجارية المهمة في المناسبات الدينية والتي قد تستغرق عدة أشهر سنوياَ ومناسبة للقاء التجار والمرابين وعقد الصفقات. فقد مثل الدين بالنسبة للأرستقراطية القبلية وسيلة للهيمنة السياسية والنفوذ الاقتصادي والسيطرة على القبائل من جهة، كما مثل من جهة أخرى غطاء للمصالح الاقتصادية والتجارية، الأمر الذي كان يضمن الزعامة والسيادة للتحالف القبلي الأرستقراطي بقيادة قريش.

 

وفور تشكيل الدولة الإسلامية مثلت الشريعة (القرآن ـ السنة = أحاديث أفعال الرسول (ص)) القانون الأساسي (الدستور)، والدليل النظري والسياسي للاجتهاد، وكان الرسول محمد (ص) حتى قبل وفاته يوصي ممثليه من ولاة المناطق بالعمل وفق نصوص الشريعة والاجتهاد والقياس عند عدم توفر النص وبالاجتهاد عند عدم وجوده.(3)

 

ولابد من الإقرار، أن الإسلام قد جاء بالكثير، وأثرى الفكر السياسي العربي بما مثل تقدماَ كبيراَ. فقد ذكرنا في مباحث الفصل الأول من الجزء الثاني الأفكار الرئيسية التي جاء بها الإسلام (ضمن الشريعة) أبرزها:

ـ الأمارة ومن مبادئها:  أداء الأمانة (سياسياَ) ـ الشورى ـ القيادة الجماعية ـ العدل  

                                        

ـ الدعوة إلى العمران ومن مبادئها:  العلم ـ المساواة ـ العمل ـ الحريات الجمعية.

ـ الأمر بالمعروف ومن مبادئه:  الصدق ـ التعاون ـ التضامن ـ الجهاد.

ـالنهي عن المنكر ومن مبادئه    :  الانتهازية ـ الفتنة ـ الخيانة ـ الرشوة ـ الربا .

ـ الاجتهاد والقياس               :  المبادئ المشتقة عنهما .

ـ مبادئ سياسية عامة            :  لا ضرر ولا ضرار ـ المحذورات تبيح المحظورات

                                       سد الذرائع ـ رفع الحرج ـ البراءة الأصلية ـ مبادئ

                                       الاقتصاد بالقوة ـ الابتعاد عن حكم الهوى. أحكام التعامل 

                                       مع العدو .

 

الإسلام لم يؤسس دولة ثيوقراطية، ولم تكن هناك مراتبية في المهام الدينية وليس هناك كهنوتية أو سلك رهبنة ولا أكريلس (قضاء ديني)، نعم، كان هناك التحام بين المهام الدينية والدنيوية(تركز ذلك في مرحلة الدولة الراشدية)، ولكن كان هناك اجتهاد وهناك تشريع جديد يساير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بصفة خاصة. والاجتهاد هو أحد الفصول الرئيسية التي جاء بها الفكر السياسي الإسلامي، مكنت الدولة العربية مواصلة العمل السياسي واتخاذ المواقف والقرارات السياسية، وبعض تلك المواقف، لم تكن تطابق أحكام الشريعة، فهناك مرونة بدرجة مقبولة، في حدود معلومة، لا تلغي شخصية السياسي المسلم المميزة ولا تجعل منه منافقاَ انتهازيا، أو متحجراَ في إطار معين لا مخرج منه. وقد تطور الاجتهاد إلى علم واسع يختص باتخاذ القرارات على كافة الأصعدة وفي مقدمتها السياسة.

 

ومن أهم المميزات السياسية التي جاء بها الإسلام، وكان ذلك أمراَ مهماَ في تلك القرون المبكرة، هو في صراعه مع قوى رجعية أرستقراطية قبلية كان نظامها السياسي يعتمد على الولاء للقبيلة والأسرة، والنظام كان عبارة عن سيادة تحالف قبائل وأسر وقوانين عرفية قبلية غير مكتوبة، فيما ركز الإسلام بصفة قاطعة على الولاء للدولة والعقيدة والدستور(الشريعة) وليس لقبيلة أو أسرة. وقد أضحت هذه المبادئ المنهل الرئيس الذي يستقي منه السياسي العربي المسلم قراراته وبذلك أثبت الفكر الإسلامي مرونته في تعامله مع الوقائع والأحداث ومع المستقبل.

 

الفكر الإسلامي لم يكن نرجسياَ، بل تعامل وتفاعل وتأثر وأثر بحضارات ومنجزات شعوب أخرى، ولم يكن فوضوياَ ولو كان كذلك لسقط في فخ التطرف. فقد آلت إلى الفشل والإخفاق والتلاشي تيارات سياسية إسلامية وغير إسلامية لمجرد أنها جنحت نحو التطرف. ولعل أبرز السمات الإيجابية، هي أن الشريعة الإسلامية لا تنطوي على نصوص تفصيلية، فعلى سبيل المثال، تنص الشريعة على وجوب اتخاذ الأمارة (وجود الدولة والحكم)، لكن دون الدخول في تفاصيل، ولو فعل ذلك لاستحال تنفيذها في كل مكان وزمان وكذلك حول مسألة الشورى، وهي فقرة مهمة في الفكر السياسي الإسلامي ولكن ليس هناك نصوص محددة حول أقامتها.ولكن مع أشارات كافية لضرورة قيامها .

 

وفرق مهم آخر، كبير ومهم بين المسيحية والإسلام. فالإسلام مثل للعرب الخروج من نفق مظلم، من الجهل إلى المعرفة، من التخلف إلى آفاق واسعة للتحضر والتطور ومن التبعية للقوى الكبرى، ليصبحوا هم بأنفسهم القوة الأعظم في العالم، ومن التجزئة إلى الوحدة وهو الشرط الأساسي والضروري لمواصلة بناء الحضارة العربية وتطور الفكر السياسي العربي بصفة خاصة.

 

وبالمقابل، فان المسيحية واجهت بناء فلسفياَ، فكرياَ وثقافياَ شامخاً في أوروبا. فالمنجزات كانت كبيرة حقاَ، تمثلت بأعمال الفلاسفة الإغريق والرومان على الأصعدة، السياسية والقانونية، ناهيك عن اتجاهات فلسفية عميقة. أما بصدد الدولة، فقد كان لتزاوج الفكر السياسي الإغريقي مع الفلسفة القانونية الرومانية ثماره ليس فقط على صعيد الفكر، بل على صعيد إقامة دول وإمبراطوريات عظمى، فقد كان هناك تجربة لإسكندر المقدوني التي امتدت من أوروبا حتى أواسط آسيا وشمال أفريقيا، وكذلك تجربة الإمبراطورية الرومانية. ومن البديهي أن فكرة الدولة كانت متطورة فيما لم تتقدم المسيحية بأي مشروع فلسفي أو فكري حول الدولة، أو حول قضايا سياسية وقانونية أخرى.

 

وليس هناك وضوح أكثر من إقرار الأستاذ الأمريكي، في مؤلفه (تطور الفكر السياسي) قوله: " بالنسبة للأفكار السياسية، فأن أفكار أباء الكنيسة كانت أغلبها هي أفكار شيشرون وسنيكا. ولتحقيق هذه الدقة في التاريخ، فأنه لا يوجد سبب لاعتبار عصر المسيحية بداية لمرحلة جديدة في الفكر السياسي، والمسيحية ذاتها وإقرارها كدين رسمي للإمبراطورية كان نتيجة للتغير الاجتماعي الفكري، الذي تفاعل لمدة طويلة، والذي أثر بدرجة تقرب من التساوي في مفكرين لم يعتنقوا الدين الجديد ".(4)

 

ثم يقول الأستاذ سباين في مكان آخر من مؤلفه الهام: " ويجدر بنا أن لا ننسى، أن هذه الإصلاحات في القانون الروماني لم تكن من نتاج المسيحية (النهوض بمستوى القانون العام إلى مستوى إنساني في احترام الفرد) بالرغم من أنها استكملت كيانها بعد العصر المسيحي، وليس هناك دلائل تبين وجود أثر للجماعات المسيحية من فقهاء التشريع في القرنين الثاني والثالث، ربما فيما بعد، في مراحل متأخرة حيث كان الهدف وضع قانون للكنيسة ورجالها وحماية مصالحها ".(5)

 

إذن فالمسيحية لم تضف شيئاَ جديداَ على الفكر والفلسفة في أوربا، لذلك نشأت مدارس تحاول أن تلائم بين الفلسفة التي كانت تمثل تياراَ قوياَ بتسيد ساحة الفكر والثقافة، مدارس مثل السكولاستية وغيرها، فيما كان الإسلام بالنسبة للبلاد العربية (موضع بحثنا)، فاتحة عهد للثقافة، وتطور الفكر السياسي بصفة خاصة.

 

قلنا أن المسيحية في باكر عهدها وجدت أمامها فلسفة إغريقية / رومانية ناضجة، ولم يكن بوسعها تجاهلها، بل هي أكثر نضجاَ بكثير من اللاهوت المسيحي الذي لم يكن ينطوي على اتجاهات فكرية وسياسية، لذلك فقد استوعبت الأفلاطونية في نظامها اللاهوتي على يد فلاسفة مثل: جيستان وتيوفيل ولوغستيان، ولكن سرعان ما نشب الصراع بين الفكر الفلسفي البحت والفكر الديني المدعم بالفلسفة المحورة (المعدلة)، وبدأت الكنيسة تتسلح بها، معدلة ومعدة لنقد ودحض اتجاهات الفلسفة المختلفة لاسيما تلك التي تقلل من أهمية الكنيسة واللاهوت. بيد إننا نجد أن هذا الصراع سيأخذ أشكالاَ هامة ومتطوراَ في المناخ الثقافي الإسلامي، وان الدين الإسلامي لم يظهر كاستمرار لفلسفة ما، فقد كان هناك انقطاعا طويلاً بسبب الهيمنة الأجنبية بين آخر كيان شرقي / عربي في المنطقة (سواء في اليمن ـ العراق ـ الشام ـ مصر) من تطور الفكر السياسي والفلسفي بصفة عامة، ثم كانت الصلات خفيفة أو نادرة بين الفلسفة العربية والهندية أو الإغريقية، بل أن الفكر الإسلامي جاء متناقضاَ بصورة تامة مع الفكر السائد في شبه الجزيرة العربية (نظم العبادة الوثنية المتعددة).

 

كان الفكر الإسلامي في موقفه من التاريخ وقضاياه المهمة استكمالياَ Melioriste أي أن العالم الراهن هو خير عالم مع إمكان صيرورته خيراَ مما هو بفضل ما يبذله الإنسان من جهود. (6)وهذا بحد ذاته هو موقف تقدمي (بالنسبة لما قبله)، لذلك جاء الفكر الإسلامي متناقضاَ مع الفكر الذي كان سائداَ في شبه الجزيرة العربية ( نظم العبادة الوثنية المتعددة) ومع معظم التقاليد الاجتماعية. فالإسلام ألغى معظمها، وأبقى على بعض التقاليد العربية. وكان ذلك مهماَ لأجل أن يدرك الفرد العربي خاصة والمسلم عامة، أن الدين يحترم كيانات المجتمعات ووجودها في احترام بعض التقاليد الاجتماعية. ولما كان لابد للمسلمين من فهم تعاليم دينهم الدينية والدنيوية والغوص في معانيه والعمل حسب قوانينه، فقد تكون فكر فقهي مستقل عن التأثيرات الفلسفية وغيرها، كما تكون فكر تاريخي عربي بحت لم يتأثر إلا قليلاَ بعوامل خارجية عن المناخ الثقافي العربي، وما لبث أن أتسع الفكر العربي ليأخذ في عصور ازدهاره (القرن الثامن الميلادي فصاعداَ)، أبعاداَ جديدة راقية في الفكر السياسي والاقتصادي.(7)

 

وإذا كان أول كتاب يضم بعض من مبادئ الفكر السياسي قد ظهر في أوروبا على يد جون سالسبري كان في عام 1159 م. وكان العرب المسلمون قد أنجزوا حتى ذلك الوقت المئات من الأعمال السياسية والاقتصادية، بعضها يمثل إنجازا كبيراَ في دنيا الفكر مثل: كتاب الخراج للقاضي أبو يوسف الذي ظهر في أواسط القرن الثامن الميلادي وكتب الماوردي، منها عمله الهام (الأحكام السلطانية)، القرن العاشر الميلادي، على أن الفكر الفكر السياسي الأوربي لم ينتج كتاباَ يستحق أن يعتبر سياسياً إلا على يد ميكافيلي في القرن السادس عشر وقوبل بالإدانة والمنع من قبل الكنيسة. ولم نجد مؤلفاَ يستحق الاهتمام فعلاَ، إلا مؤلف مونتسيكيو(روح القوانين 1734 )، ولم نشاهد بعده كتباَ سياسية مهمة، إلا في أواسط المرحلة الليبرالية، وحتى عصر التنوير، القرن الثامن عشر فما فوق، كتابات تفوق كتابات علماء السياسة العرب المسلمين التي كانت قد صدرت حتى ذلك الوقت، على أن هناك أعمالاَ رائعة حقاَ في الأدب والسياسة والتاريخ مثل: الخراج لأبي يوسف، الأحكام السلطانية للماوردي، المقدمة لأبن خلدون، أراء في المدينة الفاضلة للفارابي، سلوك المالك في تدبير الممالك لأبن أبي الربيع، السياسة الشرعية لأبن تيميه، بدائع السلك في طبائع الملك لأبن الأزرق، وغيرهم كثير.

 

ثم أن هناك ملاحظة أخرى تستحق التمعن فعلاَ: أن اليهودية قد حلت أولاَ في المشرق العربي، ولكن ألا يستحق التساؤل لماذا لم تتمكن أن تكون تياراَ نافذاَ، نعم كان هناك بعض التجمعات وأماكن العبادة قامت بأدوار ثقافية معينه، ولكن إشعاعها الفكري كان ضعيفاَ وظل محدوداَ في أضيق الدوائر، في كافة المجتمعات العربية، المتقدمة منها (الشام والعراق) أو المتخلفة منها (وسط شبه الجزيرة العربية) ولعل أبرز الأسباب في ذلك، أن اليهودية لجأت إلى تمزيق ولاءات الناس وإقامة كيانات وطقوس غريبة، وكان الأحبار يستعلون على بسطاء الناس ويمارسون التفوق عليهم، بفعل عقدة اضطهاد لم يتمكنوا التخلص منها حتى اليوم، كما أنهم تعاملوا في الوسط السياسي بانتهازية، وتعاونهم مع قوى أجنبية مثل: الفرس والأحباش في اليمن ودخلوا ميدان السياسة ليس كطرف وطني مدافعين عن المصالح الوطنية. وكان الرومان المسيحيون، ليظهرون الاحترام للمشاعر الدينية للمسيحيين العرب في العراق والشام ومصر، لذلك فقد قاتل مسيحيون عرب إلى جانب الجيوش العربية الإسلامية في كل مكان بشكل ظاهر وجماعي.

 

ولكن الدين والشريعة والعناوين المتفرعة عنها، لم تفقد أهميتها في الفكر السياسي العربي الإسلامي، بل مثلت المحور الذي دارت حوله الأفكار والاتجاهات اليسارية واليمينية على حد السواء، فكل الأطراف اعتمدت بسبب المرونة الفائقة في تأويل أهدافها، بناء على مفردات الشريعة، حتى تلك الحركات والانتفاضات التي كانت في جوهرها وأهدافها سياسية، إلا أنها ارتدت طابعاَ دينياَ بهذا القدر أو ذاك من التزمت أو المرونة من أجل كسب الجماهير وتعبئتها فحركات مثل الخوارج والمعتزلة وحتى المرجئة هي حركات يسارية، وانتفاضات وثورات مثل: الزنج والقرامطة، كانت اجتماعية الأهداف، إلا أنها اعتمدت تفاسير وتآويل من الشريعة وبسبب أن الدين كان يمثل قوة معنوية وسياسية هائلة يصعب تجاوزها، لا سيما عند السواد الأعظم، وقد أدى تفاعل هذه الأهداف بحيوية ونشاط إلى نضوج الفكر السياسي وكانت كل جهة تحاول أن تضعه في موقع يتلاءم مع الدين، أو أن لا يقف منه موقف العداء ولا نطلق على مثل هذه الاتجاهات سكولاستية، لأن السكولاستية كانت تحاول أن تلائم المسيحية مع الفلسفة الإغريقية / الرومانية، ليس مع أحداث العصر والتعامل مع أزماته.

 

أما في المسيحية، فقد كان الأمر يدور بطريقة متشابه ومختلفة، متشابهة بحكم أهمية الدين و الكنيسة في الحياة السياسية والاجتماعية، ومختلفة في التفاصيل والمفردات، فاللاهوت المسيحي ينص على أن الكنيسة تختص بالشؤون الدينية، والملوك والقياصرة بالشؤون الدنيوية، ولكن وضع الحدود بين السلطتين كان أمراَ عسيراَ حقا، والسلطة السياسية الحاكمة كانت تمثل الملك كسلطة دنيوية تمتلك قوة التنفيذ مدعومة بنظرية الحق الإلهي، والكنيسة كسلطة روحية تبارك وتمنح الشرعية، وأمراء الإقطاع والنبلاء بوصفهم سادة المجتمع والمهيمنين على الفعاليات الاقتصادية. وقد استمرت هذه المعادلة قائمة حتى عصر النهضة الذي كانت حركة الإصلاح الديني اللوثرية/الكالفينية من أبرز أسبابه وملامحهَ.

 

ولكن قبل ذلك لابد من أيضاَ من التشخيص بدقة، أن دور الكنيسة وهيمنتها الفكرية أولاَ، ومن ثم السياسية، كانت قد بدأت بالانحسار التدريجي منذ القرن الحادي عشر، بسبب نشاط الفلاسفة والمفكرين الأوربيين الذين كانت الأفلاطونية الأرسطوطاليسية ما تزال مؤثرة وقوية وقد ضاعف في تأثيرها، الأعمال الفلسفية العربية، لاسيما أعمال أبن رشد، الأمر الذي أضطر الكنيسة لمسايرة هذا الموقف المضطرب، بقيام رجال الدين من الاكليرس، بتطويع وتحوير الفلسفة الإغريقية /الرومانية/الرشدية العربية، بما لا يخرج عن اللاهوت. وأبرز من قام بهذه المهمة هو رجل الدين توما الاكويني122ـ1274، ولكن مهمة الاكوينيين الذين أطلق عليهم التيار السكولاستي Scholastism، (المدرسية) أخفقت أمام جسامة التطورات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية التي سادت القرن الخامس عشر والسادس عشر، حتى كانت الحركة اللوثرية تعبيراَ دقيقاَ عن رضوخ الكنيسة لمتطلبات العصر وقبل كل شيء، للتحولات الاجتماعية والفكرية والثقافية، فقد كانت حركة الإصلاح الديني بمثابة إعلان لإطلاق التيار الديني الليبرالي التحرري.

 

والحركة الفكرية والفلسفية والفنية، بالإضافة إلى حركة الاكتشافات العلمية والجغرافية والاختراعات، أدت إلى تدوير حركة اجتماعية واسعة النطاق في المجتمع كما أدت إلى بلورة مواقف اجتماعية / طبقية جديدة، وبروز فعاليات اقتصادية / تجارية (مانفكتورات)، أدت بدورها إلى تراجع لدور الكنيسة في الحياة السياسية، ثم أعقبه مباشرة بروز دور البورجوازية التجارية / الصناعية، الأمر الذي قاد إلى تراجع دور الإقطاع، ليطرأ تحول مهم في الائتلاف القيادي ليصبح متمثلاَ بالملك والبورجوازية. وإذا كان قد بقي ثمة دور للكنيسة والقطاع، فليس أكثر من هامش بسيط، سوف يتلاشى ابتداء من عصر التنوير الذي كانت الثورة البورجوازية أبرز ظواهره بالإضافة إلى الثورة الصناعية.

 

وبالمقابل، فأن السلطات الدينية استمرت حليفاَ للسلطة الدنيوية، وبناء على ذلك، فأن الفكر السياسي كان لا يخرج عن إطار الدين وحتى العلماء المتنورين الذين كانوا يرفضون دور الكنيسة السياسي، كانوا لا يجهرون بالإلحاد أو أبعاد الكنيسة نهائياَ عن الحياة الاجتماعية، ولم يحدث ذلك إلا في المراحل أكثر نضجاَ وثورية من الثورة البورجوازية الفرنسية، أما تلك المحاولات التي ابتدأت في القرن الحادي عشر فصاعداَ، والتي أطلق عليها السكولاستية، فقد توارت نهائياَ، وبدا عسيراَ عليها الإجابة على تساؤلات القرن الثامن عشر، على ضوء الاختراعات والاكتشافات الجديدة.

 

وكان الفكر السياسي العربي الإسلامي قد خطا بدوره خطوات مهمة، باتجاه قبول تصاعد دور الدولة والمؤسسات التنفيذية والقضائية وتقليص هيمنة الخلافة، وقبول فكرة انفصال تام أو جزئي بين السلطتين الدينية والدنيوية، حدث ذلك عندما برزت قوى اجتماعية / إقطاعية وسياسية تمثل مراكز قوى تكونت في أرجاء الإمبراطورية العباسية، فنشأت مراكز خلافة في الأندلس وفي مصر الفاطمية، والإمام الزيدي في اليمن والإمام الخارجي في عمان والإمارة الحمدانية في الموصل وحلب، وعدد كبير من الكيانات هي في الواقع عبارة عن مركز نفوذ تمثل نفوذ قبيلة أو تحالف قبلي، كانت تدير نفسها بما يشبه الاستقلال، بالإضافة إلى الخليفة الشرعي في بغداد وقد أضحت مؤسسة الخلافة شكلية ليس إلا.

 

في مقر الخلافة، وعاصمتها بغداد، هيمنت قوى عسكرية / سياسية فظهر منصب أمير الأمراء أولاَ، ثم السلطان وكان يلي الخليفة في بروتوكول الدولة ويسبق منصب رئيس الوزراء وفي الواقع لم يعد للخليفة سوى الواجبات الدينية، فنرى أن المفكرين والفلاسفة العرب المسلمين تعاملوا مع هذه الظاهرة ووضعوا لها الإطارات القانونية. فقد كتب في هذه الموضوعات المهمة مفكرون مثل الماوردي وأبن تيميه، فتحدثوا عن وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، وعن منصب السلطان وأمير الأمراء، ولا يهمنا هنا كثيراً معرفة بأي وجه كان المفكرون مضطرون لقبول هذه الظاهرة أو تلك، بقدر اهتمامنا أن الفكر السياسي العربي / الإسلامي تعامل مع الواقع الموضوعي بمرونة وتطور بما يلائم حاجات السياسة واحتمالاتها، وإن لم يتوصل إلى إقرار لآليات انتقال السلطة، ولكن للآسف أصيب الفكر العربي الإسلامي بانتكاسة خطيرة إذ أطفأت تلك الشعلة الوهاجة بسقوط الدولة العباسية وعموم المشرق بيد قوى همجية في وقت كان الفكر والعلم يخطو خطواته الحاسمة المهمة، ولربما كان فيها المفكر العربي، مع تسارع تنامي أجنة الأنشطة البورجوازية في القرن الثالث عشر الميلادي. ولعل توقف حركة الفكر في ظل الاحتلال الأجنبي يشير بجلاء إلى حقيقة أخيرة تستحق أن نشير إليها، هي أن الفكر لا ينمو ولا يترعرع إلا في ظل الحرية، وليس الحرية الشخصية، بل حرية الأوطان.

 

4 ـ تطور فكرة الدولة : ـ

 

خضعت تطور فكرة الدولة في كلتا التجربتين، الشرقية / الإغريقية والإسلامية / المسيحية لعناصر متشابه إلى حد كبير والتفاوت حاصل في المفردات بحكم تفاوت الظروف الذاتية والموضوعية وظروف الزمان والمكان ولكن جوهر الأمر متشابه كما هو الحال في البواعث المتشابهة.

 

فكما أن تطور الإنسان حتمت عليه الاجتماع، فأن الاجتماع أفضى بدوره إلى مجموعة من النتائج منها، أول تقسيم للعمل، ثم ضرورة الحكومة والدولة التي تقود الفعاليات وتسيطر على الأنشطة الدائرة. فمجالس إدارة القبائل كانت الأنماط الأولى للإدارة حيث كان يشترط جملة من الصفات القيادية منها: سعة التجربة وعادات العمل والمهارة في الصيد والبسالة الحربية والحكمة، ولم تكن السلطة وراثية، كما لم يكن الزعيم يتميز بشيء عن سائر أفراد القبيلة أو التحالف القبلي.

 

ولكن مع ظهور الأديان 50- 40 ألف سنة قبل الميلاد، والتي عبرت عن ضرورتها للإنسان، تبرر عجزه عن فهم الظواهر والأسرار الطبيعية، بالإضافة إلى إيمان الإنسان بالسحر والخوارق، طرأ جديد على نمط تفكير الإنسان وسلوكه، وأصبح الدين الذي كان فد غدت له مؤسساته (معابد رئيسية وفرعيه ـ كهنة ـ حاشية ـ وخدم المعبد ـ أراضي وإقطاعات ـ وكلاء للكهنة بين الناس ـ تقاليد ـ طقوس ـ تقاليد..الخ)، وأصبح عنصراَ مهماَ في حياة الناس، وقد وجدت هذه الأهمية تجسيدها في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.

 

وفي مرحلة لاحقة للأديان، عندما توصلت البشرية إلى مرحلة علاقات الإنتاج العبودية وهي مرحلة أكثر تقدماَ من النظام المشاعي البدائي فقد أفضى نمو الإنتاج الزراعي واشتداد عملية تقسيم العمل في الزراعة إلى تفاقم الحاجة إلى العبيد، وبالتالي لم يكن بوسع مالكي العبيد، إخضاع العبيد والمشاعيين البسطاء إلا بوجود جهاز يمثل القوة وجهاز للعنف والقسر، وقد تكون هذا الجهاز تدريجياَ بشكل دولة وكان شن الحروب من أجل المزيد من العبيد والاستيلاء على الأراضي والثروات، بالإضافة إلى مهامها الداخلية من أبرز واجبات الدولة.(8)

 

وإذا كان الحاكم (الملك) قد مثل القائد للتحالف القبلي الأقوى فان المعبد والكهنة مثلوا القوة الروحية التي كانت السلطة بحاجة لها من أجل إسباغ شرعية السلطة وإجراءاتها، لذلك فأن المعبد كان يدير الفعاليات الحكومية. ولكن ما لبث أن أنفصل القصر عن المعبد كدلالة على اتساع عمل الدولة ومهامها. بيد أن التحالف أستمر وثيقاَ بين القصر والمعبد وليس نادراَ ما كان الملك بنفسه هو الكاهن الأعظم من أجل الحصول على مزيد من السلطة والشرعية معاّ لمنصبه. فالحاجة هي إذن متبادلة بين القصر الذي هو بحاجة إلى نظرية أخلاقية إضافة إلى القوة. والمعبد يكتسب نفوذ وقوة الدولة في إرهاب الرعية وفي ضمان الامتيازات الاقتصادية حيث امتازت المؤسسة الدينية بوصفها المالك الأعظم للأراضي أو أفضلها خصوبة وريعاَ (العوائد ).

 

أردنا بهذه المقدمة الوجيزة، استعراض التأثيرات والمنفعة المتبادلة بين الدولة والمعبد، ومن خلال هذا التحالف الوثيق، نشأت نظرية الحلول الإلهي، أي حلول جزء من الآلهة في الملك، ومن ثم تطورت بنتيجة وعي الناس إلى نظرية ما زالت قائمة حتى اليوم في بعض الدول، وهي نظرية الحق أو التفويض الإلهي، أي أن الحاكم مخول باسم الآلهة أو الله. وقد أطلق على الملوك أحياناَ: ظل الله في الأرض. 

 

وبعد نهاية الدولة المستقلة في الشرق، نهاية الدولة البابلية الثانية والآشورية ( حوالي 500 ق.م )توقف تطور نظريات الدولة والحكم بسبب هيمنة الإرادة الأجنبية على البلاد العربية (المشرق العربي بصفة خاصة) وما شهدته المنطقة من أنظمة سياسية كانت عبارة عن دول صغيرة (نسبياَ) وفي معظم الأحوال، مثلت إرادة القوى tالعظمى في تلك الأزمنة (الفرس ـ دول الديادوشين Diadochen: بطليموس في مصر وسلوقس في المشرق. ـ الرومان ) فأقامت أنماطاَ من الأنظمة: دول تحت الحماية Protektora، أو دولاَ تابعة Vasall state، أو دولاَ حاجز (وساده) Buffer state، فيما بينها لتكون أدوات في سياستها ولبسط الهيمنة والنفوذ، في توظيف قوى محلية لخدمة مصالحها وسياستها. وفي هذا الإطار مثلت دول تدمر ـ البتراء ـ الحضر ـ دولة الغساسنة ـ دولة المناذرة، وغيرها من الإمارات الصغيرة وقد مثلت نقاط عزل أو توازن بين القوى العظمى التي كانت تقف بقوة ضد طموحات قادة هذه الدول في التحرر والتوحد وممارسة تطور الدولة والفكر، كنظرية وممارسة، كما حدث مع دولة تدمر وملكها أذينة وزوجته الملكة زنوبيا من بعده.

 

بيد أن الإسلام أتاح هذه الفرصة للتطور النظري والعملي. فإلى جانب كونه دعوة دينية، كانت تنطوي على معاني سياسية واجتماعية، تحرر اجتماعي من الداخل وتحرر من القوى الأجنبية من الخارج. أما على صعيد الدولة، فأن فاتحة عمل الدولة الإسلامية كان صياغة دستور، سمي بميثاق المدينة(الصحيفة)، وكان دستوراً وضعياَ ينص على حقوق وواجبات الدولة والتزاماتها وكذلك حقوق البشر كأفراد مجاميع (قبائل) أو كطوائف دينية، وقد ضمن حرية التفكير الاعتقاد والعمل. وكان ذلك فور تأسيس الدولة في الطائف (المدينة) وكان ذلك في: 20 أيلول 622 م .

 

ولكن تلك المرحلة انقضت بعد أحد عشر عاماَ بوفاة الرسول(ص) الذي كان فيها القائد الديني والدنيوي، وكان على الدولة والحركة الإسلامية أن تختار من يخلفه، فاختارت القيادات والزعامات الإسلامية نظام انتخاب خليفة تتم مبايعته، فالبيعة هي قانوناَ تكريس أو تأكيد اختيار أو ترشيح أو تزكية. ولكن هذا المبدأ لم يكن محدد بدقة بسبب خلو الشريعة من مبادئ انتقال السلطة، فقد أختار الخليفة الأول (أبو بكر الصديق) قبل وفاته من يحل في موقعه بعد وفلته، ولكن البيعة كانت ضرورية في كافة الأحوال، وأختار الخليفة الثاني أسلوباَ جديداَ إذ عهد إلى ستة رجال ينتخبون أحدهم في نظام يضمن سلامة انتقال السلطة بأقل قدر من أسباب الخلاف والشقاق، ولكن مع ضرورة البيعة، فالترشيح هو ترشيح الحركة الإسلامية، والبيعة هي قبول تزكية الترشيح من قبل ممثلي الشعب.

 

والدولة الراشدية التي استمرت ثلاثون عاماَ تقريباَ، انتهت باغتيال الخليفة الرابع عام 6 61 م وكانت الدولة الراشدية قد أدت مهمتها التاريخية، ولكن التطورات الاقتصادية / الاجتماعية بالدرجة الأولى فرضت من خلال تبلورات جديدة، على هذه الأصعدة، لم تكن موجودة من قبل في عاصمة الخلافة، وفي الأمصار، علاقات جديدة قادت إلى تناقضات وصراعات لم تستطع دولة الخلافة من حلها واستيعابها في نظام علاقات يضع آليات مبتكرة لحل الأزمات والتيارات السياسية التي نهضت في أواخر العهد الراشدي، كانت تشد صوب ثلاث اتجاهات:

 

الأول ـ اتجاه الدولة: ويمثله الخليفة الراشدي الرابع (علي بن أبي طالب)، وهو اتجاه لا يخرج عن إطار الدولة وتوجهاتها الداخلية والخارجية.

الثاني ـ المعارضة المكية: وهي معارضة تمثلت باثنين من أصل ثلاثة من جماعة  

الشورى(بما في ذلك الخليفة نفسه)وهو اتجاه يهدف إلى أحياء التقاليد الأرستقراطية.

الثالث ـ المعارضة الشامية/ المصرية وقد تمثلت بحاكم الشام معاوية بن أبي سفيان وحاكم مصر عمرو بن العاص وهو اتجاه ديني/دنيوي يمثل التبلورات     الاجتماعية/ الطبقية الجديدة المتمثلة ببروز الإقطاع.

 

وبعد صراعات وحروب وفتن ودسائس، تغلب اتجاه المعارضة الشامية، وهو توجه يهدف إلى إعطاء الدولة أبعاداً جديدة بناء على التطورات الاجتماعية والسياسية، وبنتيجتها تأسست الدولة الأموية والتي أحتفظ الحاكم فيها بلقب خليفة، إلا أن ذاك كان شكلياَ وكذلك كانت البيعة، وأصبح الحكم أقرب فيه للنظام الملكي منه إلى النظام الشوروي الراشدي الذي كان أقرب إلى النظام الجمهوري وفق المفاهيم المعاصرة)، والحكومة فيه مركزية، تدير الولايات إدارة مباشرة من العاصمة.

 

ويمكننا القول، أن ظروف تطور فكرة الدولة كانت مترافقة بمؤشرات ثلاثة: ـ

 

آ ـ التوسع في الأرض لاسيما في أواسط آسيا، بعد أن وجدت الدولة هناك مجتمعات ذات هياكل سياسية واجتماعية هشة شبه بدوية ضمن موزائيك من الأعراق والطوائف وبتفوق عربي إسلامي واندفاعا من تلك شعوب تلك المناطق لتقبل الدين الجديد على أمل أن يحررهم من قيود العلاقات شبه العبودية.

ب ـ كانت عمليات التبلور الاجتماعي الطبقي، تدور ببطيء نسبياَ بسبب أتساع مسلحة الدولة وتدخل عناصر عديدة إلى صورة الموقف، أبرزها موقف الموالي (وهم المسلمون غير العرب) وكان التطور الفكري/الثقافي، لاسيما على الصعيد الفكر السياسي وتطور الدولة يدور تحت شروط معقدة، فالدولة كانت تواجه مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية تستدعي أيحاد حلول لها، فمن جهة تمثلت التحديات الخارجية بأعداء الدولة التقليديين، الإمبراطورية البيزنطية، وكان لابد من فعل الكثير لكي تكتسب الدولة ومؤسساتها صفة الاستقرار. وقد جرى تثبيت الدواوين (الوزارات) وكذلك إصدار عملة عربية وتعريب العمل في الدواوين، وسن قوانين وأنظمة لا سيما على صعيد الضرائب وغيرها.

 

وبهذا المعنى، فالتجربة العربية الإسلامية كانت تخوض على صعيد الدولة فكراَ ومؤسسات معركتها معتمدة على تجربتها الذاتية، وكان عليها أن تقدم الحلول الناجعة لمشكلات لا قبل لها بها، ولا بد أن تكون هذه الحلول غير بعيدة عن الشريعة وأحكامها، وهكذا نشأت الحاجة إلى تطور فكر الشريعة.

 

كانت التجارب والفكر الروماني والبيزنطي والفارسي، تمثل المصادر الرئيسية المتاحة بالإضافة إلى ما هو متراكم في الفكر والتراث العربي والتجارب الذاتية، وهي أيضاَ مصادر ثرية. ولكن لم يكن بوسع الدولة العربية الاقتباس عشوائياَ، فتلك التجارب لم تكن ناجحة في مطلق الأحوال، بدليل أنها أخفقت في إدارة الأمصار العربية، وعملية الاختيار والاقتباس من تلك التجارب لم تكن أمراَ بسيطاَ، ولكن الأساس الجوهري كان: أن الدولة كانت تختط أسلوب وفكر دولة يتلاءم مع الشريعة أولاَ، ثم مع ذهنيتهم ومزاجهم وتقاليدهم.

 

فيما كانت مهمة اللاهوت المسيحي أسهل بكثير، حيث لم يكن ينطوي على أفكار سياسية ولا مبادئ حكم، وكانت قضية الدولة متطورة فكراَ وممارسة، وكانت فكرة الدولة قد جرت مناقشتها بتردد لدى أفلاطون ولكن بعمق أكبر عند أرسطو، وقد انحاز لفكرة الدولة الدستورية وتلك خطوة متقدمة، والدولة عند أرسطو قانونية دستورية والحاكم مقيد بالقانون وإن كان حكيماَ فيلسوفاَ.

 

ولكن الأنظمة الأوربية، حتى ما بعد اتخاذها المسيحية ديانة رسمية، لم تكن لتعتمد دوماً على أفكار الفلاسفة. فالكثير منها ظلت أفكار مثالية، ولكن المدارس الفلسفية الأخرى كالرواقية مثلاَ، لعبت دوراَ مهماَ وكذلك رجال سياسة وقانون، أدواراَ مهمة في تطوير فكرة الدولة. وعندما حلت المسيحية في أوربا منذ القرن الرابع انتشرت وأصبح للكنيسة كيان مستقل عام 756 م (الفاتيكان) ابتدأت تمارس نفوذاَ في الحكم، إذ كانت المسيحية قد أحرزت مكانة شعبية،  وسلطة الدولة كانت بحاجة لها. وإن فكرة الحق والتفويض الإلهي هي قديمة منذ العصور الوثنية، فالسلطة دوماَ بحاجة إلى قوة روحية، والسيطرة على الجماهير تستدعي قوة، عدا حراب السلطة.

 

ويقول أيتان دي لابواسي في القرن السادس عشر " كيف يمكن لهذا الجمع من الناس والمدن والأوطان أن تتحمل كل شيء من طاغية لا حول له إلا ما يقدمه الناس إليه، فليس له أي سلطة حتى يلحق الضرر بهم، إلا إذا أراد الناس لأن يتحملوا ذلك منه، أو أن يسيئ إليهم إلا إذا حبذوا ذلك منه ولم يعارضوه. أنه فعلاَ لشيء مدهش أن نرى ملايين من الناس مكبلين خاضعين مطأطئين الرأس لعبودية محزنة، لا لأنهم قد أجبروا على ذلك، بل لأنهم كانوا مفتونين بأسم واحد أحد " .(9)

 

ومنذ القرن الحادي عشر ابتدأت مكانة الكنيسة بالانحسار، أولاَ بسبب فشل وعقم محاولاتها بالتلاؤم مع الفلسفة، وبالذات في القرن الحادي عشر ابتدأت الأفكار السولاستية في البروز، وهي محاول تجميل فلسفية للاهوت المسيحي. ورغم أن هذه المحاولات لاقت في البدء بعض التقدم على يد مؤسسيها الأوائل ثم أكثر من ذلك في عهد رجل الدين /الفيلسوف توما الأكويني،إلا أنها لم تصادف النجاح التام بسبب التطور السريع للأفكار الفلسفية، ولم يكن بوسع اللاهوت اللحاق بها. ومن جهة أخرى، كان التقدم على جبهة العلوم والثقافة والفنون عاملاَ حاسماَ آخر ساهم في إفلاس السكولاستية نهائياَ على أعتاب القرن الخامس عشر، فيما أوغلت الكنيسة الكاثوليكية في رجعيتها الدينية (قضية صكوك الغفران ـ عصمة البابا) واجتماعيا وسياسياَ بتحالفها الوثيق مع الرجعية الإقطاعية والقياصرة والطغاة. تلك كانت تناقضات لم تعد سكولاستية جديدة قادرة على حل إشكالياتها، فجاءت حركة الإصلاح الديني اللوثرية بأفكارها المثيرة، تلبية لضرورات اجتماعية / اقتصادية بالدرجة الأولى. فقد انطوت أفكار لوثر على ليبرالية واضحة، وجدت فيها البورجوازية ضالتها.

 

ثم أن التبلورات الجديدة قادت إلى موقف تحالف قيادي جديد في الدولة والمجتمع، فالمشروع البورجوازي للدولة وتصورها كان يتسم، بل يعتمد على الاستقرار ومتانة الموقف الداخلي لذلك كان الاعتماد على أجهزة الجيش والشرطة والقضاء كبيراَ لتحقيق ذلك الاستقرار. والتحالف الاجتماعي الجديد ضعف فيه نفوذ الإقطاع إلى أقصى حد، فيما تقدمت البورجوازية التي كان نفوذها قد بدأ يتسلل إلى كافة مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية و الفنية وكان لابد من تجسيد هذا النفوذ عبر وجود قوى في الدولة، بل أن وجود الدولة وفق المشروع البورجوازي ستصبح تدريجياَ أداة بيد البورجوازية ليس إلا. وبهذا سوف يتحقق القانون: أن الدولة هي عبارة عن أداة الطبقة المسيطرة وأنها تستخدم قدرات الدولة لتحقيق هيمنتها، وقد كان الأمر كذلك يوم كانت الأرستقراطية القبلية بالتحالف مع المعبد (الكنيسة) ومع الملوك، يمثلون قمة الهرم القيادي، وفيما بعد أزاح الإقطاع الأرستقراطية القبلية، وأخذ النبلاء وأمراء الإقطاع مكانهم، وها هي البورجوازية قد حلت كقوة اقتصادية واجتماعية كبرى في المجتمع، فلا بد أن تأخذ موقعها، وقد ساعد على تحقيق هذا الهدف، أن البورجوازية (بسبب كونها أكثر رقيا وتحضراَ) وخلافاَ للأرستقراطية والإقطاع، كان لها مفكريها وفنانيها، شعراء وأدباء، نحاتين ورسامين وفلاسفة وموسيقيين، أبدعوا وتمكنوا من المساهمة في إتمام سيطرتهم وهيمنتهم.

 

أذن كانت فكرة الدولة عبر مراحل التاريخ تتطور أساساَ بناء على أمر جوهري وهو: التحولات والتطورات في الموقف الاقتصادي /الاجتماعي بالإضافة إلى عوامل أخرى هي في الحقيقة ناتج جانبي لهذه العملية، التي على هدى تسارعها وشدة وضوح التبلور الطبقي، كان الموقف السياسي على تلك الدرجة من الوضوح، فانتقلت فكرة الدولة من دولة المعبد إلى الملكية المطلقة، الملكية المتحالفة مع المعبد والأرستقراطية، إلى تحالف الدولة مع المعبد والإقطاع. وها هو الموقف التحالفي الجديد: الدولة (الملك) متحالفاَ مع البورجوازية. 

 

أما في العالم العربي فقد توقفت هذه العملية التاريخية ذات المحتوى السياسي /الاقتصادي / الاجتماعي / الفلسفي، بسبب وقوع الأقطار العربية تحت الهيمنة الأجنبية، وتحالف الإقطاع وفئات طفيلية مع السلطات الأجنبي المحتلة. ولم تصدر أي محاولات فكرية، فلسفية جديدة إلا مع بدايات عصر النهضة العربية، وفجر استقلال البلاد العربية فبرزت أفكار جديدة تبحث في العلاقة بين الدولة والدين وتطور فكرة الدولة. ومن أبرز علماء تلك المرحلة: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، علي عبد الرازق، وآخرون.

 

استمرت البورجوازية في أوروبا تحقق المزيد من المكاسب وتحقيق طفرة مهمة بتلاحم البورجوازية التجارية مع البورجوازية الصناعية الوليدة التي تمكنت من تطوير(المانفكتورات) الورش اليدوية إلى صناعات يدوية، وبذلك خطت الدولة إلى فكرة الدولة الدستورية الملكية، و الأنظمة الجمهورية.

 

 5ـ المؤثرات الثقافية : ـ

 

ساهمت المؤثرات الثقافية بكل فروعها الفلسفية ـ العلمية ـ الآداب ـ الفنون، على مسيرة تطور الفكر السياسي في كلتا التجربتين. ولكن بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. فالثقافة عامل مهم في رفع مستوى الوعي الإنساني، ولتفهم الظروف المحيطة به ولطبيعة الأنظمة والعلاقات.

 

 ويهتم البحث بالإجابة على التساؤل التالي:- هل تأثرت التجربتان بمؤثرات ثقافية على تطور الفكر السياسي ؟ وبأي مقدار ؟ وهل هناك اختلاف بين التجربتين ؟ .

 

ولابد لنا بادئ ذي بدئ أن نقول، أن الفلسفة في كلتا التجربتين تختلفان وتتناقضان مع الدين في مسألتين هامتين: ـ

 

الأولى: أن الفلسفة تدعي أن لا شيء خلق من لا شيء. والدين يؤكد (الإسلام والمسيحية) أن الله خلق الكون من لا شيء.

الثانية: أن الفلسفة تقول أن ليس هناك شيء مطلق خارج المناقشة والبحث، والدين يؤكد أن الخالق هو خارج المناقشة.

 

ولكن هذه الملاحظات عوملت بمرونة وبشدة في أحيان أخرى.

 

والفرق يكمن في: أن اللاهوت المسيحي وجد بناءَ فلسفياَ سامقاَ لا يمكن تجاهله، فقررت المؤسسة المسيحية التعامل معه. وأنظم الفلاسفة الأوربيون، ومنهم وثنيون، إلى الديانة الجديدة وهكذا أصبح للكنيسة فلاسفتها الذين حاولوا تضيق الفجوة بين الفلسفة الأفلاطونية الأرسطوطاليسية، وسائر المنجزات الفكرية والفلسفية الإغريقية والرومانية، فنجحوا في ذلك حيناَ، وفشلوا حيناَ، وليس نادراَ ما أتهم فلاسفة أوربيون بالهرطقة والإلحاد أو نشر أفكار وثنية وكان التصدي لهم يجري بأعنف الأساليب، ولكن بصفة عامة لم يعلن اللاهوت أو الكنيسة موقفاَ معادياَ رسمياَ من الفلسفة، بل أبدى، وإن ظاهرياَ، التقبل له والتعامل معه ولكن بحذر شديد.

 

في الإسلام، كان الأمر مختلفاَ بعض الشيء. فالشريعة الإسلامية لم تجد أمامها فلسفة عربية أو حتى فارسية أو هندية، ومنجزات الفلسفة الإغريقية لم تترجم إلى العربية وتطرح بين أيدي المفكرين والفلاسفة العرب إلا بعد مرور ما لا يقل عن 200-150 من الهجرة أي من العصر العباسي الوسيط فصاعداَ، ولكن قبل ذلك، ولا بد من تأكيد ذلك، واجه المفكرون العرب المسلمون، أنشطة وفعاليات ثقافية كانت تقوم بها الكنائس والأديرة المنتشرة بحدود معينة في العراق وسورية ومصر. وكان بعض الرهبان ورجال الدين المسيحيين يخوضون المناقشات مع المسلمين للدفاع عن معتقداتهم، وأن أصول علم الفقه الذي نما ونشط بعد الإسلام، وبعد انتشاره في الأمصار العربية وغير العربية. ويقول الأستاذ مصطفى عبد الرازق: " أن أصول الفقه موضوع حقيقي للفلسفة، وأن العرب كغيرهم كونوا مناهجهم وآرائهم الفلسفية قبل اتصالهم بالفلسفة اليونانية. فالإسلام عندما توسع في البلدان المجاورة، وجد كنيسة منظمة تدافع عن المسيحية بمناهج منطقية مدروسة ومحللة بواسطة الديالكتيك اليوناني، وكذلك أديان وثقافات. فكان على رجال الإسلام في معاركهم الأيديولوجية أن يدحضوا الخطاب بالخطاب، وأن يستعملوا الديالكتيك والحوار وأن يدافعوا عن العقيدة الإسلامية وأن يبحثوا في مشاكل فلسفية كالعدل والحرية والكون وقد تجلى ذلك في فكر المعتزلة.(10) ولكن ذلك لم يحدث كما قلنا قبل عام 800-750 م فما فوق.

 

وفي الواقع، أن الفلاسفة العرب المسلمين تعاملوا مع الفلسفة بمواقف متفاوتة. فمثلاَ أن الفارابي لم يكن يخفي إعجابه بالفلسفة الإغريقية، ولكن دون أن يخرجه هذا عن إطار الشريعة، ولكن الغزالي تعامل مع الفلسفة بتحفظ ولم ينكر أهميتها ودراستها والتعامل معها بقوله: "أعلم أن العقل (الفلسفة) لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل. فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء ولن يثبت بناء ما لم يكن له أساس. والعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من الخارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. قال الله تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب بين يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور " 16-15 /المائدة فالشرع عقل من الخارج والعقل شرع من الداخل وهما متعاضدان بل متحدان "" (11).

 

ويضيف الغزالي بقوله: "فالشرع هو نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة الدالة على مصالح الدنيا والآخرة ومن عدل عنه فقد ظل سواء السبيل و إلى العقل والشرع قال الله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاَ " 85-84 /المائدة.(12)

 

فالفلاسفة المسلمون لا يعلنون موقفاَ معادياَ من الفلسفة، حتى أن فيلسوفا مثل الغزالي الذي له ردود قاسية على الفارابي وأبن رشد ويتهمهم بالدهرية، والدهرية موقف يشابه موقف السكولاستية، أي محاولة أيجاد سبل ملائمة الفلسفة والدين.

 

ومن المفارقات الغريبة، أن نجد نصاَ من النصوص المسيحية في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، إذ يحاول القديس توماس بكلمات متشابهة إلى حد مدهش ما ذهب إليه الغزالي إذ يحاول أن يثبت صحة اعتقاد العقل و الإيمان (الدين والفلسفة) يقوله: " أن اللاهوت مكمل للنظام الذي يكون العلم والعقل بدائه، ولا يقضي على اتصاله مطلقاَ، والإيمان متمم للعقل وهما معاَ مصدرا العلم و المعرفة، ولا يمكن أن يصطدما أو يعملا باتجاهين متضادين "".(13)

 

اللاهوت المسيحي وجد صعوبة في التنصل من منجزات الإغريق والرومان قبل حلول المسيحية ففي التعرض الصريح لها إلغاء لتراث مهم من حضارة الشعوب الأوربي، على عكس الشريعة الإسلامية التي كانت تتحرك بحرية نسبية، فالحركات والأحزاب السياسية العربية الإسلامية، كانت في تكونها ومواقفها من الدولة الأموية ثم العباسية، تشهد حركة فكرية نشيطة، وكانت هناك مواجهات أيديولوجية عنيفة، تستخدم الفلسفة لتبحث في أصول السلطة السياسية وقوامها الدين وفهم الدين بما لا يتعارض مع المآرب السياسية. فقد أكدنا مراراَ أن الشريعة والشعارات الدينية كانت البوابة التي عبرت من خلالها الشعارات السياسية، واستخدمتها الأطراف كافة، اليسار واليمين على حد السواء.

 

فالمسلمون تعاملوا مع الفلسفة ولكن بحذر، حذر الوقوع في شرك الأسئلة. فالفلسفة جذابة في قوة منطقها، والثقة التي تطرح نفسها فيه، والفارابي (950-870)، على سبيل المثال الذي لقب ( المعلم الثاني وكان أرسطو قد لقب بالمعلم الأول )، أخذ من غيره ولكنه وضع فلسفة في الإطار الذي يتلاءم وظروف البيئة التي عاش فيها. فقد أخذ عن أرسطو وأفلاطون، ولكنه فعل ذلك بصيغة إسلامية واضحة، وكان الفارابي يهدف إلى التأكيد، أن المعتقدات الإسلامية لا تتناقض مع الفلسفة والفلسفة الإسلامية خاصة.

 

ويلاحظ هنا كم تتشابه هذه المساعي مع السكولاستيين، ولكن مع فارق مهم، أن السكولاستية تيار قام بمباركة الكنيسة أنها أدركت أنها عاجزة عن مواجهة الفلسفة، لأنها لا تمتلك شيئاَ تواجهه به. والسكولاستيون كانوا في الغالب رجال دين، فيما وصفت مثل هذه التيارات عند المسلمين بالدهرية وهي صفة سلبية عند المسلمين، وكان من يتهم بالدهرية يسعى جاهداَ نفي هذه الصفة عن نفسه وفكره. وفلاسفة مسلمون مثل الغزالي لا يهاجمون الفلسفة علناَ..! ، وقد نفى الدهرية عن نفسه فلاسفة كالفارابي أو محدثون مثل الأفغاني ( 1897-1839 )، الذي كان ينفي الدهرية عن نفسه، فيما كان يسعى إلى ترويج أفكار تحاول أن توفق بين الدين وعقلنه الحياة ولكن بحذر وتردد.(14)    

                                 

ونزعة التوفيق وهي نزعة عرف عنها ليس الفارابي فقط، بل وعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين العرب، فقد بدا من العسير حقاَ تجاوز أو تجاهل ما جاء به الإسلام من نهضة علمية وفكرية، فالإسلام لم يكن قط معادياَ للعلم والتقدم، ولكنه حذر من الدخول في ممرات ودروب تفضي إلى السؤال الأكبر: ماذا بعد الموت..؟ من خلق الكون ؟ ومحاولة فلاسفة عرب ومسلمون التعامل مع معطيات الحضارة الغربية كانت فاشلة لأنها و كما يقول الأستاذ التريكي (الفلسفة الشريدة)، وبها يصف تجربة الأفغاني ومحمد عبده بالذات " توفيقية وتلفيقية، لأنها لم تستطع أن تتفاعل تفاعلا مجدياَ مع الحضارة الغربية لإنتاج البديل الثقافي الخلاق " ويرى الأستاذ التريكي أن الابتكار الفلسفي في الإسلام يكمن في علم الكلام الذي أنتج مذاهب كبرى في تفسير الكون واكتشاف القوانين الوجودية وتوصلهم إلى فهم الوجود للحركة والعلة، ولا بد أن نشير إلى الإبداع في الفلسفة العربية ليظهر بكل جلاء في الخطاب الخارجي للفلسفة، ذلك الخطاب الذي أرتبط بميادين أخرى، لهذا نراه في الفقه والكلام وفي الرياضيات وفي العلوم الأخرى، وفي الجماليات وفي الفلسفة الاجتماعية السياسية وما جاء به الطبري والبيروني وأبو حيان التوحيدي وأبن مسكويه وابن خلدون وغيرهم.(15)

 

وبالمقابل، فقد أحدثت الفلسفة تيارات، وربما أعاصير في المسيحية وإن اختلفت شكلها ومضمونها عن تلك التي حدثت في الإسلام، ولكن بجوهر واحد. قلنا أن اللاهوت المسيحي منذ البداية قبل بالفلسفة لعجزه عن مقاومتها، وقام بمجهودات رسمية على يد قساوسة لتجسير الهوة بين الفلسفة الغريقة / الرومانية وبين اللاهوت. ولكن ذلك لم يكن يعني نهاية الصراع . نعم، كان ينظر إلى الفلسفة باحترام، ولكن بعضهم نظر إليه بوصفه من أتباع الشيطان. وجوهر الصراع والخلاف هو واحد في التجربتين، فعدا البحث في الإلهيات والذات الإلهية، كان الصراع في أوروبا المسيحية يتمحور حول مسألة السلطة وحدود السلطتين الزمنية (الدولة) والروحية (الكنيسة).

 

حقاَ كانت هناك هوة، والهوة كانت هاوية عميقة، أوضحه البابا انوسنت الرابع Annozenz المتوفى1276 )، إذ قرر أن من حق البابا التدخل في السلطة وحتى خلع الملك المستهتر، وأن البابا هو خليفة المسيح بقوله " أن السيد المسيح نفسه جعل بطرس وخلفاء بطرس خلفاء له حينما أعطاهم مفاتيح ملكوت السماوات وقال لهم " أطعموا أغنامي "(16). وهكذا فأن البابا منح نفسه سلطة تسبغ عليه مركزاَ قيادياَ وتعطيه سلطة مراقبة ومراجعة فعاليات الدول والحكومات المسيحية والإشراف عليها. ثم جاءت نظرية سانت أوغستين لتدعم هذه النظرية التي أصرت على التمسك بأن النظام المسيحي يحتم أن تكون الدولة مسيحية. ويقول أيجيديوس كولونا " أن السلطة الروحية التي يتولاها البابا هي سلطة فريدة تعلو على ما عداها وللسلطة الروحية الحق في أن تقيم السلطة الزمنية وتشرف عليها ".(17)

 

والصراع بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية أسفر عن نشوء نظرية السيفان، جلاسنوس Gelasian، كما أن الصراعات داخل الكنيسة المسيحية أنتجت تيارات ومذاهب لم تتمثل بالانشقاق الرئيسي بين الكنيسة الشرقية والغربية، أو الكاثوليك والأرثودوكس فحسب، بل وأنتج حركات الإصلاح الديني، أشتهر منها اللوثرية ـ كالفن، وكوسوي، وتلاشت حركات أخرى في مهدها بفضل القمع البابوي وبمساندة السلطات، وتحولت أخرى إلى مذاهب دينية /سياسية /فلسفية لاهوتية، مثل اليعاقبة والجزوبت والدومنيكان والفرنسيسكان وغيرهم. كانت انعكاساَ للقضايا التي أثارتها الفلسفة بين القرن الحادي عشر والقرن الثامن عشر، حيث هبت الثورة البورجوازية الفرنسية التي أعلنت رسمياَ تصفية أملاك الكنيسة الدنيوية وحسمت المعركة لصالح الفلسفة بصورة تامة أو شبه تامة، فيما بقيت هذه المسألة في البلاد العربية والإسلامية (الفكر السياسي والدولة) مسألة مثيرة للنقاش والجدال بهذه الدرجة أو تلك من السخونة.

 

وإذا كنا قد ركزنا على الفلسفة بهذا القدر من الأهمية، فذلك أن دورها كان كبيراَ حقا في تطور الصياغات الثقافية، وأثرت ليس على تطور الفكر السياسي فحسب، بل وحتى على نشوء مدارس ومذاهب داخل الأديان نفسها، كما أنها أثرت بصورة مباشرة على نضج ووعي الناس والاتجاهات الاقتصادية والعلمية والفنية والأدبية.

 

وعندما نقرر أن الإسلام مثل ثورة على كافة الأصعدة، فنحن لا نمنحه قيمة اعتباطية. فالحياة الثقافية العربية شهدت قفزة كبيرة إلى الأمام، وابتداء ذلك باللغة نفسها التي هي عماد الثقافة على اختلاف فروعها. فمن الثابت أن اللغة العربية كانت على لهجات متقاربة ومتباعدة عن بعضها ألفاظا وكتابة. ونزول القرآن في نهاية القرن السابع الميلادي، حيث لم تكن اللغات الأوربية قد تبلورت بعد، بل وستمضي قرون كثيرة، حتى تتبلور اللغات الأوربية بشكلها الحالي الذي نعرفه اليوم، فيما مثل نزول القرآن بلغته الحالية (لهجة قريش) جعلها اللهجة السائدة وإلى اللغة العربية الرسمية، لغة سياسة وإدارة وأدب، بالطبع مع اعتبار أن لهجة قريش لم تكن بعيدة عن اللهجات العربية، بل لأنها كانت أساساَ وسطاَ بين تلك اللهجات.(18)

 

وإذا كان الحياة الجديدة نهضة اجتماعية / اقتصادية في مختلف الأمصار العربية، نهضة نوهنا عنها قي مباحث الكتاب، كان من شأنها الارتقاء بمستوى الحياة مما يؤدي تلقائياَ إلى خلق موضوعات ثقافية جديدة أنطلق صوبها الأدب والثقافة العربية. وإذا كان الشعر هو الميدان الرئيسي في الأدب العربي، وكذلك أدب الحكايات والأساطير وسير الأبطال والحروب، إلا أن الثقافة العربية شهدت بصفة خاصة تطوراَ مهماَ في ميادين جديدة مثل أصناف الملابس والأطعمة وعمارة الأبنية، حيث اختلطت الأذواق والأمزجة العربية والشرقية والإسلامية، بأنماط رومانية وفارسية وهندية، وإن لم تكن هذه جديدة تماماَ فقد كان العرب قد تعرفوا عليها في مراكزهم المتقدمة، العراق والشام ومصر إلا أن التجربة الجديدة كان لها مداها الواسع ونتاجها الثري، فقد تعامل الفكر العربي والثقافة العربية من موقع القوة وبفعل الاتصال الوثيق والمصالح اليومية على كافة الأصعدة.

 

فقد كان على سبيل المثال، التوجه لبناء المساجد وبروز أنماط جديدة من العمارة العربية، وإذا كان الإسلام قد تعامل مع الرسم بحساسية، إلا أن ذلك أستعيض عنه بفن الزخرفة والموزائيك والفسيفساء، وتجلى خاصة في فن الخط العربي وأنواعه، وقد جاء ذلك واضحاَ بصفة خاصة في المسجد الأموي في دمشق وجامع قبة الصخرة في القدس والجامعة المستنصرية ببغداد وقصور الأندلس وجوامع القاهرة والقيروان.

 

والقرآن بحد ذاته، قاد بحك لغته العالية أولاَ، والموضوعات التي تناولها: المعاملات مثلاَ، إلى ازدهار الفقه القانوني وتقدم علوم النحو والصرف وقصص الأنبياء الواردة فيه، إلى بروز نمط جديد في كتابة التاريخ. فظهرت أعمال ذات مستوى راق، مثل كتاب الطبري والمسعودى وأبن كثير في التاريخ، ثم موسوعات في اللغة مثل أعمال: أبن منظور والفراهيدي وغيرها، وهي أعمال لم ينجز لها نظير في أوروبا إلا بعد ستة قرون تقريباَ. وكل ذلك يشير في النهاية إلى رقي في الحياة السياسية والاجتماعية، ولولا ذلك الرقي لما استطاع الإنسان أن يقدم هذه المنجزات، وهي بديهية فالمكبل لا يستطيع العمل والإنتاج ولا يزدهر فكره. ويقول د. طه حسين " الأدب فن راق، إذا ارتقت السياسة أزدهر، وهو منحط جدب إذا انحطت الحياة السياسية وعقمت ".(19)

 

وفي أوروبا كان الأمر يدور على نحو آخر، فالمسيحية عندما حلت في أوروبا، وجدت ليس ذلك البناْء الفلسفي الشامخ، بل وفنوناَ مزدهرة كالمسح والعمارة بحكم توفر الرخام ذو الألوان الرائعة في اليونان وإيطاليا توفر التراب، وبواسطة الرخام أنجز بناء معابد وأبنية رائعة، وكان الإغريق قد تلقوا أثناء امتزاج الحضارتين الهيلينية والشرقية بفرعيها، الرافديني والمصري فقرات عديدة منها على سبيل المثال: الأعمدة والتيجان التي تعلوها، فهي موجودة في الشرق قبل بناء المعابد اليونانية. والموسيقى والرياضة.

 

ولكن أوروبا كانت على الرغم من ذلك تفتقر إلى مسألة رئيسية بتقديرنا، وهو الشعور بالانتماء إلى أمه، ولم تكن هناك حدود في أوربا التي كانت عبارة عن قبائل البعض منها تحوم ظلال من الشك حول جذورها. كما كانت أوربا تفتقر إلى اللغة القومية. وبإقرار أوثق المصادر الأوربية، فأن أهم أفضال حركة الإصلاح الديني اللوثرية، هي عندما أقدم مارتن لوثر ( وربما كان ذلك كان عملاَ جريئاَ ) على ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية، وأصبح مرجعاَ مهماَ وبلغة ألمانية موحدة ذات نظام وقواعد واحدة، ولكن ذلك لم يتم قبل القرن السادس عشر، ولعل في ذلك السبب في أن فكرة القومية تأخرت في أوروبا حتى ذلك الوقت. فألمانيا وفرنسا كانتا موحدتين حتى عام 1100 م. وكذلك إيطاليا مع ألمانيا. وكان ذلك مترافقاَ مع عناصر وعوامل أخرى مهمة، على رأسها التبلور الاجتماعي / الطبقي الذي أبرز البورجوازية الصناعية. وهذه جميعها من آثار ونتائج ثلاث تيارات رئيسية في أوروبا:

 

أولاَ ـ حركة الإصلاح الديني الذي أبعد نفوذ الكنيسة وحرر العقل.

ثانياَ ـ حركة النهضة التي أطلقت إبداع الإنسان الفكري والعلمي والفني.

ثالثاَ ـ الثورة البورجوازية الفرنسية التي حررت يد الإنسان وأطلقت قواه للعمل بلا حدود.

 

وعلى درجة تطور هذه القوى الفكرية والثقافية، وتنامي المسألة القومية، كان مؤشر الازدهار السياسي والاقتصادي يتصاعد، فقد كانت بريطانيا أولاَ (في القرن السابع عشر ) ثم فرنسا (في القرن الثامن عشر، سباقتان إلى الثورة القومية، لذلك كانت درجة تقدم بريطانيا، والفكر الاقتصادي بدرجة خاصة والفلسفة عامة، هو ما أهلها لافتتاح عصر النهضة الصناعية أولاَ، وبعدها فرنسا، وكان لتأخر هذه الثورة القومية في ألمانيا وإيطاليا (تأخرت وحدتهما القومية) السبب في تأخرهما دخول حلبة الدول الصناعية، المتطورة في بنائها السياسي والدستوري.(20)

 

 وعلى صعيد الفلسفة التي كان لها دورها الأساس في إنهاء احتكار الكنيسة وفي تصديها للمحاولات العبثية لتجميل اللاهوت التي كانت تهدف إلى تبرير وجود وهيمنة الأنظمة الإقطاعية المطلقة والمفاهيم الإقطاعية والدينية، وتلك كانت مهمة مفكري عصر التنوير، وإبراز لأهمية فكرة الوحدة والدولة القومية.

 

وفي الفكر العربي الإسلامي، كان مفهوم الأمة من المفاهيم التي طرحها الإسلام في القرآن والحديث، وهنا في هذا النص " وجعلناكم شعوباَ وقبائل لتعارفوا " 48 هود ) فهذا القرار للاختلاف بين مجتمع وآخر على مستوى التكوين الديني والاجتماعي والذهني والمزاجي ومكونات اللغة والثقافة، وفي أكثر من آية يشير القرآن إلى إمكانية تعايش المسلمين مع غيرهم من الديانات الأخرى وقد مارسوا ذلك فعلياَ. وكذلك ذهب مفكروا الإسلام مثل: الجاحظ الذي يرى في رؤية مبكرة أن، الثقافة واللغة والأخلاق المشتركة والبيئة الجغرافية هي التي تعطي الأمة صفة الوجود. وكذلك ذهب المؤرخ المسعودي الذي يشير إلى الموقف الحضاري المشترك، ووحدة الثقافة واللغة والقيم المشتركة.(21)

 

وكان المفكر والفيلسوف أبن خلدون قد تحدث عن العصبية بتفصيل وإسهاب كافيين، على أنها الفكرة الجامعة لشعب أو أمة، وأن السلطة السياسية تشتد وتقوى عندما يجمع شعبها رباط وعصبة قوية. ورغم لأنه لا يذهب إلى درجة كافية من الوضوح ليتحدث عن الدولة القومية بمفهومها القانوني الدستوري الحديث، ولكننا نرى أن إشاراته هي رؤية سياسية / فكرية مبكرة وذات مغزى مهم.

 

واستطراداَ في مناقشة فكرة الدولة القومية، نتيقن أنها ليست فكرة إقطاعية. ولو كان الأمر كذلك لكانت أوربا قد أدركته خلال عصور الهيمنة الإقطاعية الطويلة على المجتمعات الأوربية، كما أنها ليست بورجوازية، فلو كانت كذلك فكيف أنتبه لها أبن خلدون بهذه الدرجة من الوعي. أن فكرة الدولة القومية هي جزء من الوعي السياسي لأي شعب يحس ويشعر بكيانه ويدرك أبعاد وحدود بلاده ومصالحه الحيوية والاقتصادية في المقام الأول. كما يشعر بلغته وتميزها، وثقافته وتأريخه. فقد كانت حقيقة تاريخية قد ترسخت منذ العصور البابلية والآشورية، أن جبال الأناضول شمالاَ وجبال زاغروس شرقاَ مثلت الحدود الطبيعية لمنطقة كانت على الدوام مرتعاَ لشعب سام يتألف أساساَ في معظمه الغالب من أقوام هاجرت من شبه الجزيرة العربية واستوطنت أحواض الأنهر، ومضت تواصل تثبيت ألوانها الثقافية، وتكتسب ملامح محددة بمرور الوقت، أنماط معيشة واقتصاد، ثقافة ولغة، عادات وتقاليد، شدتها مفردات الحياة وأحداث تاريخية إلى بعضها البعض. وقرأنا في الألواح البابلية لأول مرة كلمة عرب، عربو، أرابيا، بحدود ألف قبل الميلاد فصاعداَ.

 

ويكتب الفيلسوف الهنغاري المعاصر جورج لوكاس شيئاَ يقارب ما نذهب إليه: من أن لا قاعدة نهائية للمسالة القومية، فهذه تتشكل وتتكون وتنعقد شروطها وصفاتها بصورة قد تتفاوت من مكان لآخر ومن مرحلة لأخرى، فيقول: " وعلى نقيض الوضع في إنكلترا أو فرنسا حيث كان التوجه السياسي لأمة قد تحقق فعلاَ بشكل أساسي عندما طرح التصور الاقتصادي للرأسمالية، مسألة الثورة الديمقراطية البورجوازية (القومية) على جدول الأعمال. ولكن تطور ألمانيا قد انطوى على تناقض، وهو أن المجتمع البورجوازي الناشئ كان عليه أن يحقق الوحدة القومية أولاَ وأن تحقيق الوحدة القومية أصبحت المسألة المحورية من ثورتها الديمقراطية البورجوازية ". (22)

 

وحول المسألة القومية أيضاَ، وانطلاقاَ من فكرة أننا لا يمكننا أن نحكم أو أن نقيم أحداث جرت قبل ألف وأربعمائة عام بمقاييس اليوم، إذ لا بد من الأخذ بالاعتبار، الظروف الموضوعية والذاتية لتلك الأزمنة، والأمر كذلك فعلاَ، فيقول الأستاذ البريطاني (اللبناني الأصل) البرت حوراني، إن فكرة القومية العربية الحالية اكتسبت قوة سياسية في القرن العشرين ولكن: " إذا ما توغلنا في الماضي نجد أن العرب كانوا دوماَ يحسون إحساساَ فريداَ خاصاَ بلغتهم، وأنه كان لعم قبل الإسلام إحساس عرقي، أي نوع من الشعور بأن وراء منازعات القبائل والعائلات وحدة تضم جميع الناطقين بالضاد والمنحدرين من القبائل العربية.

فمن المؤكد أن التجارب متفاوتة في مفرداتها.(23)

 

نعم، ساهمت أعمال كتاب وفلاسفة وعلماء وشعراء وفنانون وأدباء في خلق شخصية الأمم ومنحت أعمالهم تلك المرحل نكهتها وطابعها، وهناك شعوب مدينة لقصائد وأعمال فنية وأعمال عمرانية، سواء كانت مساجد أو كنائس أو قصور، أغاني، أعمال فنية وموسيقية خالدة وأناشيد، أصبحت رمزاَ لتلك الأمم وأدت دورها الكبير، مثل المسجد الأقصى والكعبة، المدرسة المستنصرية، أسد بابل، الأهرام، المعلقات، ألف ليلة وليلة، أنشودة الله أكبر، معبد الأكروبوليس في اليونان، أسطورة الماراثون، ملعب الكوليزة في روما، أعمال الواسطي، دافنشي، أنشودة المارسيليز الخ، أسماء وشواهد كثيرة، هي حصيلة الإنسان في مسيرة الحضارة، بتراكمها أخرجت العالم من ظلام العصور الحجرية إلى القرن الواحد والعشرين و الألفية الثالثة.

 

 6ـ المؤثرات الخارجية: ـ  

 

لا يمكننا تصور قيام وترعرع حضارة لشعب أو أمة دون أن تكون قد اتصلت بمنجزات شعوب أخرى، واقتبست منها، ولا شك أن عزلة شعب من الشعوب هو أحد أسباب لانحطاط درجة أو مستوى تقدمه، فمن الثابت علمياَ أن أحد أسباب تطور البشرية هو قابلية الإنسان على التعلم. التعلم ممن..؟ ، التعلم أولاّ من تجاربه الذاتية، ولكن أيضاَ من تجارب الآخرين وهي تعبر عن ذكاء الإنسان. ولعل انزواء بعض الحضارات وابتعادها عن الاحتكاك والتماس مع الآخرين هو السبب في بقائها حضارات أو تجارب منغلقة، لم تفضي إلى نتائج كبيرة، أي لم تؤدي بها لأن تكون حضارات عالمية المستوى.

 

فعلى سبيل المثال: هناك 2800 لغة في العالم، ولكن كثير من اللغات لم يسمع بها أحد، ناهيك عن تأثيرها، وكثير من اللغات لم تعد موجودة، وأكثر منها من اللهجات. وكثير من اللغات في العالم هي للحديث وليست للقراءة والكتابة. واللغة هي وسيلة رئيسية لانتقال وتعميم الثقافة. فاللغة العربية اكتسبت هيئتها هذه منذ نزول القرى، حوالي 610 م. وهناك حوالي 550 كلمة عربية في اللغة الألمانية و1000   كلمة في معجم أكسفورد للغة الإنكليزية و 3000 في اللغة الأسبانية. وتستخدم اللغة العربية حروفاَ خاصة بها وكذلك الأرقام وأسماء الأشهر وأيام الأسبوع، وكل هذا قبل نزول القرآن فيما لم تبرز اللغات الأوربية الرئيسية إلا بعد 1500 ميلادية. والثقافة الأوربية كانت تستخدم اللغة اللاتينية التي اندثرت اليوم تقريباَ إلا عند الاختصاصين.

 

ومع أن العرب لم يمارسوا ضغوطاَ سياسية أو فكرية من أجل تشجيع انتشار لغتهم (وحتى عصرنا الحالي)، بل كانوا يترجمون من اللغات الأخرى بلا عقد أو حساسيات، ويشجعون الحركة الفلسفية والفكرية. ولكن الحركة العامة نحو العربية كانت متصاعدة رغم كل شيء، وقد ساهم في الثقافة العربية الكثير من العلماء المسيحيين العرب، وأن تلاشي أو ضعف اللغات الأخرى (في الشرق بصفة خاصة) مثل السريانية الآرامية والقبطية والبهلوية (الفارسية القديمة)، لم يكن اعتباطا، وليس بسبب الإسلام وانتشاره في الأقطار العربية المجاورة، بل بسبب قوة هذه اللغة وثرائها وملاءمتها للمنطق والمزاج، بالإضافة إلى الاستخدام اليومي، والعلوم على حد السواء.(24)

 

وإذا كان عمل الموسوعات والمعاجم والقواميس أحد دلائل تقدم ثقافة أي شعب أو أمة، فأن العرب كانوا سباقين في وضع المعاجم العديدة وأشهرها: (كتاب العين) لخليل بن أحمد الفراهيدي 786 م، وقد وضع بعد ذلك معاجم أشهرها معجم الأصمعي المتوفى عام 828 م وكتاب التهذيب وضعه أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفى عام 980 م. والصحاح ووضعه أبو نصر إسماعيل الجوهري المتوفى عام 1005 م، ومن مشاهير المعاجم أيضاَ لسان العرب لأبن منظور المتوفى عام 1311 م وغيرهم.(25)

 

أردنا بذلك القول، أن الثقافة العربية قبل الإسلام وبعد الإسلام تفاعلت وتعاملت مع ثقافات أخرى، ربما بعضها كان أقل إشراقا من الثقافة العربية، ولكن في تفاعل الأمم لا ينبغي التركيز على هذه المسألة، بل المهم هو أن تحتفظ الثقافة أو تلك الحضارة بسماتها وعلاماتها المميزة وإلا فأنها تندثر وتتلاشى بمرور الوقت إذا تعاملت بانبهار وباستسلام. والثقافة العربية تعرضت إلى مثل هذه التجربة أكثر من مرة، في ظروف وأحداث كانت فيها إرادة الأمة السياسية مفككة وضعيفة في ردود أفعالها مستلبة الإرادة لقوى أجنبية جاءت لتفرض بكل شراسة إلى جانب هيمنتها الاقتصادية والسياسية، ثقافتها ولغتها، وقد حاول ذلك في تلك العصور كل من: الفرس والرومان والبيزنطيون والإغريق والأحباش وبعضهم فعل ذلك يطرق منظمة ومدروسة مثل: الإسرائيليات التي حاولت التسلل إلى مصادر الثقافة العربية، وأمعن في التزوير والتخريب، والهيلينية التي حاولت أن تطغي بأنماط الثقافة والتفكير، ثم المدرسة الشعوبية التي حاولت أن تطغي بأنماط الثقافة والتفكير، ثم حاولت مسخ هوية كل ما هو أصيل في الثقافة العربية.

 

 وفي العصور الحديثة، حاولت قوى استعمارية أن تفرض مثل هذه السمات على الثقافة العربية فتجعلها تابعاً ثقافياَ، فحاول ذلك الفرنسيون والإنكليز والإيطاليون والأسبان والأتراك، وخيل لبعضهم أنه قد نجح في مسعاه أو كاد. ولكن نظرة بسيطة إلى الخارطة السياسية والثقافية تنبأ بوضوح الفشل الذريع لتلك المساعي.

 

وفي مجهود علمي لاستقصاء أثر الثقافات والحضارات الأجنبية على الثقافة العربية، نجد أن هناك مصادر عديدة مثلت دور الروافد التي تصب في النهر الكبير. فلاشك أن الديانات السابقة للإسلام، اليهودية والمسيحية على ضعف نفوذها الروحي إلا أنها مثلت أحد الروافد،  فقد كان هناك عدد من المسيحيين في شبه الجزيرة، القليل منهم في مثلث وسط شبه الجزيرة وأكثر من ذلك في اليمن (نجران) ونفوذ أوسع في العراق والشام ومصر على التوالي، والوجود اليهودي كان أفل من ذلك، والتأثير الذي مارسته الديانات الأخرى هي في اتجاهين رئيسيين، بصرف النظر عن حجم هذا التأثير: ـ   

    

آ   ـ قصص الأنبياء والرسل والرجال الصالحين المصلحين ولأخبار الأمم والشعوب.

ب ـ رؤية فلسفية وسياسية / اجتماعية.                            

 

والرافد الآخر، كان تأثير الأمم الأجنبية التي حلت في البلاد العربية كقوى استعمارية مهيمنة، وهي وإن رحلت، إلا أنها خلفت بعض التأثير مهما كان بسيطاَ. منها التأثيرات الفارسية والرومانية، وقد أتخذ هذا التأثير أبعاده في الأدب أو في طرز العمارة، أو ربما في الأزياء والأطعمة.

 

ولكن لا بد من التأكيد: أن هذه التأثيرات اكتسبت نكهة عربية، فالدروس الثقافية المقتبسة من اليهودية والمسيحية، ارتدت مسوحاَ عربية إسلامية فيما يتعلق بالنظرة إلى الكون والخالق، كما كانت لها نظرتها الخاصة حتى إلى سيرة الأنبياء والرسل. فالتوحيد وعدم الاقتراب من صيغ الشرك، والابتعاد عن التعظيم وتمجيد الأفراد كانت صفة مؤكدة في الثقافة العربية الإسلامية، ودرج استخدامها في الدين والسياسة لأسباب وضعية لها علاقة بالأهداف والمساعي السياسية وليس الروحية والثقافية. فالإسلام أبعد ما يكون عن تقديس الفرد. والرسول محمد (ص) وخلفاءه الراشدين، كانوا يرفضون وبحزم مثل هذه السياسة أو التقاليد والمظاهر. أما الإطلاع على منجزات الحضارة الإغريقية، فلم يحدث بحلول العصر العباسي الوسيط (عصر هارون الرشيد والأمين والمأمون فصاعداَ) حيث صار الإطلاع على منجزات الفلسفة اليونانية يسيراَ وإذا كان قد حصل تماس أو إطلاع، فذلك قد تم في حدود ضيقة وعلى مستوى النخبة، ولم يصبح هذا التماس متواصلاَ واسعاَ إلا بعد عام 800 فصاعدا.

 

فالفكر العربي، ثم الفكر العربي الإسلامي، كان يمضي قدماَ يتصل ويقتبس ويستفيد ولكن دون أن يسمح بتشوه سماته ومميزاته، وهكذا تكون الفكر العربي الإسلامي وهو " صورة ناجمة عن تفاعل جزئياته المكونة لشخصيته عبر الزمن الطويل، وتمثل هذه الجوانب الاقتصادية والدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية "، وهذه بلا شك صورة تكونت عبر مراحل عديدة ما تزال خاضعة للتطور.(26)

 

وهكذا تمكنت الثقافة العربية أن تؤدي مهمتها الحضارية التاريخية، أن تلتقي وأن تشع بدورها وفي كل ذلك لم تحاول أن تفرض شخصيتها على أمة من الأمم، ولكن مع الحفاظ على شخصيتها، وأبرز دليل فيما نذهب إليه: هو ما نحن فيه، في معرض الفكر السياسي والتأثيرات المتبادلة. فقد قرأ العرب المسلمون أفلاطون وأرسطو، بل واستوعبوه بأفضل مما يستوعبه الأوروبيون أنفسهم وهذا ثابت عبر شروح أبن رشد لفكر أرسطو، فهناك جامعة فلسفية نشأت في إيطاليا (في مدينة بادوفا) وهي المدرسة الرشدية التي كانت عنصراَ هاماَ قاد إلى عصر النهضة.

 

ويكتب الأستاذ الأمريكي جورج سباين: "أن ادعاء البابوية في الهيمنة على الحكام الزمنيين ادعاء أشاع المشاكل والفرقة في أوروبا وفي إيطاليا بوجه خاص، وقد أثرت كتابات أبن رشد في مفكري القرون الوسطى ومنهم مارسيليو (عن الدولة والنظام والقانون) وأهم كتابات ابن رشد هو استنادها المطلق إلى العقل ".(27)

 

 وغالباَ ما يصف علماء السياسة الأوروبيون الفكر العربي الإسلامي، والسياسة تحديداَ، بأنه يدخل ضمن بحوث علم الأخلاق. حيث يبدو من العسير جداَ الإقرار بأن العرب هم واضعوا علم السياسة. والحق فأن علماء السياسة العرب لم يكتبوا في علم الأخلاق (وهناك مؤلفات خاصة بهذا العلم)، ولكنهم لم يفصلوا الأخلاق عن السياسة، ومثل هذا الرأي كتب عنه مونتسيكيو الذي يصفه الكثير من المؤرخين بأنه مؤسس علم السياسة الأوربي الحديث وليس ميكافيلي. ومونتسيكيو لا تفوح من كتاباته روائح وثنية رغم كونه معاد للكنيسة، وهو يمزج بين المفاهيم الأخلاقية والسياسية بقوله : " أن حب الديموقراطية هو أيضاَ حب العفة " .(28)

 

كان علم السياسة العربي الإسلامي قد توصل عبر عناوين كثيرة إلى اعتبار واحترام السياسي، لضرورات الواقع الموضوعي، والتعامل معها وحسابات القدرات الذاتية واتخاذ القرارات السياسية على هذا الأساس. ومن تلك المبادئ: لا ضرر ولا ضرار، سد ذرائع الفساد، رفع الحرج، الضرورات تبيح المحذورات، البراءة الأصلية. ولكن مبادئ السياسة العربية تأبى تحقيق الخير بوسائل الشر أو تحقيق الفضيلة باستخدام الرذيلة، ففي ذلك تناقض خطير   يقوض العملية السياسية.

 

ومثل هذه الفكرة، تحقيق الخير بوسائل الشر، ذهب أليها أحد شهراء السياسة الأوربية المعاصرة، ونستون تشرشل، في صدر مذكراته، عندما أعاب على ألمانيا الهتلرية تحقيق أهدافها بواسطة العدوان والعنف المسلح، في حين أن: " السياسة بنظر الفكر والحضارة العربية الإسلامية لا يمكن أن تعيش وتحيا إلا بحفاظها على مستوى خلقي معين، ومتى خرجت السياسة في سلوكها عن خطها الخلقي ليصبح كل شيء جائزاَ، أصبحت السياسة فاشلة ومصيرها النهائي هو الهلاك. والقيم العربية الإسلامية التي تسير وفقها سياستها، ترى أن السياسة تقوم للإصلاح والاستصلاح، وأن وجهة سيرها الصحيحة هي أن تسير في خط مستقيم ".(29)

 

ويذهب أستاذان عربيان أخرى إلى: " أن المفكرين العرب المسلمين ينظرون إلى السياسة باعتبارها من النشاطات الإرادية والسلوكية وهي تنبثق عن الاختيار المحكوم بمعرفة الخير والشر والحق والباطل والفضيلة والرؤية. وقد ذهب أبن رشد إلى أن علم السياسة يشبه علم الطب ".(30)

 

وفي الفكر الغربي، فأن مونتسيكيو الذي يعتبره بعض العلماء، مؤسس علم السياسة الحديث، يؤمن بالعفة والفضيلة في الفكر السياسي، بيد أن ميكافيلي أطلق نزعة فكرية، إن على السياسي أن يحقق أهدافه بصرف النظر عن أساليب الخسة والنذالة والخيانة، وقد تطورت هذه الأفكار إلى مدرسة فلسفية هي البراغماتية Pragmatis، القائمة على أساس أن نجاح كل سياسة هي في النتائج التي حققها بصرف النظر عن الأساليب، أو بالأحرى أن جودة الأسلوب هو في النتيجة الحاصلة. ولكن البراغماتية ليست بالضرورة قانوناَ للسياسة لا يصلح غيره، فالميكافيلية والبراغماتية قادتا إلى الاستعمار وإلى الحروب التوسعية وإلى سلب ونهب ثروات الشعوب، وهي سياسة مدانة في الكثير من المحافل الدولية ومنها الأمم المتحدة، التي أصدرت قرارات كثيرة في إدانة الاستعمار والتميز العنصري الذي هو ناتج مباشر للاستعمار وإدانة لأساليب التوسع القائم على القوة.

 

والمفكرون الأوربيون يعترفون، وإن لا يقولون ذلك بصوت عال، بل همساَ و يدسون اعترافاتهم بين السطور والهوامش، أن الحضارة المسيحية الأوربية تعلمت الكثير من الشرق والعرب المسلمين، عبر نقاط وعمليات تماس كثيرة. عبر الأندلس وصقلية وبلاد الشام ومصر والحروب الصليبية بصفة خاصة، وحيثما أمكن لهم ذلك. فيقول الكاتب الفرنسي أمين معلوف (عربي مسيحي من أصل لبناني): " أن الانطباع الذي أحدثه مجيء الصليبين إلى البلاد العربية كان مزيجاَ بين الخشية والاحتقار، فقد كانت الأمة العربية متفوقة جداَ بحضارتها، وإن كانت قد فقدت روحها القتالية " .

 

 وإن كان العرب قد تمكنوا فيما بعد من طرد الصليبيين الذين جاءت جيوشهم الجرارة من كل البلاد الأوربية، وملوكهم على رأس تلك الجيوش. وفي مقطع آخر يقول الكاتب المعلوف: "وفي عهد المستظهر بالله، حيث دارت أولى معارك الحروب الصليبية، كانت عاصمة الدولة بغداد تضم ألف طبيب مجاز ومستشفى كبير ومجاني، ومصلحة بريد منتظمة وعدد من المصارف لبعضها فروع في الصين، وشبكة مياه ممتازة وأخرى متصلة بمنتفعات المنازل لتصريف مياه الخدمة، ومصنع للورق. ولسوف يتعلم الغربيون الذين لم يكونوا(حتى ذلك الوقت)يستعملون غير الرق للكتابة قبل دخولهم بلاد الشام، ولسوف يتعلمون صناعة الورق من تبن القمح " .

 

والمعلوف يؤرخ أيضاَ بأسف قائلاَ: " وفي يوم الاثنين 11 ذي الحجة 502، المصادف يوم 12 تموز1105، وبعد ألف يوم من المقاومة ضربت طرابلس الشهيرة بالمصوغات والكتب والقضاة والمثقفين على يد محاربي الغرب، ونهب مئة ألف مجلد كانت في دار العلم ثم أحرقت لكي تمحى الكتب (الملحدة) من الوجود ". (31)

 

ولم يكن تأثير الأندلس وصقلية بسيطاَ، فخارطة الإدريسي، وهي على الأرجح أول خارطة للعالم، نقلت عن طريق صقلية، وكان لملوك النورمانديين والإفرنج مستشارين وخبراء عرب وجنود كانوا حرسه الخاص لإخلاصهم وشجاعتهم وقد تعلم أحد القياصرة الألمان اللغة العربية، لا بد لحاجته الماسة إليها. ثم ألا يعمل اليوم الآلاف من العلماء العرب في أعلى المؤسسات العلمية الغربية، الطبية والتكنولوجية بما في ذلك وكالة الفضاء ناسا، ووكالة الطاقة الذرية الدولية، ليؤكد ذلك حقيقة واحدة: ـ أن البحار والمحيطات لها سواحل، ولكن الحضارات لا ساحل لها، فهي تنتشر وتتصل ببعضها ولو على متن مركب شراعي من القش كما برهن على ذلك العالم النرويجي ثور هيردال في رحلاته البحرية من العراق ومصر بين القارات .

 

ولأوغاريت (رأس الشمرة)، مدينة اللاذقية اليوم، الفضل في تعليم الإغريق الأبجدية كما كان للحضارة العربية الفضل في نقل كم لا يحصى من المنجزات، ولكن بالمقابل، تلقت الحضارة العربية قديماَ وحديثاَ من أمم كثيرة. وإذا كانت البلاد العربية قد تعرضت في ظرف تاريخي حرج إلى هجمة بربرية همجية (1252 م.)، ولم تجري فيها العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي دارت بحكم الحتمية التاريخية في أوروبا، والتي أدت في النهاية إلى فض الاشتباك بين السلطة الدينية والدنيوية، ثم إلى عصر النهضة بكل ما تضمنته وما قاد إليه : ـ حركة الإصلاح الديني التي وضعت الدين في الكنيسة وليس في طريق تطور المجتمع والهيمنة والتسلط واحتكار الفكر والرأي وما قادت إليه كنتيجة حتمية : عصر التنوير، الذي وضع الإنسان أمام مصيره، كالذي يضع الحصان أمام العربة، ولا يعوزه سوى الانطلاق. وهذا ما قاد إلى نتيجة حتمية أخرى: الثورات البورجوازية، وأهمها الثورة الفرنسية.

 

والبورجوازية في استخدامها الثوري لهذه الكلمة في تلك الأزمنة (المواطن)، أن المواطن مساو للمواطن في الحقوق والواجبات أي كان لونه وعرقه ودينه وولائه وطبقته، وهذا ما لم تستطع أن تقدمه الأديان للإنسان، بل قدمه الفكر والثورة، والنظام والقانون. وكان لا بد أن يؤدي ذلك إلى نتيجة أكثر أهمية: الثورة الصناعية كنتيجة حتمية لإطلاق سراح الفكر ليبدع واليد لتعمل.

 

في هذه العمليات التاريخية التي دارت، كان الفضل فيها للإنسان الذي أمتاز بالشجاعة والأقدام   فقد أعدم حرقاَ الكثير من العلماء والمفكرين وأستشهد الكثير من العلماء أثناء قيامهم بتجاربهم التي بدت في وقتها مستحيلة، ومغامرين أثناء محاولاتهم لاكتشاف وإجلاء الغموض عن ظواهر جغرافية وطبيعية، وحدثت ثورات وانتفاضات، ومؤامرات وفتن ودسائس، وكما أنجزت روائع، فقد حدثت فضائع أيضاَ وجرت حروب طاحنة دامية. وبينما كان ذلك كله يحدث في أوروبا، كانت البلاد العربية تحت إرادة القوى الأجنبية والعناصر الرجعية المتحالفة معها في خدر عميق.

 

وحتى القرن الثامن عشر لم تكن هوة التخلف جسيمة جداَ بين أوروبا والبلاد العربية والشرق عموماَ، ولكن الثورة الصناعية التي كما بينا كانت نتيجة حتميات تاريخية، وليس بمشاريع وخطط. فقد سمح برلمان إنكلترا للمرة الأولى تصدير الآلات عام 1824، وحتى ذلك الوقت لم تكن السكك الحديدية معروفة. ففي 1825 أفتتح أول خط للسكك الحديدية، وفقط في عام 1830 أفتتح خط حديدي مباشر بين مانشستر وليفربول، لاحظ أن مانشستر هي منطقة صناعية وليفربول ميناء تصدير، فالأمر لا يتعلق بالفخامة أو الأبهة.

 

وحتى أواسط القرن التاسع عشر، كانت هناك قوى أوربية مهمة تحتل مواقع عظمى ليس على صعيد القارة فحسب، بل على صعيد العالم وكانت بريطانيا سابقة لغيرها من القوى الأوربية ثم تبعتها دول أخرى، ولكن كان على العالم أن يتحمل نتائج قوة الدول الاستعمارية، حروب ضم وإلحاق وهيمنة، وحتى مطلع القرن العشرين كان 82 % من مساحة اليابسة في العالم تدار استعمارياَ وما زال حتى اليوم، يمارس الأقوياء لعبة القوة، وغالباَ تمارس اللعبة بقواعد لا علاقة لها بالقانون والعدل.

 

وإن شئنا العبرة من هذه التجربة، فالمؤكد أن التقدم لا يكمن في استيراد أجهزة ومعدات، بل في تحرير فمر الإنسان ليفكر ويديه ليعمل، وليس في كثرة الأبهة والسيارات، وإن ليس هناك وطناً حراً بلا مواطنين أحرار.

 

 

هوامش البحث

 

1. بورجلان، بيير: مقدمة لكتاب العقد الاجتماعي (جان جاك روسو)، ص 14

2. جوزي، بندلي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، ص18/39

3. الغزالي، أبو حامد: المنقذ من الضلال، ص25

4. سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ج1 ن ص286

5. سباين، جورج: نفس المصدر، ص250

6. أليان، ج/ويد جيري: المذاهب الكبرى في التاريخ، ص133

7. التريكي، فتحي: الفلسفة الشريدة، 18

8. مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ج1، ص65/70

9. التريكي، فتحي: الفلسفة الشريدة، ص39

10. التريكي، فتحي: نفس المصدر، ص41

11. الغزالي، أبو حامد محمد: معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ص63

12. الغزالي، أبو حامد محمد: نفس المصدر، ص65

13. سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ج2، ص351

14. حوراني، البرت: الفكر العربي في عصر النهضة، ص145/ 148

15. التريكي، فتحي: الفلسفة الشريدة، ص11/30

16. سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ج2، ص381/383

17. حسين، طه: من الأدب الجاهلي، ص38

18. حسين، طه: في الأدب الجاهلي، ص38

19. لوكاش، جورج: غوته وعصره، ص7

20. ياسين، د. نجمان: دراسة في المفهوم والتكوين، مقال /آفاق عربية

21. لوكاش، جورج: غوته وعصره، ص93

22. حوراني، البرت: الفكر العربي في عصر النهضة، ص311

23. مصطفى، شاكر: التاريخ العربي والمؤرخون، ج2، ص416/411

24. معلوف، لويس: المنجد، طبعة 13، ص1094

25. محمد، د. فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، ص17

26. سباين، جورج: نفس المصدر، ص406

27. كرم، يوسف: نفس المصدر، ص190

28. محمد، د. فاضل زكي: نفس المصدر، ص12

29. الطعان، د. عبد الرضا:/ الأسود، د. صادق: مدخل إلى علم الفلسفة، ص183

30. معلوف، أمين: الحروب الصليبية، ص64/81/12

31. مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ج2، ص57

 

المركز العربي الألماني

برلين

 

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

 

 

 مقاتل الفرس في العراق

د. ضرغام الدباغ

 

 

(خارطة موزائيك القوميات والأعراق في إيران)

يستغرب القارئ والضارب في كتب ومصادر التاريخ، القديم والحديث، أن يجد عقدة متأصلة لدى حكام بلاد فارس، أو دولة إيران الحديثة (ملكية على أنواع السلالات الحكمة، أو تحت حكم الملالي)، تتحكم على عقلية القيادات الحاكمة أو صناع القرار فيها، عقدة سياسية / اقتصادية / ثقافية، تتمثل بالتوجه غرباً. وقد وجدت هذه القيادات والزعامات، في هذا الشعار لافتة جيوبولتيكية ستمثل جوهر السياسة الإيرانية، على مر العصور تخفت أحياناً وتخبو لكن دون أن تزول، ثم تتصاعد حيناً على نحو شرس، تتخذ طابعاً اعتدائياً، ينطوي في جوهره على التوسع غرباً .. العراق كخطوة أولى لهذا التوسع ..... لماذا ..؟ وهذه موضوعة مهمة كتبنا عنها كثيراً، ولنأت الآن على العقدة ..

الفرس اليوم لم يحتلوا العراق، بل هم تواطؤا، تعاهدوا، تعاقدوا، تقاولوا ... هذه المصطلحات ممكنة، عقدوها مع الأمريكان والإسرائيليين، وإذا يتطلب الأمر حتى مع شياطين الأرض ليصلوا أرض العراق،  في تعاقد وتعاهد سنطلع على أسراره يوماً، أن يستلموا العراق مقابل (؟)، ولا ندري ما هو الثمن، فالأمريكان خسروا كثيراً جداً : في الأرواح (قتلى وجرحى)، والمعدات، والأموال، والأمريكان لا يفعلون ذلك مجاناً، إلا مقابل مكاسب ووعود. وهل أوفوا الفرس بوعودهم، فالمعروف عنهم أنهم ينكلون بعهودهم، وبرأيهم لماذا يوفون العهود مع حرامية مثلهم، هي صفقة بين لصوص وسراق، لا مكان للشرف بين الضباع والثعالب وبنات آوى، وبرأي الشخصي ليس في هذا ما يغيض ..

ولكن ما يغيظ هو أن الفرس يحلو لهم أن ينسبوا لأنفسهم البطولة، والذكاء، والدهاء، لمجرد أنهم كسبوا مباراة يلعبها الزعران في الأزقة، ووضعوا أيديهم وأرجلهم في حوض قذر لا يشرف .. فأستلموا العراق بقضه وقضيضه، من شماله إلى جنوبه، وراحوا يملأون الدنيا طنيناً وأزيزاً، وكان الأجدر بهم أن يخجلوا، فالفارس يخجل من فروسية غيره .. فما بالك أن ينسبها لنفسه .. البعض يعتبر أن ذلك في عرف وقواعد الفروسية عار، وفي قواعد مسابقات الفروسية، من يسقط من على ظهر الجواد، يصبح خارج المسابقات، ولكن بالله عليك من يسأل عن الشرف في هذا اليوم الأسود، وقد اختلط الحابل بالنابل، وحتى بالكورونا ...وتبدو في مطالبة الفرس بأن يكونوا كرماء في العراق وأن لا يتصرفون كاللصوص والحرامية،  فهذه أشبه بالنكتة،  كأن تقسم العاهرة بشرفها، وهكذا أساءوا لنفسهم ولمن تعامل معهم.

الفرس يدركون كما يعلم العالم بأسره، أن هناك حرباً سرية / علنية ضد العرب والمسلمون. ولهذا أجيز لهم أن يلعبوا وفق أتفاق يبدو أنه تفصيلي ودقيق (الأمريكان والاسرائيليون لا يقبلون إلا بأتفاقيات تفصيلية دقيقة)، أن يلعبوا في المنطقة،  وبالفعل ساعدوهم في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، ولكننا لا نعلم مواد وفقرات هذا الاتفاق وأبعاده، لذلك يعمل الفرس المستحيل لكي يتغير وجه العراق وشكله وداخله ودواخله، ليقنعوا أنفسهم بأن الحلم بات حقيقة، ولينتقموا من كل كوابيسهم، وإحباطاتهم، ومن تمثيلهم الفاشل لدور قاطع الطريق البطل، الذكي، الشجاع الذي ينال ما يريد بقوة سيفه، الذي أنتجه الحدادين في بلادهم، فإذا بسيفهم يكسر، وافتضح ذكاءهم على أنه غباء مطلق وضياع للوقت والجهد ... ومزيد من الخسائر .. ونواح وأنين ..! وإضافة سبب جديد للحزن المستديم.

قرأت بدقة تامة تاريخ الفرس والمنطقة التي يقطنونها بشكل تفصيلي، والشعوب الذين يحيطون بهم ومن الشمال والشرق شعوب تركية (ترك، آذريون، تركمان، أوزبيك، كازاك)، والأرمن، وفي الجنوب: البلوش، والبشتون، (العناصر المكونة للشعب الأفغاني). والعلاقات بين الفرس (المكون القيادي في إيران) وشعوب هذه المنطقة والتي لم تكن يوماً على ما يرام، ولم تشهد سلماً دائماً وتعاوناً في هذه المنطقة التي هي أحوج ما تكون للسلم والأمن والتعاون.

 

--

 

وفي البحث عن تاريخ إيران، نجد أن أسم (إيران) هو حديث (منذ عام 1935)، لما كان يطلق عليه أسم بلاد فارس، وإيران أسم فني يعني الآريون ولكن ليس جميع شعوب إيران آرية، ولا توجد منطقة جغرافية محددة أسمها إيران، والفرس ليسوا أكثرية مطلقة، وهناك ثقافات عريقة لشعوب أخرى في المنطقة التي يطلق عليها إيران. مع العلم أن الفرس يزعمون أن كل هذه الشعوب هي فارسية : العيلامية، الساسانية، البارثية، ولا يعرف ما إذا كانت لها لغاتها الخاصة أم لا ..

وبلاد فارس، خاضت منذ القدم، حروب وصراعات (أسبابها كثيرة) وبلغ بهم الطموح إلى دخول آسيا الوسطى، والاحتكاك بحضارة الاغريق التي كانت تتأسس على أرض اليونان، شبه الجزيرة الهيلينية وجزر بحر إيجة والمتوسط، ولكن هذه المغامرة انتهت بسلسلة من الخسائر، ردت إلى أراضيهم، ولكن الأغريق لم يكتفوا بصدهم، والأنتصار عليهم في آسيا الصغرى (تركيا) بل ولاحقوهم، حتى انتصروا عليهم في معركة ساحة على أرض العراق (في سهل أربيل)، في معركة كبيرة فاصلة أطلق عليها معركة (غوغميلا ــ  Gaugamela ) ثم لاحقوهم إلى أرض فارس ويددوا هناك فلولهم وكذلك دولتهم، وأقاموا دولة هيلينية في بلاد فارس، وبعد وفاة الاسكندر المقدوني، تأسست الدولة السلوقية  خلال قرنين (الثالث والثاني ق.م). ثم كانت هناك دولتان فارسيتان : البارثيين، والساسانيين، حتى الفتح الإسلامي 651 . فخاضوا معاركهم مع المسلمين، وفي العصور اللاحقة كانت صراعاتهم تتركز مع العرب قبل وبعد الإسلام، ثم مع الأتراك العثمانيين، (وغيرهم) فدارت رحى معارك كثيرة.

 

 

 

وهذا البحث نركز على تلك الحروب التي دارت على أرض العراق، مع العرب المسلمين، ومع العثمانيين، والعراقيين، وهي حروب كثيرة، إلى عدد لا يحصى من الصراعات والاشتباكات مما تطلق عليها معاهد السلم والأمن " أشباه الحروب " (war-like condition) وقد نلاحظ أن لحروب الفرس في العراق لها طابع لها صفة الهزيمة الساحقة، بدرجة يتقرر على أثرها غالباً مصير الدولة الفارسية.

 

من المؤكد أن للفرس أسبابهم العميقة في أن يكون العراق خاصة (وغير العراق عامة) هدفاً لأطماعهم، والأطماع هي ليست كما يعتقد في التحليل السطحي، هو إقامة دولة كبيرة، نعم هذا كان الهدف منذ أقدم العصور وقبل أن يكون هناك سنة وشيعة وعرب وإيرانيون (قلنا أن كلمة إيران لم تكن موجودة)، التوسع شرقاً (بالتحديد) هو مبدأ تقوم عليه دولة الفرس في الوصول إلى الأنهار والمضائق والبحر المتوسط، فإيران (الفرس) يجدون أنفسهم بين فكي كماشة  .. ويشاء قدر الفرس أن يكونوا جغرافياً، بين أمتين قويتين، لها تاريخ وتراث وثقافة : العرب والترك ... والفرس يجدون في أنفسهم مستحقات أمة عظمى، وأن تكون هذه الأمة هدفها التوسع .. درءأ لمخاطر التمزق الداخلي تجمع الشعوب الغير قائم على مبدأ، أو معطى تاريخي (جغرافي، قومي، ديني).. وهذا مدخل لدراسة كبيرة، ويركز بحثنا هذا على حروب الفرس في العراق.

 

والعقل السياسي الفارسي محكوم بالتطلع والاستيلاء على الغير وهذا الأمر أبعد من العداء الفارسي / العربي، وأبعد من الإسلام وانتشاره في خلف زاغروس، وملالي أيران اليوم يضعون نوايا العدوان والتوسع بظهر الدين، أو الانتقام من الفتح الإسلامي، ولكن قراءة بسيطة وسطحية للتاريخ تظهر زيف هذا الزعم، الفرس يفعلون هذا لدواع وأسباب الأمن القومي (لا نناقش صحتها أو خطأها) لا للدين ولا للثأر من العرب، فهذه كلها مزاعم تدحضها وقائع التاريخ المادية.فلنأت إذن على المعارك الحديثة ، منذ العصر الإسلامي فصاعداً.

 

يمكن تسجيل معركة ذي قار وهناك تفاوت في سنة حدوثها ولكن من المرجح أنها حدثت في بداية البعثة النبوية 600 ميلادية، لأسباب سياسية هي أن العرب في وادي الرافدين بدؤا يتطلعون إلى دور أخوانهم في نجد والحجاز، وإلى الدعوة، والأنباء الأولى لإقامة الدولة الإسلامية، وكما طرح انتصار العرب في ذي قار هدف فتح العراق في مقدمة أهداف الدولة الإسلامية، لذلك، فإن أنتصر العرب في ذي قار تحدث عنه الرسول الكريم بقول " هذا يوم أنتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا " .

 

الأجواء السياسية للمعركة :

كان العرب في العراق وسورية متفرقين مشتتين، بين قوتين الدولة العظمى الرومية، والفرس، وكان الغساسنة في بلاد الشام، والمناذرة في بلاد الرافدين، كل طرف منهم يحاول الحصول على مكاسب على حساب الطرف الآخر، استناداً واعتماداً على القوى التي يحتمون بها، وكانت القوى الدولية بدورها يسرها هذا التمزق لتستفيد من عرب العراق ككيان وسادة ناقص السيادة بينها وبين الروم، فيما يستغل الروم الغساسنة كدولة وسادة بينها وبين الفرس بلاد الرافدين، وهكذا كانت تدور صراعات لا يستفيد منها العرب، بل كانت تدور لصالح القوى المحتلة.

 

والفرس من أجل أن بستحكموا بالموقف في بلاد الرافدين، أتبعوا " سياسة فرق تسد " فأخذوا يقربون قبائل عربية ويغدقون عليها، ويعرضون مذهبهم " المزدكية "، وتمكنوا بأتباع سياسة الترهيب والترغيب من كسب بعض الموالين لهم من القبائل  العربية (وهي سياسة تتميز بالكسب السريع المؤقت، ثم فقدان المكاسب بسرعة مماثلة). ولكن قادة القبائل ضاقوا ذرعاً بالغطرسة وبإجراءات الإدارة الفارسية التي كانت تنهب البلاد وتظلم السكان، وأبتدأ مسلسل المناكفات، وحاول الفرس ارغام العرب أنهم تحت السطوة والسيطرة، وهذا كان يقابل بالإذعان حيناً والرفض السلبي أحياناً، وتراكم السخط يوصل للثورة ... وبصرف النظر عن الأسباب والتفاصيل، فإن لحظة الصدام المسلح وهي مرحلة تتجاوز السخط، والرفض، وعدم التعاون، قد حلت وفي المعركة تمكنت القبائل العربية بقيادة المثنى بن الحارثة الشيباني، من كسر شوكة الفرس، الذين وإن لم يغادروا العراق نهائياً، إلا أن نفوذهم تقلص بدرجة كبيرة، بنتيجة معركة ذي قار، ومؤشراً على ابتداء مرحلة النهوض المعادي للفرس بتقدم الدعوة الإسلامية وهيمنتها على شبه الجزيرة العربية.

 

إذا كانت المعارك الحربية تقاس وتحسب بنتائجها السياسية، فمعركة ذي قار بهذا المعنى كانت تنطوي على أهمية بالغة ونتائج ذات أبعاد قريبة وبعيدة. فعلى صعيد النتائج القريبة، كانت بداية نهاية الوجود الفارسي في العراق ، وهو وجود يفتقر إلى أسس وجذور هو ما يجعل وجوده يتسم بالقلق والاضطراب  وصعوبة استيلاءهم على العقل والوجدان العربي حتى في مراحل قبل الإسلام، وصعوبة تجاوزهم لعقبتين رئيسيتين :

عشق العرب للغتهم ومنها يتفرع ولعهم في فنون اللغة : الشعر، النثر، الجناس، الطباق، وفن الكلام، والرواية، ونقل الأخبار. وساهمت اللغة في تعميق  الوحدة الاجتماعية والسياسية، وقادت إلى أن تصبح اللغة العربية مؤسسة من مؤسسات الوجود العربي المميز.

أعتزاز العربي التقليدي بأنتماؤه القبلي (العشائري) وقد تكرست عبر العصور لتصبح جزء من المنظومة الدفاعية الذاتية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، منظومة تمثلت بممارسات وتقاليد وقيم التي تمارس في مضيف القبيلة، وهي أداة لاستحصال موحد الأراء حول الموضوعات المطروحة، ولهذه جانبها الإيجابي المتمثل كجدار مصد لمحاولات التسللل إلى المجتمعات العربية. ورغم أن ثقافة العشائر لا تعتبر انغلاقاً، بل هي منفتحة على وافدين كثر إلي البلاد العربية.

 

وهذه جميعها قبل أن بزوغ فجر الإسلام الذي عزز الهوية السياسية والثقافية، وأوجد نظرية سياسية متقدمة وهي الولاء للدولة الإسلامية، وهذه ستكون في المراحل اللاحقة (بعد فتح مكة وتوحيد شبه الجزيرة العربية) العنصر الأهم في أساس بناء الدولة العربية الإسلامية، لتتكامل المنظومة في جانبها الثقافي / الاجتماعي / الإيماني ــ الاعتقادي. وهي عناصر ستبلور خصائص البلاد العربية : الزراعة ( وادي الرافدين ــ النيل)، والتجارة والترانزيت، استخراج اللؤلؤ في الخليج. وهي سمات منحت المجتمع العربي ملامحه وخصائصه الدقيقة المتميزة. جعلت من الصعوبة على قوة أجنبية أن تفرض هيمنتها الثقافية أولاً، بما في ذلك ثقافات الدول الاستعمارية الكبرى.

 

لهذه الأسباب لم يتمكن الفرس مطلقاً من تأسيس تواجد مقبول من أهل البلاد، وعرب العراق وإن كانوا على غير دين الإسلام، إلا أنهم لم يتقبلوا الديانة المزدكية، كما لم تنتشر الزرادشتية، ولم تصبح مذهبا نافذا برغم سياسة الترهيب والترغيب التي مارسها الفرس. ولما بلغ التناقض أشده، انفجرت على شكل انتفاضات مسلحة كانت معركة ذي قار إحدى ذراها، وسوف تتواصل بعد الفتح الإسلامي بمعارك عديدة تنهي بتحرير العراق على يد القبائل العربية العراقية المتلاحمة مع الجيش الإسلامي القادم من شبه الجزيرة العربية.

 

ــ ذات السلاسل : 12 هـ / 637 م

جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / الفرس بقيادة هرمز الذي قتل في المعركة.

 

ــ المذال : 12 هـ / 637

جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / خسر الفرس 30 ألف قتيل في المعركة.

 

ــ الولجة : 12 هـ / 637 م

جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / الفرس بقيادة  الأندزغر (مات عطشاً).

 

ــ اليس : 12 هـ / 637 م

جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد / الفرس بقيادة بهمن جاذويه ، خسروا 70 ألف قتيل.

 

ــ القادسية : 15 هـ / 636

جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص / الفرس بقيادة رستم (قتل في المعركة). كانت معركة حاسمة أدت نهاية النفوذ الساساني في العراق.

 

ــ بهشير : 14 هـ / 639 م

جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، وبأمرته القائد زهرة بن حوبة.

 

 

ــ المدائن : 16 هـ / 637 م (على نهر دجلة)

جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، جيش الفرس يقيادة شهبان وهثان.

 

ــ نهاوند (فتح الفتوح) : 21هـ / 642 م

جيش المسلمين بقيادة النعمان بن مقرن (أستشهد خلال المعركة) / جيش الفرس بقيادة الفيروزان (قتل). وبانتصار المسلمين، انتهى حكم الدولة الساسانية في إيران، بعد أن دام حكمها 416 عاما.

 

والفرس لم يدخلوا بغداد وهذه ملاحظة تستحق الانتباه ...! إلا كحاشية للمغول في 1258م، وكمتواطئين، بمساعدة الوزير العلقمي الذي كان يراسل المغول الذين كانوا على الوثنية، ليدخلهم إلى دار الخلافة، والمغول لم يحترموا فعلته هذه، فصرفوه بقليل من الاحترام بعد أن أرضوه بدراهم معدودة. ولكنه عاش بقية عمره منبوذاً. وهذه عبرة تستحق التأمل.

 

والعراق بسبب مزاياه السياسية والاقتصادية والثقافية، أصبح بعد 1258 ملعباً لإرادات قوى أجنبية وساحة منازلات بينها. فالشعوب التركية تمكنت من تطوير أداتها السياسية من قبائل تركية، نجحت بتأسيس كيانات سياسية كالسلاجقة، إلى دولة مركزية بقيادة آل عثمان، الذين تمكنوا بالدهاء والحنكة السياسية، واستخدام ناجح للقوة العسكرية، وتأسيس سلطنة كمواصلة للخلافة الإسلامية بعد سقوط الدولة والخلافة العباسية.

 

تأسست الدولة الفارسية الحديثة عام 1501 على يد الصفويين المنحدرين من أرومات مختلفة : آذرية / تركية، وكردية وتركمانية، وأختلطوا بالشركس والجورجيين، واليونانيين. وحين أزاحوا السلالة التيمورية بسهولة نسبياً، لضعف ملوكهم، ولكثرة الانشقاقات بينهم. وكان الأتراك العثمانيون في اقصى درجات قوتهم،  يتقدمون غرباً  في اوربا ويكسبون مواقع جديدة. والبلاد التي كانت تحت سيطرة الفرس  كانت ترقب الانظمام  إلى دولة الخلافة، فأدرك الصفويون الطموحين  ضرورة توحيد البلاد تحت عصبية  تتمكن من الوقوف بوجه العثمانيين، ولكي لا يدينوا بالولاء للخلافة الإسلامية، فأعتبروا أن المذهب الشيعي هو القائد للدولة، وأخذوا يفرضون التشيع بالقوة والإرهاب، على مواطنيهم، ومواطني الدول التي يدخلونها،  لذلك باشروا بحملات تطهير طائفية وعرقية، وفعلوا كل ما  يقضي على  احتمال أن تكون بلاد فارس جزءاً من الامبراطورية الإسلامية.

 

وكان الاتراك العثمانيون يرون في أوربا ساحتهم الرئيسية وميداناً لتوسعن السياسي والديني، ولم تكن البلاد العربية والإسلامية في حساباتهم التكتيكية والاستراتيجية، إلا أن الفرس أعتبروا أن خصوم العثمانيون حلفاء لهم، وهكذا مثلوا الاحتياطي الجاهز في خطط الأوربيين وحتى روسيا القيصيرية، لذلك ابتدأت المناكفات، تتحول إلى صراعات مسلحة، فتحول العراق خاصة إلى ساحة صراع مسلح، لذلك دار العديد من المعارك العسكرية الصغيرة والكبيرة، كانت الغلبة فيها للعثمانيين على الأرجح،  إلا أن الإجمالي العام للمعارك كان أن أخرج العثمانيون إيران من العراق..

 

عام 1535، بلغ مسامع السلطان سليمان القانوني ما يفعله الفرس في العراق، فقرر على التدخل وإخراج الفرس من العراق، فدخل الجيش العثماني العراق من جهات تبريز، ودخل بغداد بدون مقاومة، ومن ثم أحتلوا الموصل ثم سائر المدن العراقية، ، وزالت دولة الصفويين في العراق بعد أن هيمنوا عليه تقريباً لمدة 25 سنة.

 

ودارت بين الأتراك العثمانيون والفرس معارك صغيرة وكبيرة، وفي إجمالها انتهت سيطرة أو نفوذ الفرس على العراق، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وطالما كان العراق تحت النفوذ البريطاني، تجنبت (إيران) أي محاولة لتعكير الأمن والسلم، ولكن ما أن فقدت بريطانيا نفوذها السياسي على العراق مع ثورة 14 / تموز / 1058، ابتدأت إيران دون توقف بإثارة المشاكل من كل نوع وصنف، وهذه ملاحظة تستحق الأنتباه والتسجيل ....!

 

يسجل بعض مسجلي التاريخ الكرونولوجي، أن الصراع العثماني الفارسي هي حرب واحدة بأسم:  الحرب الفارسية العثمانية (1623 ــ 1639)، وهي صراع حاولت فارس أن تهيمن على العراق، ولكن ما كان يحول دون سيطرتها التامة، أنه كانت غير مقبولة من الشعب العراق، لأسباب عديدة، في مقدمتها الأساليب الفارسية الهمجية الوحشية، وفي إرغام الناس على اتباع التشيع، ولولا أن العثمانيون كانوا يعتبرون أوربا هي ساحتهم الأساسية، لكانوا احتلوا بلاد فارس بأكملها.

 

وفي البداية كانت مطامع الفرس في أرمينيا، والتنافس الفارسي / العثماني ابتدأ منذ عام 1514 بصورة اشتباكات متواصلة في القوقاز، وتقع جبال القوقاز السفلية في منطقة الشرق الأوسط الكبير. حيث تعتبر هذه المناطق الحد الفاصل بين أوروبا وآسيا.

 

ويعد القوقاز من أكثر المناطق تنوعاً ،م الذي يضم أمم وقوميات صغيرة ومن الناحيتين اللغوية والثقافية على وجه الأرض. يتألف القوقاز من القوميات : الجورجية والأرمن والأبخاز، وأوسيتيا. أما القوقاز الروسي فيتألف من كراسنودار كراي، ستافروبول كراي، أديغيا، قراتشاي، تشيركيسيا، قيردينو، الشيشان، إنغوشيا، أوسيتيا انغوشيا، أوسيتيا الشمالية، وداغستان.

وتتنافس روسيا مع الفرس والعثمانيين الأتراك في الهيمنة على المنطقة منذ ذلك الحين وإلى الآن، والأتراك العثمانيين كانت القومية التركو مغول (Turco mongol) والديانة الإسلامية، عاملاً يشد الشعوب التركية منذ ذلك الوقت وحتى العصر الحالي  (رابطة الشعوب التركية): تركيا، أذربيجان، أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان قيرغيرستان، قبرص.

 كما تمكنت روسيا منذ العهود القيصرية من فرض وجودها السياسي والثقافي (اللغوي والديني المسيحي) على بعض مناطق القوقاز، ولاحقا في عهد الاتحاد السوفيتي أضافت عاملاً إلى عناصر السيطرة على المنطقة بفعل هيمنتها السياسية (النظام الاشتراكي). فيما لم تنجح إيران في مد إشعاع سياسي أو ثقافي أو ديني في المنطقة، لذلك كان سبيلها لفرض وجودها هو إثارة الصراعات المسلحة، وإقامة التحالفات مع جهات من خارج المنطقة.

كانت معركة جالديران 1514 في أقضى شرق الأناضول، قد وضعت نهاية للمعارك الفارسية / العثمانية في هذه الأرجاء، ولكن المعارم نشبت من جديد  عام 1578، وأنتهت بتوقيع معاهدة اسطنبول عام 1590 لتكرس الانتصار العثماني وأحتل العثمانيون جورجيا ويرفان، وحتى العاصمة الصفوية السابقة تبريز. ولكن الفرس ما زالوا يضعون أنظارهم على العراق، وقام العثمانيون بأحتلال بغداد عام 1534، وتكرست أنتصاراتهم بمعاهدة أماسيا عام 1555.

ولكن الفرس لا يحافظون على اتفاقاتهم وتعاهدهم حين يجدون من العثمانيين تهاوناً، أو انشغالاً في مواقع أخرى، أو وجود تمرد وأرتباك ضمن الدولة، ولهذا قام الشاه الصفوي عباس بأحتلال بغداد عام 1624 بعد أن تذبذبت العلاقة بين الحاكم العثماني لبغداد مع العاصمة أستانة، وأقام فيها المجازر لسكان المدينة عازماً على إحداث تغيرات ديموغرافية (لاحظ تشابه الأساليب).

لكن العثمانيون لم يكونوا ليسمحوا للفرس انتهاز الفرص، فتواصل القتال، والمعارك كانت تنتهي على الأرجح لصالح العثمانيين، حتى عقدت اتفاقية قصر شيرين ، المبرمة في 17 مايو ــ أيار / 1639، والتي قضت بالتسوية النهائية للحدود العثمانية الفارسية، إلا أن الحدود التي قضت بها المعاهدة لا تزال حتى يومنا هذا تشكل الحدود الغربية لإيران مع العراق وتركيا . وفي العراق أستقر الموقف على ذلك حتى دخول الإنكليز في الحرب العالمية الأولى.

وقد أستغلت إيران بأختلاف حكامها وأنظمتها، التوسع، والسيطرة على شيعة العراق والعرب بصفة عامة، وحين حاولت إيران مد نفوذها الديني نجحت جزئياً حين تمكنت من الهيمنة على قيادة المذهب الأثني عشر (المرجعيات)، وجعلته المذهب الأكثر رواجاً (بوسائل سياسية)، مقابل المذهب الشيعي الاسماعيلي، والمذهب الشيعي الزيدي، بيد أن هذه المحاولات لم تنجح كلياً، إذ أصطدمت أيضاً بالقضية القومية، ففشل فشلت كبيرا في أذربيجان الشيعية / التركية، ولم يحقق النجاح التام في البلاد العربية، أما وبعد تجربة العراق وسورية ولبنان فهذه السياسة في طريقها إلى الفشل التام.

 

المركز العربي الألماني

برلين

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

امبراطورية كارل الكبير

 

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

كانت الدول الألمانية التي تأسست في غضون العملية التاريخية " تنقل الشعوب " على ضفاف البحر المتوسط، سرعان ما تساقطت،  مقابل أن الفرانكيين الذين كانوا قد استوطنوا في غرب أوربا، نجحوا بتأسيس امبراطورية قوية، ثم انتموا للديانة المسيحية، ودافعوا عن أوربا ضد الجيوش العربية، التي زحفت إلى أوربا عبر جبال البيرنيه في مطلع القرن الثامن، بعد أن احتلوا أسبانيا.

 

وكان كارل قد نجح في تجميع جميع الأصول الجرمانية في دولة واحدة والتي تشكل اليوم : فرنسا، ألمانيا، ونصف إيطاليا، وأصبح فرنسا القوة العالمية العظمى الثالثة بعد أمبراطورية خليفة بغداد، والامبراطورية البيزنطية.

 

" كان كارل رجل دولة، وطويل القامة، ماهر في الصيد والسباحة، وظل حتى أواخر عمره بصحة جيدة. وكانت طبيعة حياته بسيطة، معتدلاً في طعامه وشاربه، وكان يرتدي اعتيادياً رداء مما تخيطه نساء بيته، معطف صوفي بألوان،تقيه في الصيف من الأمطار، وفي الشتاء رداء من الفرو. وكان الملك يرفض الثياب الأجنبية حتى وإن كانت جميلة جداً. وكان فقط يظهر بمظهر عظيم وفخم في أيام الأعياد والمناسبات.، فكان يضع التاج الذهبي المرصع بالأحجار الكريمة الثمينة على رأسه.

وأصعب المعارك كانت تلك التي خاضها كارل ضد السكسونيين،، والسكسونيين كانوا ما يزالون وثنيين ويغيرون دائماً على المناطق الحدودية للفرانكيين. وفي عام 772 بدأ كارل بالاستيلاء على بلاد السكسون، ولكنه لم يحقق الانتصار النهائي إلا بعد 33 عاماً بهزيمته للملك السكسوني فيدوكيند وأخذه أسيراً. وفي غضون ذلك كان عليه أيضاً القتال ضد البافاريين والانغوباردن، الذين لم يكونوا ليستسلموا له.

 

ولكن كارل نجح في النهاية بتأسيس امبراطورية تمتد من المحيط الأطلسي حتى البحر المتوسط، ومن إيبرو حتى الألب، وفي أيام عيد الميلاد عام 800 توجه البابا في روما بنفسه تاج الملوكية.

 

وبعد وفاة كارل، تقاسم أولاده الامبراطورية، وهكذا أنفصلت ألمانيا عن فرنسا .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المركز العربي الألماني

 

برلين

 

المصدر :

Dr. Fritz Steppat, Dr. Helmut Klopffer:  Deutsch für Araber, 1958 Kairo

 

كرونا تجربة

 للحرب البايولوجية

ضرغام الدباغ

 

يتابع الناس في قارات العالم المعركة مع لفيروس اللعين كوفيد 19  المسبب لكورونا، منذ سبعة شهور، وفد حصد الوباء رسمياً نحو850,000 ألف ضحية، وأكثر من 25 إصابة (إحصائية 30 / آب /  2020 والأرقام في تصاعد مقلق، وشخصياً أرجح أن الأعداد أكثر)، وكبد دول العالم ترليونات لا حصر لها من الدولارات أو اليورو، ومع أن الأنباء تشجع على توصل الهيئات العلمية لأختراع عقار مضاد، إلا أني أعتقد أن شهورا طويلة ستمر حتى يصبح العقار بمتناول الجميع بيسر لا سيما في البلدان النامية.

وسمعنا أيضاً وقرأنا سيناريوهات كثيرة، (البعض منها من مواقع سياسية رفيعة) أن الفايروس منتج في مختبرات دولة عظمى تتبادل التهديدات فيما بينها، وتضع صورة لكيفية إنتاجه، وكيفية إرساله ليتغلغل في المجتمعات، ووضعوا لكل مفردة صغيرة تفسيراتها .. حتى تحتار من تصدق ...

ولكن ... دعونا نصدق الافتراضات أن الفايروس كوفيد 19 هو منتج، وبالتالي فهو (أحد) الأسلحة البايولوجية، (قلنا أحد) ... ودفعت القوة العظمى (س) على القوة (ج) أو بالعكس فليس هذا ما يهمنا اللحظة، بل ما يهمني تأكيده الآن هو :

أن الطرف الذي بادر باستخدام كوفيد 19 كسلاح بايولوجي، لم يستطع أن ينج بنفسه من الآثار الفظيعة ، سواء نتيجة هجمات مضادة، أو لسهولة تفشي الفيروس.

أن النتائج المدمرة للسلاح البايولوجي الذي (أستخدم) لأول مرة، لا يقل في حجم أضراره عن السلاح النووي.

أن السلاح البايولوجي كوفيد 19 لا يهدم المدن، ولكن الإعمار (إعادة ما تخرب) لم يعد في عالم اليوم مشكلة (في ظل التطور الهندسي الكبير، والاستخدام المكثف في تكنولوجيا البناء والتشييد)، فهناك دولة كانت تحسب بين البلدان النامية شيدت مستشفيات عملاقة (بحجم مدن صغيرة) خلال أيام أو أسابيع.

الدول العظمى نفسها غير قادرة على استئصال الوباء بسهولة رغم التقدم العلمي الكبير، ربما أكثر ما يمكن أن تفعله، هو إبطاء سرعة سريان الفيروس.

أثبتت تجربة كورونا، افتقار دول عظمى (رأسمالية خاصة) أن قاعدتها الطبية رخوة جداً، وغير مؤهلة بتاتاً على خوض حروب بايولوجية (مثل أميركا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا).

الأسلحة البايولوجية / الجرثومية، سهلة الإنتاج، ولا تحتاج لصواريخ بالستية لتحملها، ولا لقاذفات قنابل عملاقة حكر على الدول العظمى، بل يمكن نشرها بوسائل بسيطة وبدائية ويصعب كشفها. وهي ليست باهضة الثمن، وهي كالأسلحة الكيمياوية تعتبر أسلحة الفقراء.

إذا تأملنا هذه المعطيات، وافترضنا أن الاتهامات المتبادلة لها نصيب من الصحة، فإن هذه التجربة ينبغي أن تدفع القوى العظمى، إلى إعادة حساباتها كلياً، أي حرب شاملة لا يستبعد استخدام السلاح البايولوجي فيها، بل هي المرجحة، لأنها سلاح نظيف لا يخرب ولا يدمر ولا يسبب الحرائق المرعبة، يلتهم المجتمعات بصمت كقاتل مهذب، يغتال بسلاح كاتم صوت. ولا تستطيع أن يدول أن تجعل نفسها بمنأى عن آثاره المهلكة.

وإذا واصلنا الافتراض، أن السلاح البايولوجي يمكن أن ينتشر بسرعة (أكبر من سرعة انتشار السلاح النووي اليوم نحو 10 دول في العالم)، فإن مسألة الحفاظ على السلم العالمي ستكون مسألة تفوق أهمية امتلاك الدبابات والطائرات والصواريخ وأحجام جيوش جرارة.

سيصبح واضحاً وجلياً ضرورة قيام منظمة أمم متحدة جديدة ومنظمات دولية (بكافة تخصصاتها) جديدة تعمل بموجب مبادئ جديدة، من أهمها لا يستطيع أحد أن يتحكم بأحد، إلغاء مبدأ استخدام القوة، والإنهاء التام للأسلحة النووية. ومن أولى مبادئها الجديدة إلغاء فكرة دول متقدمة عظمى وأخرى صغرى.

إن العالم يضيق بسرعة بحجم سكانه، وأن هناك مخاطر مستترة لا تقل خطورة عن كوفيد 19، تتمثل بالتلوث البيئي ونتائجه المهلكة، ومنها اختفاء دول ومدن وعواصم كبيرة. والتصاعد في درجات حرارة الكوكب الأرضي، وامتلاء الفضاء الخارجي بالأقمار والكواكب الصناعية والمركبات والنفايات، وجميعها تنطوي على أخطار جسيمة لشعوب الأرض.

 لابد بأهمية حاسمة أن يكون من واجبات الاجتماع الدولي الجديد اعتبار الأمن القومي لكافة الأمم بمستوى واحد من الأهمية، والمناقشات في متفرعات هذا العنوان يكون من خلال احترام خصائص كل أمة، وحاجاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

بأختصار شديد، هذه أبرز فقرات ورقة أعمال أي مؤتمر يهدف لمناقشة جدية لوضع حد للمخاوف الجدية على مستقبل الجنس البشري.

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا