الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا

  

 

الفريق بـكـــر صــدقــــي يقود اول انقلاب في العراق والوطن العربي

سيف الدين الدوري

انخرط معظم الضباط العراقيين المتخرجين مع زملائهم العرب في جمعيات تهدف الى انتزاع الحكم الذاتي للشعوب العربية وقد ازداد نشاطهم عندما خاب املهم في جمعية الاتحاد والترقي التي مارست سياسة البطش ضد الجمعيات السرية العربية خاصة بعد اطاحتها بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1908

ومع احتدام الحرب العالمية الاولى ودخول تركيا الحرب الى جانب المانيا وجد الضباط العراقيون الفرصة قد واتتهم للتخلص من الهيمنة العثمانية ففر نفر منهم من الجيش العثماني والتحقوا بالثورة العربية التي اعلنها الشريف حسين شريف مكة ضد الاتراك بالتحاف مع البريطانيين حين سهلوا لهم المهمة في دحر الاتراك.

وبعد ان وضعت الحرب اوزارها واقتسمت الدول المنتصرة – انكلترا وفرنسا – البلاد العربية بموجب معاهدة ( سايكس – بيكو ) كان العراق من حصة بريطانيا وحالما نصب الامير فيصل ملكا على العراق عاد الضباط العراقيون الى بلدهم مع فيصل وساهموا في بناء الدولة الحديثة وتشكيل الجيش العراقي الذين كانوا عموده الفقري . فقد لعب بعضهم دورا متقدما في تاسيس الدولة الجديدة واحتلوا المسرح السياسي لاكثر من ثلاثة عقود تشكلت خلالها ثلاثون وزارة اشترك في رئاستها ثلاثة عشر شخصا سبعة منهم من الضباط العراقيين الذين حاربوا العثمانيين الى جانب الحلفاء مع شريف مكة وهم عبد المحسن السعدون وجعفر العسكري وياسين الهاشمي ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت الايوبي وطه الهاشمي.

ومن هنا ظهر الجيش كعامل مهم في السياسة العراقية وخاصة عندما قضي على عصيان الاشوريين عام 1933 بقيادة بكر صدقي قائد المنطقة الشمالية انذاك فنال الجيش احترام الشعب وتقديره واعتبره الحارس الامين لاستقلال العراق ورمز سيادته الوطنية. ومن هنا شعر الضباط باهميتهم السياسية وقدرتهم على التاثير في مجرى الاحداث عندما اكتشفوا بعد ذلك انهم استغلوا ببشاعة حينما استخدمتهم السلطات الحكومية كجهاز بوليسي تسخره اهواء السياسيين المتناحرين على السلطة وربط هؤلاء العسكريون مصيرهم ببعض السياسيين القدامى الذين عرفوا باتجاهاتهم القومية امثال ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني ولم تتبلور في اذهانهم فكرة استخدام الجيش لقلب نظام الحكم الى ان تمكنت جماعة الاهالي من اقناع الفريق بكر صدقي بالقيام بالانقلاب عام 1936 .

ولد بكر صدقي بن شوقي العسكري في بغداد 1890 وينتمي الى العائلة العسكرية المعروفة التي انجبت جعفر العسكري  اول وزير دفاع في العراق الحديث. ودرس في الاعدادية العسكرية ثم شد الرحال الى استنبول وتخرج ملازما ثانيا خيالا في مدرستها الحربية عام 1908 وخدم في ادرنة لمدة سنتين ونصف، واشترك في حرب البلقان ثم انتمى الى مدرسة الاركان بالعاصمة التركية، فتخرج فيها سنة 1915 وقد خدم في الجيش التركي بصفة ضابط ركن الاستخبارات في المقر العام في استنبول ثم في ( جناق قلعة) وبعد ذلك في الفرقة الخمسين فالثامنة والاربعين

وبعد عقد الهدنة انتسب الى الجيش السوري في حلب برتبة رئيس ثاني( نقيب)  سنة 1919 واشترك مع تحسين علي والضباط الاخرين في احداث دير الزور والرقة ، ثم مضى الى دمشق وعاد منها الى بغداد وانضم الى الجيش العراقي برتبة رئيس( رائد) في كانون الثاني 1921، وخدم في شعبة الحركات، وحاضر في المدرسة العسكرية، واشنرك في معظم الحركاات التاديبية كضابط ركن او آمر رتل. وقد اوفد الى الهند حيث اكمل دورة الضباط الاقدمين في بلغوم ثم تدرب في كلية الاركان في كامبرلي بانكلترا 1932ثم تم تعيينه آمرا للمنطقة الشمالية في كانون الثاني 1931 .ثم نقل آمرا الى المنطقة الشرقية في تشرين الثاني 1933 قائدا للفرقة الثانية ورفع الى رتبة فريق في نيسان 1936 .

على اثر انفصال العراق عن الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الاولى واصبح تحت الانتداب البريطاني بدا العراقيون يقاومون الاستعمار الجديد بكل عزيمة وتصميم. فقد قام الطلاب المثقفون بمظاهرات صاخبة ونشاط سياسي معاد للحكومة العراقية الموالية للبريطانيين وخاصة عقب توقيع المعاهدة البريطانية العراقية عام 1930 وتالفت في تلك الفترة مجموعة سياسية غير متجانسة سميت بـ (جماعة الاهالي) واصدرت صحيفة – الاهالي – في الثاني من كانون الثاني 1932 تنطق باسمها وتعبر عن اهدافها الداعية الى حقوق الشعب في الحرية والتنظيم والرفاه الاقتصادي.

وقد قادت الصحيفة خلال فترة صدورها الفكر الديمقراطي وخلقت رايا عاما بين المثقفين تبلور الى تيار سياسي متميز فقد اخذ بعض المفكرين من اعضاء الجماعة امثال عبد الفتاح ابراهيم ومحمد حديد وحسين جميل وعبد القادر البستاني يدعون الى الوطنية لا القومية وبدأت هذه الجماعة تتقرب من بعض السياسيين القدامى المتنفذين الذين عرفوا بوطنيتهم وتفتحهم وتحررهم الفكري لضمهم الى كتلتها فانتمى اليها جعفر ابو التمن وكامل الجادرجي وحكمت سليمان الذين عرفوا باستقامتهم ووطنيتهم وايمانهم بالنظام الديمقراطي وميلهم الى الاراء الحرة والاصلاح.

وقد لعبت جماعة الاهالي دورا مهما في التحريض ضد حكومة جميل المدفعي اثناء العصيان العشائري عامي 1934 – 1935 .

                               العصيان العشائري

                              ------------------

كان قد تقرر منذ بداية تاسيس الجيش العراقي ان لا يتدخل في السياسة او الصراعات الحزبية او الانتماء الى اية منظمة او هيئة سياسية . الا ان الظاهرة الخطرة التي رافقت نمو الدولة العراقية هو تدخل الجيش في السياسة وفي وقت مبكر حينما اضطرت الحكومات المتعاقبة الى الاعتماد عليه لقمع العصيان العشائري الذي كان يشكل خطرا على كيان الدولة والامن العام. فاخذت القوات المسلحة تلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية وخلق شعورا كبيرا بين مراتب الضباط باهمية الدور الذي يمكن ان يلعبوه في سياسة بلدهم اضافة الى تاثيرهم بالاحداث التي شهدها منتصف العشرينات في كل من تركيا وايران.

وقد شجع الملك غازي ورئيس الوزراء ياسين الهاشمي كقوميين عرب القوات المسلحة على الاعتقاد بانها كانت تلعب دورا مهما من اجل اهداف عربية واسعة كوحدة العراق مع سوريا والكويت والدفاع عن فلسطين ونتيجة لكل تلك الاسباب اصبح الجيش بحلول عام 1936 من حيث الامكانية ممثلا هاما على المسرح السياسي وذات مكانة متميزة في احباط التمردات الشعبية والعشائرية والعرقية .

حينما استقال جميل المدفعي في 17 اذار/مارس 1935 تحت ضغط العصيان العشائري وخصومه السياسيين طلب الملك غازي من ياسين الهاشمي تشكيل حكومة جديدة .

وفي 7 ايار/مايو 1935 بدا عصيان عشائري جديد في عهد حكومة ياسين الهاشمي قام به الشيخ خوام زعيم عشائر آل زريج احتلوا خلاله المبنى الحكومي – السراي – في الرميثة وحطموا خط سكك الحديد فيها واسقطوا طائرة عراقية وقتلوا اثنين من الضباط البريطانيين مما اضطرت حكومة الهاشمي الى اعلان الاحكام العرفية في الرميثة وارسلت قوات الجيش تحت قيادة اللواء بكر صدقي الذي كان قد اشتهر بالقسوة والبطش مع الاشوريين فهاجم صدقي المنطقة والقى القنابل على قراها من الجو وقبض على الشيخ خوام وانتهت حركة العصيان بعد ان ابدت قوات بكر صدقي في الرميثة قسوة كبيرة حينما هاجمت قراها وتحطيم منازلها وقتل العديد من المواطنين دون تمييز كما عقدت محاكمات عرفية لذوي الصلة بالعصيان مما نتج عنه اعدام تسعة اشخاص من ابناء العشائر وسجن اخرين بعضهم مدى الحياة وبضغط من بكر صدقي على رئيس واعضاء المحكمة فقد حكمت على الشيخ شعلان العطية زعيم عشائر الاكرع في الديوانية واحد زعماء ثورة العشرين بالاعدام .

وقد ادت هذه الاعمال ردود فعل عنيفة لدى الاوساط الشعبية والسياسية التي عقدت اجتماعا في منزل مولود مخلص قدمت على اثره مذكرة احتجاج الى الملك غازي  على الجرائم التي ارتكبت بحق العشائر العراقية

وحينما توسعت دعوة جماعة الاهالي بدوا يفكرون في الوصول الى السلطة التي هي الوسيلة الوحيدة لتطبيق ارائهم في الاصلاح وتطوير المجتمع طبقا لما يؤمنون به. ولما كان من المتعذر تحقيق ذلك تحت ظل حكومات استخدمت كل وسائل البطش الاسكات المعارضة وسدت جميع السبل الديمقراطية امام خصومها وجماعة الاهالي بالذات للتعبير عن ارائهم والمساهمة في تسيير شؤون البلاد قررت ان تحقق اهدافها عن طريق الجيش.

كانت وفاة الملك فيصل الاول المفاجئة عام 1933 حدثا هائلا لانه لم يكمل مهمته التي اضطلع بها حينما تراس الدولة العراقية ولم يكن ولده الشاب الملك غازي في حالة يستطيع معها ان يملا الفراغ الذ ي تركه والده ومن هنا دبت الفوضى في صفوف الجيش وصار العسكر يتدخلون في السياسة مما فتح الباب واسعا لاستثمار قوة الجيش لغايات سياسية .

فقد كانت فترة حكم الملك فيصل 1921 – 1933 فترة تكوينية وبناء الدولة في تاريخ العراق السياسي كما كانت تلك الفترة مميزة حيث تم اعطاء القوى السياسية  فيها اهتامام كبيرا لتاسيس الدولة الجديدة ومؤسساتها وانشائها من العدم. فرغم العداوات التي كانت قائمة بين الفرق السياسية المختلفة فقد تمكن الملك فيصل ان ينجح في مهمته حكم البلاد ويبرهن على ان المظلة الملكية هي الضرورة الوحيدة التي تتطلبها ظروف وحاجة الجهات العراقية المختلفة .

في الواقع ان عناصر اخرى ساعدت فيصلا على تحقيق برنامجه فالقوى السياسية والدينة كرجال الدين والاكراد وحتى الجماعات المعارضة الاخرى قد تنازلوا عن كثير من مطالبهم السياسية لكي يضمنوا نشوء الدولة الجديدة وتاسيسها بروح من الوطنية . فكان الملك فيصل يعمل وسيطا او حكما بين الفئات السياسية وليس طرفا في الصراعات التي كانت تدور بينهم اذ ان الصراع السياسي بين تلك القوى والعناصر المختلفة لم يبرز الى الواجهة في عهده بل تفجر بعد وفاته التي تركت فراغا سياسيا كبيرا يضاف الى ذلك قلة خبرة وريثه الملك غازي الذي كان عمره انذاك 21 عاما فظهرت الصراعات بين القوى السياسية والعشائرية والعسكرية كما اصبحت العناصر الوطنية المتطرفة اكثر تنظيما واكثر تاثيرا بافكار جديدة كالاشتراكية والديمقراطية والشيوعية والفاشية وكانت الحكومات المتعاقبة مستعدة وبشكل اكثر فاكثر الى اللجوء الى اعمال التسلط والفاشية ضد المعارضة وظهر ميل متزايد نحو مبدأ الحكم وحسم الامور بالقوة في السياسة العراقية وهو ما ادى بشكل حتمي الى بروز دور سياسي اوسع للجيش.

كان فيصل الاول زعيما موهوبا وله قدرات ومواهب متعددة في الملك وادارة الدولة فقد كان زعيما دبلوماسيا واداريا متمرسا اذ ان خبرته السابقة في امور التعامل السياسي خلال الحرب العالمية الاولى وملوكيته لفترة قصيرة في سوريا برهنا نفعهما الكبير في معالجة انواع متعددة من الصراعات السياسية فقد استعمل فيصل خبراته تلك بحكمة للسيطرة على العناصر المختلفة والمتصارعة في العراق . لذا كانت وفاته حدثا حاسما في تاريخ العراق الحديث فقد كان حاكما قديرا حكم العراق في ظل الواقع المتيسر ومن خلال التنظيمات الدستورية فاحدثت وفاته فراغا سياسيا خطيرا

وكان بكر صدقي قد ولد من ابوين كرديين وكان قد ابدى احيانا عواطفه نحو الاتراك ونحو الاكراد وحكمت سليمان – تركي – من اتباع مدرسة كمال اتاتورك الذي كان بكر صدقي قد خدم تحت امرته في الحرب العالمية الاولى وحبذ حكمت سليمان فكرة الانقلاب بسبب طموحه السياسي واراد ان يكون الانقلاب العسكري فرصة تتاح امامه كما كان حكمت وبكر صدقي كلاهما يحبذان قيام دولة موحدة وطنية تحت حكم فردي على غرار النظامين السياسيين التركي والايراني او الانظمة القائمة انذاك في كل من ايطاليا واسبانيا وكانا قليلي الاكتراث بالتطلعات سواء على النطاق العربي او النطاق الاسلامي اذ انهما لم يكونا متعاطفين مع افكار القومية العربية بصورتها السائدة انذاك.

وفي هذا الجو ظهرت امام الفريق بكر صدقي مطامع كبيرة جعلته ينظر الى افق اوسع لتحقيق مآربه مستغلا غياب القيادة المدنية الحكيمة القادرة على الامساك بكل الخيوط ووضع الحلول السليمة لكل معظلة ، واطماع بكر صدقي هذه شجعته على القيام باتصالات ببعض اصدقائه ومنهم العقيد شاكر الوادي الذي صور له سهولة العمل وعظمة المجد الذي سيفوز به اذا نجح في عمله وخلف قيادة طه الهاشمي رئيس اركان الجيش الذي كان يكن له حقدا كبيرا.

اضافة الى ذلك ان سمعة بكر صدقي تعاظمت عقب قيادته الحملة ضد الاشوريين عام 1933 التي امره بها الملك غازي اثناء غياب والده خارج العراق فخلقت لدى بكر صدقي نزعة عسكرية .

لعب حكمت سليمان دورا بارزا وحيويا في اشتراك الجيش بالنشاطات السياسية فهو الذي اخبر جماعة الاهالي بان بعض الضباط ارادوا الانضمام الى الاهالي وان اخرين قد ادوا اليمين بالاخلاص لمبادىء الاهالي المتمثلة في – الشعبية - حيث اتصل بالفريق بكر صدقي قائد الفرقة الثانية اللواء عبد اللطيف نوري واقنعه بالقيام بانقلاب عسكري يطيح بوزارة ياسين الهاشمي القائمة وتؤيده بذلك جماعة الاهالي وفئات الشعب المتبرم من حكومة الهاشمي .

وقد لاقت الفكرة ترحيبا من الفريق بكر صدقي الذي كان هو ايضا متبرما وبقية ضباط الجيش بسياسة الحكومة التي استعملت الجيش الة بيدها لضرب خصومها من رؤوساء العشائر الثائرين ناهيك عن الدوافع الشخصية ورغبة الضباط في اقامة حكم عسكري قوي على غرار الانظمة السياسية التي استندت الى الجيش ونجحت في فرض الاصلاح الاجتماعي في كل من ايران بقيادة رضا شاه وتركيا بقيادة كمال اتاتورك.

لقد تعرف بكر صدقي بجماعة الاهالي في حزيران 1936 بواسطة حكمت سليمان في دار كامل الجادرجي فقد كان بكر صدقي طموحا وكان قد وضع نصب عينيه منصب رئيس اركان الجيش الذي كان يشغله طه الهاشمي.كما كان مدركا بان الجيش كان في مكانة تسمح له بان يلعب دورا هاما سواء عن طريق تاييد الحكومة او باسناده للفئات السياسية الاخرى .

كانت مطامح بكر صدقي في الواقع تتركز في توجيه ضربة تضمن للجيش بان يصبح هو الاداة المسيطرة على امور البلاد، وان تصبح قيادة هذا الجيش في يد بكر صدقي نفسه. ويبدو ان احدا من المغامرين لم يكن يتطلع في اي وقت الى الحصول على الدكتاتورية الشخصية او الرسمية. وفي شهر تشرين الاول/اكتوبر 1936 غادر طه الهاشمي رئيس اركان الجيش في زيارة الى تركيا وعهد الى بكر صدقي قائد الفرقة الثانية بان يتولى رئاسة الاركان نيابة عنه. وحدث ان هيأت المناورات التي يجريها الجيش خلال فصل الخريف في اواسط منطقة ديالى الفرصة لتكيز كل القوات العراقية المسلحة تقريبا خارج العاصمة بغداد.

حينذاك امكن ابلاغ المؤامرة التي حاكها بكر صدقي مع حكمت سليمان الى عدد من الضباط الموجودين في ( قره غان) وعلى الاخص عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الاولى ولهذا وضع القائدان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري مسودة رسالة موجهة الى الملك غازي يطلبان فيها تأليف وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان. حيث ذكر في حينه ان حكمت سليمان كان صبيحة يوم الانقلاب يحمل تلك الرسالة داخل بطانة (سترته) وكان ينتظر وهو في بيت عبد الله الصافي اليعقوبي ظهور الطائرات العراقية في سماء بغداد والقاء قنابلها عليها حتى اذا ما ظهرت والقت ثلاث قنابل على مبنى مجلس الوزراء وغيره اسرع حكمت سليمان بالذهاب الى القصر الملكي لايصال تلك الرسالة.

          ان بكر صدقي كان يعتقد ان اي انقلاب لا يمكن ان ينجح دون تاييد او غطاء سياسي مدني واقتنع ايضا انه لايستطيع تنفيذ ماربه دون تاكيد حكمت سليمان بمساندة جماعة الاهالي له وذلك لقدرتهم على التعبئة وخلق تيار جماهيري كبير داعم له .

لقد عرض حكمت سليمان الامر على جماعة الاهالي التي تضم كلا من حسين جميل وكامل الجادرجي ومحمد حديد وجعفر ابو التمن وعبد الفتاح ابراهيم وعبد القادر اسماعيل وذلك قبيل الانقلاب بفترة قصيرة وقد اعترض كل من جعفر ابو التمن وعبد الفتاح ابراهيم على فكرة الانقلاب العسكري وقال عبد الفتاح ابراهيم انه بتواجد الجيش في السلطة فقد لايكون من الممكن تنفيذ الحزب لبرنامجه الليبرالي لكن حكمت سليمان ذكر بان الجيش سيقوم بالانقلاب على اية حال وانه وافق على اشتراك الاهالي في الحكومة القادمة واخبرهم ان الجيش سينسحب من المسرح السياسي بعد الاطاحة بحكومة ياسين الهاشمي وطرح عليهم عدم تضييع تلك الفرصة النادرة للخلاص من دكتاتورية ياسين الهاشمي والقيام بالاصلاحات.

ومن اجل ضمان نجاح الانقلاب فقد طلب بكر صدقي من جماعة الاهالي كتابة البيان الاول الذي سيعلنه على الشعب اضافة الى كتابة الرسالة التي تقدم الى الملك غازي  والتي كتبها بالفعل كل من جعفر ابو التمن وكامل الجادرجي ومحمد حديد.

لقد وضع بكر صدقي في الخطط التفصيلية للمراحل النهائية للانقلاب بمساعدة اللواء عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الاولى تتضمن تحرك الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي منتصف ليلة 28/29 تشرين الاول 1936 وتبقى الفرقة الاولى بقيادة عبد اللطيف نوري شرق بغداد لتلحق بقوات بكر صدقي بعد بضع ساعات كقوة دفاعية ثانية . كما طلب بكر صدقي من صديقه الرئيس الاول – الرائد- الطيار محمد علي جواد قائد القوة الجوية بان يرسل طائرات محملة بالوقود والقنابل والمنشورات صبيحة يوم الانقلاب لالقائها فوق بغداد وموقعة باسم بكر صدقي بصفته القائد العام لقوة الاصلاح الوطني.

ففي 29/10/1936 نفذ الفريق بكر صدقي مخططه ودخل بغداد على راس القطعات التي بامرته - وكان انذاك وكيلا لرئيس اركان الجيش – والمتعاونة معه وطلب من الملك غازي اقالة وزارة ياسين الهاشمي وتكليف حكمت سليمان بتاليف حكومة جديدة واذعن الملك غازي لهذين المطلبين واحتل بعض اعضاء الاهالي مناصب فيها وتسلم اللواء عبد اللطيف نوري احد ابرز الضباط المتعاونين مع بكر صدقي وزارة الدفاع  بعد مقتل جعفر العسكري وزير الدفاع.

في هذا الوقت كان حكمت سليمان قد توجه الى قصر الزهور لتسليم الملك غازي رسالة الجيش التي اطلق عليها وسلمها الى رئيس الديوان الملكي رستم حيدر وطلب منه ايصالها الى الملك غازي ثم غادر القصر .

في صبيحة ذلك اليوم وبعد ان تسلم الملك غازي الرسالة دعا السفير البريطاني – السير ارجولد كلارك كير – لاستشارته واخذ نصيحته فاخبره السفير بان تدخل الجيش في السياسة امر سيعود بنتائج مدمرة ونصح الملك غازي بمنع الجيش من دخول بغداد وبالفعل فقد كتب الملك غازي رسالة الى بكر صدقي حملها وزير الدفاع جعفر العسكري تطلب من صدقي عدم دخول بغداد الا ان الوزير العسكري لقي مصرعه عند باب المعسكر .

                               وزارة حكمت سليمان

                               -------------------

بعد ما نصح ياسين الهاشمي الملك غازي بمقاومة الانقلاب العسكرية وجد ان الملك الذي اجابه بانه يستطيع معالجة الوضع اذا ما استقال الهاشمي الذي لم يكن امامه غير الاستقالة فقدمها فورا وقبلها الملك فورا وفوض حكمت سليمان بتاليف وزارة جديدة وكانت على النحو التالي

حكمت سليمان                         رئيس الوزراء ووزير الداخلية

جعفر ابو التمن    للمالية

صالح جبر    للعدلية

الدكتور ناجي الاصيل   للشؤون الخارجية

كامل الجادرجي   للاقتصاد والاشغال العامة

عبد اللطيف نوري    للدفاع

يوسف عز الدين        للمعارف

اما بكر صدقي فرغم انه كان القائد العسكري للانقلاب فانه لم يتول اي منصب وزاري بل احتفظ بمنصب رئيس لاركان الجيش

اما عبد القادر اسماعيل البستاني وعبد الفتاح ابراهيم فقد اعلنا عدم قبولهما اي منصب وزاري لانهما كانا ضد مبدأ تدخل الجيش في السياسة وتغيير السلطة في انقلاب عسكري .وقد انهى عبد الفتاح ابراهيم علاقته مع زملائه حين سلمهم مذكرة تنبأ فيه قائلا( انكم حطمتم حركتنا عندما مكنتم الجيش من حيازة السلطة ولسوف تدفعون ثمن ذلك)

لقد وافقت جماعة الاهالي على الاشتراك في الانقلاب على شرط ان يعود بكر صدقي وقطعاته العسكرية الى ثكناتهم بعد نجاح الانقلاب وسقوط حكومة ياسين الهاشمي كما كانوا يعتقدون انه في خضم تلك الظروف ورغم سنين من الجهد ورغم نمو وتطور خبراتهم السياسية فقد وجدوا في اواسط الثلاثينات في حالة من الياس والاحباط ازاء الممارسات الفعلية الى حد انهم كانوا على استعداد للاقدام على التورط في اي انقلاب عسكري وهو اسلوب غريب عن مبادىء الديمقراطية التي امنوا بها كوسيلة لبناء عراق حضاري قائم على العدل والقانون والديمقراطية . كما اعتقدوا ان الانقلاب العسكري هو الاسلوب الاسرع والاكثر جذرية لتحقيق اهدافهم الوطنية الثابتة في الاستقلال وانتهاج سياسة داخلية تقدمية  وبالفعل لم يتدخل بكر صدقي ولا احد من ضباط الجيش في امور الحكومة خلال الاشهر الاولى لوزارة حكمت سليمان وترك بكر صدقي الشؤون المدنية الى رئيس الوزراء بينما ركز هو على دوره كرئيس لاكان الجيش ولكنه بعد مرور ما يقارب من سبعة اشهر على الانقلاب ازداد تدخل بكر صدقي في شؤون الوزارة حيث انه صار يحضر جلسات مجلس الوزراء وبدأ يوصي بمرشحين لوظائف حكومية هامة .

كان الحزب الشيوعي اول من ايد انقلاب بكر صدقي فاصدر بيانا في اول تشرين الثاني 1936 جاء فيه( ان الانقلاب الكبير الذي جرى باتحاد جيشنا الباسل وجماهير الشعب على اختلاف طبقاتها المتوثبة التي ارهقها ظلم افراد قلائل اثروا مصلحتهم الخاصة على المصلحة العامة وقد اثر الانقلاب تاثيرا قويا في النفوس ولاجل الاستمرار على اظهار الشعور بتاييد هذا الانقلاب وابداء الاعجاب بالجيش ولاجل الاشتراك فعليا في اظهار الاشياء من الاعمال الفضيعة التي جرت سابقا ولزيادة التماسك بين الشعب والتعبير الصارخ عن الابتهاج بزوال الطغيان الفردي وعودة الحرية ندعو الاهالي الى القيام بمظاهرة كبرى لتحقيق مطالب الشعب الانية .

وبالفعل خرجت المظاهرات والقى محمد صالح القزاز اول نقابي عمالي ومحمد مهدي الجواهري خطبا في تمجيد الانقلاب فيما هاجم بعض الغوغاء دور بعض الوزراء في حكومة الهاشمي المستقيل بل ودار الهاشمي نفسه .

 والغريب في الامر ان في يوم 28 نيسان/ابريل 1937  تقدم بعض الشخصيات العراقية  باقتراح لاقامة تمثال لبكر صدقي حيث قدم لفيف من النواب وهم كل من تكليف المبدر الفرعون واحمد عارف قفطان وخميس الضاري وروفائيل بطي ومكي جميل وفرهود الفندي وشعلان الفهد ومظهر الحاج صكب وعبد القادر الطلباني وحامد الجاف ومخيف الكتاب وحسين النفطجي . وكان عبد اللطيف نوري على رأس المعارضين من الضباط لذلك الاقتراح . الا ان هذا الاقتراح المستهجن لم تتم الموافقة عليه.

ولما كان الجواهري صديقا للانقلابيين فقد اصدر بعد شهر صحيفة باسم – الانقلاب – ونظم قصيدة مدح واشادة بالانقلابيين وجهها الى حكمت سليمان رئيس حكومة الانقلاب جاء فيها:

اقدم فانت على الاقدام منطبع               وابطش فانت على التنكيل مقتدر

وثق بان البلاد اليوم اجمعها                لما ترجيه من مسعاك تنتظر

فحاسب القوم عن كل الذي اجترحوا      عما اراقوا وما اغتلوا وما احتكروا

للان لم يلغ شبر من مزارعهم             ولا تزحزح مما شيدوا حجر

فضيق الحبل واشدد من خناقهم           فربما كان في ارخائه ضرر

وبعد اقل من عام اغتيل بكر صدقي وسقطت حكومة حكمت سليمان والف جميل المدفعي الوزارة الجديدة فسارع الجواهري الى تبديل اسم صحيفته – الانقلاب – باسم جديد هو – الراي العام -

وقد اكد ذلك يوسف يزبك في كتابه – المحررون – حين قال( لا يخلوا بلد في العالم من اشخاص حقيري التفكير والتصرف ، وبغداد فيها من هؤلاء الاشخاص كما في غيرها فقد اغتنم الاسافل فرصة تحمس الجماهير وراحوا يحرضونها على اهانة فخامة الهاشمي والكيلاني والهجوم على دار الاول ورميها بالاقذار )

واضف يزبك( ومن نكد الدنيا ان هؤلاء المحرضين كانوا قبل يوم من ماجوريها واخذ الاسافل يلقون خطب التحريض ويهيجون الشعب للهجوم على دار الهاشمي وينعتون صاحبها بابشع النعوت وينالون من كرامته وحياته الشخصية ويا للاسف)

وقال يزبك( ولم يكن التحريض من الاسافل حسب بل كان من جماعة الاهالي حيث اخذ صاحبها عبد القادر اسماعيل البستاني في مقالاته في صحيفة الاهالي يشن هجوما عنيفا على اصحاب الاتجاه القومي في العراق – ومع ذلك فلم تشفع مقالات البستاني هذه له اذ بعد فترة قررت وزارة حكمت سليمان اسقاط الجنسية عنه وعن شقيقه يوسف اسماعيل ونفيهما الى الخارج في 2آب/اغسطس 1937 - مما دفع الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم الى الانفصال عن الاهالي بعد ان خالف فكرة الاستعانة بالجيش للاطاحة بوزارة ياسين الهاشمي على اساس ان جماعة الاهالي منظمة سياسية تؤمن بالشعبية التي اقسمت يمين التمسك باهدافها دون ان يكون لها اتصال بالمنظمات العسكرية وقد بقي متمسكا برايه هذا بعد نجاح الانقلاب ولم تفد المحاولات العديدة التي بذلت لارجاعه الى جماعته عكس روفائيل بطي الذي كان يمجد وزارة الهاشمي قبل استقالتها ولكنه سرعان ما انقلب هذا الانقلاب السريع ) وكان روفائيل بطي يمجد بياسين الهاشمي ويرى فيه بسمارك العرب الا انه انقلب فجاة ووصف الحركة قائلا- ان ما قام به الجيش العراقي الباسل لم يكن الا وسيلة من وسائل تنحية جماعة مستاثرة بالحكم وافساح المجال لسير الامور في المملكة على اساس النظام القائم-

ويضيف يزبك( فالناس في كل امة وفي كل عصر يتبعون القوة لانهم يحسبون ان الحق يدعمها كما تدعمه ويرون انها لا تستطيع ان تقوم وحدها الا اذا كان اساسها الجور والظلم)

كما كانت الصحف العربية تهاجم حركة بكر صدقي وترى فيها خطرا على العرب وخروجا على تقاليد البرلمانية والقواعد الدستورية .واجمعت الصحف العربية كلها على ان خطر هذه الحركة التي اصبحت مقدمة لانقلابات تقع في العراق بين الفينة والفينة

فجريدة القبس الدمشقية قالت في عددها 978 ( الخطر من الدكتاتورية الجديدة ان يزج الجيش في السياسة وان ينصرف عن البلاد الى الدفاع عن الاحزاب والاشخاص والكراسي)

اما العرب الدمشقية فقالت في عددها 4299 (نأمل ان لا يكون حصاد العرب في العراق من هذا الانقلاب الذي حدث ضياع هذه الشهرة التي يتمتع بها في العراق في زمن فيصل الاول والوزارات القومية)

كان لبكر صدقي فعلا الهيمنة المطلقة على اعمال جميع الوزارات فقد اسند الى نفسه رئاسة اركان الجيش العراقي واحال العميد طه الهاشمي على التقاعد فكان الوضع مشوبا بالضغط فلا يقر قانون الا بموافقته ولا يعين رئيس دائرة الا بترشيحه ولا ينقل موظف الا بأمره ولا..ولا.. . وقد دعي ناجي شوكت وزير العراق المفوض في انقرة الى بغداد في 24 /11/1936 للاشتراك في الوزارة الجديدة فلم يوافق على ذلك.

 وكانت اول كلمة تفوه بها رئيس الوزراء في حفلة الاستيزار هي" اني اشكر صاحب الجلالة الملك وليس لي شيء اقوله في مثل هذا الموقف سوى اني اطلب الى الشعب العراقي الكريم الذي اولانا ثقته ان يرجع الى حالته الطبيعية من السكينة والهدوء، كما اطلب الى الموظفين ان يؤدوا وظائفهم كما ينبغي . واسال الله تعالى ان يوفقني لتحقيق الغاية التي اتيت من اجلها.

وما كادت الوزارة تنتهي من حفلة الاستيزار حتى ابرقت الى متصرفي الالوية تقول" بعناية الله وجهود الشعب الكريم وعلى رئاسة الجيش الباسل حصلت على عطف جلالة الملك المعظم بتأليف الوزارة بعد ان استقالت وزارة الهاشمي ، فأملي وطيد بجميع ابناء الشعب الكريم في اختلاف طبقاتهم ان ينعاضدوا ويتكاتفوا على كل ما يستوجب طمأنينة المجموع وسلامته وان يعمدوا الى الراحة بعد الذي تجشموه من المتاعب في سبيل مظاهر الافراح ورغبتي الاكيدة في ان يركن كل فرد الى مصالحه واعماله وزراعته ، والله اسأل ان يسدد خطواتنا ويوفقنا الى ما فيه خدمة الجموع ورفاهه واطمئنانه.

وقد نشرت هذه البرقية بشكل رسمي في بغداد ايضا وهي اول تصريح رسمي بان الحكومة السليمانية توسدت الحكم عن طريق الجيش خلافا لصراحة الفقرة الخامسة من المادة 26 من القانون الاساس العراقي التي تنص على (ان الملك يختار رئيس الوزراء وعلى ترشيح الرئيس وتعيين الوزراء ويقبل استقالتهم من مناصبهم).

عندها شعر جماعة الاهالي بقلق عميق حول تزايد تدخل الجيش في شؤون الحكومة فالتقى الجادرجي مع ابو التمن الذي وجد نفسه انه لم يعد له امل في منع رئيس الوزراء من تقليص تدخل بكر صدقي في شؤون الجكومة فقدم الاثنان استقالتيهما بعد ان حثا وزيرين اخرين عليها وهما صالح جبر ويوسف عز الدين .

وهكذا اصبح بكر صدقي واعوانه في شهر تموز 1937 هم القوة الفعلية المسيطرة على رئيس الوزراء وشؤون الحكم كما اصبحت الحياة في العراق تتميز بالاغتيالات وممارسات الاهانة والاذلال للخصوم السياسيين وبدات سلطة بكر صدقي في اتخاذ اجراءات النفي واسقاط الجنسية مع خصومها السياسيين حيث جرد المحامي عبد القادر اسماعيل وشقيقه من الجنسية العراقية كما تم نفي كامل الجادرجي وشخصيات سياسية اخرى الى قبرص فيما اعتزل جعفر ابو التمن الحياة السياسية وتفرغ للاعمال التجارية حتى وفاته عام 1945.

كان ابو التمن يعتقد بداية ان الانقلاب سيعمل على تنفيذ البرنامج الوطني من اجل تطوير البلاد ويبشر بقدوم مرحلة حوار سياسي حقيقي بين كافة الاطراف لكنه عندما تبين له بعد ذلك ان العسكريين الذين نفذوا الانقلاب كانوا في الواقع صورة اخرى لنمط الحكم العثماني القديم فقدم استقالته وترك العمل السياسي وتفرغ للعمل المهني كمواطن عادي

مصـرع الفـريق بكـر صـدقـي                               

   سبق وأن إشترت وزارة الدفاع دبابات خفيفة وثقيلة من ايطاليا، وإشترت رشاشات من جيكوسلوفاكيا وعتاداً من النمسا . وقد زاد بكر صدقي من إتصالاته مع ألمانيا ، وتقرر زيارته  " الفوهررهتلر" في برلين الامر الذي أظهر جليا ميله من دول المحور ، فأخذ الحلفاء وخاصة بريطانيا يحسبون له الف حساب ويعملون على التخلص منه ، وقد وجه الانكليز جهودهم مع معارضي بكر صدقي من أجل إغتياله . حانت الفرصة لهم بعد سفره من بغداد ووصوله الموصل وهو في طريقه الى تركيا واوروبا فتم إغتياله في معسكر القوة الجوية العراقية .( صالح صائب الجبوري، المصدر نفسه، ص                                                                     125).

 دعي الفريق بكر صدقي الى تركيا لحضور مناورات عسكرية يجريها الجيش التركي ، فسافر بالسيارة مع مرافقيه وبعض المقربين اليه عن طريق كركوك الى الموصل يوم 10 آب/أغسطس . .( اسماعيل العارف، المصدر نفسه ، ص 50).

      يقول المترجم سليم طه التكريتي "اعدت محاولات لاغتيال بكر صدقي كان من بينها قصف العربة التي سيكون فيها في القطار الذي سوف يقله الى كركوك من بغداد من الجو قبل ان يبلغ مدينة كركوك، ويبدو بأن خبر هذه المحاولة قد تسرب اليه ولذلك سافر جوا كي لا يعلم احد بموعد وصول الطائرة الى الموصل والمكان الذي سيمكث فيه" ( ستيفن همسلي لونكريك، المصدر نفسه، ص 409).

 وقضى ليلة 10/11 آب في دار ضيافة الموصل ، وفي يوم 11آب قرر أن ينتقل الى مقر سرب القوة الجوية في الموصل لكي يقضي ليلة هناك نظراً لازدحام دار الضيافة بالزبائن، فاخليت له غرفة آمر الرف ليبيت فيها ، وبينما كان يجلس عصرا أمام بناية السرب محاطاً بكل من الضباط محمود أيوب وجهاد عبد الغني ونديم صديق موسى علي آمر السرب وكاظم عبادي الذي حضر بطائرته في اليوم نفسه مع بعض الهدايا لكي يستصحبها بكر صدقي معه الى تركيا ، دخل الطيار محمود هندي وهو احد الضباط المتآمرين الغرفة المخصصة لبكر صدقي وخرج من الباب الخلفي تاركا اياه مفتوحا فتسلل منها الجندي محمد علي التلعفري الذي أعده الضباط المتآمرون لاغتيال بكر صدقي، وخرج على حين غرة من الباب الرئيس للغرفة شاهراً مسدسه، ووقف على رأس بكر صدقي وأطلق عليه ثلاثة عيارات نارية  تفجر الدم من رأسه على أثرها كالنافورة فاصيب الحاضرون بالذهول غير مصدقين ما حدث ، فقام عندئذ المقدم محمد علي جواد الذي حضر في اليوم نفسه بالطائرة لتوديع بكر صدقي وهجم على الجاني وامسك به محاولاً تجريده من سلاحه الا أن الجندي التلعفري اراد أن يتخلص منه بدفعه دون جدوى قائلاً له  أنه لا يستهدفه، ولما لم ينجح أطلق عليه عيارا نارياً أصاب مقتلا في قلبه فخر محمد علي جواد صريعاً مضرجاً بالدماء ، وعند ذاك تقدم بعض الضباط وجردوا الجندي من سلاحه . وعندما حاول آمر الرف احمد عزيز قتله منعه الضباط واقنعوه بتركه لذمة التحقيق . وقيل لي أن الضابط الذي هيأ الجندي محمد  عبد الله التلعفري لعملية الاغتيال هو أحد المتآمرين وإسمه محمد خوشيد الكردي الاصل . أما الضباط الذين دبروا مؤامرة الاغتيال فهم عزيز ياملكي ومحمد خورشيد ومحمود هندي وفهمي سعيد.

 ويقول العميد الركن اسماعيل العارف " روى لي العميد الضابط المتقاعد كاظم عبادي ما يلي : حالما قتل بكر صدقي قفز مرافقه جمال جميل الى الهاتف وإتصل بالزعيم إسماعيل الاغا وكيل قائد الفرقة ببغداد وأخبره مقتل بكر صدقي وطلب منه أن يعلن الاحكام العرفية فوراً ويستولي على الحكم في بغداد إلا أن إسماعيل الاغا تردد في تنفيذ ذلك ولم يستمع لنصيحة جمال جميل.( اسماعيل العارف، المصدر نفسه ، ص 50).

    يروي اللواء فؤاد عارف مرافق الملك غازي  فيقول  " أذكر أن المقدم الطيار موسى علي آمر القاعدة الجوية في الموصل روى لجلالة الملك غازي وأنا حاضر مع الحاضرين عن تفاصيل إغتيال بكر صدقي . فقد ذكر أن محمد علي جواد التحق ببكر صدقي في الموصل وقد جاء الى نادي القوة الجوية ، وعندما كانا جالسين في حديقة النادي عصرا لشرب الشاي وجد أي موسى علي الطيار السيد محمود هندي يشير الى أحد ضباط الصف ( عريف) وكأنه يعرفه قائلاً " بأن ذلك هو بكر صدقي" ولما إقترب هذا الشخص إعتقدوا بأن لديه عريضة يريد أن يقدمها الى بكر صدقي ، ولكن يبدو أنه كان يخفي

تحتها مسدساً، وما أن إقترب منه حتى سدد المسدس الى بكر صدقي فهجم عليه محمد علي جواد وسمع العريف يقول " سيدي أنت ما عليك" فاطلق النار على بكر صدقي ولما علم أن محمد علي جواد يحاول أن ينتزع المسدس منه وربما قتله أطلق النار على محمد علي جواد أيضا وارداه قتيلا". ( فؤاد عارف، المصدر نفسه، ص 105).

  وفي مجال آخر يروي المقدم الطيار موسى علي في مذكراته عن هذا الحادث فيقول" دخلنا أنا وبكر صدقي في مواضيع أخرى فكان يتكلم بصوت منخفض مما إضطرني الى أن أقرب رأسي الى قرب رأسه ، واذا بي أسمع محمد علي جواد يتساءل" شتريد؟ " اي " ماذا تريد؟ " ولما أدرت رأسي الى الخلف وجدتُ جندياً خيالاً حاسر الرأس يلبس ثوبا خاكياً مع سروال قصير ولفاف وكيتر فوق الحذاء الطويل واقفاً خلفنا ويداه وراؤه وهو على بعد خمسة أمتار فظننتُ أنه من مريديه وأنه لا بد أن يكون قد أتى لغرض ما ، فأعدتُ رأسي بعد هذا الى الوضع الذي كنتُ فيه، أما بكر صدقي فلم ينظر الى الخلف

بل بقي ثابتًاً في كرسيه واذا بي أسمع صوت إطلاقات نارية ، فأدرت رأسي الى الخلف فوراً لمعرفة مصدرها إذا بي أرى الجندي الذي كان واقفاً يطلق بمسدسه بإستقامتي وسمعتُ بكر صدقي يئنُ أنةً واحدة فقط وبعدها سكت من دون حراك ، وفي الوقت نفسه قفز محمد علي جواد فجأة من محله ووقف أمام بكر والقاتل ورفع يديه الى الاعلى مؤشراً بها الى القاتل أن يوقف الرمي .. ولما كان وقوفه أمام القاتل مباشرة سيعرضه الى الاصابات المباشرة، فقد قفزتُ فوراً من محلي فاحتضنته صارفاً النظر عن مواصلة الرمي وسحبته الى خارج خط النار، ولكني شعرتُ أنه فقد توازنه ، ووقعنا كلانا على الارض.. قال محمد علي فجأة :أصبت بطلقتين ناريتين.. ثم سحب رأسي قرب رأسه وقبلني وقال " إنتهى أمري يا موسى ،إحلف لي بأنك لا تدع القوة الجوية تموت" .. وما لبثتُ أن شعرتُ برخاوة ذراعيه اللتين إنفصلتا عن صدري ومال رأسه الى اليسار فلفظ أنفاسه الاخيرة.. أما بكر صدقي فالظاهر أنه فارق الحياة فور سماعي أنينه دون أن يتحرك قيد أنملة ، فكانت إصابته في نخاعه الشوكي ودماغه ، أما إصابة محمد علي جواد فكانت في قلبه ورئته.( موسى علي الطيار ، أضواء على مقتل جعفر العسكري وبكر صدقي ، بغداد 1981 ، ص52 - 53).       

     وأما عن التحقيق في مقتل بكر صدقي فقد وصلت هيئة تحقيقية الى الموصل ، وكانت مكلفة بإجراء التحقيق في إغتيال بكر صدقي ، وكانت الهيئة برئاسة " أنطوان لوقا" الذي منح رتبة عسكرية مؤقتة للقيام بالتحقيقات ، وقد صدرت من الهيئة بعض التصرفات غير المتزنة إزاء بعض الضباط علاوة على تجاهلها التام لآمر الموقع السيد أمين العمري ، فطلب هذا في البدء إبدال هيئة التحقيق، ولم ينفذ الطلب له، ويبدو أن الوزارة كانت متحمسة للهيئة التحقيقية أيضاً ، فوقف اللواء الركن أمين العمري الى جانب ضباطه ضد الهيئة التحقيقية وفشلت الهيئة في مهمتها فشلاً ذريعاً. وأهينت وأعيدت الى بغداد ثم قطع اللواء الركن أمين العمري علاقته ببغداد مع إستمرار علاقته بمعسكر الوشاش اي بالعقيد ( سعيد التكريتي) وكذلك بـ( قائد فرقة كركوك اللواء أمين زكي)  وقد أسفرت الاتصالات بين العقيد سعيد التكريتي واللواء أمين العمري عن ضرورة إيجاد حل وسط . فقد أضحى الموقف خطيراً ، فهناك العناصر المؤيدة لحكمة سليمان والمتألمة من مقتل بكر صدقي ، والعناصر المؤيدة لنوري السعيد  وكان الجيش منشقاً على نفسه، والملك لم يكن راغبا البتة في نوري السعيد  من جهة ، ومن جهة أخرى كان الضغط متزايداً على إسقاط وزارة حكمة سليمان ، ولم يكن مع فكرة السيطرة على الموصل عسكرياً ، إذ كان يقول " كيف نرسل جيشاً يقاتل جيشنا؟" برغم أن الملك في الايام الاخيرة أي قبل أن تنفرج الازمة حملّ أمين العمري المسؤولية التامة بصفته القائد العسكري في الموصل ، وإستمرت العلاقة مقطوعة بين الموصل وبغداد عسكرياً. .( فؤاد عارف، المصدر نفسه، ص 106- 107).

     وانكشف حجم المؤامرة عندما اعلنت حامية الموصل العصيان بقيادة أمين العمري وقطعت علاقتها بحكومة بغداد التي كان يرأسها حكمة سليمان ، وإمتنعت عن تسليم الضباط المتهمين بالاشتراك في مقتل بكر صدقي ومحمد علي جواد، كما ايدت قطعات معسكر الوشاش في بغداد عصيان حامية الموصل ، وأعلنت قطع الاتصال بالحكومة المركزية فإضطرت حكومة حكمة سليمان الى الاستقالة. وبذلك إنهارت اول حكومة أقامها الجيش في العراق، وبدأت بعدها مرحلة تزايد فيها إستخدام الجيش من قبل الساسة التقليديين أنفسهم كاداة لتنفيذ أطماعهم الشخصية في السلطة. وقد لعب ضعف الوعي السياسي بين الضباط دوراً مهماً في إستغلال عواطفهم وإساءة إستخدامهم في خمسة إنقلابات إستهدفت إسقاط بعض الساسة في السلطة وتنصيب آخرين بدلاً عنهم دون أن يكون الغرض منها تحقيق مكسب وطني او قومي.( اسماعيل العارف ، المصدر نفسه، ص 51).  .

                 وعلى اثر ذلك نقل جثمان بكر صدقي الى بغداد ، وقامت حكومة حكمت سليمان بتشييعه رسميا، ولكن الاوضاع في العراق بدأت تسوء الى حد كبير، اذ كاد الجيش ينقسم على نفسه عندما القي القبض على القاتل وبدأ التحقيق مع عدد من الضباط المسؤولين. لقد اعترضت فرقة الموصل على ذلك مذكرة الحكومة بانها اصدرت عفوا شاملا على كل من اقترن اسمه بمقتل جعفر العسكري في السابق بحجة انه ذهب بنفسه الى مقر الخطر، ونظرا لتوتر الاوضاع السائدة ولحراج الموقف ارسل حكمت سليمان برقية عاجلة الى السيد جميل المدفعي في الشام يدعوه الى العودة فورا للتشاور باسم المصلحة العامة. فاجاب المدفعي بالموافقة ، وبعد التشاور مع القصر استقر الرأي على ان يستريح حكمت سليمان ويستقيل..وفي 17 آب/اغسطس رفع سليمان استقالته وتم تشكيل الوزارة المدفعية. وعندما تسلم جميل المدفعي زمام الحكم أمر برفع الحظر الذي كان يجبر اقارب واصحاب المرحوم جعفر العسكري مغادرة بغداد

                                     اسباب انهيار حركة بكر صدقي

                                    ------------------------------

تعرضت حركة بكر صدقي لهجمات المعارضة التي تمكنت من الاجهاز عليها ونجحت في اغتيال قائدها الفريق بكر صدقي في الموصل في 11آب/ اغسطس 1937 وانتهت الحركة بموته وعاد السياسيون القدامى الى المسرح السياسي وشنت الحكومات المتعاقبة حملات بطش بوليسية على جماعة الاهالي بالذات وطاردتهم وزجت بعضهم في السجون والمعتقلات .

لقد ادت عدة عوامل الى انهيار حركة بكر صدقي العسكرية منها انعدام الجهاز التنظيمي والعقيدة السياسية التي تربط الجيش باهداف سياسية محددة المعالم واهمالها للمشاعر والكتل القومية التي كانت تلعب دورا نشطا في الجيش ثم لجوئها الى العنف في تصفية خصومها جسديا فانهارت حالما اغتيل بكر صدقي بمؤامرة دبرتها الكتلة القومية من ضباط الجيش بزعامة امر حامية الموصل امين العمري و صلاح الدين الصباغ يساعدهم في ذلك خصوم الانقلاب من المتضررين منه وخاصة الذين ارادوا الانتقام لمقتل جعفر العسكري .

لقد كانت حركة بكر صدقي سطحية مبتسرة نفذت في وقت لم تكن قد نضجت فيه الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية فانعدام وضوح الرؤية السياسية للحكومة الجديدة وفقدان الانسجام بين اراء جماعة الاهالي والقادة العسكريين وطموحاتهم وقوة خصوم الحركة من قوميين وساسة تقليديين وزاد من حدة المعارضة مقتل جعفر العسكري ودخول عامل الانتقام الشخصي من قادة الانقلاب وعلى راسهم بكر صدقي الذي قرر هو والمتعاونون معه من الضباط تصفية خصومهم من رجال العهد السابق بكل الوسائل المتيسرة لديهم كما ان وزارة حكمت سليمان لم تكد تضطلع باعباء الحكم حتى انهالت على بعض الشخصيات العربية رسائل تهديد بالقتل ان لم يغادروا العراق فور تسليمها . بل ان بكر صدقي في تلك الفترة التي يدعو فيها للعنف ضد خصومه وبالذات فقد احتفل بخطوبته من احدى السيدات الالمانيات وتلقى الكثير من الهدايا وخاصة من الجالية اليهودية في بغداد فسادت البلاد فوضى من انتقامات واغتيالات شخصية ففي 21/1/1937 اغتيل ضياء يونس الموصلي سكرتير مجلس الوزراء في حكومة ياسين الهاشمي اثناء خروجه من مسكنه في محلة السعدون حيث انهال عليه الرصاص من كل جانب وتقدم احد الرماة والقى الجثة في الساحة وقيل ان القتيل كان يقود حركة سرية معارضة لبكر صدقي وانه يمتلك وثائق سرية خاصة بالقضية الفلسطينية وان قاتله اسمه اسماعيل توحلة الموصلي .

يقول سليمان فيضي في مذكراته" جاء ضياء بعد الانقلاب بايام قلائل، وهو بادي القلق والارتباك وقال لي ان بعض الضباط دخلوا مكتبه وطلبوا منه احضار اضبارة تتعلق بالتهم التي نسبت الى بكر صدقي في عهد الوزارة السابقة بقصد اتلافها ، فلما اخبرهم بانه لا يعلم من أمر تلك الاضبارة شيئا توعدوه بالقتل ان هو لم يحضرها ثم خرجوا.

في ليلة 10 شباط/فبراير 1937  تصدت عصابة بكر صدقي  لمولود مخلص عضو مجلس الاعيان في احدى الامسيات عند المنعطف من وزارة الدفاع الى الشارع الذي يسكن مولود فيه وهو شارع العسكري المحاذي لنهر دجلة- وامام مدينة الطب حاليا- وامطرته برصاصات وهو في سيارته لم تصبه بل رد على المهاجمين باطلاقات من مسدسه. وحين خرج مولود بعد ذلك الحادث بايام قلائل الى مزرعته في ( الحمرة) شمالي تكريت ارسلت اليه ثلة من الشرطة في سيارة مسلحة حيث طلب اليه معاون الشرطة في تلك السيارة ان يرافقه الى بغداد . واستطاع مولود ان يخدع ذلك المعاون بان طلب اليه بان ينتظره في تكريت لكنه اعد العدة للهرب بالتوجه بسيارته الى سوريا يرافقه في ذلك ابن اخيه جاسم امين متخذا طريق شركة النفط العراقية( بيجي) الى( حديثة) ومن هناك عبر الحدود ليستقر في دير الزور.

وبعد مقتل بكر صدقي وسقوط حكومة حكمت سليمان عاد مولود مخلص واقام الدعوى على من اتهمهم بالاعتداء على حياته لانه كان يشجب الانقلاب ويهاجم بكر صدقي.

وفي 16/2/1937 اغتيل الشيخ عبد الله باشعالم الموصلي في ديوانه بقرية تل الشعير في المواصل .

وفي 22/3/1937 وجد علي رضا العسكري شقيق جعفر العسكري وتحسين العسكري ذبيحا في داره .

 

فقد اعلن امين العمري امر حامية الموصل العصيان على الحكومة في بغداد التي كان يراسها حكمت سليمان ورفض تسليم المتهمين باغتيال بكر صدقي بل ان العمري اصدر بيانا الى الشعب العراقي دعا فيه أبناء الموصل على الانتفاضة على سياسة حكومة سليمان التي وصفها بالجائرة التي تريد التنكيل بالضباط بسبب مقتل بكر صدقي حسبما جاء في البيان. كما أيدت عصيان العمري قطعات معسكر الوشاش في بغداد بقيادة محمد سعيد التكريتي واعلنتا قطع الاتصال بالحكومة المركزية فاضطرت حكومة حكمت سليمان الى الاستقالة وبذلك انهارت اول حكومة اقامها الجيش في العراق بعدها بدأت مرحلة جديدة تزايد فيها استخدام الجيش من قبل الساسة التقليديين انفسهم كاداة لتنفيذ اطماعهم الشخصية في السلطة واشتد الصراع بين كتل الضباط التي استقطب ولاؤها لهذا السياسي او ذاك الى ان تبلور في سيطرة الكتلة القومية على مقاليد الجيش   بقيادة صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب وعزيز ياملكي وانضم اليهم اخيرا الفريق حسين فوزي وامين العمري وسيطروا على الجيش بتسلم اهم المراكز القيادية فيه بعد اغتيال بكر صدقي واصبح رضاهم ضرورة اساسية لاي حكومة تنوي البقاء في السلطة .

حاول جميل المدفعي ان يقضي على هيمنتهم بتعيين وزير دفاع بهدف تمزيق وحدتهم واضعاف سيطرتهم على الجيش فرفضوا ذلك وطالبوا المدفعي بالاستقالة فانصاع لرغبة الجيش واستقال يوم 24 كانون الاول 1938 وطالبوا نوري السعيد بتشكيل الوزارة الذي اراد ان ينتقم بقوة من حكت سليمان العقل المدبر لانقلاب بكر صدقي فاحاله الى المجلس العرفي العسكري ووجهت اليه تهمة التامر ضد كيان الدولة فاصدر المجلس العرفي حكما بالاعدام بحقه وبعض المتهمين معه من اتباعه الا ان الحكم خفض الى السجن لمدة خمس سنوات وكذلك على الاخرين

تحدث المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني عن بكر صدقي فقال" كان الفريق بكر صدقي العسكري رجلا طموحا ، مؤمنا بقوته الشخصية ومقدرته العسكرية . نظر الى الجارتين تركيا وايران فوجد في الاولى ضابطا لم يكن ارفع درجة منه، خلق من تركيا المتفسخة دولة لها عزها وبأسها ، ورأى في الثانية رجلا لم يكن من اصحاب الماضي المعروف قد خلق مملكة من العدم الى الوجود. مملكة كانت مناطق نفوذ للروس والانكليز فاصبحت دولة عظيمة تخشاها الدول فحدثه طموحه ان يحذو حذو كمال اتاتورك ورضا بهلوي فاقدم على حركة لم يفكر في عواقبها ولم ينظر الى اختلاف العراق عن جارتيه تركيا وايران اختلافا كبيرا في نواحي عديدة روحية وثقافية وعسكرية واستعمارية.

وقال عبد الغني الملاح ان الشعب العراقي راى في شخص بكر صدقي بطلا في بدايته لتحديه بعض بنود المعاهدة العراقية البريطانية وقراره تقوية الجيش باسلحة ايطالية اذ كانت المانيا وايطاليا انذاك انوذجا رائعا للسياسة القومية وخصوصا لدى الدول الرازحة تحت ثقل الاستعمار البريطاني.لكن طموح بكر صدقي نفسه للدكتاتورية ضيّع الفرصة الكبرى لتقويم الانحراف الديمقراطي الذي سارت عليه الحكومات السابقة.

وقال محمود الدرة في كتابه ( الحرب العراقية البريطانية 1941) ان الفريق بكر صدقي عدّل نظام وزارة الدفاع واحتفظ لنفسه بالسلطات التي كان يمارسها الوزير ووجه وجهه شطر ايطاليا لشراء بعض الطائرات والدبابات لكنه في الحقيقة لم يعمل على توسيع الجيش وزيادة تشكيلاته فقد ادخل عددا كبيرا من الطلاب ذوي المستوى الواطىء الى الكلية العسكرية فكان ذلك بداية انحطاط كفاءة ضباط الجيش.

وروى طالب مشتاق في مذكراته( اوراق ايامي) ان حكمت سليمان عانى كثيرا من طغيان بكر صدقي وجبروته، وكان يكظم غيظه من سوء سلوكه ونزواته.         

                                           انتهى                      

 

 

 

 

جعفر ابو التمن

 

حينما توفي الملك فيصل الاول في 8 ايلول 1933 قدم رشيد عالي الكيلاني استقالة حكومته في اليوم التالي الا ان الملك غازي الذي خلف والده كلف الكيلاني باعادة تشكيل الوزارة مرة ثانية وعندها شكل الكيلاني وزارته الثانية التي تضم معظم الاعضاء في حزب الاخاء الوطني الذي ينتمي اليه الكيلاني والقى كلمة بالمناسبة قال فيها ان سياسته الاستمرار على السياسة التي سار عليها بالاعتماد على الصداقة بين العراق وبريطانيا دون اي تغيير مما ولد خيبة امل خاصة لدى الحزب الوطني العراقي الذي يتزعمه محمد جعفر ابو التمن  الذي اصدر بيانا في 11 ايلول  قال فيه ان الحزب الوطني لم يتوقع هذه السياسة التي مقتها حزب الاخاء نفسه. واضاف ابو التمن انه من المناسب ان نؤجل بيان الحزب بهذا الموضوع الى ما بعد ايام الحداد على الملك فيصل .

وحينما انتهت ايام الحداد لم يذع الحزب بيانه المنتظر الا ان الراي العام فوجىء في اول تشرين الثاني ببيان شخصي اذاعه معتمد الحزب جعفر ابو التمن قال فيه( لقد اضطررت والاسف يملأ قلبي الى ان اعتزل السياسة وانا واثق بان التطورات في نهضات الامم امثالنا قد علمتنا بانها سوف تضطرنا الى العودة متى حان وقت الكفاح )

على اثر اعتزال ابو التمن انعقد مؤتمر الحزب وانقسم اعضاؤه الى قسمين الاول يؤيد ابا التمن في اعتزاله السياسة ويضم محمد مهدي كبة  وجماعته الذين ارسلوا مذكرة الى وزارة الداخلية يؤكدون فيها تعطيل اعمال الحزب السياسية حتى تتهيأ الظروف التي تمكنهم من استئناف ممارسة الاعمال السياسية . والثاني يضم مولود مخلص الذي يطالب بعدم الاعتزال واعتبر موقعي المذكرة خارجين على النظام الداخلي للحزب لمخالفتهم احكامه واعلن مخلص رفضه للقرار وفصل موقعي المذكرة من عضوية الحزب وارسل الى وزارة الداخلية نيابة عن هيئة الحزب اكد فيها استمراره بالعمل الحزبي وفصل الجناح الاول من الحزب. الا انه تعرض الى ضغوط خارجية من قبل الحكومة فاضطر مخلص الى تعطيل الحزب نهائيا من ممارسة نشاطه السياسي العراقي.

ولد جعفر ابو التمن1881 وعاش مسلما ملتزما وعربيا قوميا فعالا ووطنيا مثاليا لم يساوم ولم يهادن الا ان خيبته الاولى كانت عام 1936 عقب انقلاب الفريق بكر صدقي حيث وجد نفسه وزيرا في الوزارة التي شكلها حكمت سليمان باسناد بكر صدقي  ووجد نفسه وسط مخطط تآمري يتنافى مع مبادىء الديمقراطية التي آمن بها ودعا اليها والتي اطاح بها الانقلاب العسكري والتي لا تنسجم مع اخلاقه ونهجه مما ادى الى وضع حد لنهايته السياسية بعد عام واحد فقط من الانقلاب وابتعد عن النشاط السياسي عام 1937 ثم امضى بقية عمره منعزلا حتى وفاته عام 1945.

هو محمد جعفر جلبي بن محمد حسن بن الحاج داود ابو التمن ولد عام 1881 في عائلة مسلمة شيعية عربية من بغداد حيث تنحدر من قبيلة ربيعة التي استوطنت منطقة الفرات الاوسط من العراق منذ الفتح الاسلامي اذ نشأ وترعرع جعفر في بيت جده الحاج داود تاجر الحبوب وخاصة الرز( التمن)المعروف والذي كان يملك مستودعا كبيرا يعرف بخان داود في سوق بغداد المركزي قرب سوق الصفافير ولذا لقب بابي التمن.  فيما كان يسكن بمحلة ( صبابيغ الال) ببغداد على الضفة الشرقية من نهر دجلة  بعد ان هاجر والده محمد حسن الى كرمنشاه في ايران بسبب مشاكل عائلية تاركا زوجته الثانية واولاده  تحت رعاية جدهم داود اما والدة جعفر فكانت زهرة الاطرقجي وهي من عائلة عربية بغدادية ثرية وشهيرة ومن انبل العائلات وكانت متدينة ذات نزعة نحو الخدمة الاجتماعية واهتمام خاص بالفقراء حيث كان جعفر شديد التعلق والاعجاب بها وكانت مصيبته كبيرة حينما توفيت عام 1893 نتيجة اصابتها بمرض الهيضة( الكوليرا) الذي اصابها بسبب اختلاطها بالفقراء لمساعدتهم. وكان جعفر شخصية معروفة في اوساط بغداد الاجتماعية والتجارية والثقافية حيث عمل في حقل التجارة وجمع ثروة لاباس بها من خلال تجارته بالحبوب والمواشي والابل وكذلك السفن الشراعية . تزوج من ابنة عمه الحاج سلمان رزق منها بثلاث بنات وثمانية ابناء توفي ستة منهم في مرحلة الطفولة ابنه الاكبر عزيز ولد عام 1927 وتوفي عام 1959 في ظروف غامضة وكان يساري النزعة والاخر عبد الكريم اطال الله عمره فهو رجل اعمال.

وبما ان للمسلم الشيعي ان يختار مقلده بمجرد ان يصل سن التكليف فاختار محمد جعفر ابو التمن لنفسه ستة مقلدين مختلفين وفي اوقات مختلفة من حياته وهم الشيخ محمد طه نجف وكاظم يزدي ومحمد سعيد الحبوبي والشيخ مرزا محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الاصفهاني والشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء وحينما بدأ محمد جعفر ابو التمن حياته السياسية اختار محمد سعيد الحبوبي احد اصدقاء جمال الدين الافغاني كما ساعد جعفر ورافقه علي ال بزركان في تاسيس اول مدرسة شيعية بمعونة مالية من الحكومةالعثمانية عام 1908

في عام 1917 تم تاسيس لجنة تعليمية من قبل احد المصريين المعارين للتدريس في العراق  تضم خمسة من وجهاء بغداد اختير ابو التمن من بينهم وتضم الاب انستاس ماري الكرملي  وحمدي بابان وشكري الالوسي وابن عمه قاضي الشريعة الحاج علي الالوسي والشاعر جميل الزهاوي وكانت مهمة اللجنة استشارية.تحت اشراف الانكليز لذلك اعترض ابو التمن على هذا الاشراف وقدم استقالته في حزيران 1919 لانه أصر على وجوب اعطاء اللجنة صلاحيات تنفيذية.

وحينما تم تاسيس المجلس البلدي في بغداد عام 1919 كان جعفر احد اعضائه الاثني عشر حيث كان يفضل ان تكون الانتخابات وفقا للقانون التركي القديم واصر جعفر على ان يكون رئيس واعضاء المجلس من ذوي الوظائف المهمة منتخبين لا معينين وان يكون المرشح عراقي الجنسية.وحينما خشي الانكليز هذا التوجه قدم ابو التمن استقالته بعد ان ارتاب بنوايا الانكليز التي اعتقد انها تريد ان تفرض حكما مباشرا على العراق.

وعند عودة ابو التمن الى العراق بعد صدور العفو عنه وعن اصحابه واصل نشاطه السياسي من جديد واسس الحزب الوطني العراقي خلفا لحزب حرس الاستقلال وفتح له عدة فروع خارج بغداد وكان من ابرز اهداف الحزب الوطني هذا تاسيس دولة عربية مستقلة في العراق يقوم على راسها احد ابناء الشريف حسين وعندما اصبحت النشاطات السياسية لجعفر ابو التمن واصحابه غير مقبولة لحكومة الانتداب فقد تم تسفيره واخرين معه الى جزيرة هنجام في مضيق هرمز في الخليج العربي. كما ظهرت في ذلك الوقت احزاب اخرى معارضة كحزب النهضة وحزب العهد اللذان يضمان عددا من الضباط العراقيين ممن كانوا يعملون في صفوف الامير فيصل اثناء الثورة العربية ثم حينما كان ملكا على سوريا.

اراد العراقيون ان يكون احد ابناء حسين بن علي ملكا على العراق فيما كان البعض يرغب بالوجود البريطاني مما دعا البريطانيين الى عمل استفتاء عام لمعرفة ما اذا كان يجب الاستمرار البريطاني او الحكم من قبل امير عربي وفي هذه الفترة عقدت اجتماعات في الكاظمية والنجف لوجهائها اسفرت عن رغبتهم ان يكون احد ابناء الشريف حسين ملكا دستوريا ومن هنا نشط جعفر ابو التمن في الاتصال بالجماعات الوطنية وعمل كحلقة وصل  حينما دعا المندوب السامي البريطاني قاضيي بغداد السني والشيعي لترشيح 25 ممثلا عن كل من الطائفتين للتحدث باسمها وكان ابو التمن في ذلك الاجتماع حيث دعا الى الوحدة الوطنية والى عراق موحد بحكومة عربية وحاكم مسلم ونجح ابو التمن في تقريب الطائفتين السنية والشيعية وظهرت ثمارها في المضبطة المقدمة من قبل 47 شخصية وطنية الى المندوب السامي تطالب باستقلال العراق اختيار احد انجال الشريف حسين ملكا على العراق.

وحينما ازداد الصراع بين الوطنيين من جهة ودعاة بقاء الانكليز من جهة ثانية شنت السلطات البريطانية حملة اعتقالات لاثني عشر شخصا من القياديين وابعدتهم كان ابو التمن من بينهم الذي تمكن من التخلص من الاعتقال وترك بغداد الى طهران عام 1919

  وفي اواخر شباط 1919 الف الوطنيون العراقيون جمعية سرية سميت( حرس الاستقلال)  بزعامة السيد محمد الصدر وتضم علي بزركان وجلال بابان ومحود رامز ثم اصبحت اكثر نشاط حينما انضم اليها اخرون مثل يوسف السويدي وناجي شوكت وسامي شوكت ومحي الدين السهرودي والشيخ باقر الشبيبي وعبد الغفور البدري وعبد المجيد كنة وكذلك جعفر ابو التمن بعد عودته من طهران في تشرين الاول عام 1919 الذي انتخب امين سر عام   ويقول ناجي شوكت في مذكراته ان جعفر كان القائد الفعلي لحرس الاستقلال التي نادت بالاستقلال التام للعراق الذي كان يضم ثلاث ولايات هي بغداد والبصرة والموصل. وان يكون رئيس الدولة ملكا من انجال الشريف حسين. وان تكون الملكية دستورية وديمقراطية.

حرص ابو التمن على توحيد حرس الاستقلال مع حزب العهد الذي اسسه عزيز علي  المصري في استنبول وافتتح له فرع في العراق يضم كل من نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص وطه الهاشمي وجميل المدفعي وتحسين العسكري وذلك لتقارب اهدافهما وتم تاليف لجنة مشتركة عن الحزبين وعقدت اجتماعات ولكنها لم تسفر عن نتيجة ايجابية كما ازداد نفوذ ابو التمن حينما كرس طاقاته للتوفيق بين الطائفتين السنية والشيعية وكان  بذلك رمزا للوحدةالوطنية.

 

لعب ابو التمن دورا مهما في ثورة العشرين حيث انضم في آب 1920 الى مناطق الثورة في كربلاء والنجف حيث رحب به كزعيم بغدادي مشهور وممثلا للمجتهد الشيرازي وعامل ارتباط بين حركة الاستقلال في بغداد والكاظمية وبين العلماء في المدن المقدسة وكان يلقي خطابات في الناس حول الثورة مشجعا اياهم على اشتراك كما شارك مع مثقفين  اخرين امثال علي بزركان وعارف حكمت  في مقالات افتتاحية في صحف الثورة في النجف وخاصة الفرات التي كان يديرها محمدباقر الشبيبي . كان جعفر ابو التمن احد الشخصيات العراقية التي وصلت الى مكة يوم 9 اذار 1921 وهم السيد نور والسيد علوان الياسري والسيد محسن ابو طبيخ والسيد هادي المكوطر ومرزوق العواد وشعلان الجبر ورايح العطية وصلال الفاضل وعلوان الحاج سعدون كما التحق بهم المرزا احمد الاخوند الخرساني ومحمود رامز وزكي امين المدفعي وشاكر القره غولي للالتقاء بالشريف حين والطلب منه  تعيين ولده عبد الله ملكا على العراق فرحب بهم واخبرهم بانه والحكومة البريطانية يفضلون الامير فيصل لذلك الا ان جعفر بقي مصرا على مبايعة الامير عبد الله وبالرغم من ذلك فقد كانت العلاقة وطيدة بين الامير فيصل وابو التمن حيث اعتاد فيصل ان يلتق في بيت ابو التمن  الذي كان ينزل فيه في مكةاو في قصره وخاصة في ليالي رمضان ومع ذلك ظل ابو التمن رافضا مبايعته بعبارات مهذبة  وحينما عاد ابو التمن الى بغداد في16 ايلول 1921 جرى له استقبل حافل شارك فيه محمد مهدي البصير وباقر الشبيبي وجلال بابان عند البصرة فيما تجمع المواطنون في بغداد لاستقباله يهتفون بالاستقلال والحرية ومنذ عودته وهو يعمل من اجل الوحدة الوطنية والحصول على الاستقلال الذي كان يشغله اكثر مما تشغله قضية اختيار فيصل لعرش العراق واخذ يتحرك باتجاه التعاون مع العناصر السياسية العراقية لصالح الوحدة الوطنية. وبذلك عارض جعفر المعاهدة البريطانية العراقية عام 1924 واعتبرها مجرد مكيدة للابقاء على الانتداب  ومن اجل معارضة المعاهدة قام بجولة في منطقة الفرات الاوسط  وعلى الرغم من نجاحه واصحابه في اثارة الحماس ضد المعاهدة الا انه فشل في الاجابة على القضايا الخطيرة وخاصة في كيفية حماية حدود العراق ودخول عصبة الامم كدولة ذات كيان مستقل وفي 22 كانون الثاني انتخب جعفر لعضوية المجلس البلدي لمدينة بغداد باكثرية كبيرة  وفي 15 نيسان 1922 تم تعيين جعفر ابو التمن وزيرا للتجارة في وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية ولما كان جعفر من المعارضين للمعاهدة البريطانية الاولى فقد قدم استقالته في 29 حزيران 1922 وتفرغ للعمل ضمن المؤسسات الديمقراطية كطريق لتحقيق برنامج وطني  وظل هكذا حتى عام 1936 وفي 28 تموز 1922 قدم جعفر ابو التمن طلبا الى وزارة الداخلية للحصول على اجازة تشكيل الحزب الوطني وذلك انسجاما مع الثوابت الديمقراطية ومع الوطنية العراقية التي يؤمن بها وضم الحزب في هيئته التاسيسية شخصيات سنية وشيعية بهجت زينل ومحمد مهدي البصير واحمد الشيخ داود وعبد الغفور البدري وانتخب جعفر سكرتيرا عاما للحزب واصدر صحيفة( اعلام الاسلام) الناطقة بلسان الحزب. فيما تاسس حزب اخر باسم حزب النهضة اضافة الى حزب العهد وحاول ابو التمن دمج الاحزاب الثلاثة في حزب واحد وفي 4 ايلول 1922 ابعدت السلطات البريطانية ابو التمن وعدد من اصحابه الى جزيرة هنجام بسبب نشاطهم السياسي المعارض للاحتلال ومن بينهم حمدي الباجه جي وحبيب الخيزران وغيرهم الذين وصفتهم بالمتطرفين. وفي 26 آب 1926 اختير جعفر ابو التمن عضوا في اللجنة العليا الخاصة بتاسيس الهيئات التنفيذية والتشريعية لكل المراكز في النجف .

لقد تمتع جعفر  خلال مسيرته السياسية بسمعة طيبة واسعة الانتشار حيث نال اعجاب الشخصيات الوطنية الشابة ووثقت به وبقيادته كلما شرعوا بنشاطاتهم السياسية حيث دافع عنها في الصحف وفي البرلمان وايد اراءهم السياسية

وحينما تاسست جماعة الاهالي بزعامة حسين جميل وكامل الجادرجي وعبد الله اسماعيل ومحمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم كانوا يتطلعون الى عرض القيادة على جعفر ابو التمن الذي اعتزل العمل السياسي بعد وفاة الملك فيصل لما شاهده من فساد ونفاق  ووافق ابو التمن على الانضمام الى الاهالي بعد ان تاكد من انها لم تكن منظمة سياسية الا انه فيما بعد انشا تنظيما سريا هو الشعبية واختير جعفر رئيسا له ويضم جماعة الاهالي التي ساهمت مساهمة مباشرة في الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق بكر صدقي وضرب عرض الحائط كل الافكار الديمقراطية التي كان يدعوا لها ابو التمن الذي اصبح وزيرا للمالية في حكومة الانقلاب برئاسة حكمت سليمان  مما اضطره في الاخير الى تقديم استقالته واعتزال السياسة نهائيا حتى وفاته

كان ابو التمن يعتقد بداية ان الانقلاب سيعمل على تنفيذ البرنامج الوطني من اجل تطوير البلاد ويبشر بقدوم مرحلة حوار سياسي حقيقي بين كافة الاطراف لكنه عندما تبين له بعد ذلك ان العسكريين الذين نفذوا الانقلاب كانوا في الواقع صورة اخرى لنمط الحكم العثماني القديم فقدم استقالته وترك العمل السياسي وتفرغ للعمل المهني كمواطن عادي .

ففي خضم تلك الظروف ورغم سنين من الجهد ورغم نمو وتطور خبرته السياسية فقد وجد جعفر نفسه في اخر الثلاثينات في حالة من الياس والاحباط ازاء الممارسات الفعلية للمؤسسات البرلمانية الى حد انه كان على استعداد للتورط في مؤامرة انقلابية عسكرية وهو اسلوب غريب عن مبادىء الديمقراطية التي آمن بها كوسيلة لبناء العراق الحضاري القائم على العدل والقانون والديمقراطية واختار ابو التمن حياته كمواطن عادي يذهب ويعود مشيا على الاقدام الى محل عمله منشغلا في شؤون مهنته وعائلته  وتفرغ للاعمال التجارية وانتخب رئيسا لغرفة تجارة بغداد واحتفظ بعضوية الغرفة حتى وفاته في عام 1945.

 

 

 

 

مقتل الفريق جعفر العسكري

 

كان الفريق جعفر العسكري وزير الدفاع حينما سمع البيان الاول للانقلاب تألم من هذا العمل الطائش الذي اقترفه بكر صدقي واعتبر حركة التمرد صفعة وجهت الى كبريائه وكرامته فكيف غفل عن هذا التمرد واراد ان يتدارك الامر قبل فواته ويحبط هذه المؤامرة الكبرى بنفسه وعلى مسؤوليته وبدون ان يستشير الهاشمي في هذا الموضوع. وحرر عدة رسائل الى نائب رئيس اركان الجيش أمين العمري ليرسلها الى اصحابها مع من يعتمد عليهم وهم

الى الزعيم اسماعيل نامق وجاء فيها: اجمعوا الثلاثة(كذا) كتائب وباقي القوة السيارة وانتظروني في شهربان . يجب ان تتحركوا اليوم نحو شهربان

والى العقيد اسماعيل حقي آمر المدفعية يقول فيها : توجهوا مع القوة المدفعية نحو بغداد بحركة قبل مواصلتي اليكم

ورسالة مماثلة الى العقيد سعيد التكريتي  جاء فيها : اجمعوا لواءكم وتوجهوا نحو بغداد اليوم

وكانت الرسالة الاخيرة الى الفريق عبد اللطيف نوري  جاء فيها : لا تأتوا بحركة لحين وصولي اليكم

جعفر العسكري 29/10/1936

ويقال ان جعفر العسكري كتب غير هذه الكتب الاربعة وان هذه الكتب لو وصلت الى اصحابها لفشلت الخطة التي احكم وضعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري ، ولكنها ارسلت الى الرئيسين حسيب الربيعي وعبد المطلب فجاءا بها الى قائد الفرقة الاولى بكر صدقي بدلا من ان يوصلاها الى اربابها فكان وصولها الى يده سببا لقتل الوزير العسكري.

بعض القادة العسكريين يطلب منهم التهيؤ لحين وصوله اليهم ثم قصد قصر الزهور وطلب من الملك ان يزوده برسالة يحملها الى الفريق بكر صدقي ليحول بينه وبين دخول بغداد وكان الملك غير ميال الى ذلك لكن الحاح جعفر رضخ لللامر فأمر رئيس الديوان رستم حيدر ان يكتب الرسالة التي حملها جعفر وتجه بها الى بكر صدقي.

 جعفر العسكري بعد ان كتب هذه الرسائل استقل سيارة الزعيم امين العمري مصطحبا الحاج شاكر القره غولي الذي روى الحادث لللمؤرخ عبد الرزاق الحسني فيقول وذهب جعفر العسكري الى ديوان مجلس الوزراء ليذاكر رئيس الوزراء في الموقف الراهن فما كاد يدخل بناية المجلس حتى سقطت القنبلة الاولى. ولما علم ان الهاشمي في قصر الزهور اسرع بالوصول اليه فوجد الاجتماع منعقدا فاشترك في المذاكرة واسفرت النتيجة عن تقديم الاستقالة. وبعد ذلك طالب من الى جلالة الملك ان ياذن بكتابة رسالة شخصية الى الفريق بكر صدقي ليحملها اليه بنفسه ليصرف نظره عن دخول الجيش الى العاصمة بالصفة التي هو فيها. ومع ان صاحب الجلالة لم يكن ميالا لقيام وزير الدفاع بهذه المهمة، لم يشأ ان يرد الطلب فامر رئيس الديوان بكتابة الرسالة المطلوبة.

ويقول المؤرخ الحسني في تاريخ الوزارات الجزء الرابع " لقد حاولنا كثيرا ان نعثر على اصل هذه الرسالة او على صورة لها على الاقل فلم نوفق الى ذلك مع الاسف لان الكتاب كتب باليد فلم تحفظ له صورة في القصر ولان جعفر العسكري قتل قبل ان يوصله الى صاحبه ولعل دفن معه تحت الارض.

ويضيف الحسني " وقد التمسنا معالي رئيس الديوان السيد رستم حيدر ان يوجز لنا مضمون الكتاب فقال ان الرسالة تتضمن خبر استقالة الوزارة وتكليف السيد حكمت سليمان بتاليف الوزارة الجديدة حسب طلب الجيش وانتفاء الغاية من الزحف الان.

وتحرك جعفر العسكري من قصر الزهور في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر بصحبة الرئيس – النقيب- الحاج شاكر القره غولي والرئيس الاول- الرائد- طاهر محمد مرافق صاحب الجلالة . وعند وصوله الى شارع نوري السعيد  في طريق بعقوبة شاهد العقيد يوسف العزاوي فساله عن مقر الجيش الزاحف فاجابه العقيد انه ترك خان بني سعد(منتصف طريق بغداد- بعقوبة) فاصطحبه في سيارته ايضا.(عبد الرزاق الحسني،تريخ الوزارت العراقية ،ج 4 ، 198 )

كان الفريق بكر صدقي قد سمع بمقدم الجنرال جعفر العسكري فاعد عدته للقضاء عليه وجمع صفوة الضباط الذين اعتمدهم لتنفيذ فكرة القضاء واسر اليهم بسر بقي مكتوما الى حين ظهوره. فقد تلقى بكر عدة برقيات من بغداد تشير الى حركة العسكري فجمع صفوة ضباطه وقال لهم ان جعفر باشا قادم علينا فمن يتصدى لقتله فلم يجبه احد فكرر السؤال فلم يجه احد . فالتفت الى جمال جميل وقالانت) فاجاب هذا( تأمر سيدي) ثم التفت الى لازار وقال له(وانت) اجابه(أمرك سيدي) ثم قال لجميل فتاح وانت وهكذا قال لجواد حسين.

ولما وصل جعفر العسكري الى نقطة (المخفر) وجد سرية الرشاشات الالية لقد اخذت موقعا عسكريا على عرض الطريق وتقدمت منه سيارة الجيش التي تحمل رقم(129) ويقودها العريف ابراهيم وفيها الرئيس اسماعيل عباوي الموصلي المعروف بـ (ابن توحلة) فنزل منها اسماعيل وطلب الى الوزير ان ينزل ويركب معه لمقابلة الفريق بكر صدقي بعد ان جرده من مسدسه واروراقه ورفض ان يصطحبمعه احدا من رفاقه فلم يسع العسكري غير الامتثال وبقي العقيد يوسف العزاوي والرئيسان شاكر وطاهر محمد في السيارة يحرسهم الجند.

ويقول رفاق جعفر العسكري انهم شاهدوا السيارة التي اقلتهم لا تسير باتجاه الطريق العام وانها سلطت طريقا اخر فحاولوا الاستفسار عن السبب ولكنهم منعوا من الكلام. اما السيارة فانها وصلت الى نهر الوزيرية المندرس وقفت وانزل منها جعفر واسماعيل وذهب بها السائق العريف ابراهيم ليخبر بكر صدقي بمقدم العسكري ثم رجعت بعد بضع دقائق تحمل كلا من الملازم الاول جمال جميل والمقدم جميل فتاح والملازم الاول الطيار محمد جواد حسين والرئيس الاول لازار برودورموس والاخير رومي الاصل تطوع  في الجيش الحجازي العربي عام 1918 فكان موضع رعاية العسكري فقدمه ورقاه حتى اوصله الى رتبة رئيس اول- رائد- في الجيش العراقي وقد نزل هؤلاء الاربعة من السيارة بعد ان ملأوا مسدساتهم فتقدموا من الوزير واطلق كل منهم عيارا ناريا عليه فسقط العسكري يتخبط بدمه ويلفظ النفس الاخير. ويقال ان الرئيس لازار رفس القتيل بقدميه بعد ان ضربه بمسدسه.

ويؤكد ذلك  الحسني فيقول" جلست الى الفريق عبد اللطيف نوري في مقهى ( الترينوف) بدمشق يوم 4 تموز سنة 1939 وتحدث عن الانقلاب اذ حاولت استجلاء ما غمض من الاخبار فقال معاليه" ان قتل العسكري لم يكن يخطر على بال احد وانه لا يزال مكمودا من أثر هذه الفاجعة ولهذا فانه لا يريد البحث في هذا الموضوع لان صحته لا تساعده.وركب القادة سيارتهم وذهبوا الى الفريق بكر صدقي ليخبروه بما تم . وطلب اليهم احضار الحاج شاكر ورفيقه، فلما حضروا امامه صافحهم فرادى واخذ اربعين دينارا وسلمها الى العقيد يوسف العزاوي ليؤمن الارزاق الى القطعات الزاحفة على بغداد وأمر الحاج شاكر ان يساعده في ذلك فقال له الحاج" انا جئت بوزير فهل ارجع بحقيبته؟" فاجاب بكر اذهب مع العقيد يوسف ثم ارجع الى وراء سدة ناظم باشا واخبرني عن حالة بغداد وموقف الوزارة من حركة الجيش فلم يسع الحاج الا الامتثال فاستقل السيارة وقفل راجعا. ولما وصلت السيارة مخفر شرطة المغيسيل استوقفها شرطي من المخفر وقال ان جلالة الملك يريد ان يكلم بكرا من هنا بالتلفون.

وبينما هم بالموضوع اقبلت سيارة الجيش التي تحمل الرقم 129 وفيها قتلة جعفر الاربعة فاخبروا بما يريده الملك فلم تمض بضع دقائق حتى حضر بكر وكلم صاحب الجلالة ثم جمع القادة واخذ يملي عليهم أمر الدخول الى بغداد.

وجاءت من بغداد في تلك الاونة سيارة تقل الرئيس سعدي مصطفى ونائب الاحكام انطوان لوقا فتهامسا مع الفريق بكر ولما تهيأ انطوان للعودة ركب معه الحاج شاكر وطاهر محمد وكادت السيارة تصل السدة المذكورة حتى التفت نائب الاحكام اليهما وقال ان جعفر باشا قتل فلا تخبرا احدا. في هذا الوقت كان نوري السعيد وابراهيم كمال وتحسين العسكري ينتظرون جعفرا في دار نوري ، فلما تأخرت عودته ارسلوا السيد احمد المناصفي ليسأل عنه فجاء هذا الى بكر صدقي وساله عن الوزير العسكري فاجابه" انا لم أره ، أنا لا ادري أين هو" فذهب ابراهيم كمال وتحسين العسكري الى اسماعيل توحله وسالاه عن جعفر فانكر معرفة اي شيء عنه.( عبد الرزاق الحسني، المصدر نفسه، ص 200 ).ويضيف الحاج شاكر القره غولي  قائلا" تركنا الجيش الزاحف على بغداد في بعقوبة لنقص حديث مقتل جعفر باشا فعلينا الان ان نرافقه في زحفه الى بغداد. واستمرت تسير سيرا متواصلا حتى بلغت ابواب بغداد في الساعة الرابعة بعد الظهر فاحتلت سدة ناظم باشا المحيطة بالعاصمة احتلالا عسكريا واقامت المتاريس والمدافع وجعلت افواهها موجهة على المدينة فذعر الناس وخافوا وارتبكت الجاليات والشركات الاجنبية وسادت بغداد رهبة  لاتوصف واستولى القلق على السكان وحاول الاهلون ان يجمعوا المؤن الى الايام السود فلم يجدوا مخازن مفتوحة ليتداركوا منها حاجاتهم.

وكان عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الاولى قد بعث ببرقيتين الى أمين العمري والى مدير شرطة بغداد يوصيهما فيهما بوجوب اجتناب كل حركة ضد قطعات الجيش القائمة بواجب وطني . كما جاء في البرقيتين.

وعلى اثر ذلك رد مدير الشرطة العام على برقية الفريق عبد اللطيف نوري بما يلي:

من مدير الشرطة العام الى قائد الفرقة الاولى في الروز.

قوات الشرطة قائمة بواجباتها الاعتيادية على محافظة الامن وسلامة الاهلين وهي لا تعارض قوات الجيش المخلص لجلالة الملك. الوزارة قدمت استقالتها وقبلت.

واجب الزعيم امين العمري على برقية الفريق عبد اللطيف نوري جاء فيها : سقطت الوزارة نحن محافظون على الضبط والامن. اتصلوا تلفونيا بجلالة الملك واذا لزم الامر تتصلون بنا ايضا.( عبد الرزاق الحسني، المصدر نفسه، ص 202 ).

ولما قام السيد حكمت سليمان بحركة 29 تشرين الاول/اكتوبر 1936 قرر ان يشترك معه في المسؤولية كل من السادة نوري السعيد وجعفر العسكري وجميل المدفعي علاوة على السادة عبد اللطيف نوري وجعفر ابو التمن وكامل الجادرجي اذ ما صارت الوزارة اليه. فلما قتل الجنرال جعفر العسكري بالشكل الذي رويناه تبدل الموقف وتغير اتجاه السيد حكمت فاضطر الى ان يستعين برجال اخرين لم ترد اسماؤهم على باله ولا على بال الفريق بكر صدقي ومن هنا نشأت الفكرة التي راجت عن (شعوبية) الوزارة وراحوا يقولون ان الانقلاب(كردي تركي) موجه ضد سياسة العراق العربية. وحكمت سليمان هو اخ محمود شوكت باشا الصدر الاعظم العثماني ونسيب القائد الشهير الفاروقي.

يتحدث اسماعيل العارف في كتابه – اسرار ثورة 14 تموز- عن مقتل جعفر العسكري فيقول نقلا عن العميد الطيار كاظم العبادي كشاهد عن تفاصيل مقتل العسكري فيقول العبادي ( انه هبط بطائرته في – كاسلز بوست- اي منطقة خان بني سعد على طريق بعقوبة- ووقف قريبا من هيئة ركن الفريق بكر صدقي وخلال ذلك علم بوصول وزير الدفاع جعفر العسكري الى منطقة القوات الزاحفة الى بغداد وقرب – كاسلز بوست- وسمع بكر صدقي يسال الضباط المحيطين به عمن يتبرع بتصفية جعفر العسكري فاصاب الجميع الذهول ولم يجد احدا الا ان جميل فتاح تمتم بصوت خافت قائلا – سيدي ممكن بدون قتل ؟- ولكن بكر صدقي تظاهر بعدم سماعه فاصدر في الحال امرا الى كل من جمال جميل ولازار برامادوس واسماعيل عبادي الذي الذي تقدم الى جعفر العسكري وتابط يده اليسرى فشعر جعفر بنواياهم واخذ يستعطفهم قائلا انه يعتبرهم اولاده وانه هو الذي انشا الجيش العراقي ولا مانع لديه من العودة الى بغداد)

ويضيف العبادي( الا انه قبل ان يتم حديثه اشهر اسماعيل عبادي مسدسه واطلق عليه طلقة منه اصابت مقتلا في جنبه الايسر عندما كان يتأبط يده فسقط جعفر مضرجا بدمه فتقدم كل من لازار برامادوس وجمال جميل واطلق كل منهما طلقة على جعفر العسكري الذي كان لا يزال يلفظ انفاسه الاخيرة . اما جواد حسين فلم يصوب مسدسه اليه بل اطلق منه طلقة في الفضاء وبعد ان اسلم الروح تولوا دفنه تحت سفح احدى التلال القريبة) (ص91 ).

كان جعفر العسكري قد اقترح على الملك غازي ان يسلم الى بكر صدقي شخصيا رسالة منه يطلب فيها الا يزحف على بغداد مع قواته وبالرغم من ان الملك غازي حاول ان يثني جعفر ا عن فكرته هذه فانه الح عليه لاعتقاده بانه يستطيع ان يغير راي الضباط لما يتمتع به من محبة في الجيش فخرج بالسيارة يصحبه ضابط لمقابلة القوات في طريق بعقوبة فلما التقى بها على بعد 12 كيلومترا تقريبا من المدينة طلب اليه احد الضباط ان ينزل من سياراته ويركب معه في سيارة اخرى وكان هذا الضابط هو اسماعيل عباوي المعروف باسم اسماعيل توحلة الذي توفي عام 1968 الذي قام سنة 1933 مع جماعته من حملة الرشاشات بمذبحة(سميل) وانحرفت هذه السيارة عن الشارع وسارت في طريق صحراوي ومنذ ذلك الوقت اصبح جعفرا مفقودا  وقد علم بعد بضعة ايام انه قتل بالرصاص ودفن بصورة مستعجلة في الصحراء.

مجلس الوزراء العراقي حينما سمع عزيز الطائرات وقراءة المنشورات اجتمعوا في القصر الملكي لمواجهة الموقف، وان وزير الدفاع تأثر كثيرا عندما اتضح الامر، وظل يكرر هذا مستحيل.. هؤلاء اولادي وبكر صدقي اخي . هذا مستحيل..لابد ان اذهب اليهم بنفسي؟ وعبثا اراد زملاؤه ان يمنعوه من مواجهة جيش متمرد، ولكنه ترك الاجتماع فورا ، وهرول الى سيارته ، ثم الى حيث الجيش المرابط. ولما وصل الى مقرهم اعترضه عدد من الضباط وأمروه بان لا يتقدم. كان جعفر العسكري عاطفي المزاج يفيض حرارة وانسانية فلم يتراجع عندما اراد الضباط ان يوقفوه بل تمادى في السير قبلا فاتحا ذراعيه وصائحا. مذا بكم اولادي؟ ما هذا التصرف؟ أين قائدكم بكر؟ انتم السند والحمى.فكان الجواب على صرخاته المتواصله طلقات نارية اردته قتيلا. لقد دفنت جثته بالبسته العسكرية على ضفة ترعة مجاورة في حينه وظل مكانها مجهولا الى ان اطاح انقلاب آخر بحكومة حكمت سليمان بعد مرور ما يقارب السنة.

يتحدث عبد الرزاق الحسني في الجزء الرابع من تاريخ الوزارات العراقية فيقول" ان جعفرا اعتمادا على ما له من منزلة ومحبة في نفوس الضباط ذهب لمواجهة زعماء حركة الانقلاب ليحول دون توسع الحركة ، وقد مضى في طريق بعقوبة يرافقه الحاج شاكر القره غولي فلما وصل الى نقطة ( الخفر) تقدمت منه سيارة عسكرية نزل منها الرئيس – الرائد – اسماعيل عباوي وطلب منه ان يترك سيارته ويركب معه لمقابلة الفريق بكر صدقي بعد ان جرده من مسدسه وبعض اوراقه ورفض ان يصطحب معه احدا من رفاقه فلم يسع العسكري غير الامتثال واخذ الى نهر الوزيرية المندرس حيث اطلق عليه الرصاص فسقط ينشخط في دمه ويلفظ النفس الاخير واحضر شاكر القره غولي امام بكر صدقي فأمره بالعودة الى بغداد فقال شاكر ( انا جئت بوزير فهل ارجع بحقيبته؟)

يتحدث مير بصري في كتابه نقلا عن ضابط متقاعد موثوق ان قتلة جعفر العسكري دفنوا جثته في احد البساتين هناك وان صاحب البستان رأى عن بعد مقتل شخص يرتدي الملابس المدنية ودفنه في ارض ضحلة فلما ذهب القتلة وحل الظلام اتى صاحب البستان مع زوجته فحفرا واستخرجا الجثة واعادا دفنها بمكان بعيد بقرب ساقية جافة ولم يعرفا هوية القتيل.

وفي اليوم التالي ارسل بكر صدقي اعوانه لاستخراج الجثة وحرقها فبحثوا عنها فلم يجدوها وخاف صاحب البستان ان يخبرهم بما فعله في الليلة الماضية.ولما قتل بكر صدقي وجاء اقارب جعفر العسكري يبحثون عن جثمانه اخبرهم صاحب البستان بما كان من امره.

وفي 4 تشرين الاول 1937 نقل جثمان جعفر العسكري الى المقبرة الملكية باحتفال مهيب حيث دفن الى جواره بعد ذلك رستم حيدر الذي اغتيل هو الاخر حينما كان وزيرا للمالية على يد مفوض الشرطة حسين فوزي.

وقيل ان نص الرسالة التي حملها جعفر العسكري قد كتبها رستم حيدر رئيس الديوان الملكي انذاك بتكليف من الملك غازي جاء فيها

عزيزي بكر صدقي

تتسلمون هذا الكتاب من يد السيد جعفر العسكري الذي سيلاقيكم بصورة خصوصية لاجل بحث الموقف . لقد بلغني الان ان بعض الطيارات القت ثلاث قنابل فاستغربت جدا لهذا الحادث الجديد بعد ان سبق لي ان اخبرتكم تلفونيا بلزوم ايقاف كل حركة بينما اتدبر الوضع الحاضر ان كل حركة اخرى سوف لا تخلو من ان تؤثر اسوأ الاثر على مستقبل البلاد وسمعة الجيش اذ ليس من حاجة البتة لشيء من ذلك وسوف تفهمون التفاصيل من جعفر)

29 تشرين الاول 1936

القائد العام

غازي 

ومن الغريب في هذه الرسالة ان كاتبها رستم حيدر والموقع عليها الملك غازي وحاملها جعفر العسكري  والشخص الذي ارسلت اليه وهو بكر صدقي انهم جميعا ماتوا مقتولين

ومن الغريب ان جعفر العسكري الذي عمل جاهدا في سبيل تاسيس جيش وطني ان يكون هو اول ضحايا الجيش عند ثورته وقد نقل جثمانه الذي دفن في البداية في مكان اغتياله الى بغداد في 5 تشرين الاول سنة 1937 في عهد وزارة جميل المدفعي ودفن باحتفال مهيب في المقبرة الملكية في الاعظمية التي تضم قبور كل من الملك فيصل الاول وزوجته حزيمة والامير علي

لما قتل جعفر العسكري اضطرت زوجته فخرية السعيد شقيقة نوري السعيد ان تغادر العراق الى القاهرة لتكون على مقربة من اخيها نوري الذي كان هناك  في تلك الفترة ومن اولادها الذين يدرسون في كلية فكتوريا بالاسكندرية دون ان توكل احد ليتولى ادارة امورها واملاكها في بغداد . وفي اليوم الثاني من كانون الاول 1936 اي بعد مقتل زوجها بشهر وخمسة أيام عادت الى بغداد على احدى الطائرات المصرية لقضاء بعض المصالح وما كادت الطائرة تحط في المطار المدني حتى ابلغها مدير شرطة بغداد بان الحكومة قررت عدم السماح لها بالعودة الى العراق في الوقت الحاضر وانه مضطر لان يركبها السيارة ويعيدها الى الحدود السورية وعبثا حاولت أم طارق أن تقنع رجال السلطة بضرورة بقائها في بغداد أسبوعا الا أنها أعيدت الى سوريا في الحال تحرسها سيارة مسلحة من سيارات الشرطة .

ومن الشام ابرقت الى الملك غازي تصف فيها المعاملة التي عوملت بها في المطار وتحتج على خرق احكام الدستور العراقي  وطلبت من الملك غازي وضع حد للظلم الذي تتعرض له .

وقد اثار موضوع طرد زوجة مؤسس الجيش العراق جعفر العسكري استغراب وشجب ابناء سوريا عموما وعرض عليها معروف الارناؤوط صاحب جريدة فتى العرب ان تذهب الى داره لتكون ضيفا عليه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وفي شرقي الاردن حينما علم الملك عبدالله الاول بالامر بعث ببرقية الى الملك غازي طلب منه بذل الجهود لحماية ارملة جعفر نظرا لخدمته في الثورة العربية الا ان الملك غازي لم يكن في وضع يستطيع معه تنفيذ ذلك.

كان جعفر العسكري شخصية نادرة بين شخصيات العراق التي تسلمت مقاليد المسؤولية في العراق الحديث فهو يتمتع يشجاعة ولباقة ودعابة وظرافة وكان سياسيا محنكا وصاجب نكتة وله مقالب طريفة ومتنوعة وكان بدينا مكتنز الجسم ذكيا كثير القراءة  يتكلم عدة لغات اضافة الى العربية كان يتكلم التركية والكردية والارمنية والفارسية والالمانية والفرنسية الا انه كان متقلب المزاج بطبيعته وكان نزيها ولطيف المعشر  ميالا الى الاعتدال لا يجيد الدسائس والخداع بل انه يخدع بسهولة فهو متحدث جيد وتكتيكي ممتاز الا انه لم يكن استراتيجيا  شجاعا في المعارك وقظ جدا فيها.

وكان جعفر العسكري رجل عمل ولولب حركة وصفه أمين الريحاني الذي قابله سنة 1922 في وزارة الدفاع بأنه أشبه برجل أعمال أمريكي يدير ادارة كبيرة بالضغط على زر كهربائي وكان الى جانب ذلك شخصية شعبية بغدادية أصيلة في لطفها ومرحها منطلقا على سجيته بلا كلفة ولا تصنع. عمل مير بصري سكرتيرا شخصيا لجعفر العسكري في وزارة الخارجية سنة 1931 – 1932 ويقول في كتابه ( أعلام السياسة في العراق الحديث) كنت في مطلع الشباب ولا أجانب الحقيقة اذ قلت بان الخوف كان يملأ قلبي في بادىء الأمر كلما ذهبت لمواجهته لكنه لم يلبث أن روح عني وأعاد الطمأنينة الى نفسي بفكاهته العذبة وملاطفته وتواضعه. وقد كان مدير الخارجية العام الدكتور حنا خياط وأي بون شاسع بين الوزير الربعة البدين الخفيف الظل الذي يطلق ضحكته المرحة ترن في بهو الوزارة وبين المدير العام الوقور الطويل القامة المعتدل الجسم كالقناة ذي اللحية المدببة القصيرة والكلام الهادىء المتزن والبسمة التي تداعب شفتيه لتقوم مقام الضحكة . وكان الوزير كثيرا ما يداعب مديره العام فيقول : يا دكتور هوّن عليك . ان الدنيا لا تستحق كل هذا الوقار . وكان يشفع كلامه بنكته ساخرة أو أغنية شعبية يدندن بها غير عابىء باستغراب الموظفين والفراشين وكان يداوم في ديوان الوزارة مساءا فاقدم اليه الأوراق للتوقيع فيسألني هل دققتها جيدا؟ فأقول نعم يا باشا ويرد هازئا اذا ظهر فيها اقل خطأ فسوف أشنقك، لكنه كان يشملني بعطفه ويبادر الى ترقيتي كلما سنحت الفرصة . وذات يوم وصلته رسالة من احدى الفتيات الأمريكيات اللواتي قرأن عنه في كتب لورنس وصحبه تعلن اعجابها به وتطلب صورة له موشحة بتوقيعه فظل يسخر من نفسه بطريقة فكاهية ويقلل من شأن مجازفاته أبان ثورة الحجاز قائلا انها لم تكن سوى لعبة لطيفة مسلية ولا شك أن الكلمات الفصيحة لا تعبر عن الفكاهة الساخرة التي كان يرويها بلهجة عامية وروح شعبية أصيلة"( مير بصري، أعلام السياسة في العراق الحديث، ص 104 –105 )

ان سر عظمة جعفر العسكري انما يكمن في حبه للحياة وللناس ذلك الحب الذي كان يعبر عنه بقوة وغزارة وفكاهة طاغية تتسم بالعطف واللين فلا يدع اذن ان احبه الناس صغيرهم وكبيرهم ولا غرو أن تبعه الجنود في تفان ونكران ذات الى خطوط النار وجحيم الموت.( مير بصري، المصدر نفسه).

قالت عنه المس بيل المستشارة الشرقية في السفارة البريطانية ببغداد انه وزير دفاع عربي حر وحقيقي  وانه يتكلم سبع لغات بطلاقة وهي العربية والتركية والكردية والفارسية والانكليزية والفرنسية والألمانية .

ووصفه طالب مشتاق السفير العراقي سابقا في مذكراته( أوراق أيامي) فقال انه رجل لا يعرف الحقد الى قلبه سبيلا، رجل لا يضمر لاصدقائه ورفاقه غير الود والاخلاص رجل ، لا يحمل للانسانية غير الحنو والوفاء، رجل اذا رأى فقيرا عابرا رأف بحاله ومد له يده ، رجل اذا سمع بكاء طفل أشفق عليه واغرورقت عيناه بدموع الرأفة والجنان، رجل الانسانية الفذ . عاش للانسانية ومات في سبيل الانسانية.

وروى نوري ثابت ان جعفر العسكري دخل ذات يوم الى ديوانه فرآه مكتضا بالوجوه الغريبة فسألهم من انتم؟ فاذا بهم كلهم من أقاربه، فهذا ابن عم خال أبيه وذاك يمت بصلة الى قرية عسكر والثالث صديق والده أو جده وهلّم جرا. فصرخ بهم قائلا: اخرجوا جميعا فحينما كنت جعفر أفندي لم يكن لي قريب وها انتم الان أصبحتم كلكم أقارب جعفر باشا.( مير بصري، المصدر نفسه ، ص 107)

رثاه الشاعر معروف الرصافي قائلا:

للجعفرين شهادة الأبرار          للعسكري وجعفر الطيار

هذا قضى بيد اللئام مضرجا     بدم وذاك بأنصل الكفار

هذا لموطنه وذاك لربه          وقفا اجلّ مواقف الأبرار

يبكي العراق لفقد سائس حكمه      شجوا وقائد جيشه الجرار

يزهو محياه الوضيء كأنه        قمر يشع اليك بالأنوار

يبكي بكاء المتقين تضرعا       طورا ويضحك ضحكة الفجار

وتراه يعمل في المقر معبسا    ويهش مبتسما الى الزوار

وتراه بين مجالسيه ممازحا     وتراه مصطخبا بيوم شجار

هذا هو البطل الذي فجعت به     صيد البلاد وسادة الأمصار 

 

 

حينما كان العراق جزءا من الامبراطورية العثمانية كانت حصته من تلامذة كلية استنبول العسكرية تتراوح بين 60 – 70 تلميذا يتخرجون ضباطا في الجيش العثماني

 

 

 

فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة

سيف الدوري

 

 

هو فيصل  ثالث انجال الملك حسين ملك الحجاز(1854- 1931) من زوجته عابدية ابنة عمه عبدالله كامل باشا شريف مكة واميرها. والملك حسين هو ابن الشريف علي باشا( المتوفي سنة 1870) بن الشريف محمد( 1790- 1857 ) بن عبد المعين بن عون بن محسن بن عبد الله بن حسين بن الشريف عبدالله بن الشريف حسن بن الشريف ابي نمي الثاني محمد بن بركات الثاني بن محمد بن علي بن الشريف قتادة(1133- 1220 اول الامراء في مكة) ابن ادريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد الثائر الثاني بن موسى بن عبدالله بن محمد الثائر الاول بن يونس بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه من زوجه فاطمة بنت الرسول محمد (ص)

ولد الشريف فيصل في مدينة الطائف مصيف الحجاز يوم الاحد الموافق 20 ايار/مايو 1883 (12 رجب 1300 واخذ وهو طفل الى عرب عتيبة النازلين باتجاه البادية الحجازية للرضاع عملا بسنة الاسرة الهاشمية التي درجت عليها منذ قديم الزمان لكي ينشأ ابناؤها نشأة بدوية ويشبوا على ما امتاز به البدوي من حميد الخلال من البأس وتعود شظف العيش الى حب الاستقلال والاعتماد على النفس.

في سنة 1891 دعي الشريف حسين للاقامة في الاستانة( استنبول) فاصطحب اسرته وافراد بيته . وفي تلك العاصمة قضى فيصل عهد صباه واول شبابه حتى عاد الى الحجاز بعد ثمانية عشر عاما عند تنسيب والده شريفا لمكة واميرا للحجاز.

وفي اثناء بقائه في العاصمة العثمانية درس الفتى فيصل مختلف العلوم والمعارف على اساتذة مختصين وتلقى العلوم الدينية والعربية وآدابها حتى بلغ الثانية والعشرين من عمره احتفل بزواجه من الشريفة (حزيمة) ابنة عمه الشريف ناصر باشا فانجبت له ثلاث بنات وابنا واحدا هو الامير غازي .

وفي الحجاز عهد الشريف حسين الى ابنه فيصل ادارة امور الناس . ثم ما لبث ان ولاه مع اخيه عبد الله قيادة الحملة العسكرية التي سيرت لتأديب بلاد عسير الثائرة بقيادة الادريسي بعد أن استنجدت الدولة العثمانية بالشريف حسين لاخضاع قبائل عسير والقضاء على تمردها بقيادة محمد بن علي بن محمد بن ادريس الذي حاصر مدينة ابها عاصمة العسير لحوالي عشرة أشهر عاش السكان خلالها الويلات وأكلوا حتى القطط والكلاب .

فقد وكان فيصل من القادة اللامعين في تلك الحملة التي انتهت بانتصار فيصل الذي كان الاكثر حماسا من ابناء الشريف حسين لاعلان الثورة ضد الاتراك وقد يعود الى اتصالاته برجال الحركة العربية في سوريا اذ كان لفيصل الدور الاساس في هذه الثورة حيث استمرت القوات العربية في مطاردة القوات العثمانية حتى شمال سوريا وحتى اعلان الهدنة عام 1918 .

 وبعد عودته من الحرب في عسير موفقا منصورا انتخب نائبا عن جدة في مجلس النواب العثماني( المبعوثان) فشد الرحال ثانية الى الاستانة سنة 1913 وبقي خلال السنوات القلائل يتنقل بين العاصمة العثمانية وقاعدة الاسلام. وعرف الشريف فيصل في المجلس العثماني بنزعته العربية وغيرته القومية. فلما خاضت تركيا غمار الحرب العظمى واخذت نوايا الاتحاديين ازاء العرب تبرز للعيان على حقيقتها ضاعف فيصل مساعيه في خدمة امته ولم يلن جهده في سبيل القضية العربية. ثم تفاقمت الامور ولق احرار العرب في سوريا على اعواد المشانق فلم يغن عنهم احتجاج فيصل باسم والده فتيلا حينئذ اسرع الشريف بالعودة الى الحجاز وكان جمال باشا والي سوريا الاتحادي قد ارتاب في امره وهم باعتقاله ساعة ان كان الشريف حسين يعد عودته للقيام بوجه الظلم والتخلص من ربقة استبعاد العثمانيين الذين لم يلبثوا له طلبا ولم يعيروه التفاتا واهتماما.

كان الشريف حسين بعتمد على الامير فيصلا اعتمادا كبيرا وخاصة في  المخابرات والاتصالات سواء مع الباب العالي في استنبول ام مع الاندية السياسية ) ويضيف المؤلف ( انه حينما بدأ الشريف حسين اتصالاته مع القوميين العرب ارسلت الجمعية العربية – الفتاة – رسالة الى الشريف حسين لوضع منهاج عام للثورة العربية ضد العثمانيين اختار الشريف حسين ابنه فيصل للسفر والتفاوض في دمشق والاستانة) ويقول المؤلف ( لقد التقى فيصل بكثير من الشخصيات العربية منهم ياسين الهاشمي ورضا الركابي وعبد الغني العريبي واحمد قدري الذين عقدوا العزم على اعلان الثورة وتصفية الاستعمار التركي واعلان استقلال العرب)

كان فيصل نقيا نزيها لا يشرب الخمر ولا يقامر وكان متواضعا يمقت المظاهر لا ينزع الى القوة في التملك ولا يحفل بالمال. فقد وصفه الرئيس الامريكي ويلسون بـ( مسيح الشرق)

في ذلك الحين بلغت القضية العربية مفترق الطرق . ففي التاسع من شعبان سنة 1334 هجرية (10 حزيران/يونيو 1916 رفع الشريف حسين علم الثورة في الحجاز فلبى العرب نداءه الى الجهاد وعهد الى فيصل قيادة الجيش الشمالي . وهنا تجلت موهبة الامير فيصل في فنون الحرب كما ظهرت بعدئذ قدرته في قيادة الشعوب وضروب السياسة. ففي 6 تموز/يوليو 1917 استولى الامير فيصل على العقبة ثم اصبح قائدا عاما للجيش العربي المحارب في فلسطين الى جنب قوات المشير اللنبي البريطانية . وفي اول تشرين اول/اكتوبر 1918 داخل دمشق على رأس الجيش العربي الثائر.

فيصل في سوريا

---------------

وعن دخول فيصل الى سوريا فقد دخل فيصل دمشق على صهوة جواد عربي مخترقا المدينة من الجنوب الى الشمال يحيط به الف وخسمائة من فرسانه وحاشيته على خيولهم المطهمة فاستقبله العلماء والكبراء والاعيان ونثروا في طريقه الزهور والرياحين ، بعدها بدأ فيصل  حال وصوله تشكيل حكومة عسكرية بحتة في دمشق عهد الى رئاستها للسيد رضا باشا الركابي الذي حث الاهالي على الهدوء والسكينة والطاعة للحكومة الجديدة.

ولم تمض اسابيع قليلة حتى عقدت الهدنة وانتهى جهاد الامير فيصل في ساحة القتال فسافر في 22 تشرين الثاني /نوفمبر 1918 الى باريس لتمثيل والده في مؤتمر الصلح المنعقد فيها وكان من واجبه تذليل العقبات التي اعترضت طريقه . وبقي يتنقل بين العواصم الاوروبية الكبرى مفاوضا الحكومات ومناضلا في سبيل القضية العربية. وعاد الى سوريا في اوائل عام 1920 فلم يلبث طويلا حتى نادى به المؤتمر السوري العام ملكا دستوريا على البلاد السورية في 8 اذار/مارس من السنة نفسها الموافق(19 جمادي الثانية 1338 هجرية) ولكن هذه المملكة الفتية التي كان يحيط بها الاعداء والمناوئون لم يقدر لها البقاء فما اسرع ما وقعت واقعة ميلسون في 25 تموز/يوليو 1920 وكان من نتائجها خروج الملك فيصل من ديار الشام موليا وجهه شطر اوروبا مرة ثانية حيث المفاوضة واستئناف الجهاد.

الا ان عقبات واجهت فيصل كانت اول نكسة اصابت فيصل والدولة العربية الجديدة جاءت من جانب الفرنسيين هي انزال العلم العربي من على دار الحكومة في بيروت تنفيذا للاتفاقية بين فرنسا وبريطانيا( مؤامرة سايكس –بيكو) لتحديد مناطق النفوذ وذلك حين احتلت القوات الفرنسية بيروت ثم عموم لبنان ثم اصرارها على احتلال سوريا والقضاء على استقلالها بعد ان ارسل الجنرال الفرنسي غورو الى فيصل شروطه – المعروفة بالانذار الفرنسي- التي هدد بان قواته ستكون مطلقة اليد في العمل فيما اذا رفض الشروط الفرنسية.  وقد احدث الانذار الفرنسي هزة عنيفة في سوريا لكونها تعني الاحتلال بعينه وعندها توجه يوسف العظمة وزير الدفاع الى منطقة ميسلون للدفاع عن دمشق وخاض المعركة المشهورة باسم ميسلون والتي استشهد يوم 24 تموز/يوليو 1920 فيها مع 800 من المقاتلين العرب . بعدها تسلم فيصل كتابا رسميا من الكولونيل الفرنسي- تبولا- يدعوه فيه باسم الحكومة الفرنسية لمغادرة البلاد .

 وفي يوم 28 تموز 1920 ازدحم القطار بكبار القوم لوداع الملك فيصل الذي كان بادي التاثر والانفعال وركب القطار معه حاشيته ومعه ساطع الحصري وعبد الرحمن الشهبندر متوجها الى درعا ومنها الى الاردن فالحجاز.

قصد الملك فيصل ايطاليا فبقي فيها مدة ثم غادرها الى انكلترا . وفي آذار/مارس 1921  انعقد مؤتمر القاهرة برئاسة المستر ونستون تشرشل وزير المستعمرات لتسوية شؤون بريطانيا في الشرق الادنى وكانت الثورة قد اندلع لهيبها قبل ذلك في العراق ورأت الحكومة البريطانية ان الامر لن يستتب في بلاد الرافدين الا اذا منح اهلوها الاستقلال الذي يصبون اليه وانشئت لهم حكومة وطنية نيابة يقوم على راسها ملك عربي.

وكانت شخصية الملك فيصل تجمع في ذاتها كل المزايا التي كان لزاما ان تتوفر في من يرشح لاشغال هذا المنصب السامي. فلقيت فكرة اعتلائه لهذا العرش الجديد كل تأييد واستحسان. وفي 12 حزيران غادر فيصل ميناء جدة البحري متوجها الى العراق فوصل الى ميناء البصرة في 24 حزيران/يونيو ومنها الى بغدا فاستقبل اروع استقبال واحتفل به اعظم احتفال والقى الامير فيصل خطابات في الحفلات التي اقيمت تكريما له وكانت بلغة فياضة بالشعور القومي والاهداف السامية كان لها في النفوس اجمل الوقع وابلغ الامر.

وفي 11 تموز/يوليو 1921 قرر مجلس الوزراء العراقي المنعقد برئاسة نقيب الاشراف عبد الرحمن الكيلاني انتخاب الامير فيصل ملكا على للعراق ثم جرى الاستفتاء لحصول مصادقة الشعب على الانتخاب ، فأيدته 96 بالمائة من الاصوات. وفي 23 آب/اغسطس 1921 (18 ذي الحجة 1339 هجرية) احتفل في ساحة برج الساعة( القشلة) في بغداد بتتويج جلالته ملكا على العراق حيث تلى خطاب العرش المشهور.

 

فيصل في العراق

---------------

 اعتقدت بريطانيا بان فيصل سوف لن يعترض على تنفيذ مشاريعهم المقبلة الخاصة بالمنطقة العربية ولان التقارير البريطانية الواردة من العراق كانت تشير الى عدم ممانعة العراقيين لزعامة الاسرة الهاشمية قررت السلطات البريطانية اتخاذ الاجراءات الكفيلة بتعيين فيصل ملكا على العراق وذلك في مؤتمر القاهرة اذ بمجرد انفضاض المؤتمر بدا العمل من اجل تنصيب فيصل ملكا على العراق ففي الحال ابرق جعفر العسكري وزير الدفاع العراقي من القاهرة في 25 اذار 1921 الى الامير فيصل يبلغه قائلا- ان المؤتمر قرر تشكيل الجيش الوطني كذلك تقرر عرض دعوة لجلالة مليكنا والدكم نصره الله بخصوص ارسال جلالتكم الى العراق.

 وكانت الحكومة البريطانية تعد فيصلا اهم المرشحين لعرش العراق فمن خلال المراسلات البرقية بشان السياسة في بلاد ما بين النهرين اوضح تشرشل وزير المستعمرات والمسؤول عن الملف العراقي انذاك ان فيصل يعد من اهم المرشحين لعرش العراق . لكن فيصل اعترض على ترشيحه لعرش العراق مستندا في ذلك الى ترشيح اخيه الامير عبد الله لهذا العرش من قبل المؤتمر العربي في دمشق الا ان الحكومة البريطانية تعهدت له بترضية عبد الله والتفاهم معه فوافق فيصل على ذلك .

وتمهيد لعملية اعتلاء عرش العراق جرى استفتاء شعبي في عموم مناطق العراق وفي ضوء النتائج الايجابية قررت السلطات البريطانية تحديد الساعة السادسة من صباح 23 آب /اغسطس 1921 يوما لتتويج فيصل الذي جرى في ساحة برج الساعة (القشلة ) حضرها عدد كبير من الاعيان والوجوه والسراة حيث تلا سكرتير مجلس الوزراء بلاغا على الحضور تضمن مبايعة الامير فيصل بملوكية العراق بعدها نهض فيصل والقى خطابا مدونا استهله بالشكر للعراقيين على مبايعتهم اياه مبايعة حرة . وهكذا اصبح يوم 23 آب 1921 مولد المملكة العراقية في العصر المعاصر اي ميلاد الدولة العراقية الجديدة بعد سبعة قرون من الاستعباد والضم .

مما لا شك فيه ان الجهود التي بذلها الملك فيصل الاول لترسيخ الوحدة الوطنية العراقية وتكوين العراق على اسس قومية قطعت شوطا بعيدا ، ففي مدة حكمه كان الهدف الاساس من بين الاهداف الرئيسة الاخرى للسياسة العراقية يرتكز على المهمة العاجلة لاقامة روابط ثابتة من المشاعر والاهداف المشتركة بين عناصر العراق المختلفة، ومن خلال الروحية التي تجمع العراقيين عربا وكردا وتركمان مع الاقليات الاخرى ، وحرص الملك فيصل الاول على ان يحصل الكرد على نسبة ملائمة من وظائف الدولة ، كما اعتقد ان معظم واجبات العربي العراقي تشجيع اخيه الكردي العراقي للتمسك بقوميته ، والانضواء تحت الراية العراقية .

كانت التهمة الموجهة الى الملك فيصل من الطامعين في التحكم والتسلط سواء في ذلك رجال المدرسة القديمة في السياسة، ام المثقفون الجدد المحرومون، ام العناصر التي الفت التمرد واثارة الفتن من رجال الدين وشيوخ العشائر . انه كان يمالىء الانكليز ويسايرهم . وقد نسي هؤلاء جميعا وعلى الاخص بعد ان فشلت ثورة سنة 1920 ذلك الفشل المريع في تحقيق اهدافها بان العراق لم يكن منذ الغزو المغولي وما بعدها شيئا مذكورا لا في تاريخ العالم ولا بين الامم. وان فيصلا بمساعدة المخلصين من العراقيين وغيرهم ، قد استطاع لاول مرة ان يضع أسس قيام حكومة عراقية يديرها العراقيون بانفسهم. ولم يكن بمستطاع اي حاكم مثله يبرز في بلد تحتله الجيوش الغازية، ويعوزه النصير من اي بلد اخر في العالم، عربيا كان ذلك النصير ام غير عربي، ان يقف بوجه الانكليز ويصارعهم لانه لا يمتلك القوة لعمل ذلك. وهذه الحقيقة ما تزال تغيب حتى اليوم عن اذهان كثير ممن يدعون الالمام بالحقائق ودراسة الموضوعات المتعلقة بالحكم ، من الذين يحمون او يؤرخون الواقئع بحمة وانصاف .لا نريد بهذا القول ان ندافع عن فيصل ورجاله ، وانما الحقيقة تقتضي مثل هذا القول.

علاقة فيصل بالانكليز

--------------------

 مرت علاقة الملك فيصل الاول بالبريطانيين بمرحلتين – الاولى منذ قيام الثورة العربية عام 1916 حتى تتويج فيصل عام 1921 والثانية منذ التتويج حتى وفاة فيصل عام 1933 . وهذه العلاقة كانت علاقة حلفاء له وللثورة العربية فيما شهدت المرحلة الثانية تبديلا في تلك العلاقة التي اخذت تتغير من علاقة ود وصداقة الى برود بل وتأزم في حالات كثيرة والى تهديد ووعيد من قبل بريطانيا.

 تحمل فيصل ضغوط الانكليز بشكل لا يحسد عليه واستطاع أن يخلق بل ويشدد الضغوط على الانكليز بحيث استطاع أن يفت في كثير من الاحيان في عضدها وينتزع من فم التمساح مطالب ليس من السهل انتزاعها.

 وقدمت بريطانيا للملك فيصل مسودة غير رسمية للمعاهدة لمعرفة رأي الجانب العراقي تضم 15 مادة تمكن بريطانيا من القيام بالتعهدات في صك الانتداب تلك المعاهدة التي أبدى فيصل مخاوفه منها وقدم تعديلات الا أن بريطانيا رفضتها فابدى فيصل صلابة أيضا تجاه الموقف البريطاني موضحا عدم استعداده لقبول ورئيس وزرائه لمساعدة بريطانيا. بل أن فيصلا أخذ يضغط على بريطانيا لقبول مقترحاته، فيما أصرت بريطانيا على موقفها مما اضطر مجلس الوزراء على الموافقة على المعاهدة رغم اعتراض الوزير الوحيد جعفر ابو التمن .

 ان فيصل لم يكن أداة طيعة بيد السلطات البريطانية بل كان رجل دولة استخدم فلسفته السياسية وطموحاته وفنه في تصريف العلاقات العراقية – البريطانية ورغم أنه كان في نزاع مستمر مع الانكليز فقد رفض تصديق قرار وزارته بتوقيع المعاهدة الاولى ووقف مع القوى الرافضة للانتداب بل انه دفعها للتنديد بها.

 ان بريطانيا وجدت أن فيصلا لا يطبق سياستها في العراق بل على العكس من ذلك كان يطبق سياسة – خذ وطالب – مما أدى بها الى مناقشته والتخلص منه اذ أن البريطانيين يعتقدون أن فيصلا يريد استقلال العراق وقوته لتحقيق أحلامه التوسعية – كما وصفوها – في تكوين الامبراطورية الامبريالية .  لم تكن معاهدة عام 1922 والبروتوكول الملحق بها الوثيقة الدولية الاخيرة التي حددت بموجبها طبيعة وابعاد العلاقة بين العراق وبريطانيا ففي الاعوام القليلة التي تلت برزت على المسرح السياسي مشكلة الموصل ، وقد تم في عام 1925 عرض المشكلة على عصبة الامم التي عينت لجنة متخصصة لبحث مختلف جوانب المشكلة وقد اوصت هذه اللجنة في تقريرها المقدم بأن يحتفظ العراق بالموصل شرط أن تعقد معاهدة جديدة تضمن استمرار الانتداب البريطاني لمدة خمسة وعشرين عاما الا اذا قبل العراق خلال ذلك عضوا في عصبة الامم.

 وجد العراق مسالة الاختيار بين رفض التوقيع على المعاهدة المقترحة ومن ثم بروز احتمال فقدان الموصل او القبول بالشرط الذي وضعته لجنة عصبة الامم فارتضت الحكومة العراقية بالخيار الثاني وتم التوقيع على معاهدة جديدة عام 1926 تضمنت اقرار العراق لتوصيات لجنة الحدود التابعة لعصبة الامم.

 عندما شرع فيصل في تنفيذ قانون التجنيد الاجباري لتكوين جيش قوي كخطوة اساسية لتحقيق استقلال العراق عند دخول عصبة الامم وتمادى في سياسته الى درجة انه اهمل رغبات السلطة البريطانية في بغداد وأصر مستشارو المندوب السامي البريطاني ووكيله على اقصائه ونفيه خارج العراق لكن المندوب السامي فضل بقاءه واتباع أساليب أخرى معه لاخضاعه .

 واستمرت لعبة شد الحبل بين بريطانيا وفيصل ففي الثالث من تشرين الاول/ اكتوبر 1932 شعرت بريطانيا أن فيصلا أصبح خطيرا جدا بتحوله نحو قوى مناهضة لبريطانيا بعد تلقيه دعوة شخصية من الزعيم الايطالي موسوليني لزيارته وهو في طريقه الى سويسرا. اذ فسر البريطانيون هذه الدعوة بانها تقديم مساعدة ايطالية للعراق عند سحب أو تقليل المستشارين البريطانيين العسكريين والمدنيين الذين يعملون في العراق أي احلال الايطاليين محل البريطانيين .

 لذلك أصبح وجود فيصل يشكل تهديدا خطيرا لبريطانيا ولعل ما نشرته الديلي ميل اللندنية عند زيارة فيصل لبريطانيا في حزيران 1933 يجسد ذلك فقد ذكرت الصحيفة ان الدوائر المختصة في لندن كانت تشك كثيرا في عودة فيصل الى العراق بعد استشفائه في سويسرا.

كان الملك فيصل الاول الذي دعي للقيام بزيارة رسمية الى انكلترا والتي احسن توقيتها . ترك ابنه غازي الذي بلغ الحادي والعشرين من عمره، وصيا عنه في بغداد . وقد وصل فيصل الى لندن في اليوم العشرين من شهر حزيران بصحبة ثلاثة من الوزراء هم ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورستم حيدر. كانت تلك الزيارة ناجحة نجاحا تاما. فبعد اقامة امضاها في قصر بنكغهام، قام فيصل بزيارة سكوتلندا وديفو نشاير ، كما امضى اياما اخرى في سويسرا.

ومن سويسرا وصلت الانباء في الثامن من ايلول/سبتمبر الى بغداد تعلن بان الملك فيصل الذي كان الى جانبه اخوه الملك علي ونوري السعيد ورستم حيدر قد توفي فجأة على اثر نوبة قلبية اصابته في مدينة برن بسويسرا.

لقد كانت الرجة التي احدثتها هذه الخسارة التي لا تعوض مفاجأة بصورة مؤثرة لما له من مكانة في قلوب العراقيين وقد بدا هذا الشعور لدى وصول جثمانه من ميناءي (تريست) و(حيفا) بفلسطين يوم الرابع عشر من ايلول /سبتمبر 1933 .ذلك التعبير عن الحزن الواسع الذي اصاب الامة العراقية. فقد كانت خدمات فيصل الاول في الواقع تتجاوز الثمن بالنسبة الى دولة كان هو روحها ومجسدها معا على حد سواء التي برهنت  اهمية تلك الخدمات في الايام والسنوات التالية على انه لا يمكن الاستغناء عنها قط. فلم يعد مستطاعا لاي شخصية  ان يحتل مكانه بصفة موازن القوى أو أن يحتفظ بعلاقاته المتعادلة مع اصحابه المتطرفين ومع البريطانيين وطائفة المثقفين في المدن.

علاقة فيصل بالعراقيين

---------------------

 خلال حكم فيصل للعراق حرص على عدم بروز اي شخصية سياسية تطغي على شخصيته لهذا كان يعمل على عدم ابقاء اي رئيس وزراء فترة طويلة في الحكم خشية أن يصبح عنصرا مؤثرا في السياسة وهذا ما لم يكن يرغب به وقد ظهر ذلك جليا مع شخصيتين سياسيتين هما نوري السعيد وعبد المحسن السعدون وكانت علاقته مع كل الساسة العراقيين حتى هؤلاء حميمة لتحقيق الهدف الاسمى- استقلال العراق .

 عمل فيصل على ابعاد نوري السعيد وذكر لناجي شوكت ان نوري السعيد اصبح الكل في الكل وقد تمكن الملك من ازاحته بالفعل رغم المحاولات العديدة التي بذلتها السلطات البريطانية لاقناع الملك بابقائه فقد أصر على اقصائه وعدم اسناد منصب الوزارة اليه مرة اخرى، فقد كان نوري السعيد من أوائل الضباط العرب الذين انضموا الى الثورة العربية عند اندلاعها. وكان اشتراكه في الثورة العربية بداية رفقة مستمرة للاسرة الهاشمية دامت طوال حياته، بل كان دوره مهم وفاعل في تاسيس الدولة العراقية الحديثة، حيث أولى نوري السعيد بعد وصوله الى بغداد في 18/2/1921 جانبا كبيرا من نشاطه لموضوع ترشيح فيصل لعرش العراق فاجتمع مع رجال الادارة البريطانية وكان رأيه ليس هناك غير فيصل يستطيع أن يكون ملكا على العراق  .

 وعلى الرغم من جهود نوري السعيد لمساعدة فيصل في تولي العرش، الا أنه كان مستعدا للتضحية به اذا اصطدم مع الانكليز.

ابدى نوري السعيد نشاطا لدعم ترشيح فيصل على عرش العراق وفي سبيل ضمان وصول الامير فيصل الى العرش العراقي كان على نوري السعيد ان يلعب دوره في قطع الطريق امام المرشحين الاخرين الذين كانوا ينافسونه على العرش نفسه وعلى راسهم طالب النقيب. وفي هذا المجال لجا نوري الى لعبة ذكية هدف منها ابعاد طالب النقيب عن منصبه كوزير للداخلية الذي استغله ليمارس الضغط من خلاله لصالحه. ولم يكن بوسع النقيب ان يوقف التيار المفروض الذي اصبح هو من ابرز ضحاياه وكان لنوري السعيد دوره الواضح في ذلك وعندها اختفى طالب النقيب عن المسرح السياسي. وكان الشيخ خزعل امير المحمرة ايضا  من بين الذين رشحوا انفسهم للعرش العراقي واعتقد خزعل ان الفرصة اصبحت اكثر ملائمة بالنسبة له بعد نفي طالب النقيب الا ان نوري السعيد بعث له برسالة بواسطة مزاحم الباجه جي ليسحب ترشيحه. وبالفعل ترك الشيخ خزعل الميدان لفيصل. كذلك سحب عبد الرحمن النقيب ترشيحه واتخذ موقفا مشابها لموقف الشيخ خزعل.

 ان علاقة فيصل بنوري السعيد ظلت على أحسن ما يرام الى حين تشكيل نوري السعيد اول وزارة له عام 1930 بعدها بدأ نوري السعيد يتصرف كمركز قوة وكقوة بديلة للملك وعليه كان لابد أن يصطدما وكان لابد للملك أن يتخلص منه.

وفاة فيصل

---------

يوم الثامن من ايلول 1933 توفي الملك فيصل الاول في سويسرا اثناء رحلة الاستشفاء هناك واصدرت الحكومة العراقية بلاغا جاء فيه ( فجعت الامة بوفاة سيدها وباني مجدها جلالة الملك فيصل الاول وذلك نتيجة نوبة قلبية) الا ان صحف المعارضة لم تقتنع بان الوفاة طبيعية فمنهم من قال ان الانكليز هم الذين دبروا الفاجعة ومنهم يتحدث عن أن الوفاة كانت بسبب دس الزرنيخ له في الشاي الذي شربه قبل حوالي ست ساعات من وفاته وبعضهم وجه الاتهام الى نوري السعيد ورستم حيدر رئيس الديوان اللذان كانا برفقته اثناء الرحلة.

·         صحفي وكاتب من جيل الرواد

 

 

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا