الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  د. فيصل القاسم  كاتب واعلامي سوري يكتب اسبوعيا في جريدة (القدس العربي) لندن

هل تخشى إسرائيل

وأمريكا الخطر الإيراني فعلاً؟

د. فيصل القاسم

 

«أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب» مقولة شعبية تنطبق حرفياً على الموقفين الإسرائيلي والأمريكي من إيران، فمن يستمع إلى التصريحات المعادية لإيران سيأخذ الانطباع أن الأخيرة باتت تشكل أكبر خطر على الأمريكيين والإسرائيليين، وأن واشنطن وتل أبيب فاض بهما الكيل، وأن المناوشات العسكرية الأخيرة بين الإيرانيين والإسرائيليين مؤشر خطير على حدة الصراع المتصاعد بين الجانبين. إن همروجة العداء والنزاع السخيفة بين إسرائيل وإيران مستمرة منذ عقود، وللأسف قد صدقها بعض المغفلين لكثرة ترديدها في الخطابين السياسي والإعلامي لإسرائيل وأمريكا ضد إيران والعكس، لكن لو نظرنا إلى أرض الواقع سنجد صورة مختلفة تماماً عما نسمعه، وهذا يعيدنا إلى الحكمة الشهيرة التي تقول: «لا تصدق التصريحات، بل الواقع» والواقع يقول إن التغلغل الإيراني في المنطقة منذ عقود لا يمكن أن يحدث دون مباركة إسرائيلية وأمريكية، أو غض الطرف في أسوأ الأحوال.
هل تريد أن تقول لي مثلاً إن إيران زرعت حزب الله اللبناني على حدود إسرائيل في بداية ثمانينيات القرن الماضي، رغماً عن إسرائيل، أو أن الكهرباء كانت مقطوعة في تل أبيب، ولم ير الإسرائيليون وقتها حركة حزب الله داخل لبنان ولا تمركزه على حدودهم جنوب لبنان لاحقاً؟ من المستحيل أن تنجح إيران في زراعة ذراع عسكري كبير لها على الحدود الإسرائيلية دون ضوء أخضر إسرائيلي أولاً وأمريكي ثانياً لأغراض إسرائيلية بحتة، ونحن نعلم أن الأقمار الصناعية الأمريكية والإسرائيلية تراقب دبيب النمل حول إسرائيل. ولا ننسى أن من عادة إسرائيل تاريخياً أن تذهب إلى أقاصي الدنيا للقضاء على خطر محتمل يمكن أن يهددها بعد عشرات السنين، فهل يعقل أنها قبلت بإنشاء حزب الله على حدودها دون أن تعلم مدى خطورته لاحقاً؟ لنكن منطقيين وواقعيين. لم تزرع إيران وكلاءها في لبنان وتدعمهم للسيطرة عليه من دون مباركة أمريكية وإسرائيلية. مستحيل. لاحظوا أن عملية ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وإسرائيل تجري اليوم بإدارة واجهة حزب الله، نبيه بري وصديقه الأمريكي الإسرائيلي عاموس هوكشتاين.
ولو ذهبنا إلى سوريا لوجدنا المثال نفسه يتكرر، فكما نعلم أن إيران أدخلت إلى سوريا عشرات الميليشيات من نوعية حزب الله اللبناني لحماية النظام، وكلها كانت تحت العين الإسرائيلية والأمريكية، والمضحك أن بعض تلك الميليشيات قد وصلت إلى حدود إسرائيل مرات ومرات، كما أن قاسم سليماني نفسه قد تباهى أكثر من مرة بأنه كان يستمتع بشرب الشاي على ضفاف بحيرة طبريا. واضح هنا مرة أخرى أن الحكومة الإسرائيلية لم تدفع فاتورة الكهرباء وقتها لهذا كانت مقطوعة، وبذلك تمكنت إيران من إدخال ميليشياتها إلى سوريا خلسة دون أن يراها الإسرائيليون بسبب انقطاع الكهرباء في أقمارهم الصناعية، مع العلم أن إسرائيل لا يمكن أن تسمح لعصفورة بدخول سوريا من دون موافقتها.

كيف نصدق أن إسرائيل تخشى الوجود الإيراني في سوريا إذا كنا نرى كيف طوّقت إيران العاصمة السورية دمشق بحزام شيعي مُحكم، كما فعلت في بغداد تماماً؟ اسأل السوريين عن شراء إيران لآلاف الهكتارات في دمشق وآلاف البيوت لتطويق العاصمة. انظر إلى مدينة داريا غرب دمشق التي تم تفريغها من سكانها تماماً بقوة الميليشيات الإيرانية. وإذا استوطن الشيعة في داريا فهذا يعني أنهم سيكونون على مقربة من الحدود الإسرائيلية. هل غاب ذلك عن ذهن الإسرائيليين، أم إنهم يعرفون كل شاردة وواردة عن المشاريع والتغلغل الإيراني في سوريا على مقربة من حدودهم، ومدى فائدته لصالحهم؟ لهذا للأمانة لا أحد يصدق أن إسرائيل تريد أن تجتث النفوذ الإيراني في سوريا من خلال غاراتها وقصفها المتكرر لبعض المواقع الإيرانية في سوريا، بل هي عملية ترتيب أوضاع وترسيم لحدود ومناطق النفوذ بين الطرفين داخل سوريا الذبيحة لا أكثر ولا أقل. ولا ننسى التصريح الشهير لنائب وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان عام ألفين وأربعة عشر عندما قال حرفياً حين أوشك النظام السوري على السقوط: «إن سقوط الأسد سيقضي على أمن إسرائيل» وكأنه يبدو أكثر قلقاً على أمن إسرائيل من إسرائيل نفسها. ولا ننسى تصريح الكرملين لاحقاً «أن وجود إيران بسوريا لمصلحة إسرائيل».
وحدث ولا حرج عن العراق الذي كان يسبب صداعاً حقيقياً للإسرائيليين حتى غزته أمريكا، ومن ثم أهدته لإيران على طبق من ذهب، فخربته ودمرته ودقت الأسافين بين مكوناته وحولته إلى دولة فاشلة تتوسل التطبيع مع الإسرائيليين. وقد سمعناها من علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني وقتها عندما قال: «لولا إيران لما تمكنت أمريكا من احتلال العراق وأفغانستان» وقد شاهدنا بعدها كيف تقاسم الأمريكيون والإيرانيون الساحة العراقية والنفوذ فوقها فيما بينهم.
وحتى في اليمن، هل كان باستطاعة إيران أن تتغلغل هناك وترسل لعملائها الحوثيين أطناناً من كل أنواع السلاح بشكل منتظم من دون أن تراها حاملات الطائرات والأساطيل الأمريكية والغربية التي تجوب المنطقة ليل نهار؟ دعونا نكون عقلانيين قليلاً؟ هل كانت إيران قادرة هي وأدواتها الحوثية في اليمن أن تسيطر على البلاد وتهدد بعض دول الخليج بكل أنواع الأسلحة لو كانت أمريكا وإسرائيل غير راضيتين عن ذلك؟ مستحيل. لا تقل لي إن إيران فعلت كل ذلك رغماً عن أنف الأمريكيين والإسرائيليين واحتلت العاصمة العربية تلو الأخرى جهاراً نهاراً. لقد استطاعت أمريكا والغرب عموماً إسقاط الاتحاد السوفياتي الذي يفوق إيران قوة عشرات المرات، فهل تعجز عن كبح جماح إيران في المنطقة، لو لم تكن مستفيدة من دورها التخريبي؟ ألا يكفي اندلاع الصراع السني الشيعي الذي وضع الشرق الأوسط كله على كف عفريت بفضل الأذرع الإيرانية؟ أليست إسرائيل وأمريكا أكبر مستفيديّن من التناحر الطائفي الذي تغذيه إيران في المنطقة؟
ألم تتحول سوريا والعراق واليمن ولبنان إلى أكبر سوق لزراعة وترويج وتعاطي المخدرات في العالم بإدارة إيرانية؟ ألا تعاني كل دول المنطقة اليوم من خطر المخدرات الذي ترعاه إيران؟ ألا تستخدم أمريكا وإسرائيل إيران كبعبع لإرهاب المنطقة وابتزازها وتركيعها ودفع دولها إلى الحضن الإسرائيلي بحجة الخوف من الشبح الفارسي؟ أليست إيران البطة التي تبيض ذهباً لأمريكا وشركات السلاح الكبرى؟ هل تريدوننا أن نصدق بعد كل ذلك أن إسرائيل وأمريكا تخشيان الخطر الإيراني في المنطقة؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

هل هو مخطط واحد لتهجير

أهل فلسطين وسوريا والعراق ولبنان؟

 

د. فيصل القاسم

 

مخطئ من يعتقد أن عمليات التدمير الممنهج الذي تمارسه إسرائيل في غزة على نطاق واسع وشامل يأتي فقط رداً على عملية (طوفان الأقصى). لا أبداً، فقد بات اليوم واضحاً للعيان بعد مرور أشهر على العملية وطريقة الرد الإسرائيلي عليها أن الهدف ليس فقط الانتقام، بل صار المخطط الإسرائيلي واضح المعالم تماماً، خاصة بعد تدمير السواد الأعظم من غزة ودفع غالبية سكانها خارج مناطقهم ومنازلهم. هذا ليس مجرد رد إسرائيلي غاضب على ما فعلته حماس، بل هو تنفيذ مفضوح لمخطط تهجير لم يعد يخفى على أحد تؤكده طبعاً التهديدات الإسرائيلية المتواصلة لاجتياح منطقة رفح. وكلنا طبعاً يسمع كل يوم عن تفريغ قطاع غزة من سكانه ودفعهم في اتجاه سيناء المصرية أو أي وجهة يتفق عليها الإسرائيليون مع أمريكا وأوروبا والعرب.
لا شك أن الفلسطينيين سيظلون متمسكين بأرضهم حتى الرمق الأخير، وسيرفضون الدخول في (تغريبة) جديدة، لكن عندما ننظر إلى عمليات التدمير الشامل والإبادة، لن يبقى أمامنا أي شك بأن العودة للعيش في القطاع ستكون شبه مستحيلة، إلا في مخيمات، وهذا ما لا تقبله إسرائيل ولا داعموها. وبالتالي، فإن موجة جديدة من الشعب الفلسطيني تنضم اليوم إلى موجات اللاجئين السوريين والعراقيين واللبنانيين من قبلهم. بعبارة أخرى، يجب ألا ننظر إلى تهجير الغزاويين، وربما سكان الضفة لاحقاً، على أنه مجرد نتيجة لعملية (طوفان الأقصى) بل هو في الحقيقية جزء لا يتجزأ من مشروع تهجير وتغيير ديمغرافي يشمل سوريا والعراق ولبنان وربما غيره لاحقاً. أليس الأردن نفسه في خطر ويواجه تهديدات مستمرة؟ ماذا يفعل الحشد الشيعي على حدوده منذ أشهر ولمصلحة من؟
هل نحتاج إذاً إلى إثباتات وبراهين على أن المنطقة تخضع اليوم إلى إعادة رسم ديمغرافياً؟ هل عمليات التهجير والتغيير السكاني الذي تشهده سوريا منذ عام ألفين وأحد عشر حتى هذه اللحظة مجرد نتيجة للصراع؟ بالطبع لا، فهناك مؤشرات وبراهين فاقعة على أن الأمر برمته مدبر ومنظم، وتشارك فيه قوى متعددة دولية وإقليمية وعربية، وحتى النظام السوري نفسه متورط فيه. كم عدد السوريين الذين خرجوا من سوريا إلى أوروبا أو غيرها أو البلدان المجاورة؟ كم عدد السوريين الذين نزحوا من مناطقهم ولجأوا إلى مناطق سورية أخرى؟ كم بقي مثلاً من سكان ريف دمشق أو حمص؟ هل يمكن أن يعودوا إلى مناطقهم لاحقاً، أم أنه بات شبه مستحيل؟ من عاد مثلاً إلى مدينة داريا التي أفرغها النظام من كل سكانها بتواطؤ دولي مفضوح؟ كم عدد اللاجئين السوريين وهم حوالي نصف الشعب السوري تقريباً الذين سيسمح لهم بالعودة إلى سوريا؟
الجواب كان واضحاً جداً في نصيحة الجنرال عصام زهر الدين أحد أذرع النظام قبل أن تصفيه (القيادة الحكيمة) بأشهر قليلة. قال للاجئين حرفياً: «نصيحة من هالذقن لا ترجعوا، وإلا سنفعل بكم الأفاعيل». وهو طبعاً لا يقدح من رأسه، بل يتكلم باسم النظام مباشرة، وهذه رسالة مباشرة من النظام أن سوريا اليوم في إطار إعادة التغيير الديمغرافي.

وهذا ما أكده بشار الأسد بعظمة لسانه في أكثر من مناسبة، فقد قال في أحد المؤتمرات إن سوريا اليوم أصبحت (مجتمعاً متجانساً) بعد أن تخلصت من ملايين السوريين الذين كان يعتبرهم بشار ونظامه غير متجانسين مع سوريا التي يريدها هو ومشغلوه في أمريكا وإسرائيل. وللتأكيد على هذه الحقيقية، عاد بشار وأكد قبل أسابيع قليلة على أن نظامه ربما لم ينتصر في الحرب، لكن أهم إنجازاته أنه حقق (المجتمع المتجانس) بعد تهجير حوالي نصف الشعب السوري.
ولا تقتصر عمليات وأساليب التهجير في سوريا على الأدوات والممارسات الوحشية والاحتلال العسكري والقصف العشوائي للمدنيين واقتلاعهم من ممتلكاتهم، بل تتعدى وتشمل أساليب وممارسات ناعمة وغير مباشرة كالتجويع والإفقار والإذلال واحتكار السلع الأساسية والمواد الغذائية، لا بل سرقة المعونات الأممية ونهب الممتلكات ومصادرة وحرق أصول وأراض وعقارات المواطنين وبيعها وتسجيلها لجهات مجهولة ومشبوهة والانقضاض على المنشآت والمؤسسات العامة وتفليسها وإغلاقها وتسريح عمالها وسرقة الثروات الوطنية وتهريبها للخارج وتسخير كل موارد البلد لصالح العائلة المالكة وأقاربها والتنكيل الأمني الممنهج للمواطنين ومطاردة الشرفاء والأحرار والمفكرين والإعلاميين والمثقفين وتغييبهم في السجون ونفيهم خارج الحدود، وهذا أقل ما يمكن رصده من ممارسات النظام السوري الفاشية التي يقوم بها منذ سنوات طويلة والتي ساهمت في تهجير خمسة عشر مليون مواطن سوري تشردوا في أصقاع الأرض. ولا داعي للحديث عن عمليات حرق مناطق واسعة في الساحل السوري وتهجير سكانها ومن ثم بيعها لوكالات دولية. وكل ذلك يصب في طواحين الخارج والقوى الإقليمية ذاتها التي تقصف المدنيين في غزة وتقتلهم وتدفعهم جنوباً في اتجاه سيناء وتخدم وتتساوق مع ذات المشروع الذي يتكامل وتضيق حلقاته على عدة محاور وجبهات تساهم مجتمعة في إنضاج وبلورة وإنجاز المشروع الاستيطاني. ولا شك أن الحبل عالجرار، أي أن المخطط لم يكتمل بعد، فعمليات التجويع والتنكيل المنظم بمن بقي من السوريين داخل سوريا أكبر دليل على أن النظام ومشغليه يريدون للمزيد من السوريين أن يخرجوا من سوريا. واليوم كما تعلمون أسهل شيء هو الحصول على جواز سفر للهرب من الجحيم المنظم بهدف إفراغ سوريا من أكبر عدد من سكانها. وكل الكلام عن عودة اللاجئين هو للضحك على الذقون وذر الرماد في العيون.
وكي لا نذهب بعيداً، تعالوا ننظر إلى ما يحصل في لبنان منذ سنوات. صحيح أن لبنان لم يتعرض لعمليات تدمير وتخريب منظمة كما حصل في سوريا، لكن عمليات التهجير تحدث بطريقة غير مباشرة عن طريق تمكين عصابات إيران من رقبة اللبنانيين وتحويل حياة الملايين منهم إلى جحيم، وخاصة بعد أن سرقت البنوك كل مدخراتهم وحولت الملايين منهم إلى فقراء وتعساء بمباركة خارجية، مما حدا بمئات الألوف إلى ترك البلاد ضمن مشروع التهجير المنظم الذي ينتقل من بلد إلى آخر بشكل مفضوح.
ولا ننسى أن العملية كانت قد بدأت أصلاً بالعراق بعد الغزو الأمريكي الذي أدى إلى تهجير أكثر من ستة ملايين عراقي وقتل مئات الآلاف وإعادة رسم الخارطة العراقية على أسس طائفية. وهذا ما اعترف به من قبل حاكم العراق الأمريكي (بريمر) الذي قال حرفياً إننا جئنا إلى العراق لتغليب طائفة على أخرى، وهذا يعني ضمناً التهجير وإعادة رسم الخرائط الديمغرافية، بما يخدم الاستراتيجية الغربية الكبرى في المنطقة.
هل يا ترى بعد هذا المخطط المفضوح من عمليات التهجير والتغيير السكاني المنظم في المنطقة، سيكون وضع أهل غزة أفضل من وضع السوريين والعراقيين واللبنانيين، أم إن ما يحدث في غزة هو جزء لا يتجزأ من المسلسل ذاته؟ هل نشهد اليوم تنفيذاً لنصيحة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل آرييل شارون في مذكراته بأن يكون ساكنو كل المناطق العربية المحاذية لحدود إسرائيل من فئة معينة؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

لا تصفقوا للميليشيات!

 

د. فيصل القاسم

 

ليس هناك أدنى شك بأن «الدولة» من أعظم اختراعات العقل البشري عبر التاريخ، ولولا ذلك الاختراع العظيم لبقي العالم مجرد غابات وأدغال تحكمها عصابات متوحشة.
وبينما تُطور الشعوب مفهوم الدولة باستمرار ليتماشى مع التقدم البشري، نرى في العالم العربي نكوصاً مستمراً نحو مرحلة ما قبل الدولة بكل تخلفها وانحطاطها، وأكبر دليل على ذلك أننا تركنا الحبل على الغارب لميليشيات منحطة تتحكم بمصير بلدان وشعوب عربية عديدة في اليمن ولبنان والعراق وسوريا وليبيا والسودان. كم هم سخفاء ومغفلون أولئك الذين يصفقون للميليشيات بحجة أنها ترفع شعارات المقاومة والتصدي للأعداء أو تتمرد على هذا النظام أو ذاك، بينما هي في الواقع ألد أعداء الشعوب والأوطان بحكم عقليتها وتكوينها وبدائيتها وتخلفها، مهما رفعت من شعارات وعنتريات، لأنها أكبر وصمة عار في جبين بلادنا ومؤشر خطير على مدى الانحطاط السياسي الذي وصلنا إليه. ولا ننسى أن أسوأ دولة في العالم تبقى أفضل من حكم الميليشيات.
هل ثار الشعب اليمني على نظام علي عبد الله صالح مثلاً كي يسقط في براثن عصابات كانت تقاتل النظام منذ عقود ثم تمكنت لاحقاً بدعم إيران وأمريكا وإسرائيل والغرب عموماً من رقبة اليمن؟ هل هذا ما ثار اليمنيون من أجله، أن ينتقلوا من تحت الدلفة إلى تحت المزراب؟ أليس وضعهم اليوم كوضع المستجير من الرمضاء بالنار؟ من المستفيد من ميليشيا الحوثي اليوم في اليمن سوى القوى الإقليمية والدولية التي تستثمر بخراب اليمن وآلام شعبه لنهب ثرواته وتفتيته واستغلاله لمصالحها الخاصة، بينما يعيش أصحاب الأرض أنفسهم في جحيم لا يطاق على كل الأصعدة؟ ألا يستحق الشعب اليمني اليوم بعد التضحيات الجسام التي قدمها على مدى السنوات الماضية نظاماً سياسياً حضارياً ينتشل البلاد من قبضة العصابات المارقة التي تعمل بوظيفة مرتزقة وقطاع طرق لصالح مشغليها في الخارج؟ ماذا تمتلك تلك الميليشيات في اليمن من عقلية الدولة؟ لا شيء مطلقاً، وهي نافعة فقط لكل أعداء اليمن. نعم هناك قوى مختلفة تتكالب على البلاد، لكن هل تعتقدون أن الحل يكمن في تسليم اليمن لميليشيا متخلفة والتصفيق لعنترياتها السخيفة؟ متى تدركون أن المتكالبين على اليمن يجدون في الميليشيات الحاكمة أكبر استثمار، وهم مستعدون أن يدعموها لعقود وعقود لأنها تسهل لهم نهب اليمن وتقسيمه والتنكيل بشعبه؟ هل تصدقون أن أمريكا وأوروبا يخشون من الحوثي، أم هم أكبر الداعمين له من وراء الستار؟ قبل أن تنخدعوا بشعارات الدعم الحوثي لفلسطين، فتشوا في خفاياها، فستجدون أن أكبر مستفيد من مسرحيات الحوثي وداعميه ليسوا الفلسطينيين ولا اليمنيين.

ماذا استفاد لبنان الذي كان بمثابة سويسرا الشرق بدوره من حكم الميليشيا؟ ألم تتحول بيروت عروسة المدائن في ظل حكم الميليشيا إلى أكبر مزبلة في الشرق الأوسط؟ هل هذا يزعج أعداء لبنان أم أنهم سعيدون جداً بحكم ما يسمى (المقاومة) التي حولت لبنان إلى دولة فاشلة على كل الأصعدة بعد أن كان منارة ثقافية وإعلامية ومالية وحضارية تخشاها إسرائيل؟
انظروا وضع العراق بعد أن سقط في براثن الميليشيات الطائفية؟ لقد تقسم إلى ملل ونحل وصارت بغداد في عهد الميليشيات أوسخ عاصمة في العالم بشهادة الأمم المتحدة. كما صار العراق نفسه مضرباً للمثل في الفساد والدولة الفاشلة، وبات ملايين العراقيين يتحسرون على أيام الديكتاتورية الخوالي لأنه على الأقل كان هناك دولة وليست عصابات ميليشياوية عميلة للخارج كالتي تحكم العراق اليوم وتتحكم بموارده وشعبه المكلوم.
صحيح أن في سوريا بقايا دولة مهترئة مفلسة تحكمها عدة عصابات، إلا أن اليد الطولى اليوم للميليشيات الإيرانية التي تتغلغل في كل مفاصل البلاد، ويزيد عددها عن مائة ميليشيا تعيث خراباً وفساداً فيما تبقى من سوريا. وقد شاهدنا في الآونة الأخيرة عدد قادة العصابات الذين اصطادتهم إسرائيل في أكثر من منطقة بسوريا.
وبدورها لم تسلم ليبيا من حكم العصابات والميليشيات المرتزقة في الشرق والغرب، ومعظمها يعمل لصالح قوى خارجية تنهش الجسد الليبي، مما يجعل شبه الدولة التي كان يديرها القذافي قبل سقوطه حلماً للعديد من الليبيين بعد أن أصبحت الميليشيات تحاصرهم وتنكل بها وتستبيح البلاد والعباد من كل حدب وصوب.
وقد شاهدنا ماذا حصل للسودان في الأشهر الماضية بسبب ترك الحبل على الغارب لميليشيا الدعم السريع التي كان يستخدمها النظام للأعمال القذرة والسيطرة على البلاد. انظروا كيف نمت ثم تمردت على الدولة ودخلت في صراع خطير مع الجيش، فشردت ملايين السودانيين وقتلت الآلاف، وأحرقت الأخضر واليابس في السودان، وهي مرشحة اليوم للسيطرة على البلاد بعد أن أصبح العديد من الدول يتعامل مع زعيمها كحاكم بدل قائد عصابة.
هل لدى الميليشيات التي تتحكم برقاب الشعوب اليوم مشاريع وطنية، أم إنها مجرد أدوات في أيدي مشغليها لتحقيق مشاريع خارجية، وليذهب الداخل إلى الجحيم؟ ألم يقل حسن نصرالله ذات يوم بعظمة لسانه إنه: «جندي في جيش الولي الفقيه»؟ وهكذا الأمر بالنسبة لبقية الميليشيات التي تتاجر بمآسي بلدانها خدمة لكفلائها في الخارج؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

انقلاب كبير

في سوريا اليوم

 

د. فيصل القاسم

 

ليس صحيحاً مطلقاً أن سوريا لم تعد تشهد انقلابات منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام ألف وتسعمائة وسبعين وحتى اليوم.
صحيح أن الانقلابات العسكرية التي كانت سائدة في فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي توقفت تماماً، ولم يعد السوريون يستيقظون كل شهر على بيان عسكري جديد وهجوم على مبنى الإذاعة والتلفزيون. وصحيح أن حافظ الأسد تحديداً قضى على موجة الانقلابات تماماً، لكن فترة ابنه تشهد منذ سنوات أكبر انقلاب ناعم في تاريخ سوريا بدون بيانات عسكرية ودبابات في الشوارع. لم يعد يخفى على السوريين منذ الإعلان عن إصابة السيدة أسماء الأسد بالسرطان ثم شفائها من المرض تماماً قبل سنوات، لم يعد يخفى عليهم أن ذلك الإعلان كان بمثابة بيان عسكري تاريخي من نوع خاص سيؤسس لحقبة جديدة تماماً في تاريخ سوريا.
وقد لاحظتم طبعاً منذ ذلك الحين كيف بدأ نجم السيدة أسماء يسطع بقوة في سماء سوريا، إلى حد أن مجلة (الإيكونومست) البريطانية الشهيرة وصفت السيدة الأولى بأنها (الأميرة والقائدة العسكرية والحاكمة بأمرها في شؤون الجيش والاقتصاد والمال). ولم يكن كلام المجلة الرصينة كلاماً مُرسلاً، بل موثق بالبراهين والأرقام والإحصائيات. وكما ظهر في تقرير المجلة، فإن المؤسسات التي تديرها السيدة أسماء أقوى من المؤسسات السورية كلها، بما فيها مؤسسة الرئاسة. ومنذ ذلك الحين، بدأت تختفي الرموز المالية والاقتصادية والعسكرية في سوريا تباعاً، لتحل محلها أذرع السيدة أسماء. وقد كان أول ضحايا الصعود الصاروخي لعقيلة الرئيس السيد رامي مخلوف الذي كان مجرد ذكر اسمه في سوريا كافياً ليجعل الجميع يقفون باستعداد على رجل واحدة، فهو سيد بيت المال، والواجهة الاقتصادية والمالية الأولى للنظام، والكل يأتمر بأوامره ويخر ساجداً أمام مشاريعه، ناهيك عن أن السيد مخلوف كان بالإضافة إلى سطوته المالية والاقتصادية في الشارع السوري، كان يحظى بشعبية منقطعة النظير في أوساط الغالبية العظمى في الساحل السوري، لأنه كان يقدم دعماً كبيراً للمحتاجين الذين يشكلون الحاضنة الشعبية للنظام. لكن في ليلة ليلاء، انقضّت السيدة أسماء على رامي مخلوف وكل شركاته، وجردته من معظم أملاكه، ليتحول المسكين بين ليلة وضحاها إلى واعظ على باب الله، لا شغل له إلا الدروشة الدينية ونشر الفيديوهات الوعظية الإرشادية التي أثارت سخرية السوريين وشماتتهم في آن معاً.
لقد تحول رامي من عملاق مالي واقتصادي مخيف إلى درويش منتوف الريش. ثم توالت غزوات السيدة أسماء على مرابع الحيتان العلويين الكبار من ضباط ووجهاء وأصحاب المليارات، فبدأوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، بعد أن شاهدوا أكبر رأس مالي في سوريا وقد تحول إلى شحاذ. فجأة اختفى آل شاليش أقرباء الرئيس عن المشهد، وعندما توفي أشهر مرافقي الرئيس وهو ذو الهمة شاليش، لم تذكر عائلته في ورقة النعوة اسم الرئيس، وقد كان ذلك مؤشراً على الشرخ الذي بدأ يحصل بين عائلة الأسد وبقية أقاربه من العائلات التي كانت تحكم قبضتها على كل المجالات في سوريا.

وقيل وقتها إن السيد ذو الهمة شاليش قد مات كمداً بعد أن جردته السيدة أسماء من ملياراته التي جناها (بعرق جبينه). ومن المعروف أن ذو الهمة كان لديه بنكه الخاص، حيث كان يرفض إيداع المليارات في البنوك الرسمية، وكان بدلاً من ذلك يضعها في عمارات كبيرة خاصة به. وحتى كبار رجال الأعمال والرأسماليين السوريين غير العلويين القريبين من عائلة الأسد في سوريا، لم ينجوا من غزوات السيدة أسماء، فلم يبق حوت كبير إلا وجردته من أمواله وممتلكاته، بمن فيهم المقربون من شقيق الرئيس. ولا يمر أسبوع إلا ونسمع عن هروب أحد الحيتان الكبار أو الاستيلاء على ممتلكاته. لقد أصبح الاقتصاد والمال كله في أيدي عقيلة الرئيس كما جاء في تقرير المجلة البريطانية، وحتى أن السوريين لا يمكن أن يحصلوا على أي سلعة أساسية كالزيت والسكر والخبز والبنزين والمازوت إلا عن طريق الشركات التابعة للسيدة أسماء.
لم يعد أحد قوياً في سوريا سوى السيدة الأولى، وقد أصبح حتى كبار ضباط الجيش والأمن مجرد طراطير، فهي اليوم قادرة على تركيع أكبر ضابط، بعد أن باتت تهز الجيش بيمينها وقوى الأمن بيسارها. هل يستطيع أي ضابط كبير اليوم أن يرفض أي طلب للسيدة أسماء؟ بالمشمش طبعاً، فهم صاروا جميعهم تحت قبضتها، ولا شك أنهم اتعظوا بعد أن شاهدوا ما حصل لرامي مخلوف وهو من عظام رقبة العائلة الحاكمة، فما بالك بالعائلات الأقل قرباً من عائلة الرئيس.
لقد هزّت السيدة أسماء تركيبة النظام المالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق، وقلبته رأساً على عقب، وبدلت الكثير من الرموز وأطاحت العديد من الرؤوس الكبيرة والحامية، ولم تعد كلمة «العلويين» هي العليا في قصر المهاجرين، وأخبارها ونشاطاتها وفعالياتها تتقدم على الجميع، وأي قرار يصدر ويتخذ، حتى على مستوى تعيين كبار الجنرالات الأمنيين، أو عزلهم، في حاجة لمراجعة وانتظار ورأي من «الرئيس الخفي». كما غيّرت في بنية النظام أكثر مما فعلت كل فصائل وجماعات المعارضة مجتمعة على مدى سنوات الحرب. إن التغيير الحقيقي الذي يحصل في سوريا منذ سنوات بدون ضجة تقف وراءه السيدة أسماء، وهو بمثابة أول انقلاب حقيقي على النظام منذ (الحركة التصحيحية) التي قادها مؤسس النظام الرئيس حافظ الأسد عام ألف وتسعمائة وسبعين وأنهت موجة الانقلابات في سوريا.
ولعل أكبر المتضررين والمرعوبين اليوم من انقلاب القصر الناعم الذي تقوده السيدة أسماء هم العلويون تحديداً، الذين بدأوا يتلمسون على رؤوسهم وخاصة كبار جنرالات الأمن المرعبين الذين باتوا يتوددون لوجهاء العائلات الجديدة الصاعدة، ويطلبون ودّهم ووساطتهم، وينتظرون دعمهم ورضاهم و«تزكيتهم» عند «السيدة الأولى»، كما ينتظرون، بنفس القدر، ما ستغدقه عليهم من «عطاءات» و«فتات» بعدما آلت ثروة آل الأسد ومخلوف وشاليش، والتي جمعوها على مدى خمسين عاماً، إليها وباتت في جعبتها، وقد تلاشت قبضتهم العسكرية والأمنية والمالية والاقتصادية على البلاد بعد أن كدست السيدة أسماء كل السلطات، كما الثروات، في يديها وأصبحت الحاكمة بأمرها في بلاد الشام، وجعلت كبار ضباطهم، من أصحاب الشوارب والهيلمان، يقفون بالطابور لمقابلتها كتلاميذ صغار، ويلوذًون بالصمت خوفاً من سياطها القاتلة وسخطها على من ينبس بحرف ضدها. ولو أجريت اليوم استفتاء سرياً في أوساط العلويين بسوريا، لأدركت مدى حقدهم على السيدة الأولى، لكنها لا تخشاهم، فهي تستمر في حملتها التاريخية كالبلدوزر الذي يدهس كل من يأتي تحت جنازيره. لقد قال أحد الباحثين العلويين في جلسة خاصة: « إن أسماء الأسد ستدخل التاريخ السوري من أوسع أبوابه باسم السيدة الحديدية التي أنهت حكم العلويين في سوريا دون أن تطلق رصاصة واحدة،» وها هي تكتب نهايتهم فعلاً مع تساقط وإسقاط وقطف الرؤوس الكبيرة، رأساً وراء رأس.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

الغرب

 وديمقراطية الوحوش!

د. فيصل القاسم

 

لا شك أن كثيرين فوجئوا، وربما أصيبوا بصدمة كبرى، وهم يرون ما يسمى بالدول الديمقراطية الغربية، التي تتشدق بالعدالة وحقوق الإنسان ليل نهار، وهي تدعم الهجوم الإسرائيلي على غزة عسكرياً وإعلامياً وسياسياً بكل فجاجة، وتبارك حتى القتل والتجويع والتنكيل بالفلسطينيين، وتضرب عرض الحائط بكل مبادئها الديمقراطية والإنسانية المزعومة. لا أدري لماذا شعر البعض بالصدمة لمجرد أن الغرب هبّ لنجدة صنيعته إسرائيل التي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من مجاله الحيوي، واعتقدوا أنه قد انقلب على قيّمه، وسقط سقوطاً أخلاقياً مدوياً في حرب غزة. في الحقيقة، الغرب لم ينقلب على مبادئه مطلقاً، وهو يمارس سياساته المعهودة منذ قرون بنفس الطريقة. متى يا ترى كان الغرب ديمقراطياً أو محترماً لحقوق الإنسان والإنسانية أصلاً خارج حدود بلاده ودوائر نفوذه ومصالحه الخاصة؟
لقد قالها الروائي الروسي الشهير تولوستوي ذات يوم: «إن المتحضرين المزعومين هم أعتى وأسوأ السفاحين والقتلة على مدى التاريخ». وطبعاً يقصد الغرب الذي يرفع شعارات الحرية والأخوة والمساواة والحضارة وحقوق الإنسان، لكنه أكبر منتهك لتلك الشعارات مع الشعوب الأخرى. ألم تروا ما فعله المستعمر الغربي (الهمجي المتحضر) مع شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟ يكفي أن تتذكروا فقط أن أمريكا لوحدها قتلت أكثر من مئة مليون هندي أحمر وأقامت امبراطوريتها الحالية على جماجمهم. لكن هذا لا ينفي مطلقاً أن الغرب يبقى ديمقراطياً حتى النخاع داخل بلاده ودائرة مصالحه الخاصة.
صحيح أن المستعمر البريطاني مثلا مارس أبشع أنواع العنصرية في تعامله مع الشعوب التي استعمرها. ولا أحد يستطيع أن ينكر جرائم الاستعمار الغربي من فرنسي وبرتغالي وهولندي وألماني في أفريقيا، فقد كان ذلك الاستعمار ساقطاً بكل المقاييس. لكن يجب ألا ننسى أيضاً أن المستعمر اللعين كان غاية في اللطف والتعامل مع مواطنيه داخل بلاده ومع حلفائه المقربين، فقد كان يستعبد الآخرين ويقتلهم ويمتهن كراماتهم، وينهب خيراتهم من أجل شعوبه وأوطانه ومصالحه.
وإذا نظرنا إلى واقع العلاقات الدولية الحالية نرى أنها لا تختلف بأي حال من الأحوال عما كان عليه الوضع أيام الاستعمار القديم، فالغرب يتصرف الآن مع بقية دول العالم بنفس الطريقة البشعة التي كان يتصرف بها المستعمر مع مستعمراته، فلم يتردد المخطط الاستراتيجي الأمريكي الشهير بريجنسكي ذات مرة في وصفنا ووصف بعض المناطق الآسيوية بأننا ننتمي إلى فئة البرابرة. ولا ننسى أن مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل وصف أوروبا قبل فترة «بالحديقة الغنّاء التي يجب أن نحميها من المتوحشين خارجها».

وقد يتساءل البعض حائرين من هذه الازدواجية الصارخة في طريقة التعامل الغربي مع الداخل والخارج. كيف يمكن أن يكون الزعماء الغربيون ديمقراطيين ومتسامحين مع مواطنيهم وكل من يدور في فلكهم إلى أقصى درجة ويطبقون المعايير الديمقراطية بحذافيرها من احترام للحريات ومراعاة للحقوق، بينما يدوسون في الوقت نفسه على كرامات وحريات وحقوق الشعوب الأخرى بطريقة مهينة للغاية دون أي تردد أو وخز للضمير؟ لماذا يخشى الزعيم الغربي من مجرد دعوى قضائية بسيطة قد يرفعها مواطن ضد الحكومة، بينما يضرب عرض الحائط بكل الاحتجاجات الدولية الشعبية منها والرسمية ضد سياسة بلده؟ لماذا يلتزم القائد الغربي بأبسط قواعد التصرف مع مواطنيه وحلفائه، بينما ينتهك كل القوانين والأعراف والقيم والنواميس الدولية الأخرى حينما يتعلق الأمر ببلدان وأقوام أخرى؟
لقد حاولت ونقبت كثيراً كي أجد جواباً شافياً لهذه المعضلة الأخلاقية المعقدة، ولعلني نجحت في إيجاد الحل، فقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن الزعيم الغربي يتعامل مع شعبه وأقرانه بنفس الطريقة التي يتعامل بها الوحش المفترس في الغابة مع الحيوانات الأخرى. لا شك أنكم شاهدتم كيف يتصرف الأسد والنمر والفهد والضبع والذئب وغيرهم من الحيوانات الكاسرة مع بقية الحيوانات، فالضباع والذئاب والفهود مستعدة أن تصطاد الغزال وحمار الوحش والجواميس وغيرها بكل وحشية كي تأكل وتُطعم أبناءها. إنه لمنظر عجيب أن ترى اللبوة أو النمر يمزق أشلاء الأرانب والغزلان والجواميس، ثم بعد لحظات قليلة تراه يداعب أبناءه الصغار بحنو وعطف ودماثة عز نظيرها، فالحيوانات المفترسة تبدو في غاية الديمقراطية والتسامح مع جرائها والمقربين منها من الحيوانات الضارية الأخرى، لكنها في غاية التسلط والديكتاتورية والوحشية والعدوان والقمع والبطش مع الحيوانات الأخرى. وهكذا الأمر بالنسبة للديمقراطيات الغربية، فهي «بالفطرة الديمقراطية» نعامة مع شعوبها وحلفائها وبيئتها، وعلى الشعوب الأخرى أسود ضارية. ولا ننسى مثلاً أن وزيرة الخارجية الألمانية زعيمة حزب الخضر رفضت هدم عمارة وبناء مستشفى مكانها في إحدى المدن الألمانية حفاظاً على حياة مجموعة من الخفافيش، لكنها في الآن ذاته كانت تدعم الهجوم الإسرائيلي على غزة بقوة.
بعبارة أخرى، فإن الديمقراطية تبقى شأنا مصلحياً داخلياً خاصاً في مجتمعي الإنسان والحيوان، ولا ديمقراطية أبداً في العلاقات الخارجية أو الدولية. لكن الأمر معكوس في العالم العربي، فالزعيم العربي أكثر ديمقراطية مع الخارج ألف مرة مما هو مع شعبه، فهو يتواضع ويتسامح ويلين مع الغير، حتى لو باع الوطن أحياناً، أما مع شعبه فهو وحش مفترس يبطش ويقمع ويضطهد ويسحق ويعتقل ويهجّر ويصادر ويدوس الأخضر واليابس، لأنه أصلاً مجرد «سلوقي» صيد منتخب من الصيادين مشغليه في الخارج.
ليت حكامنا ذات يوم يتعلمون أصول الديمقراطية من الحيوانات الكاسرة، فيهتمون بأوطانهم وشعوبهم ويدافعون بأسنانهم عن مصالحهم الوطنية، حتى لو تجنّوا على الآخرين، لكن وا أسفاه، فهم كواسر على شعوبهم وأرانب مع الغير، على عكس كل النواميس الغربية والحيوانية.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

كفاكم تجريماً

للضحايا وتبرئة للجلادين!

 

د. فيصل القاسم

 

من أكثر القضايا التي يتم تشويهها وقلبها رأساً على عقب منذ سنوات قضية الانتفاضات الشعبية على أنظمة الظلم والطغيان والغزاة والمحتلين، فكلما حاول شعب أن يرفع صوته قليلاً مطالباً بأبسط حقوقه الإنسانية أو التخلص من ربقة الاحتلالات الداخلية والخارجية، سارع البعض فوراً ليتهمه بأنه يطلق النار على قدميه أو بأنه يدمر نفسه بنفسه أو يتآمر على وطنه.
وتبرز هذه الظاهرة السياسية والإعلامية اليوم أكثر من أي وقت مضى، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي حيث يحاول البعض شيطنة الشعب الفلسطيني وتحميله مسؤولية ما يحدث له أو لأي شعب آخر يقاوم الطغاة والغزاة والمحتلين ويطالب بحريته وكرامته ولقمة عيشه. وقبل أن ندخل في تفاصيل ما يحدث اليوم للشعب الفلسطيني من تجريم وشيطنة قذرة لمجرد أنه يهب من أجل استعادة حقوقه المسلوبة، فلنعد قليلاً إلى الشعوب العربية التي حاولت على مدى السنوات الماضية أن ترفع أصواتها ضد الطغاة والمجرمين الجاثمين فوق صدورها منذ عقود وعقود. دعكم من نظريات المؤامرة التي تحاول تصوير الانتفاضات الشعبية في هذا البلد أو ذاك بأنها مؤامرات خارجية على بلادنا، فهناك كما هو معلوم للجميع ألف سبب وسبب كي تنتفض الشعوب، حتى لو كانت هناك قوى كثيرة تريد استغلال الأوضاع وتحويل الانتفاضات وبالاً على الشعوب والأوطان، كما حدث فعلاً للعديد من البلدان العربية التي طالبت شعوبها بالتحرير والتغيير. ومن أكثر الشعوب المتهمة اليوم بأنه مسؤول عن تدمير وطنه هو الشعب السوري الجريح. تصوروا أن هناك من يتهم السوريين بأنهم دمروا وطنهم لمجرد أنهم انتفضوا على النظام الفاشي وطالبوا بأبسط حقوقهم.

تصوروا أن من يتهمون الشعب السوري بهذه التهم الباطلة يتجاهلون أن الطيران السوري والروسي والميليشيات الإيرانية هي المسؤولة عن الدمار الرهيب الذي لحق بالعديد من المناطق السورية. وكما يلاحظ الجميع فإن الدمار الذي حل بالمدن والقرى ناتج عن قصف جوي مفضوح، فمن المستحيل أن تدمر مناطق شاسعة بقنابل ورصاص. والمشاهد التي نراها اليوم في غزة بسبب قصف الطيران الإسرائيلي الوحشي هي صورة طبق الأصل عن المشاهد الرهيبة في عموم سوريا. ومع ذلك يأتيك بعض الأوغاد ليتهم السوريين بتدمير بلدهم وتحميلهم المسؤولية، وكأنهم هم الذين ألقوا آلاف البراميل المتفجرة على مدنهم وقراهم، وهم الذين استخدموا الأسلحة الكيماوية ضد أنفسهم، وهم الذين شردوا أنفسهم بأنفسهم بالملايين، وهم الذين اعتقلوا وقتلوا مئات الألوف من أنفسهم.
وما يتهمون به السوريين، ينسحب أيضاً على بقية الشعوب التي انتفضت في تونس واليمن والسودان والعراق واليمن وليبيا. هل اليمنيون والليبيون والعراقيون والسودانيون مثلاً هم من أوصل بلدانهم إلى الدرك الأسف؟ هل الشعب اليمني من دمر اليمن مثلاً وقتل أهله وجوعهم وشرد الملايين منهم؟ أم إن الذي دمره قوى خارجية وميليشيات محلية مرتهنة لإيران وغيرها؟ مع ذلك يتهمون الشعوب بأنها مسؤولة عن دمار أوطانها وتشريد نفسها. هل يعقل أن يكون الليبيون متآمرين على وطنهم مثلاً وإيصاله إلى وضع كارثي؟ مستحيل. مع هذا، فالذين طالبوا بالحرية في ليبيا متهمون اليوم بأنهم دمروا بلدهم. وكذلك السودانيون الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة أثناء ثورتهم على بعضهم البعض، مع ذلك فهناك من يحملونهم تبعات ما فعله ويفعله العسكر اليوم بالسودان وطناً وشعباً. تصورا هذا الهراء والتجريم المجاني للشعوب.

وما حصل للسوريين واليمنيين والليبيين والتونسيين والسودانيين والعراقيين من تجريم وافتراء يحصل اليوم بنفس الطريقة البشعة للفلسطينيين، وكأن تلك الشعوب المسحوقة كانت تعيش في جنات النعيم ثم تآمرت على نفسها وعلى بلدانها ودمرتها بأيدها. اليوم يحملّون الفلسطيني مسؤولية الدمار والخراب الرهيب الذي حل به لمجرد أنه يحاول لفت أنظار العالم إلى الكارثة الفظيعة التي يعيشها منذ عقود وعقود من احتلال غاشم وحصار وتجويع وترهيب وتنكيل. اليوم يتهمون الغزاويين بتحطيم القطاع، مع أن صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية الرصينة تقول بالحرف الواحد «إن الدمار الذي ألحقه الطيران الإسرائيلي بغزة يفوق حجم الدمار الذي ألحقته طائرات الحلفاء بالمدن الألمانية كلها أثناء الحرب العالمية الثانية». إن ما فعلوه مع ثورات الربيع العربي يفعلونه الآن مع الفلسطيني، وينسبون الدمار للضحية وليس للجاني. وهي طبعاً رسالة مفضوحة لكل الشعوب المسحوقة: عليك أن تقبلي بواقعك المزري، وإلا إذا حاولت تغيير الواقع سنزيد من معاناتك ومحنتك أضعافاً مضاعفة وسنجعلك تتحسرين على الماضي الأليم. هذا ما حصل لكل الشعوب العربية التي طالبت بالتغيير والتحرر من الظلم والطغيان، وهذا ما يحصل اليوم للشعب الفلسطيني لنفس السبب.
وحتى لو تصدت الشعوب للمعتدين المحليين والغزاة والمحتلين، فإن حجم الدمار الذي يمكن أن تتسبب به لنفسها ولأوطانها لا يساوي واحداً بالمليون من حجم الدمار الذي تسببت به قوى الاحتلال الداخلي والخارجي للشعوب وبلدانها. هل يستحق الشعب السوري ما حصل له من تدمير وتهجير وتعذيب وتنكيل لمجرد أنه رفع صوته وواجه الطغيان؟ هل يستحق الشعب الفلسطيني هذه المحرقة الرهيبة لمجرد أنه تصدى لقوى الاحتلال؟ لهذا نقول للذين يتهمون الشعوب بتخريب أوطانها: كفاكم تجريماً للضحايا وتبرئة للجلادين. أنتم كذلك الذئب (في القصة الشهيرة) القابع في أعلى النبع الذي كان يتهم الحمل في أسفل النبع بأنه يلوث المياه.

كاتب سوري

 

 

إيران والعرب:

مستقبل لا يبشر بخير

د. فيصل القاسم

 

سادت الأجواء الإعلامية على مدى الأشهر الماضية موجة من التفاؤل الحذر حول تخفيف التوتر بين إيران والعرب، بعد تقارب ين طهران وبعض دول الخليج، وقد ظن البعض أن صفحات الخلافات والصراعات القديمة قد طويت، وأن مستقبلاً من التعاون والمشاركة والانفراج سيكون عنوان المرحلة القادمة في المنطقة، لكن هل هذا هو القادم فعلاً، أم أن الجمر مازال مشتعلاً تحت الرماد؟ إذا أردتم أن تعرفوا الإجابة، دعكم من التصريحات السياسية الرسمية بين المسؤولين الإيرانيين والعرب، فهي فقط للاستهلاك السياسي والإعلامي، ولا تعبر مطلقاً عن واقع الحال بين الطرفين، وعلى الأغلب فهي ليست أكثر من استراحة محارب قصيرة جداً، بدليل أنك إذا أردت فعلاً أن تعرف أين تسير العلاقات العربية الإيرانية، ما عليك إلا أن توجه ناظريك إلى الأبواق الإعلامية الناطقة باسم الإيرانيين والعرب على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام المختلفة الأخرى، فهي أكثر صدقاً وتعبيراً عن واقع الحال وأكثر إيحاء بنوعية المشاعر العدائية المتبادلة.
وهنا لا بد من التأكيد على أن أصوات الأبواق الإيرانية والعربية من صحافيين وإعلاميين ونشطاء وفنانين ليست أصواتاً تعبر عن نفسها فقط، بل تعبر عن مشغليها، فمن هو الصحافي أو الإعلامي التابع لهذا الطرف أو ذاك يستطيع أن يهاجم أو ينتقد الطرف الآخر بشراسة من دون ضوء ومباركة من مشغليه وأسياده؟ دعكم من نكتة أن هذا رأي خاص ولا يمثلنا. على العكس تماماً، فإن تصريحات المعلقين والصحافيين تكون عادة أكثر مصداقية وتعبيراً عن الواقع من تصريحات السياسيين، فالسياسيون عادة ملزمون بعبارات معينة لأن كل كلمة يقولونها محسوبة عليهم وعلى دولهم، أما تصريحات الأبواق فهي تستغل كونها ليست ملزمة، وتعبر بشكل غير مباشر وغير رسمي عن المواقف الحقيقية لهذا الطرف أو ذاك. وهذا ما نراه في تصريحات الأبواق الإيرانية هذه الأيام، وخاصة العراقية واللبنانية والسورية واليمنية، فكلها تهاجم العرب بشكل حاد وأكثر خطورة من قبل بكثير، بينما يحاول المسؤولون العرب والإيرانيون الضحك على ذقون الناس بتصريحات ظاهرها حلو وباطنها أمر من العلقم. ولا ننسى هنا طبعاً أن الإيرانيين سادة التقية السياسية.
من جانبها فإن الأبواق العربية، وهي الممثل الشرعي والصادق الوحيد للأنظمة العربية، تشيع اليوم بأن التقارب العربي الإيراني الأخير، ليس تقارباً حقيقياً، بل هو تكتيكي لإخراج العرب من أية مواجهة قادمة بين الغرب وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى. بعضهم يقول إننا تقاربنا مع إيران لتجنيب بلادنا وشعوبنا ويلات الانتقام الإيراني في حال نشبت الحرب بين إيران والغرب لاحقاً. لكن لا أدري مدى نجاعة هذه السياسة العربية، خاصة وأن أبواق إيران اليوم تهدد إسرائيل لا بالذهاب إلى غزة للقتال ضد الإسرائيليين، ولا حتى بإشعال جبهة جنوب لبنان أو سوريا ضد إسرائيل، بل بمهاجمة بعض دول الخليج التي يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من الحرب الإسرائيلية على غزة حسب رأيهم. وقد سمعنا أحد أبواق إيران المعروفين المقربين من الحرس الثوري الإيراني قبل أيام وهو يهدد بعض الدول الخليجية على قناة روسية بأشد وأوضح العبارات.

الأبواق العربية، وهي الممثل الشرعي والصادق الوحيد للأنظمة العربية، تشيع اليوم بأن التقارب العربي الإيراني الأخير، ليس تقارباً حقيقياً، بل هو تكتيكي لإخراج العرب من أية مواجهة قادمة بين الغرب وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى

وعندما سأله المذيع: «هل ستشاركون في الحرب ضد إسرائيل نصرة لغزة» فقال: «نعم سنشارك، لكن ليس بمواجهة إسرائيل، بل بمواجهة بعض البلدان الخليجية التي نعتبرها داعمة للعدوان الإسرائيلي على غزة». هل تريدون أن تقولوا لي إن مثل هذا المعلق وسواه يستطيع أن يتفوه بهذا الكلام الخطير من دون ضوء أخضر إيراني رسمي؟ طبعاً لا.
استمعوا إلى تصريحات المسؤولين الحوثيين هذه الأيام، فسترونها أكثر عدوانية في لهجتها ضد الخليج من السابق. وكذلك الأمر بالنسبة لممثلي إيران في الإعلام اللبناني، فلم يتغير شيء في عدوانية وحدة التصريحات ضد من يسمونهم «الأعراب. ولا تنسوا أن ميليشيات الحشد الشعبي العراقية التي تديرها إيران لم تذهب إلى جنوب لبنان أو سوريا لمواجهة إسرائيل بشكل مباشر، بل تدفق الآلاف من الحشد الشعبي إلى منطقة طرابيل على الحدود العراقية الأردنية في إشارة واضحة إلى أن الحرب في حال تطورت وتوسعت ستكون بين إيران وبعض الدول العربية، تماماً كما توعد نجاح محمد علي في مقابلته على قناة «روسيا اليوم» وقناة «المستقلة».
وقد جاءت حرب غزة لتزيد الطين بلة بين إيران والعرب، وقد استغلتها طهران للضغط على العرب، فمنذ سنوات وهي تسلح وتمول وتحتضن جماعات عقائدية (مجتمع الحاء) حزب الله اللبناني، والحشد الشعبي العراقي، والحوثيين وغيرهم تحت شعار «تحرير القدس» وما أن حانت لحظة الحقيقة في غزة أعلنت إيران أنها ليست لها أية علاقة أو تدخل في هذا الصراع. بعبارة أخرى فإن إيران أشعلت شرارة غايتها أن تكون نتائجها إقحام العرب في هذا الصراع من خلال أدواتها التي تحركها، وقد يخرج هذا الصراع من حدوده الحالية إلى دول أخرى تسعى إيران فيها إلى بث فوضى كبيرة بما يمكنها من تدمير تلك الدول أو تأخيرها والإضرار باقتصاداتها وإضعافها.
ولو انتقلنا إلى الأبواق العربية، سنجد أن الموقف الرسمي العربي بدوره لم يتغير تجاه إيران قيد أنملة، فما تخفيه التصريحات الرسمية وراء الابتسامات العربية العريضة والترحيب الحار بالتقارب مع إيران أمام المسؤولين الإيرانيين تفضحه أبواق الأنظمة العربية عندما تفتح نيرانها بشكل أشد وأعتى على مشاريع إيران في المنطقة. ولو نظرت إلى بعض الأبواق العربية خلال حرب غزة لسمعت العجب العجاب ضد إيران وميليشياتها، حتى ضد حماس نفسها التي يحسبونها على إيران. والمضحك والمفضوح في الأمر أن العرب يرحبون بإيران ويدعونها إلى اجتماعاتهم، بينما تقوم أبواقهم في الآن ذاته بمهاجمة حماس إعلامياً بشدة معتبرين إياها ذراعاً إيرانياً، ويحملونها مسؤولية الخراب الذي حل بغزة والفلسطينيين ولن يسمحوا بانتصارها على الإسرائيليين، لا بل إن بعض أبواق إيران يتهمون العرب باعتراض سبيل الصواريخ التي يطلقها الحوثيون على إسرائيل، ويعتبرون ذلك مشاركة عربية حقيقية ضد غزة.
ماذا يمكن أن نتوقع على ضوء ذلك؟ هل تسمح أمريكا للصين وروسيا بإدارة دفة الصراع في المنطقة بين إيران والعرب ضد أمريكا ومصالحها، أم إن واشنطن ستبقى تتلاعب بالبعبع الإيراني وأدواتها العربية في المنطقة وتستخدمها ضد بعضها البعض بما يخدم مصالحها ومصالح إسرائيل، خاصة وأن ذلك البعبع حقق للأمريكيين والإسرائيليين في العراق وسوريا ولبنان واليمن ما لم تحققه إسرائيل نفسها؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

هذا هو «قدوة» إسرائيل؟!

 

د. فيصل القاسم

 

كي لا يتهمنا أحد بالتجني أو المبالغة أو الافتراء أو الفبركة، تعالوا نذهب فوراً إلى مقالة أشهر كاتب أمريكي (يهودي) في أشهر وأهم صحيفة أمريكية، توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» فهو الذي قال بالحرف الواحد إن إسرائيل تطبق اليوم فنون التدمير والسحق والحرق الممنهج التي أرساها حافظ الأسد ثم نقلها لنظامه من بعده، مضيفا أن الإسرائيليين يقومون اليوم بتطبيق ما أسماه «قواعد حماة» وهو مصطلح يزعم فريدمان أنه نحته قبل سنين لوصف الاستراتيجية التي استخدمها حافظ الأسد، عندما حاول معارضوه الإطاحة بنظامه. فقد دكّ الأسد الأحياء المعارضة في مدينة حماة براً وجواً، ولم يسمح لأحد بالخروج منها، ثم جلب الجرافات لتسويتها بالتراب وجعلها مثل مواقف السيارات، وقتل أكثر من خمسين ألف شخص من السوريين في العملية.
ويقول الكاتب إنه مشى فوق أنقاض حماة بعد أسابيع، وأخبره زعيم عربي كيف هزّ الأسد كتفيه عندما سُئل عن القتلى، قائلاً باختصار: «ناس بتعيش وناس بتموت». ولا ننسى طبعاً ما قاله معاون وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق إن إسرائيل لا تفعل اليوم أكثر مما فعله بشار الأسد بالسوريين، فكما هجر بشار ملايين السوريين إلى تركيا، من حق إسرائيل أن تهجر الغزاويين إلى مصر. وكما استخدم نظام الأسد الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء لابتزاز السوريين وتركيعهم، من حقنا أن نبتز الغزاويين بالماء والكهرباء لتركيعهم.
تصوروا أن النظام السوري أصبح قدوة ومرجعية في فن الهمجية والوحشية حتى للإسرائيليين. وكم أخطأ الكثيرون عندما كانوا يعتقدون أن الطواغيت العرب يتعلمون من ربيبتهم إسرائيل، فاكتشفنا أن العكس هو الصحيح، فهي اليوم تحاول تطبيق استراتيجيات الجنرالات العرب الذين مارسوا أبشع وأحقر أنواع التدمير والتعذيب والتهجير والتنكيل الممنهج ليس بأعدائهم (لا سمح الله) بل بشعوبهم، لهذا يتفاخر الإسرائيليون اليوم بأنهم حتى لو طبقوا أساليب حافظ وبشار الإجرامية، إلا أنهم يطبقونها ضد أعدائهم، وليس ضد شعبهم. ولا أدري لماذا ذكرنا توماس فريدمان بخطة حافظ الأسد في مدينة حماة عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين، وتجاهل ما فعله بشار ابن حافظ ببقية المدن السورية منذ عام ألفين واثني عشر وحتى هذه اللحظة، وما فعلته إيران وميليشياتها بالمدن السنية في العراق، فقد تفوق بشار على أبيه بمراحل.

إسرائيل تطبق اليوم فنون التدمير والسحق والحرق الممنهج التي أرساها حافظ الأسد ثم نقلها لنظامه من بعده، مضيفا أن الإسرائيليين يقومون اليوم بتطبيق ما أسماه «قواعد حماة»

معاذ الله أن نقلل من وحشية العمليات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها، لكن تعالوا اليوم نقارن العدوان الإسرائيلي على غزة بما فعله النظام السوري وشركاؤه بالسوريين وحتى بالفلسطينيين داخل دمشق ذاتها، فمشهد المهجرين الفلسطينيين من مخيم اليرموك أصبح أشهر من نار على علم، ويستشهد به القاصي والداني يومياً للتذكير بمذابح آل الأسد بحق الفلسطينيين في سوريا ولبنان، ناهيك عما فعله بحي التضامن وبتل الزعتر وغيره من قبل. هل شاهدتم آلاف المهجرين الفلسطينيين وهم يتكدسون فوق بعضهم البعض وهم هاربون من مخيماتهم الذبيحة بدمشق بسبب الهجوم الهمجي والبراميل المتفجرة التي أسقطتها الطائرات السورية فوق رؤوسهم في قلب الشام؟ لا يمكن أن تجد مثيلاً لذلك المشهد النيروني لا في فلسطين ولا في أي مكان آخر منذ عشرات السنين. أما ما فعله النظام بالمدن السورية بحق السوريين فحدث ولا حرج.
هل شاهدتم مدينة حمص أكبر مدينة سورية من حيث المساحة؟ ماذا بقي منها؟ ألم تتحول إلى ركام في معظمها؟ من بقي من سكانها؟ ألم يمارس النظام سياسة تهجير قسري بنفس الطريقة التي تتبعها إسرائيل اليوم مع الغزاويين؟ لا عجب إذاً أن إسرائيل اليوم تقول للعالم إن ما أفعله الآن بأعدائي الفلسطينيين فعله بشار الأسد وحلفاؤه بالشعب السوري قبل سنوات قليلة بطريقة أكثر فظاعة ووحشية وبشاعة وشناعة، وانظروا فقط إلى المدن السورية لتروا كيف تحولت إلى أنقاض، بينما هرب أكثر من نصف الشعب السوري خارج بلده بسبب آلاف البراميل المتفجرة التي أسقطها النظام السوري فوق رؤوس المدنيين. هل شاهدتم كيف تحول مئات الأحياء السورية في مدينة حلب إلى ما يشبه الجحيم، حيث فر ملايين البشر بسبب الدمار الهائل الذي ألحقته بها الطائرات السورية والروسية والميليشيات الإيرانية. هل شاهدتم ما فعله بشار وشركاؤه بمدينة إدلب السورية التي تؤوي اليوم خمسة ملايين سوري فارين من الجحيم الذي لحق ببقية المدن السورية؟ هل شاهدتم ما فعله بمدينة درعا التي وعد بشار بتحويلها إلى مزرعة بطاطا بعد تسويتها بالأرض وتهجير غالبية سكانها، ثم أوفى بوعده؟ هل شاهدتم ريف دمشق الذي تشعر بحالة من الرعب الشديد عندما تراه اليوم لأن شكله الآن يبدو أفظع بكثير من فيلم رعب لما لحق به من خراب ودمار وتنكيل منظم؟
واليوم وفي الوقت الذي تحرق فيه إسرائيل الأخضر واليابس في غزة وتدفع مئات الألوف من الفلسطينيين خارج بيوتهم ومناطقهم، تشن الميليشيات الإيرانية والطائرات الروسية والسورية غارات مماثلة على محافظة إدلب السورية بعيداً عن أعين الإعلام، وكأن هناك تنسيقاً واضحاً بين إسرائيل من جهة وإيران وروسيا والنظام السوري من جهة أخرى. أنت يا إسرائيل تتفرغين لحرق غزة وتشريد شعبها أمام كاميرات الإعلام الدولي، ونحن نتفرغ لحرق إدلب وتهجير خمسة ملايين سوري بعيداً عن الأضواء. وللتذكير، فإن إدلب بالنسبة لسوريا كغزة بالنسبة لفلسطين، فكلاهما تشكلان شوكة في خاصرة الغزاة والمحتلين. لاحظوا هذا التزامن الرهيب بين عملية إبادة غزة وعملية إبادة إدلب اليوم. وإذا لجأت إسرائيل لاحقاً إلى استخدام الغازات السامة المحرمة دولياً ضد المقاتلين الفلسطينيين داخل الأنفاق تحت الأرض في غزة، فهي كما قال أحدهم تكون أيضاً تطبق استراتيجية بشار الذي استخدم الأسلحة الكيماوية وكل أنواع الغازات ليس ضد المقاتلين فقط، بل ضد آلاف المدنيين، وخاصة الأطفال السوريين.
والمضحك اليوم أن نفس الذين فعلوا الأفاعيل بالمدن السورية يذرفون دموع التماسيح على غزة وشعبها متناسين أنهم هم الذين قدموا نموذج التهجير والإجرام لإسرائيل لتستنسخه في غزة بحذافيره، وليكون ملهماً لها في عملياتها الهمجية بحق الشعب الفلسطيني حاضراً ومستقبلاً. وقبل سنوات سمعنا كلاماً من الإسرائيليين أنفسهم يقولون فيه إن ما فعله بشار الأسد في سوريا سيشجعنا أن نفعل مثله وأكثر بالفلسطينيين ولن يلومنا أحد، وعلى الأقل نحن لا نفعل ذلك مع شعبنا، بل مع عدونا.
هل لاحظتم الآن أن النظام السوري تحول اليوم إلى ما يشبه القدوة لإسرائيل في عملياتها الإجرامية البربرية بحق الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة وغيرها.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

كيف ستنتهي الحرب؟

د. فيصل القاسم

 

دعونا نتفق أولاً أن هذه الحرب بين إسرائيل وغزة فريدة من نوعها ولا سابق لها أبداً، فكل الحروب السابقة كانت سريعة وانتهت كسابقاتها بتدخل عربي ودولي لوقف إطلاق النار وعودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. لقد كانت قواعد الاشتباك واضحة للطرفين، ولم يحيدا عنها مطلقاً. صحيح أن المقاتلين في غزة رفعوا وتيرة الهجمات على إسرائيل قبل عملية «طوفان الأقصى» باستخدام الصواريخ العابرة لغلاف غزة واستهداف مدن ومناطق إسرائيلية، لكن تلك الاستراتيجية الجديدة ظلت، على الرغم من تطورها وجدتها، محدودة التأثير والصدى، ولا يمكن أبداً مقارنتها بما تلاها في العملية الأخيرة التي شكلت زلزالاً حقيقاً للإسرائيليين، وجعلتهم في أضعف حالاتهم منذ احتلال فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين. صحيح أن البعض يلجأ في تحليله إلى نظرية المؤامرة معتبراً بأن العملية الأخيرة كانت أشبه بحادي عشر سبتمبر إسرائيلي مدروس ومنظم لتحقيق أهداف أمريكية وإسرائيلية أكبر منه فيما بعد، كتهجير الغزاويين مثلاً، لكن آخرين يجادلون بأن الواقع يؤكد أن إسرائيل تواجه أكبر تحد في تاريخها، فهي لا تقابل جيوشاً عربية أمامها، بل تواجه حرباً من نوع نادر جداً، لأن غالبية مقاتليها تحت الأرض داخل شبكة أنفاق لم يسبق لها مثيل، والبعض يصفها بـ«مترو غزة» الطويل جداً، ولذلك فإن الانتصار الإسرائيلي إن حصل طبعاً باستخدام غازات محرمة دولياً تحت الأرض سيكون الأكثر كلفة في تاريخ إسرائيل، إن لم يكن ضربة تاريخية لها. لهذا سواء كانت العملية فخاً مدروساً أمريكياً وإسرائيلياً كما يتهكن البعض، أو أقوى ضربة تهدد حاضر إسرائيل ومستقبلها، فإن توابعها وأبعادها ونتائجها تبقى خطيرة جداً وغير مسبوقة على مستوى المنطقة كلها. وهذا ما نحن بصدده الآن، كيف ستنتهي الحرب؟
واضح اليوم وبعد حوالي ثلاثة أسابيع على العملية أن الأمور لن تأخد المسارات السابقة أبداً، بل بدأت تكشف عن مخططات ومشاريع وحتى صراعات لم تكن تخطر على بال الكثيرين رغم أنها كانت دائماً في بال شياطين السياسة والإعلام. الجديد الآن أن الحرب ستطول دون أدنى شك، وهذا ما يؤكده قادة الحرب والسياسة الإسرائيليون. لا يمكن مطلقاً أن تنتهي اللعبة بوساطة عربية أو دولية، فالمطلوب الآن إسرائيلياً وغربياً لا يمكن أن توقفه أي وساطة، فالفرصة بالنسبة لإسرائيل وداعميها مواتية جداً لتحقيق أهداف كان من الصعب مجرد التفكير بها في السابق حسب تصورهم، وعلى رأسها طبعاً تحقيق أمنية رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين الذي قال يوماً: «كم أتمنى أن أصحو ذات صباح وأرى غزة وقد ابتلعها البحر».

يبدو اليوم أن كثيرين في القيادة الإسرائيلية وحتى الأوروبية والأمريكية يريدون تحقيق رغبة رابين بأي طريقة كانت، حتى لو كانت كارثية على الجميع. المهم أن تختفي غزة عن رادار الأخطار التي تحيق بإسرائيل. طبعاً لا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بإمكانية تحقيق تلك الرغبة كما أسلفنا، حتى لو تدخل الجيش الإسرائيلي برياً في غزة وقسمها إلى شطرين شمالي وجنوبي وهجّر الغالبية العظمى من سكانها. كبار العسكريين الأمريكيين والروس يتوقعون مثلاً أن يواجه الإسرائيليون حرباً ضروساً لم يخوضوا مثلها من قبل مع أي طرف عربي، وقد تكون وبالاً عليهم وعلى جيشهم وشعبهم، وهي عملية يعترف كبار الجنرالات الروس بأنها من أصعب وأخطر الحروب التي واجهها الجيش الروسي في سوريا والشيشان وأوكرانيا، وخاصة في باخموت. إذاً من المبكر جداً التنبؤ بالشكل الذي ستنتهي عليه الحرب.
أما على الصعيد الأوسع، تتواصل التحذيرات الدولية على لسان كبار المسؤولين الدوليين من أن الحرب قد تتسع رقعتها وتأخذ شكلاً إقليمياً ودولياً أكبر. لا شك أن من حق البعض أن يتساءل هنا: ومن هي الجهة التي يمكن أن تدخل على خط الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، فالعرب لا يريدون المشاركة في أي حرب ضد إسرائيل، لا بل إن الغالبية العظمى منهم يساندون الطرف الإسرائيلي من تحت الطاولة وأحياناً من فوق الطاولة. وحتى ما يسمى بمحور «المقاومة» لا يبدو متحمساً جداً لدخول الحرب، وكل ما نراه من اشتباكات سخيفة بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان لا يرتقي مطلقاً إلى مستوى الحرب، فهو اشتباك مدروس بعناية، ويبدو أن هدفه الأول والأخير الضحك على الذقون وذر الرماد في العيون. إذاً لماذا يحذر المسؤولون الدوليون من اتساع رقعة الصراع إذا كانت كل أطراف ما يسمى بمحور المقاومة بما فيها سوريا تبدو خانعة مستسلمة ولا تستطيع الرد على العدوان الإسرائيلي على المطارات المدنية السورية، فما بالك أن تتدخل في صراع خارج أراضيها؟ هكذا يبدو المشهد حتى الآن، لكن قد يضطر حزب الله وغيره للانجرار إلى الحرب، إلا أن ذلك إن حدث لا يعني بالضرورة حرباً إقليمية كبرى أبداً.
ماذا يقصد إذاً الذين يحذرون من اتساع رقعة الحرب؟ المشكلة أن لا أحد يفصح عن ماهية تلك الحرب، فهل يقصدون مثلاً حرباً إيرانية على بعض البلدان العربية؟ البعض يستبعد ذلك لأن إيران تريد فتح صفحة جديدة مع دول المنطقة والتركيز على وضعها الداخلي بعد أن تردى كثيراً، وتسبب قبل فترة بانتفاضة شعبية عارمة. لكن الذين يعبرون عن وجهة النظر الإيرانية غير الرسمية في وسائل الإعلام لا يخفون تهديداتهم لبعض الدول العربية التي تتظاهر إيران بأنها تريد ترميم العلاقات معها، فقد ظهر أحد المقربين من طهران قبل أيام على إحدى الفضائيات ليهدد الأنظمة العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل أو تنوي التطبيع معها بالاسم. وقال حرفياً إن الميليشيات الإيرانية في المنطقة تعد العدة لمهاجمة دول عربية بعينها باعتبارها حليفة لإسرائيل، فهل يلتقي هنا المشروعان الصهيوني والصفيوني ليعيدا رسم خرائط المنطقة وتقاسمها؟ أم إن مثل هذا السيناريو نفسه يبقى من بنات أفكار أصحاب نظرية المؤامرة فقط؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

عندما يحاضر

بوتين بالشرف!

 

د. فيصل القاسم

 

أحياناً أقف مشدوهاً أمام تصريحات بعض زعماء العالم، وأتساءل: هل يعتقد هؤلاء الأفاقون الدجالون المنافقون أننا مغفلون وساذجون وأغبياء إلى هذه الدرجة كي يتقيؤوا علينا أكاذيبهم ودجلهم بهذه الخفة والميوعة؟
قبل مدة مثلاً أطل علينا الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن ليهاجم بقوة الغزو الروسي لأوكرانيا، مع العلم أن بوش نفسه هو الذي غزا أفغانستان والعراق ودمر البلاد وقتل وشرد ملايين العباد. وقد اقترف بوش زلة لسان فضحته على الفور على الهواء مباشرة، فبدل أن يقول: “الغزو الروسي لأوكرانيا”، قال: “الغزو الروسي للعراق”، وكأن الله عز وجل يذكره بأنه منافق وكذاب ودجال ولا يحق له أن يهاجم جرائم الآخرين، وهو غارق في الجريمة حتى أذنيه. رمتني بدائها وانسلت. واليوم يطل علينا الرئيس الروسي بنفس طريقة نفاق جورج بوش ليحاضر بالإنسانية والعدالة وليتحدث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان. (شوفوا مين عميحكي). لا شك أننا نشكر بوتين عندما شبّه حصار غزة بحصار لينينغراد، ولا شك أننا نشد على يديه عندما اعتبر تهجير أهل غزة منافياً للقوانين الدولية، وأن التهجير جريمة كبرى. لا أحد يختلف معه هنا أبداً. لكن فليسمح لنا بوتين أن نذكره بأبيات أبي الأسود الدؤلي للمنافقين أولاً:
يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ… هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى… كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ… ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا… فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ…لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ.. عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ”.
هل تعتقد يا سيد بوتين أنك تستطيع ببعض التصريحات الديماغوجية أن تأكل بعقول العرب عامة والسوريين خاصة، حلاوة؟ لماذا تحاول أن تتذاكى على العالم ويداك تقطران دماً من كثرة الجرائم التي ارتكبتها في أوكرانيا وسوريا وغيرها؟ جميل أن تدين عمليات التهجير في غزة وتدعو إلى وقف إطلاق النار، لكن لماذا نسيت أو تناسيت أن وزير دفاعك الشهير تحدث عن تجريب أكثر من ثلاثمائة سلاح جديد على أجساد وأشلاء السوريين، وأنكم استخدمتم الأرض السورية كحقل تجارب لأسلحتكم المحرمة دولياً، وهذا أيضاً بشهادة وزير دفاعك ولا أحد غيره؟ وهل ينسى السوريون طائراتكم التي دمرت حتى مداجن الطيور، ولم تترك مسجداً أو مدرسة أو مستشفى إلا وحولته إلى ركام؟ وتأتي الآن لتذرف دموع التماسيح على أهل غزة. نعم إسرائيل تطالب بتهجير حوالي مليوني شخص في غزة، وهو عمل بربري بكل المقاييس، لكن ألم تتسبب أنت وعصاباتك بتهجير خمسة عشر مليون سوري يا بوتين؟ أليس من السخف أن تهاجم تهجير المدنيين، وفي تلك اللحظات كانت طائراتك تدمر البيوت فوق رؤوس ساكنيها في إدلب متسببة في نزوح عشرات الألوف من بيوتهم إلى العراء؟ في اللحظة التي كنت تدعو فيها إلى وقف إطلاق النار في فلسطين بمجلس الأمن، كانت عصاباتك تحرق الأطفال والنساء في الشمال السوري. ألا تخجل أن تتحدث عن التهجير، وأنت ملك التهجير بامتياز ليس في سوريا فحسب، بل في أفغانستان ومن بعدها في أوكرانيا؟

نعم إسرائيل تطالب بتهجير حوالي مليوني شخص في غزة، وهو عمل بربري بكل المقاييس، لكن ألم تتسبب أنت وعصاباتك بتهجير خمسة عشر مليون سوري يا بوتين؟

هل ينسى العالم يا بوتين أن جيشك الأحمر دمر أفغانستان في يوم من الأيام وقتل مئات الألوف من شعبها؟ هل نذكرك بخمسة ملايين أفغاني هجّرهم الجيش الروسي أثناء غزوه لأفغانستان ولا أحد يتحدث عنهم اليوم؟ رقم مخيف بكل المقاييس. لا شك أننا نشكر تصديك للبربرية الأمريكية والإسرائيلية إعلامياً، لكن هل تعتقد أننا مغفلون إلى هذا الحد كي تجعلنا ننسى ما فعلته بأهلنا في سوريا دفاعاً عن نظام فاشي مثل نظامك تماماً؟ أليس من السخف أن تحتفل أنت وجيشك سنوياً بعيد الانتصار على النازية، بينما أنت اليوم تحمي أفظع الفاشيين في العالم؟ هل يختلف ما فعلته وتفعله اليوم في سوريا وأوكرانيا عما فعله هتلر بروسيا ذات يوم؟ هل يحق لك أن تتحدث عن التهجير وأنتم اليوم تهجرون الشعب الأوكراني من دياره؟ كم عدد الأوكرانيين الذين فقدوا منازلهم واضطروا لهجرة وطنهم بسبب عدوانكم الآثم على شعب آمن؟ ألم يصل عدد اللاجئين الأوكرانيين إلى أكثر من عشرة ملايين لاجئ بعد غزوكم البربري لأوكرانيا؟
لا يسعنا في الواقع إلا أن نضحك بشكل هستيري عندما نراك يا بوتين أنت والأمريكيين تتبادلون الاتهامات. هم يهاجمون غزوك لأوكرانيا وسوريا، وأنت تهاجم غزوهم للعراق وأفغانستان. وهل خطآن يصنعان صواباً؟ هل يختلف احتضان أمريكا لإسرائيل وحمايتها والدفاع عنها في كل مكان بكل أنواع الأسلحة الحربية والإعلامية والاقتصادية عن احتضانك ودفاعك ووقوفك أنت مع النظام السوري في كل المناسبات؟ كم مرة استخدمت حق النقض الفيتو في مجلس الأمن للدفاع عن نظام الأسد وتبرير جرائمه وتهجيره لملايين السوريين؟ لماذا تناسيت أنك تدافع عن نظام قتل وهجر من السوريين والفلسطينيين أكثر مما قتلت وهجرت إسرائيل من العرب بمرات ومرات؟
في الختام سيد بوتين، نقول لك: العيال كبرت ولم تعد تنطلي عليها دموعكم الاصطناعية وخزعبلاتكم الإعلامية والسياسية المفضوحة، لهذا فعندما تذرف دموع التماسيح على غزة وأنت تهجّر السوريين والأوكرانيين بالملايين، وتسوي بلادهم بالأرض، فلن تحصل على تصفيق الشعوب المسحوقة، بل حسبك أن تنجو من بُصاقها ولعناتها.

 

 

 

عندما يحاضر أحفاد

غوبلز بالشرف الإعلامي!

د. فيصل القاسم

 

غالباً ما يقدم الإعلام الغربي نفسه للعالم على أنه أرقى أنواع الإعلام باعتباره إعلاماً ديمقراطياً تعددياً يسمح بحرية التعبير وتنوع الآراء وينشد دائماً الموضوعية والمهنية الإعلامية. وللأسف تنطلي أكاذيبه هذه على رهط كبير من البشر في كل أنحاء العالم، لأن ثقافة الغالب هي الأقوى والأكثر تأثيراً دائماً. لكن الحقيقة أن الإعلام الغربي (إلا من رحم ربي) عندما يجد الجد يصبح مثله مثل أسوأ أنواع الإعلام الديكتاتوري الموجه ولا يختلف مطلقاً عن أكذب صحيفة في تاريخ الإعلام ألا وهي جريدة «برافدا» السوفياتية، وتعني «الحقيقة» مع أنها لم تقدم يوماً سوى عكس الحقيقة تماماً.
بصراحة لا يمكنك إلا أن تشعر بالقرف اليوم وأنت تتابع تغطية الإعلام الأوروبي والأمريكي للحرب في غزة، فهو بمجمله، وخاصة الإعلام العام منه، إعلام حربي موجه بعيد كل البعد عن كل ما يروجه عن نفسه من موضوعية وتعددية وحرية، فمذيعو التلفزيونات الغربية يبدون في حالة توتر وحزن شديدين وهم يغطون الحرب بين إسرائيل وغزة، وبعضهم على وشك أن يجهش بالبكاء وهو يقرأ أخبار القتلى والمفقودين والأسرى الإسرائيليين. لقد اختفت الموضوعية والمهنية المزعومتان فوراً، وتحولت التلفزيونات والصحف إلى أبواق حربية تضخ كل أنواع الدعاية والفبركات والكذب على الطريقة الغوبلزية التي كانت تتخذ من الكذب المنظم شعاراً لها. وكلنا يتذكر أن غوبلز وزير إعلام هتلر الشهير كانت نصيحته الرئيسة لوسائل إعلامه: «اكذبوا ثم اكذبوا حتى تصدقوا أنفسكم أو حتى يلصق شيء في أذهان الجماهير». والمضحك في الأمر أن وسائل الإعلام الغربية التي تسخر على الدوام من الإعلام الغوبلزي هي أسوأ اليوم بمرات من ذلك الأعلام التضليلي، وبطريقة أكثر حرفية في الكذب والتضليل والتشويه والشيطنة.
لا أحد في الإعلام الغربي اليوم يريد أن يعرف وجهة نظر الحمل في الحرب الدائرة في فلسطين، فالكل يتسابق على إظهار وجهة نظر الذئب بكل صفاقة. هم دائماً يبرئون الذئب من تعكير مياه النبع مع العلم أنه يقف على رأس النبع، بينما يجرّمون الحمل البريء القابع في أسفل النبع. وكم شعرت بالقرف عندما سمعت المذيعين في أكثر من تلفزيون غربي وهم يسألون ضيوفهم: «ألا يجب أن تدينوا الإرهاب الفلسطيني؟» وكأن الفلسطينيين هم الذين يحتلون إسرائيل وليس العكس. إنها قمة الدناءة والحقارة والسفالة الإعلامية. حتى كبرى المؤسسات الإعلامية الغربية التي صدعت رؤوسنا بالموضوعية والنزاهة غدت مفضوحة بشكل مقزز، فعندما تتحدث عن الضحايا الفلسطينيين مثلاً تسميهم «الموتى» الفلسطينيين كما لو أنهم ماتوا قضاء وقدراً ولم تقتلهم آلة الحرب الإسرائيلية الوحشية. وعندما تتحدث عن الإسرائيليين تسميهم «قتلى» وضحايا الإرهاب الفلسطيني. هكذا بكل صفاقة تدعس على كل أبجديات النزاهة الإعلامية، ويصبح الحياد في قاموسها الإعلامي رجساً من عمل الشيطان فاجتنبوه.

غالباً من يصورون الإعلام العربي بأنه إعلام أحادي ولا يحب أن يسمع إلا صوته، لكن لو قارنا اليوم التغطية العربية للأحداث في فلسطين لوجدناها أكثر توازناً وموضوعية من الإعلام الغربي، فالإعلام العربي اليوم يستضيف مسؤولين إسرائيليين وغربيين ويعطيهم المجال ليكذبوا كما يشاؤون دون تدخلات أو استفزازات صارخة من قبل المذيعين والمذيعات، بينما تجد المذيعين في التلفزيونات الغربية يقطرون سماً وغضباً وحقداً على أي ضيف فلسطيني أو عربي يدافع عن غزة.
ولطالما شاهدنا ضيوفاً فلسطينيين على تلفزيونات غربية وهم يشتكون من مقاطعات المذيعين الذين يحاولون التشويش على كلام الضيوف ويقاطعونهم بشكل سخيف كي لا تصل وجهة نظرهم إلى المشاهد الغربي.
لا ننكر أبداً أن الدول تهمها في نهاية النهار مصالحها ولتذهب النزاهة والموضوعية الإعلامية إلى حيث ألقت أم قشعم، لكن المقرف في الأمر أن الغرب يصور نفسه دائماً على أنه الإعلام الأكثر حرية وموضوعية وحياداً ونزاهة، بينما هو في الواقع إعلام غوبلزي بامتياز عندما يصبح على المحك، فعندما يلجأ الفلسطيني إلى المقاومة المشروعة يسمونه «إرهابياً» وعندما يخرج في تظاهرة يصبح في رأيهم «عنيفاً» وعندما يتكلم يتهمونه بالتحريض. هذه هي وجهة نظر إسرائيل وكل من يدور في فلكها في الإعلام الغربي. وكم شعرت بالقرف والاشمئزاز عندما كنت أحضر مؤتمرات لمناقشة حال الإعلام في دول غربية، فكانوا يتهمونني بأنني منحاز للقضايا العربية. تصوروا!
لا بأس أن يتحول الصحافي الغربي إلى بوق غوبلزي مفضوح عندما يتعلق الأمر بمصالح بلده وشعبه، لكنه يعتبر انحيازنا للقضايا العربية خطيئة كبرى. حرام علينا أن ننحاز لهموم شعوبنا، لكن حلال على القادة والمسؤولين والإعلاميين الأوروبيين والأمريكيين أن يبكوا على الهواء مباشرة اليوم وهم يدعمون إسرائيل ظالمة أو مظلومة.
والأنكى من كل ذلك أن بعض مواقع التواصل الغربية لا تسمح لك أن تستخدم حتى اسم الحركات الفلسطينية، أو أسماء قادتها، والويل لك إذا ذكرت الاسم فقط، فتتعرض لعقوبة صارمة ويقيدون حسابك أو صفحتك لعام كامل، بحجة أنك تشير إلى جماعات إرهابية. أما إذا كتبت لصالح تلك الحركات، فقد يغلقون حسابك فوراً. ثم يحدثونك عن حرية التعبير. يا لها من ديموخراطية!
لكن للأمانة أعجبني ذات يوم مدرب إعلامي غربي كنت أتدرب على يديه قبل أكثر من ثلاثين عاماً، فقد سألته وقتها: «أنتم دائماً تصدعون رؤوسنا بالحديث عن الشفافية والموضوعية والحيادية والمهنية الإعلامية، لكن هل أنتم حياديون وموضوعيون ومهنيون فعلاً في تقديمكم للأخبار مثلاً؟» فكان رده بصراحة صادقاً. قال لي: «نحن باختصار نقدم الأخبار كما نراها من عواصمنا». دققوا في عبارة «كما نراها» وليس كما هي. بعبارة أخرى، فهو قال بطريقة غير مباشرة إننا غير موضوعيين ولا مهنيين، بل ننظر إلى القضايا الدولية إعلامياً من الزاوية الغربية حصراً وبمنظار مصالحنا الخاص فقط، ونعبر إعلامياً عن رؤى القيادات والأنظمة الغربية وانحيازاتها ومصالحها الضيقة بعيداً عن المهنية والحياد والنزاهة المزعومة التي نضحك بها على ذقون المغفلين. وشهد شاهد من أهله. وسلامتكم!

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

متى كان الوحش

رحيما مع الفريسة؟

د. فيصل القاسم

 

كان يا مكان في قديم الزمان في قرية (طلامي) مختار شرير يملك الكثير من الأراضي والمال والسلاح والأرزاق ولديه عشرات البلطجية يعملون لصالحه، وكان يعتدي على أهل القرية كيفما شاء، ويفرض عليهم أتاوات ويعاقبهم على أبسط الأخطاء، والكل يخاف منه ويحاول تجنب شره ويعمل على إرضائه بكل الوسائل، وذات يوم هجم مجموعة من بلطجية المختار على بيت (أبو جدعان) وضربوا أولاده وحطموا أثاث البيت وسرقوا محصول القمح، وتحولت حياة أبو جدعان بعد ذلك إلى جحيم، ومع ذلك كان أبو جدعان كلما سألوه في القرية عن وضعه البائس التعيس، كان يقول مازلت آمل أن سعادة المختار سيحل مشكلتي، وهناك أخبار طيبة أنه شكل لجنة لحل قضايا أهل القرية، والجميع يضع أمله في سعادة المختار لتحسين وضع الأهالي.
ما أتعس تلك الشعوب التي تتوقع الحل من قاتليها، ومغتصبيها، وقاهريها، وناهبيها. من المفارقات المضحكات المبكيات أن غالبية الشعوب العربية المنكوبة تتطلع دائماً إلى الحلول القادمة من القوى الكبرى، وخاصة الغربية، وعندما تجد تلك الشعوب نفسها بلا حول ولا قوة، فلا شيء يبعث الأمل في نفوسها بالخلاص إلا التدخل الغربي سياسياً أو عسكرياً.
قد يبدو الأمر كوميدياً للغاية، لكنه للأسف الواقع المر، فالكل ينتظر الفرج من العم سام وغيره من القوى التي تعيث خراباً ودماراً في العالم منذ عقود وعقود. السوري يتوقع الحل في بلده على أيدي الكبار، وكذلك اليمني والعراقي واللبناني والسوداني والتونسي والمصري والليبي والفلسطيني، مع أنهم جميعاً يعلمون أن القوى الكبرى مسؤولة بدرجة كبيرة عن الكوارث التي حلت ببلدانهم. مَن الذي غزا العراق في المقام الأول ودمر نظامه وحل جيشه وحوله إلى ملل ونحل طائفية ومذهبية متصارعة؟ من الذي زرع الفرقة والتناحر بين العراقيين وجعلهم يترحمون على أيام الطغيان الصدامي الخوالي؟ مع ذلك، فإن عيون العراقيين مازالت ترنو إلى الأمريكي كي يخلصهم من محنتهم ومأساتهم، وهو المتسبب بها أصلاً.
ولو سألت السوريين اليوم، على من تعلقون الآمال كي ينقذكم من وضعكم المأساوي الكارثي، لأشاروا فوراً إلى القوى الكبرى، فهي برأيهم الوحيدة القادرة على إيجاد حل لمأساتهم، مع أنهم يعلمون علم اليقين أنه عندما تدخلت أمريكا في سوريا، استولت على سوريا المفيدة التي تحتضن مناطق الحبوب والماء والنفط، ووضعتها تحت أيديها وأيدي عملائها من المجموعات الكردية. وعندما استقدمت أمريكا وشركاؤها أساطيلها ودباباتها إلى سوريا، فليس لمساعدة السوريين للتخلص من النظام الفاشي، الذي دمر سوريا بالبراميل المتفجرة والطائرات وحرق ثلاثة أرباع البلد وشرد نصف الشعب، بل راحت تقول إنها جاءت لمحاربة الإرهابيين. ونحن نشد على أيدي كل من يحارب الجماعات الإرهابية كتنظيم الدولة (داعش) وغيرها، لكن أليس النظام والميليشيات الإيرانية التي استقدمها لتدمير سوريا إرهابية أيضاً، وكان على الأمريكيين محاربتها أيضاً كجماعات إرهابية؟ هل تختلف ممارسات النظام وممارسات حلفائه في سوريا عن ممارسات الدواعش؟ كيف يمكن أن تتوقع الحل على أيدي الخارج في سوريا بعد معرفة أبسط أبجديات التدخل الخارجي في سوريا اليوم؟ هل لأي قوة خارجية اليوم مصلحة في حل الأزمة السورية، أم إن الوضع الكارثي الحالي يعتبر مثالياً لكل القوى التي تتقاسم النفوذ في سوريا؟

السوري يتوقع الحل في بلده على أيدي الكبار، وكذلك اليمني والعراقي واللبناني والسوداني والتونسي والمصري والليبي والفلسطيني، مع أنهم جميعاً يعلمون أن القوى الكبرى مسؤولة بدرجة كبيرة عن الكوارث التي حلت ببلدانهم

وحدث ولا حرج عن ليبيا. نعم لقد ساعد حلف الناتو الليبيين في التخلص من نظام القذافي كما ساعد العراقيين في التخلص من صدام، لكن ماذا بعد؟ كيف تطورت الأمور بعد إسقاط النظام الليبي؟ أليست القوى الخارجية مسؤولة عن حالة الفوضى والتمزق والتشظي التي تسيطر على الحالة الليبية منذ أكثر من عقد من الزمان؟ أليست التدخلات الخارجية هي التي حولت الوضع في ليبيا إلى حرب أهلية من أجل مصالح القوى الكبرى التي تتصارع اليوم على ثروات البلاد وتدعم هذا الفصيل ضد الآخر كي تتمكن من السيطرة على البلاد وشفط خيراتها؟ هل تتوقع من الضباع المتصارعة على بترول ليبيا اليوم أن تجد حلاً للمأساة الليبية وحتى إعادتها إلى وضع ما قبل الثورة؟ من له مصلحة في حل الأزمة الليبية من القوى الخارجية؟
وفي السودان اليوم، ألا يُعتبر الصراع الدائر بين عصابات العسكر أيضاً مثالياً لكل ضباع العالم الذين يتهاوشون على الثروات السودانية؟ هل بدأت الكارثة السودانية كي تنتهي قريباً أم إنها مشروع خارجي شرير تلعب داخله فصائل العسكر المتناحرة دور أدوات التنفيذ فقط؟ وهنا نسأل السؤال نفسه: من له مصلحة في إيجاد حل للكارثة السودانية وحتى إعادة البلاد إلى الوضع السيء الذي كانت تعيشه أيام حكم البشير؟ لا أحد سوى الشعب المنكوب، وهو لا يملك من أدوات الحل شيئاً، شأنه في ذلك شأن الليبي والسوري والعراقي، والتونسي، واليمني، واللبناني. أما بقية القوى الكبرى التي يأمل السودانيون أن تساعدهم في إيجاد حل فهي التي خلقت الوضع الحالي أصلاً، فكيف تتوقع منها أن تحله؟ مستحيل.
كيف يتوقع اليمنيون أن يأتيهم الفرج من الخارج وهم أصلاً ضحية العدوان والتدخل الخارجي؟ ماذا كانت تفعل الأساطيل وطائرات الاستطلاع الأجنبية عندما كانت الأسلحة الإيرانية تتدفق على العصابات اليمنية؟ لا تقل لي إن الأسلحة التي كانت تنهمر على اليمن لم تكتشفها أجهزة المراقبة والاستطلاع الغربية؟ ألم تكن كل الأسلحة التي حرقت الأخضر واليابس في اليمن قادمة أصلاً من شركات الأسلحة الدولية؟ أليس اليمن كسوريا مجرد حقل رماية يستخدمون على أرضه كل أنواع السلاح؟ ألم يقل وزير الدفاع الروسي إن سوريا كانت أفضل مختبر لتجريب أسلحتنا الجديدة؟ ثم يتنطع بعض المغفلين ليطالب بحلول دولية لكوارثهم.
من يلعب اليوم في الساحة اللبنانية وأوصلها إلى حافة الانهيار والإفلاس؟ أليست نفس القوى التي يعلق عليها اللبنانيون الآمال لانتشالهم من تحت التحت؟
وحتى البلدان التي حصل فيها بعض التغيير، فكان مجرد تغيير طرابيش لا أكثر ولا أقل، لا بل إن التونسيين مثلاً يترحمون اليوم على أيام بن علي بعدما جاءهم قيس سعيّد الذي يُمطر الصهيونية يومياً بوابل من الشتائم، لكنه على الأرض مثل بشار الأسد وغيره من القومجيين، هم أكثر من ساعدوا مشاريع العدوان والتخريب والتدمير الخارجية لتنجح في بلادنا.
اليوم، ليس لدى السوريين واليمنيين والليبيين والسودانيين والعراقيين واللبنانيين وغيرهم ممن يسمون بالعرب، ليس لديهم أية حلول لكوارثهم. المساكين ينتظرون أي حل بين القوى الخارجية المتصارعة على بلادهم لعله يصب في مصلحتهم، مع العلم أنهم يعرفون المثل الشعبي الشهير: ما حك جلدك مثل ظفرك، وأن الفرج لا يمكن أن يأتي من الوحوش الضارية، ومن السخف الشديد أن تستنجد الفريسة بالصياد كي ينقذها من مخالب كلب الصيد، ومن الأسخف طبعاً أن تتوقع حبة القمح العدالة من الدجاجة؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

لماذا تتجاهلون هذا الخطر الرهيب:

هل أنتم متواطئون؟

د. فيصل القاسم

 

تستأثر قضية المخدرات وترويجها والاتجار بها، وتعاطيها، وبسبب خطورتها الفائقة على الصحة العامة ومستقبل الأجيال والمجتمع بشكل عام، باهتمام كافة الوكالات والمنظمات الدولية المعنية وكل تلك الدول المتضررة منها مباشرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي أغرقتها «كارتلات» المخدرات الأمريكية الجنوبية بشحنات لها أول وما لها آخر، وتُعقد لذلك الجلسات والمشاورات والاجتماعات الأممية والإقليمية والبينية بين الدول لمناقشة سبل درء ذاك الخطر الداهم والقاتل والمدمـّر، وحين يصل «البل للذقن» كما يقال، تـُتخذ أحياناً تدابير صارمة ومتشددة، بلغت حدّ الغزو العسكري لبنما في العام 1989 من قبل قوات «المارينز» واحتلال الجزيرة واعتقال وجلب ديكتاتور بنما، يومها، «مانويل نورييغا 1934-2017 م» للعدالة الأمريكية وسجنه حتى الموت في إحدى زنزاناتها، فيما تم قتل بارون المخدرات الكولومبي الأشهر بابلو أسكوبار، متزعم «كارتل» ميدلين، من قبل السلطات الكولومبية في العام 1993، في عملية أمنية معقدة، بتواطؤ ودعم استخباراتي ولوجستي مباشر من الـC.I.A، لكن، وعلى ما يبدو، وبكل أسف فإن الأمر يختلف، كثيراً، ولسبب مريب وغريب، عندما يصل لـ«نورييغا» و«بابلو أسكوبار» الشام صاحب ومؤسس كارتل «الكبتاغون» الذي ينتج علناً في مصانع معروفة للجميع في الساحل السوري وسهل البقاع اللبناني و«باروناته» يصولون ويجولون علناً وبمواكب رسمية في شوارع دمشق واللاذقية والضاحية وبحماية ميليشيا «البارون» ماهر الأسد المعروفة باسم «الفرقة الرابعة» ويـُغرِقون أسواق المنطقة والعالم بالسم القاتل، في تحد صارخ لكل المنظومة والمجتمع الدولي، فحين يصل الأمر لملك «الكبتاغون» (المدلل) في قصر المهاجرين، تعطي الدول والمنظمات والوكالات الدولية الأذن «الطرشاء» لذلك، ولا تتخذ ضده أي إجراء، وهي ترى المخدرات تفتك بأجساد الأجيال الغضة والناشئة الصغار وتـُدمـّر مستقبلهم وحياتهم بمنهجية وإصرار وعلى عينك يا تاجر ويا مجتمع دولي، فيما بات الحديث علناً عن اقتصاد «الكبتاغون» الذي يجعل النظام واقفاً على قدميه، إذ يدر على العصابة الحاكمة أكثر من خمسين ملياراً من الدولارات سنوياً وفق تقدير الهيئات والمنظمات المختصة.
ولا يكاد لا يمر أسبوع، وربما يوم، إلا ونسمع عن ضبط شحنة مخدرات بالأطنان في هذا البلد العربي أو ذاك، ناهيك عن عشرات الشحنات الأخرى التي تصل إلى وجهتها بسلام، وكلها قادمة من سوريا التي تحولت إلى عاصمة المخدرات في العالم بامتياز. والكل يعرف أن من يقف وراء هذه الظاهرة غير المسبوقة تاريخياً في المنطقة هو النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون وميليشياتهم، وطبعاً بالتعاون مع أذرعهم الكثيرة خارج المنطقة في أنحاء متفرقة من العالم، فهم لا يعملون لوحدهم، بل مرتبطون بجهات أكبر وأخطر منهم، فهي تدعمهم وحتى تحميهم سياسياً.
وفي بداية الأحداث في سوريا قبل أكثر من عشر سنوات قرأت كلاماً لباحث عراقي مخضرم قال فيه «إن نظام الأسد في دمشق لن يسقط، لأنه محم من أعتى كارتيلات المخدرات في العالم». للأمانة لم أصدق هذا الكلام وقتها، لا بل سخرت من الباحث العراقي، لكنني اليوم وأنا أرى كيف طغى اسم وسمعة أسكوبار الشام في تجارة المخدرات على أسكوبار كولومبيا المقتول واحتل مكانه وتربع على عرش هذه «الممنوعات» صرت متأكداً أن النظام السوري يستمد بعضاً من قوته من حلفائه وشركائه صانعي ومروجي المخدرات في العالم. لاحظوا رغم إعادته إلى الجامعة العربية ورغم كل ما فعله بسوريا والسوريين، خرج علينا رأس النظام قبل مدة ليهاجم العرب ويتحداهم، ويرفض التنازل لهم، وخاصة في قضية المخدرات، وبدل أن يتراجع قليلاً عن إغراق المدن العربية بالكبتاغون، ضاعف شحناته إلى البلدان العربية، وقد اعترف وزير الخارجية الأردني قبل أيام بأن النظام السوري بدأ يرسل مزيداً من شحنات المخدرات إلى الأردن بعد التقارب بين البلدين وبعد عودته إلى الجامعة العربية. ولا ننسى أن الاستخبارات السورية كانت تهرب المخدرات إلى الأردن منذ عقود بكل الطرق الشيطانية بما فيها عبر ليّة الغنم.

وتشتكي الحكومة العراقية يومياً من وصول عشرات الأطنان من المخدرات إلى المدن العراقية، مع العلم أن النظام العراقي حليف للنظام السوري ويمده بالنفط والدولارات منذ سنوات وسنوات، ويدعمه سياسياً في كل المحافل العربية والدولية. وحدث ولا حرج عن البلدان الخليجية التي تصلها الشحنات بكل الأشكال والألوان، مرة عبر الرمان ومرة عبر الكابلات الكهربائية ومرة عبر البرتقال ومرة عبر البطيخ، مع العلم أن بعض العواصم الخليجية سارعت لدعم النظام ورفع الحصار عنه، لكنه كافأها بهجمة مرتدة، فمن أغرق الأسواق السورية بالمخدرات ونشرها حتى في المدارس الابتدائية بين الأطفال السوريين وباعها على أرصفة الشوارع لن يتوانى مطلقاً عن تدمير بقية الأطفال والشباب العربي في بلدان عربية أخرى.
لم تعد قضية المخدرات مجرد مناكفات سياسية بين النظام السوري وبعض الدول العربية، لا أبداً، بل صارت قضية حياة أو موت بالنسبة للكثير من الشعوب العربية، فنسبة الإدمان على المخدرات في بعض البلدان المجاورة وصلت إلى مستويات قياسية مرعبة، وبات الناس بالشوارع يرون العجب العجاب في تصرفات بعض المتعاطين. وأحياناً يتجنب المارة الاحتكاك بالآخرين في شوارع بعض المدن العربية، لأنهم يعرفون أن الغالبية باتت تتعاطى الكبتاغون السوري، ومن الأفضل الابتعاد عنها خوفاً من مخاطرها. وقبل أيام نشرت وكالات الأنباء خبراً يقول إن أحد الشباب قتل أمه بعد تعاطيه جرعة من الكبتاغون، وبعد أن صحا من تأثير المخدر سألوه: «لماذا قتلت أمك» فقال: «أنا لم أقتل أمي، بل قتلت شيطانة» فقالوا له: «لا بل قتلت أمك» فأغمي عليه وبدأ يجهش بالبكاء.
وهذا مجرد نموذج بسيط لآثار هذه الآفة الفتاكة التي تجتاح العالم العربي من المحيط إلى الخليج. ولا ننسى الآثار المستقبلية للمخدرات من الناحية الصحية، فهي تدمر الدماغ، ونحن هنا نتحدث عن تدمير أدمغة جيل كامل من البشر، وهي كارثة تاريخية بكل المقاييس، فهل هذا ما تريده الأنظمة العربية لشعوبها؟ لماذا تتعامل مع هذا الخطر بهذه الخفة واللامبالاة؟ لماذا لا نسمع منها سوى الشكوى الخجولة من طوفان المخدرات التي يأتيها من دمشق وطهران والضاحية الجنوبية في بيروت؟ أليس الحديث عن إسقاط طائرات مسيّرة تحمل مخدرات هو لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون؟ هل تستطيع المسيّرات أن تحمل أكثر من كيلويين من المخدرات أصلاً؟ ألا تصل الشحنات الكبرى إلى وجهاتها عبر أنفاق آمنة وطرق مفتوحة؟ هل بات العرب عاجزين وصاروا يتوسلون أسكوبار الشام كي يرأف بحالهم وحال شعوبهم، أم إن بعضهم متواطئ ومستفيد من هذه التجارة المليارية؟ عندما طرحت استفتاءً على الفيسبوك فيما إذا كانت بعض الأنظمة العربية متورطة في لعبة ترويج المخدرات، جاءت معظم الردود بالإيجاب، والبعض قال إنها مستفيدة بطريقتين، الأولى أنها تجني مرابح لا بأس بها من هذا التجارة مع عصابات الشام وطهران، والثانية أن بعضها لا تمانع في إلهاء شعوبها بالكبتاغون وسائر أنواع المخدرات الأخرى كي تبقى الشعوب «مسطولة» لتكتفي شرها وتبعدها عن المجال العام. لا بل إن البعض ذهب أبعد من ذلك متهماً الأنظمة بالتنسيق مع عصابات المخدرات السورية، أي أن هناك تواطؤاً أصبح واضحاً بين المنتج والمشتري والمستهلك. يا لها من جريمة تاريخية نكراء إذا تأكدت صحتها فعلاً! هل يعقل أن تضحي تلك الأنظمة اللاوطنية بشعوبها كي تبقى جاِثمة على كراسيها بأمان واطمئنان؟
في الماضي كانت بعض النساء تجد علاجاً ناجعاً جداً للمولود الجديد الذي يبكي كثيراً. كانت تشتري دواء فيه مادة منوّمة ومخدرة وتعطيه للطفل، فينام ساعات طويلة ويريحها من البكاء والصراخ. واليوم ونحن نرى حجم الانتشار الرهيب للمخدرات في بعض الدول العربية وارتفاع عدد المروجين والبائعين والمتعاطين إلى مستويات قياسية وسط لامبالاة حكومية صارخة، بدأت أتذكر ما كانت تفعله بعض النساء مع أطفالهن كي ترتاح من بكائهم!

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

عندما يحاضر الطائفيون

بالعروبة والقومية!

 

د. فيصل القاسم

 

كلما انتفضت منطقة في العالم العربي مطالبة بأبسط حقوقها الإنسانية، يخرج لها أبواق الأنظمة القومجية الهمجية لشيطنة المطالب الوطنية والتهرب من المسؤولية والاستحقاقات الشعبية بشماعة الانفصال والمؤامرة الجاهزة، ويبدأون يوجهون للمنتفضين فوراً تهمة الانفصال عن الوطن وتمزيق الدولة وتنفيذ أجندات خارجية، مع العلم أن الذي مزق أوطاننا وشرد شعوبها وحوّلها إلى ملل ونحل متناحرة هي تلك الأنظمة العربجية التي رفعت شعارات الوحدة العربية المزعومة وأولئك الطغاة القومجيون الذين جعلوا الشعوب تكفر بأوطانها وتفكر حتى باللجوء إلى الشياطين الزرق للخلاص من الظلم والطغيان اللذين تتعرضان لهما تحت حكم تلك الأنظمة التخريبية. رمتني بدائها وانسلت. اليوم مثلاً يتهمون المنتفضين في السويداء بأنهم انفصاليون، مع أن النظام الفاشي هو الذي باع سوريا بالجملة والمفرّق للغزاة والمحتلين كي يحموا عرشه الذليل، وهو الذي يدق الأسافين بين مكونات الشعب السوري على أسس طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية منذ مجيئه إلى السلطة قبل عقود كي يعيش على تناقضات الشعب ومخاوفه وصراعاته.
إن من يسمع أبواق ذلك النظام وهي تتهم الآخرين بالانفصال عن سوريا يأخذ الانطباع أن النظام الذي يمثلونه هو رمز الوحدة العربية ولم الشمل العربي، بينما هو الذي زرع الفرقة داخل البيت الواحد والعائلة الواحدة والحارة الواحدة والقرية الواحدة والمدينة الواحدة، وهو الذي يتحالف مع الفرس «ألد أعداء العرب» ضد كل العرب والمسلمين، وهو الذي رفع شعارات عروبية كبيرة بينما كان من وراء الستار يحكم على أسس ما قبل طائفية. وكلنا يتذكر كيف وقف حافظ الأسد مع إيران ضد الشقيق والجار العراقي أثناء الحرب الإيرانية العراقية. واليوم كلنا يعرف من سلم المنطقة الشرقية في سوريا لبعض الأحزاب الكردية لقاء تحالفها معه في بداية الثورة لقمع وسحق حراك الشعب السوري. ولا ننسى طبعاً مئات المحاولات الدنيئة لدق الأسافين بين السهل والجبل في الجنوب السوري كي لا يتحد أهالي السويداء ودرعا في وجه العصابة الحاكمة بدمشق. ولا ننسى أيضاً أن النظام مزق الطائفية العلوية نفسها إلى أفخاذ وعشائر متصارعة.

كم هو مُضحك ذلك «الشبيح» الأسدي التابع للإيراني والروسي والكردي والأفغاني والإسرائيلي والأمريكي والصيني وهو يتهم بقية السوريين بالانفصال والعمالة. أيها البهارزة أنتم من رهنتم ثروات سوريا لعشرات السنين، وقسمتموها الى أشلاء متناثرة ثم تتهمون الآخرين الآن بالانفصال؟ من الذي مزق الجسد السوري إرباً إرباً أيها العملاء غيركم؟ ولا ندري ماذا سيبيع بشاركم للصينيين بعد زيارته الأخيرة للصين. هل تركتم جهة في العالم إلا وبعتم لها قطعة من سوريا كي تحافظوا على حكم العصابة التي حرقت الأخضر واليابس كي تبقى جاثمة على صدور السوريين؟ واليوم في الوقت الذي يتهم فيه الشبيحة ثوار السويداء بأنهم انفصاليون، تدرس العصابة الحاكمة خارطة التقسيم التي وُضعت 2012 وهي تحدد معالم (سوريا المفيدة) وتقضي بضم الساحل وحمص ودمشق كي تنفصل عن سوريا القديمة وتصبح سوريا الأسد الجديدة. لكن والعلم عند الله، فهذا المشروع لن ينجح، لأن الساحل السوري سيصبح من نصيب قوى خارجية جديدة، بدليل أن آلاف الهكتارات من أراضي الساحل السوري بيعت لوكالات دولية بإشراف القصر الجمهوري سنعرفها لاحقاً. ولا داعي للفضائح الآن.
وبالرغم من أن الجميع بات يعرف من الذي يفتت سوريا فعلياً ويبيعها، إلا أن الإعلام السوري لا يمل من ترديد الأسطوانة المشروخة التي تتهم كل من يصرخ بوجه النظام بأنه انفصالي وعميل. وهل تركتم للصلح مطرحاً أصلاً مع مكونات الشعب السوري كي تعود سوريا واحدة موحدة؟ هل تعتقدون أن الشمال السوري الذي يأوي حوالي ستة ملايين نازح ومهجر ومشرد يمكن أن يعود إلى حكم العصابة الطائفية الفاشية؟ مستحيل وألف مستحيل. لن يعود هؤلاء إلا بعد رحيل العصابة وتشكيل نظام سوري لكل السوريين. وما ينطبق على الشمال ينسحب على الشرق السوري الذي أصبح اليوم كياناً مستقلاً وبتأييدكم ودعمكم. وطالما أن الحل العادل ليس متاحاً في سوريا فتوقعوا من كل المناطق التي ذاقت الويل والعذاب من عصابتكم أن تستقل وتنفصل وترعى مصالحها بنفسها. لقد صار لكم 53 سنة وأنتم تدعسون على البلاد والعباد تحت كذبة الوطن. ماذا تركتم من هذا الوطن أصلاً؟ هذا الوطن هو وطنكم أنتم وليس وطن السوريين. الوطن حيث يعيش الإنسان بكرامة وبحبوحة فوق أي أرض وتحت أي سماء بعيداً عن إجرامكم. ولا أحد يلوم السوريين، حتى لو تعاملوا مع القرود في سبيل ذلك، كما يقول الدكتور علاء الدين العلي. ويضيف العلي في هذا السياق: «إن أكثر من يستفيد من كذبة (وحدة الأراضي السورية) هو النظام المجرم، وأن
كل من لا يزال يتحدث عن وحدة سوريا هو إما قومجي مفضوح، أو معارض يحمل شهادة دَرْوَشة سياسية. إن التقسيم ليس قادماً فحسب! التقسيم صار أمراً واقعاً. لن يعود أحد ليعيش تحت سلطة النظام مرة أخرى. ثم من قال لكم إن هذه هي حدود سوريا؟ أليست حدود سايكس بيكو وهم من رسموها بقلم رصاص؟ لماذا نقدس تلك الحدود بسذاجة منقطعة النظير؟ هذه الحدود لا أشتريها بقشرة بصل طالما أن النظام مدعوم إلى هذه الدرجة وباق بالسلطة رغماً عنا، لذلك فإن أي أرض من سوريا نقتطعها ونعيش فيها بكرامة وبحبوحة هي سوريا بالنسبة لنا، وليذهب الذين يتهموننا بالانفصال إلى الجحيم» حسب الدكتور علاء. والسؤال الأهم للمجموعة الحاكمة: هل أنتم فعلاً تغارون على وحدة سوريا وأراضيها، أم إنكم تريدون فقط قطعة من الذبيحة السورية وليذهب الباقي إلى الجحيم؟ إن ما فعلتموه بسوريا لا يدل مطلقاً على أنكم سوريون أصلاً، فلو كنتم سوريين لما فعلتم الأفاعيل بهذا الوطن الجريح وشعبه المسحوق.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

من يحمي النظام

السوري من الأقليات؟

د. فيصل القاسم

 

من أكثر النكات إثارة للضحك والسخرية على مدى نصف قرن من التاريخ السوري الحديث النكتة التي كان يضحك بها النظام السوري على العالم، ألا وهي نكتة «حماية الأقليات» موحياً بذلك أن الأقليات في سوريا تعيش في رعب دائم من الأكثرية، وهي بالتالي تحتاج إلى حام على الدوام، مع العلم أن الأقليات السورية لم تتعرض في تاريخها لواحد بالمائة من الأذى الذي تعرضت له على أيدي النظام الأسدي. وللأمانة فقد نجح النظام في ترويج وتعميم تلك الكذبة السمجة لفترة من الزمن، لكن حبل الكذب مهما طال يبقى قصيراً، حيث يظهر اليوم أمام الجميع عارياً تماماً بعد أن سقطت ورقة حماية الأقليات التي كان يغطي بها عوراته التي لا تعد ولا تحصى.
لا شك أن النظام وحلفاءه الطائفيين نجحوا في استغلال البعبع الإسلامي على مدى سنوات لمصلحته الخاصة داخلياً وخارجياً، لكن ماذا بعد أن انكشفت خدعة حماية الأقليات وبعد أن راحت بعض الأقليات كالموحدين الدروز مثلاً يمسحون الأرض برأس النظام ويغلقون مقرات حزبه الحاكم ويدوسون على صوره وتماثيله بنفس الطريقة التي داست بها الأكثرية على رموز النظام قبل أكثر من عشر سنوات. لا بل إن أهالي السويداء لم يتركوا شعاراً ولا لافتة ولا أغنية من اللافتات والشعارات والأغاني التي أنشدها ثوار الأكثرية إلا ورددوها في ساحة الكرامة بقلب المدينة التي تطهرت تماماً من كل صور وتماثيل بشار ووالده. وهذا أكبر دليل على أن الأقليات لم تصدق يوماً الكذبة التي حاول بها النظام خداع العالم لتبرير همجيته بحق الأكثرية وتقديم نفسه على أنه يحمي الغرب من الإرهاب الإسلامي. لقد سقطت كذبة مواجهة الخطر الإسلامي تماماً، ولم يعد هذا النظام الفاشي قادراً أن يستر عوراته بأي شعارات جديدة.
والمؤلم جداً في الأمر أن كذبة «حماية الأقليات» انطلت لردح من الزمن على الغرب نفسه دون أن يعلم الغرب المسيحي أن أكبر المتضررين من النظام السوري هم المسيحيون السوريون أنفسهم. ويقول الباحث السوري المسيحي جورج كدر في دراسة له بعنوان «هندسة الفتن» إن «الهجرةَ الكبرى للمسيحيين السوريين كانت على مدى السنواتِ الثلاثين الماضية، أي خلال حكم النظام السوري الحالي. والأرقام تقول إنّ أكبر هجرة للأقليّات كانت في عهد الديكتاتوريّة التي ادّعت حماية الأقليّات، فقد انخفض عدد المسيحيين منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة بشكل كارثيّ؛ فبعد أن كانت نسبتهم 16.5 بالمئة من السوريين مطلع السبعينيّات، قد تصل اليوم إلى أقلّ من 6 بالمئة وربما أقل بكثير، حسب كدر.

وحتى الحاضنة الشعبية للعائلة الحاكمة في سوريا في الساحل السوري لم تدفع بتاريخها ثمناً باهظاً كالثمن الذي دفعته خلال العشر سنوات الماضية، فقد استخدمها النظام كرأس حربة ضد الأكثرية، وورطها في صراع تاريخي مع المسلمين في سوريا الذين يشكلون أكثر من ثمانين بالمائة من سكان البلاد.
لقد صرح أحد المتحدثين باسم النظام في السنوات الأولى للأحداث وعلى شاشة الجزيرة بأن العلويين فقدوا أكثر من مئتي ألف قتيل، وهذا يعني أن الرقم ربما تضاعف خلال السنوات اللاحقة من المواجهة بين النظام والأكثرية السنية. وقد ذكرت صحيفة «الحياة» في تقرير لها من الساحل قبل سنوات أن العديد من البلدات العلوية أصبحت بلا رجال لأن العائلة الحاكمة زجت بهم في أتون الحرب ضد الأكثرية. وماذا كانت مكافأة الأقلية العلوية المذبوحة التي يستخدمها النظام في حربه على السوريين؟ إنها تعيش منذ سنوات أسوأ فترة في تاريخها، ويكاد يكون وضعها اليوم أسوأ بمرات من وضع النازحين السوريين الذين تجمعوا في الشمال السوري أو حتى في بلاد اللجوء. وقد خرجت أصوات علوية قوية للغاية في الآونة الأخيرة ضد النظام رغم القبضة الأمنية الوحشية المسلطة على الحاضنة الشعبية للعائلة الحاكمة في الساحل السوري. ولمن لا يعرف فإن عقاب العلوي الذي يتمرد على النظام أكبر بمرات من عقاب أي مكون سوري آخر، فالمطلوب من العلويين المسحوقين المذبوحين المهمشين المنتوفين أن يصمتوا حتى لو لم يجدوا لقمة الخبز لأطفالهم. لكن مع ذلك، هناك حالة تململ غير مسبوقة في العلاقة بين العائلة الحاكمة والمجتمع العلوي الذي قدم مئات الألوف من القرابين على مذبح العائلة ليجد نفسه اليوم في أسوأ وضع معيشي كارثي بعد أن هرب عشرات الآلاف من شبابه إلى العراق وغيره بحثاً عن لقمة عيش، وبعد أن كانت مكافأة العائلات التي فقدت شبابها في الحرب ساعة حائط صناعة صينية وفي أحس الأحوال «سحارة برتقال» أو «باكيت متة».
واليوم لو خفّت القبضة الأمنية الوحشية قليلاً في الساحل السوري لربما شاهدنا انتفاضة شعبية ضد العائلة الحاكمة بنفس قوة انتفاضة الموحدين الدروز في السويداء. ومن الواضح أن الأمور في الساحل طال الزمن أو قصر تتجه في اتجاه الانتفاضة، خاصة وأن غالبية الشارع العلوي يضع اليوم ألف إشارة استفهام على أصل وفصل العائلة الحاكمة، والنسبة الكبرى من العلويين اليوم تشكك في أن يكون آل الأسد علويين أو سوريين أو حتى عرباً أو مسلمين. حاول اليوم أن تسأل علوياً على انفراد عن أصل العائلة فسيقول لك إنها مجهولة النسب ولا تمت للعلويين بصلة، وهي فقط تستخدم الطائفة كرأس حربة لتنفيذ مخططات شيطانية لصالح مشغليها في الخارج ضد سوريا والسوريين والعرب والمسلمين. ولو كانت العائلة من أصل سوري لما دمرت سوريا وشردت شعبها وباعتها بالجملة والمفرّق للغزاة والمحتلين الذين استقدمتهم لحماية عرشها الذليل.
والآن بعد أن اتضح أن النظام السوري أكبر عدو للأقليات والأكثرية في آن معاً، ماذا بقي لديه من أكاذيب كي يتاجر بها، فقد أثبت الباحثون المسيحيون أنفسهم بأن العائلة الحاكمة في سوريا هي المسؤولة عن تهجير غالبية المسيحيين، بينما يرى العلويون أنهم لم يعانوا في تاريخهم كما يعانون اليوم بسبب استغلالهم من قبل العصابة الحاكمة في مشاريع شيطانية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. أما الموحدون الدروز فقد قطعوا شعرة معاوية مع النظام تماماً كما نرى يومياً في انتفاضتهم المباركة التي ستدخل شهرها الثاني. ولا يبدو أن هناك رجعة إلى النظام بعد أن أصبحت السويداء محسوبة على مناطق المعارضة، وبالتالي فإن السؤال اليوم: هل كان النظام يحمي الأقليات فعلاً أم كان يحتمي بها؟ من سيحميه من الآن فصاعداً من الأقليات بعد أن سقطت وانفضحت خرافة «حماية الأقليات»؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

لماذا لم تتآمر أمريكا

على اليابان وكوريا والصين؟

د. فيصل القاسم

 

لا أريد أن أبدو هنا وكأنني أدافع عن أمريكا وأبرئ ساحتها وأتغاضى عما فعلته ببلاد كثيرة على مدى عقود وعقود، فهذا مكشوف للقاصي والداني ولا يمكن أن يتجاهله أحد، لكن، في الوقت الذي نعاين فيه التدخلات الأمريكية في العديد من مناطق العالم وآثارها الكارثية على الأمم والشعوب والدول، لا بد أن ننظر بالعين الثانية إلى البلدان التي لم تكن تحلم في يوم من الأيام أن تصل إلى قمة المجد التكنولوجي والاقتصادي والمالي والحضاري من دون العون الأمريكي، بدءا بأوروبا وانتهاء بالصين.
ولو عدنا أولاً إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتدمير بلدان أوروبية عدة وإنهاكها على كل الأصعدة، ونظرنا إلى الدور الأمريكي في مساعدة تلك البلدان وانتشالها من تحت ركام الحرب، لتأكدنا أن الغرب الأوروبي لم يكن ليستعيد عافيته وقوته مطلقاً لولا «مشروع مارشال» الأمريكي الشهير الذي وضعته واشنطن للنهوض بأوروبا وإعادة إعمارها بعد خروجها من الحرب منهكة تماماً. وقد خصصت أمريكا وقتها عشرات مليارات الدولارات لإعادة تشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية وانتشال الأوروبيين من قاع الفقر والبطالة. وهو مبلغ خيالي بمقاييس اليوم. وقد استنتج المؤرخ الاقتصادي البلجيكي هيرمان فان دير وي أن مشروع مارشال حقق «نجاحاً باهراً، وأعطى زخماً جديداً لإعادة الإعمار في أوروبا الغربية، وقدم إسهاماً حاسماً في عملية إعادة تجديد نظام النقل وتحديث المعدات الصناعية والزراعية، إضافةً إلى استئناف الإنتاج الطبيعي وزيادة الإنتاجية وتسهيل التجارة البينية الأوروبية».
وقد يتنطع البعض للقول هنا إن «مشروع مارشال» جاء لإنقاذ شركاء أمريكا المسيحيين في الغرب، وهو بالتالي قائم على أساس ديني أو عقدي، لكن هذا الكلام سخيف جداً، وتدحضه المشاريع الأمريكية اللاحقة لمساعدة الصين واليابان وكوريا الجنوبية وهي بلدان غير مسيحية. ولو أخذنا الدعم الأمريكي للصين لاستنتجنا أنه لولا أمريكا لما تقدمت الصين مطلقاً تكنولوجياً واقتصادياً ومالياً، فقد كان لنقل المصانع والتكنولوجيا الأمريكية إلى الصين دور هائل في نهضة الصين الصناعية، حيث استفاد الصينيون كثيراً من الخبرات الأمريكية أو ما يسمى بالإنجليزية بـ«النو هاو». هل كان للصين أن تصبح قوة تكنولوجية عملاقة لولا أمريكا؟ بالطبع لا. وعندما نقلت أمريكا مصانعها وخبراتها إلى داخل الصين، فلا شك أنها كانت تعلم علم اليقين أن الصينيين سيتعلمونها وسيستفيدون منها لاحقاً لبناء قوة تكنولوجية وصناعية عظيمة. ولو كانت واشنطن تخشى من نهوض التنين الصيني تكنولوجياً وصناعياً ليصل إلى ما وصل إليه اليوم لكانت قد فكرت ألف مرة قبل أن تنقل خبراتها ومصانعها إلى الصين في المقام الأول.

ولا ننسى أن أمريكا لم تساعد الصين تكنولوجياً فقط، بل منحتها أيضاً أفضل المميزات والحوافز التجارية، بحيث فتحت لها أسواقها لتستقبل كل أنواع السلع والمنتوجات الصينية، بحيث تندر الصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان قائلاً: «حتى العلم الأمريكي الذي يرفرف فوق البيت الأبيض صناعة صينية». لا تقل لي إن الصين خدعت أمريكا وعملت بالقول الدارج: «أعلمه الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رماني». لا لا أبداً، فالأمريكيون لا يتصرفون بعشوائية، بل يضعون خططاً لعشرات السنين المقبلة قبل أن يقدموا على أي خطوة، لا بل إن المفكر الأمريكي الآخر جورج فريدمان في كتابه «المئة سنة القادمة» يعترف بأن أمريكا هي من صنعت الصين، وأن الصين ضرورة استراتيجية لأمريكا، وأنه لو تعرضت الصين لأي هزات خطيرة فستسارع أمريكا إلى نجدتها فوراً، وهذا ينسف كل الكلام عن الصراع الأمريكي الصيني على قيادة العالم، حسب فريدمان.
ولا ننسى أنه في الوقت الذي دعمت أمريكا الصين في كل المجالات، فقد دعمت أيضاً خصم الصين التاريخي، ألا وهي اليابان لتكون سداً منيعاً إلى جانب أمريكا فيما لو حاولت الصين ذات يوم التمرد على صانعها الأمريكي. وهذه طبعاً استراتيجيات القوى العظمى التي لا تعتمد فقط على النوايا، بل تعرف كيف تستشرف المستقبل وتضع الخطط المناسبة لمواجهة أي تطورات محتملة.
ولو عدنا إلى الدعم الأمريكي لليابان لوجدنا أنه بالرغم من إلقاء أمريكا أول قنبلة ذرية على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، إلا أن ذلك لم يمنعها لاحقاً من الأخذ بيد اليابان وانتشالها من تبعات الحرب، فوضعت لها حتى قوانين الاستصلاح الزراعي، كما وضعت لها أنظمة اقتصادية واجتماعية وتنموية لولاها لما نهضت اليابان من كبوتها بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى الصناعة اليابانية نهضت بفضل الدعم الأمريكي وبراءات الاختراع الأمريكية. وقد ظلت اليابان إلى فترة قريبة مجرد مطور للتكنولوجيا الالكترونية الأمريكية، ولم تكن تمتلك براءات اختراع خاصة بها إلا فيما بعد، بعد أن مكّنتها أمريكا من الوقوف على رجليها.
ولو انتقلنا إلى كوريا الجنوبية لوجدنا أنها بدورها لم تكن لتنهض وتزدهر لولا الدعم الأمريكي. وكي لا نكذب على بعض، لا يمكن لأي دولة في العالم أن تنهض رغماً عن الإرادة الأمريكية، وكلنا يعلم أن لدى أمريكا ألف وسيلة ووسيلة لوضع العصي في عجلات أي دولة ممنوع عليها أن تتقدم. وقد رأينا ما حصل للذين حاولوا التمرد على الجبروت الأمريكي في كل أنحاء العالم. بعبارة أخرى، فإن الأشواط التي قطعتها كوريا الجنوبية تكنولوجياً وصناعياً لم تكن لتتحقق لولا العون الأمريكي، أو لنقل لولا غض الطرف الأمريكي على أسوأ تقدير.
خيراً هذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل يعقل أن تتآمر أمريكا على البلدان المتخلفة والضعيفة كبعض بلداننا، بينما تقدم كل أنواع الدعم للبلدان القوية الصاعدة؟ أم إن مفهومنا لما يسمى المؤامرة الأمريكية (الامبريالية) تجاوز حتى مرحلة تهافت التهافت؟ أتذكر يوماً سألت المفكر والباحث البريطاني الشهير الراحل فريد هاليدي: لماذا يتآمر الغرب على العرب؟ فضحك الرجل وقال: «الغرب يمكن أن يخاف من روسيا لأن لديها ترسانة نووية يمكن أن تدمر العالم ثلاثاً وثلاثين مرة، فماذا لدى العرب ليخيفوا ويهددوا به الغرب كي يجعله يتآمر عليهم؟».
هل تميز أمريكا بين شعوب العالم كما يميز لاعب الشطرنج بين الأحجار الثقيلة والبيادق؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

حرروا الجيوش العربية

أولاً قبل تحرير الأوطان؟

د. فيصل القاسم

 

غالباً ما تكون الجيوش في البلدان التي تحترم نفسها رمزاً للوطنية، إن لم نقل رمز الوطنية الأبرز، لأنها الحامي الأول والأخير للبلاد. وغالباً ما تنظر إليها الشعوب على أنها السد المنيع في وجه الأعداء وكل من يحاول النيل من الأوطان.
وهذا هو فعلاً حال الجيوش الوطنية التي تربت على عقيدة حماية الحدود والذود عنها. لكن للأسف الشديد يختلف الوضع في العديد من الدول العربية، فالكثير من الجيوش أصبحت في عيون ملايين العرب رمزاً للطغيان والعدوان وحتى الخيانة والعمالة، لأن آخر ما يهمها حماية الأوطان والشعوب، وتكاد تنحصر مهمتها في الدفاع عن الأنظمة والطغاة ومواجهة الشعوب وسحقها عندما تطالب بأبسط حقوقها. كل جيوش الدول المحترمة توجه سلاحها للخارج، بينما معظم الجيوش العربية توجه ترساناتها إلى صدور الشعب دفاعاً عن الحكام ومشغليهم في الخارج. ولا عجب في ذلك، فهناك وثائق تاريخية تؤكد أن معظم الجيوش التي استلمت الحكم بعد ما سمي الاستقلال، هي بالأصل صناعة استعمارية، فلم يخرج المستعمر قبل أن يسلم مقاليد السلطة للعسكر ليكونوا وكلاءه وعملاءه في بلادنا بعد خروجه النظري من أوطاننا. وفي واقع الأمر فقد سلمت قوى الاستعمار كل سلطاتها ووسائل القهر والإجرام والعنف والقذارة إلى جنرالاتها ليكملوا المهمة من بعدها، ولو قارنا ممارسات المستعمر بممارسات أذنابه العسكريين لوجدنا أنه كان أقل وحشية، لأن أدواته المحلية تفوقت عليه بمراحل في القمع والسحق والتخريب والتدمير والنهب والسلب، ولو أحصينا عدد ضحايا المستعمر بعدد ضحايا الجيوش العربية لوجدنا أن المستعمر لم يقتل ربع ما قتله العسكر من أبناء جلدتهم، لا بل كان أرحم بكثير في التدمير والنهب. ولا داعي لذكر الجرائم التي ارتكبتها الجيوش عندما انتفضت الشعوب على مدى عقد من الزمان مطالبة بأبسط حقوقها.
ولو درستم تاريخ تطور الجيوش العربية منذ ما قبل خروج المستعمر من العالم العربي لوجدتم أن المستعمر هو من صنع العديد من الجيوش ودربها ووضع لها العقيدة العسكرية، والغريب أن عقيدة الكثير من الجيوش العربية لم تتغير عما كانت عليه قبل الاستقلال المزعوم إلا بالشكل فقط، بينما في الواقع فإن طبيعة تلك الجيوش وتركيبتها ظلت تحتفظ باللمسة الاستعمارية القذرة، ولا ننسى أن الفرنسيين مثلاً كانوا يختارون جنرالات وقادة الجيوش التي صنعوها وسلموها السلطة في العالم العربي حسب مواصفات طائفية وعقائدية وعرقية وشخصية معينة، لهذا مثلاً تجد أن بعض الجيوش ظلت طائفية التوجه بعد خروج المستعمر بعشرات السنين. ولو قارنت تركيبتها القديمة بالتركيبة الحالية لوجدتها نسخة طبق الأصل عن التركيبة التي وضعها المستعمر الفرنسي في بعض البلدان.

لا عجب إذاً أن الرئيس التونسي الأسبق الدكتور منصف المرزوقي وضع كتباً بعنوان «الاستقلال الثاني» معتبراً أن تسلم الجيوش العربية السلطة بعد خروج المستعمر لم يكن استقلالاً أبداً، بل عملية استلام وتسليم بين المستعمر والجيوش اللاوطنية التي حلت محله في عملية الاحتلال والاغتصاب لأوطاننا وسحق شعوبها. ويؤكد المرزوقي على أن المطلوب اليوم لتحقيق الاستقلال الحقيقي الذي سماه بالاستقلال الثاني هو تحرير بلادنا من الطغم العسكرية التي تحكمها نيابة عن المستعمر القديم. وما دامت تلك الجيوش تتحكم بالسلطة من وراء الستار أو أمامه، فلا مستقبل لأوطاننا ولا لشعوبنا. وكل من يعتقد أن قوى الاستعمار القديم يمكن أن تعاقب وكلاءها الذين ينوبون عنها في نهش لحوم شعوبنا فهو مغفل، لأن تلك الجيوش تنفذ حرفياً سياسة التوحش والهمجية التي وضعتها لها قوى الاستعمار قبل خروجها. وكلما أمعنت تلك الجيوش في جرائمها بحق الشعوب حصلت على مزيد من الثناء والدعم من صناعها القدامى. وكلنا شاهد ردة فعل الغرب على ما فعلته الجيوش ببعض بلداننا وشعوبنا. لم يحرك ساكناً لأنه سعيد جداً بما يفعله تلاميذه بمستعمراته القديمة الجديدة.
ولا نبالغ إذا قلنا إن معظم الجيوش العربية هي نسخة طبق الأصل عما يسمى الجماعات الإرهابية كداعش وأخواتها، فكما أن قيادات تلك الجماعات ليست أكثر من ثلة من العملاء في أيدي اجهزة خارجية، وأن أعضاءها جماعات من المغفلين المضحوك عليهم الذين يعتقدون انهم يناضلون من اجل قضايا عادلة، بينما هم في الواقع مجرد أدوات ووقود خدمة لمشاريع خارجية، فإن قادة العديد من الجيوش هم بدورهم كقادة الجماعات الإرهابية المرتزقة يعملون بوظيفة عملاء لصالح قوى خارجية، بينما الجيوش نفسها تعتقد أنها تقوم بمهمة وطنية تماماً كالمساكين المغفلين الذين تجندهم وكالات الاستخبارات الدولية للقتال ضمن جماعات دينية لأغراض استراتيجية. وقد قال بريجنسكي أشهر مستشاري الأمن القومي الأمريكيين ذات يوم إن «الجماعات الجهادية هي سلاح جيوسياسي صنعناه من أجل تحقيق مصالحنا». والشيء نفسه تقوله القوى الاستعمارية عن الجيوش التي صنعتها وسلطتها على الشعوب بعد خروجها من بلادنا. طبعاً نحن لا نشكك أبداً في وطنية ملايين الجنود في الجيوش العربية، لكنهم للأسف لا حول ولا قوة لهم، فهم مجرد وقود وعتلات في أيدي القيادات والأنظمة العميلة المرتزقة.
إن أكبر كذبة وخدعة يمكن أن تتعرض لها الشعوب العربية التي تثور اليوم وتطالب بحقوقها هي أن تقبل بتشكيل مجالس عسكرية لحكم البلاد بعد سقوط هذا النظام أو ذاك، وقد شاهدنا ماذا فعل العسكر بعد الثورات في أكثر من بلد بعد أن عادوا إلى السلطة بمسميات جديدة بحجة حماية الأمن الاستقرار. إن أي مجلس عسكري جديد سينفذ نفس المهمات الاستعمارية التي أوكلها المستعمر لعملائه قبل خروجه من بلادنا. لا تصدقوا أن هناك مجلساً عسكرياً واحداً يمكن أن يكون وطنياً أو مستقلاً، لا بل سيكون بدوره عميلاً وأداة في أيدي قوى خارجية، ولن يستلم السلطة إلا بدعم خارجي، وبالتالي سيعمل لصالح مشغليه بالدرجة الأولى كما عملت من قبله الجيوش اللاوطنية لصالح صناعها وكفلائها في الخارج. دلوني على جيش عربي من الجيوش الكبرى لم تصنعه وتشكله وتوجهه أياد خارجية.
لهذا لا تضيعوا أوقاتكم مع أي حركات عسكرية جديدة بحجة المرحلة الانتقالية، وانظروا ماذا فعل العسكر بالسودان بعد أن أخمدوا الثورة وضحكوا على حركات التغيير.
قبل أن تحرروا أوطانكم من الظلم والطغيان حرروا جيوشكم من العمالة والخيانة والتبعية، فهي جيوش تحت الاحتلال الخارجي، وعندما تصبح الجيوش أدوات وطنية بيد المؤسسات السياسية الديمقراطية المنتخبة، ستكون بلادنا وشعوبنا قد تحررت، لكن طالما أنها ترزح تحت قبضة العسكر ومشغليهم في الخارج فلن تقوم لها قائمة أبداً.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

الصين: تيك توك

للخارج وماو للداخل!

 

د. فيصل القاسم

 

عجيب أمر الصين، فهي تمارس أقصى أنواع المتناقضات على عينك يا تاجر دون أي خجل أو وجل، وبإمعان لا تخطئه عين، فهي مازالت تُحكم قبضتها على الشعب الصيني على الطريقة الماوية في كل المجالات، بينما تصدّر للخارج أسوأ أنواع الليبرالية المتوحشة والفالتة من عقالها بكل مظاهرها وأنواعها الإعلامية والاقتصادية والتجارية والثقافية. ما يصلح للخارج لا يصلح للداخل، فعلى الصعيد الأمني مثلاً كلنا لاحظ كيف تعامل النظام الصيني مع جائحة كورونا بطريقة عسكرية وقبضة حديدية كالتي استخدمها مؤسسو الدولة الصينية الحديثة بدءاً بماو تسي تونغ وانتهاء بالقيادة الحالية التي مازالت تسير على خطى المؤسسين أمنياً واجتماعياً وسياسياً رغم كل نجاحاتها وانفتاحاتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية عالمياً. لقد استخدمت الحكومة الصينية أشد وأعتى طرق التحكم والقمع والمنع والتعتيم الإعلامي أثناء الجائحة وأقفلت مدناً بأكملها وسجنت ملايين البشر داخلها لفترات طويلة. صحيح أن هذه السياسة القمعية نجحت في مواجهة الوباء، لكنها جاءت للتأكيد على أن كل هذا الانفتاح الصيني التجاري والاقتصادي والمالي والإعلامي على العالم يقابله ديكتاتورية وقبضة حديدية عز نظيرها في العالم على المستوى الداخلي.
انظروا إلى التطبيق الصيني الشهير «تيك توك» مثلاً الذي يجتاح العالم أجمع بما فيه الغرب، وبات يشكل صداعاً لأمريكا وأوروبا ذاتها بسبب حريته المنفلتة من عقالها. ولو قارنا التطبيق الصيني ومدى الحرية اللامسؤولة التي يمنحها لمتابعيه بالحرية التي تمنحها مواقع التواصل الغربية لمتابعيها وروادها، لوجدنا أن الأخيرة تبدو متزمتة أحياناً مقارنة بـ «تيك توك» الذي أصبح فيه كل شيء مباحاً تقريباً، بينما تعاقبك مواقع التواصل الغربية المشابهة على أبسط فيديو أو صورة أو حتى منشور يخالف قوانين النشر. لقد تفوق التطبيق الصيني في الفلتان الإعلامي على كل التطبيقات الغربية، وصار يؤرق المجتمعات الغربية ذاتها التي كانت تقدم نفسها للعالم حتى وقت قريب على أنها رمز الحرية والتحرر والانفتاح، فجاء «تيك توك» ليجعل بقية التطبيقات تبدو محافظة ورجعية. وكما هو واضح فإن الصين تمارس السياسة في الداخل على الطريقة الشيوعية الديكتاتورية المعهودة، وهذا طبعاً ينسحب في الوقت نفسه على المحتوى الإعلامي داخلياً بنفس الطريقة المتشددة، فهي مثلاً تحجب كل التطبيقات العالمية عن الشعب الصيني الذي لا يستطيع الدخول إليها، كما تفرض عليه تطبيقات تواصل محلية مشابهة للتطبيقات الغربية لكن بضوابط ومحتوى صيني بحت، فليس لدى الصينيين «فيسبوك» أو «تويتر» أو «انستغرام» أو «يوتيوب» أو «واتساب» التي يعرفها سكان العالم أجمع، بل لديها تطبيقات صينية. لكن في الوقت الذي تحجب فيه الصين مواقع التواصل العالمية عن شعبها، فهي تصدر للعالم أكثر تطبيق ليبرالي متوحش في تاريخ الإعلام ألا وهو «تيك توك» طبعاً.

الصين تحجب كل التطبيقات العالمية عن الشعب الصيني الذي لا يستطيع الدخول إليها، كما تفرض عليه تطبيقات تواصل محلية مشابهة للتطبيقات الغربية لكن بضوابط ومحتوى صيني بحت، فليس لدى الصينيين «فيسبوك» أو «تويتر» أو «انستغرام» أو «يوتيوب» أو «واتساب»

ولو قارنت المواد التي تسمح بها الصين على تطبيق تيك توك في الخارج بالمواد التي تسمح بها على التطبيقات الصينية المشابهة في الداخل لوجدت الفرق شاسعاً جداً، فبينما كل أنواع الانحلال والشذوذ والانحطاط مسموحة في «تيك توك» فإن المحتوى الصيني داخلياً مضبوط ويخضع لمراقبة شديدة وهو دائماً وأبداً تحت أعين القيادة السياسية والإعلامية التي تراقب كل شاردة وواردة في البلاد. وقد جاء الجيل الخامس من التواصل الإلكتروني الذي كان للصين دور كبير في إطلاقه وتعميمه عالمياً، كان له دور رهيب في تشديد الرقابة والتحكم بالداخل الصيني، بحيث بات أكثر من مليار من الصينيين يومياً تحت أعين ملايين الكاميرات بفضل تقنية الجيل الخامس التي تحكم قبضتها اليوم على كل زاوية في البلاد. وهناك من يقول إن المواطن الصيني يخضع للمراقبة على مدار الساعة بعد أن يخرج من منزله حتى يعود إليه. ونتساءل هنا: ما هذا التناقض العجيب بين سياسة القمع والمراقبة الصينية الصارمة على الشعب في الداخل، وبين هذه الحرية الصارخة في تطبيق «تيك توك» الذي يترك لرواده الحبل على الغارب كي ينشروا كل أنواع الممنوعات والموبقات؟
البعض يرى أن الصين تتصرف مع «تيك توك» كما تتصرف سياسياً، فبينما تتبع سياسة شيوعية ديكتاتورية متشددة في الداخل، فهي تمارس رأسمالية متوحشة في تعاملها مع الخارج. وهذا ما يجعل النظام الصيني مختلفاً عن الأنظمة الغربية التي تمارس الليبرالية في الاقتصاد والسياسة والإعلام معاً، بينما تفصل الصين بين السياسة الديكتاتورية التي تمارسها في الداخل والاقتصاد الليبرالي المتوحش الذي تصدره للخارج.
ما هو الهدف يا ترى من هذه الازدواجية الصينية: تيك توك للخارج يشجع كل أنواع الانحلال والفوضى والانحطاط والشذوذ والغباء، وتطبيق آخر داخلي مضبوط ومحدد موجه للشباب الصيني وهو ذو محتوى هادف ومختلف؟ هل يخدم هذا التوجه الأهداف الاستراتيجية الإمبريالية المستقبلية للصين؟ أم يجعل الصين اليوم تبدو للعالم بأنها صارت رمز الانحلال والفلتان والتوحش والفوضى؟ ما أشبه هذه الازدواجية الصينية بالاستراتيجية الإيرانية: الشادور والعمامة للداخل والمخدرات للخارج؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

لولا وكلاؤكم في بلادنا

لما هرب اللاجئون إلى بلادكم

د. فيصل القاسم

 

ملايين العرب والآسيويين والأفارقة والأمريكيين اللاتينيين يجازفون بحياتهم للوصول إلى الغرب هرباً من القمع والاضطهاد والفقر والفساد والحروب والخراب والدمار والانهيار والذل والفوضى في بلدانهم المنكوبة بحكومات وأنظمة وطغاة مهمتهم الأساسية إفقار شعوبهم وقمعها وسحقها ومنع أي نهضة في بلادهم خدمة لمشاريع ومصالح مشغليهم من ضباع العالم.
وقد ازدادت حدة أزمة اللاجئين في العالم بعد ما سمي بالربيع العربي، فقد تدفق ملايين اللاجئين من سوريا وليبيا وتونس واليمن والسودان والعراق ولبنان وغيره إلى أوروبا هرباً من الأهوال في بلدانهم، بحيث باتت قضية اللاجئين تقض مضاجع الغرب لأول مرة منذ عقود. وقد أصبح ملف اللجوء من أولويات الحكومات الغربية التي بدأت تميل أكثر فأكثر في اتجاه اليمين المتطرف الذي يتخذ أصلاً موقفاً مناوئاً للأجانب، وخاصة في بلد مثل فرنسا التي تشهد الآن أزمة داخلية لم يسبق لها مثيل بعد إطلاق شرطي فرنسي النار على شاب جزائري وقتله على الفور، مما أدى إلى أعمال عنف ومظاهرات عارمة غير مسبوقة وبالتالي تحريك قضية الأجانب في فرنسا، مع العلم أن غالبية المنتفضين ضد النظام الفرنسي اليوم ليسوا لاجئين، بل هم مواطنون فرنسيون من أصول عربية وأفريقية، لكن تحركهم في هذا الوقت أعطى لمسألة اللجوء بشكل عام اهتماماً إعلامياً وسياسياً أكبر.
وعلى ضوء ارتفاع حدة أزمة اللجوء إلى أوروبا واستصدار قوانين صارمة غير مسبوقة كالتي اتخذتها بريطانيا مثلاً كتسفير اللاجئين إلى رواندا ثم رفض القرار من قبل المحكمة الدستورية، بدأ كثيرون يطرحون أسئلة جوهرية حول موجات النزوح غير المسبوقة من العالم العربي إلى أوروبا وغيرها. وقد جاءت حادثة غرق قارب على متنه أكثر من خمسمائة لاجئ سوري في المياه اليونانية، جاءت لتضع ملف اللجوء في صدارة الأخبار ثانية. وبدأ البعض يسأل: ما الحل؟ من المسؤول عن هذه الكارثة التي بدأت تؤرق أوروبا والغرب عموماً؟ الفنان السوري الشهير سميح شقير أجاب على مثل هذه الأسئلة في أغنية جديدة قصيرة بعنوان» «شكراً للمؤتمرات» يسخر فيها من الجهود الدولية لمعالجة أزمة اللاجئين من خلال المؤتمرات والمساعدات السخيفة. وتركز الأغنية على أن كل ما يفعله الغرب لمواجهة أزمة اللجوء هو للضحك على الذقون وذر الرماد في العيون بعيداً عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هروب الملايين من البشر من بلادهم حتى لو سقطوا طعاماً للأسماك والحيتان في عرض البحار والمحيطات.

وتقول الأغنية للعالم باختصار شديد إن كل ما تفعله الأمم المتحدة والمؤتمرون والمؤتمرات لمعالجة كارثة اللجوء مضيعة للوقت والجهد لأنها تبتعد كثيراً عن مواجهة السبب الرئيسي لهذه الكارثة، ألا وهو وجود أنظمة وطغاة وجنرالات في بلادنا المنكوبة هم المسؤولون بالدرجة الأولى والأخيرة عن انهيار العديد من البلدان العربية، وأن الغرب يعلم علم اليقين أنه بدعمه لهؤلاء الطغاة فهو يشارك في المسؤولية عن كارثة اللاجئين التي باتت تدق أبوابه يوماً بعد يوم.
هل كان لملايين الأفارقة والعرب مثلاً أن يركبوا البحار ويعبروا في اتجاه أوروبا لو لم تكن القوى الاستعمارية القديمة كفرنسا وغيرها داعمة لأنظمة الخراب والدمار في أفريقيا والشرق الأوسط؟
هل يعمل جنرالات أفريقيا وغيرهم لصالح بلدانهم وشعوبهم، أم إنهم كالعديد من جنرالات الشرق الأوسط مجرد عملاء محليين ووكلاء لقوى دولية في بلادهم، وهم بالتالي مسؤولون عن الخراب والانهيار الذي يزداد سوءاً في بلادنا يوماً بعد يوم؟ لقد نجح الغرب على مدى سنوات في منع موجات اللجوء من أفريقيا إلى أوروبا وذلك بالتنسيق والتعاون مع النظام الليبي السابق بقيادة القذافي، الذي كان بمثابة سد منيع في وجه الأفارقة الذين كانوا يهربون إلى أوروبا عبر ليبيا وغيرها. لكن بعد سقوط نظام القذافي، باتت ليبيا نفسها مصدرّاً للاجئين بعد أن ساءت الأوضاع فيها بسبب الحرب الأهلية بين المتصارعين على السلطة في شرق البلاد وغربها.
ويتساءل البعض اليوم: هل الغرب فعلاً قلق من موجات اللجوء القادمة إليه من الشرق الأوسط وغيره، أم إنه مستفيد من بعضها، وخاصة الدول التي تعاني من انخفاض اليد العاملة لديها في أوروبا؟ هل استقبلت بعض الدول الأوربية مئات الألوف من اللاجئين كعمل إنساني، أم لأغراض اقتصادية وسياسية بحتة؟
أليس الحل لقضية اللجوء أسهل بكثير من استقبال بعض اللاجئين، كما يتساءل سميح شقير في أغنيته الجديدة «شكراً للمؤتمرات»؟ أليس من السخف أن يسمح الغرب بهروب ملايين البشر من بلادهم في منطقتنا، وهو يعلم أن الحل لهذه الكارثة يكمن في الأنظمة المحلية التي سلطها علينا خدمة لمصالحه؟ أليست تلك الأنظمة المدعومة من الخارج مسؤولة عن عمليات التهجير وتفريغ مجتمعاتنا من شبابها؟ أليست مجرد أدوات في أيدي مشغليها وداعميها؟ ماذا فعل الغرب ضد الطواغيت الذين قتلوا وهجروا الملايين؟ ألم يُعد تأهيلهم وكأن شيئاً لم يحدث؟
بدل أن تستقبلوا ملايين اللاجئين، لماذا لا تستقبلون الطغاة المسؤولين عن خراب بلداننا وتهجير شعوبنا إذا كنتم صادقين وتريدون فعلاً حل أزمة اللجوء؟
رسالتنا إلى ضباع العالم الذين باتوا يشتكون من خطر اللاجئين على بلادهم بسيطة وواضحة جداً: أيها الضباع أنتم تعلمون علم اليقين أن معظم الأنظمة العربية التي تعيث خراباً ودماراً وفساداً في بلادنا أنتم صنعتموها، وأنتم من سلط علينا حثالة الطغاة والجنرالات خدمة لمصالحكم، وأنتم بالتالي المسؤولون عن الخراب والدمار والفساد والانهيار في بلادنا، وأنتم المسؤولون عن موجات اللاجئين التي تجتاح بلادكم. دعونا نختار حكامنا بأنفسنا. دعونا نقرر مصيرنا بأنفسنا. دعونا نستثمر ثرواتنا وخيراتنا بأنفسنا. دعونا ندير شؤوننا بعيداً عن سياطكم وإملاءاتكم وسرقاتكم، ولن يهرب أحد منا الى دياركم. أنتم من تطلقون كلابكم علينا ثم تشتكون من صراخنا وآلامنا.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

هذا هو القادم مع كل أسف!

د. فيصل القاسم

 

على المدى القريب وحتى المتوسط لا تبدو هناك بارقة أمل للنهوض بالدول العربية الفاشلة التي تتزايد أعدادها عاماً بعد عام. وكي لا نكذب على بعض ونوزع بشائر كاذبة على الناس، يجب أن نعترف أن المستقبل في العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وتونس والسودان والجزائر ومصر وغيرها لا يبشر بخير، فكل المؤشرات لا تبعث على التفاؤل مطلقاً، ليس لأن الشعوب لا تعرف كيف تنهض أو أن بلداننا عاقرة، لا أبداً، بل لأن هناك على ما يبدو قراراً دولياً أو لنقل فرماناً من سادة العالم الكبار بأن يبقى ما يسمى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ينتقل من سيئ إلى أسوأ حتى يكتمل مشروع ما مُعد للمنطقة منذ عقود وعقود.
وهذا طبعاً ليس من باب التفكير بنظرية المؤامرة، بل لأن الوقائع على الأرض تفقأ العيون وتؤكد أن إيصال المنطقة إلى ما وصلت إليه لم يأت عبثاً، أو مجرد نتيجة لسياسات الأنظمة الحاكمة فقط، فكما نعلم جيداً أن معظم الأنظمة في المنطقة لا تملك قرارها الوطني، بل تنفذ ما يُملى عليها من الخارج، لا بل إن في بلد كسوريا التي يتشدق فيها النظام ليل نهار بالسيادة الوطنية يأتي تعيين بعض الوزراء وكبار المسؤولين وحتى الضباط الكبار من خارج البلاد. كيف لا وأن الحاكم نفسه وطبيعة النظام مفروضة من الخارج لأغراض جيوسياسية منذ عقود وعقود ولا علاقة للسوريين بها لا من بعيد ولا من قريب. وهذا ينسحب على العديد من البلدان العربية، حيث تخدم الأنظمة أولاً وأخيراً أجندات خارجية بحكم أن دوائرها الانتخابية ليست داخل بلادنا أصلاً بل خارجها. لهذا لا يوجد لدينا انتخابات حرة كما حصل في جارتنا تركيا، ناهيك عن أن سادة العالم (الديمقراطيين) بين قوسين طبعاً يغضون الطرف ليس فقط عن انتخاباتنا واستفتاءاتنا الكوميدية التي يفوز فيها سيادته بتسعة وتسعين بالمائة من أصوات الشعب المقهور والمنكوب، بل تتجاهل أيضاً الفظائع والجرائم التي يقترفها الجنرالات بحق الشعوب سواء كانت قتلاً وتنكيلاً وتعذيباً وتجويعاً أو تهجيراً، بحيث بات السواد الأعظم من السوريين والسودانيين واللبنانيين والعراقيين والمصريين والجزائريين والتونسيين واليمنيين يركبون البحار بحثاً عن ملجأ ولقمة عيش بسيطة في أي مكان بعيد عن أوطانهم آلاف الأميال، حتى لو ذهبوا طعاماً للأسماك والحيتان في عرض البحار والمحيطات. لذلك لا يحدونا أي أمل بأي تغيير بعدما شاهدنا ما حدث لحركات التغيير التي جاءت تحت يافطة ما يسمى الربيع العربي.
البعض طبعاً يلقي باللائمة على الأنظمة الحاكمة والطغاة الجاثمين على صدور الشعوب وأنهم السبب الرئيسي الذي يمنع النهوض والتغيير في المنطقة. وهذا طبعاً تفكير ساذج. لا شك أننا ابتلينا بأسوأ أنظمة وحكام ولا شك أننا نحتاج إلى مانديلا عربي يضمد الجروح الغائرة وينهض بالبلاد والعباد كما فعلها الزعيم الأفريقي العظيم بعد عقود من الصراع العرقي والمذابح والتفرقة العنصرية والإفقار والتنكيل بشعب جنوب أفريقيا على أيدي نظام عنصري أقلوي.

كيف نتوقع الإصلاح والنهوض من القيادات والأنظمة التي أوصلتنا إلى هنا أصلاً؟ هل يعقل أن الأنظمة التي فشلت في إدارة أوطانها عندما كان الوضع فيها أفضل من اليوم بمائة مرة أن تنهض الآن ببلاد وشعوب منكوبة ومسحوقة

ولا شك أننا نحلم بكاغامي عربي يفعل ما فعله الرئيس الرواندي في بلد تعرض لواحدة من أبشع الحروب الأهلية في التاريخ الحديث، ثم نهض من تحت الركام ليصبح مضرباً للمثل في المصالحة الوطنية والتقدم الإنساني والإداري والمدني في العالم الثالث. لكن هل حلمنا في محله، أم إنها أضغاث أحلام؟ هل يمكن أن يخرج لنا كاغامي عربي في تونس مثلاً على ضوء ما يفعله قيس سعيد وزمرته بالبلاد؟ بالطبع لا. لاحظوا أن ما يسمى بالمجتمع الدولي يغض الطرف تماماً عما يفعله سعيد بتونس وبشار بسوريا. ولا يختلف الوضع بالنسبة لبقية الدول العربية الفاشلة التي تعيث فيها الأنظمة والعصابات الحاكمة خراباً ودماراً على مرأى ومسمع العالم دون أن نسمع عن أي مشروع دولي لمساعدة تلك البلاد المنكوبة. كم هم ساذجون وحالمون الذين يحلمون بمانديلا عربي يعيد توحيد الصفوف ولم الشمل والنهوض بالبلاد من جديد. لكن هذا لا يعني أنه ليس لدينا عقول وشخصيات يمكن أن تفعل ما فعله مانديلا في جنوب أفريقيا وكاغامي في رواندا، لا أبداً، بل هناك آلاف العقول والقيادات العربية الوطنية التي يمكن أن تصحح الأوضاع الكارثية في بلادنا وتضعها على طريق التقدم والنهوض والوحدة الوطنية. لكن هل مسموح لتلك القيادات والعقول أن تظهر وتستلم زمام المبادرة، أم إنها ستواجه ألف عقبة وعقبة داخلية وخارجية تمنع أي مشروع نهضوي في بلادنا؟ لنكن صريحين ليس مسموحاً لنا حتى الآن أن ننهض بدليل أن القيادات المجرمة التي تسببت بالانتفاضات الشعبية قبل أكثر من عقد من الزمن بسبب سياساتها التخريبية يُعاد تأهيلها اليوم بعد أن عاثت خراباً ودماراً وإفساداً وتنكيلاً في بلادنا، وكأن كل ما فعلته بالشعوب والأوطان على مدى عقود أصبح شيئاً من الماضي، وكأن المطلوب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتذكير الشعوب بأن ما حصل لها من كوارث هو عقاب لها على المطالبة بالتغيير والنهوض. لا تقل لي إن الأنظمة العربية هي من أعادت تأهيل النظام السوري بعد كل ما فعله بالسوريين، لا أبداً، فلو لم يكن هناك ضوء أخضر أو على الأقل أصفر من ضباع العالم، لما عاد بشار الأسد ليمشي على السجاد الأحمر في العواصم العربية وغيرها بعد كل ما فعله بسوريا.
كيف نتوقع الإصلاح والنهوض من القيادات والأنظمة التي أوصلتنا إلى هنا أصلاً؟ هل يعقل أن الأنظمة التي فشلت في إدارة أوطانها عندما كان الوضع فيها أفضل من اليوم بمائة مرة أن تنهض الآن ببلاد وشعوب منكوبة ومسحوقة وصار مواطنوها يحسدون الكلاب على عيشتهم، ولم يعودوا يحلمون حتى بمستوى المعيشة في أكثر البلاد الأفريقية بوساً وفاقهاً وفقراً؟
لا نحتاج إلى كثير من التفكير حتى نفهم أن المطلوب اليوم هو إعادة تسليط الأنظمة والطغاة القدامى أو نسخ جديدة منهم على رقاب الشعوب كي يستنسخوا الكوارث والفواجع والأوضاع القديمة ويستمروا بها حتى تنتهي المهمات والمشاريع المناطة بهم من أسيادهم ومشغليهم، فحتى ذلك الحين نشعر بحزن وأسى عميق ونحن نقول للحالمين بالتغيير: إنسوا!

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

أنتم ساقطون لا محالة!

د. فيصل القاسم

 

دعونا نعترف بمرارة أن كل الثورات والانتفاضات الشعبية التي شهدتها المنطقة قبل أكثر من عقد من الزمان قد فشلت فشلاً ذريعاً، إن لم نقل قد تحولت وبالاً على بلدانها وشعوبها، ولا داعي لشرح الأوضاع المأساوية اليوم في سوريا واليمن وليبيا والسودان والجزائر ولبنان والعراق ومصر وتونس وغيرها، لا بل إن الأوضاع في البلدان التي لم تشهد ثورات شعبية ليست أفضل حالاً بكثير، فالواضح أن القادم أعظم على ضوء التحولات والانهيارات الاقتصادية والمعيشية في العالم أجمع، فإذا كانت الشعوب الأوروبية بدأت تعاني وانتشرت في ربوعها مئات بنوك المساعدات الغذائية للجوعى والمحتاجين، فبالتأكيد فإن الوضع لن يكون أفضل بالنسبة للشعوب العربية التي تعاني أصلاً منذ عقود وعقود.
وبالتالي، ليس هناك أي أمل بالحل أو بالانفراج في بلدان الربيع العربي. قد يقول قائل: كيف لك أن تتحدث عن ثورات فشلت؟ تلك لم تكن ثورات أبداً بل «تثويرات» حركتها قوى الشر في العالم من أجل مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، وكانت بلداننا وشعوبنا وقودها وضحاياها. طبعاً الجواب على ذلك بسيط جداً، لا يهمنا إذا كانت ثورات أو تثويرات، فالظروف المأساوية في كل تلك البلدان قبل أن تندلع فيها التحركات الشعبية كانت تحتاج فقط لأية شرارة بسيطة كي تشتعل. وحتى لو أشعلها ضباع العالم وأدواتهم من أجل مصالحهم، فهذا لا ينفى أن أسباب الثورات كانت موجودة بقوة، بل كانت قادمة شاء من شاء وأبى من أبى، لأن الضغط على الشعوب كان قد قارب درجة الانفجار بكل الأحوال. وكي لا نضيع بالجدل في نظرية المؤامرة، دعونا نعود إلى الأوضاع التي نتجت عن الثورات أو التثويرات. هل هي مناسبة اليوم ومفيدة للأنظمة العربية وكفلائها وداعميها ومشغليها في الخارج؟ ألا تقبع الأنظمة والطغاة الذين أعادوا تدويرهم وفرضوهم على الشعوب، ألا يقبعون على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة لأن الأوضاع التي كانت سائدة قبل الثورات وأدت إلى انفجارات رهيبة أصبحت اليوم أسوأ بعشرات المرات، فهل يمكن أن تقبل الشعوب بالعيش في ظروف أسوأ بمرات ومرات من تلك التي ثارت عليها في المقام الأول قبل أكثر من عقد من الزمان؟
بالطبع لا. المنطق البسيط يقول ذلك. صحيح أن الشعوب بعد الذي عانته من ويلات بسبب القمع الوحشي للثورات وعمليات التهجير والتنكيل المنظم قد انكفأت قليلاً في بعض البلدان وباتت تطلب الأساسيات فقط، لكن المشكلة، كما سنرى لاحقاً، أن الأنظمة التي عادت للتسلط والتجبر والطغيان والإرهاب والترهيب ليست قادرة على تأمين أبسط المستلزمات البشرية. انظروا إلى الأوضاع في تونس فقط وسترون، فما بالكم بسوريا ولبنان واليمن والسودان ومصر والجزائر.

إذا كانت أمريكا تترنح اقتصادياً والصين تفرض على البلدان النامية أن تدفع قروضها في أسرع وقت ممكن كمؤشر أولي على علائم الإفلاس كما يقول خبير اقتصادي صيني كبير، فمن سيساعد البلدان العربية المنكوبة، ومن سيدعم جلاديها والأدوات القذرة في بلادنا؟

دعونا نعترف أن النظام الدولي وأدواته (الثورات المضادة) قد نجح في إعادة الشعوب العربية إلى المربع الأول على كل الأصعدة وأعاد تعويم أنظمة الاستبداد التي تجثم على صدورها وتكتم أنفاسها منذ عقود، لكن صدقوني، فهو يخوض معركة خاسرة ومكلفة جداً، فالقادرون على تمويل الثورات المضادة وتدعيم أنظمة القهر والطغيان لا يستطيعون التمويل إلى ما لا نهاية، والعالم يتغير والاقتصادات تنهار في كل مكان، والشعوب تجوع ولم يعد لديها ما تخسره بعد أن دمروا أوطانها وشردوها وقتلوا واعتقلوا منها الملايين. ومن يريد أن يقضي على ثورة شعبية، فيجب أن يكون قادراً على الأقل على تأمين الخبز للشعوب التي أعادوها إلى حظائر الطاعة، لكنهم لم يعودوا قادرين، كما أسلفنا، حتى على تأمين اللقمة. انظروا حولكم في بلدان الربيع العربي التي أجهضوا أحلامها بالتغيير، فستجد أن الأنظمة والطواغيت الذين أعادوا فرضهم علينا يتخبطون ويهتزون ويفشلون في تأمين أي شيء لشعوبهم من سوريا إلى تونس، وأصبحت بلدانهم على وشك الإفلاس والانهيار. انظروا إلى وضع العملات المحلية في سوريا والعراق واليمن ومصر ولبنان وتونس، فهذا أكبر مؤشر على أين تتجه الأوضاع في تلك البلدان.
لقد حصلت مصر مثلاً على أكثر من مائة مليار دولار مساعدات من دول الخليج، لكن أين هو الاقتصاد المصري الآن؟ ما هو وضع الجنيه؟ ما هو وضع التضخم والأسعار الخيالية؟ وما هو وضع الليرة اللبنانية التي صار الدولار يساوي أكثر من مائة ألف منها؟ ما هو وضع الليرة السورية التي لو سعروها بسعرها الحقيقي مقابل الدولار لصار كل خمسة وعشرين ألف ليرة يساوي دولاراً واحداً؟
هل تعلم أن راتب الموظف السوري اليوم لا يتجاوز عشرة دولارات؟ وهذا يعني أنه حتى في أفقر البلدان الأفريقية يحصل الفقير على ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه المواطن السوري من دولارات شهرياً. لقد صارت الشعوب وأنظمتها تحت التحت وصارت خزائن الدول خاوية على عروشها ولم يعد أمامها إلا أن تنبطح أمام صندوق النقد أو البنك الدولي وتمد رقابها للذبح. والأنكى من كل ذلك، كيف يمكن لأنظمة وطواغيت دفعوا الشعوب إلى الثورات في المقام الأول وتسببوا في كل الكوارث التي سبقتها وتلتها أن يصلحوا الأوضاع بعد انهيار البلدان وسحق الشعوب وتهجيرها؟ هل يمكن للمُخرب أن يتحول إلى مُعمر؟ كيف للنظام السوري مثلاً الذي فشل في إدارة سوريا عندما كانت في أحسن حالاتها ودفع شعبها إلى الثورة أن يدير سوريا المدمرة اليوم؟ أليس «الذي يجرب المجرب يكون عقله مخرب»؟
من بربكم يستطيع أن ينتشل الشعوب العربية المسحوقة في سوريا واليمن ومصر وتونس ولبنان والسودان من قاع الفقر والجوع بعد أن قضوا على أحلامها بالتغيير والإصلاح؟ لا تقل لي دول الخليج؟ صحيح أن تلك الدول لا تستطيع أن ترفض الأوامر الأمريكية بالدفع هنا وهناك، لكن المشكلة الآن أن الرقع اتسع على الراقع، ومهما دفعت دول الخليج، فهي لن تستطيع أن تسد الرقع الذي اتسع كثيراً في العديد من البلدان العربية المنهارة، وبالتالي ما الحل؟ لا شك أن الشعوب ربما في لحظة يأس قد تقول لطغاتها ومشغليهم وداعميهم: «أطعمونا على الأقل كي نبقى على قيد الحياة ونصمت» لكن المشكلة أن أمريكا نفسها اليوم لم تعد قادرة على دفع ديونها، وهي قد تلجأ إلى نهب الودائع العربية في بنوكها وسنداتها كي تقف على رجليها، فإذا كانت أمريكا تترنح اقتصادياً والصين تفرض على البلدان النامية أن تدفع قروضها في أسرع وقت ممكن كمؤشر أولي على علائم الإفلاس كما يقول خبير اقتصادي صيني كبير، فمن سيساعد البلدان العربية المنكوبة، ومن سيدعم جلاديها وأدواتها في بلادنا؟ إنهم ساقطون لا محالة إن لم يكن بقوة الشعوب، فبقوة الظروف الاقتصادية القاهرة للجميع.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

أيهما أفضل؟

د. فيصل القاسم

 

تواجه حركة التحديث والتطوير والتحرر الاجتماعي التي بدأت تظهر بقوة في العالم العربي في السنوات الماضية، تواجه معارضة من بعض الجهات التي تعتبرها انقلاباً على العقيدة والقيم والمثل الإسلامية، وصدمة للأنظمة الاجتماعية التقليدية القديمة. هل هي كذلك فعلاً، أم إنها حركة اجتماعية مطلوبة لمواكبة العصر والتطورات الدولية على كل الأصعدة الثقافية والإعلامية والفنية والاقتصادية والاجتماعية؟ لا شك أن البعض قد لا يقبل هذا التوصيف ويعتبر الانفتاح فرماناً سياسياً وليس تحولاً اجتماعياً أو حركة تحرر مجتمعية.
ويرى البعض أن مجتمعاتنا وشعوبنا ليست أكثر من عجينة لينة لم تختر يوماً أسلوب حياتها أو ثقافتها أو حتى نوع عقيدتها، بل هي مجرد مادة يستخدمونها لأغراض سياسية واستراتيجية حسب الحاجة، وبالتالي فهي لا تختار ثقافتها، بل تتلقاها مرغمة، كما حدث من قبل في مرات عديدة. بعبارة أخرى، فإن الشعوب، برأيهم، هي في النهاية نتاج الأنظمة التعليمية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تفرضها الدول لأغراض سياسية واستراتيجية، فعندما كانت المنطقة العربية مثلاً بحاجة إلى إسلام جهادي متشدد شجع الغرب هذا النوع من الإسلام ودعمه في العالمين العربي والإسلامي لأنه وجد فيه سلاحاً قوياً لمواجهة الخطر الشيوعي الملحد في الشرق الأوسط، فكان لا بد من ظهور إسلام متعصب منغلق لغايات تخدم القوى الكبرى وحلفاءها داخل البلدان العربية قبل أن تخدم مصالح الشعب والبلد. وهذا لا شك صحيح، ويعترف به البعض. لكن السؤال هنا: هل الانقلاب الذي يحصل اليوم على المجتمعات المنغلقة وتحريرها اجتماعياً، هل هو قرار سياسي واستراتيجي لخدمة الأنظمة وداعميها في الخارج، ويبقى الشعب بدوره مجرد عجينة كما أسلفنا يصنعون منها الخبز الذي يريدونه في كل مرحلة تاريخية معينة، أم إنها رغبة صادقة في التحرر من الثقافة المجتمعية المنغلقة؟
لا نختلف مطلقاً مع الذين يعتبرون الشعوب بمجملها مجرد قطعان مسلوبة الإرادة يغسلون أدمغتها اليوم لتكون محافظة ومتشددة، وفيما بعد يطلبون منها أن تتحرر من ثقافتها القديمة عندما تصبح تلك الثقافة غير مناسبة أو مفيدة للمخططات الاستراتيجية للقوى الكبرى وأتباعها في العالم العربي أو غيره.

صحيح أن الشعوب وثقافاتها وحتى عقائدها باتت اليوم صنيعة أجهزة الإعلام العملاقة، وهي تنتقل من عصر إلى عصر، لكن عندما يكون الخيار بين العيش في عصر الظلمات تحت سطوة المؤسسات الظلامية وبين الانفتاح على العصر والانخراط فيه، فإن الكفة سترجح بالتأكيد لصالح التحرر

هذا لا يحتاج إلى شرح، فهو ماثل أمامنا بشكل صارخ ولا يمكن أن ينكره أحد. لكن السؤال اليوم على ضوء التحولات المجتمعية التي نراها: أيهما أفضل البقاء تحت نير مجتمع منغلق ومتشدد ثقافياً واجتماعياً، أم التحرر من ذلك النهج الذي هو نفسه لم ينشأ بإرادة ذاتية، بل كان بدوره مجرد أداة أو صنيعة للقوى التي كانت تريد في يوم من الأيام في هذا البلد أو ذاك مجتمعاً منغلقاً يخدم مصالحها الاستراتيجية والسياسية؟ لا ننكر أن المؤسسات المتشددة والمنغلقة التي كانت تحكم هذا المجتمع أو ذاك ليست نتاجاً شعبياً محلياً، بل هي نفسها مفروضة فرضاً لمرحلة معينة، وهي يمكن أن تنسحب من المشهد بسهولة إذا طلبوا منها الانسحاب أو الانزواء جانباً. وهذا يؤكد أن المجتمع والمؤسسات التي تروضه وتفرض عليه ثقافة معينة كليهما مجرد أدوات أو عجينة كما قلنا، لكن مع ذلك، نعود للسؤال المحوري: أليست التحولات الاجتماعية الجديدة في العالم العربي مهما كان الدافع وراءها، أليست أفضل بألف مرة من العيش تحت رحمة مجتمعات متزمتة تعيش خارج العصر والحضارة؟ بالطبع نعم، فأي انفتاح أفضل من الانغلاق وهو بمثابة تحرير مطلوب للشعوب كي تتنفس حرية اجتماعية كي لا نقول سياسية، فكما نرى اليوم، ليس المطلوب التحرر السياسي، بل فقط التحرر الاجتماعي، لكن لا بأس أن ترتخي القبضة الاجتماعية. وكما يقول المثل: الرمد يبقى أفضل من العمى، فعلى الأقل هناك اليوم نهضة ثقافية وفنية وإعلامية وتربوية واقتصادية متصاعدة في بعض الدول العربية، وهي بكل تأكيد أفضل بعشرات المرات من التحجر الاجتماعي الذي خنقها على مدى عقود خدمة لمصالح خارجية لا ناقة لها فيها ولا جمل.
وللأمانة، من الخطأ القول إن بعض التحولات الاجتماعية حدثت بكبسة زر من هذا النظام أو ذاك، فهذا غير صحيح وغير معقول أصلاً، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير غوستاف لوبون في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير» فإن العادات والعقائد تموت بصعوبة وتحتاج أحياناً إلى أجيال كي تندثر. وهذا واضح لدينا، فقد تم تدريب بعض المجتمعات على مدى عقود للخروج من شرنقة الانغلاق والظلام والتشدد عبر امبراطوريات إعلامية لعبت دوراً محورياً في عملية التحرر وتحضير الساحة الاجتماعية كي يحصل الانقلاب المجتمعي المطلوب لاحقاً. بعبارة أخرى، فإن أي نظام أياً كان جبروته وقوته لا يستطيع أن يقود الانقلاب الاجتماعي المطلوب إذا لم يكن المجتمع جاهزاً وناضجاً لعملية التحرر والانتقال.
صحيح أن الشعوب وثقافاتها وحتى عقائدها باتت اليوم صنيعة أجهزة الإعلام العملاقة، وهي تنتقل من عصر إلى عصر حسب رغبة المالكين والموجهين والمتحكمين بوسائل الدعاية والتوجيه والتلاعب بالعقول، لكن عندما يكون الخيار بين العيش في عصر الظلمات تحت سطوة المؤسسات الظلامية العفنة وبين الانفتاح على العصر والانخراط فيه ثقافياً وإعلامياً وفنياً واجتماعياً، فإن الكفة سترجح بالتأكيد لصالح التحرر والانفتاح.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

أعوذ بالله

من الحضن العربي!

د. فيصل القاسم

 

إذا أردت أن تفهم المصطلحات «القومجية» التي يضحكون بها على الشعوب العربية منذ عقود، ولا يخجلون من ترديدها حتى وهم يذبحون بعضهم بعضاً، لا بد أن تعكسها، فتحصل على المعنى الحقيقي لها، فـ»التضامن العربي» مثلاً ليس سوى «تطاحن» أو «تباغض» أو «تخاصم» أو «تصادم» أو «تآمر» عربي في وضح النهار، ولا ننسى كيف تآمر العرب على بعضهم البعض بالأمس البعيد والقريب، وفعلوا الأفاعيل، وتحولوا إلى خناجر مسمومة في ظهور بعضهم البعض، وكيف تحالفوا مع الغريب ضد القريب، ولم يرمش لهم جفن، ثم يحدثونك عن التضامن العربي، مع العلم أنهم لم يتعاونوا في أغلب الأحيان إلا على الإثم والعدوان. أما ما يسمى «الصف العربي» فهو اليوم ذلك الطابور الطويل للحصول على رغيف خبز أو كيلو سميد أو قنينة زيت في بلاد أعادت الشعوب إلى الدرك الأول من الحضارة، وجعلتها تحلم فقط بما يسد رمقها. وحدث ولا حرج عن «الحلم العربي» الوحدوي الذي نادى بتوحيد العرب قبل ربع قرن عبر مجموعة من مطربات ومطربين يمثلون معظم البلدان العربية، فإذ بالعرب اليوم يزدادون تشرذماً وتفرقاً بعد تلك الأنشودة، لا بل إن الأنظمة التي رفعت شعارات الوحدة العربية كسوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان لم تستطع أن تحافظ على وحدتها الوطنية، فتشظت إلى ملل ونحل وطوائف متناحرة، وتحولت إلى حارات وإقطاعيات متصارعة، وتفرقت شعوبها في أصقاع الأرض، وقضى شبابها في غياهب البحار والمحيطات هرباً من الجحيم العربي، تماماً كما توقع نزار قباني قبل عقود وعقود حينما قال: «مواطنون دونما وطن، مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن، مسافرون دون أوراق، وموتى دونما كفن. نحن بغايا العصر، كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن، نحن جواري القصر، يرسلوننا من حجرة لحجرة من قبضة لقبضة من مالك لمالك ومن وثن إلى وثن، نركض كالكلاب كل ليلة من عدن لطنجة، ومن عدن إلى طنجة نبحث عن قبيلة تقبلنا، نبحث عن ستارة تسترنا، وعن سكن وحولنا أولادنا احدودبت ظهورهم وشاخوا وهم يفتشون في المعاجم القديمة، عن جنة نظيرة عن كذبة كبيرة.. كبيرة تدعى الوطن».
لطالما رددنا عبارة «بلاد العرب أوطاني» لكنها كانت مجرد شطر من الشعر الرومانسي، فمعظم البلاد المسماة عربية مغلقة في وجه العرب، وعندما تشردت الشعوب بالملايين، فلم تجد أمامها إلا تركيا وأوروبا. أما لبنان الذي استقبل لاجئين سوريين، فانظروا ماذا يفعل بهم اليوم. هل نلوم إذاً من عكس البيت الشهير وأنشد قائلاً:
«بلاد الرعب أوطاني ـ من القاصي إلى الداني
ومن خوف إلى خطر ـ ومن منفى إلى الثاني
بلاد الحرب أوطاني ـ تدمّر كل بنيان
توفى أمن في وطني ـ وصار الموت مجاني
بلاد الحزن أوطاني ـ بأشكال وألوان

هل ترك الحضن العربي مشروعاً تدميرياً تخريبياً إلا وتبناه أو شارك به في بلاد عربية عدة من البلاد المنكوبة اليوم كسوريا وليبيا واليمن والسودان ولبنان وتونس؟

فمن ألم إلى قهر ـ إلى بؤس وحرمان
بلاد الصبر أوطاني ـ وحال الناس أبكاني
فكم نزحوا وكم لجأوا ـ وتاهوا دون عنوان
بلاد القهر أوطاني ـ وموت دون أكفان
تمادى الحزن في قلبي ـ وغطّى الدمع أجفان
بلاد الرّعب أوطاني ـ من البحرِ لســــودان
ومن دجلة إلى طنجة ـ ومن صعـــدة للبنــان»
وقد ظننا أن تلك المصطلحات (العربجية) القميئة المقززة التي بان عوارها منذ زمن طويل قد اندثرت، أو بات يشعر مستخدموها ببعض الخجل بعد أن صارت مثاراً للسخرية والتهكم، لكن الأنظمة العربية لا تخجل مطلقاً، فها هي اليوم وقد عادت إلينا بمصطلح كوميدي ظننا أنه قد اختفى من التداول، وهو مصطلح «الحضن العربي» والغريب هذه المرة أن الذين يستخدمون هذا المصطلح اليوم كانوا يسخرون من مستخدميه في الماضي، ولا ندري لماذا عادوا إلى تفعيله إعلامياً وهم يتحدثون اليوم عن إعادة تأهيل النظام السوري وإرجاعه إلى الجامعة العربية. ربما أرادوا بتلك المفردات السقيمة التقرب من النظام الذي كان يستخدم هذا المصطلح الكوميدي (عمال على بطال) في صدر جرائده ونشرات أخباره المسموعة والمرئية للضحك على الذقون. فقد بات الشارع العربي يعرف جيداً أن هذا المصطلح لم يأت يوماً بخير للشعوب العربية، وأن ما يسمى «الحضن العربي» كان دائماً وكراً للتآمر على كل القضايا العربية، وفيه حيكت المؤامرات والمكايد القذرة ضد العديد من البلدان والشعوب العربية.
ولا أستبعد أنهم كانوا يستخدمون المصطلح بنية عاطلة كإيحاء قذر، لأن كل من جلس في ذلك الحضن اللعين لم ينل سوى العار والشنار، كي لا نقول كلاماً آخر. كم ضحكنا عندما سمعنا ذلك البرلماني العربي الغاطس حتى أذنيه في «الحضن الإيراني» وهو يدعو إلى إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي، مع أن الأخير أيضاً مستمتع جداً في الحضن الفارسي ولن يرضى بسواه بديلاً، لأنه حماه بينما الحضن العربي كواه، ولا يمكن أن ننسى كيف وقفت دمشق «العروبية» مع إيران ضد الشقيق العراقي في الحرب الإيرانية العراقية.
كيف لا تريدوننا أن نقلق ونشمئز عندما نسمع مصطلح «الحضن العربي» هذه الأيام في اجتماعات الجامعة العربية ونتذكر أن ذلك الحضن المزعوم «احتضن» خطة غزو العراق الأمريكية وباركها، وانظروا أين أصبح العراق بفضل الاحتضان العربي لمشروع الغزو. هل ترك الحضن العربي مشروعاً تدميرياً تخريبياً إلا وتبناه أو شارك به في بلاد عربية عدة من البلاد المنكوبة اليوم كسوريا وليبيا واليمن والسودان ولبنان وتونس؟ قد تقولون لي إنه عبد مأمور، ولا يستطيع أن يرفض الأوامر والإملاءات الأمريكية، وهذا صحيح، لكن سموه أي شيء إلا «حضن» فالحضن عادة رمز الحنان والحنو والعناية والرعاية والأمان، لا رمز التآمر والخيانة والعمالة والبهتان.
أعوذ بالله من الحضن العربي!

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

هل الحل

في سوريا مستحيل؟

 

د. فيصل القاسم

 

لا شك أن النظام يعرف والسوريين يعرفون والعرب يعرفون وحلفاء النظام يعرفون ومعارضي النظام وداعميهم في الخارج يعرفون أن لا حل دائماً في سوريا من دون توافق كامل بين كل الأطراف المتورطة في القضية السورية. وأي كلام عن حلول في غياب ذلك التوافق هو مضيعة للوقت، وفي أحسن الأحول هو ربع حل يزيد الأمور تعقيداً بدل أن يحلها.
ولو نظرنا إلى القضايا الشائكة التي تم حلها بعد جهد جهيد في العقود الماضية لوجدنا أن الحل كان عبارة عن توافق عام بين كل الأطراف المتشابكة والمشتبكة في تلك القضايا، وبالتالي كان الحل يأتي كتسويات وانفراج في العلاقات والنزاعات بين القوى المتصارعة حول تلك القضية أو تلك. وقبل أن نتحدث عن الحل تعالوا نلق نظرة على الصراعات المتشابكة والمعقدة في المسألة السورية، مما يجعلها من أعقد القضايا في المنطقة منذ عقود وعقود.
اليوم على الأرض السورية هناك صراع أمريكي روسي يزداد حدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. صحيح أن الروس دخلوا سوريا بتنسيق وضوء أخضر أمريكي بشهادة أندرو أكسوم مساعد نائب وزير الدفاع الأمريكي، لكن الوضع اليوم اختلف كثيراً بين روسيا والغرب بعد الغزو الروسي لأوكرانيا فيما يخص القضية السورية. صحيح أن واشنطن وموسكو حافظتا على نوع من التهدئة والتنسيق في سوريا، لكن هذا لا ينفي أن التوتر بات اليوم سيد الموقف بين الطرفين على الأرض السورية، وهناك احتكاكات عسكرية متواصلة بين الأمريكيين والروس، مما يزيد الأمور تعقيداً فيما يخص الحل السوري. بعبارة أخرى، فقد ألقى الوضع الأوكراني بظلال قاتمة على الحل في سوريا، لأن الغربيين باتوا اليوم يعتبرون الوجود الروسي في سوريا ضد مصالحهم. وحتى لو وافق الغرب على الوجود الروسي من أجل حماية إسرائيل، إلا أن ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا ليس كما بعده فيما يخص الوضع السوري. إذاً نحن في حاجة ماسة لتوافق غربي روسي في سوريا قبل الحديث عن أي حل، وهذا ليس متوفراً لا اليوم ولا غداً.
ولو انتقلنا الآن إلى الصراع التركي الإيراني في سوريا لوجدنا أنه يزداد حدة، فالأتراك رغم تقاربهم مع الإيرانيين إلا أنهم يخشونهم في سوريا. ولا ننسى أن إيران ترعى العديد من الفصائل الكردية التي تهدد الأمن القومي التركي من سوريا. وجدير بالذكر أن الإيراني والأمريكي أقرب إلى بعض فيما يخص دعم الفصائل الكردية في سوريا، مما يجعل طهران وواشنطن في مركب واحد ضد تركيا.

الأوروبيون والأمريكيون وحتى العرب يرفضون تقديم قرش واحد قبل أن يكون هناك حل سياسي يرضي السوريين جميعاً ويؤمن مصالحهم في سوريا. وهذا بدوره أيضاً يبدو شبه مستحيل اليوم، مما يعني بالضرورة التفكير بتقسيم البلاد أو فدرلتها أو أقلمتها. فهل هذا هو الحل الذي كان يريده السوريون؟

ولإنجاز أي حل في سوريا فلا بد من تسوية الصراع التركي الإيراني الأمريكي حيال المسألة الكردية في سوريا. هل هو متوفر اليوم؟ بالتأكيد لا. وحدث ولا حرج عن الصراع التركي العربي في سوريا، فالعرب لا يخشون النفوذ الإيراني في سوريا، كما يزعمون في إعلامهم، بقدر ما يخشون النفوذ التركي، ويقال إن التقارب العربي مع دمشق في بعض جوانبه هدفه التصدي للنفوذ التركي في سوريا. وهذا الأمر ربما يزداد حدة مع تحسن العلاقات بين دمشق والعرب. وحتى داخل الصف العربي هناك تمايزات فيما يخص النفوذ التركي في سوريا، فقطر مثلاً تتوافق مع تركيا بخصوص الحل السوري، بينما بقية الأطراف العربية تعارض المخططات التركية في سوريا. وكيف ننسى الخلاف بين التركي والسوري، فالنظام لا يمكن أن يدخل في حل حقيقي إذا لم يسوِّ مشاكله مع الأتراك. وقد شاهدنا كيف رفض الرئيس السوري اللقاء بالرئيس التركي قبل الانسحاب من الأراضي السورية في الشمال، فخرج وزير الخارجية التركي ليزيد الطين بلة، فقال: «لن ننسحب من الأراضي السورية قبل تسوية مشكلة قسد وبقية الميليشيات الكردية التي تهدد الأمن القومي التركي من سوريا». أضف إلى ذلك أيضاً أن التوافق التركي السوري ليس مصلحة أمريكية، لأنه سيتصدى للمشروع الكردي المدعوم أمريكياً وإسرائيلياً في سوريا.
صحيح أن العرب اليوم في ظل هزائمهم وفشلهم وتورطهم وغرقهم في أكثر من قضية أصبحوا أقل إصراراً على إخراج الإيراني وميليشياته الطائفية من سوريا، لكن هذا لا يعني أنهم نسوا الأمر تماماً وأصبحوا موافقين على الاحتلال الإيراني لسوريا. لا أبداً، فهم على المدى البعيد يفضلون تحرير سوريا من النفوذ الإيراني المتصاعد، وقد لا يقبلون بأي حل دائم في سوريا من دون ضمانات بتخفيف الوجود الإيراني على أراضيها.
ولا ننسى الصراع الإسرائيلي الإيراني على الأرض السورية، فكل الغارات الإسرائيلية المتواصلة منذ سنوات تستهدف مواقع إيرانية في سوريا. وفي بعض الفترات لم يمر أسبوع إلا وشاهدنا قصفاً إسرائيلياً للأراضي السورية يستهدف ميليشيات إيران ومواقعها على الأرض السورية، بما فيها المطارات المدنية. ولا يمكن لأي حل للقضية السورية أن يمر من دون تسوية الصراع الإسرائيلي الإيراني في سوريا، بينما على أرض الواقع تزداد الأمور سوءاً بين الإسرائيليين والإيرانيين بسبب المشروع النووي الإيراني. أضف إلى ذلك الصراع بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المدعومة إيرانياً، فهو بدوره يلقي بظلاله أيضاً على الحل السوري.
وبعيداً عن كل تلك الصراعات المتشابكة والمعقدة على الأرض السورية، ماذا عن الصراع الأخطر بين النظام والشعب السوري؟ ما مدى إمكانية تفكيكه وتسويته؟ قد يقول البعض إن تسوية الخلافات بين الأطراف المتصارعة على الأرض السورية سيؤدي بالضرورة إلى تسوية بين النظام وقوى المعارضة السورية على اعتبار أن السوريين نظاماً ومعارضة ليسوا سوى أدوات أصلاً في أيدي أطراف خارجية تفرض عليها ما تشاء، وعندما تتفق تلك الأطراف الخارجية الداعمة للنظام والمعارضة، فسيأتي الحل بين الطرفين بشكل أوتوماتيكي. وهذا صحيح من الناحية النظرية، لكن هل يمكن لنصف الشعب السوري المشرد بين الشمال السوري وتركيا والأردن ولبنان وأوروبا أن يقبل بالعودة إلى حضن النظام بشكله الحالي؟ بالتأكيد لا، مستحيل إلا إذا نجحت الأطراف الدولية والعربية والإقليمية بفرض حل يؤدي إلى تغيير شامل في تركيبة النظام وعقليته، وهذا للأسف يبدو مستحيلاً اليوم، مما يجعل إعادة إعمار البلاد شبه مستحيلة، لأن الأوروبيين والأمريكيين وحتى العرب يرفضون تقديم قرش واحد قبل أن يكون هناك حل سياسي يرضي السوريين جميعاً ويؤمن مصالحهم في سوريا. وهذا بدوره أيضاً يبدو شبه مستحيل اليوم، مما يعني بالضرورة التفكير بتقسيم البلاد أو فدرلتها أو أقلمتها. فهل هذا هو الحل الذي كان يريده السوريون؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

نحن جيل المخدوعين…

يا الله كم خدعونا!

د. فيصل القاسم

 

تعالوا نعترف دون وجل أو خجل أن جيلنا تعرض لوابل من الخدع منذ نعومة أظفارنا، وللأسف ظلت الخدع تلاحقنا حتى فهمنا متأخرين جداً أننا مخدوعون لكن بعد فوات الأوان وبعد أن وقع الفأس بالرأس كما يقول المثل الشعبي.
وكي لا نبدو وأننا نتحدث بالعموم، فلنبدأ من العقد الثاني من القرن العشرين وهو بداية ظهور ما يسمى بالعالم العربي، فكما تعلمون لم تكن هناك كيانات عربية قبل ذلك التاريخ، فكل ما يُعرف بالمنطقة العربية كان واقعاً تحت سيطرة الآخرين، سواء كانوا غربيين أو عثمانيين أو غيرهم، ولم تبدأ المشاعر القومية بالظهور إلا بعد عام 1916 إبان ما سُمي وقتها بالثورة العربية الكبرى، وهي بالطبع توصيف مضلل جداً، لأنها لم تكن ثورة أبداً، بل كانت مجرد لعبة استعمارية لإخراج ما يسمى بالعرب من تحت هيمنة العثماني ووضعهم تحت هيمنة البريطاني أو الفرنسي وسواه من المستعمرين، فبدل أن يحصل المخدوعون على دولة عربية، قسمهم سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي إلى كيانات ودويلات بالورقة والقلم، لا بل في الوقت نفسه زرعوا لهم بين ظهرانيهم كياناً غريباً، وهو إسرائيل في فلسطين بموجب وعد بلفور.
وبما أن الأنظمة الصاعدة وقتها التي بدأت تتخذ أشكالاً قومية كانت تحتاج إلى شعارات وحجج وذرائع لبسط هيمنتها وتنفيذ مشاريعها المناطة بها من المستعمرين، فوجدت في الشماعة الفلسطينية أفضل مادة للمتاجرة بها لاحقاً. ولا ننسى هنا أن حتى التوجهات القومية التي بدأت تبرز في العالم العربي بعد خروج العرب من تحت الهيمنة العثمانية لم تكن توجهات وطنية بقدر ما كانت موجهة من المستعمر الغربي الذي استخدم المشاعر القومية العربية وغذّاها وقتها لتحريض العرب على العثمانيين قبيل الحرب العالمية الأولى. وأكبر دليل على أن التوجهات القومية لم تكن وطنية أن تلك الأنظمة التي رفعت الشعارات القومية تحولت فيما بعد إلى أكبر مصيبة حلت بالعرب بعد الاستعمار، ولو نظرتم إلى حال الدول العربية التي تاجرت بالقومية كالعراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن والجزائر والسودان وغيره اليوم لعرفتم ماذا فعلت تلك الأنظمة ببلدانها وشعوبها. ونحن نرى اليوم أن كل الأنظمة القومجية التي كانت تسمي نفسها «تقدمية» دمرت نفسها وبلدانها وشعوبها، بينما التي كانت يسميها القومجيون بالأنظمة «الرجعية» على الأقل حافظت على كياناتها وشعوبها وأوطانها وتقدمت أكثر من الأنظمة التقدمية المزعومة بمراحل، حتى ولو بمباركة الصانع الغربي.

ظنت الشعوب المسحوقة منذ عقود أنها تستطيع أن تغير أوضاعها، وكان هناك ألف سبب وسبب لأن تثور، لكنها اكتشفت متأخرة أن الذين صفقوا لانتفاضاتها في البداية لم يريدوا لها مطلقاً أن تتحرر

لا شك أن البعض هنا سيقول لنا إنها مؤامرة غربية استهدفت الأنظمة القومية التقدمية ودعمت الأنظمة الرجعية العربية النفطية، وهذه كذبة من العيار الثقيل لم تعد تنطلي حتى على تلاميذ المدارس، فما فعله الحكام القومجيون ببلدانهم وشعوبهم لا يستطيع أن يفعله أسوأ مستعمر عبر التاريخ. انظروا إلى النظام القومجي السوري الذي رفع شعار الوحدة والحرية والاشتراكية واحكموا بأنفسكم.
منذ أكثر من سبعين عاماً والنظام السوري وأمثاله يرفعون شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ويتخذون من الشماعة الفلسطينية وسيلة لسحق أي صوت معارض. منذ ثلاثة أرباع القرن والقومجيون يتعللون بما يسمونه «العدو الصهيوني» ويتخذون منه ذريعة للبقاء في السلطة وفرض سطوتهم على شعوبهم. يا الله كم خدعونا بكذبة مواجهة العدو الصهيوني، فاكتشفنا متأخرين أن سبب بقائهم جاثمين على صدور شعوبهم هو العدو الصهيوني ولا شيء غيره، وقد انكشفت أكبر كذبة في القرن العشرين عندما ثار الشعب السوري على النظام الفاشي، فخرج رامي مخلوف فوراً ليحذر كفيله الإسرائيلي قائلاً: «لا تنس أن أمنكم من أمننا». فوراً لم يعد هناك عدو صهيوني مطلقاً، بل صار يتحدث رامي الناطق الرسمي باسم العائلة الحاكمة وقتها عن المصير المشترك للصهيوني والنظام الطائفي في سوريا. ولم ننس ما قالته روسيا وقتها حرفياً «إن الوجود الإيراني والميليشيات الإيرانية في سوريا ولبنان هو أكبر ضمان لأمن إسرائيل». فجأة لم يعد أحد يتحدث عن مقاومة. فجأة اختفت شعارات إيران التي تتحدى الشيطان الأكبر والإمبريالية والصهيونية، وصار الصفيوني والصهيوني في خندق واحد على الأرض السورية. لا بل إن صحيفة الوطن السورية خرجت علينا بعنوان صارخ يقول: «الجيش العربي السوري وإيران وأمريكا في خندق واحد». والمانشيت موجود على الإنترنت.
وإذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص، فلا بد لتوابع الأنظمة القومجية وذيولها كحركات المقاومة المزعومة أن ترقص على أنغام ضارب الدف. يا الله كم كنا مغفلين عندما صفقنا لحزب الله وأمثاله ظناً منا أنهم حركات مقاومة حقيقية، فاكتشفنا متأخرين بأنهم مثلهم مثل بقية رافعي الشعارات مجرد حراس للعدو الصهيوني. ظنناها حركات مقاومة، فإذ بها حركات رخيصة فعلت بالسوريين والعراقيين واليمنيين أكثر مما فعله العدو الصهيوني بعشرات المرات. وقد قالها نصرالله بعظمة لسانه إنه يفتخر بتصديه للسعودية أكثر بعشرات المرات من تصديه لإسرائيل.
وقد جاءت الثورات الشعبية لتميط اللثام عما تبقى من خرافات وغشاوات تغطي أعين ملايين العرب من المحيط إلى الخليج. ظنت الشعوب المسحوقة منذ عقود أنها تستطيع أن تغير أوضاعها، وكان هناك ألف سبب وسبب لأن تثور، لكنها اكتشفت متأخرة أن الذين صفقوا لانتفاضاتها في البداية لم يريدوا لها مطلقاً أن تتحرر من ربقة الظلم والطغيان، بل استغلوا الوضع لتدمير بلادها وتهجيرها وتحقيق مشاريعهم المرسومة للمنطقة منذ عقود وعقود. كما خدعوا العرب فيما سُمي الثورة العربية الكبرى، عادوا وخدعوهم فيما سُمي الربيع العربي، وبشكل أفظع وأقسى بعشرات المرات. ثار العرب على وكلاء المستعمر في بلادنا الذين ظنناهم أنظمة قومية ووطنية، فتدخل المستعمر لإنقاذ أتباعه وليحول ثورات الشعوب إلى وبال عليها، وكأنه يقول لنا: نحن نغير حكامكم وأنظمتكم كما يحلو لنا، وليس أنتم.
نحن جيل المخدوعين، فهل تتعلم الأجيال القادمة من أخطائنا.

 كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

دريد الأسد: وانتصر

العلويون على الشعب السوري!

د. فيصل القاسم

 

مع تدني وانخفاض وشبه انعدام لشعبية بشار (الأسد) إلى الحضيض، ليس في إدلب وحمص ودرعا ودمشق، بل في قلب القرداحة والساحل السوري حيث تعيش الطائفة العلوية، وبعدما قتل خيرة شبابها، ونهب أبناء الطائفة حتى آخر قرش بالتعاون مع شريكته (زوجته) التي لا تشبع من الثروة والمال بشهادة صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، والتي بلغ بها الأمر هي وزوجها حد سرقة والسطو على المساعدات الأممية لمنكوبي الزلزال، وبعدما جوّع أراملهم واستغلهن فيما يعرف بـفضيحة «صبايا العطاء» ما زالت العائلة الحاكمة في سوريا المعروفة، حالياً، بآل الأسد، وهم بشهادة أهل القرداحة، أحفاد سليمان الوحش الرجل الإيراني الغامض الذي قدم من إيران منذ أكثر من 150 عاماً واندس في صفوف الطائفة العلوية وتم إيواؤه، كمعوز وفقير ومشرد، من قبل وجهائها، وقتذاك، في «بيت الحسنة» الذي أصبح لاحقاً حارة «العيلة» (المقصود بها العائلة الغريبة الوافدة مجهولة النسب والأصول) وادّعوا الانتماء للطائفة بعدها، ما زال هؤلاء مصرين على توريط الطائفة في حروبهم و«مخططهم» ودورهم القذر والمشبوه المرسوم لهم في تدمير سوريا وتفتيتها وتشريد شعبها كما بات واضحاً للعيان، وزج الطائفة وخيرة أبنائها وشبابها في معارك آل الأسد خدمة الأجندات المعروفة في المنطقة ولصالح الرعاة الكبار في العالم.
فقد عاود الكرّة، وفاجأ دريد ابن رفعت (الأسد) الهارب من السجون الفرنسية، فاجأ السوريين بالأمس بمنشور طائفي بغيض على صفحته بفيسبوك قال فيه حرفياً: «بدمتي من هلق و طالع كل كلمة حتى لو ما فيها حرف ( قاف ) بدي حطلا قاف، قمرحبا». وللعرب الذين لا يعرفون المقصود بهذا المنشور وخلفياته السورية الطائفية أن النظام في سوريا يحكم البلاد منذ حوالي نصف قرن بنـَفـَس وتوّجه طائفي يعرفه كل السوريين دون استثناء، مع العلم والاعتراف بأن أخوتنا المساكين العلويين هم أكبر ضحايا هذا النظام الفاشي الذي يستغلهم ويستخدمهم كوقود في حربه على السوريين وخسروا على مدى اثني عشر عاماً مئات الألوف من شبابهم على مذبح آل الأسد، ولن نتكلم عن عشرات الآلاف من معتقلي الرأي والسجناء السياسيين والنشطاء والمفكرين وشيوخ الدين والكتـّاب والإعلاميين السوريين الذين سجنهم وصفاهم واعتقلهم وطاردهم الشبيحة وقضوا عليهم نهائياً والقائمة تطول وتطول ولا حاجة للتذكير بأسماء كبيرة مثل صلاح جديد وإبراهيم ماخوس ومحمد عمران وعبد العزيز الخيـّر ابن القرداحة نفسها التي آوى أجداده الكرام الرجل الغامض «المندس» سليمان الوحش نفسه وعطفوا عليه واحتضنوه وأطعموه من جوع وأمنوه من خوف، فهل يحق لهؤلاء بعد هذا التاريخ الأسود الغادر المشين التكلم باسم العلويين وادعاء النسب لهم؟

هل تحتاج سوريا لمثل هذه العنتريات الطائفية بعد كل ما حصل لها وللأخوة العلويين أنفسهم؟ هل هذه لهجة مصالحة ولم الشمل وإعادة الإعمار، أم تشفٍ ونكء لجروح ملايين السوريين الذين قتلتهم وشردتهم آلة النظام الطائفية

لكن قبل أن نفضح سياسة هذا النظام واستخدامه للنهج الطائفي منذ عقود وعقود واستغلاله للساحل السوري وأبنائه في مواجهة الشعب السوري، دعونا أولاً ألا نبتعد كثيراً عن مدلولات منشور دريد الأسد وتوقيته.
لا حظوا أن الكاتب، وفي نهج التدمير والتشويه الممنهج للطائفة ككل، يهدّد السوريين اليوم بأن حرف «القاف» «سيلعلع» ثانية في أرجاء سوريا بعد أن ظن البعض أن شوكة الحكم الطائفي قد انكسرت أو تلاشت، وبعد أن بدأ النظام يعود إلى الحظيرة العربية تدريجياً إيذاناً بانتصاره على السوريين أولاً والعرب ثانياً. وحرف القاف لمن لا يعلم من الأخوة العرب هو أكثر ما يميز اللهجة العلوية في سوريا، فهم يستخدمونه بقوة في حديثهم، بحيث أصبح أداة ترويع وإرهاب لبقية السوريين، طبعاً بأوامر رئاسية ومخابراتية مفروضة، وكلنا يعلم أنه بمجرد أن يتحدث شخص في سوريا بلهجة علوية يبرز فيها حرف القاف، فإن كل الحاضرين ينتابهم شعور بالرعب والخوف، ويصمتون صمت القبور لأن حرف القاف صار في أذهان السوريين رمزاً للإرعاب والتسلط والهيمنة. يكفي مثلاً أن يصرخ شاب بأي مجموعة سورية مستخدماً حرف القاف في أي مناسبة، حتى يخرس الجميع، لأن كل من ينطق بهذا الحرف بهذا الشكل هو إما مسؤول كبير في المخابرات أو مُخبر، أو ضابط كبير في الجيش، أو مقرب من القصر الجمهوري أو الحرس الجمهوري، وحتى إذا لم يكن مسؤولاً كبيراً في المجالات المذكورة، وكان مجرد شخص عادي بسيط، فيكفي أنه من الناطقين بحرف القاف، فيجزع الجميع منه وينصاعون لأوامره فوراً، ويكفي أن يرفع جندي بسيط صوته مستخدماً حرف القاف على حاجز عسكري من الحواجز الأمنية والعسكرية التي تملأ سوريا هذه الأيام وتنكـّل بالسوريين شر تنكيل وتبتزهم وترهبهم وتدوس عليهم، حتى يرتعب الجميع أمامه ويقدّموا له كل فروض الطاعة، ناهيك عن تفريغ جيوبهم مما فيها من أموال إرضاء لهذا الجندي الفاشي الذي يستخدم لهجته الطائفية بأوامر من الرأس الطائفي الحاكم للتسلط والإرهاب اليومي.
الآن هل عرفتم لماذا يهدد دريد الأسد السوريين اليوم بأنه سيبالغ من الآن فصاعداً باستخدام حرف القاف في كلامه، لا بل سيضيف ذلك الحرف لأي كلمة، في تهديد مبطن للسوريين بأننا نحن أصحاب حرف القاف انتصرنا عليكم وأننا سندوسكم من اليوم فصاعداً. هل تحتاج سوريا لمثل هذه العنتريات الطائفية بعد كل ما حصل لها وللأخوة العلويين أنفسهم؟ هل هذه لهجة مصالحة ولم الشمل وإعادة الإعمار، أم تشفٍ ونكء لجروح ملايين السوريين الذين قتلتهم وشردتهم آلة النظام الطائفية. ثم ألا يسيء (دريد الأسد) لمئات الألوف من الأخوة العلويين السجناء السابقين واللاحقين بسجون آل الأسد وكل المعارضين والشرفاء والأحرار المغضوب عليهم من النظام وممن سجنهم ونكّل بهم حافظ الأسد ومن بعده خليفته ويشمت، عملياً، بكل أولئك الذين ورطهم النظام في حربه ضد السوريين والذين ذهبوا وقوداً لحقده المجنون، ثم تركهم اليوم ينزفون فقراً وقهراً وجوعاً ونزوحاً من أراضيهم. هل يعلم دريد أن في أربيل وحدها اليوم ألوف العلويين من كل الاختصاصات، كلهم هربوا من جحيم الأسد في الساحل السوري بعد أن باتت فيه الكلمة الأولى والأخيرة لكبار الشبيحة الطائفيين الذين يعيثون تشبيحاً وقتلاً وتنكيلاً بالأخوة العلويين أنفسهم؟ هل يعلم دريد أن المتحدثين بحرف القاف اليوم لم يعودوا قادرين على شراء حتى الملح؟ هل يعلم أنهم صاروا يحلمون برأس بصل ولا يستطيعون الحصول عليه لأن الكيلو الواحد منه يكلفهم ربع راتبهم؟ ماذا قدمتم لأهل القاف غير ساعة حائط بدون بطارية لعوائل مئات الألوف من شهداء حرف القاف الذي تهددنا به من جديد؟
فلتعلم يا دريد أن غالبية أهل الساحل الكرام المغلوبين على أمرهم اليوم، بريئون منك ومن عصابتكم، ولا يرحبون بمنشوراتك الطائفية التي تتفاخر فيها بحرف القاف، لأنك لا تمثلهم ولأنهم دفعوا أثماناً باهظة بسبب هذا الحرف، وسيدفعون أكثر لاحقاً. وهم يعرفون أن عائلتكم ليست أصلاً من أصول أهل القاف الكرام، ولا تمت إليهم بصلة، بل هي عائلة خزرية دخيلة على الساحل، وهي لا علوية ولا عربية ولا حتى مسلمة، بل تستغل طائفة كريمة فقيرة وتذبح السوريين باسمها. وهذا الكلام تسمعه اليوم على نطاق واسع داخل الساحل السوري. فهل يحق لك التكلم باسمهم بعدما تمت إبادتهم وتجويعهم وقهرهم على يد عائلتك «المندسة»؟
وأخيراً يا دريد، لا شك أنك تعلم أكثر من الآخرين أن سيدة الياسمين البطلة أسماء الأسد، قد لعبت بكم وبجنرالاتكم وجرّدتكم من كل صلاحياتكم وهيلمانكم الطائفي، وصرتم أمامها كـ»التوتو» تطلبون ودّها ورضاها وغفرانها، وجعلتكم أضحوكة ومسخرة لكل سوري، وباتت الآمر الناهي في الجيش، فهي من تعزل وتمنح الرتب العسكرية لقادة الجيش والفرق ومدراء الإدارات الأمنية وبإيعازات خارجية، وكذلك بالنسبة للأمن والمال والاقتصاد؟ هل تستطيع أن تقول لي أين رامي مخلوف اليوم؟ أين آل شاليش، ويا حبذا لو تذكر لنا لماذا لم يذكر ذو الهمة اسم بشار في ورقة نعوته بعدما مسحت أسماء الأسد الأرض بكم وبه؟ وأين هي بقية الرموز القرداحية الشهيرة؟ هل تستطيع أن تنكر أنكم صرتم اليوم كبقية السوريين مجرد خدم وحشم ووقود رخيص عند السيدة الأولى!
شكر خاص للضباط السوريين من الساحل الذين شاركوا بكتابة هذا المقال.

كاتب واعلامي سوري

falkasim@gmail.com

هل يمكن أن

يسقط الهلال الشيعي؟

 

د. فيصل القاسم

هذا المصطلح (الهلال الشيعي) أطلقه عام ألفين وأربعة العاهل الأردني عبد الله الثاني كتحذير للعرب من الغزو الإيراني للمنطقة العربية عبر العراق وسوريا ولبنان واليمن، وقد نجح هذا الغزو حتى وقت قريب في احتلال أربع عواصم عربية بشهادة المسؤولين الإيرانيين أنفسهم. لكن على ما يبدو أن الهلال يعيش أزمة وجودية، لا بل كان كارثياً على إيران نفسها وعلى كل البلدان التي انضوت تحت ذلك الهلال، فقد أصبحت الدول التي تسيطر عليها إيران في المنطقة مثالاً للدول الفاشلة والمارقة والمنهارة والجائعة، فبيروت التي كانت مضرباً للمثل في أناقتها وجمالها وحضارتها تحولت تحت حكم حزب الله (الإيراني) إلى أكبر مزبلة في الشرق الأوسط، لا بل انهار نظامها المالي وصارت عملتها برخص التراب وبات السيد حسن يناشد دول الخليج كي تتبرع للبنان بقليل من الدولارات التي تنفقها على لاعبي كرة القدم بعد أن توقف تدفق ما كان يسميه بـ«المال النظيف» إلى الضاحية الجنوبية في بيروت. وقد تحول لبنان كله إلى رمز للفساد بكل أشكاله، وصار غالبية اللبنانيين غير قادرين على تأمين رغيف الخبز في ظل السطوة الإيرانية على البلاد.
وحدث ولا حرج عن سوريا التي غزتها إيران بضوء أخضر أمريكي إسرائيلي وبمناشدة من النظام الذي كان آيلاً للسقوط، فاشترى بقاءه بتسليم البلد للميليشيات الإيرانية كي تحمي عرشه الذليل. لكن كما ترك النظام الإيراني محميته اللبنانية بلا أدنى مقومات العيش، ها هو وقد تخلى عن مستعمرته السورية التي لن تجد لها مثيلاً في العالم على مدى التاريخ الحديث في البؤس والانهيار والدمار في كل مناحي الحياة.
أما اليمن فلا يقل سوءاً عن سوريا ولبنان في ظل حكم الميليشيات المدعومة إيرانياً، فالفقر يضرب أطنابه في عموم البلاد، بينما يموت الأطفال من الجوع، وصار المرتزقة اليمنيون بشهادة مجلة نيوزويك الأمريكية أرخص مرتزقة في العالم.

بينما كانت تعيش مستعمرات إيران في لبنان وسوريا والعراق في جحيم لا يطاق، انطلقت انتفاضات شعبية عارمة من أقصى إيران إلى أقصاها مطالبة بالحرية وأبسط أساسيات العيش، بعد انهيار العملة ووصول معدلات الفقر إلى مستويات قياسية

وعلى الرغم من أن المستعمرة الإيرانية في العراق كان يجب أن تكون أفضل حالاً بسبب مليارات النفط باعتبار العراق ثاني أقوى منتج للبترول في العالم، إلا أن الوضع العراقي أصبح بدوره مضرباً للمثل في الانحطاط والسقوط والفساد، فبالرغم من وجود ميزانية هائلة تزيد على مائة وخمسين مليار دولار سنوياً، إلا أن العراقيين لا يجدون الكهرباء ولا الماء النظيف في ظل الغزو الإيراني، وبدل أن تذهب مليارات النفط لترفيه الشعب العراقي، كانت إيران وعملاؤها في العراق يوزعونها على الميليشيات الإيرانية الأخرى في لبنان واليمن وسوريا بالإضافة إلى دعم الاقتصاد الإيراني الذي بدوره صار رمزاً لكل ما هو ساقط وبائس ومنهار. لكن حتى ذلك قد توقف بعد أن دخلت أمريكا على الخط ووضعت حداً لتبذير المليارات العراقية على أدوات إيران في المنطقة بوضع قيود على التحويلات العراقية، فانهارت العملة العراقية واللبنانية والسورية والإيرانية. وصار الطومان الإيراني ينافس الليرة اللبنانية في السقوط الحر.
وبينما كانت تعيش مستعمرات إيران في لبنان وسوريا والعراق في جحيم لا يطاق، انطلقت انتفاضات شعبية عارمة من أقصى إيران إلى أقصاها مطالبة بالحرية وأبسط أساسيات العيش، بعد انهيار العملة ووصول معدلات الفقر إلى مستويات قياسية، خاصة وأن أكثر من ثمانين بالمائة من الشعب الإيراني يعيش أصلاً تحت خط الفقر، فما بالك بعد أن انهارت العملة والاقتصاد بشكل مرعب، وبات ملايين الإيرانيين يرفعون أصواتهم في وجه الملالي طالبين منهم أن يتوقفوا عن تصدير الثورة واحتلال العواصم العربية وتوجيه الأنظار إلى الداخل الإيراني الغارق في التعاسة، وقد ازداد وضعه سوءاً بعد انهيار العملة الإيرانية بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ الإيراني الحديث. ويرى البعض أن الانتفاضة الإيرانية المستمرة حتى الآن بعيداً عن أعين الإعلام الدولي لعبت دوراً أساسياً في الضغط على نظام الملالي كي يبدأ بالتقارب مع جيرانه العرب على مضض لتخفيف وطأة الوضع المعيشي الكارثي في البلاد.
والسؤال اليوم: ما مصير الهلال الشيعي في ظل هذا الانهيار الرهيب داخل إيران ومستعمراتها العربية في دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء؟ يقول مستشار روسي قريب من الدوائر الإيرانية إن إيران بدأت تفكر جدياً في التخلي عن طموحاتها التوسعية والالتفات إلى الداخل رافعة شعار: «إيران أولاً». لكن آخرين يعتبرون هذا الكلام ضرباً من الأوهام، وأن المصالحات التي تنشدها طهران مع محيطها العربي مجرد استراحة محارب، فالمشروع التوسعي الإيراني ليس مشروعاً تكتيكياً، بل مشروع استراتيجي، خاصة وأن وقوده الحقيقي ليس الإيرانيين، بل السوريون واللبنانيون والعراقيون واليمنيون والعصابات الأفغانية والباكستانية الطائفية التي تجندها إيران خدمة لمخططاتها في المنطقة، إذا لا مانع لدى طهران أن تقاتل في اليمن وسوريا ولبنان والعراق حتى آخر سوري ولبناني ويمني وعراقي لتنفيذ مشروعها القومي، طالما أن الضحايا عرب وليسوا إيرانيين.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

صدق أو لا تصدق: هكذا ينظر

الروس إلى القضايا العربية

 

د. فيصل القاسم

 

هل تعرفون كيف يفكر الروس؟ ما هي مواقفهم الحقيقية من القضايا العربية والدولية التي قلما تجد طريقها بوضوح إلى وسائل الإعلام؟
قبل أيام قليلة سُعدت بلقاء مستشار روسي مخضرم يجمع بين النظرتين العربية والروسية حيال العديد من القضايا التي تشغل بال الشارع العربي هذه الأيام، وهي كثيرة ومتنوعة. ولا شك أن معظم العرب المتابعين للشأن العربي والدولي باتوا مهتمين إلى حد كبير بالموقف الروسي من الوضع العربي والدولي، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وتحريك الساحة الدولية سياسياً وعسكرياً من أقصاها إلى أقصاها. ولا شك عندي أبداً أنكم ستتفاجأون كثيراً بالنظرة الروسية إلى قضايا العالم عامة والعربية خاصة. سأبدأ أولاً بالعلاقة بين أمريكا والعرب. كيف يراها الروس؟
وهنا سنجد أن النظرة الروسية تختلف اختلافاً جذرياً عن نظرتنا نحن العرب في الوسطين السياسي والإعلامي لطبيعة العلاقة بين أمريكا والعرب. نحن نعتقد مثلاً أن أصغر مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية يستطيع أن يملي أي شيء على أي نظام عربي عبر الهاتف، وأن القادة العرب يرتعبون لمجرد تلقي اتصال من مسؤول أمريكي من الدرجة الخامسة، ولا يمكن أن يُقدموا على أي خطوة إذا لم يحصلوا قبلها على ضوء أخضر أمريكي. لكن صاحبنا الروسي يرى أن هذه النظرة خاطئة تماماً، وأن العرب خرجوا منذ زمن طويل من تحت العباءة الأمريكية، وخاصة في الخليج، وأن أمريكا باتت فعلاً غير قادرة على فرض أي قرارات على العرب، وهي تشعر اليوم بغضب شديد من بعض السياسات العربية، كالسياسة السعودية والإماراتية. ويرى المستشار الروسي أن الأنظمة العربية اليوم هي تقرر بنفسها رغماً عن أنف أمريكا، وأن التقارب السعودي الإيراني والتقارب العربي مع النظام السوري جاءا برغبة عربية خالصة بعيدة كل البعد عن أي تأثير أمريكي، وهو أمر يزعج الأمريكيين والإسرائيليين على حد سواء.
ومن الملفت أيضاً أن الروس المناصرين للقضية الفلسطينية لا يرون أي مشكلة في التطبيع العربي مع إسرائيل، لأن الدول التي طبعت علاقاتها مؤخراً كالإمارات، تعمل جاهدة من خلال التطبيع مع تل أبيب على دعم القضية الفلسطينية بقوة، لا بل يعتقدون أيضاً أن إيران وميليشياتها في لبنان وسوريا تقاوم إسرائيل من أجل القدس وفلسطين.

النظرة الروسية تختلف اختلافاً جذرياً عن نظرتنا نحن العرب في الوسطين السياسي والإعلامي لطبيعة العلاقة بين أمريكا والعرب

ومن الغريب أيضاً أن الروس لا يعتقدون أن إيران تحتل العراق أو سوريا مثلاً، بل إن القادة العراقيين هم من يحكمون العراق فعلياً وأن التأثير الإيراني ليس بالصورة التي يصورها البعض مطلقاً. وحتى في سوريا لا يتمتع الإيرانيون بعشرة بالمائة من التأثير والنفوذ الذي تروج له بعض وسائل الإعلام العربية، فحسب صاحبنا الروسي، فإن الحاكم الأول والأخير لسوريا اليوم هو النظام السوري حصراً، وأن الطائفة العلوية مازالت تحكم قبضتها بقوة على كل شؤون البلاد رغم الوجود الروسي والإيراني في سوريا. ويضيف بأنه مهما عانى العلويون في سوريا من الفقر والجوع والقهر، فإنهم لا يمكن أن ينقلبوا على القيادة الطائفية في سوريا، وهم مستعدون أن يأكلوا الحجارة ولا يمكن أن يثوروا على النظام رغم كل الظلم والتجويع والتنكيل الذي ألحقه بهم على مدى العقد الماضي، لأنهم أصبحوا مرتبطين عضوياً بالنظام بكل ما فعله وما فعلوه.
وبخصوص التدخل الروسي في سوريا، فهو لم ينقذ النظام بقدر ما أنقذ سوريا كلها، وخاصة العاصمة دمشق التي كانت ستتحول إلى ركام خلال أسابيع، وأن أكثر من مليون سوري سيلاقون حتفهم في العاصمة وحدها لولا التدخل الروسي الذي جاء بمبادرة روسية خالصة وليس بناء على طلب من النظام السوري أو الإيراني.
أما فيما يخص الاستراتيجية الإيرانية الجديدة عموماً، فإن الروس لا ينظرون إليها كما تنظر الأوساط السياسية والإعلامية العربية المناهضة للنفوذ الإيراني في المنطقة، فإيران اليوم، حسب الروس، لم تعد إيران الخميني التي تريد أن تصدر ثورتها وتعمل على نشر التشيع، والعبث بشؤون جيرانها العرب، بل إن القيادة الإيرانية قد تغيرت كثيراً وصار جل اهتمامها هو الداخل الإيراني، وأن التيار الأقوى داخل إيران اليوم يعمل بشعار: «إيران أولاً» ويريد النهوض بالشؤون الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية للبلاد، وإيران غدت الآن أكثر اهتماماً بتطوير علاقات طيبة مع جيرانها العرب بعيداً عن البلطجة والاستفزازات المعهودة. وعندما يتحدث الساسة الإيرانيون اليوم عن إصلاح العلاقات مع الخليج فهم لا يمارسون التقية السياسية الإيرانية المعروفة، بل هم جادون فعلاً، لأنهم صاروا أكثر اهتماماً بالجوانب الاقتصادية والتجارية منها بالجوانب العدوانية.
ولا شك أن الروس لا يشعرون بأي هزيمة في أوكرانيا حسب السيد المستشار، وأنهم لو أرادوا فهم قادرون على شن حرب حقيقية بعشرات الفرق العسكرية ومئات الطائرات، بحيث يحتلون أوكرانيا خلال ساعات ويهددون أوروبا كلها، خاصة وأن القيادة الروسية قادرة أن تجند سبعة عشر مليون مقاتل روسي لمواجهة الغرب إذا دعت الحاجة. وكما هي عادة المحللين الروس والسوفيات من قبلهم، فإن أمريكا والغرب بالنسبة لهم نمر من ورق وأنها أوهن من بيت العنكبوت، وحتى دولارها لن يصمد طويلاً أمام روسيا وحلفائها في العالم.
طبعاً سيسألني البعض بعد كل هذا السرد المفصل للموقف الروسي من القضايا العربية والدولية، وكيف كان ردك على الخبير الروسي بعد أن سمعت منه كل ذلك؟ والجواب طبعاً، وبكل احترام، لا أتفق معه في كل ما قاله، وأراه بعيداً جداً عن الواقع.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

الانفتاح العربي نعمة

للنظام ونقمة على سوريا

 

د. فيصل القاسم

 

قلنا بعد دقائق من وقوع الزلزال في سوريا إن هذا الحدث الجلل جاء وبالاً على ملايين السوريين في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام ووبالاً أيضاً حتى على مناطق النظام التي تعرضت لهزات أرضية، فالسوريون اليوم معارضين ومؤيدين تحت التحت أصلاً معيشياً، وإن الزلزال أتى ليزيدهم معاناة وبؤساً وعذاباً، بينما نزل الزلزال فعلاً برداً وسلاماً على النظام الحاكم في دمشق، فتنفس الصعداء وقال في سره مرات ومرات: جاء الفرج جاء الفرج، لا عجب إذاً أن بشار وزوجته كانا يوزعان ابتسامات عريضة للغاية وهما يزوران المناطق المنكوبة في حلب، واستغلا الفرصة لأخذ السلفي والدمار خلفي، لأنهما كانا يعرفان أنه بحجة الزلزال سيهرع الكثير من العرب باتجاه دمشق بحجة إغاثة المنكوبين السوريين، بينما في الواقع آخر ما يهمهم كارثة الزلزال التي حلّت بالشعب السوري، وهم يعلمون علم اليقين أن الخراب والدمار والركام الذي خلفته همجية بشار وزمرته في سوريا أكبر من آثار الزلزال الأخير بمئات المرات. ولو كان العرب الذين توافدوا على دمشق في الأيام الماضية يهمهم الشعب السوري فعلاً ويتعاطفون معه لكانوا ساعدوه على مدى اثني عشر عاماً من أسوأ الأعوام التي مرت على سوريا في تاريخها، إن لم نقل أسوأها على الإطلاق.
مع كل ذلك مغفل من يعتقد أن هذا التعاطف العربي الزائف مع النظام في دمشق، سواء كان بقرارات ذاتية أو بأوامر أمريكية وإسرائيلية، يمكن أن يحدث فرقاً على الساحة السورية. صحيح أنه مفيد ومريح إعلامياً مؤقتاً للزمرة الحاكمة التي تسلي نفسها بزيارات عربية لا تسمن ولا تغني من جوع، لكن الزمرة تعلم علم اليقين أن الغريق لا يمكن أن ينقذ الغريق، وأن الخرق في سوريا اتسع ليس فقط على الراقع، بل اتسع على كل الراقعين مجتمعين. ماذا يمكن أن يقدم هؤلاء الذين يريدون أن يعيدوا النظام المنبوذ إلى الحضن العربي، وحتى لو كان ذلك بضوء أخضر أمريكي؟ وماذا في الحضن العربي أصلاً غير البؤس والضياع؟ أليس من المضحك جداً أن نسمع رئيس ما يسمى بـ «مؤتمر البرلمانات العربية» محمد الحلبوسي رئيس البرلمان العراقي وهو يقول إنه يريد أن يعيد سوريا إلى حضنها العربي؟ تصوروا أن الحلبوسي القابع أصلاً في الحضن الإيراني يتحدث بالعروبة والقومية. تصوروا أنه هو نفسه قال أكثر من مرة إنه لا يستطيع الذهاب إلى منطقة جرف الصخر السنية في العراق التي قام الحرس الثوري بتهجير أهلها قبل ثمان سنوات، «لأن المنطقة تُدار من قبل جهة أقوى مني» هذا العاجز هو نفسه يذهب إلى دمشق ليفك الحصار عنها. قمة المهزلة.

رؤساء ما يسمى بالبرلمانات العربية الذين ذهبوا إلى سوريا كممثلين مزعومين للشعوب العربية، يمثلون الشعوب تماماً كما أنا أمثل شعب بوركينا فاسو، ولا قيمة لهم مطلقاً في الشارع العربي الحقيقي، وهم مجرد مأمورين أصلاً، وكان بشار نفسه قال عنهم من قبل إنهم «أشباه رجال» واليوم هؤلاء «الأشباه» يأتون لإعادة تدوير «شبيههم».
فليهرع كل هؤلاء لعناق حاكم الشام. إنه باختصار تحالف الدكتاتوريين. التم المتعوس على خايب الرجا. معظمكم يقود دولاً فاشلة وشعوباً جائعة وبلداناً انهارت أو على وشك الانهيار. والغريق لا يمكن أن ينقذ الغريق. بالمناسبة كل هذا الدعم لبشار بحجة الزلزال لا تساوي قشرة بصل لدى الشعب السوري المسحوق (للعلم البصل اليوم في سوريا صار مثل الذهب لندرته وارتفاع سعره) تصوروا أن أنظمة لا تستطيع أن تؤمن لقمة الخبز لشعوبها تأتي لدعم سوريا.
والمصيبة أن الوفد الذي زار بشار قادم من دول اليوم مقبلة على ثورات جياع بكل معنى الكلمة، دول تتسول من الدول الغربية والخليجية وبكل وقاحة، يزعمون بأنهم يريدون مساعدة سوريا. تصوروا أن لبنان المنهار تماماً ولا يستطيع أن يدفع رواتب جيشه وشرطته أرسل وفداً لسوريا ليدعم نظام الأسد في وجه المؤامرة الأمريكية. قمة الكوميديا السوداء.
حتى السوريون في الداخل لا يعلقون أية آمال على هذه الاستعراضات العربية الفارغة، ويقولون: «بلوها وانقعوها واشربوا ميتها. نحن في الداخل نموت ألف مرة يومياً من الظلم والفقر والجوع والغلاء. وكل هذه الزيارات لا تعنينا نحن السوريين ولا توفر لنا لقمة خبز حاف، إلا إذا كانت مقدمة لمشروع إعادة إعمار وسلام حقيقي. صحيح أن بشار قد يستفيد منها إعلامياً، لكن الوضع السوري الكارثي لا يمكن أن تعالجه بعواطف وشعارات وخطابات عربية جربناها عشرات المرات على مدى عقود. الجرح السوري أعمق ألف مرة من أن تعالجه «بشوية» تصريحات زائفة وزيارات استعراضية تحاول تضميد الألم السوري التاريخي بكل ما فيه من صديد وقيح، وتركه يتعفن لعقود قادمة. وبالتالي فإن ‏أي تطبيع عربي مع سوريا غير مدعوم بعشرات المليارات من الدولارات كدفعة اولى، ثم مئات المليارات لاحقاً، لا قيمة له مطلقاً. وللعلم فإن سوريا حسب التقديرات الدولية تحتاج 800 مليار، ولو خفضنا المبلغ إلى 100 مليار فقط، فمن سيدفع هذا المبلغ؟ بالأمس أودعت السعودية ملياراً فقط كوديعة في البنك اليمني فكان الخبر حديث العالم، فمن سيدفع لسوريا مئات المليارات المطلوبة؟ كما تعلمون السعودية لديها سفارة في لبنان، لكن لبنان منهار ومفلس، إذاً ما قيمة التقارب العربي من دمشق من دون مليارات؟ سيكون الوضع كوضع لبنان تطبيع سياسي ودبلوماسي لا يسمن ولا يغني من جوع.
ماذا يستفيد المواطن السوري في الداخل من علاقات عربية طبيعية مع النظام وهو لا يستطيع شراء بصلة؟ ما فائدة التقارب العربي إذا كان الوضع لا يسمح لملايين اللاجئين بالعودة إلى سوريا؟ هل يا ترى من أوصلوا بلدنا إلى هنا يمكن أن ينقذوه؟ هل سيكون الانفتاح العربي نعمة للنظام ونقمة على سوريا؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

عندما يتحدث بوتين

عن الشرف والفضيلة!

 

د. فيصل القاسم

 

لا شأن لنا في ما جاء في خطاب الرئيس الروسي الأخير حول حربه في أوكرانيا التي دخلت عامها الثاني من الناحية العسكرية والسياسية، فما قاله ضد الغرب له ما له وعليه ما عليه، لكنني سأتناول اليوم لجوء بوتين في الخطاب الذي انتظره الشعب الروسي والعالم أجمع، سأتناول لجوءه إلى مسألتي الأخلاق والشرف والقيم بشكل عام في هجومه اللاذع على الغرب عموماً.
لم يكتف الزعيم الروسي طبعاً باتهام الغرب بالتسبب بحرب أوكرانيا، كما لو أن أمريكا هي التي غزت أوكرانيا وشردت شعبها بالملايين وليس روسيا، بل راح يغلف خطابه الشعبوي بمواعظ أخلاقية ودينية لا تنطلي حتى على تلاميذ المدارس. فبدل أن يعترف بمغامرته الفاشلة في أوكرانيا راح يحذر الشعب الروسي من أن الغرب يتآمر على روسيا ليفكك الأسرة وينشر الشذوذ والانحرافات الأخلاقية، كما لو أن بوتين غزا أوكرانيا من أجل نشر الفضيلة والأخلاق الحميدة. ما هذا الرئيس الديماغوجي الذي مازال يعتقد أنه يستطيع الضحك على ذقون الشعب بهذه الفبركات والبعابع في عالم مفتوح على الطريقة الغوبلزية البائدة التي كانت تعمل بمبدأ: «اكذبوا ثم اكذبوا حتى يعلق شيء في أذهان الجماهير».
لاحظوا كيف تغير خطاب بوتين ضد الغرب منذ بداية الغزو، ففي البداية كان يتحجج بأنه غزا أوكرانيا كي يصنع عالماً متعدد الأقطاب، ثم لاحقاً راح يقول إنه يحارب الشيطان، واليوم يلجأ إلى كذبة الفضيلة والشرف واتهام الغرب بأنه يريد تدمير أخلاق المجتمع الروسي، وكل ذلك للضحك على ذقون الشعب الروسي وتغييبه على طريقة هتلر في الحرب العالمية الثانية، فكما أن هتلر كان يغسل أدمغة الألمان بخرافات عديدة كي يزجهم في الحرب، فإن بوتين اليوم يفعل الشيء نفسه مع الروس، ولن يترك بعبعاً إلا وسيستخدمه كي يضحك على الشعب.
لقد بدا بوتين وهو يتحدث عن الشرف والفضيلة في خطابه وكأن المجتمع الروسي عبارة عن دير للراهبات العفيفات أو جمهورية أفلاطون الفاضلة. يا سيد بوتين من يريد أن يهاجم القيم والانحرافات الأخلاقية الغربية يجب ألا يتفاخر هو نفسه بأن «عاهرات روسيا هنَّ الأفضل في العالم». هو قال ذلك حرفياً بنبرة تفاخر وتباه. والعالم أجمع يعرف أن من أكثر المنتوجات التي تصدرها روسيا للعالم هن الجميلات الروسيات كي لا نستخدم كلمة أخرى بدل جميلات. وقد أصبح معروفاً في الأوساط الإعلامية على سبيل التهكم أن النظام الروسي لا يصدر سوى الروسيات والروسيات، والمقصود بالروسيات الأولى البندقية الروسية الشهيرة التي يعرفها معظم الجيوش العربية التي كانت تستورد السلاح من روسيا، أما الثانية فلا داعي لشرحها.

هل يحق لزعيم يتفاخر بعاهرات بلاده أن يوزع المواعظ الأخلاقية والدينية على الغرب؟ ثم لماذا يحاول بوتين أن يحرف انتباه العالم عما فعله بأوكرانيا من تدمير وحشي وتهجير لشعبها بالملايين بالحديث عن الفضيلة والمثلية؟ وهل يحق أصلاً لمن التقطت الكاميرات عشرات الصور لجنوده في أوكرانيا وهم يغتصبون النساء أن يتحدث عن الأخلاق؟ لا بل هناك لقطات كثيرة تفضح الجنود الروس وهم يغتصبون حتى الحيوانات في أوكرانيا. وكي لا يعتقد البعض أننا نفتري هنا على ما يسمى بالجيش الأحمر، فلا أحد يمكن أن ينسى أن الجيش السوفياتي اغتصب أكثر من مليوني امرأة ألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية وهي أكبر عملية اغتصاب جماعي عرفها التاريخ. فما بين شهري يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب سنة 1945 أقدمت القوات السوفياتية على اغتصاب أعداد كبيرة من النساء الألمانيات، فضلا عن ذلك لم يتردد الجنود السوفييت لحظة واحدة في إعدام أية امرأة رفضت الرضوخ لمطالبهم. ومع بداية تدخل الجيش السوفياتي في منطقة بروسيا الشرقية عاشت النساء الألمانيات على وقع كابوس مرعب، فتزامناً مع ذلك لم يتردد الجنود السوفيات في اغتصاب العنصر النسائي الألماني كنوع من أنواع الانتقام. وخلال تلك الفترة وبسبب جرائم الاغتصاب في منطقة بروسيا الشرقية كسب الجيش السوفياتي سمعة تاريخية سيئة سبقته أينما حلّ، فضلاً عن ذلك وبناء على تقارير عديدة لم تتردد العديد من النساء الألمانيات في الانتحار لتجنب الوقوع في قبضة الجنود السوفيات. وعلى ما يبدو مازال الجيش الأحمر محافظاً على تقاليد أجداده، بحيث يكرر الجنود الروس الأفعال البربرية ذاتها في أوكرانيا اليوم بوحشية عز مثيلها.
ومن المضحك جداً أن ينتقد بوتين الغرب على إهانة الأديان، وكأن النظام الروسي يحترم العقائد والديانات. كم مسجداً دمرته طائرات بوتين في سوريا فوق رؤوس المصلين؟ مئات المساجد، حتى أن مداجن الطيور وحظائر الحيوانات لم تسلم من وحشية الغزاة الروس الذي اعترفوا بعظمة لسانهم أنهم جربوا أكثر من ثلاثمئة نوع من الأسلحة الجديدة على الحجر والبشر والحيوانات في سوريا. ولا ننسى أن جيش بوتين نفسه مارس أفظع أنواع النازية والفاشية فوق رؤوس الشعب الشيشاني، فلم يترك مسجداً أو حجراً فوق حجر إلا وسواه بالأرض في طول الشيشان وعرضها. وهل ينسى المسلمون ما فعله طاغية الكرملين بمسلمي الشيشان؟ وللتذكير فإن الجيش الروسي لم يترك مسجداً في أوكرانيا بمناطق ماريوبول وباخموت ولوغانسك إلا واستهدفه. ويمكن التأكد من ذلك لمن يريد. ثم يخرج علينا بوتين ليتحدث عن احترام الأديان.
هل تعتقد يا سيد بوتين أنك تستطيع أن تغطي على جرائمك في أوكرانيا والقرم وجورجيا وأبخازيا والشيشان وسوريا وليبيا ببضع جمل تهاجم المثلية في الغرب؟ من يريد أن يحذر الشعب الروسي من انحرافات الغرب لا يشجع كل أنواع الفجور والعهر والبغاء وتجارة اللحم الأبيض. ثم كيف تحذر الروس من المثلية وأن الغرب يريد أن يعممها في روسيا وأنت تعلم أن ابن فلاديمير سلاديوف وهو من أشهر أبواقك الإعلامية لديه ابن تزوج قبل فترة شاباً آخر في إحدى الجزر وصوره موجودة على الانترنت؟ وإذا كان الغرب بكل هذا السوء فلماذا معظم شركائك من أصحاب المليارات لجأوا إلى الغرب؟ لماذا تعيش إحدى بنات وزير الخارجية لافروف في لندن؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

كيف تقدمون العزاء

للقاتل بضحايا الزلزال في سوريا؟

د. فيصل القاسم

 

بينما كان مئات الألوف من السوريين إما تحت الأنقاض أو مشردين في أسوأ أحوال جوية في العراء شمال سوريا وداخل المناطق التركية التي تعرضت لواحد من أسوأ الزلازل منذ عقود، وفي استهتار صبياني معيب بمآسي وآلام وفواجع الملايين، واستخفاف لا يليق بفداحة الموقف وخسارة أرواح ملايين الناس، أطل ما يسمى بـ«الرئيس السوري» عبر مجلس وزرائه الصوري الهزلي، وليس بالتوجه مباشره للشعب الذي يأنف من التحدث والكلام له كعادته وعادة أبيه الديكتاتور المستبد، ولأول مرة منذ أشهر وهو يبتسم بشكل لافت، ودون أدنى مبالاة، وذلك أثناء ترؤسه لاجتماع ما تسمى بالحكومة. ولا أعتقد أن الصور التي تم توزيعها على وسائل الإعلام لطاغية الشام لم تكن مقصودة، بل إن القصر الجمهوري هو من اختارها ووزعها عمداً، وهي تكريس واستمرار لاستراتيجية ولنهج رئاسي من أيام المقبور بمعاملة الشعب بعنجهية وغطرسة وفوقية واستعلاء. فهل يعقل أن يظهر رئيس جمهورية وهو يبتسم بينما مئات الألوف من السوريين في تلك اللحظات كانوا يمرون بكارثة لم يسبق لها مثيل منذ عقود؟ إذاً العملية مقصودة، وهي بمثابة شماتة وتشف بالضحايا الذين إما قضوا تحت الركام أو يعانون أشد أنواع العذاب في ظروف جوية مرعبة بقساوتها. ولا نستبعد مطلقاً أن تكون ابتسامات طاغية الشام بشار محاولة لرش الملح على جروح ملايين السوريين الذين ثاروا ضده، ويقول لهم هذا هو جزاء من يعارضني، ووجدها، اليوم، فرصة سانحة للتشفي والشماتة بهم وهم يواجهون أسوأ زلزال تشهده سوريا في تاريخها. ومثل هذا الاستهتار والتصرف الوحشي ليس جديداً على ما يسمى الرئيس السوري، فقد قالها بعظمة لسانه ذات مرة أثناء أحد خطاباته الشهيرة إنه سعيد جداً بأن سوريا تخلصت من الملايين من شعبها لتصبح «مجتمعاً متجانساً». هكذا قالها بالحرف، فهو يعتبر ملايين السوريين الذين يعارضون نظام حكمه الطاغوتي غير مرغوب بهم في سوريا، ولا بأس أن تأكلهم الأسماك والحيتان في البحار أو أن يرحلوا عن الأراضي السورية غير مأسوف عليهم. هو قال ذلك علناً ولم يرمش له جفن. كما قال أيضاً: سوريا فقط لمن يدافع عن النظام ويؤيده حتى لو كانت ميليشيات أفغانية وباكستانية وإيرانية طائفية قذرة. لهذا لا عجب أبداً أن بدا بشار ضاحكاً وهو يعقد اجتماعاً مزعوماً لحكومته لتدارس وضع المنكوبين السوريين شمال سوريا وفي داخل تركيا.
لقد شعر ملايين السوريين أصلاً بكم هائل من القرف والغثيان وهم يرون بشار يترأس اجتماعاً من أجل المنكوبين. فعلاً إنها نكتة صارخة. لماذا؟ لأن الجميع يعلم علم اليقين أن كل ضحايا الزلزال في شمال سوريا وداخل تركيا هم بالأصل ضحايا النظام الفاشي، فمن الذي شردهم من بيوتهم بالملايين ودمر منازلهم بالبراميل المتفجرة غيره وغير طائرات بوتين التي لم تترك حتى المداجن والمشافي والمدارس والمساجد إلا وقصفتها بمئات الأنواع من الأسلحة الروسية الجديدة باعتراف وزير الدفاع الروسي نفسه. ولا ننسى مثلاً أن منطقة مرعش قهرمان التركية التي كانت مركز الهزة الأرضية الرهيبة يعيش فيها أكثر من مئين وخمسين ألف سوري في مخيمات بنتها تركيا عام ألفين واثني عشر بعد أن اضطر ملايين السوريين إلى ترك مدنهم وقراهم في الشمال هرباً من براميل بشار وعصابته.

كل ضحايا الزلزال في شمال سوريا وداخل تركيا هم بالأصل ضحايا النظام الفاشي، فمن الذي شردهم من بيوتهم بالملايين ودمر منازلهم بالبراميل المتفجرة غيره وغير طائرات بوتين التي لم تترك حتى المداجن والمشافي والمدارس والمساجد إلا وقصفتها بمئات الأنواع من الأسلحة الروسية الجديدة باعتراف وزير الدفاع الروسي

ولا ننسى أيضاً مدينة غازي عينتاب التركية المنكوبة بالزلزال التي لا تبعد عن حلب سوى تسعين كيلو متراً وتحولت إلى مسكن لعشرات الألوف من السوريين الهاربين من المناطق السورية المجاورة من جحيم الأسد. وقد اعترفت الهيئات الإغاثية بأن حوالي نصف ضحايا الزلزال في شمال سوريا وتركيا هم أصلاً من السوريين الهاربين من جحيم الحرب. بعبارة أخرى، فإن الزلزال لم يصب مناطق النظام كما أصاب مناطق المعارضة والمناطق التركية التي يسكنها اللاجئون السوريون. وبالتالي: كيف يقدم بعض القادة العرب والأجانب واجب العزاء لرأس النظام السوري، وهو أصلاً المسؤول الأول والأخير عن محنة وكارثة السوريين في الشمال أو في المخيمات أو المدن التركية؟ مضحك جداً ومثير للسخرية في آن معاً أن يعزّوا بشار بالذين كان هو شخصياً وراء تهجيرهم وتدمير بيوتهم وتعفيش ممتلكاتهم في شمال سوريا، فاضطروا إلى اللجوء إلى المناطق المحررة أو دخلوا الأراضي التركية هرباً من براميل النظام التي دخلت التاريخ بوحشيتها وبشاعتها وفظاعتها.
لقد أرسلت بعض الدول كالجزائر مثلاً طائرات محملة بالمساعدات إلى مطار حلب الذي يسيطر عليه النظام الآن. والسؤال هل تتوقعون من العصابة الحاكمة أن ترسل المساعدات للسوريين في المناطق المحررة أو إلى السوريين المنكوبين داخل الأراضي التركية في ظل عجزه التام وتقصيره التاريخي وغياب أية آليات مهنية وخبرة لديه في المجال الإنساني والإغاثي وجل تخصصه بالقتل والإجرام وارتكاب الفظائع والإبادات الجماعية والمجازر الكيماوية فكيف سيتحول نظام مجرم قاتل إلى «ممرض» وملاك رحمة وحمامة سلام بين ليلة وضحاها؟ فعلاً عجيب. مستحيل طبعاً، فكيف تتوقعون ممن قتل السوريين وشردهم ودمر بيوتهم ونهب ممتلكاتهم أن يعطف عليهم في محنتهم الرهيبة؟ ولا ننسى أن النظام وعصابته كان يعبث أصلاً بالمساعدات الدولية التي تصل إليه كي يوزعها على مؤيديه، وقد ظهرت تقارير كثيرة تقول إن حيتان القصر البراميلي وسيدته كانوا يبيعون المساعدات الدولية بالسوق السوداء بدل توزيعها على ملايين السوريين المؤيدين الذي يعيشون اليوم تحت خط الفقر بمراحل. فإذا كانت العصابة الحاكمة لا ترأف بحال المؤيدين داخل سوريا الذين قدموا للنظام الغالي والنفيس وضحوا من أجله بفلذات أكبادهم، ثم وجدوا أنفسهم جائعين مقهورين منبوذين، فما بالك أن يرسل النظام المساعدات القادمة إلى مناطق المعارضة في الشمال وتركيا إلى مستحقيها؟ مستحيل. إن إرسال معونات للنظام كي يوزعها على مناطق المعارضة المنكوبة كمن يرسل معونات لإسرائيل كي توزعها على سكان غزة. لهذا فإن أي جهة أو دولة ترسل مساعدات للمنكوبين بالزلزال عبر النظام فهي تبذر أموالها وتهبها هباء، لأن النظام إما سيبيع المعونات ويقبض ثمنها لصالحه الخاص كما يفعل اليوم بالنفط ومشتقاته والكهرباء، أو أنه سيعطيها لعصابته ولن يصل منها شيء لا للمؤيدين المنكوبين أو المعارضين. والأهم من ذلك أن المناطق المنكوبة خارج سيطرة النظام أصلاً.
وزاد في الطنبور نغماً، وتعبيراً عن الحقد المتأصل في دواخل هذا النظام الدخيل على السوريين، أن وزير الخارجية، صرّح يوم الأربعاء، لإحدى القنوات التي تتاجر بالممانعة، وللغرابة ومحاكاة التابع للسيد، أنه كان، كمعلمه بشار، غاية بالانشراح والفرح وبابتسامة هوليوودية عريضة، مقرراً بأن هؤلاء الضحايا والمنكوبين هم من الإرهابيين ولذلك فهو لن يسمح بوصول المساعدات لهم ولا يستحقونها، وكأنه لم تشبعه ولم تكفِه، لا هو ولا معلمه القابع في وكره الجمهورية تحت حراب وحماية فاغنر والملالي، كل تلك البراميل المتفجرة التي ألقاها على بيوت وأجساد السوريين، ولم تشف غليله كل تلك الجرعات القاتلة والسامة التي أذاقها لهم خلال سنين الحرب، ليكشر اليوم عن أنيابه ويـُمعن بقتلهم جوعاً وحرماناً وموتاً بطيئاً تحت أنقاض المباني التي تداعت فوق رؤوسهم وهم نيام آمنين.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

لماذا يتهافت الشباب

العربي على «تيك توك»؟

د. فيصل القاسم

 

ليس هناك شك بأن تطبيق «تيك توك» الصيني الذي يجتاح العالم العربي بشكل مخيف، لا شك أنه يكسر كل المحرمات والمقدسات بكل أنواعها، وخاصة الاجتماعية منها، والبعض يعتبره «مزبلة متحركة» لما يحويه من تفاهات وترهات وسخافات مبتذلة، وهناك من يصفه بأنه أشبه بموقع إباحي لأنه يسمح بفيديوهات لا يمكن تصنيفها إلا في خانة الإباحيات صوتاً وصورة اجتماعياً وحتى جنسياً. ولعل الحرية المنفلتة من عقالها تجعل هذا التطبيق يتفوق على بقية التطبيقات الغربية كفيسبوك وتويتر وانستغرام وسواها، فبينما تعمد مواقع التواصل الغربية إلى وضع ضوابط صارمة على متابعيها، يترك التطبيق الصيني الحبل على الغارب لرواده، وخاصة خارج الصين، فبينما تمنع الصين تطبيق «تيك توك» بنسخته الخارجية داخل البلاد، تسمح بتطبيق آخر منضبط ويخضع لمراقبة صارمة من الدولة، بحيث يكون تأثيره على النشء الصاعد والمراهقين والشباب تأثيراً إيجابياً حسبما تزعم بعض المصادر. وللأمانة العلمية، هذا بحاجة لتأكيد من مصدر موثوق.
لكن لو بقينا في التطبيق الصيني الذي صدرته الصين للعالم منذ سنوات، لوجدنا أنه الآن يحتل المرتبة الأولى بين الشابات والشباب العربي، وحتى الغربي، فقد بدأت أمريكا منذ فترة تحارب ذلك التطبيق بشراسة بحجة أنه يهدد الأمن القومي الأمريكي، ولا ندري إذا كانت الولايات المتحدة تخشى فعلاً من التأثيرات الأمنية للمنتوجات الإلكترونية الصينية أم إنها باتت تخشى من سيطرة التطبيق الصيني على الشباب الأمريكي ومنافسته لمواقع التواصل الأمريكية؟ وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة كيف بدأت تتسابق بعض الولايات الأمريكية على حظر التطبيق، ولا ننسى أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عرض على الصين شراء التطبيق، لكنها رفضت بيعه، مما حدا بالإدارة الأمريكية إلى البدء بمحاربته على أراضيها. وإذا كانت أمريكا صاحبة الذراع الإعلامي الأول في العالم وتهيمن على خمسة وسبعين بالمائة من المنتوج الإعلامي العالمي تخشى من التطبيق الصيني إعلامياً وثقافياً، فما بالك بالعرب الذين ليس لديهم أي ذراع إعلامي في مجال التواصل الاجتماعي، وبالتالي هم عرضة لكل أنواع الاختراقات الإعلامية والثقافية منذ عقود وعقود.

تعالوا الآن نتكلم عن اجتذاب «تيك توك» لملايين الشباب العربي من المحيط إلى الخليج، فإذا كان الشباب الأمريكي يتسابق على تنزيل التطبيق والاستمتاع بمواده، وهم لديهم من الرعاية والمناعة والحرية الاجتماعية والثقافية والإعلامية أضعاف ما لدى الشباب العربي، فكيف إذاً نلوم المراهقين واليافعين العرب على لهاثهم وراء «تيك توك»؟ ماذا بقي للجيل العربي الصاعد غير اللجوء إلى تلك التطبيقات المنفلتة بعد أن أصبح محاصراً في حياته من كل حدب وصوب دون وجود دول حقيقية ترعى أبناءها اجتماعياً وثقافياً وإعلامياً واقتصادياً وتحميهم وتحافظ على هويتهم وثقافتهم وتحقق طموحاتهم؟ فلو نظرت إلى العديد من الدول العربية اليوم وخاصة الفاشلة منها كسوريا واليمن ولبنان والسودان وليبيا والعراق وغيره، لوجدت أن تلك البلدان أصبحت طاردة لشعوبها وخاصة شبابها، فلو سألت النظام السوري مثلاً: هل أنت مستعد لاستقبال أكثر من عشرة ملايين سوري لجأوا إلى أوروبا والدول المجاورة، فبالتأكيد سيقول لك لا، فهو غير قادر على رعاية الذين بقوا داخل سوريا معيشياً، فما بالك أن يوفر الرعاية لملايين آخرين، ناهيك عن أنه يعتبر الجيل الصاعد خطراً على نظامه، فلا بأس من طرده خارج البلاد ومنعه من العودة؟ إن عدد الأنظمة الطاردة لشبابها يزداد يوماً بعد يوم، لأنها بدل أن تستغل طاقاتهم في بناء البلد تحاول بشتى الطرق الدفع بهم خارج الحدود كي لا يشكلوا خطراً عليها، لأن الكثير من الأنظمة اليوم وخاصة نظام الأسد لا يهمه في سوريا غير الحفاظ على الكرسي، حتى لو باع سوريا للغزاة والمحتلين، وحتى لو عمل على تهجير حاضنته الشعبية. وللعلم فإن عشرات الألوف من الشباب السوري في منطقة الساحل معقل النظام بدأوا يهربون من البلد إلى أي مكان أفضل، وقد تجد الألوف منهم اليوم في أربيل بالعراق. ولا يختلف الأمر بالنسبة للنظام العراقي أو الليبي أو اللبناني أو التونسي أو المصري أو اليمني، وحتى بعض دول شمال أفريقيا، فقد تخلت دول كثيرة عن مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية وتركت شعوبها عرضة لكل أنواع التأثيرات والمغريات الخارجية. وحتى الشباب العرب الذين بقوا داخل أوطانهم، ماذا لديهم؟ لا شيء سوى الانضمام إلى مواقع تواصل اجتماعي منفلتة من عقالها توفر لهم عالماً اصطناعياً وحريات زائفة تعوضهم عن الحرمان السياسي والاجتماعي الذي يعانونه داخل بلدانهم. ولا ننسى أن بعض الشباب يخاطر بحياته في عرض البحار والمحيطات هرباً من الجحيم داخل بلده وخاصة في دول شمال أفريقيا.
ينظر الجيل الصاعد من العرب حوله اليوم فلا يرى إلا أنظمة مهترئة فاسدة وظروفاً اجتماعية ومعيشية واقتصادية جهنمية، وأحوالاً لا تسر الخاطر. حكام لا يهمهم سوى البقاء على عروشهم والسمسرة لمشغليهم في الخارج على شعوبهم وثروات بلادهم، وحكومات امتهنت السرقة والنصب والاحتيال على شعوبها وإعلام رخيص يكذب حتى في درجات الحرارة ومؤسسات دينية لا هم لها سوى تخدير الشعوب والكذب عليها لصالح مشغليها من الطغاة والجنرالات. وقد تحولت الحياة كلها إلى شبه جحيم فلا عمل ولا انتاج وأسعار خيالية لأبسط السلع، وانعدام كامل لأبسط أساسيات الحياة كالكهرباء والماء والدواء، وهم وغم يحاصران الناس من كل حدب وصوب، فهل تلوم الشباب بعد كل ذلك إذا نشدوا التحرر والانعتاق والاستمتاع حتى في عوالم افتراضية مفتوحة، أو إذا تحولوا إلى متسكع ومتصعلك وصائع وضائع ولجؤوا إلى عالم الضياع والضباع؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

الدرس الوحيد

الذي تعلمناه من التاريخ

د. فيصل القاسم

 

هل يا ترى زماننا الذي نعيشه اليوم مختلف عن بقية الأزمنة التي مرت عبر التاريخ؟ هل كانت العصور القديمة أكثر عدلاً واستقراراً ووئاماً وإنسانية؟ أم إن الإنسان هو الإنسان لا يتغير مطلقاً عبر الزمان؟ كم خاضت البشرية من الحروب على مدى الألف سنة الماضية كي لا نقول عبر آلاف السنين؟ لا نريد أن نذهب بعيداً، كم من الحروب خاضتها الشعوب منذ بضعة قرون فقط؟ هل تعلم البشر من حروبهم الكارثية شيئاً؟ بالطبع لا، لا بل إنهم طوروا أساليب القتال والتدمير والوحشية، ولو، لا سمح الله، وقعت حرب عالمية ثالثة، سيترحم الناس على الحرب العالمية الثانية لأن الأسلحة التي كانت متوفرة فيها أقل فعالية وخطورة على كوكبنا وسكانه من الأسلحة المتوفرة اليوم القادرة على تدمير العالم عشرات المرات، فروسيا لوحدها فقط لديها ترسانة نووية تستطيع تدمير العالم ثلاثا وثلاثين مرة. تصوروا، فما بالك بالترسانات الأمريكية والأوروبية والصينية وغيرها. وللعلم، إذا تم استخدام السلاح النووي في أي حرب قادمة، فلن تكون المرة الأولى، فقد استخدمته أمريكا من قبل في اليابان على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا ننسى طبعاً أن أمريكا وغيرها استخدمت أسلحة مشابهة في فيتنام ستبقى آثارها على الأرض والبشر لمئات السنين، ولا بد أن نتذكر أيضاً أن السلاح النووي استخدم على نطاق ضيق في العراق وغيره دون ضجة تُذكر. إذاً لا شيء مستبعداً في أي صرعات قادمة، لأن البشر يكررون حروبهم ومآسيها وفظائعها حرفياً دون أن يستفيدوا منها مطلقاً.
ولو قرأنا على سبيل المثال فقط تاريخ حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا وما خلفته من مآس وكوارث على سكان القارة الأوروبية خلال ثلاثة عقود لوجدناها نسخة طبق الأصل عما يحدث اليوم من صراعات دينية ومذهبية في العالم الإسلامي وحتى المسيحي. وعندما تقرأ ما حل بالمدن والقرى الأوروبية أثناء الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت فلا تحتاج أن تكتب تاريخاً جديداً لما يحدث اليوم من صراعات وحروب أهلية، فما عليك إلا أن تحذف أسماء القرى والمدن الأوروبية أثناء حرب الثلاثين عاماً وتستبدلها فقط بأسماء بعض القرى والمدن السورية أو اليمنية أو اللبنانية، فالتاريخ يقدم لنا صورة لا يمكن تصورها لما فعلته الطوائف المسيحية ببعضها البعض قبل قرون قليلة، فقد تم إحراق مدن وقرى بأكملها وفر منها ملايين البشر، بالإضافة طبعاً إلى مقتل مئات الألوف. هل تعلمنا منها شيئاً؟ بالطبع لا، بل كررناها بطريقتنا الحديثة.

ولو وقعت حرب عالمية ثالثة، سيترحم الناس على الحرب العالمية الثانية لأن الأسلحة التي كانت متوفرة فيها أقل فعالية وخطورة على كوكبنا وسكانه من الأسلحة المتوفرة اليوم

ولطالما طالبنا المذاهب والملل المتناحرة في عالمنا الإسلامي بأن تتعظ وتتعلم مما حصل في حرب الثلاثين عاماً بين المسيحيين كي تتجنب تكرار التجربة المريرة، لكن لا حياة لمن تنادي، لأن الإنسان على ما يبدو مغرم باستنساخ التاريخ دون أن يتعلم منه شيئاً. ولنا فيما فعلوه بسوريا مثل معاصر مازال حياً أمامنا ونراه يومياً. نتحدث اليوم عن ملايين الأوكرانيين الذين هربوا من بلدهم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ونتحدث عن ملايين السوريين الذي تركوا بلدهم وكأن هذا الحدث الكارثي جديد على البشرية، لا أبداً بل هو حدث معتاد وتكرر كثيراً عبر التاريخ، ومازال. ثم هل توقفت الغزوات والتدخل في شؤون الدول بعد توقيع معاهدة (ويستفاليا) في أعقاب حرب الثلاثين عاماً في أوروبا والتي نصت حرفياً على مبدأ سيادة الدول وعدم التدخل؟ هل توقفت الحملات الاستعمارية، أم اتخذت أشكالاً جديدة متطورة كالعولمة مثلاً؟
أما على الصعيد الاجتماعي، فحدث ولا حرج، فكل القضايا الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية التي يعانيها عصرنا الحالي عاناها من قبل مليارات البشر عبر التاريخ، فلا عدل مطلقاً تاريخياً في توزيع الثروات حتى قبل ظهور العصر الرأسمالي، فالعصر الزراعي مثلاً كان يسيطر فيه الإقطاعيون أصحاب الأراضي الشاسعة، بينما كان يعمل ملايين البشر في أراضي الإقطاعيين كعبيد وأقنان، تماماً كما يحصل اليوم في عصر العبودية الرأسمالي حيث يملك بضعة أشخاص في العالم ثروات تفوق ما يملكه مليارات البشر ويتحكمون بقوت البشرية وعقولها. الظلم الإنساني، أو ظلم الإنسان للإنسان عبارة عن عملية مكررة يتوارثها البشر من عصر إلى عصر. ولا شك أن المفكر السياسي البريطاني الشهير (توماس هوبز) كان مصيباً عندما أطلق عبارته الشهيرة « الإنسان ذئب للإنسان». هكذا بدأ التاريخ، وهكذا يتقدم بناء على الوحشية واستغلال الأقوياء للضعفاء وحكم القوة. ولو قارنت مجتمع البشر بمجتمع الحيوان، لاستنتجت أن شريعة الغاب أكثر عدلاً بكثير من شريعة الإنسان عبر التاريخ. ولو قرأت الأعمال الأدبية في العصور القديمة قبل مئات السنين، لوجدت الأدباء والكتاب والشعراء يكتبون عن الظلم والاضطهاد والقمع والفقر والصراع الطبقي واستغلال البشر لبعضهم البعض، تماماً كما نكتب اليوم بحذافيره.
لا نريد هنا مطلقاً أن نغمط حقوق وتضحيات ومآثر وأفعال ومنجزات المصلحين والكتاب والمفكرين الذين عملوا عبر التاريخ على فضح الظلم والظالمين والدعوة إلى العدل والمساواة والإنسانية، ولا يجب أن نستهين بما حققوه، لكن، للأسف الشديد، ففي كل عصر يتكرر الظلم والاستغلال والوحشية نفسها التي شهدتها العصور السابقة لا بل تتطور إلى الأسوأ، ويتكرر معها المصلحون والشعراء والأدباء والمفكرون، وحتى في عصر الإعلام، لم يتغير شيء سوى أن الإعلاميين ينقلون ظلم الإنسان للإنسان ووحشيته التاريخية المتكررة على الهواء مباشرة، لكن دون جدوى. هل ساهم الإعلام مثلاً في التخفيف من مآسي بلدان ما يسمى بالربيع العربي، أم إنه فقط نقلها لنا، وفي كثير من الأحيان زاد الطين بلة؟ صدق المفكر الألماني الشهير جورج هيغل عندما قال: إن الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ أننا لا نتعلم من التاريخ».

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

لا فرق بين

العلمانجيين والدواعش!

 

د. فيصل القاسم

 

لا أبالغ إذا قلت إن التعصب مرض خطير، ويحتاج إلى علاج نفسي وعقلي، وخطورته ليست فقط على صاحبه بل على الجميع، لأن المتعصب إنسان مريض وإقصائي واستئصالي ومؤذ بامتياز قد يصل به الأمر إلى تصفية خصومه بناء على أفكاره وتوجهاته المتعصبة المريضة المعتوهة العمياء، كما يفعل الدواعش وأشباههم من كل الأديان. وحتى لو لم يكن المتعصبون خطرين على البشر دائماً، فإنهم في هذا العالم الإعلامي المفتوح باتوا يشكلون خطراً إعلامياً على الجميع، لأنهم يسممون الأجواء بأفكارهم المجنونة والمؤذية ومواقفهم المتحجرة وقد يقنعون الكثيرين بالسير وراءهم والاقتداء بهم، فيزداد الخطر على الجميع. ومهما كان المتعصب مثقفاً، فإنه يبقى جاهلاً، لأن قمة الثقافة تدفعك ليس إلى معاداة البشر بل إلى تفهم مواقفهم ومسايرتهم ومحاورتهم بالتي هي أحسن وعدم اتخاذ مواقف إقصائية متشنجة منهم وتهديدهم أحياناً بالويل والثبور وعظائم الأمور لمجرد أنهم لا يوافقونك في الرأي والتوجه والفكر. لكن المتعصبين يتشبثون بآرائهم المنحرفة والجاهلة بشكل أعمى ولا يقبلون أن يناقشهم بها أحد، حتى لو كان الكثيرون يرفضونها ويعتبرونها منحرفة ومتطرفة وغير سوية.
تعالوا اليوم نتطرق إلى نموذجين من المتطرفين الذين يشوهون مواقع التواصل، وهما النموذج الديني والنموذج العلمانجي، وقد استخدمت كلمة «علمانجي» وليس علماني، لأن الأول يتغطى بالعلمانية فقط، وهو بعيد عن العلمانية بعد الأرض عن الشمس، فالعلمانية ليست ضد الأديان مطلقاً، بل إن الأنظمة العلمانية هي من تحمي الأديان قانونياً وتحمي أتباع الديانات من بعضهم البعض وتسمح لهم بممارسة شعائرهم وطقوسهم وديانتهم بكل حرية دون تدخل أو إرهاب من أحد. ولا شك أن المسلمين يستمتعون بممارسة الدين في البلاد العلمانية أكثر مما قد يستمتعون به في بلادهم الأصلية أحياناً لأن الأنظمة العلمانجية الديكتاتورية العسكرية المخابراتية في العالم العربي لا تمت للعلمانية بصلة وتتعامل مع المتدينين بشك وريبة وازدراء وتعتبرهم خطراً عليها حتى لو كانوا مسالمين وغير خطرين أو متشددين ومتطرفين، فالديكتاتور العلمانجي العربي يعادي الدين والمتدينين بالفطرة، ولو استطاع لكان قد منع دخول المساجد وتأدية الفرائض، لهذا تجد أن كلاب صيده من رجال الأمن والمخابرات يعيشون في الجوامع ويراقبون كل شاردة وواردة، ويتجسسون على المصلين، ويدونون حتى أسماء كل من يدخل الجامع أو يؤدي الصلاة ويراقبونه. ولا ننسى أنهم يكتبون لخطباء الجمعة أحياناً خطبة الجمعة ويحددون محتواها ويوجهونها على هواهم وليس على هوى المصلين، بحيث يتحول الدين في الأنظمة الديكتاتورية إلى مجرد أداة لمصلحة النظام حصراً.

وللديكتاتوريات في بلادنا «مثقفوها» العلمانجيون ، لأن المثقف العلمانجي بعيد عن الثقافة الحقيقية بعد الشمس عن المريخ، لأنه إنسان ذو اتجاه واحد، لا يرى إلا أمامه، وكذلك العلمانجي العربي الذي لا يريد أن يرى إلا ما يعتقد أنه صحيح ضارباً عرض الحائط بكل الآراء الأخرى، لهذا فيمكن أن نسميه بسهولة بالعلمانجي الداعشي، لأن الفرق الوحيد بينه وبين الدواعش وأمثالهم أن الداعشي المتدين يربي لحية كثة طويلة، بينما العلمانجي قد يفضل أن يكون أمرد الوجه، لكن عقله لا يختلف قيد أنملة عن عقل الداعشي الدموي المتطرف الذي يعادي الجميع ويكفر حتى أبناء وأتباع دينه على أتفه الأخطاء. وكما أن المتشدد دينياً يعتبر نفسه على صواب والجميع على خطأ، فإن العلمانجي لا يؤمن بأي حوار مع المتدينين، حتى لو كانوا معتدلين جداً وقابلين بكل أشكال وممارسات الديمقراطية الحديثة، فهو يعاديهم ويكرههم لمجرد أنهم يتحدثون بالدين. والغريب في الأمر أن العلمانجي الداعشي العربي لا يعادي من الأديان سوى الدين الإسلامي، ولا تراه مطلقاً ينتقد التطرف والمغالاة في الأديان الأخرى، وكأنه مختص فقط بمعاداة الإسلام دون غيره من الأديان، وقلما تجد مقالة واحدة لعلمانجي عربي تهاجم المتطرفين في الأديان الأخرى.
لا أحد يمتلك الحقيقة مطلقاً، مع ذلك تجد أن القاسم المشترك بين الداعشي والعلمانجي أن الطرفين ليسا مستعدين أن يشفعا لبعضهما البعض، والعلمانجي يريد من الجميع أن يتخذوا موقفاً متطرفاً متشدداً من المتدينين، حتى لو كانوا أناساً طيبين وبسطاء ومستعدين للأخذ والرد والنقاش والحوار. كل المسلمين بالنسبة للعلمانجي خطرون ويجب ألا تتسامح معهم أو تقبل أو تثق بهم، فليس في القنافذ أملس بالنسبة للعلمانجي عندما يتعلق الأمر بالمتدينين، والصوفي بالنسبة له نسخة طبق الأصل عن الداعشي، مع أن الفرق شاسع بين النموذجين.
ولا يقل خطر العلمانجي مطلقاً عن خطر الداعشي، فهما يشكلان تهديداً للناس، لأنهما يعززان ثقافة الانغلاق والتحجر والتشدد والتطرف، ويقسمان المجتمع إلى قسمين متناحرين، وكما أن المتطرف الديني لا يقبل بأي شخص يخالفه عقدياً ومستعد أن يقتله كمرتد أو كافر، فإن العلمانجي لا يقبل بأي شخص مسلم مطلقاً، وكل المسلمين بالنسبة له أعداء ولا بأس أن يتخلص منهم جميعاً حتى يتبعوا ملته العلمانجية المتطرفة ويبدأوا بشتم الإسلام والمسلمين ليل نهار، كما فعل العسكر في بعض الدول العربية من قبل حيث كانت مهمتهم استئصال وإقصاء أي عنصر إسلامي عن الساحة السياسية. وكي لا يعتقد البعض أننا هنا نروج لتسييس الدين، لا أبداً، فالدين أو رجل الدين يبقى طاهراً أو بتولاً حتى يدخل السياسة فيتنجس، وبالتالي من الخطأ مزج الطهارة بالنجاسة، لكن هذا لا يعني أن ندعو إلى التعامل مع المتدينين كما لو كانوا شاذين اجتماعياً كما يفعل العلمانجيون، ولا أدري لماذا يدافع العلمانجي العربي عن حقوق المثليين، لكنه يريد أن يمنع النساء من ارتداء زي إسلامي ويدوس على حقوق أي شخص يريد أن يمارس العبادة.
لعمري أنكم دواعش بدون لحى، فالداعشي يتحجج بنصوص يعتبرها مقدسة، وأنتم جعلتم ترهاتكم مقدسات.

كاتب واعلامي سوري

 

 

ماذا ستأكل الشعوب بعد اليوم؟

د. فيصل القاسم

 

هناك ظاهرة مرعبة بكل المقاييس لا ينتبه لها الناس بالشكل المطلوب ولم يعطها الإعلام التغطية الكافية للتحذير من عواقبها الرهيبة التي بدأت تظهر شيئاً فشيئاً في العديد من بلدان العالم وخاصة العالم العربي والعالم الثالث عموماً. إنها ظاهرة التضخم غير المسبوق تاريخياً حتى في الدول الغربية الغنية. رواتب ثابتة ومحدودة وأسعار تحلق في أعالي السماء ولا تقف عند حد. ما الذي يجري؟ ماذا تريد القوى التي تتلاعب باقتصاديات وثروات المعمورة؟ كنا في الماضي نسخر مما يسمى بمؤامرة «المليار الذهبي»، ونعتبرها من نسج خيال أصحاب نظرية المؤامرة وتخرصاتهم السخيفة، لكن للأمانة إذا ظل الوضع المعيشي في العالم يسير على هذا النحو غير المسبوق لا نستبعد مطلقاً أن تعم المجاعات كل دول العالم بما فيها العالم الغربي فينخفض عدد سكان العالم إلى مليار، لأن الذي يحصل اليوم على صعيد جنون الأسعار لا سابق له في التاريخ.
تعالوا ننظر إلى حال الشعوب في بعض البلدان العربية كسوريا مثلاً، فراتب الموظف بعد كل الزيادات لا يتجاوز المئة ألف ليرة، وهو رقم كبير جداً مقارنة بالرواتب القديمة التي لم تكن تتجاوز الألف ليرة قبل ثلاثة عقود ونيّف. لكن في ذلك الوقت كانت الألف ليرة تكفي عائلة كاملة مسكناً ومأكلاً ومشرباً. أما اليوم فالمئة ألف ليرة لا تكفي لشراء جرة غاز صغيرة، فمن أين يأتي المواطن السوري بالمال لشراء بقية حاجاته إذا كان راتبه لا يكفي لشراء جرة الغاز. وكي لا نطيل في الشرح، فإن الإنسان اليوم في سوريا يحتاج أكثر من مليون ونصف المليون ليرة كي يعيش على الكفاف، بينما راتبه لا يزيد عن مئة ألف ليرة وربما أقل، فماذا يفعل؟ لقد سمعنا قبل أيام ممثلين سوريين كبارا يستغيثون ويطالبون رئيسهم بالتدخل لأن الوضع صار جهنمياً بامتياز وهم يعانون جوعاً حقيقياً، فإذا كان الوضع هكذا في أوساط الفنانين والممثلين، فكيف هو في أوساط الطبقات المسحوقة أصلاً قبل الكارثة المعيشية الحالية. وضع لا يمكن تصديقه من شدة هوله. ما الحل؟ ليس هناك حل، فلو أرادت الدولة أن ترفع الرواتب إلى مليون ونصف المليون ليرة ليتمكن الناس من العيش على الكفاف فقط، فهي غير قادرة، وحتى لو زادت الرواتب فإن الأسعار بدورها ستحلق أعلى بما يجعل الجميع يدورون في حلقة مفرغة لا يمكن السيطرة عليها.
طبعاً قد يقول لنا البعض إن سوريا ليست نموذجاً لأنها خارجة للتو من حرب أتت على الأخضر واليابس وهي تعاني شحاً مالياً وزراعياً واقتصادياً وغيره، لهذا فهي يمكن أن تتعافى لاحقاً وتصحح وضعها المعيشي تدريجياً كما حصل مع بقية الدول التي عانت من الحرب وتبعاتها من قبل. لكن هذا الكلام مردود عليه، لأن هناك بلداناً عربية وغير عربية أخرى بدأت تعاني من النموذج السوري مع أنها لم تدخل في حرب ولم تعان ما عانته سوريا.

حتى في الغرب رغم كل الثراء والدعم الحكومي ودولة الرفاه، فإن الفجوة بين الرواتب وارتفاع الأسعار صارت خيالية بحيث صار البعض يتحدث عن مجاعات حقيقية قادمة حتى في أوروبا

خذ مثلاً مصر اليوم، فبعد انخفاض الجنيه أمام الدولار بشكل مفاجئ ورهيب، بات الشعب المصري كله لا هم له سوى الحديث عن مواكبة التحولات الاقتصادية الرهيبة التي بدأت تضرب البلاد بشكل غير مسبوق. فجأة ارتفعت الأسعار مئة في المئة في بعض الأحيان، فكيف سيغطي راتب الموظف هذا الارتفاع المرعب؟ من أين سيأتي بأضعاف راتبه كي يؤمن لقمة عيش بسيطة؟ من أين؟ لا يوجد أي مصدر، ولو زادت الدولة الرواتب فسيبتلع الزيادة ارتفاع الأسعار الجنوني الذي لا يتوقف مع كل زيادة بسيطة في سعر الدولار أمام الجنيه. ما الحل؟ لا حل.
ولو ذهبت إلى تونس ستجد أن الشعب هناك يعاني الحالة السورية والمصرية بحذافيرها. ارتفاع جنوني في الأسعار وتضخم غير مسبوق ومصادر دخل محدودة لا يمكن أن ترتفع مطلقاً لأن الدولة عاجزة عن تأمين المال الكافي لسد العجز.
هل يختلف الوضع في السودان أو لبنان أو الأردن أو الجزائر أو المغرب أو أي بلد عربي؟ ربما تكون بعض البلدان أفضل حالاً مثلاً من اليمن ولبنان والسودان الذي دخل الدوامة السورية والمصرية منذ فترة طويلة، وكذلك اليمن الذي يمر بأزمة معيشية يشيب لها الولدان، لكن لا أحد يتكلم عنها، بينما تدهور سعر العملة اللبنانية منذ أشهر مرات ومرات بحيث بات العديد من اللبنانيين يعتمدون على السلال الغذائية التي يتبرع بها بعض الميسورين بشكل عابر وغير ثابت. تصوروا أن لبنان يعاني الجوع. ما الحل؟ ليس هناك أي باب أمل مطلقاً؟ فالكل بات يعاني. صحيح أن دول الخليج تستفيد من ارتفاع أسعار النفط، لكنها بدورها تعاني في الوقت نفسه من تضخم رهيب وارتفاع جنوني في الأسعار، بحيث تضاعفت الأسعار مرات ومرات بينما الرواتب مازالت على حالها منذ سنوات لشرائح كبيرة. والحل طبعاً ليس في زيادة الرواتب بشكل مستمر لمواكبة التضخم، هذا إن حصل، وهو لم يحصل، فارتفاع الأسعار في بعض بلدان الخليج بات يقتطع الجزء الأكبر من الرواتب للأكل والشرب والخدمات الأخرى، بحيث بات كثيرون يعملون فقط لتأمين قوت يومهم لا أكثر ولا أقل، والوضع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
وكي لا يظن البعض أن الأمر يقتصر على الدول العربية، فإن تركيا مثلاً تواجه منذ سنوات تضخماً هائلاً خسف برواتب الطبقة الوسطى من ألفي دولار إلى ثلاثمئة دولار، بعبارة أخرى فإن الطبيب الذي كان راتبه يعادل ألفي دولار قبل سنوات، أصبح راتبه اليوم لا يساوي مئتي أو ثلاثمئة دولار، لأن الليرة هبطت أمام العملات الصعبة، ولأن الأسعار باتت جنونية بكل المقاييس، بحيث صار شراء بعض الفواكه والخضار عملاً بطولياً، فقبل سنوات كان سعر كيلو الدراق مثلاً ثلاث ليرات تركية، بينما اليوم ثمنه قد يصل أحياناً إلى مئة ليرة، والرواتب مع كل الزيادات التي حصلت لا يمكن أن تغطي الفجوة التي تسبب بها الارتفاع الرهيب للأسعار. بالأمس كنت تستطيع شراء كيلو زيتون في تركيا بخمس عشرة ليرة، واليوم هذا المبلغ يشتري بضع حبات من الزيتون فقط، وهكذا دواليك، فكيف سيعيش الناس؟
وحتى في الغرب رغم كل الثراء والدعم الحكومي ودولة الرفاه، فإن الفجوة بين الرواتب وارتفاع الأسعار صارت خيالية بحيث صار البعض يتحدث عن مجاعات حقيقية قادمة حتى في أوروبا، وبتنا نرى العجب العجاب في لندن نفسها، بحيث يبلغ طول الطوابير على بنوك الطعام للجوعى والمحتاجين مئات الأمتار. فمن يقف وراء هذه الكارثة، وماذا تريد القوى التي تتحكم بثروات العالم وأرزاقه واقتصادياته وشعوبه؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

هل ما زالت كرة القدم

لعبة الفقراء والمسحوقين؟

د. فيصل القاسم

 

هناك اعتقاد شائع منذ عقود أن لعبة كرة القدم هي لعبة الفقراء، خاصة وأن أشهر لاعبيها بدأوا حياتهم وهم يلعبون كرة مصنوعة من بقايا القماش في الشوارع الفقيرة في أمريكا اللاتينية حفاة الأقدام، لأنهم لم يملكوا في ذلك الوقت ثمن كرة قدم حقيقية ولا أحذية رياضية، وبالتالي ارتبطت كرة القدم في أذهان العالم بالفقراء، وتحولت صورة المعدمين الذين يلعبون الكرة في أحياء البرازيل والأرجنتين المسحوقة إلى صورة رومانسية التصقت بكرة القدم، وصار الكثير منا يشجع فرق كرة القدم العالمية على أساس “بروليتاري” على اعتبار أن هذه اللعبة هي لعبة البروليتاريا العمالية المسحوقة، خاصة وأن أشهر نجومها الأوائل ظهروا في البرازيل كبيليه مثلاً، أي قبل أن تتقدم البرازيل اقتصادياً وصناعياً وتصبح من العشرة الأوائل في الاقتصاد العالمي. لكن هل يا ترى ما زالت هذه اللعبة الأولى في العالم لعبة المسحوقين فعلاً؟ أم ان الأقوياء والأثرياء في الغرب اختطفوها من شوارع الفقراء ليحولوها إلى صناعة عالمية غربية بامتياز تدر على أصحابها مليارات الدولارات سنوياً، وصارت ميزانيات بعض الأندية الغربية خرافية بكل المقاييس. لا بل إن الفقراء في هذا العالم صاروا مدمنين على متابعة الأندية الغربية، بحيث يختفي الناس من الشوارع أحياناً لمشاهدة مباراة بين منتخب ريال مدريد وبرشلونة الإسبانيين. وحدث ولا حرج عن متابعة الدوري الانكليزي أو الإيطالي أو الفرنسي. لا شك أن فريقي البرازيل والأرجنتين وبقية الفرق الأمريكية اللاتينية تحظى بدورها بشعبية عارمة في كل أنحاء العالم، لكنها بدأت تقلد صناعة الكرة الغربية وتحولها إلى “بزنس” عملاق بعيداً عن شوارع الفقراء في ريو دي جانيرو وبوينس آيرس. وبالتالي آن الأوان لأن ننظر إلى هذه اللعبة نظرة جديدة بعيدة عن نظرتنا الرومانسية البروليتارية القديمة التي اتسمت بالسذاجة والبساطة والطوباوية.

لقد أصبحت كرة القدم اليوم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتطور الانساني اقتصادياً وصناعياً وتكنولوجياً، ولم تعد لعبة الفقراء المعزولة، أي أن التطور الرياضي العام صار يتقدم يداً بيد مع التقدم في بقية المجالات الأخرى، لهذا بدأنا نرى منذ عقود أن الفرق الفائزة ببطولات كأس العالم مثلاً هي فرق تابعة لدول متقدمة علمياً وتكنولوجياً وصناعياً واقتصادياً. وقد سيطر الأوروبيون على هذه اللعبة منذ أن حولوها إلى صناعة رياضية حقيقية كما فعلوا مع كل الرياضات والهوايات الأخرى، وصارت الفرق الأوروبية هي الأقوى والأكثر خبرة وأداء وبطولة في ملاعب العالم، لأن كرة القدم الغربية واكبت التطور العام في بقية المجالات.

قد يتساءل البعض، لماذا لم تتفوق أمريكا في لعبة كرة القدم مع أنها الأقوى تكنولوجياً واقتصادياً ومالياً وعلميا وعسكرياً؟ ولماذا ننظر بعين الشفقة إلى المنتخب الأمريكي الذي يشارك في البطولات الدولية؟ والجواب على ذلك أن أمريكا لديها لعبة كرة قدم خاصة بها، وهي متقدمة ومتطورة وتعتبر صناعة رياضية بحد ذاتها تنافس كرة القدم العالمية بامتياز لكن على الصعيد الداخلي. وكذلك أيضاً هناك لعبة البيسبول والسلة الأمريكيتان اللتان تحظيان بشعبية وانتشار وقوة رهيبة على الساحة الأمريكية، وهما تدران على الأندية مليارات الدولارات لأنها أصبحت صناعة بحد ذاتها.

وماذا عن البرازيل والأرجنتين البلدين الأمريكيين اللاتينيين اللذين ينتميان عملياً إلى العالم الثالث؟ لماذا تطورت فيهما كرة القدم وأصبحت تنافس عالمياً مع الكبار، مع أن دول أمريكا اللاتينية محسوبة على نادي الفقراء والمتخلفين؟ الجواب بسيط، فالبرازيل مثلاً لم تعد محسوبة على الفقراء حتى لو كانت فيها نسبة فقر كبيرة، ولا الأرجنتين أيضاً. لمن لا يعلم، البرازيل صارت تتطور وتتقدم وتنافس على مستوى عالمي في كل المجالات، فلا تنسوا أن البرازيل قبل سنوات تقدمت على بريطانيا في إجمالي الناتج القومي، وصارت من القوى الست الأولى في العالم اقتصادياً، ولا ننسى أن صناعة السلاح تطورت بشكل رهيب في البرازيل جنباً إلى جنب مع الصناعات الأخرى، لتصبح البرازيل واحدة من أقوى عشرة اقتصاديات في العالم. هل تعلمون أيضاً أن الأرجنتين غدت عضواً في مجموعة العشرين التي تضم أقوى عشرين اقتصاداً في العالم؟ ولا ننسى أيضاً أن المكسيك التي قد يعتقد البعض أنها من العالم النامي أصبحت بدورها من مجموعة العشرين، أي أنها غدت في طليعة القوى التي باتت تقود العالم اقتصادياً وصناعياً، وبالتالي نستطيع أن نؤكد أن التطور الرياضي يمشي يداً بيد مع التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي.

 قد يسأل البعض أيضاً: لماذا لا تحتل الصين مرتبة متقدمة في مجال كرة القدم العالمية؟ والجواب، نعم صحيح أن الصين لم تشارك في كأس العالم سوى مرة واحدة، لكنها اليوم تشتري الكثير من الأندية الأوروبية وتستثمر المليارات للنهوض بلعبة كرة القدم وقد تحل محل بعض بلدان أمريكا اللاتينية كمنافس كروي لأوروبا. ولا ننسى أن الصين تفوز عادة بعدد هائل من الميداليات الذهبية في الألعاب الأولمبية، وهذا يؤكد أن التقدم الرياضي في الصين لا ينفصل عن التقدم العام في البلاد.

وأخيراً نقول للذين يشجعون منتخبات كرة القدم على أساس بروليتاري رومانسي عاطفي من منظور ماركسي سخيف، عليكم أن تعيدوا النظر في تشجيعكم، فمن السخف أن تشجع فريقاً هزيلاً بائساً ينتمي إلى بلد متخلف على كل الأصعدة وتظن أنه سيتفوق على فريق أوروبي هو بالنتيجة ثمرة تطور بشري عظيم على كل الأصعدة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية الأخرى. لطالما شجعنا الفرق المستضعفة في كأس العالم لعلها تفوز على الفرق المتقدمة، وهذا طبعاً شعور عاطفي صبياني سخيف، فكيف تتوقع من فريق قادم من بلد ديكتاتوري كسوريا مثلاً يدار بعقلية عسكرية قميئة متخلفة، رجعية بائسة وقذرة، أن ينافس فريقاً قادماً من بلد متطور ومتقدم على كل المستويات؟ أليس من السخف أن تصفق لفريق مستضعف تعرف أن فرص فوزه صفر؟

أخيراً، كرة القدم أو أي رياضة أخرى يا سادة ليست مجرد لعبة بشرية، بل هي تجسيد لكل أنواع التطور البشري على كل الصعد.

 

 

 

فطرة الشعوب تهزم “قذارة”

الإعلام والسياسة في كأس العالم؟

د. فيصل القاسم

 

على الرغم من أن لعبة كرة القدم تحمل في طياتها الكثير من متفجرات السياسة، وعلى الرغم من أنها قد تكون في أحيان كثيرة مناسبة سياسية بامتياز إضافة إلى كونها مناسبة رياضية، إلا أن الشعوب “لو أرادت”، تستطيع رغم كل قذارات السياسة والإعلام، أن تحافظ على الميزة الأساسية للمناسبات الكروية الكبرى كبطولة كأس العالم وغيرها من البطولات الرياضية، ألا وهي التلاقي الحضاري بين الشعوب وإزالة الكثير من الانقسامات والخرافات الاصطناعية التي صنعتها قوى الشر والاستعمار لتكريس الضغائن والأحقاد بين الأمم خدمة لمصلحة المستعمرين والقوى الشيطانية التي تتحكم بشعوب المعمورة.
تعالوا ننظر إلى النسخة الحالية لبطولة كأس العالم في قطر وما رافقها من ضجة إعلامية وثقافية أثارها بعض الفرق الغربية للتشويش على البطولة في دولة قطر، وإثارة نعرات ثقافية وحضارية وسياسية لتعكير صفو البطولة والنيل من الدولة المضيفة والثقافة التي تنتمي إليها.
صحيح أن بعض المنتخبات جاءت محملة بأحقاد تاريخية غلفتها بشعارات خاصة، كشعار حرية الدفاع عن المثليين، كما فعل المنتخب الألماني وغيره من المنتخبات الأوروبية. ولا ننسى الزوابع الإعلامية التي أثارها بعض وسائل الإعلام الغربية العملاقة قبل انطلاق بطولة كأس العالم في دولة قطر أيضاً للتشويش على البطولة وإفشالها إعلامياً ورياضياً وثقافياً لغايات في نفس يعقوب. وكلنا تابع حملة التعكير المغرضة التي حاولت أن تحرف الأنظار عن البطولة وتركيز الأضواء على قضايا أخرى كحقوق المثليين ووضع العمال في الخليج، ما حدا برئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) إلى التصدي بفروسية عز نظيرها للحملات الإعلامية الغربية وفندها تاريخياً بالأرقام والوقائع والبراهين. ولا شك أنه كان مؤسفاً جداً أن وسائل الإعلام البريطانية تجاهلت حتى افتتاح بطولة كأس العالم في دولة قطر في محاولة واضحة للنيل من البطولة العالمية.
لكن على الرغم من شراسة الحملة الإعلامية التشويشية على كأس العالم ومحاولة شيطنة الدولة المضيفة، أو لنقل الثقافة العربية والإسلامية التي تنتمي إليها، إلا أن الحملة فشلت تماماً، مع أن التي قادتها أوروبياً كانت وسائل إعلام عملاقة، كما دخلت على خطها شخصيات سياسية بارزة من الدول الأوروبية كوزيرة الداخلية الألمانية التي اخترقت كل القوانين والأعراف الدولية، ودخلت إلى الملعب الذي شهد مباراة الفريق الألماني الأولى، وهي ترتدي تحت معطفها شعار المثلية بطريقة لا تليق بها ولا بالدولة التي تنتمي إليها. وعندما جلست على مقعدها خلعت معطفها لتظهر الشعار بصفاقة عز نظيرها، مع أن الوزيرة من المفروض أنها تمثل الحفاظ على القانون كونها وزيرة داخلية، وليست وزيرة شؤون المثليين. ماذا جنت الوزيرة وفريقها جماهيرياً غير الخيبة والازدراء حتى من الكثير من اللاعبين الألمان وملايين المتفرجين الذين جاءوا من كل أصقاع العالم لمشاهدات مباريات البطولة.
لقد نجت الشعوب هذه المرة في إفشال الحملات الإعلامية والسياسة التي رافقت البطولة، وتحولت شوارع دولة قطر وملاعبها وساحاتها وميادينها وحدائقها ومطاعمها وأسواقها إلى مهرجان عالمي بامتياز انصهرت فيها حضارات الشعوب وثقافاتها وتلاقت بانسجام ووئام عز نظيره رغماً عن أنف القوى الشيطانية التي حاولت التشويش على البطولة وتعكير صفوها. وعندما تمشي على طول منطقة المارينا في مدينة اللؤلؤة القطرية مثلاً، ترى كل الجنسيات تتفاعل وتتلاقى وتستمتع بأجواء البطولة معاً بعيداً عن الحملات الإعلامية القذرة. ولو ذهبت إلى سوق “واقف” في الدوحة لرأيت الأمم المتحدة بأجمل صورها، مئات الألوف من البشر توافدوا على السوق الشهير واشتروا التذكارات وتذوقوا الأطعمة العربية والدولية. لقد تحول السوق إلى عرس حقيقي بكل المقاييس، بكل الأزياء والطقوس الدولية، وكانت الفرحة ترتسم على وجوه الجماهير، وكأنها تقول للذين حاولوا التشويش على البطولة: “أنت فين والحب فين”. نحن جئنا إلى هنا لنستمتع ونتلاقى بعيداً عن قذارات الإعلام والسياسة، وها نحن نملأ شوارع قطر وأسواقها ونزرع الوئام والانسجام بين الشعوب بعيداً عن مؤامراتكم التافهة. وقد قالها الإعلامي البريطاني الشهير بيرس مورغان في إحدى مقابلاته التلفزيونية بكل وضوح وتحد للحملات السياسية والإعلامية التي حاولت شيطنة البطولة والدولة المضيفة، قال للإعلام الغربي ما معناه: “أنتم في واد والبطولة والجماهير في الدوحة في واد آخر. الناس هنا جاءت لتستمتع بكرة القدم وتتلاقى ثقافياً وحضارياً، وهي تفعل ذلك بامتياز، ولم تسمع حتى عن ألاعيبكم وحملاتكم التخريبية التي استهدفت البطولة. لهذا العبوا غيرها”. وقد شارك حتى لاعبون ألمان كثر الإعلامي البريطاني رأيه، واعترفت رئيسة الدوري الألماني بعظمة لسانها بأن الحملات التي رافقت البطولة لم تكن مناسبة، كما اعترفت أيضاً بأن العديد من أفراد المنتخب الألماني كانوا يرفضون تحويل البطولة إلى مناسبة لصراع حضاري بين الغرب والدولة المضيفة.

صحيح أنه مهما حاولت الشعوب والثقافات والأديان الانفتاح على بعضها بعضا والتلاقي في مناسبات جماهيرية وثقافية واجتماعية، ستواجه صعوبات في تكريس الوئام والانسجام في ما بينها، نظراً للدور الرهيب الذي تمارسه وسائل الإعلام العملاقة ومالكوها الكبار، إلا أن الشعوب أثبتت في بطولة كأس العالم الحالية بأنها تفوقت على الحملات الإعلامية التخريبية وتجاوزت أفخاخ السياسة والإعلام بنجاح منقطع النظير وحولت البطولة إلى مناسبة تلاقح حضاري وثقافي عالمية بامتياز.

 

 

كرة القدم رياضة

أم سياسة مفضوحة؟

د. فيصل القاسم

 

من بين كل الرياضات في العالم تتميز لعبة كرة القدم بأنها تحمل في حركاتها وركلاتها ومناوراتها وطقوسها وعواطفها ومشاعرها وأجوائها أكبر مخزون من المتفجرات والمكونات السياسية. المؤسسات الرياضية وعلى رأسها الفيفا تحاول جاهدة تقديم اللعبة للعالم على أنها مادة للاستمتاع والانبساط والتلاقي الإنساني، وتحاول كل ما بوسعها إبعاد السياسة والدين عن بطولات كرة القدم المحلية والإقليمية والعالمية، لكنها بالتأكيد تفشل فشلاً ذريعاً، لأن اللعبة مصممة أصلاً بشكل سياسي لا تخطئه عين، وخاصة في البطولات الإقليمية والدولية التي تتحول في الغالب إلى حروب سياسية، وتنتقل معها الصراعات والأحقاد والخلافات إلى ملاعب كرة القدم والمدرجات وجماهير المشجعين، وفي بعض الأحيان تتحول المباريات إلى ساحة وغى، ويصبح العنف المتبادل سيد الموقف، ليس فقط بسبب خسارة أو فوز هذا الفريق أو ذاك، بل تعبيراً عن مكنونات ومواقف سياسية مفضوحة. ويرى بول أوستر أن «البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، والمفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها، غير أن الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيّم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة.»
حتى أعمال الشغب التي تحدث أحياناً، فهي ليست دائما نتيجة احتساء المشجعين الكثير من الكحول وفقدان عقولهم، بل تصريفاً لمشاعر سياسية. وقد شاهدنا كيف تصرفت بعض الجماهير العربية التي تساند منتخباتها الوطنية بعد فوز فريقها، شاهدنا كيف تصرفت في شوارع بعض الدول الأوروبية بطريقة عنيفة وكأنها تترجم موقفها السياسي من الفريق الخاسر والبلد الذي ينتمي إليه في الشوارع هذه المرة. وكأنها تقول: انتصرنا عليكم رياضياً وسننتصر عليكم سياسياً وثقافياً.
ولطالما انتقلت الصراعات السياسية بعد المباريات إلى صفوف المشجعين خارج الملاعب صراخاً وهجوماً وعنفاً وضرباً وتكسيراً للكؤوس والرؤوس، لأن الكرة تستفز أعمق ما في النفس البشرية من أحقاد وصراعات ومشاعر سياسية جياشة. وتمتاز كرة القدم عن غيرها بأنها تفجر تلك الأحاسيس السياسية المدفونة لدى الجميع. أوليست الهجمة الإعلامية الغربية على قطر وهي تستضيف بطولة كأس العالم موقفاً سياسياً بامتياز؟ ألم يغلف الأوروبيون مواقفهم وأحقادهم السياسية بحملات دعائية مفضوحة؟ ألم تكن محاولة بعض الفرق الأوروبية ارتداء بعض الشعارات التي تمثل بعض الجماعات تعبيراً عن موقف سياسي؟ ألم يكن ارتداء وزيرة الداخلية الألمانية أحد الشعارات على ذراعها أثناء مشاهدة مباراة بلادها مع اليابان في الدوحة موقفاً سياسياً مفضوحاً واستغلالاً وتسييساً مكشوفاً لكرة القدم؟
بالمقابل رد ناشطون وسياسيون عرب بارتداء شارات عليها رموز فلسطينية.
ولا ننسى أن الكثير من المشجعين يستغلون المناسبات الرياضية وخاصة المباريات الكبرى للتعبير عن مواقفهم السياسية، فتجد المعارضين لهذا النظام أو ذاك مثلاً يحملون شعاراتهم وأعلامهم الخاصة، لا بل إن بعضهم لا يتردد في التشويش على ترديد النشيد الوطني الذي يعتبرونه ممثلاً للنظام الذي يعارضونه، كما فعل مثلاً بعض المعارضين الإيرانيين أثناء مباراة إيران مع إنكلترا. وقد شاهدنا الضجة التي رافقت امتناع المنتخب الإيراني عن ترديد النشيد الوطني الإيراني عندما عُزف قبل المباراة، وقد اعتبره البعض موقفاً سياسياً ضد النظام الحاكم ودعماً واضحاً للانتفاضة الشعبية التي تشهدها إيران اليوم ضد حكم الملالي.

تتميز لعبة كرة القدم بأنها تحمل في حركاتها وركلاتها ومناوراتها وطقوسها وعواطفها ومشاعرها وأجوائها أكبر مخزون من المتفجرات والمكونات السياسية

ولا شك أنكم شاهدتم ردود فعل الجماهير وحتى الإعلام والرأي العام في بلد ما عندما يفوز فريقه على بلد آخر على خلاف معه، فيتحول الفوز في أرض الملاعب إلى فوز سياسي بامتياز، ويشعر المنتصر بأنه سحق غريمه سياسياً، كما يشعر الخاسر بأن خسارته على أرض الملعب هي خسارة سياسة وطنية كبرى.
والمضحك في كرة القدم أن القائمين عليها يتناسون وهم يدعون الشعوب إلى الاستمتاع بها وإبعادها عن السياسة والصراعات، يتناسون أن اللعبة تعبير صارخ في كل مظاهرها عن الألاعيب والطقوس السياسية أصلاً، ففي المدرجات يتواجه مشجعو الفريقين وكل فريق يرتدي أزياء بلده الوطنية ويبالغ في إظهارها والتباهي بها بشكل مثير وحتى مستفز أحياناً للتأكيد على وطنيته وبالتالي تعزيز توجهاته الوطنية السياسية في مواجهة الفريق الآخر.
وشاهدنا كيف حاول بعض المشجعين الأوروبيين دخول الملعب وهم يرتدون أزياء الصليبيين في بلد مسلم. وتظهر أعلام البلدان المتبارية في المدرجات بشكل فاقع لتكريس روح الصراع والمبارزة السياسية قبل الرياضية.
ولا ننسى الهتافات الحماسية التي تشبه الهتافات والأناشيد الوطنية قبل الحروب. ولا شك أن الجماهير في المدرجات يتدفق الدم في عروقها كالبحر الهادر أثناء ترديد النشيد الوطني أو الشعارات الوطنية المحشوة بالبارود السياسي.
وحتى المشاهد أو المتابع العادي لبطولات كرة القدم وخاصة العالمية منها يشاهد المباريات عادة بموقف سياسي مسبق، فلطالما شجعنا ومازلنا نشجع المنتخبات على أساس سياسي وليس رياضيا، وهو أمر يحدث عادة في بطولة كأس العالم، فهناك الكثيرون الذين يقررون دعم هذا الفريق أو ذاك أثناء المشاهدة حسب توجهاتهم ومواقفهم السياسية المتقلبة، فلو زعلوا من سياسات بلد ما مثلاً تجدهم يشجعون أي فريق آخر يلعب ضد فريق البلد الذي يكرهونه، كما حصل بين فريقي إسبانيا وألمانيا حيث شجع معظم العرب الفريق الإسباني نكاية بالفريق الألماني الذي استفز مشاعرهم بارتداء شعارات المثلية. لكن الجمهور العربي نفسه كان من قبل قد شجع الفريق الألماني تقديراً لألمانيا على استضافة اللاجئين السوريين. وهكذا.
وغالباً ما نشجع فرقاً على أساس قومي أو ديني أو سياسي. وأحياناً نميل إلى الفريق المستضعف ضد الفرق القوية من منطلق سياسي أيضاً. وكم من المرات شجعنا هذا المنتخب أو ذاك بناء على طبيعة العلاقات السياسية بين بلدنا وبلدان الفرق الأخرى. فلو كان نظامنا على علاقات طيبة مع بلد ما ترانا بشكل أوتوماتيكي نشجع فريق ذلك البلد، لأننا مُبرمجون سياسياً. وفي أحيان كثيرة يتوقف تشجيعنا أو عدم تشجيعنا لفرق كرة القدم بناء على توجهاتنا السياسية، فالماركسي يشجع أي فريق يلعب ضد الفرق التابعة للغرب لأنه اشتراكي كاره للأنظمة الرأسمالية، وهكذا دواليك. بعبارة أخرى فإن مشاعرنا ومواقفنا الرياضية مجبولة بخلفيات سياسية.
لا شك أن هناك مشجعين رياضيين بريئين ونظيفين في العالم يشجعون المنتخبات واللاعبين بناء على مهاراتهم الكروية، لكن نسبتهم ضئيلة كنسبة المشجعين الأوروبيين الذين يدخلون المدرجات بدون زجاجة كحول.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

لهذا السبب لا يرد بشار

على الاعتداءات الإسرائيلية

د. فيصل القاسم

 

ملوك الكوميديا والإضحاك اليوم هم أولئك الساسة الفاشلون الذين يشبهون دونكيشوت، ويمارسون أعلى أشكال التهريج السياسي والكوميديا الاستراتيجية لتبرير فشل وانهيار وإفلاس أنظمتهم واهترائها، وأحلى القفشات تأتيك اليوم ليس من صالات السينما والمسارح والمسلسلات التلفزيونية بل من السياسيين والمسؤولين السوريين تحديداً وهم يحاولون تبرير وترقيع سقوط نظامهم بالوحل وتحوله لـ«ملطشة» وفرجة دولية لـ«اللي يسوى واللي ما يسواش».
وإذا أردت فعلاً أن تضحك، و«تفرفش» و«تنعنش» و«تزهزه» وتنسى الدنيا وهمومك كلها، و«تمزمز» وتمضي أمتع الأوقات فانس شابلن وعادل إمام وغوار وهنيدي وتابع وزراء وأمناء فروع حزبية ومهرجين استراتيجيين وأبواق الإعلام السوري الشهيرين، ومسؤولي النظام الكبار وهم يجترحون الأعذار، ويختلقون الأسباب، ويدورون الزوايا، ويربّعون الدوائر لتجميل وتلميع الموقف المهين للنظام الفاشي العائلي المستبد وهو يتلقى الصفعات الإسرائيلية يومياً على «أم عينه»، كما يقول المصريون، دون أن يتجرأ على رفع رأسه أمام الجبروت والقوة الإسرائيلية، فيما يكتفي «الحليف الروسي»، الصديق وجنرالات حميميم بموقف المتفرج وهم يحتسون الفودكا ويتمتعون بمشهد الصواريخ الإسرائيلية وهي تتهاطل على الثكنات والمواقع العسكرية السورية مخلفة أفدح الخسائر المادية والبشرية، وأحدثها منذ أيام، فيما عرف بمجزرة مطار الشعيرات التي لم تستدع سوى بيان تقليدي ذليل وهزيل من الجانب السوري.
وتتوالى الضربات والصفعات والركلات الإسرائيلية اليومية على مواقع النظام الذليل الذي يكتفي بإرسال فرق الإنقاذ، والإطفائيات وتعداد الضحايا وإحصاء الخسائر، وكفى الله المقاومين شر الرد على العدوان، لكن، وبالمناسبة، والشيء بالشيء يذكر، فإن هذا الجانب المسالم والطيب والحنون والرقيق والانبطاحي مع إسرائيل، سرعان ما ينقلب للنقيض، ويتحول فيه النظام البهرزي الفاشي العائلي وجنرالاته وجيشه «الباصل» إلى ضوار وأسود ووحوش كاسرة وذئاب شرسة فيما لو فتح فقير جائع فمه يشكو جوعه وألمه وفقره فيقومون بقصفه بالبراميل وخطفه ليلاً من بين أفراد أسرته وجره لجهة مجهولة، حيث لا يعد يعلم به حتى الذباب الأزرق، ويختفي عن وجه الأرض كما حدث مع ملايين المعتقلين، وبعد أن يكون قد كتب منشوراً على مواقع التواصل الاجتماعي يشير فيه لسرقات «السلالات» المدللة الحاكمة من الأقرباء والأنسباء والخليلات والحيزبونات الغواني المحظيات والعصابات ونمور السلب والنهب واللهط الجدد من عصابة رأس النظام الحاكم وأقربائه محدثي النعمة الذين أطاحوا الإمبراطورية المالية المخلوفية وحلوا محلها بتواطؤ رأس النظام و«كوّشوا» حتى على حليب الأطفال وصار سلعة للتربح والابتزاز.

ملوك الكوميديا والإضحاك اليوم هم أولئك الساسة الفاشلون الذين يشبهون دونكيشوت، ويمارسون أعلى أشكال التهريج السياسي والكوميديا الاستراتيجية لتبرير فشل وانهيار وإفلاس أنظمتهم واهترائها

ومن أطرف التبريرات التي سيقت في تبرير و«ترقيع» عدم رد النظام الفاشي على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وقد تحول النظام هنا، ويا حرام، لحمامة سلام، وقط أليف، هو ما ورد على لسان فيصل المقداد، وزير خارجية بشار، في لقاء متلفز مع الإعلام العُماني، بالقول إن «العدو»، حسب تعبيره، يستغل مرور الطيران المدني، ويقوم بإطلاق الصواريخ من فوق، وتحت الطائرات المدنية، كي لا يتجرأ النظام على الرد، وهنا، فالنظام «الحنون» «الطيب» المسالم، لا يكذّب خبراً، ويحجم عن الرد على الصواريخ الإسرائيلية، ولا يسقطها، مخافة، أن يصيب صاروخ طائش وأحمق وغير مسؤول الطائرات المدنية التي تحلق بكثافة في الأجواء السورية، موحياً للمتابع، بأنه في مطار دبي، أو هيثرو، أو نيويورك.
وبالمناسبة، والشيء بالشيء يذكر، فلم يكن غزو الكويت ولا حروب الخليج ولا كل ما قيل عن تجاوزات صدام حسين، وراء القرار الدولي بإعدام صدام والثأر منه، بتلك الطريقة، قدر ما كان تجرؤه على قصف إسرائيل بعدة صواريخ بالستية، رغم أنها لم تحدث تلك الأضرار، وكانت رسالة إسرائيل، وكل من يقف وراء إعدامه، واضحة وهي بأن «اليد التي ستمتد على إسرائيل ستقطع»، وأنها خط أحمر، ويمنع إطلاق رصاصة واحدة صوبها، أما صوب شعوبكم وصدورهم العارية، فاطلقوا ما تشاؤون من الرصاص والنابالم وقنابل الغاز والكيماوي والبراميل والمتفجرات. وهذا هو فقط، ما يفسر إلى حد كبير استراتيجية الاحتفاظ بحق الرد الشهيرة التي تبناها ويتبعها النظام الأسدي، وهو الذي يوسوس بالبقاء، ولا يفكر إلا به، ويسعى للاحتفاظ بالحكم للأبد كما يقول ويورثه لأحفاد الأحفاد، وقد تعلـّم درس صدام جيداً وحفظه وتأدب، وحرّم الاقتراب من إسرائيل، لا بل يصدر الفرمانات العسكرية بمنع التصدي للطيران الإسرائيلي وقتل الجنود الإسرائيليين والحفاظ على حياتهم، والاكتفاء بإرسال رسالتين متطابقتين للأمم المتحدة، حول شجب واستنكار العدوان، فيما تضحك إسرائيل في عبـّها من هول وشدة وقسوة رد بشار الدبلوماسي المؤدب، وحقيقة هو هنا، وفي كل مرة، يظهر أدباً جماً مع الإسرائيليين، وعلى غير عادته البربرية، وهو المشهور بهمجيته والتوحش الشديد مع شعبه المنكوب الفقير، فأي طلقة تطلق في اتجاه إسرائيل ستعني حكماً حبل المشنقة حول رقبة رأس النظام الذيل التابع الذليل.
وطبعاً بشار رجل حصيف وذكي ولبيب، وإن اللبيب من الإشارة يفهم، وها قد وعى الدرس العراقي، ورأى بأم عينه ما حاق بصدام الذي قصف إسرائيل، وقد فهم الدرس، وأخذ العبرة، فصار يقول في خلده: «ما متنا، بس شفنا اللي ماتوا. فهل عرفتم الآن السبب الحقيقي لعدم الرد الأسدي على الاعتداءات الإسرائيلية، فلا تستغربوا ولا تدهشوا وقد قالت العرب: إذا عرف السبب بطل العجب.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

لماذا فشل العملاق

الأمريكي في كرة القدم؟

د. فيصل القاسم

 

أعرف الكثير من الناس، وخاصة المسيسين منهم، الذين كانوا يشجعون فرق كرة القدم على أساس ماركسي لا رياضي، فهم غالباً ما كانوا يصفقون للفرق المستضعفة، على اعتبار أنها مثلهم تنتمي إلى البروليتاريا، وظللت أنا شخصياً أشجع “الحصان الأسود” في ما بعد، خاصة أنني أنظر إلى كل صراع، بما فيه المسابقات الرياضية من منظور طبقي. وللمفارقة الكبرى، أنني، حتى عندما يكون الفريق الرياضي منتمياً إلى بلد غربي قوي، لكنه ضعيف في مواجهة الفرق الأخرى، كنت أشجعه طبقياً، على اعتبار أنه كما يقولون في الإنكليزية (الكلب المستضعف) أو بالأحرى البروليتاري من حيث القوة في مواجهة الفرق المستكبرة. لهذا السبب أتذكر أنني كنت دائماً أتضامن مع الفريق الأمريكي وأشجعه بحرارة رغم أنه “امبريالي” فقط لأنه فريق من الطبقة المسحوقة رياضياً. والسؤال الذي يدور في أذهان الكثيرين اليوم مع اقتراب مباريات كأس العالم في دولة قطر: لماذا تتصدر أمريكا قيادة العالم في السياسة والاقتصاد والسلاح والإعلام والثقافة، لكنها تبقى قزماً في مجال كرة القدم يدعو الكثيرين للتعاطف مع فريقها المسكين في المباريات العالمية كما فعلت أنا؟
تتنوع الحجج التي تبرر ضعف لعبة كرة القدم في بلاد العم سام، وأولها طبعاً أن لدى أمريكا لعبة خاصة بها وتحظى بشعبية عارمة داخل الولايات الأمريكية، ألا وهي “البيسبول”، كما أن لكرة السلة في أمريكا شعبية كبرى أيضاً تغطي على لعبة كرة القدم وتجعل منها لعبة ثانوية في نظر الأمريكيين. ورغم أن الدوري الأمريكي استقطب يوماً بعض الأسماء الرنانة في عالم الكرة، مثل اللاعب الإنكليزي ديفيد بيكهام والسويدي زلاتان إبراهيموفيتش، لكن لا تزال كرة القدم لا تحظى بشعبية كبيرة في أمريكا. ويرى البعض أن الأمريكيين مهووسون دائماً بالأرقام الكبيرة، حيث يسجل أقل فريق في كرة السلة سبعاً وتسعين نقطة، بينما في كرة القدم لا يتجاوز عدد الأهداف واحداً أو اثنين وفي أحسن الحالات من ثلاثة إلى خمسة، ويتساءل بعضهم: هل يعقل أن نخسر ساعتين من وقتنا كي نشاهد مباراة لا يسجل فيها اللاعبون سوى هدفين أو أقل؟
وحسب موقع “سبورت 360” يبرر بعض الأمريكيين عدم شغفهم بكرة القدم بأنها لعبة تفتقر إلى العدالة، فهم يقولون إن كرة القدم هو المكان الذي يموت فيه العدل، ولو نظرنا لبعض الأمثلة فسنجد أنها قد تكون فعلاً معطلة لعنصر العدالة وجمالية الإنصاف. ويرى الأمريكان أن نتيجة أي مباراة في كرة القدم قد لا تعكس الوجه الحقيقي لمجريات تلك المباراة، فبهدف واحد قد يقضي أي فريق عادي على آمال الفريق المجتهد الذي يسيطر على مجريات اللعبة.
وقد يكون للحكم تأثير كبير في نتيجة المباراة، فقد تفوته حالة تسلل أو يقوم باحتساب ركلة جزاء خاطئة فيقلب نتيجة مباراة كاملة، وربما بطولة. ويتحدث الأمريكان عن رقم مهم هنا، وهو أن نسبة كبيرة من مجمل أهداف بطولات كأس العالم أتت من ركلات جزاء، أي أن ركلة جزاء تحسم نتيجة أو تأهل، وهذا ليس عدلاً.
وفي المباريات الإقصائية لا يفوز الأفضل دائماً، فقد يكون أحد الفريقين الأفضل طوال مجريات المباراة مقابل فريق آخر مدافع يحاول الوصول إلى ركلات الترجيح، وبالفعل قد يصل إلى مبتغاه وهو يملك القدرة الفنية الكبيرة في تنفيذ ركلات الترجيح ليفوز الفريق المدافع والذي لا يستحقها، ويخرج الفريق المجتهد ويذهب طي النسيان في صفحات التاريخ، وهذا أيضاً ظلم كبير.
لهذا يجب أن تدخل تقنية إعادة مشاهدة الفيديو (فار) في حسابات الحكم للتأكيد على صحة حتى ركلات الجزاء، ويجب أن تكون هنالك درجات في احتساب ركلة الجزاء خلال المباراة، فليس كل لمسة يد تعني ركلة جزاء، وليس كل عرقلة تمثل ركلة جزاء. وهنا نستذكر هدف مارادونا الشهير المثير للجدل في شباك إنكلترا عام 1986، هل كان ليحسب مثلاً لو كانت هناك تقنية “فار”؟
وبناء على ذلك يقترح الأمريكان إلغاء الركلات الترجيحية من قاموس المباريات الإقصائية في كرة القدم، وأن يكون البديل أشواطٌ إضافية فقط، في كل شوط إضافي يخرج لاعب من كل فريق، ففي الشوط الإضافي الأول تصبح المباراة عشرة لعشرة، وفي الشوط الإضافي الثاني تصبح تسعة لتسعة ثم ثمانية لثمانية وهكذا، حتى يتفوق فريق على آخر باللياقة البدنية العالية.

ولدى الأمريكيين أيضاً اعتراض كبير على بطاقات العقوبة في كرة القدم، وهم يطالبون بوضع قانون ينص على خروج اللاعب لمدة خمس إلى عشر دقائق عند تلقيه البطاقة الصفراء كما في لعبة الهوكي، وذلك سيعطي إمكانية أكبر لتسجيل الأهداف ورفع مستوى الإثارة، إضافة إلى الحد من نسبة التمثيل من قبل اللاعبين خوفاً من الخروج مؤقتاً من الملعب. وفي حالة البطاقة الحمراء يجب على الحكم استخدام الإعادة التليفزيونية كما في ركلات الجزاء، وذلك يعطي مزيداً من طابع العدل المفقود.

وهناك ثلاثة أمور أساسية يعتقد الأمريكان أن تواجدها سيعطي اللعبة طعماً آخر. ألا تتوقف اللعبة عند وقوع أحد اللاعبين بسبب الإصابة (إلا إذا كانت خطيرة جداً) ويستمر اللعب بشكل طبيعي. وفي حال توقف اللعب عند الإصابة، يجب على الحكم إيقاف ساعة المباراة كما في الألعاب الأخرى، وهذا يضمن عدم التلاعب بالوقت الإضافي أو عدم ضياع الوقت على الفريق الذي يستحقه. وإذا اضطر اللاعب أن يخرج على النقالة، فيجب ألا يعود للملعب ثانيةً، ويتم استبداله، وهذا هو العدل.

هل تصدقون أن هذه التبريرات الأمريكية هي فعلاً وراء تخلف كرة القدم في أمريكا، أم إن الأمريكيين قد فشلوا في دخول هذا المضمار العالمي، وهم يحاولون التستر على هزيمتهم بأعذار واهية، وأن البروليتاريا في لعبة الفقراء قد انتصرت على البرجوازية؟

 

 

سؤال إنساني (للآلهة)

الذين يديرون العالم

د. فيصل القاسم

 

عندما تتحدث عن عصابات صغيرة جداً تتحكم بمقدرات العالم المالية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والنفسية وتتصرف كما لو أنها آلهة، يظهر لك البعض ليتهمك بأنك من «بتوع» نظرية المؤامرة. لا عزيزي، عندما تشغّل عقلك جيداً تستطيع بسهولة أن ترى بوضوح أكثر. قد تتساءل: أين المؤامرة إذا كانت الدول الكبرى نفسها وقعت ضحية للعديد ممن يسميه البعض مؤامرات، فماذا استفادت الدول مثلاً من ظهور هذا الوباء أو ذاك؟ ألم تخسر ترليونات الدولارات؟ ألم تتعثر صناعاتها وميزانياتها واقتصادياتها؟ ألم تقع شعوبها فريسة للفقر والغلاء والمجاعة؟ الجواب نعم صحيح، فليس هناك رابحون واضحون أبداً، فالكل يبدو خاسراً، دولاً وشركات وشعوباً. لكن هذا لا يعني مطلقاً أن الذين يديرون العالم بعقلية الإله هي الدول الكبرى أو الصغرى، لا أبداً، بل هناك جماعات وأفراد خارج الدول تستغل الدول نفسها لتحقيق مشاريعها وأطماعها.
ولعلنا نتذكر الأزمة العقارية التي ضربت العالم في عام ألفين وثمانية، والتي ألحقت الضرر بالدول الكبرى قبل الصغرى. بالطبع لا يمكن اتهام الكبار بتلك الضربة، لا سيما وأنهم كانوا أكبر المتضررين منها. وهنا يبرز السؤال: من الذي يقف وراء تلك الأزمة الكارثية التي هزت العالم؟ الجواب ظهر في فيلم بعنوان «القصة من الداخل» ألقى الضوء على العصابة التي تقف وراء تلك الكارثة، لكن الفيلم اختفى من التداول بقدرة قادر بسرعة البرق. مع ذلك عرفنا وقتها أن هناك جماعات صغيرة نافذة وقوية للغاية قادرة على اللعب حتى بالدول الكبرى من أجل مصالحها الخاصة. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نضع إشارات استفهام على الأحداث الكبرى التي تضرب العالم منذ ذلك الحين، طالما أن المتضرر منها كل الدول والشعوب؟ لماذا لا نسأل عمن يقف وراء هذه الكارثة أو تلك؟ ماذا تريد تلك الجماعات ولماذا تفعل كل ذلك بالعالم؟ ما هي أهدافها؟ لماذا تتصرف كما لو أنها قوة إلهية؟
وأول سؤال إنساني بسيط، وربما ساذج، أريد أن أوجهه لتلك القوى والأفراد الذين يتلاعبون بالمعمورة كما لو كانت كرة قدم: هل تعتقدون فعلاً أنكم آلهة؟ ألا تأكلون وتشربون مثلنا؟ ألا تمرضون مثلنا؟ ألا تموتون مثلنا مهما أكلتم وشربتم وأخذتم من المقويات والأدوية السحرية؟ ماذا تفعلون بالترليونات التي تكدسونها من وراء هذه الكارثة العالمية أو تلك؟ هل ستأخذونها معكم إلى القبور؟ بالطبع لا، ولا شك أنكم قرأتم حكاية الاسكندر المقدوني الذي أمر أن يُخرجوا له يده من الكفن أثناء تشييعه كي يقول للعالم: أنا الاسكندر الكبير الذي فتح العالم، ها أنا أخرج من الدنيا خالي الوفاض، لا شيء بيدي غير الهواء الذي يمر بين أصابعي.

يشعر الكثير من أولئك الكبار بحزن وأسى عندما يجمعون ثروات طائلة ويصبحون قادرين على التحكم بالبشرية ثم يجدون أنفسهم فجأة ضحية للتقدم في العمر وأمراضه ومنغصاته

ماذا تستفيدون من إخضاع البشر والتلاعب بلقمة عيشهم مثلاً وتجويعهم وتشريدهم والتنكيل بهم على طريقة جهنم؟ من أعطاكم التفويض لتحددوا عدد المواليد في العالم؟ من فوضكم كي تقضوا على مليارات البشر بالفيروسات والأمراض والحروب؟ وماذا تستفيدون أنتم إذا أصبح عدد سكان العالم ملياراً ذهبياً بدل سبعة إذا كنتم ستغادرون هذا العالم عاجلاً أو آجلاً؟ هل أنتم مفوضون من الله عز وجل لمحاسبة البشرية ومعاقبتها؟ كيف تفكرون؟ ما هي عقولكم؟ أرجوكم أخبرونا كيف تنظرون للعالم؟ وما الذي يجعلكم تتصرفون بهذه الطريقة الشيطانية المريعة مع أبناء جلدتكم من مليارات البشر؟ هل تعتقدون أن لديكم قوة وعقلية إلهية، أم إنكم تمتلكون فقط عقلية الشياطين القذرة بامتياز؟
لا شك أننا نعلم مثلاً أن أصحاب المليارات القلائل الذين يلعبون بمصير البشر ينفقون منذ سنوات المليارات على البحوث لتطويل أعمارهم لمئات السنين، وفعلاً هناك شخصيات كبرى تمول مشاريع بحثية لجعلها تعيش فترة أطول بكثير من أعمارنا العادية. ويشعر الكثير من أولئك الكبار بحزن وأسى كبير عندما يجمعون ثروات طائلة ويصبحون قادرين على التحكم بالبشرية ثم يجدون أنفسهم فجأة ضحية للتقدم في العمر وأمراضه ومنغصاته، لهذا بدأوا يعملون على إيجاد طرق شيطانية لتجديد الخلايا وإطالة الأعمار. لكن حتى لو نجحوا في ذلك، فلن يعيشوا للأبد، ولن يكونوا آلهة، وسيكون مصيرهم كمصير أي إنسان عادي يقف بين يدي الله إذا كانوا يؤمنون بيوم الحساب. وحتى لو لم يؤمنوا بذلك، فإن نهايتهم بكل الأحول ستكون كنهاية أي جسد بشري بعد الموت، التحلل ومن ثم التراب. فلماذا إذاً التصرف بهذه الطريقة الفوقية مع العالم؟
ماذا تستفيدون مثلاً إذا سيطرتم على عقول البشر من خلال امبراطورياتكم الإعلامية من صحف ومجلات وإذاعات وتلفزيونات ومواقع تواصل وانترنت وغيرها؟ ربما ستستمتعون بالتحكم بتفكير الشعوب لساعات وأيام وحتى عقود، ولكن ماذا بعد أن تخرجوا من الدنيا؟ بماذا تفيدكم كل خزعبلات التحكم والقيادة والهيمنة والجبروت الزائل؟ لماذا لم تفكروا مثلاً باستغلال منتوجاتكم التاريخية في الإعلام والاقتصاد والتكنولوجيا لخدمة الإنسان بدل استغلالها في إيذائه بالحروب والمجاعات والفقر والتنكيل وغسل الأدمغة والتلاعب بالعقول؟
ربما تضحكون من أسئلتي الإنسانية الساذجة هذه. وأنا أقول لكم: اضحكوا كما تشاؤون، لكنكم مهما سيطرتم وتجبرتم وتفوقتم وتلاعبتم بالبشرية، فمصيركم كمصير أي مخلوق بائس في أدغال البلدان المسحوقة، فتمتعكم بإنجازاتكم التاريخية سينتهي بانتهاء آخر نفس لكم، ولن يكون مصير أجسادكم أفضل من مصير جسد أي إنسان معدم تلاعبتم بلقمة عيشه وعذبتموه بالأمراض، والفقر والمجاعة والفيروسات.
هل سمعتم ببيت أبي العلاء المعري الشهير أيها الأوباش:
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيم
الأرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

 

 

 

كفاكم تطبيلاً وتزميراً

للمستعمرين الجدد!

د. فيصل القاسم

ليس لدينا أدنى شك بأن أمريكا نفسها قامت على جماجم أكثر من مائة وثمانية مليون هندي أحمر، ولا داعي لسرد الحروب والغزوات التي شنتها أمريكا على بلدان عدة وأسقطت حكوماتها ونهبت ثرواتها، وآخرها طبعاً أفغانستان والعراق. ولا ننكر أيضاً أن النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي بقيادة أمريكا لم يكن مطلقاً نظاماً عادلاً، بل كان ومازال نظام هيمنة وجبروت وتسلط بامتياز. ولا يمكننا أيضاً أن ننسى التاريخ الأوروبي الاستعماري وما فعله بالعالم الثالث لعقود وعقود. هذه أصبحت بديهيات للجميع، ولا يتناطح فيها عنزان. لكن هل يا ترى تحاول روسيا من خلال تصديها للغرب بناء نظام دولي جديد لتحقيق العدالة في العالم وردع الكاوبوي الأمريكي؟ أم أنها تنافسه على أشلاء المعمورة وثروات شعوبها لا أكثر ولا أقل؟ لماذا يحاول بعض القومجية العرب ومن لف لفهم أن يصوروا الغزو الروسي لأوكرانيا على أنه خطوة مباركة لإعادة التوازن للنظام الدولي ووضع حد للتسلط الأمريكي على العالم؟
هل يمكن أن تنتقم من الغزو الأمريكي للعراق مثلاً بغزو أوكرانيا وتهجير عشرة ملايين من سكانها وتدمير مدنها والاستحواذ على خيراتها وثرواتها؟ ما الفرق إذاً بين الغزو الأمريكي للعراق والغزو الروسي لأوكرانيا؟ أمريكا دمرت البنية التحتية في العراق، وقتلت وشردت ملايين العراقيين، ووضعت يدها على ثروات البلاد، وهذا صحيح، لكن ألم تفعل روسيا الشيء نفسه في أوكرانيا وبنفس الوحشية والبشاعة؟ ماذا يستفيد ضحايا الغزو الأمريكي للعراق من التنكيل الروسي بالشعب الأوكراني وتدمير وطنه وتشريده بالملايين؟ هل خطيئتان تصنعان صواباً؟ بالطبع لا.

ألا يقتضي المنطق الإنساني أن يتعاطف العرب الذين عانوا ومازالوا يعانون شتى أنواع الاحتلالات والغزوات مع الشعب الأوكراني بغض النظر عن أي شيء آخر؟

وكي لا ننسى، ألم يقم الاتحاد السوفياتي سلف روسيا اليوم بغزو أفغانستان عام 1979 قبل أن تغزوها أمريكا لاحقاً؟ ألم تكن نتيجة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان كارثية بكل المقاييس؟ كلنا اليوم يتحدث عن ملايين العراقيين الذين قتلتهم وشردتهم وعذبتهم أمريكا، وهذه حقيقة، لكن لماذا ننسى أن السوفيات شردوا بعد غزوهم لأفغانستان أكثر من خمسة ملايين أفغاني، وقتلوا أكثر من مليون شخص؟ لماذا لا نسمع عن هذه الإحصائيات في الإعلام العربي وحتى الإسلامي؟ ألم تكن أفغانستان ضحية الوحشية السوفياتية قبل أن تقع تحت براثن الوحشية الأمريكية لاحقاً؟ هل الاحتلال الأمريكي لأفغانستان حرام بينما الاحتلال السوفياتي كان حلالاً زلالاً يا من تصفقون للوحشية الروسية في أوكرانيا اليوم؟
ولماذا تتناسون أيضاً أن الغزو الروسي لسوريا كان بضوء أخضر أمريكي وغربي بشهادة مسؤولين أوربيين وأمريكيين كبار، فقد اعترف أندرو أكسوم مساعد وزير الدفاع الأمريكي أمام الكونغرس أن الغزو الروسي لسوريا وما تلاه من قتل وتنكيل وتشريد للسوريين كان بالتنسيق مع أمريكا. وقد أقر رئيس وزراء فرنسا الأسبق دوفلبان بأن الغرب أخطأ خطأً فادحاً عندما أطلق أيدي الغزاة الروس في سوريا ليعيثوا فيها قتلاً وتدميراً وتخريباً ونهباً وسلباً. ثم جاء رئيس الوزراء اليوناني ليقول كلاماً مماثلاً ما معناه أنه لو لم يبارك الغرب الاحتلال الروسي لسوريا لما تشجع بوتين لفعل ما يفعله اليوم في أوكرانيا؟ بعبارة أخرى فإن الدب الروسي الذي يعلق بعض العرب عليه آمالهم لمواجهة الكاوبوي الأمريكي يتحالف مع الغزاة الأمريكيين هناك وهناك حسبما تقتضيه المصلحة، بدليل أنه بالرغم من الصراع بين الروس والأمريكيين في أوكرانيا، إلا أنهم في وئام وانسجام في سوريا لأن الطرفين مع إسرائيل تلتقي مصالحهم في تقسيم سوريا وتهجير شعبها والتحكم بنظامها.
لا شك أن بعض العرب سيجد لروسيا الأعذار لغزو أوكرانيا، ويعتبره حقاً مشروعاً لمواجهة الغرب بحجة أن الغرب يقترب من حدود روسيا. وهذه حجة سخيفة جداً لا تختلف عن حجج أمريكا الواهية التي غزت بموجبها العراق وأفغانستان أبداً.
ومما يحز في النفس أكثر أن بعض العرب الذين يصفقون للغزاة الروس في أوكرانيا يرزحون تحت احتلالات مشابهة. ماذا تستفيد القضية الفلسطينية إذا غزا الروسي أوكرانيا وأحرقها ونكل بشعبها وطرده خارج وطنه؟ أليس من العبث التصفيق للغزو الروسي لأوكرانيا وأنت تعاني من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والاحتلال الإيراني لأربع عواصم عربية بشهادة الملالي أنفسهم؟ ألا يقتضي المنطق الإنساني أن يتعاطف العرب الذين عانوا ومازالوا يعانون شتى أنواع الاحتلالات والغزوات مع الشعب الأوكراني بغض النظر عن أي شيء آخر؟
لماذا يعلق البعض آمالاً على المستعمر الصيني القادم؟ ألم يروا نتائج الاستعمار الصيني الجديد قبل فترة في سيرلانكا؟
ألم نكتشف أن كل الدول التي تساعدها الصين مرهونة للقروض الصينية وفي أي لحظة تعجز تلك البلدان عن تسديد ديونها للصين، تصبح بشكل أوتوماتيكي مستعمرات صينية كاملة الأوصاف. بدل الاستنجاد بوحش على آخر أيها العرب، حاولوا أن تخرجوا من حظيرة الاستعمار. ليس هناك مستعمر طيب ومستعمر شرير. ولا ينقذ النخاس من نخاس. كفاكم تطبيلاً وتزميراً للمستعمرين الجدد: «شهاب الدين أسوأ من أخيه». نعتذر عن كتابة العبارة الأصلية.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

(القدس العربي)

 
الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا