الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا

 

جواد بولس كاتب فلسطيني محامي  ناشط في مجال حقوق الانسان  (من كتاب البلاد)

 

مقالات سابقة

حاضرنا هو

تاريخنا فمن يصنعه؟

جواد بولس

 

ما زال الرأي السائد في أوساط المواطنين العرب في إسرائيل، يجزم بأن الصراع الدائر داخل المجتمع اليهودي لا يعنينا، نحن المواطنين الفلسطينيين، إلا كونه احترابا بين معسكرين يهوديين عدوّين لنا؛ ولذا، فمن المفضّل أن نبقى خارج حلباته وننتظر نهاياته التي ستكون حتما في صالحنا. هكذا تفترض وتتصرف أكثرية الجماهير العربية، وتمضي في ممارسة شؤون حياتها اليومية بروتينية ساذجة، وكأننا نعيش عل كوكب آخر، لا في إسرائيل.
من السهل، كما قلنا سابقا، أن نعدد الأسباب والدوافع التي يوظفها دعاة مقاطعة المشاركة في الاحتجاجات المستمرة في العديد من المدن والمواقع الإسرائيلية؛ وإن كان بعضها صحيحا، من حيث المنطق والحجة، يبقى واجب علينا أن نرى الصورة بكامل عناصرها، وأن نضع جميع المعطيات والعوامل في كفتي ميزان السياسة، لنقرر ماذا يتوجب علينا عمله كضحايا مباشرين للحكومة الحالية؛ فالتذرع، على سبيل المثال، بمواقف رؤساء أحزاب المعارضة العنصريين وعدم رغبتهم، المستفزة والمقيتة، في مشاركة المواطنين العرب وقياداتهم معهم في الاحتجاجات، يندرج تحت باب الذريعة الناقصة، وهي تقول في حالتنا «أجت منهم لا منا «. فهذه المواقف لا تفيد في مثل هذه الظروف الاستثنائية، خاصة أن الذين يرفعون هذه الرايات بيننا لا يقترحون علينا برامج سياسية جدية بديلة، ولا يبادرون إلى خطوات نضالية مدروسة ومبرمجة تضمن تحشيدا شعبيا رضائيا وقادرا على التأثير الفعّال وعلى المثابرة التي هي من أهم عناصر المرحلة. وكما قلنا ونكرر: لا يصحّ ألا نشارك في تل أبيب، بينما نعجز عن إقناع الجماهير بضرورة انخراطها المستديم والخروج إلى شوارع الطيرة والناصرة وكفرياسيف ورهط.
من المحزن ومن المؤسف أن تكتفي معظم القيادات السياسية العربية والدينية ومعظم النخب المنتجة للفكر والضالعة في صناعة الرأي العام، بتشخيص مخاطر نظام الحكم في إسرائيل، ومواجهة تلك المخاطر باللاعمل، أو بالتنظير وبالشعارات العامة الفضفاضة، التي ما فتئنا نسمع بعضها منذ كنّا أولادا نحب الغبار والريح ودردبات الطبول وهي تدق على أبواب العواصم العربية، وحين كنا لا نفرّق بين الحِلم والحُلم، ولا بين الهُوية والهَوية. ومن الغريب ألا يذوّت جميع من ذكرتهم أعلاه مغازي التداعيات الحاصلة داخل المشهد الإسرائيلي، ولا كيف تولد أمام أعيننا لحظة تاريخية لا يمكن أن نهملها، أو نستخف بها، وألا نتفاعل معها. ولا يجوز لنا ألا ننتبه إلى جملة التصدعات الجارية داخل المجتمع اليهودي، التي لم نشهد لها مثيلا، من حيث سعتها أفقيا وعمقها عاموديا، ولا في أي محطة منذ قيام إسرائيل. لقد عرف المجتمع اليهودي صدامات كانت في بعض تجلياتها عنيفة؛ حرّكت بعضها أحيانا صراعات طبقية، أو في أحيان أخرى، صدامات ثقافية بين اليهود الأشكناز والسفارديم، وهم اليهود الشرقيون، أو خضعت أحيانا لتجاذبات بين العلمانيين والمتدينين؛ بيد أنه في جميع تلك الحالات بقيت الصراعات داخل حضن الدولة، لا صراعا عليها، كما هو وضعنا اليوم؛ ودارت رحى جميعها تحت عقد الحركة الصهيونية والإجماع حول ما تعنيه لكل اليهود الصهاينة، وليس كما هو الحال عليه اليوم؛ وجرت جميعها ضمن إقرار بعدم التعرض لجملة من المحرّمات/التابوهات مثل: الجيش، ومكانة القانون، والمنظومة القضائية، ومفهوم الأمن الوطني الإسرائيلي، وما هي العناصر التي ترسم حدوده وتعرّفه؛ هكذا كان طيلة سبعة عقود كاملة، بينما تحولت اليوم جميع هذه المحرّمات، هي بذاتها، إلى عناوين مستهدفة من قبل أحزاب حكومة إسرائيل الجديدة، التي لا تخفي مآربها وخططها تجاهنا نحن المواطنين الفلسطينيين وعموم الفلسطينيين، في حالة نسفها لتلك التابوهات.
أمور كثيرة تحصل، وليس داخل إسرائيل وحسب، وعلينا الانتباه إليها؛ فمتى قاطع النظام الأمريكي ومعه كبريات المنظمات الصهيونية اليهودية زيارة وزير المالية الإسرائيلية، كما حصل، قبل أيام، خلال زيارة الوزير بتسلئيل سيموتريتش لأمريكا؟ وسيموتريتش ليس الوزير الوحيد الذي أعلنت عدة دول غربية أنها ستقاطعهم، ولن تتعامل معهم بسبب إمعانهم بالقضاء على أسس نظام الحكم القائم، وبسبب مواقفهم تجاهنا كأقلية مواطنة داخل إسرائيل، وأيضا بسبب مواقفهم الدموية وسياساتهم العنصرية والقمعية تجاه ابناء الشعب الفلسطيني. فجهات عديدة في دول العالم بدأت تعارض مضامين السياسة الحكومية الإسرائيلية ومخططاتها تجاه الأرض الفلسطينية وممارساتها بحق الفلسطينيين؛ وقد شكل الاعتداء الفاشي الدموي على حوارة محطة مهمة توقّف عندها قادة العالم، لما حملته من نذائر حول «قدرات» هذه الحكومة. وقد تعكس زيارة الممثل الأمريكي الخاص للشؤون الفلسطينية هادي عمرو، إلى حوارة في يوم 28/2/2023 وجها من إمكانيات التغيير المرغوب والمحتمل في الرأي العام الرسمي والشعبي، وفي بعض المحافل الدولية، خاصة إذا تنبهنا لما قاله هادي عمرو وهو على أرض حوارة؛ فبعد تأكيده «إدانة أعمال العنف العشوائية واسعة النطاق من جانب المستوطنين»، أعلن أنهم في أمريكا يريدون «أن يروا محاسبة كاملة ومقاضاة من خلال القانون للمسؤولين عن هذه الهجمات الشنيعة، وتعويضات لأولئك الذين فقدوا ممتلكاتهم أو تتضرروا بطريقة أخرى». قد يشكك البعض بجدوى هذه التصريحات وبجديتها وبفاعليتها، خاصة أن جميعنا يعرف تاريخ الدعم الأسطوري الذي أمّنته وتؤمّنه أمريكا لإسرائيل على جميع الجبهات، واستمرار دعم احتلالها للأراضي الفلسطينية وتغطيتها المثابرة لجميع موبقاتها بحق الفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك يجب أن تحسب مثل هذه المواقف وفق القواعد التراكمية، وهذه تأتي أكلها مع مرور الزمن، شريطة ملاحقتها؛ والأهم انها تتطلب بذل مجهود كبير من الضحية وعدم الاكتفاء بالبكاء أو الاستجداء أو الدعاء وانتظار الفرج من حيث لا ندري. لا أعرف كم من بيننا تابعوا قوائم المجموعات التي أطلقت نداءاتها المعارضة لمخططات حكومة نتنياهو الجديدة. ومن اللافت أن يكون بين هذه الجماعات جهات أجنبية عديدة. من الضروري أن نتمعن في تلك القوائم وفي أسماء أصحابها، ليس لأنها أعربت عن معارضتها وخشيتها من تقويض أسس الديمقراطية داخل إسرائيل، وتأكيدها على أن مخططات هذه الحكومة ستفضي إلى إنشاء نظام ديكتاتوري مرفوض، وحسب، بل كي نتعرف على كمية التأييد والدعم الذين كانت إسرائيل تحظى بهما في الماضي؛ ونعرف كذلك ما هي الجهات التي كانت تؤمّن لها أحزمة النجاة وأغطية الشرعية، رغم ما كانت حكوماتها السابقة تمارسه.

علينا أن نكون جزءا من صنع التاريخ؛ فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم رموز النظام القديم والتصفيق لديمقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على الحياد وانتظار نهاية حربهم

لقد قام موقع «واي نت» الإسرائيلي في تاريخ 17/2/2023 بنشر تقرير تضمن أسماء مجموعة من الجهات التي وجهت نداءاتها لنتنياهو ولحكومته وطالبتهما بالعدول عن تنفيذ مخططهما، وحذرتهما من مغبة استمرارهما بهما، وما سيلحقه ذلك بمكانة إسرائيل في العالم، وإمكانية رفع غطاء الشرعية عن سياساتها، وسحب أبسطة الدعم الممدودة لها منذ سنوات ولغاية هذه الأيام. وأورد التقرير قائمة جزئية باسماء الجهات المعترضة على المخطط ومنها: عريضة موقعة من (400) عنصر قيادي رفيع المستوى عملوا في أجهزة الأمن على فروعها؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء «مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي السابقين؛ عريضة تضمنت تواقيع أكبر سبعة عشر مكتب محامين في إسرائيل يعمل فيها (3500) محام؛ عريضة موقعة من (300) عالم اقتصاد من بينهم الفائز بجائزة نوبل دانييل كهنمان؛ عريضة موقعة من قبل (50) مديرا عاما في عدة وزارات، خاصة ذات الطابع المالي والاقتصادي؛ عريضة موقعة من قبل (100) من رؤساء ومسؤولين كبار في شركات الهايتك؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء الجامعات الإسرائيلية؛ عريضة موقعة من (185) محاضرا كبيرا في كليات القانون؛ عريضة موقعة من قبل (50) بروفيسورا أمريكيا في القانون، بينهم أحد أهم المنافحين الكبار عن إسرائيل هناك وصديق لنتنياهو، ألان درشوفيتس؛ عريضة موقعة من (240) محاضرا في مادة العلوم السياسية في الجامعات؛ عريضة من (13) فائزا بجائزة نوبل في الاقتصاد؛ عريضة موقعة من (200) عالم يُعدون من بين أشهر العلماء اليهود في العالم، من بينهم تسعة علماء حائزون على جائزة نوبل في العلوم؛ عريضة موقعة من (18) قاضيا ورئيسا سابقين في المحكمة العليا الإسرائيلية وعريضة موقعة من (70) قاضيا في المحكمة العليا الكندية، وغيرهم كثر. قد يقول قائل ما شأننا وهذه القوائم؟ فموقعوها في النهاية يعبرون عن خشيتهم من سقوط نظام حكم دولة مارست العنصرية بحقنا، نحن المواطنين في الدولة، ومارست الاحتلال وبشائعه ضد أبناء شعبنا الفلسطينيين، وهذا طبعا صحيح، ولكن لهؤلاء أقول: إذا كان كل هؤلاء يخافون من طبيعة النظام الجديد ويؤكدون أنهم أن يسندوه لأنه سيكون ذا طابع ديكتاتوري وفاشي، فهل من الصعب أن نتصور حالنا وكيف سيعاملنا هذا النظام نحن في إسرائيل وكيف سيعامل إخواننا الفلسطينيين. قد يكون خوفهم على دولتهم، بينما يجب أن يكون خوفنا من «دولتنا» واستعدادنا لمواجهة سياساتها المقبلة.
نحن أمام لحظة تاريخية، وعلينا أن نكون جزءا من صنع هذا التاريخ؛ فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم رموز النظام القديم والتصفيق لديمقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على الحياد وانتظار نهاية حرب اليهود. إنها لحظة علينا أن نحاول فيها، ونحن قادرون على ذلك، أن نرفع، إلى جانب مطلب تحقيق الديمقراطية، شعاري إنهاء الاحتلال والمساواة التامة لنا، وعلينا أن نقنع هؤلاء اليهود بضرورة تبنيهم لهذه المطالب ـ لقد خصصت جريدة «هآرتس» العبرية افتتاحيتها اللافتة قبل ثلاثة أيام لهذا الموضوع- فمن دون ذلك سيخسرون دولتهم التي لم تكن يوما ديمقراطية، وستقوم هنا دولة فاشية سنكون نحن طبعا أولى ضحاياها، وسيلحقنا جميع من صرخ باسم الديمقراطية.
كاتب فلسطيني

 

 

آذار في فلسطين…

أسيرات وأحلام ودماء

 

جواد بولس

 

يواصل الاحتلال الإسرائيلي اعتقال (29) أسيرة في سجن «الدامون» الواقع على جبال الكرمل قرب حيفا، أقدمهن هي الأسيرة ميسون موسى من مدينة بيت لحم، المعتقلة منذ عام 2015 والمحكومة بالسجن الفعلي لمدة (15) عاما؛ ومن بينهن فتاتان، نفوذ حماد من القدس وزمزم القواسمة من الخليل التي أتمت عامها الثامن عشر قبل عدة آيام فقط. يبلغ عدد الأسيرات المحكومات (15) أسيرة. وحسب المعطيات الواردة من مؤسسة «نادي الأسير الفلسطيني» فإن أعلى الأحكام صدرت بحق الأسيرات شروق دويات وشاتيلا أبو عيادة المحكومتين بالسجن لمدة ستة عشر عاما، وعائشة الأفغاني المحكومة بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاما. ويوجد من بين الأسيرات أسيرة واحدة معتقلة إداريا وهي رغد الفني من طولكرم، وكذلك يوجد بينهن سبع جريحات تعد حالة الأسيرة إسراء الجعابيص أصعبها، كما يوجد بينهن ست أمهات.
لهؤلاء الأسيرات ولمن سبقهن على دروب النضال، ولجميع الأمهات المضحيات، ولسيّدات العطاء والوفاء ولجميع الأسيرات في عقول مجتمعاتهن أقول: قد يكون آذار/مارس أجمل الشهور في فلسطين، ففيه تطلق الأرض جدائلها وعلى صدورها ينهد اللوز ويسبح في عيونها القمر؛ وفيه تشهر فلسطين أنوثتها: جبالا حبلى بالغضب وبالنرجس وبالأمل، ونساء يجدلن على زنودهن أحلامهن ومن خواصرهن تندلق الزغاريد وينطفئ الوجع.

فلسطين، في آذار، تحتفي بنسائها بطقوس وبعقول ملتبسة حتى العبث؛ فالبطولة في هذا الشهر تستعيد تاءها المربوطة وتصير أنثى

فلسطين، في آذار، تحتفي بنسائها بطقوس وبعقول ملتبسة حتى العبث؛ فالبطولة في هذا الشهر تستعيد تاءها المربوطة وتصير أنثى، والدمع ينحسر في أحضان الحسرة، والجميع يردد أن الوطن أم وزوجة وأخت وشهيدة ومناضلة، بيد أن الواقع يبقى في عقول الناس مذكرا والعيب لا أب له، فلسطين، كل فلسطين، تبقى ولّادة للرياحين ولحاملات بيارق الرأفة والحنان، لكنْها تنام، منذ طلوع الدم من «بئره المقدسة»، وهي أسيرة لأحكام «سيّافي الشرف، ومطوّعي الحشمة»، الذين كلما استلوا خنجرا ودقوه في عنق زنبقة، فقط لأنها «طلعت على الريح، طلعت على الشمس» وصلّت في قلبها «يا حريّة يا زهرة نارية يا طفلة وحشية، يا حرية»، يذكروننا من أين أتينا وكيف يصر الرمل، جدنا القديم، أن يثأر لجيناته وأن ينتقم ممن يخرجن من «هيبة» عباءات أسيادهن، وعن طهارة النسب والحسب. لا أتجنى على أحد حين أكتب عن واقع مجتمعاتنا العبثي؛ فلن تخلو قرية أو مدينة في هذا الوطن، من قصص الضحايا اللائي دفعن حيواتهن قرابين على مذابح الجهل والتخلف، أو إن شئتم، دفعنها كفارات باسم قيم سائدة ومسلّمات اجتماعية تجيز هدر دمائهن «دفاعا» عما يسمى شرف العائلة، وثمنا لأحلامهن المحظورة؛ فحتى أحلام البنات في مجتمعاتنا أعباء عليهن أو قاتلة أحيانا. لن ينفعنا إنكار الحقيقة الدامغة، فمهما كان آذارنا في فلسطين أخضر بنكهة الطبيعة، سيّدة البدايات والنهايات، تبقى حكمة الشرف الدموية هي الحكمة السائدة. فآذار ما زال كما كتب ذلك الفتى، الذي حدثتكم عنه قبل عشرة أعوام، حين جلس على شرفته وأخبرنا أنه يحب «من الشهور آذار ولا أبحث عن سبب». فصاحبي هذا كان يحلم، إلى أن جاءته أمه بخبر مقتل بنت جيرانهم «صبرة»، يومها، هكذا أخبرتكم، «لم ينم كما تعوّد. دخل فراشه مبكّرا. تمتم صلاته بسرعة ككاهن قرية «معجوق»، يأكل نصف حروف الكلمات وكأنه يقوم «بتهريبة خطيرة». كان يتحرك في البيت بخفة دوري، وكانت سعادته تتدحرج أمامه كحجلة، تملأ زوايا البيت حيرة وفضولا. حاولت أمّه أن تفهم دواعي هذا الفرح الراقص، لكنّها نالت، في كل مرّة سألته، قبلة شقيّة منه ومداعبة طفولية. شعرت براحة خفيفة وفكرت بصمت وتمتمت «هذا الولد كِبِر»، وكأنها تراه للمرة الأولى وقد شارف على إنهاء تعليمه الثانوي في آذار ذلك العام. أفاق قبل جميع إخوته. أنهى حمّامه وحاول أن يختار ملابس يومه، كانت، في العادة، لا تستغرقه هذه العملية إلّا بضع دقائق، أمّا اليوم فكانت «ورطته» ظاهرة. اختار طقما ووقف أمام المرآة دون أن ينتبه إلى أن عينيه كانتا تضجان بالقلق. اقترب من المرآة وقام برفع كفّه اليمنى بعياقة ومسّد شعره ببطء وتبسّم للرجل الذي قبالته. بدت على وجهه علامات الرضا أو حتى الاعتزاز. رش ما وجده في قارورة عطر كانت في الخزانة ورفع إبطه وحاول أن يشمها، ليتأكد أنه ذلك العاشق الجدير بشمس آذار ذلك النهار، كانت أمه تراقبه من بعيد فتنهدت وتأكدّت أن في بيتها رجلا. أنزلته سيّارة الأجرة في مركز المدينة القريبة من قريته، مشى مسافة قصيرة ووصل إلى المقهى الذي اتفق وحبيبته أن يلتقيها فيه. اختار مقعدا جانبيا وتأكّد أن عطره ما زال فوّاحا وأن قميصه مفتوح من الأعلى ويكشف جزءا من ربيعه. شعر بغربة طفيفة في المكان. كانت معظم الطاولات خالية، إلا من طاولة في الزاوية المقابلة لطاولته كان يجلس إليها رجلان يتهامسان، كانت ملامحهما شرقية، لكنهما كانا يتحدثان بالعبرية. نظر إلى ساعته فاشتد خفقان صدره. رفع عينيه ونظر من خلال الزجاج فرآها تمشي على الرصيف المقابل، واثقة كغزالة. كانت تلبس بنطالا أسود وفوقه يتدلى طرف قميص بلون السماء مفتوح وتحته سترة بيضاء بلون الفل. كان وجهها قمريا على طبيعته. قطعت الشارع فوقعت عيناها مباشرة على عينيه. تبسّمت بحذر فكاد، لولا قحة أحد الجالسين، أن يفقد وعيه. دخلت كفراشة. حيّته ومدّت كفّها نحوه، فأخذها برفق كأنه يكمش حفنة من قوس قزح. تحدثا عن أحلامهما في الليلتين الأخيرتين، وعن كيف لم يناما. ضحكا عندما وصف كل واحد منهما كيف «أكلا» نصف الصلاة قبل النوم. لكنّهما كانا مقتنعين بأن الرب سيغفر لهما لأن «الله محبّة»، ويحب الحب والمحبين والحياة. لم يحاول أن يمسك كفها مرّة أخرى، لكنه كان يستنشق أنفاسها ولا يخرجها. قال لها كم يحبّها ويحب لون عينيها، كان كلامه مقطعا وغير مباشر، لكنّها، في لحظة ما، أغمضت عينيها، لم تطبقهما تماما، ورفعت رأسها برضا وقامت بحركة جعلته يشعر بفقدان توازنه. قضيا في المقصف ساعتين كاملتين. تواعدا على لقاء آخر عندما ستسمح بذلك الظروف.
كانا على باب المقهى عندما اعترض رجل طريق الفتاة طالبا هويّتها. كان ذلك هو الرجل الذي جلس في الزاوية. أفهمها أنه رجل مخابرات إسرائيلي. وأنه يريد أن يتعرّف على هويتيهما. حاول أن يهدئ من روع الفتاة والشاب واعدا إيّاهما بالكتمان، وعدم إخبار عائلتيهما؛ فهو يعرف أن مثل هذه الحادثة، خاصة إذا دعّمت بالصور، من شأنها أن تحدث كارثة وتودي بحياتيهما. «كل ما نريده اليوم»، هكذا «طمأن» هذا المتطفل تينك الزهرتين «أن نسجّل تفاصيلكما وأن نتفق متى ستعودان إلينا لنسوي أمورنا المشتركة، فمكاتبنا قريبة من هنا، وكل شيء سيكون على ما يرام».
لم يتفوّها بأية كلمة، أبرزا بطاقتي الهوّية وحاولا أن يتملّصا من الموقف. لكنه كان وقحا ومتمرّسا في صيد ضحاياه. أصرَّ على تسجيل التفاصيل وبدأ يصعّد من لهجته فشعرا بأنه يحاول تهديدهما. حاولت الفتاة أن تفهمه أنها ليست خائفة وأنها جاءت إلى لقائها برفقة أخيها الذي يحترم علاقتها مع هذا الشاب. حاولت أن تشرح له دناءة ما يقوم به فصار شريرا وهدد باحتجازهما في مقره. في هذه اللحظة، في الوقت المحدد، ظهر أخو الفتاة فتوجّه مباشرة إليهم واحتضن أخته وطرح السلام على رفيقها. عرّف على نفسه وخيّب ظن تلك الشياطين اللعينة. كانوا يسيرون في الشارع، والفتى يشعر بأنه يطير بأجنحة من ورد وأن حبيبته تطير إلى جانبه وتحتهم أبسطة من بساتين خضراء وأسراب فراش. كان يسمع دقات قلبها ويداري خصلات شعرها الذي كان يتطاير على وجهه، ثم.. ضربة، ضربتان فهزة عنيفة على كتفه، فتح عينيه وكان وجه أمّه فوق أنفه، كانت غاضبة كما لم يألفها من قبل. «ماذا بكِ؟ اليوم عطلتي ولا توجد مدرسة فلماذا أفيق مبكّرا؟» سألها محاولا العودة إلى حلمه. بغصّة واضحة في حلقها قالت: «لقد وجدوا «صبره» مقتولة بطعنات خنجر. نعم هي ابنة صاحب الفرن، وقالوا إنها قتلت بسبب «شرف العائلة»، لم أفهم يا أمي من القاتل وليش ولكنها مصيبة.. الله ينجينا وينجيكم يا حبايبي». صحا الفتى مذعورا وجلس على شرفته وكتب: «أحب من الشهور آذار ولا أبحث عن سبب، فأجمل الحب ذلك الذي يكون من غير سبب. آذار شهر التردد والتقلّب؛ ففيه الصفاء كما يحب شجر اللوز، وفيه الغبار كما يعشق السرو». أغمض عينيه عساه يعود إلى الطاولة مع حبيبته، ثم فتحها وكتب: «يصله الشتاء متعبا كثور الحلبات وقد أنهكته سهام «المتادور». آذار في بلادنا كالوعد الغافي وراء جبال الغيم، يصحو ليعلن أن البقاء للحياة وليقهر الظلّام ودعاة الموت؛ ففي آذار، يولد الأمل وتزهر الرياحين». كتب وبدأ ينتظر لقاءهما المقبل.
فلكنّ، في آذار وفي كل يوم، الفرج والسلامة والفرح والحب، والحرية فخذوها و»صَرّْخوا عالعالي، على العالي، اركضوا بالحقالي، على العالي، قولوا للحرية نحنا جينا وافْرحوا، افرحوا، يا ليل يا حب يا دروب يا حجار الحقونا عالشجرة البرية..»
كاتب فلسطيني

 

 

 

قانون الإعدام الإسرائيلي

وأحكام معادلة الردع المتبادل

جواد بولس

 

صادقت الكنيست بالقراءة التمهيدية، يوم الأربعاء الفائت، على قانون يقضي بفرض عقوبة الإعدام على من يرتكب مخالفة القتل «بدافع عنصري وبهدف المسّ بدولة إسرائيل، وببعث الشعب اليهودي في أرضه»؛ وحظي مشروع القانون بأغلبية واضحة وبدعم رئيس الحكومة نتنياهو طبعا.
لقد أشغلت عقوبة الإعدام، كخيار عقابي يجب المحافظة عليه ضمن منظومة التشريعات الإسرائيلية، حكومات إسرائيل منذ تأسيسها؛ وقد خضعت هذه المسألة، قبل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967 وبعد الاحتلال أيضا، إلى عدّة تعديلات تمّت على مراحل عديدة، أفضت في النهاية إلى إبقاء هذه العقوبة في بعض التشريعات الخاصة بالمجرمين النازيين، وضمن القوانين العسكرية، وفي بعض مخالفات خيانة الدولة وأمنها.

الذين صوّتوا لصالح قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، لم يسمعوا بأسماء قوافل من أقسموا ألا يرضوا بحياة الذل والقهر تحت نير الاحتلال

سأكتفي بهذه المقدمة مؤكدا أن عقوبة «إعدام الإرهابيين»، كما تطالب بها الحكومة الإسرائيلية الحالية، متاحة ضمن القوانين النافذة، إلا أنها لم تستنفد ضد المقاومين الفلسطينيين، بسبب قرار إسرائيلي قديم جديد، عبّرت عنه مؤخرا المستشارة القانونية للحكومة غالي بهاراف ميارا، حين عارضت القانون مشدّدة على أن عقوبة الإعدام ليست رادعة في حالة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
في الواقع، يتسلّح معارضو عقوبة الإعدام بعدة حجج وذرائع، مثل قدسية الحياة، واحتمالات وقوع الخطأ، ومكانة الإنسان وحقه المطلق في الحياة، ومعارضة المجتمع الدولي، خاصة أن تنفيذ العقوبة سيتم بحق الفلسطينيين ولن يشمل الجناة اليهود قتلة الفلسطينيين طبعا، وكون هذه العقوبة أداة لإشاعة أجواء القسوة داخل المجتمعات المحلية. وعلى الرغم من أهمية جميع الذرائع التي تساق ضد عقوبة الإعدام، قد تكون، في السياق الفلسطيني، مسألة الردع التي أشارت إليها المستشارة، من أهمّ وأبرز حجج المعارضين لها. وإذا راجعنا تاريخ الموقف الإسرائيلي المعارض لإعدام المقاومين الفلسطينيين، سنجد أنهم على الأغلب كانوا رؤساء الأجهزة الأمنية والمستشارين القانونيين والسياسيّين المطّلعين على تقارير تلك الأجهزة، ودراساتهم وخلاصاتهم المهنية حيال قضية الردع المتوخى من جهة، وعكسه المحتمل من جهة أخرى، فحسب ما نشر تباعا من مواقف صادرة عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، يستفاد من أن المسؤولين في تلك الأجهزة مقتنعون بأنّ تفعيل عقوبة الإعدام بحق مقاومي الاحتلال الفلسطينيين، لن تردعهم بل ستزيد أولئك المقاومين عندا وقساوة واستعدادا للمقاومة حتى آخر الأنفاس؛ علاوة على تحويلهم إلى قدوات تحتذى من قبل أبناء مجتمعاتهم، وأبطال معلقين كتمائم في صدور الناس، لا مجرد جثث تتهادى على أعواد المشانق، كما يريد مشرّعو القانون المذكور. لقد أصابت المستشارة القانونية كبد الحقيقة؛ فهي، ربما من دون أن تقصد، أشارت إلى ما يعرفه الكثيرون في جميع أرجاء العالم وهو، أن الفلسطينيين صمدوا كل هذه العقود، رغم المؤامرات عليهم، وقبضوا على جمر المقاومة، رغم دموية الاحتلال وقمعه وممارساته التي لم تعرف حدودا، بسبب إدراكهم للسر في بناء معادلات «الردع المتبادل» مع المحتل، التي تولد، بداية، داخل الصدور وتنمو داخلها على شكل إرادات سرمدية، لا يفلّها خوف ولا يثني عزائمها رصاص ولا موت، فتكوّن، حين تكبر، جداول الحياة، وتصبح ما يمكن أن نسميها أنهر الردع الفلسطيني، وتصب في بحور النضال؛ أو بكلمات أخرى مختصرة: إرادة الإنسان الحر صاحب الحق الواقف على ناصية المدى ولا يخشى الردى.
كنت متجها إلى رام الله لحضور اجتماع في نادي الأسير الفلسطيني، ولسماع آخر أخبار الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال. وفي الطريق كان أصحاب قانون الإعدام يتسابقون، عبر موجات الأثير، بالتأكيد على فرحتهم، وعلى قناعتهم بأنهم أحرزوا فوزا ساحقا على الفلسطينيين، وأنّ قانونهم سيمحي أسطورة المناضل الفلسطيني، الذي لا يخشى أعواد المشانق. كنت أسمعهم وأتذكر مئات الأسرى الذين دافعت عنهم في مسيرة بدأت قبل أربعين عاما. كنت أتخيل وجوه أولئك الأسرى الهازئة وهم يستمعون لتلك التصريحات؛ وتذكرت كيف دخل هلال قاعة المحكمة المركزية في الناصرة وجلس على مقعد المتّهمين. وعندما دخل القضاة لم يقف احتراما لهم، كما هو متبع في المحاكم. طلب منه رئيس المحكمة أن يقف، فأجابه بإنه لا يحترمهم ويعتبرهم ممثلين للاحتلال، مجرمين وقتلة. حاول القاضي أن يُسكته كي يقرأ له لائحة الاتهام الخطيرة الموجهة إليه، وفيها أنه قتل جنديين إسرائيليين بالقرب من أحد المفارق القريبة من مدينة جنين. ثم سأله بعد أن انتهى من قراءة اللائحة عن ردّه عليها. قمت كي أقدّم ردّي كمحام للدفاع، فوقف هلال واعتذر مني قائلا: دع عنك أستاذي، فأنا لا أعترف بهذه المحكمة وليحكموا عليّ بما أرادوا. حاول القاضي أن يردعه ويدجّنه فنبّهه إلى أنّ عقوبته قد تصل إلى حكم الإعدام؛ ضحك هلال وردّ على القاضي من دون أن ينتظر رأيا أو نصيحة وقال: ما أغباكم وما أصلفكم! أوتحسبون أنني أخشى حكمكم؟ فنحن في بلادي نموت على طريقتكم كل يوم ألف مرة، واليوم جئتكم كي أموت على طريقتي أنا؛ هي ميتة واحدة، بعدها سأحيا»؛ قال وجلس. عن هلال وصحبه سأحدثكم لاحقا.
لقد دافعت عن آلاف الأسرى الفلسطينيين وكنت شاهدا على مواقف «أهلّة» ملأوا السجون وسماء فلسطين بالعزة وبالكرامة. لا أظن أن أعضاء الكنيست، الذين صوّتوا لصالح قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، قد سمعوا بأسماء قوافل من أقسموا ألا يرضوا بحياة الذل والقهر تحت نير الاحتلال؛ فبعضهم ناضلوا ورحلوا على طريق الملائكة، وآخرون ولدوا وما زالوا يتعاقبون كالصدى وهو ينثال من «لام» الأملللل. أغلب الظن أن من يحلم بالإعدامات كحلّ لمشاكله لم ولا يريد أن يعرف وأن يسمع عن هلال ورفاقه، فلهم مثل ما لجميع الطغاة: شهية النار وذاكرة الرصاص.
وصلت رام الله وكلّي غضب وقلق. انضممت إلى مجموعة من الأسرى المحرّرين كانوا يتحلقون حول طاولة، وأمامهم على الحائط جهاز تلفزيون، راحوا يتنقلون بين فضائياته التي انشغل معظمها بنقل الأخبار حول ما يجري في الكنيست وفي شوارع المدن الإسرائيلية وبمشاهد من غزوة المستوطنين على بلدة «حوّارة». نظرت في وجوههم ولم أجد عليها علامات الدهشة، كانت وجوههم صامتة، مستفَزة وغاضبة، وكانت تعليقاتهم تنطلق من أفواههم مع دفعات دخان السجائر، مقتضبة وساخرة. لقد تباينت آراؤهم حول ما يجري في إسرائيل، فبعضهم أبدى سرورا بأن اليهود يتحاربون مع بعضهم وتمنوا أن يكون فرجنا، بسبب تلك الحرب، قريبا؛ بينما أعادنا صوت إلى ليل «حوارة» وحرائقها وتساءل: من أين تأتي النجاة وما العمل؟ تحدثوا في كل شيء؛ عن غزة الهاربة وعن أحكام الإعدام فيها، وعن سماوات شرقنا حين تفتح فوق عُمان وتغلق فوق رام الله، وعن اجتماع العقبة؛ فعلّق أحدهم قائلا: بعد كل «عقبة» فرج، وما أجملها مفارقة! تحدثوا عن الحواجز وعن القلق، ثم عادوا إلى ما يخصهم كأسرى، فأجمعوا على ما قاله آخر المعقبين، على أن جلاوزة المحتلين: «لا يشبعون وحشية ولا دماء؛ فهذا القانون لن يفيدهم بشيء، بل على العكس تماما. بالموت لن يردعونا. إنهم واهمون، فقد حوّلت وحشيتهم حياتنا إلى جهنم يومي وأباحوا دماءنا بشكل غير مسبوق، فلماذا نهاب مشانقهم وقد ذهبنا نحوها مرارا بصدورنا وبجبهاتنا العالية وعُدنا من دون أن نحظى بفرصة ولادة حقيقية/أبدية». سكت المتحدث ليأخذ نفَسا من سيجارته، فأردف رفيقه بنوع من التهكم الأسود وقال: «وكأنهم بحاجة إلى قانون كي يعدموا أبناء شعبنا.. إن جنودهم وقطعان مستوطنيهم يقتلوننا كل يوم ولا يرحمون أحدا؛ لقد قتلوا الشيخ وأعدموا المرأة ونكّلوا بالشاب وقضوا على الطفل وحرقوا الشجرة.. إنهم بحاجة إلى مثل هذا القانون كي يُشبعوا غرائزهم النهمة، وكي يسكتوا حناجر رعاعهم». لقد كان واضحا لجميع الحاضرين أن سنّ هذا القانون يندرج كخطوة ضمن «مخطط الحسم» الذي تنوي هذه الحكومة تحقيقه، والذي يستهدف تركيع الفلسطينيين وجعلهم يقبلون بالاحتلال كسيادة عليا عليهم. وكان واضحا كذلك أن خطة الحسم لن تتقدم إلى الأمام، إلا إذا هُزمت إرادة المقاومين والأسرى الفلسطينيين؛ فمن لن يرتدع من إمكانية إعدامه، سيعدم أو سيعتقل وسيعيش داخل الأسر الإسرائيلي في ظروف جهنمية مختلفة عمّا هو قائم اليوم. هذا فعليا ما بدأت إدارة «مصلحة السجون الإسرائيلية» بتنفيذه داخل السجون انصياعا لأوامر وزارة الأمن الداخلي وبدعم هذه الحكومة التام. كانت التقارير الواردة من معظم السجون واضحة ومقلقة ومستفزة، فالأزمة مع إدارات السجون تتعقد والمخاطر تزداد. واستشعارا لما هو آت، أعلن قادة الحركة الأسيرة الفلسطينية عن البدء بتنفيذ خطوات نضالية ستنتهي بإعلان العصيان التام. إنه الدفاع عن كرامة الأسير وعن حقه بالعيش في ظروف إنسانية، وحسب الشروط التي حققتها الحركة في مسيرة نضالية طويلة ومكلفة وقاسية. إنها، مرة اخرى، حرب الإرادات والبقاء وفق شروط معادلة «الردع المتبادل».
كاتب فلسطيني

 

 

خطة الحسم… مفتاح الحرب

بأيادي اليمين الإسرائيلي

جواد بولس

 

 

يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة عازمة، في أقرب أجل منظور، على إنجاز سن جميع التشريعات التي أعلنت عنها ضمن خطة وزير القضاء يريف ليفين، أو ضمن ما اشتملته الخطوط الأساسية للائتلاف الحكومي. وعلى الأرجح، ألّا تفلح الاحتجاجات الشعبية، رغم زخمها، كما شاهدناها في الأسابيع الأخيرة، في ردع رئيس ووزراء هذه الحكومة، فهم ممعنون بالتقدم نحو «إسقاط القلعة» وإحكام سيطرتهم عليها بالكامل، رغم كل التحذيرات الموجهة لبنيامين نتنياهو من عشرات الجهات السياسية والمؤسسات الأكاديمية والمرافق الاقتصادية والأجهزة الأمنية من داخل إسرائيل ومن عدة دول صديقة لها.
لقد كتبت كثيرا عن الواقع السياسي الجديد الذي سنواجهه، نحن المواطنين الفلسطينيين، وعن الفوارق بين نظام حكم اعتمد قواعد فصل السلطات وسيادة القانون والاعتراف بحريات الفرد الأساسية، وأتاح لنا، رغم سياسات حكوماته المتعاقبة العنصرية والقمعية بحقنا، قلة من هوامش الديمقراطية وممارسة حرياتنا الأساسية، وبين نظام سيهدم جميع تلك القواعد والمسلّمات، وما ترتب عليها من واجبات ومن حقوق، واستبدالها بأنظمة قمع عرقية خالصة.

يعتبر سموتريتش السلام مع الفلسطينيين، مستحيلاً، لأنهم غير مستعدين ولن يكونوا مستعدين لأن يجسّد اليهود حقهم في تقرير مصيرهم على أي قطعة أرض بين النهر والبحر

لن أعدد لوائح الاختلاف بين النظامين السالف والحالي، خاصة في كل ما يتعلق بممارسة حياتنا اليومية كأفراد وكمجتمع؛ ومن المؤسف ألا نستوعب ما ستفضي إليه مجموعة القوانين التي بدأت الكنيست بالتصويت عليها، وكيف ستغيّر تبعاتها مفهوم علاقاتنا مع أجهزة الدولة، كما مارسناها كمواطنين من درجة ثانية، منذ البدايات حتى يومنا هذا، إلى «أغيار» تسري عليهم أحكام التوراة، أو عبيد في دولة هم أسيادها. لا يمكننا أن نقرأ فصول خطة قلب نظام الحكم، التي تسعى الحكومة الجديدة لإنجازها بصورة مجزأة؛ فالسيطرة على منظومة القضاء وفي طليعتها المحكمة العليا، وتحكم الحكومة بتعيين القضاة، مثلا، لا يعني فقط استبدال قضاتها بقضاة موالين للحكومة ووزرائها. ولو وقفت القضية عند هذا الفارق فسيكون الحق ساعتها مع من يدعي أنه لطالما ظُلمنا نحن المواطنين العرب من قرارات قضاة المحكمة العليا خلال العقود الخالية، إذ لطالما وقف هؤلاء، أصحاب النظريات الليبرالية، مع سياسات حكوماتهم العنصرية وبيّضوا صفحاتها وسوّغوا موبقات الاحتلال للأرض الفلسطينية وقمع حقوق الفلسطينيين. علينا أن نقرأ هذه التغييرات معا مع سائر فصول المخطط المرسوم؛ فعلى سبيل المثال إصرارهم على إضافة «فقرة التغلب» من شأنه تزويد الكنيست، التي يتمتعون فيها بأغلبية مطلقة، بقوة فائقة ستمكنهم من تحييد دور المحكمة العليا في مراقبة القوانين وإلغاء إمكانية تدخلها في حالة عدم توافق تلك القوانين مع قيم الحريات الأساسية والمساواة. وكذلك يتوجب علينا أن نفهم لماذا يطالبون بإلغاء «حجة المعقولية» التي تلجأ إليها المحكمة العليا أحيانا خلال تعرضها لقانونية قرارات الحكومة، أو الكنيست، مثلما حصل مؤخرا عندما أبطلت المحكمة العليا قرار تعيين اريه درعي كوزير في حكومة نتنياهو بحجة «عدم معقولية» ذلك التعيين، بعد أن كان قد أدين بتهم فساد، وبكونه تعيينا لا يتماشى مع أحكام العقل السليم. لسنا بحاجة للمرور على جميع فصول خطتهم المعلنة، وما خفي منها وما بان؛ فهدفهم، بالمختصر، هو الاستيلاء على الحكم وهدم جميع أركانه القديمة، وتخويلهم كحكومة «منتخبة من الشعب» أن يحموا الدولة من جميع أعدائها، الخارجيين، ومن في داخلها، وبكل الوسائل التي يرونها كافية وملائمة، وأن ينشروا الأمن في شوارعها، حتى لو اقتضى الأمر بناء وحدات من «الحرس الوطني» الخاص، وإعفاء عناصره من تعقيدات الأنظمة الوضعية ومحاذير القوانين المقيّدة. في سبيل ذلك لن تقف في طريقهم معارضة تتكلم باسم الديمقراطية، ولا ما يسمى «سيادة القانون» أو القيم الإنسانية؛ ولن يعيقهم مستشارون قانونيون حياديون ولا نظام قضائي مهني قوي ومستقل، ولا قضاة يرون، إذا أرادوا أن يعدلوا، ضرورة لتفعيل العقل السليم، أو قضاة قد يعيقون تنفيذ ما يخططون له في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنهم جاؤوا كي يحسموا قضية فلسطين والفلسطينيين، مرة وكما شاء ربهم.
لقد نشر الصحافي المعروف رون بن يشاي يوم الاثنين الفائت مقالا لافتا في موقع «واينت» العبري تحت عنوان «للانقلاب القضائي هدف إضافي: الأبرتهايد». من الجدير قراءة المقال كاملا، لأنه يتحدث عن وثيقة كان قد نشرها الوزير بتسلئيل سموتريتش عام 2017 تحت عنوان «خطة الحسم، مفتاح السلام موجود بأيادي اليمين»، وقصده طبعا حسم الصراع معنا كفلسطينيين، كل الفلسطينيين. واليوم، هكذا يكتب الصحافي بن يشاي: «في هذه الحكومة حاز سموتريتش الوسائل كي يبدأ بتنفيذ خطته، وكي لا تعيقه المحكمة العليا، أراد تحييدها». ثم يضيف: «من الجدير أن يعلم الجمهور أن هدف الانقلاب القضائي، علاوة على ما أعلن، هو وضع الأسس القانونية لخدمة عمليتين سياسيتين من شأنهما تغيير وجه الدولة وتغيير أساليب حياتنا بشكل لا عودة منه. ستضمن العملية الأولى ضمّ كل المناطق الواقعة بين نهر الأردن والبحر، من دون إعطاء حق المواطنة للفلسطينيين؛ والعملية الثانية ستعتمد على سن قانون أساس يتطرق إلى مكانة المواطنين داخل دولة إسرائيل، وتوزيعهم لثلاث فئات حسب معايير تعتمد على المشاركة في المجهود الأمني الاسرائيلي، والمشاركة في سوق الإنتاج والعمل، ودفع الضرائب، حيث سيكون، كما هو متوقع، المواطنون العرب في أسفل السلم. يعتبر سموتريتش أن السلام مع الفلسطينيين، أمر مستحيل، لأن الفلسطينيين غير مستعدين ولن يكونوا مستعدين أن يجسّد اليهود حقهم في تقرير مصيرهم على أي قطعة ارض بين النهر والبحر؛ ولذلك، برأيه، فشلت كل محاولات إحقاق السلام في الماضي. لا يؤمن سموتريتش بحل الدولتين، بل يؤمن بضرورة تغيير الوقائع على الأرض وإتمام ضم المناطق الفلسطينية وتخيير الفلسطينيين بين البقاء في «يهودا والسامرة» ليعيشوا في جيوب سكانية تخضع للسيادة والحكم الإسرائيليين، أو هجرة من لا يرغب منهم بهذا، وعندها ستساعدهم إسرائيل وتسهل عملية هجرتهم؛ أما الخيار الثالث، فسيواجهه من لا يقبل بالخيارين المذكورين، وحينها على الجيش «أن يعرف كيف يهزم الإرهابيين في زمن قصير؛ وقتل من يجب قتله وجمع السلاح حتى الرصاصة الأخيرة وإعادة الأمن لمواطني دولة إسرائيل». فهل لنا بماذا يجري في شوارع جنين ونابلس والقدس حكمة؟
من الضروري أن نتوقف عند هذا الكلام لأهميته ولتأثيره في مستقبلنا وفي مصير الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ فما نحن بصدده ليس كما يحاول البعض تبسيطه وإفهامنا أن الحرب بين المعسكرين اليهوديين ما هي إلا حرب بين جسمين وفكرين متشابهين حتى التطابق.. فلندعهم ينزفون وننتظر حتى يأتينا «خراجهم».
إشاعة هذه المقولات من قبل شخصيات سياسية قيادية ومؤسسات بحثية عمل بعضهم أو يعمل في كنف الديمقراطية الإسرائيلية العرجاء، وبعضهم كان قد استنجد، من أجل بقائه في الحلبة السياسية، بهوامش هذه الديمقراطية «وبعدل «محكمتها العليا، وتجنّد بعض مراكز الدراسات والأبحاث خدمة لوصايا أو لأجندات سياسية حزبية فئوية، ونشرهم ما يسمى «دراسات تحليلية»، أو «أوراق تقدير موقف» موجهة، وتغييب النقاشات الحرة والمسؤولة بين النخب وشرائح المثقفين والأكاديميين – جميع هذه العوامل أدى إلى انتشار حالة العزوف عن المشاركة في الفعل السياسي الاحتجاجي، لا كمشاركين في مظاهرات اليهود الضخمة التي تشهدها المدن الإسرائيلية وحسب، إنما داخل المدن والقرى العربية نفسها؛ فمن أراد إبعاد العرب عن شوارع تل أبيب، لم يسع لإخراجهم إلى شوارع الطيرة والناصرة ورهط.
نحن، الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، نعاني من أزمة هوياتية حادة، ومن فراغ في أداء دور القيادة المسؤولة؛ بينما يعاني بعض مفكرينا ومثقفينا من كسل فكري شجعته مواطنتهم الإسرائيلية القلقة لكنها المرغوبة، وبعضهم يؤثر الاسترخاء في ظل ترف التهرب من مواجهة معضلاتنا الوجودية. نحن، في الحقيقة، لم نختر بإرادتنا المفاضلة بين نظام حكم يهودي عنصري ونظام حكم يهودي ديني وفاشي عرقي، كما يحاول بعض كتّابنا ومثقفينا التحذير منه، ويطالبوننا بعدم التعاطي مع هذه «العملة» ثنائية الوجهين؛ فنحن لم نختر ذلك. ولكن إذا كان هذا هو واقع الحالة الاسرائيلية اليوم، أيصح أن نقف بلا أي حراك مجدٍ أو فعل سياسي معارض، وأن نكتفي بإعداد التحاليل وإطلاق الأمنيات، كما يفعل كثيرون من أصحاب نظرية الانتظار والتمني أن تطول حرب المعسكرين حتى تنتصر في النهاية قهوتنا وتضحك شرفات منازلنا المحاصرة ؟
كاتب فلسطيني

 

 

غصات: الموت تحت الركام…

والقتل تحت جسر يبرود

جواد بولس

 

ترددت قبل مغادرة بيتي صباحا، لم تسعفني حبة المنوّم التي بدأت ألجأ إليها كلّما شعرت باضطرابات أو بتعب؛ فالليل والقلق كانا صاحبيّ، وصوت المطر يتسلل إلى حجرتي بعناد، كأنفاس غاضبة من السماء، ويجرح السكون. كانت أخبار ومشاهد الزلزال الذي ضرب مناطق مأهولة في سوريا وتركيا تغزو معظم نشرات أخبار الفضائيات في العالم، وشاشة تلفوني تتلقى، كمحطة إنقاذ، أخبارا وأفلاما صوّرها شهود عيان من مواقع الخراب.
لم أستطع مشاهدة بعض تلك المقاطع حتى النهاية، فصور الدمار ومشاهد القتلى، خاصة الأطفال، كانت مخيفة حتى الشلل. أبكاني مشهد لأب كان يقرفص فوق بقايا رصيف شارع وأمامه صف من جثث أطفال صغار، يبدون من بعيد كملائكة صغار نائمين. بينهم كانت طفلته وكان يكلمها، بصوت مخنوق، هوى كنصل على كبدي، ويسألها: لماذا أنتم.. لماذا أنت يا روحي.. كان عجزه يسيح مع دموعه ودهشته والحيرة تفتشان عن الحكمة بين الخرائب والركام، وعن العدل الذبيح على عتبات المعابد والبيوت، وعن المنطق في حصد هذه الأرواح وهي نائمة مطمئنة في بيوتها وبين يديّ الدعاء والصلاة. كان الأب يجهش بحرقة مكتومة حتى نهاه صوت لرجل وقف هناك وطالبه بأن يشكر فطنة وكرم السماء ويحمد حكمتها.
بلع الأب صوته ومدّ من بعيد، ذراعه نحو جسد طفلته وتمتم بضع كلمات سمعت صداها، وكان كله حسرة ووجع.

الانقسام الفلسطيني هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر الأمل الفلسطيني.. متى سنعود لنصير شعبا واحدا مستعدا لمواجهة الزلازل والبراكين

لم أعد اتحمل متابعة تلك المشاهد والأخبار، كان ليل القدس ساحرا وفي الفضاء تتطاير «عباءات» من رذاذ رمادي، لم ينضج ثلجه، وتسبح بخفة أطفال يلحقون سرب فراشات تائهة. اتكأت على حافة اليأس وتخيّلت أنني أسمع همس نايات بعيدة تبكي. حاولت، وأنا في طريقي إلى رام الله، إزالة شوائب التشاؤم التي علقت بأهدابي المتعبة؛ وتذكرت ما كان يقوله أبي: «لا تسبوا الطبيعة، ولا تكفروا بها وبجبروتها. إنها أم «بأقنومين»، فهي أم الزلازل والجوائح والبراكين والنهايات، وهي أيضا أم الخير والبركات والبدايات. لا تشتموها»، هكذا كان يقول والدنا، «فلربما تبعث للبشر، عن طريق تلك الكوارث والموت والخرائب تذكارات وإنذارات عساهم يتذكرون أصلهم ويعون جهلهم ويتعظون ويهتدون ولا يتغطرسون ويتعنجهون». كنت وأنا أتذكر أحاديث أبي وأحاول تهدئة غضبي من ليلة كانت كلها عبثا وبؤسا، ابتسم؛ فأبي بعد حصول كل كارثة كان يحاول مداواة خوفنا واستيعاب غضبنا، وكان يربّي في نفوسنا بذور السعادة والفضيلة والأمل. كنا وقتها صغارا فكنا نسمع كلامه ونهدأ ونسكت؛ ولكن عندما كبرنا صرنا نتذكر كلامه فنتبسم ولا نهدأ، ونقرّ بجهلنا الذي كلما عرفنا صار أكبر، وبعجزنا، ونسهر ولا نحلم. كنت قريبا من حاجز «الجيب»، وهي قرية فلسطينية صغيرة كانت القدس تمسك بخاصرتيها، فنصب الاحتلال بينهما سورا عاليا ومدى؛ وكان أمامي طابور من السيارات الداخلة إلى محافظة رام الله. وقف بجانب الحاجز جندي وبيده حاسوب كان يدخل إليه اسماء بعض السائقين عن طريق ما يسمونه بلغة التفتيش والحواجز «الفحص العارض». كنا نتقدم ببطء وعندما صرت قريبا منه أوقف السيارة التي أمامي وتبادل مع سائقها ومن جلس بجانبه، بعض الكلمات. فهمت أنه كان يأمرهما بالعودة والدخول إلى رام الله عن طريق حاجز «قلنديا». حاولا الاستفهام منه عن سبب قراره المفاجئ وإقناعه بتغيير رأيه، لكنه أصر وأمرهما بصرامة حاقدة، وإصبع يده على زناد بندقيته، بالعودة؛ ففعلا. ثم أشار نحوي بيده، بحركة غير المكترث، فتقدمت حتى صرت بمحاذاته. من قريب بدا مثل كل جنود الحواجز، أجسادا كساها الغبار وحشية وشرا، ورؤوسا محشوة كراهية وبنادق. لم يوقفني، كان يضحك، أو هكذا خيّل لي بعد أن مارس سلطانه على فلسطينيين عاديين ومنعهما من عبور حاجزه؛ فأشار لي أن أستمر فقطعت الحاجز ومثلي فعل من كانوا ورائي. وصلت مقرّ نادي الأسير الفلسطيني قبل وصول عائلة الشهيد أحمد الكحلة، التي تسكن قرية «رمون» شرقي مدينة رام الله. قرأت في وسائل الإعلام كيف قتل جندي إسرائيلي أحمد الكحلة وهو في طريقه إلى ورشة عمله في قرية دير سويدان. في صباح الخامس عشر من الشهر الماضي نصبت تحت «جسر قرية يبرود» قوة من جيش الاحتلال حاجزا فجائيا، أو ما يسمّى بلغة الشقاء «حاجزا طيّارا». أمر الجنود جميع سائقي السيارات القادمين من اتجاهيّ الشارع بالتوقف وعدم التحرك. كان معظم السائقين وركاب السيارات في طريقهم إلى أماكن أعمالهم ووظائفهم؛ فانتظروا، مرغمين، طويلا حتى بدأ بعضهم بإطلاق صافرات سياراتهم كخطوة احتجاج ومطالبة بفتح الطريق.
«كنت إلى جانب والدي في السيارة ونحن في طريقنا إلى ورشة عملنا في قرية دير سويدان» هكذا بدأ قصيّ ابن الشهيد يروي لي تفاصيل استشهاد أبيه أمامه. كان يحدثني بصوت خفيت وبهدوء خال من علامات الأسى والألم. كنت أسمع تفاصيل عملية إعدام والده وأمتلئ غضبا. في بدايات عملي في فلسطين المحتلة كان هدوء أهل الشهداء وتقبلهم حقيقة موت أعزائهم بنوع من الرضا والتسليم يغيظني ويدهشني؛ ولكنني بمرور السنين فهمت أن هذه المسألة ليست بتلك البساطة، وهي، في الواقع، حالة أعقد وأعمق مما تظهر عليه، وصرت أستوعب أن أسى وأوجاع هؤلاء الأقرباء على فراق غواليهم تبقى مدفونة عميقا في دمائهم وفي أرواحهم مهما تعمّدوا إخفاءها، إما باسم ما تمليه صفات الرجولة الشرقية، فلا يجوز للرجل عند العرب أن يبكي وأن يحزن بالعلن، وإما بهدي العقيدة الدينية وموروثها في مجتمعاتنا. «علت أصوات صافرات السيارات فبدأ الجنود بالقاء قنابل صوت. واحدة من هذه القنابل وقعت على سقف سيارتنا فاحتج والدي أمام الجندي على إلقاء القنبلة. كنا في السيارة فاقترب منا أحد الجنود وبدأ برش غاز الفلفل علينا، فاصبت بما يشبه العمى. سحبني الجندي بالقوة من داخل السيارة وألقاني إلى جانب الطريق، وقاموا بإخراج أبي وبدأوا بالاعتداء عليه بعنف، بينما كان يدفعهم عن نفسه، إلى أن سمعنا صوت الرصاص. كان هذا الرصاص الذي أعدموا فيه أبي من مسافة الصفر. أوقفني الجندي وأمرني أن أعود إلى بيتي فسألته عن أبي فقال: لقد قتلته». هكذا حكى لي قصي قصة إعدام والده أمامه، وسكت. حاولت إسرائيل أن تتهم الشهيد أحمد بأنه كان يحمل سكينا وقام بالاعتداء على الجنود، لكنها سرعان ما غيّرت روايتها إلى أن أحمد الكحلة حاول أن يخطف سلاح أحد الجنود، الذي «اضطر» إلى إطلاق النار عليه. وبعد أن انفضح كذب الجنود اضطرت إسرائيل إلى أن تعترف بأن احمد الكحلة قتل من دون أن يكون هناك سبب لقتله، وتبين كذلك أن الجنود الذين أقاموا الحاجز يتبعون لكتيبة كان جنود منها قد تورطوا في عمليات اعتداءات دموية وإطلاق النار على الفلسطينيين وممتلكاتهم. حاولت أن استدرج قصيّ إلى خانة أخرى على سلم الصوت، لكنه بقي في سكينته وصلابته مصمما على ضرورة ملاحقة الجنود قانونيا حتى محاكمتهم؛ فوعدته بأنني معه حتى نهاية النفس.
كنا في مقر نادي الأسير الفلسطيني وكانت مشاهد دمار الزلزال في سوريا وتركيا تعرض على شاشة التلفزيون امامنا. كنا ننظر إليها ونتابع حديثنا عن شؤون فلسطين والموت على الحواجز أو داخل السجون وفي الميادين، وماذا يمكن أن نعمل. لم تكن لأحد من الحاضرين أجوبة وحلول؛ فمعظمنا يشعر بسوء الحالة الفلسطينية وبانسداد فرص مواجهة الاحتلال الصحيحة والموجعة. بعضنا تطرق إلى موقف دول العالم وكيف تصرفوا حيال سوريا وعاقبوا شعبها المنكوب، بينما ذهبوا لتقديم المساعدات لتركيا؛ وبعضنا دلف بسرعة نحو الحرب الروسية الأوكرانية وكونها فعليا حربا عالمية ثالثة محدودة الانتشار. ومن روسيا وصلنا السودان عاصمة اللاءات الثلاث الشهيرة التي أطلقها العرب من الخرطوم عام 1967 وأعلنوا: «لا صلح، لا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحقّ لأصحابه». ضحكنا مثل المجانين، واتفقنا على أن معظم الدول العربية إنما هي مثل الكوارث الطبيعية، يجب ألا نتوقع منها غير الشقاء. هدأنا وعدنا إلى واقعنا الفلسطيني وإلى قضايا الموت والحياة فاتفقنا على أن الانقسام الفلسطيني هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر الأمل الفلسطيني. كنا محبطين على حافة الرجاء ونتساءل متى سنعود لنصير شعبا واحدا لا يخشى أفراده الردى، مستعدا لمواجهة «الزلازل والبراكين»، شعبا يقدس الحياة ويعرف أن يذرف الدمع وقت الفرح، وأن يذرفه بلا خجل رجولي، إذا غضبت الطبيعة وخطف «ملائكته» الغضة زلزالٌ لم يمهلها أن تضحك والصبح؛ أو يبكي عندما يسمع قصة كقصة الإعدام على الحاجز. قصة أحمد، رجل فلسطيني عادي كادح صادَق الفجر والازميل والكحلة ومضى وراء لقمة عيش أولاده بعزة وبكرامة؛ أحمد الإنسان البسيط الذي أعدم بوحشية لأنه كان «يموت» على الحياة ويحب تراب بلاده.
كاتب فلسطيني

 

 

 

المظاهرات في تل أبيب حرام…

والمظاهرات عند العرب «يوك» فما العمل؟

جواد بولس

 

كما كان متوقعا، فقد بدأ وزراء الحكومة الإسرائيلية الجديدة بتطبيق تدريجي لمخططاتهم المعلنة؛ ومن المتوقع أن يشعر قريبا الكثيرون من المواطنين، خاصة العرب، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى القطاعات المهنية والشرائح الاجتماعية، بتبعات السياسات الجديدة وبأوزارها.
وعلى الرغم من أن بعض الأفراد بدأوا بدفع ثمن الممارسات الإسرائيلية القمعية الجديدة، سيبقى خطر هذه الحكومة الأكبر كامنا في إصرارها على تقويض المنظومة القضائية، تحت مسمى الإصلاحات الإدارية، وتعزيز قوة وصلاحيات الحكومة وأدوات سيطرتها على نظام الحكم وتزودها بقوانين جديدة سيخضع معظمها لسلطة الشريعة اليهودية، كمصدر أعلى لفصل المقال. هكذا قرأنا وسمعنا في الأيام الأخيرة.

لا شيء يخيف ويقهر أكثر من صمت الضحايا، أو تفاؤلها الموهوم، وهذا حال مجتمعنا العربي، ويبقى غياب دور الهيئات القيادية داخل مجتمعاتنا الأكثر إحباطا

لقد بدأت شرائح واسعة من داخل المجتمع اليهودي بتشخيص رغبات أحزاب الائتلاف الحكومي، وما ستفضي إليه في ما إذا تحققت مخططاتهم، وكيف سيكون وقعها عليهم مباشرة وعلى صورة ومكانة وأمن دولتهم، التي دافعوا عنها وخدموها في العقود الماضية؛ لقد أرادوها دولة «يهودية وديمقراطية»، وآمنوا بضرورة التمسك بصيغة هذا التزاوج، معتقدين أنه قران جائز وصالح ونزيه؛ واليوم نرى أن بعضهم بدأ يعيد النظر بهذه «المسلَّمة» ويقتنع باستحالة تطبيقها، وبأن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتنفس في فضاء تحتله ديانة سُيّست وحُزّبت وجُيّشت وطغت، ولا ديمقراطية تتخثر في خوذات جنود تحتل دولتهم شعبا آخر وأرضه، ويزرعون فيها، جيشا وميليشيات سائبة، القتل والخراب والرعب صباح مساء. لا يستطيع أحد التكهن كيف ستتطور حراكات الاحتجاج الإسرائيلية التي ما زالت تبحث عن طريق سياسي واضح، وقيادات حازمة وقادرة على وضع الحروف الصحيحة واللازمة على يافطات المواجهات المقبلة؛ «فنعم للديمقراطية» هو شعار مهم وضروري، لكنه لا يكفي لترشيد المسار ودفعه نحو الهدف المرتجى، لاسيما إذا استعدنا تاريخ العوامل والظروف التي أدّت إلى تنصيب هذه القوى الخطيرة على سدة الحكم؛ فالانهيار السياسي الذي نشهده داخل المجتمع اليهودي لم يحصل بشكل فجائي؛ وعملية الانزياح تجاه هذا اليمين المتحوّر بنزعتيه الخطيرتين: قوى دينية متزمتة، إلى جانب مجموعات تحمل الفكر الفاشي الواضح، هو نتاج سيرورة طويلة، نامت خلالها هذه الجموع التي نراها اليوم تملأ شوارع تل أبيب وغيرها، أو آمنت بأن إسرائيلهم حصينة من أن تصاب بداء فقدان الإنسانية، وأنه يجوز لجيشها أن يكون «جيش الاحتلال الإسرائيلي» ويدّعي قادته أنهم أبرياء ويخدمون دولتهم الديمقراطية. تدور داخل المجتمعات اليهودية، في إسرائيل وخارجها، نقاشات حادة حول أهمية المشاركة في النشاطات الاحتجاجية ضد الحكومة الجديدة، وحول الشعارات التي يجب أن يتبناها منظمو تلك الاحتجاجات. يتوجب علينا أن نتابع ونصغي لهذه النقاشات، وكيف بدأت تخرج من بينها أصوات عديدة تنبه إلى ضرورة ربط المطالبة بالحفاظ على الديمقراطية، بإنهاء الاحتلال وبتأمين المساواة التامة للمواطنين العرب في إسرائيل؛ فهكذا فقط، راح يفكر البعض، من خلال هذه المعادلة المتكاملة يمكن أن تكون إسرائيل دولة طبيعية وديمقراطية دون زيادات ولا نقصان. ليس كل من يشارك في الاحتجاجات ضد حكومة بنيامين نتنياهو الحالية يعي ضرورة الربط بين تلك المسائل الثلاثة: الديمقراطية، وإنهاء الاحتلال، ومساواة المواطنين العرب؛ بيد أن في مثل هذه التفاعلات الاستثنائية تتحكم قوانين داخلية تبقى احتمالات تحوّلاتها على جميع الاتجاهات واردة، شريطة أن يبقى التمسك بمبدأ الاحتجاج على سياسات الحكومة المعلنة والمضمرة ومعارضتها بحركة شعبية متنامية، هو العنصر الأهم واللاحم في هذا المشهد، حتى لو اختلفت دوافع المشاركين؛ فمنهم من يشارك دفاعا عن دولته كما كان يريدها، ومنهم من لا يريد تشويه صورتها بين الأمم، ومنهم من يخشى على هزيمتها في حرب دينية قريبة، ومنهم من يجزم أن مخططات الحكومة المزمعة، لاسيما حيال مكانة الجهاز القضائي، من شأنها «أن تمس الأمن القومي الإسرائيلي، سواء على المستوى الداخلي، أو على المستوى الخارجي، هذا علاوة على مسها بهوية الدولة الديمقراطية»، كما جاء في مقال مهم بعنوان «استقلال المحاكم والأمن القومي لإسرائيل» نشر مؤخرا في نشرة خاصة تصدر عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل أبيب.
لن أعدد قائمة الأشخاص والمعاهد التي كتبت حول ضرورة الربط بين ما يجري، وكون إسرائيل دولة محتلة وعنصرية تجاه مواطنيها العرب؛ لكنني سأشير إلى مقال كتبته قبل أسبوع، في جريدة «هآرتس» العبرية البروفيسورة إيفا ايلوز، وهي اسم لامع في الأكاديمية الإسرائيلية وفي جامعات أخرى، متخصصة في علم الاجتماع. فتحت عنوان «خلاصات من الانتخابات: فقط التسامح غير الصبور ينقذنا»، كتبت عن مفهوم وعلاقة القوة بالممارسة الصهيونية، وعن مكانة الديانة اليهودية في إسرائيل وكيف تعامل معها العلمانيون اليهود، وعن تغييب الاحتلال الإسرائيلي كموضوع مركزي يهدّد صورة إسرائيل كديمقراطية، وعزت ذلك بالأساس لقادة حزب العمل؛ حتى إنها اعتبرت سياستهم سببا في اندثار حزب العمل.
لا شيء يخيف ويقهر في مثل هذه الأوقات مثل صمت الضحايا، أو تفاؤلها الموهوم، وهذا واقع حال مجتمعنا العربي، حيث نجد أن أكثريته تحترف السكوت والكسل، وقلّته تنعم بتفاؤل غيبي أو ساذج. ويبقى غياب دور الهيئات القيادية داخل مجتمعاتنا الأكثر إحباطا واستهجانا. لقد كتب، في هذا الصدد، محمد بركة رئيس «اللجنة العليا لمتابعة قضايا الجماهير العربية» على صفحته مؤخر بأننا «لسنا عبثيين كي لا نرى أهمية هذا الحراك في إسرائيل لضعضعة حكومة الفاشيين بقيادة بنيامين نتنياهو، لكن هذا الحراك ليس كافيا، ويبقى خارج الملعب الأساسي». فهل يفسّر هذا الكلام غياب دعوة الجماهير العربية للمشاركة في احتجاجات تل أبيب؟ ربما جزئيا، ولكن من سيدلّنا إذن، كيف وأين سيكون النضال كافيا؟ كنت أرغب بأن يشارك المواطنون العرب في مظاهرات الاحتجاج إلى جانب عشرات الآلاف من المواطنين اليهود، وأن يؤثّروا في مضامينها وحركتها؛ أو بالتبادل، كنت أرغب بأن نرى مثل هذه المظاهرات في الناصرة وفي سائر مدننا وقرانا وبمشاركة عربية يهودية واسعة ومؤثرة. هذا هو واجب قياداتنا ومؤسساتنا ودورها في مواجهة خطر الحكومة الإسرائيلية، فهل هم قادرون أو راغبون في القيام بمثل هذه المهمة وتحمّل المسؤولية، في حين لم ينجحوا بالتصدي لزحف الفاشية حين كان يجب أن يواجهوها، حتى وصلنا إلى نقطة الحسم التي نقف عندها اليوم. حاول ويحاول الكثيرون بيننا التعاطي مع أسباب هذا القصور والفشل مفترضين أننا كمجتمع نملك مؤسّسات ومفاعيل سياسية واجتماعية ومدنية راغبة وقادرة على أن تقود مجتمعنا، وأن تحافظ على هويته ومناعته وتحميه؛ هكذا كان الافتراض والأمل، لكنّ واقعنا كان أكثر تعقيدا وعجزا عن أداء تلك المهمة؛ فأساس مشكلتنا كان، واليوم صار أوضح، بأننا كمجتمع مارسنا حالة انزلاق خطير ولم نشعر، أو لم نعترف بأننا نفتقد لتلك المؤسسات الواقية الحقيقية، ومضينا نمارس حياتنا بين وهمين: الأول، قبولنا بما هو قائم من أحزاب وحركات سياسية ودينية تقليدية، أدخلتنا إلى دوائر مفرغة، هي بذاتها كانت تولد أسباب فقداننا لمناعاتنا الاجتماعية والسياسية وقدراتنا على التصدي لجميع التحديات الناشئة في علاقاتنا الداخلية، وفي الوقت نفسه، التحديات في علاقاتنا مع المجتمع اليهودي المتغيّر ومؤسسات وقوانين الدولة التي يفرزها ذلك المجتمع. والثاني ما نتج عن تفاقم الحالة الأولى، وهو اقتناع قطاعات واسعة من المواطنين العرب، لأسباب مختلفة، بأن أحضان الدولة أضمن وأربح لهم، فابتعدوا عن مواجع مجتمعاتهم ودخلوا «فقاعة» سرعان ما وجدوها هشة زائلة.
لقد راهن البعض على أن الفرصة أمام هيئاتنا القيادية: «اللجنة العليا» والأحزاب السياسية والحركات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني ومجالسنا المحلية، ما زالت متاحة، وكل ما ينقصها هو بعض الإجراءات التصحيحية داخل هياكلها التنظيمية، إضافة إلى إعادة نظر بعضهم في برامجهم السياسية ومعتقداتهم الناظمة لعلاقاتهم مع الدولة اليهودية. أما أنا فكنت قد وصلت إلى قناعة مفادها بأننا أمام حالة مستعصية تستوجب منا وقفة جديدة لنقرر كيف يمكننا مواجهة خطر الفاشية، واقترحت في حينه التفكير في صياغة عدة بدائل كان من أهمها، العمل الفوري على بناء الجبهة العريضة ضد الفاشية لتضمّ كل القوى العربية واليهودية المستعدة لخوض هذا النضال، حتى لو كان بعضهم يعرّفون أنفسهم كصهيونيين. لم أكن واهما عندما أطلقت ندائي بضرورة الشروع لبناء «الجبهة ضد الفاشية» بأن جميع الأطر السياسية والاجتماعية المهيمنة داخل مجتمعاتنا – رغم شعور الجميع بأننا سنكون أول ضحايا النظام السياسي المتشكل داخل إسرائيل – ستسارع للانضمام إليها، وذلك لمعرفتي أن مجتمعنا العربي يفتقد عمليا إلى مثل تلك الأطر المؤمنة بضرورة ممارسة الديمقراطية كأساس لنظام سياسي يريدون تطبيقه، لو هم حكموا في دولتهم، ولأن بعضهم لا يرون ولا يشعرون بالفاشية خطرا مطلقا تتوجب مواجهته دون قيد أو شرط، لأن بعضهم ببساطة يحمل أفكارا وعقائد لو أطلقت لها الأعنّة، في دولة يحكمونها هم، كانت ستتطابق والفكر الفاشي بتعريفاته العلمية. وبلغة أخرى أقول، وأعرف أنني سأستفز الكثيرين، نحن مجتمع لا نمارس الديمقراطية، مهما تحاورنا على صورها وأشكالها، فهي هجينة على ثقافتنا وموروثنا؛ وبعض تياراتنا المؤثرة يتبنى قيما فاشية، حتى لو لا يسمونها كذلك. إذن ما العمل؟ فإذا كانت المشاركة في حراك تل أبيب غير مرغوبة أو محظورة، أو غير كافية، وإذا استمرت حالة السكون والسكوت على حالتها في مواقعنا، فمن سيحمي معلّمة عربية طردوها بسبب «بوست» كتبته كي تمجد فيه حلمها بالوطن؟ أو من سيحمي طبيبا ابتسم وحيا مريضه الفلسطيني؟ وكيف سيحمي نفسه سائق سيارة من الرصاص إذا لم يقف عند خط من غبار رسمته ثلة قناصة عند مفرق تائه في الرملة أو في ام الحيران؟ وماذا وكيف ومن؟
كاتب فلسطيني

 

 

(صفقة رحافيا) نبكي خاسرين

أملاكا لم نصنها مؤمنين

جواد بولس

 

كشف الإعلام العبري في الأيام الماضية تفاصيل مستفيضة حول صفقتين عقاريتين لافتتين، تشملان مساحات شاسعة من أراضي مدينة القدس ومحيطها، كانت تملكها البطريركية الأرثوذكسية المقدسية. الصفقة الأولى تعرف باسم «صفقة رحافيا» والثانية يسمونها صفقة «تلبيوت هحدشاه» ونحن نسميها أراضي «مار الياس»، وعن هذه الاخيرة سأكتب لاحقا في فرصة أخرى.
من المؤسف حقا أن نضطر للكتابة مجددا حول ممارسات المسؤولين عن هذه الصفقات، من أكليروس يوناني متنفذ قابض على رقبة هذه الكنيسة المشرقية العريقة، ومستشاريهم ومساعديهم من عرب متعاونين ومستفيدين ومتواطئين. ومن الموجع فعلا أن نذكّر بأننا كنا قد حذرنا خلال السنوات الماضية من مغبة السكوت عمّا يجري في أروقة هذه البطريركية، وعن إمعان رؤسائها، البطريرك ورجالاته وأعوانهم، في نهج التفريط و»التخلص» من أملاكها الشاسعة بأساليب مفجعة، وبذرائع واهية لا يمكن قبولها.
لن تكفي هذه المقالة لسرد قائمة الصفقات التي نفّذها، خلال السنين الأخيرة، المسؤولون في البطريركية، وشملت عقارات في مواقع مهمة في مدن طبريا ويافا وقيساريا والقدس، وفي مناطق التماس مع «الخط الأخضر» وغيرها من المواقع، علما بأن معظم تفاصيل صفقات البيع أو الإحكار، التأجير طويل الأمد، التي نفّذت، نشرت بعد إتمام عمليات تسجيلها في الدوائر الإسرائيلية المختصة. تعرف الصفقة التي تصدرت عناوين الأخبار العقارية في الصحافة الإسرائيلية باسم «صفقة رحافيا» وهو اسم منطقة تعدّ من أرقى المناطق السكنية في القدس الغربية، وتقدر مساحتها بحوالي (530) دونما، أقيم عليها ما يقارب الألف مبنى سكني وفنادق ومرافق عامة كثيرة أخرى. قامت البطريركية الأرثوذكسية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، بتأجير هذه الأراضي لصندوق أراضي إسرائيل «الكيرن كييمت» لمدة تسعة وتسعين عاما. من المفترض أن تنتهي مدة هذا الإحكار/التأجير عام 2050، وعلى الرغم من ذلك قام البطريرك ثيوفيلوس وأعوانه في عام 2011 بنقل حقوق الكنيسة بتأجير الأراضي مستقبلا لشركة إسرائيلية اسمها «نيوت كومميوت»، ثم قام بعد خمسة أعوام، ببيع جميع تلك الأراضي لشركة «نايوت كومميوت» مقابل مبلغ إجمالي ذكرت الصحف أنه ناهز المئة وخمسين مليون شاقل فقط لا غير، لا نعرف كيف صرف وعلى ماذا؟ قام العديد من الغيورين على مصير عقارات البطريركية وأوقافها المتوزعة على مساحات شاسعة في البلاد، وفي مواقع استراتيجية مهمة وثمينة في القدس، بالكشف عن نوايا البطريركية بإنجاز عدة صفقات بيع جديدة، وأشاروا من خلال كتابة المقالات أو التواصل مع ذوي الشأن والمصلحة، إلى خطورة تنفيذ هذه الصفقات، كونها حلقة في مسلسل التفريط المستمر، ورغم ذلك تم للبطريركية ما أرادت! لقد كان واضحا لنا ولجميع الجهات أن ثمن أراضي رحافيا أعلى أضعافا مضاعفة مما قبل به مفوضو البطريركية، (تحدثت بعض التخمينات أن قيمة الأراضي وما بني عليها خلال السنوات الماضية قد تقترب من الملياري شاقل)، وأشرنا إلى أنه لا يوجد أي مبرر مقنع وسليم لإتمام الصفقة بهذه الطريقة المستفزة ومن دون حد أدنى من الشفافية، أو لإنجازها ليس وفق شروط السوق والمنطق ومصلحة الكنيسة ورعاياها العرب؛ هذا طبعا مع التأكيد على ضرورة المحافظة على العقارات كجزء من سياسة عدم التفريط بها وبأوقافنا، خاصة في مدينة القدس. مضت ستة أعوام فقط حتى قامت شركة «نيوت كومميوت» بعقد صفقة بيع «أراضي رحافيا» لرجل أعمال يهودي أمريكي يدعى جاري برانط مقابل مبلغ 750 مليون شاقل؛ إضافة لأجزاء من الأرض كانت الشركة قد باعتها بشكل منفرد مقابل مبلغ 95 مليون شاقل، ليصبح مجموع ما قبضته «شركة نايوت» أكبر بخمسة أضعاف على الأقل مما دفعته هي، مقابل صفقة البيع للبطريركية. ويبقى السؤال لماذا باعت البطريركية أصلا؟ وما هي الدوافع لإتمام الصفقة كما تمت ومن هو المستفيد؟

ممارسة المسؤولين في البطريركية وأعوانهم مكشوفة للكثيرين الذين يعرفون الحقائق، لكنهم يؤثرون إغفال نتائجها الكارثية

لم نكن بحاجة إلى قراءة هذه الأرقام كي نتأكد من صحة ما قلناه قبل أكثر من عشرة أعوام، فممارسة المسؤولين في البطريركية وأعوانهم مكشوفة للكثيرين الذين يعرفون الحقائق، لكنهم يؤثرون إغفال نتائجها الكارثية، بينما لا يريد البعض أن يروا الحقائق، إما عن جهل راسخ، أو عن يأس مبرر أو من مصلحة شخصية معروفة للناس؛ وهناك، للأسف، بيننا عرب مسيحيون وغيرهم، معنيون بطمس الحقائق وتشويهها، وبعضهم يفعل ذلك مقابل خمسة من فضة! في البداية عندما نشرت الصحف عن الصفقة بين البطريركية وشركة «نايوت كومميوت»، لم يصدّق البعض أن البطريركية شرعت بعقد صفقات بيع، ولم تعد تكتفي بتوقيع عقود إحكار وإيجارات، فنصحنا هؤلاء أن يتوجهوا إلى دوائر الطابو الإسرائيلية ويستخرجوا مثلنا قيود التسجيل فعساهم عندها يضعون أياديهم داخل الجرح ويؤمنوا كما «آمن توما». يحزنني أن استعيد بعض ما كتبت لهؤلاء حينها وقلت: «من سينقذ القدس وأملاك الكنيسة؟ كل من يرغب في استجماع المعلومات الدقيقة عن هذه الصفقات وعمّا سبقها من صفقات أبرمها هؤلاء في السنوات الأخيرة، لن يجد صعوبة في الحصول عليها، وعلى براهين دامغة بشأنها، فكثير منها كشفته الصحف الإسرائيلية بالمعطيات الوافية، ومعظمه نقل إلى عناية من يجب أن يعرفوا عنه، أمّا نصيحتنا لأحفاد «توما» أولئك الذين يرفضون تصديق أخبار الصفقات، رغم ما يقرأونه ويسمعونه، فسنوجزها بأن يحكّموا عقولهم والمنطق، فليس صعبا التحقق من فداحة الخسائر ورائحة الهزيمة تنبعث من تراب القدس المغتصب، أو من بين المستندات والوثائق الموجودة عند أقلام المحاكم الإسرائيلية، أو في مكاتب تسجيل الأراضي، لأن معظم ملفات تلك الصفقات أودعها المستفيدون هناك لضمان حقوقهم، حسب الأصول والقانون. فكيف نجح وينجح المتورطون بإبرام مزيد من الصفقات ويراكمون الأطيان من جرائها في خزائنهم؟ ستبقى الإجابات حبيسة الحسرة والوجع وآتية من بطن التاريخ أصداء تردد تساؤلها باستهجان: «من فرعنك يا فرعون». سوف ينتظر البعض «توضيحات» رجالات البطريركية بخصوص ما نشر وقرأناه، وسوف يسهب رجالات بلاط البطريركية في شرح ادعاءات أسيادهم وسيلجأون إلى سحر البيان و»المحاسن والاضداد»، أما نحن فسنبقى نهذي ونقول: ما ضر لو أمّنوا الصالحين العرب من رعايا هذه الكنيسة على هذه الأمانات، أكان ساعتها كهاننا العرب بحاجة لفتات موائدهم الشحيحة، أو مدارسنا الأهلية «لبركاتهم»؟ تصوروا لو نجحنا ككمشة عرب مسيحيين بالتحكم أو بالمشاركة بما ملكته هذه الكنيسة من مقدرات.. تصوروا أكان أحدكم يشعر بالاغتراب كما هو الحال اليوم، أو أكان البعض يهاجر أو يفكر بالهجرة من الوطن؟
لا تصدقوهم مهما برروا ولا تصغوا لأبواقهم «ولا تقعوا في الفخ مرة اخرى. «توماكم» آمن بعد أن وضع يده في الخاصرة، فضعوها أنتم أيضا؛ ومسيحكم المطعون في خاصرته وصاكم وهو على الصليب: «طوبى لمن آمنوا ولم يروا»، فكيف لا تؤمنوا وأنتم ترون بأعينكم، يوما بعد يوم، ضياع كنائسكم ونفاد أوقافكم وتيه سفنكم! نبكي على «أم الكنائس» ونسأل من ينقذها من هذه العتمة؟ ومن يحاسب الجناة على أفعالهم؟ وننسى كيف كانت النسوة يلطمن وينُحن على يسوع الحامل صليبه في شوارع القدس، فالتفت إليهن وقال: «لا تبكين عليّ يا بنات أورشليم، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن». فمتى يا «أهل أورشليم» ويا عرب ستصحون ومتى ستكونون شركاء في مسيرة درب الآلام؟ تأكدوا أن العرب المسيحيين الأرثوذوكس لن ينجحوا وحدهم في مواجهة «روما» فهل نحمي معا ما تبقى من حلم شرقي؟
كاتب فلسطيني

 

 

همسات في ليل رام الله

جواد بولس

 

فرحاً كطفل قطعت الطريق من بيتي في القدس إلى مدينة رام الله. هناك في أحد مطاعمها تواعدنا، أنا وثلاثة أصدقاء قدامى، أن نلتقي بعد فراق دام طويلا. أصدقائي محامون فلسطينيون عمل اثنان منهم، عدنان الشعيبي وشاهر العاروري، في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين أمام محاكم الاحتلال الإسرائيلي العسكرية لعدة سنوات، حتى سنة التوقيع على «اتفاقية أوسلو». رافقت عملية توقيع الاتفاقية تساؤلات فلسطينية عديدة؛ كما حملت المبادرة بذور تحقيق الحلم الفلسطيني بإنهاء الاحتلال وبإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد توقيع الاتفاقية كثيرا من التغييرات كان من بينها هجرة العديد من المحامين العاملين في ميدان القضاء العسكري، وعودتهم إلى مزاولة مهنتهم كمحامين داخل المناطق الفلسطينية المحررة/ المحتلة؛ وكان صديقاي، عدنان وشاهر، من بين هؤلاء المحامين، بينما بقيت أنا في موقعي برفقة زملاء جدد آخرين. أما صديقنا الرابع، المحامي شكري النشاشيبي، فلم يستهوه، منذ البداية، النضال تحت «بنديرة» القضاء العسكري الإسرائيلي، ولم يؤمن بجدواه أصلا، فقرر الابتعاد عن مباذل هذه المحاكم والاكتفاء بالعمل، رجل قانون، في ساحة العدل الفلسطيني ومنظوماته القضائية.
لم نعرف، عندما التقينا، متى ولماذا كانت «القطيعة» بيننا، خاصة منذ لحظة لقائنا الأول وقعنا على أعناق بعضنا بعضا بدفء حميمي مألوف وكأننا لم نفترق طيلة تلك السنين. لقد أجمعنا على أن الظروف التي مرّت على فلسطين كانت هي السبب الذي أبعدنا عن بعضنا؛ هكذا قبلنا الحجة بتعميم مقصود مكّننا، عمليا، ألا نتعاطى بصراحة وبدقة متناهيتين، مع تشخيص الانهيارات التي أصابت فلسطين وأعطبت منظومات قيمها، الوطنية والاجتماعية، كما سادت فيها عندما كنا نركض شبابا على أدراجها بلهفة الصبح وهو يطرد، بعناد الماس، العتمة نحو العدم. تدافعت حكاياتنا كسيل كان حبيسا في صدور الزمن: فضحكنا تارة حتى الدمع، وغصصنا تارات بالدموع. تذكرنا كيف كنا محامين شبابا ندقّ أبواب المحاكم العسكرية بقبضاتنا وبإيماننا بقدسية ما نقوم به، وكيف كنا نزور أسرى الحرية في سجون الاحتلال، كي نقف معهم في وجه الطغيان، ونستمد منهم معنوياتنا ونعود إلى بيوتنا ومكاتبنا طائرين بجناحين من أحلام، حسبنا أنها لن تشيخ، ومن أمل سرمدي حسبنا أنه لن يزول. لم يشغلنا، خلال الجلسة، وجع الفراق إلا من باب الحنين والعودة إلى الفرح الذي سبقه؛ أو للدقة حين استحضرنا فلسطين التي كانت تسكننا وتسكن قلوب أبنائها. فلسطين التي إن كنا ننطق باسمها، كنا ننطق بكل معاني الحرية والنضال والعدالة والأمل والتضحية. فلسطين التي على أرضها خلق «قوس قزح» وزرع، قبل أن تتبدد ألوانه وفصائلها هباء، في حضنها وعاش وادعا آمنا. فلسطين التي وحّدت الفكرة والهمّ والنشيد والعلم. هي تلك الأم التي لم يختلف عليها ومعها أولادها، فكانت بالنسبة لجميعهم، خاصة عند ساعات الحسم والخطر، الصلاة والحلم والمهد واللحد والفردوس والوطن. ليل رام الله يضج بالأضواء وبالسمّار وبالأساطير، وسماؤها ناعسة تغض طرفها عمّن يمارسون أكل «خبزهم الحافي» في الأزقة والمقاهي والميادين؛ فهي، مذ حاصر الاحتلال الإسرائيلي القدس وخنقها كليا، ووهب سائر المدن الفلسطينية الكبيرة «استقلالها الكانتوني»، صارت مدينة الأصداف الهامسة والنبيذ، ومتنفسا لرئات شبابها وللحالمين. لقد انتقلنا فيها، مثل قطيع غزلان جائعة، من حاكورة منسية إلى بستان أخضر يانع، ولم نشعر بأن الوقت يمضي. كان ضروريا أن «أطمئنهم» إنهم لم يخسروا شيئا بابتعادهم عن العمل في المحاكم العسكرية، فهذه المحاكم وصلت في السنوات الأخيرة إلى حضيض لا قاع له ولا مثيل؛ وهي أسوأ بأضعاف المرات عما كانوا يعرفون من قبل. كذلك أوجزت لهم تفاصيل حال الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية، وكيف تحوّلت عمليا هذه القلعة الرمز، منذ تجذر الانقسام بين غزة والضفة الغربية، إلى كائن غير الذي كانوا يعرفونه ويتعاملون معه ويضحّون من أجله. لقد أفهمتهم أن ما كان يوما ناقوس فجر الأحرار، وضابط إيقاع النبض الوطني في شوارع فلسطين ومواقع كثيرة في العالم، صار مرآة محطمة، تعكس وجه الحالة الفلسطينية المتشظية في الخارج وتحمل كل أمراضها وأنّاتها. توقفت عند حافة الليل، وعدت معهم إلى «شراع يرعى ظلنا وحلمنا»، فلملمنا كثيرا من نتف قصصنا التي عشناها في قاعات المحاكم، أو خلال سفرنا لزيارات السجون، مثل رحلاتنا لزيارة خيام سجن «كتسيعوت» (أنصار) المقام على رمال صحراء النقب، أو زياراتنا لسجني «الفارعة» «والظاهرية» سيئي الصيت. كنا كأربعة جنود يلتقون بعد سنوات ويستذكرون أيام كتيبتهم وتفاصيل معاركهم وملذاتهم. كانت قصصنا مليئة بالحسرات وبالألم، لكنها كانت تفيض أيضا بمشاعر الغبطة والفخر. لقد كنا حينها نعي أننا نناضل بحزم ضد احتلال غاشم وواضح، ونقف في وجه ممارساته حتى آخر الأنفاس؛ لكننا كنا نعي كذلك، أن الذي كنا نقوم به بقناعة كاملة ورضا قدسي وبسعادة، هو واجبنا تجاه من يناضلون من أجل حرية شعبهم/نا. هكذا كان يوم كانت فلسطين «قبلة المشرقين» وحين كانت «الأمة ترد الضلال وتحيي الهدى»؛ فأين اليوم منا كل هذا وتلك؟ وعندما جاء دورهم ليطلعوني على ما غاب عني من حياة فلسطين المحررة في عرف «اتفاقية أوسلو»، لم يجدوا إلا الحقيقة يطرحونها أمامي؛ وكانت مرّة. كنت أعرف كثيرا مما وصفوه، فحاولنا، معا، أن نجد بين الضلوع ملاذات آمنة لمستقبل أولادنا، فأخفقنا. لقد نجح الاحتلال باغتصاب اتفاقية أوسلو وطوّعها لمآربه، بعد أن دق خناجره في خواصر منظمة التحرير، من كانت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويريدونها جسدا ممزقا لا سيقان له ولا سواعد. لقد نجحت إسرائيل بتواطؤ شركائها، ومن بينهم «أشقاؤنا» وأعداؤنا، من الداخل ومن الخارج، بتثبيت الانقسام الفلسطيني الذي بدأ عام 2006 حتى اختلف أبناء فلسطين على مفهوم الفكرة، وعلى معنى الدولة، وأين سيكون الوطن، واختلفوا كذلك على كلمات الدعاء وعلى نبض النشيد وعلى لون العلم. كنا واقعيين مثل «بنات العنب»، فكانت النتيجة التي خلصنا إليها صعبة علينا حتى حدود المتاهة؛ حاولنا أن نجد فلسطيننا الفتية والأبية، التي كنا نمد لمناضليها وأحرارها ، كمحامين وأكثر، أضلعنا كي يعبروا «الجسر في الصبح خفافا» ويحيون؛ فلم نجد منها، في تلك الليلة، إلا بعض أصداء لتناهيد بعيدة ونثار آمال منهكة. فلسطيننا اليوم عابسة كعاصفة، وتائهة كزغاريد أمهات الشهداء، «وتحترف الحزن» كقبر. فمن أبله يراهن على صمت صارخ!
لقد كان الانتقال إلى وصف حالتنا، نحن الفلسطينيين المواطنين داخل اسرائيل، تلقائيا وسهلا؛ فسياسة الاضطهاد والقمع الحكومية في حقنا تتفاقم من يوم إلى يوم، وما يخطط ضدنا، في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ينذر بخواتيم كارثية، قد تكون متشابهة من حيث النتائج المحتملة مع ما يخطط لمستقبل الأراضي والمواطنين في المناطق الفلسطينية المحتلة. وعندنا، كما في المناطق المحتلة، نعاني من أزمة على مستوى القيادات بشكل عام وتشتت في وحدة الموقف السياسي، ونعاني كذلك من خلخلة في دور الهيئات التمثيلية، السياسية والمدنية، خاصة داخل الأحزاب والحركات السياسية والدينية التقليدية، وداخل «لجنة المتابعة العليا» المتعبة والضعيفة والمفككة، علما بأنها من المفترض أن تكون عنوان الجماهير العربية السياسي في إسرائيل.ل قد أخافنا هذا التشابه بالبؤس واليأس وبفكرة عدم وجود، في المستقبل المنظور، مخارج وحلول لأزماتنا الوجودية الخطيرة التي وصلنا إليها، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل إسرائيل. ولكن.. لم يكن كلامنا كله يأسا. كنا نُسمع ليل رام الله همساتنا/أناتنا، ونتذكر كيف كنا أربعة أصدقاء جمعهم حلم وأرض وعاصفة ونبيذ، فافترقوا على محطة قطار، لكنهم بقوا على رصيف الوعد وفي عهدة الصداقة النقية، وبقي محفورا في قلوبهم وشم الوفاء لفلسطين، الذي لا يقدر عليه لا احتلال ولا برق ولا رعد. أربعة عادوا إلى «وطنهم» الذي من حب ومن ذكريات ومن حنين، فالتقوا وكأنهم على وجع الذي هو من «نوع صحي»، كما قال درويشنا «لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل».. وعاطفيون».
كاتب فلسطيني

 

 

 

من يتابع قضايا المواطنين

العرب في إسرائيل؟

جواد بولس

 

لقد مرت ثلاثة أسابيع على مصادقة الكنيست الإسرائيلية على حكومة بنيامين نتنياهو، وعلى شروع وزرائها الثلاثين بالعمل، كل وفق حجم حقيبته الوزارية، التي خاطها «الزعيم» بحرفية بهلوانية، محاولا إرضاء أكبر عدد من أتباعه وحلفائه الطامعين في المناصب، وفي مشاركته في صنع التاريخ.
لم تدعنا الحكومة الجديدة ننتظر طويلا، ولا أن نشقى في تكهناتنا حيال وجهتها السياسية العامة، وأهداف برامج عمل وزاراتها الفورية والمستقبلية؛ فمنذ لحظة استلام الوزراء لمناصبهم، شرعوا، كل من موقع سلطته، باستعراض وفائهم لناخبيهم ولكونهم، كما صرحّوا قبيل الانتخابات، حكومة يمينية خالصة، ستسعى إلى تغيير جذري في وضع مؤسسات الدولة، خاصة ما يتعلق بمبنى وصلاحيات المنظومة القضائية على تفرعاتها، وفي مكانة المواطنين العرب، «الذين يجب أن يفهموا من هم أصحاب البيت هنا»، وإن لم يفهموا طوعا فسوف تكون كل الوسائل متاحة في سبيل إقناعهم بهذه الخلاصة. أما على صعيد المناطق المحتلة فجميع الوزراء ملتزمون، كما جاء في الخطوط الأساسية للحكومة، بأن «للشعب اليهودي الحق الحصري، غير القابل للطعن، على جميع أنحاء فلسطين.. وأنه سيتم فرض السيادة على «يهودا والسامرة « مع اختيار الوقت المناسب، ووفقا للحسابات القومية والدبلوماسية المتعلقة بدولة إسرائيل». هكذا سيبقى، كما يبدو، ليل فلسطين طويلا.
ليس من الضروري تحليل ما جاء في وثيقة «الخطوط الاساسية» كي نستشرف مآرب الحكومة الاسرائيلية ومهامها وما تخططه لنا تحديدا؛ إذ يكفي للتيقن من خطورتها أن نتابع قرارات الوزراء المعلنة في الأسابيع الثلاثة الأولى من جهة، ورزمة مشاريع القوانين التي باشرت الكنيست فورا في سنها، من جهة ثانية؛ فجميعها يؤكد أننا نقف على عتبات نظام حكم سياسي جديد لا نعرف كيف وإلى أين ستأخذنا عواصفه، تماما كما أشرنا إليه في الماضي.

نقف! أو ربما معظمنا نائمون

من اللافت أنه على الرغم من مرور هذه الأسابيع، لم نلحظ أي نشاط احتجاجي يذكر داخل مجتمعنا العربي، سواء على المستوى الحزبي، أو الجماهيري، أو من قبل منظمات المجتمع المدني، وهي كثيرة بيننا. والأكثر غرابة هو عجز القيادات السياسية والدينية والاجتماعية البادي للملأ، وصمت التجمعات النخبوية؛ فسوى انتشار بيانات الوعيد وتحذير الحكومة من مغبة سياساتها المتوقعة في حقنا، لم تشهد مياديننا أية مبادرة شعبية جدية، ولا منصاتنا محاولة حقيقية لتناول تداعيات هذه المرحلة السياسية علينا، أو تقييم مخاطرها الوشيكة، وطرح سبل ملموسة لمواجهتها؛ ما عدا قيام البعض بتشخيصها أكاديميا، أو تقريريا على الطريقة النخبوية الحذقة.

لم نلحظ أي نشاط احتجاجي يذكر داخل مجتمعنا العربي، ضد حكومة نتنياهو اليمينية، سواء على المستوى الحزبي، أو الجماهيري، أو منظمات المجتمع المدني

قد يكون هذا الغياب المقلق عارضا لما تعاني منه معظم تلك العناوين، على اختلاف أهداف أنشطتها ومسؤولياتها تجاه مجتمعها وبشكل عام. فمنظمات المجتمع المدني مثلا، تعرف أنها أهداف مباشرة لسياسة الحكومة المقبلة، ويخشى بعضها، بسبب ذلك، القيام بأي «تحرش متسرع» فيها، ويلجأون، بدافع غريزة البقاء، إلى اعتماد سياسة التباطؤ والتحفظ «والتعقل». أما المسؤولية الكبرى عن حالة النكوص والعجز المستحكمين في مجتمعاتنا، فتبقى ملقاة على كاهل المؤسسات القيادية السياسية التمثيلية الأساسية، التي بناها القادة المؤسسون في سبيل أن تقود الجماهير العربية في إسرائيل عند ساعات الحسم لمواجهة سياسات القمع والاضطهاد الفاشيين، التي نتوقع أن تمارسها الحكومة المقبلة. وقفت على رأس هذا الهرم المؤسساتي تاريخيا كل من: «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل» و»اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في إسرائيل»، ومن خلالهما وإلى جانبهما نشطت الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية الفاعلة في مواقعنا، حيث كان لبعضها دور ريادي مميز حفظته دفاتر الأيام وذاكراتنا التي لا تنسى. سوف أعود لاحقا إلى قدرة الأحزاب الأساسية في مواجهة هذه المرحلة، ما لديها وما ليس لديها؛ فضعفها الواضح لا ينعكس في عدم نجاحها بتحريك «الشارع» العربي، كما كان متوقعا في ظل المستجدات السياسية الحالية، وكما كان يحصل في الماضي، وحسب، بل سنجده في ضعف أداء المؤسستين القياديتين الأخريين: «لجنة المتابعة، واللجنة القطرية للرؤساء». فضعف الأحزاب الكبيرة الأساسية أدى، بشكل طبيعي، إلى ضعف باقي المؤسسات، وحتى إلى شلل بعضها شبه التام، كما حصل مع «لجنة المتابعة العليا» التي نلمس اليوم أكثر من أي وقت مضى، غيابها الكامل عن الفعل السياسي المؤثر لصالح المواطنين العرب، وعدم متابعتها وتأثيرها الإيجابي، المتوقع والمنشود، على الرأي العام المحلي والإسرائيلي. أقول هذا مشيرا إلى كونها «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل»، كما يؤكد اسمها الظاهر في رأس الصفحة الأولى من دستورها. من الضروري أن يكتب بموضوعية عن «لجنة المتابعة» أكثر وأكثر؛ فبقاء أدائها على الشكل الحالي ليس من مصلحة المجتمع، وضرورة التفكير في إعادة هيكلتها، وليس عن طريق إجراء انتخابات عامة بين المواطنين العرب، كما يطالب البعض، وإعادة تأهيلها يقع في باب المصلحة المجتمعية العليا.
لست بصدد تعداد الأسباب التي أدخلت هذه المؤسسة القيادية المهمة إلى أزمتها الحرجة؛ فبعض تلك الأسباب يتعلق بتمسك القيّمين على اللجنة وقبولهم تمثيل بعض الأجسام والأحزاب والحركات السياسية المندثرة أو الوهمية غير الموجودة فعليا في الواقع، حيث لا يزيد عدد أعضائها الفعليين عن عدد ممثليها في هيئات اللجنة. وبعض الأسباب الأخرى تستوردها اللجنة من الصراعات بين كوادر الأحزاب مع بعضها، أو الصراعات داخل هيئات الحزب ذاته؛ فجميع تلك الصراعات تتفاعل في أروقة اللجنة وتصيبها بالوهن وتتسبب بإبعاد الناس عنها وبالتوقف عن إيمانهم بدورها وبمصداقيتها. لقد غابت أخبار عمل معظم اللجان المدنية المهنية الاختصاصية المنبثقة عن لجنة المتابعة، وبقيت أخبار «لجنة الحريات المنبثقة عن لجنة المتابعة» الناشطة في متابعة «قضايا الحركة الأسيرة في الداخل» هي أبرز الأخبار التي تكاد تذكر بوجود «لجنة المتابعة العليا»؛ وهذه اللجنة، على الرغم من أهمية نشاطها بالنسبة لشرائح معينة في المجتمع، ليست من أهم أولويات شرائح أخرى واسعة من المواطنين.
أعتقد أن قادة المؤسسة السياسية الأهم بين المواطنين العرب في إسرائيل يشعرون بالتآكل الحاصل في مكانتها وبفقدان كثير من مصداقيتها بين المواطنين؛ فهل سيعيدون النظر في أولويات عملهم والتركيز على قضايا وحقوق الجماهير الفلسطينية داخل البلاد، كما جاء في دستور اللجنة، يعني داخل إسرائيل؟ هل فعلا هم قادرون على ذلك؟
لا يغيب عن ذهني أن بعضا من هذا الصمت الرائج بين المواطنين العرب في إسرائيل، وحتى داخل كوادر الأحزاب والحركات الإسلامية، مرده إيمان هؤلاء بأن الحرب الأهلية بين اليهود باتت وشيكة؛ فدعوهم يقتتلون ويسجنون ويقتلون بعضهم بعضا. أنا لست من هذه الفرق، لأنني تعلمت من دروس التاريخ أن نيران مثل تلك الحروب كانت بحاجة إلى حطب خاص ومختلف؛ ونحن، في هذه البلاد، سنكون ذلك الحطب. فحي على العمل وحي على الفلاح.
في المقابل، فرحت لأن كثيرين مثلي لا يؤمنون بنظرية الحرب الاهلية اليهودية الوشيكة، كخيار لخلاصنا من القريب الآتي؛ وكان من بين هؤلاء النائب أيمن عودة الذي شارك كخطيب، في مطلع الأسبوع الجاري، من على منصة مظاهرة الألوف في تل أبيب؛ فعساها تكون الخطوة الجبهوية الأولى في مسيرة الألف خطوة على طريق النضال الضروري. كذلك كانت مبادرة «اللجنة القطرية لرؤساء المجالس العربية» التي بعثت باسم جميع الرؤساء العرب برسالة غاضبة لرئيس الحكومة نتنياهو تحذره فيها من سياسات القمع المخطط لها؛ ودعته، وهذا المهم، إلى عقد جلسة عمل شاملة وتفصيلية، في أقرب وقت ممكن بينه وبين ممثلي اللجنة القطرية كهيئة وحدوية جماعية تمثيلية لجميع رؤساء السلطات العربية في البلاد. فهذه مبادرة لافتة ومهمة وبحاجة إلى متابعة وإصرار. كم قلنا مرارا إن مياديننا يجب أن تبقى هنا في الداخل، على طول البلاد وعرضها؛ وكم أكدنا لهم ولنا: أنهم لوحدهم لا يستطيعون، ونحن لوحدنا غير قادرين.. مهما صرخنا في رام الله أو نابلس أو القدس أو في أحلامنا: «وين وين وين الملايين»…
كاتب فلسطيني

 

 

كريم يونس

كان حرا… صار حرا

جواد بولس

 

بعد أربعين عاما كاملات تحرر أمس الأسير كريم يونس من سجون الاحتلال الإسرائيلي. من المستحيل أن يتخيّل أي إنسان، لم يعش هذه التجربة، مهما اتسع إدراكه، أو اتقد فكره، كيف يشعر كريم في هذه الساعات والأيام؛ وأعتقد أنه حتى هو لا يعرف كيف سيواجه «عالمنا» الذي لا يشبه عالمه، أو كما باح بنفسه، من خلال رسالته الأخيرة التي نشرها مطلع هذا الاسبوع تحت عنوان «سأغادر زنزانتي» قائلا: «سأترك زنزانتي، والرهبة تجتاحني باقتراب عالم لا يشبه عالمي، وها أنا أقترب من لحظة لا بد لي فيها، إلا أن أمرّ على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم، أو الخذلان، ودون أن أضطر لأن أبرهن البديهيّ الذي عشته وعايشته على مدار أربعين عاما، علّني أستطيع أن أتأقلم مع مرآتي الجديدة، وأنا عائد لأنشد مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي».
لا أجد مكانا، في لحظات ولادة الأمل الفلسطيني الحاضرة، لاستحضار هواجس المستقبل ولا إثقالاته المحتملة، ولا حاجة لتذكير كريم، وهو يراقص القمر فوق سماء قريته، بقوائم المآسي والأزمات التي تعصف بمجتمعنا، وتهدد هويته ووحدته وآماله؛ فكريم في تحرره، بعد أربعين عاما من الأسر، يرسم على صفحة البشرية، مشهدا ملحميا فريدا تطل من ثناياه كل معاني التضحية والإصرار والفداء والوفاء والأمل، الفلسطينية. قد لا يقدّر البعيدون عن فلسطين المحتلة حقيقة ما أقوله، لكن الفلسطينيين العاديين، الذين أعرف كثيرين منهم، يعيشون منذ شهور فأسابيع فأيام فساعات على نبض الفرح، ويحسبون الوقت، كما يفعل كل الأحرار، وفق ساعات الموت والأمل.

بعد أربعين عاما من الأسر، يرسم كريم على صفحة البشرية، مشهدا ملحميا فريدا تطل من ثناياه معاني التضحية والإصرار والفداء والوفاء والأمل

أربعون عاما عاشها كريم في زنزانته حرا في أعماقه، لا تشغله إلا قضايا البقاء والحرية الكبرى: كيف يحافظ، هو ورفاق الأسر، على أحلامهم من الموت، وكيف لا يتحوّلون، كما يريدهم السجان، إلى مسوخ بشرية بائسة أو إلى مجرد طفيليات سائبة. أربعون عاما عاشها ذاتا ذائبة في جسد منيع، سمّاه التاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية، وعرف مثل رفاقه أنهم فقط «عندما تصير الحياة طبيعية سوف يحزنون كالآخرين، لأشياء شخصية». واليوم وقد مضت الأربعون ووقف كريم على عتبة «حياته الطبيعية» مثقلا بشوق سرمدي سمح لنفسه أن يتساءل، على غير عادته ويقول: «سأترك زنزانتي، والأفكار تتزاحم وتتراقص على عتبة ذهني وتشوش عقلي، فأتساءل محتارا على غير عادتي إلى متى يستطيع الأسير أن يحمل جثته على ظهره ويتابع حياته والموت يمشي معه، وكيف لهذه المعاناة والموت البطيء أن يبقيا قدره إلى أمد لا ينتهي، في ظل مستقبل مجهول وأفق مفقود وقلق يزداد مما نشاهد ونرى من تخاذل». هكذا يتساءل المناضلون الأنقياء ولا ينتظرون الجواب من أحد. قبل سبعة أعوام كتبت في أعقاب زيارتي لكريم في سجن «هداريم» مقالا نقلت من خلاله خلاصات زيارتي لمناضل لا يشيخ كالغيم. واليوم وأنا أستذكر تلك الزيارة أعرف أن كريما سوف يجتاز عاصفة الحب الشديدة التي ستحاصره في أيام حريته الأولى بفرح وبصبر وباتزان، وسوف يعرف كيف يتعامل مع مرايا مجتمعه، المحطمة منها والسوية، كذلك بوجع وبحكمة وبإصرار، وسوف يداري جراح قلبه بمصاحبة الندى وشدو العنادل. وسيتعرف بعد حين على حقيقة واقع مجتمعاتنا وأزماته، وعلى ورطاتنا مع سياسات الحكومة الإسرائيلية؛ وأتمنى بعد كل ذلك، ألا يقنط وألا يخذل وألا يشيخ؛ فهو الكريم الحر، كما كتبت في حينه: زيارة للحر كريم يونس: في الصباح كان مزاجي متعكّرا؛ لا أعرف ما السبب، فبعض الأيام، في شرقنا، تولد خالية من شهيّتها للضوء، وتُبقي روحك ثقيلة كظلمة. تركت البيت متجها إلى سجن «هداريم» لأزور الأسير كريم يونس. بعد ساعة وصلت إلى باحة سجن «هداريم»، الذي صار، مع السجون الأخرى الملاصقه له، يشبه قرية صغيرة تذكرنا بمنشأة في أفلام الخيال، حيث يتحرك السجانون في جمع مرافقها وساحاتها كروبوتات استنسخت في المختبر نفسه. لم تكن تلك زيارتي الأولى لسجن «هداريم»، ولكن في كل مرة كنت أقرر فيها زيارة السجن، كنت أكتشف أنني لم أشفَ من رعشة اللقاء الأول، وأن سنين عملي الطويلة لم تساعدني على ترويض قلبي الذي كان يستعيد، في هذه «الرياض»، صباه، سألته، بعد أن تبادلنا ما يقتضيه الحال من أسئلة روتينية وتقارير لازمة، كيف يقضي ساعات يومه، وهو ينهي عامه الثالث والثلاثين في الأسر؟ توقعت كل الأجوبة، إلّا ما أجابني به، فتحوّل سؤالي إلى حوار لم أتمن أجمل وأثرى منه، خاصة بعدما بدأت صباحي برمادية ناعسة وفكر شريد. «إنني أشكو من ضيق الوقت»، قالها بهدوء، ودون أن يشعر بأنه يوقظ مسامات جلدي! ثم أردف وقال: «أتمنى لو كان النهار أطول، فعلاوة على ما أقوم به من تمارين رياضية ضرورية، ودراسة منهجية حثيثة للقب الجامعي الثاني، ألتزم مسؤوليتي، كأمين لمكتبة السجن التي تزود زملائي الأسرى بالكتب وغيرها». توقف حين لاحظ أنني سرحت وغبت عنه. كنت، في الواقع، أحدّث نفسي وأتساءل كيف يمكن للسجان، مهما كان عربيدا وقاهرا، أن يكسر روح هذا الكريم؟ بعد برهة قصيرة عدت إليه مستفسرا، «من أين تأتي يا كريم بهذا الأمل؟». كان لدينا كل الوقت والشهية على الكلام، فمضى يشرح لي عن بداياته، حين اعتقل وهو طالب في السنة الدراسية الثالثة في جامعة بن غوريون، وحكم عليه في مطلع عام 1983 بالسجن المؤبد. وقتها، هكذا فهمت من حديثه الموزون والمتأني، كان فتى يقف على الريح، ويريد أن يطير كنورس نحو جزيرته البعيدة. كان يفتش عن حلم في ما وراء المدى، ويخشى اليوم على ضياع البيت والوسائد. «هل ظل في قلبك مكان للحب؟» سألته، وتابعت: «وما هو أكثر شيء تشتاقه وسيكون أول ما أو من تريد أن تراه أو من تلقاه؟». لم يصبر ولم يتردد. استل جوابه بتلقائية وبدفء عاشق، فقال: «لا أعرف كيف يبدو العالم الخارجي اليوم. سيكون التأقلم صعبا عليّ، ولكنني أشتاق للحرية، لحريتي، وشوقي إليها ورغبتي بالحصول عليها يمداني بكل أسباب رغبتي بالحياة وبالصمود وبقدرة الانتظار»، ثم أضاف، بعذرية قلب مناضل عتيق: «لم أجرّب ذلك الحب، إن كنت تقصده، وللحقيقة لا أعرف إن كان موجودا وكيف يكون؛ لكنني أعرف الحب بمفهومه الأعمق والأشمل وهو ذلك الشيء الذي يملؤني اليوم أكثر من الماضي بالأمل وبالأحلام وبالإصرار». كنت أنظر مباشرة إلى وسط وجهه، وأطابق حركات شفتيه مع كلامه الذي يتساقط في أذني كوشوشات فجر. لاحظت على خديه توردا أنيقا، وفوقهما عند حافة المقلتين كانت كرات بلورية صغيرة تحاول أن تفرّ. لم يتركها تسقط فسألته: «هل تحاول أن تحجب ماء العزة عن خدك؟». كان صريحا؛ فأفهمني أن السجن قد غيّره كثيرا، وأن العالم، من موقعه يبدو مختلفا وقد تغير كثيرا، وأضاف أن الزمن علمه أن يكبت عواطفه، ويحكّم عقله، ثم حكى لي كيف، بعد هذه السنين، صار يفهم معنى «الواقعية» ومعنى «المصلحة الوطنية»، وما الفارق بين النضال المأمول.. النضال الممكن، والنضال الخاسر. وشرح لي بروية لماذا صوّت للقائمة المشتركة في انتخابات الكنيست (عام 2015). تحدثنا حتى نسينا الدنيا.
في طريقي إلى خارج السجن سألني السجان المرافق عن لقائي، وكان يعرف من يكون كريم يونس، فأجبته: «دعني أوجز لك القصة بحكمة تعلمتها اليوم من هذا الحر؛ فهو يؤمن، أنه ما دام الموت ليس خيارا عندك، فإما أن تعيش الحياة بحفاوة وبكرامة، وإما أن تمضي أيامك ذليلا ولاهثا وراء السراب في عالم من عدم ويباب». أصغى السجان لما قلته لكنني شعرت، هكذ بدا عليه، بأنه لم يفهمني مع أنه كان عربيا. حاولت أن أبسّطها له فأوضحت أن كريما أكد لي على ما تعلّمه من حكمة أحرار كبار سبقوه، على أن: «لا أحد يستطيع أن يمتطي ظهرك إلا إذا وجدك منحنيا». قلتها وكنت أسبقه بخطوتين. سمعت غضبه يصرخ في صمت، وأحسست بسهام عينيه تناوش صفحة ظهري. تركته والسجن وكنت مبتسما.
كاتب فلسطيني

 

 

 

رسالة مفتوحة

لقوم لم ولا يقرأون

جواد بولس

 

كما كان متوقعا وبناء على نتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل، لم يجد بنيامين نتنياهو صعوبات عسيرة حقيقية في تشكيل حكومته التي، من دون شك، سوف تسعى إلى تنفيذ ما جاء في خطوطها العريضة ووفق جميع الالتزامات التي اشتملت عليها الاتفاقات الثنائية الموقعة بين كل حزب على حدة، ورئيس الحكومة القادم. لن أكتب عن ممارسات الحكومة المقبلة المتوقعة على جميع الجبهات والأصعدة، لكنني أذكّر بأننا نقف على عتبة عهد ظلامي إسرائيلي جديد لا يشبه ما ألفناه طيلة العقود الماضية.
لقد امتلأت الصحافة العبرية ومنصات الإعلام بآراء أعداد كبيرة من المعقبين والمحللين، الذين أبدى معظمهم تخوفا مما ستنتهي إليه العملية السياسية الجارية التي يقودها بنيامين نتنياهو، وإسقاطاتها شبه المؤكدة على تقويض أسس الدولة كما بناها وأرادها مؤسسوها الأوائل.
لن أتطرق إلى مواقف المئات ممن أبدوا مخاوفهم ومواقفهم جهارا ضد الحكومة المقبلة، لكنني سأشير إلى موقف رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية السابقة دوريت بينيش، التي صرّحت به مؤخرا في الصحافة العبرية. سأفعل ذلك لسببين، أوّلهما شخصي، وثانيهما، لأنها تنطق عمليا باسم آخر المعاقل المطلوب «رأسها» والإجهاز عليها من قبل الحكومة المقبلة، وأعني المنظومة القضائية بكل فروعها، وفي مقدمتها المحكمة العليا الإسرائيلية.
وهذا، في الواقع، ما أشارت إليه القاضية بينيش، في مقابلة أجرتها معها يوم الأربعاء المنصرم جريدة «كلكليست» الإسرائيلية، وأعلنت فيها: «إننا، من دون شك، نواجه واقعا مغايرا؛ والمهم ألا نصاب بالذعر، لكن علينا ألا نستسلم». ثم أردفت مؤكدة أن «نظام الحكم الذي كان سائدا بفخر طيلة 75 عاما، يواجه الخطر هذه الأيام. فنحن لسنا إزاء عملية إصلاحات قضائية، كما يقال في تعابير مغرضة، بل نحن أمام تغييرات جذرية في مبنى السلطة والحكم، وفي المفاهيم السياسية والاجتماعية الخاصة بإسرائيل. أنا قلقة جدا. لقد تخطوا الخطوط. إنهم يحطّمون الأطر الأساسية التي بنيت عليها، خلال سنوات طويلة، السلطة ونظام الحكم في إسرائيل. يتوجب علينا أن نستفيق».

يقف الفلسطينيون على عتبة عهد ظلامي إسرائيلي جديد لا يشبه ما ألفوه طيلة العقود الماضية

أتمنى سيدتي أن تستفيقوا، لكنني أخشى من حكاية «الثور الأبيض» أتتذكرينها؟
لست متأكدا من أن أقوال القاضية بينيش ستلفت عناية المواطنين العرب في إسرائيل، على الرغم من كونها تصريحات مقلقة جدا، وتشكّل عيّنة من فيض مخاوف مشابهة، كانت قد أبدتها مئات من الشخصيات الاعتبارية المرموقة اليهودية، التي تمثل شرائح واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي، والمنتمين إلى مجالات مهنية مختلفة: سياسية وأكاديمية واقتصادية وعسكرية وأمنية وحقوقية وغيرها، أرى أن عربات النار تسير نحو أهلنا وناسنا وهم يحسبونها طيورا من الجنة، أو أنهم نيام. أمّا بالنسبة لي فهذه الأقوال تذكّرني بقصتي الطويلة والمؤسفة مع الرئيسة السابقة للمحكمة العليا دوريت بينيش وزملائها القضاة. أتذكّرهم اليوم وأشعر مستفَزا وحزينا.
لقد تعودّت منذ سنوات أن أكتب مقالي الأخير في نهاية كل عام ميلادي على شكل رسالة مفتوحة معنونة لشخصية كنت اختارها حسب الظروف ولأهمية مضمونها في ذلك الوقت. كانت رسالتي المفتوحة في نهاية عام 2010 معنونة لرئيسة المحكمة العليا، في حينه، القاضية دوريت بينيش. لقد خاطبتها أثر قيام مكتب الإدارة العامة للمحاكم في إسرائيل بنشر بيان بخصوص قرار حكم أصدرته المحكمة العليا بحق شرطي يهودي كان قد أدين في المحكمة المركزية بقتل شاب عربي. كان إصدار بيان إدارة المحاكم فعلا غير مسبوق ومفاجئا للجميع، وقد جاء كردة فعل تبريرية ودفاعية من قبل جهاز المحاكم ضد حملة تهجمات شعبوية واسعة قادتها منظمات وشخصيات يمينية، واستهدفت قضاة المحكمة العليا بسبب قرار حكمهم في قضية الشرطي، الذي قام بقتل العربي، من دون أن يكون لذلك أي مبرر أو مسوغ، كما جاء في قرار المحكمة. لقد حكمت المحكمة المركزية على الشرطي اليهودي بالسجن الفعلي لمدة خمسة عشر شهرا؛ فقامت نيابة الدولة بتقديم استئناف على الحكم المخفف بشكل غير منطقي، وطالبت بحكم أقسى. قبلت المحكمة العليا استئناف نيابة الدولة، وحكمت على الجاني بالسجن الفعلي لمدة ثلاثين شهرا فقط، كما أوضحت أن الجاني لم يتقيّد بتعليمات إطلاق النار وقام بإطلاق رصاصه من مسافة قريبة جدا، بينما لم يكن في حالة خطر، ولا في حالة تستوجب استعمال السلاح أصلا.. أي أن الحادثة، هكذا يفهم، كانت أقرب إلى كونها جريمة قتل مكتملة؛ وعلى الرغم من ذلك وجدت المحكمة العليا ضرورة لتدافع عن موقفها ولتبرره عن طريق بيان شكّل سابقة وعلامة فارقة في مسيرة تراجعها أمام قوى اليمين وغاراته عليها. استهجنتُ وقتها في رسالتي المفتوحة خطوة المحكمة وقلت: «إن تضطروا لإصدار بيان في مثل هذه القضية هو أمر يشير إلى اهتزاز مكانة المحاكم والقضاء بشكل عام في هذه الدولة. إنها إشارة على ضعفكم ودليل لفهمكم الخاطئ لما يجري منذ أعوام طويلة داخل المجتمع الإسرائيلي وداخل منظومة الحكم. لقد انهارت أسس هذه المنظومة القيمية وتراجعت فيها سلطة القانون لصالح ما نشهده من مظاهر الفساد والعنف، واستقواء قوى الشر التي استوطنت في كثير من مواقع القول والفصل والحكم، وباتت أقرب مما تتصورون للإجهاز عليكم، ولإحكام سيطرتها الكاملة على مقاليد الحكم، بعد أن تمكّنت من السلطتين التنفيذية والتشريعية». وأضفت مخاطبا إياها: «هل تذكرين كم مرة صرخت في آذانكم، وأكدت أني اخاف عليكم لأني أريدكم، أنت وزملاءك القضاة، أقوياء وسدنة لسيادة القانون.. وكم مرة صرخت وأكدت على أنني كمواطن أريدكم أقوياء كي يحتمي المواطن المظلوم بقوة عدلكم؛ وكم مرة أكدت أمامكم أنني، كابن لأقلية قومية، أريدكم أقوياء عساكم تحموننا، ولو مرّة، من ظلم سياف ظالم. هل تذكرين كم مرة عنّفت منكم لأنني تجرأت أن أسمّي ما تفعلونه بحق أبناء شعبي وبنا نحن، المواطنين العرب في إسرائيل، عنصرية وقهرا وظلما؟ إن تبريراتكم، كما نص عليها بيانكم، غير صحيحة وغير موفقة وغير لازمة، فالحقيقة هي أنكم ضعفاء وتخافون؛ وأن بيانكم ما هو إلّا حلقة في مسلسل «قطف رؤوسكم» وفي مسيرة هرولتكم إلى الخلف أمام ذلك «الدب» الكاسر الذي لن يكف عن اللحاق بكم. والحقيقة، سيدتي، هي أن جهازا قضائيا يحتمي بحراس يرافقونه حتى أبواب غرف النوم لن يقوى على مقاومة ظالم أو محاكمة قاتل؛ والحقيقة أيضا أن محكمة لا يميّز قضاتها بين الضحية، وجلادها لن تستطيع في النهاية حماية جلدها، مهما انحنى قضاتها وتراجعوا وبرروا، كما تفعلون في هذه القضية. فإما مواجهة من يهاجمكم أو سوف تهزمون.
سيدتي! «أُكِلت يوم أكل الثور الأبيض» كانت قصة من القصص الشعبية المتوارثة في ثقافتنا، التي كنت أرددها، أحيانا، في مرافعاتي القانونية أمامكم. لم ترغبوا بسماعها ولا بتذويت حكمتها؛ لكنها كانت وستبقى هي حكمتنا، نحن الضحية الحالية، لضحية المستقبل».
هذه مقتطفات من رسالتي في عام 2010؛ ولم تكن رسالتي المفتوحة الوحيدة لقضاة في المحكمة العليا، فمثلها كتبت كثيرا.. ولكن من دون جدوى. لقد مضت اثنتا عشرة سنة على ما كتبت، وعلى حديثنا صدفة حول مضمونها، وبقيت أنا في موقعي، مدافعا عن الحق والعدل والأمل، وبقيتم أنتم في مواقعكم، جنودا عند نظام يقدس العنصرية ويمارسها علينا، وخدما لدولة تحتل شعبا آخر؛ وكقضاة في المحكمة العليا، تسوّغون موبقاته وتفرخون، صغار المحتلين، الذين تكاثروا وكبروا ويطالبون، باسم السماء والقوة والسيف، برؤوسكم وبجلودنا.
لقد قرات نصيحتك بضرورة «ألا نصاب بالذعر وألا نستكين وأن نستفيق»، فكيف ستصحون وعتمة الاحتلال تملأ قلوبكم؟ ولماذا لم تسمعوا حين نبهتكم، قبل دهور، إنهم قريبون أكثر مما تتصورون للإجهاز عليكم، وماذا سيحصل بعد أن يؤكل الثور الأبيض؟
كاتب فلسطيني

 

 

ليلة الميلاد…

ذكريات من طفولة كهل

جواد بولس

 

سيحتفل المسيحيون في منتصف ليلة السبت، على عاداتهم منذ قرابة ألفي عام، بميلاد السيد المسيح في مدينة بيت لحم الفلسطينية؛ وستبدأ وتنتهي الاحتفالات بهذا العيد وفق بروتوكولات «الستاتوس كوو»، وهو بالحقيقة اسم آخر لخدعة سياسية تاريخيه تضمن «حقوق» مجموعة دول أجنبية كانت قد اغتصبت «مسيح فلسطين» وسرقته وفرضت وجودها على حساب حقوق العرب المسيحيين وكنائسهم المشرقية المحلية. لن يختلف مذاق هذا الميلاد عن سالفه إلا بطعم المرارة المتزايدة من عام إلى عام، وبتغييب عذابات أهل البلاد الفلسطينيين المضطهدين والفقراء، الذين ما زالوا ينتظرون خلاصهم من سطوة جنود «قيصر» وزبانيته. من المؤكد أننا لن نسمع في قداس كنيسة المهد صلاة لروح شيرين أبو عاقله ولا تعزية لقلب «الأمعرية» أم الشهيد ناصر أبو حميد، وسائر الأمهات الفلسطينيات.
أعرف أن أيام الميلاد، وأيضا في فلسطين، معدة للفرح الخالص  ولاستحضار المحبة وممارسة العطاء والسمو بالتسامح؛ ولذا سأترك مراسيم الوجع، وأعود إلى عالم شجرة الميلاد وذكريات طفل شارف على بلوغ السبعين، شاهد كيف سرقوا منه ميلاده وشجرته، خازنة الفرح وكاتمة أسرار طفولته.

المسيح لا يسكن شجرة

كانت قريتي، ويسوع فيها، عالما من نور وطمأنينة، فصار العالم أرضا كلها شر، وعمّ الظمأ.. لقد سرقوا منا يسوع

في بيتنا، هكذا أتذكّر، كان الحديث عن شجرة الميلاد يبدأ في منتصف كانون الأول/ديسمبر، عندها كان هَمّ أبينا الحصول على سروة رشيقة ممشوقة، يرتاح رأسها على عنق متشاوف كي يليق بحمل نجمة بيت لحم.
كنا نتحلق حول الشجرة، ويبدأ الكبار بتعليق ما تستوعبه من مجسّمات لنجوم خماسية وكرات زجاجية تطغى عليها ألوان الأحمر القاني والأزرق والأخضر البحريين. كنا، نحن الأولاد، ندور حولهم كصغار النمل ونساعدهم بتثبيت مغارة صغيرة في أسفل الشجرة مصنوعة من خشب أو من جبص ونملؤها، بمذود وبتماثيل فخارية لطفل جميل ووديع، ولبعض المواشي وللمجوس. لقد كنّا صغارا وفي حلّ من إلحاح الأسئلة والتفتيش على ما وراء الشجرة. في المدارس شرحوا لنا ما تعنيه المناسبة، وما ترمز إليه من قيمة وتاريخ. لُقنوا فلَقنوا وغفل معلمونا أن الزمن مُرضع الحكمة والتجارب مِسَنّ. وقتها كنا لا نعرف إلا الفرح المطلق. وعندما كان ينتصف ديسمبر ولا يأتي والداي على ذكر الشجرة كنا نتوجّس ونخشى أننا لن ننصبها، كرمز للعيد وللفرح، فربما نحن في حالة حداد على موت قريب، أو صديق عزيز أو جار. كانت خضرة الشجرة طبيعية كلون الأمل، وعندما كانت تجهز بكل حليها تصير كغابة صغيرة، فيها كنا نودع أحلامنا وأسرارنا. كان نصب شجرة الميلاد في البيوت حدثا عائليا حميميا مجبولا بدفء مختلف نحسّ به مرة في العام، لم تكن شجرتنا قطعة للفرجة ولا نصبا لمزايدات من يروّجون أن الأغلى هو الأحلى. كانت شجرة الميلاد جزءا من ذاكرة طفولتي الباسمة، مع أنها لم تزدني تديّنا ولا إيمانا، بل، هكذا اكتشفت لاحقا، علمتني كيف أترك خيالي يندفع كالأيائل في مراع خضر لا تنتهي، وكيف أفهم لغة الشعراء؛ فعندما كبرت فهمت ما قالته السروة «للدرويش»، ولي حين وقفت أمامها مرة أبكي ضياع فراشة: «انتبه ممّا يقوله لي الغبار». لا أتذكّر متى بدأت أطلب من يسوع أن يحبّني، وأن يبعد عني المرض، وأن يجعل من أحبهم يضحكون في وجهي! كنت طفلا وأتمتم دعائي ثلاث مرّات، وحتى عندما كنت أحسّ بالتعب لم أتنازل عن اداء صلاتي، لكنني، كنت أتلوها بتثاؤب واضح، متأكدا أن يسوع سيفهمها، وهي «مجعلكة» وسيقبلها؛ فمطالبي كانت أبسط من شفاء أبرص.  كنّا نفيق في الصباح على صوت الندى؛ في البيت تنبعث أبخرة بنكهة الدجاج المحشي من طناجر أمي، وتملأ فضاء الحارة برائحة شهية. كانت شوارع القرية، رغم ضيقها، تعج بأسراب مزركشة من عائلات القرية يدلفون لأداء طقوس المعايدة والتزاور. كان يسوع يحب كل القرية. كنا نطمئن له. ننام وعلى جفوننا طيفه يضيء عتمتنا ويحرس قريتنا. أحسسناه موجودا معنا، في بيتنا وفي حاراتنا. لم يسرقه أحد ولم يحجبه شيء عنا. كنا على يقين من أنه إلى جانبنا ويساعدنا وجميع الناس المحتاجين، وأنه يحب أطفال العالم. كان يسوعنا عادلا ومنصفا للمظلومين؛ لم نقلق عليه ولا منه، ولم نخف منه؛ فقد كنّا صغارا وأنقياء. لم ندرك حينها أن يسوعنا، الذي ولد في المذود، سيصير أكثر من مسيح وسيصاحبه «الكبار» ويدّعيه المنافقون والدجالون ويرافقه صيارفة الهياكل الحديثة – كلٌّ وفقا لعملته وفضّته.   عندما هجرتنا الطفولة استوطن الشك عقولنا، وعندما تبدلت البراءة بالوعي، غاب عنا الإيمان الفج؛ في الواقع أنا لا أتذكر متى أضعت يسوعي وتوقفت عن استجدائه. ربما كان ذلك عندما اكتشفت أنه لا يرقّ لعاشق أدمَته سهام الحاقدين والعواذل، أو ربما عندما زرت بيت – لحم ورأيت «مهده» محاصرا وسليبا ومهانا من قبل جند «قيصر»، وسمعت شعبه يصلي من أجل خلاصه دون جدوى، فالغلبة ما زالت من نصيب «الشرير والبرير». لقد كبرنا وضاع يسوعنا. أفتش عنه ولا أجده إلا طفلا ذارعا معي شوارع تلك القرية الوادعة التي كانت قريتي وقريته. أعود وأفتش عنه فأسمع عنه في صلوات حكّام يستعينون به في الصباحات، وفي الليالي تسلخ سياطهم جلود المؤمنين الوادعين. أستجير به مجدّدا، من أجل أبنائه المشردين والفقراء والمظلومين، فأجده يصب بركاته في خوابي أصحاب الفضة والذهب والملايين. كانت قريتي، ويسوع فيها، عالما من نور وطمأنينة، فصار العالم أرضا كلها شر، وعمّ الظمأ. لقد سرقوا منا يسوع؛ فهل يا ترى هي «روما التي سرقت ديننا، مثلما سرقت حنطة الروح، من كل أهرائنا، لم تزل تستبيح الذُرى، هل ترى يا أبتي هل ترى؟». ولروح الشاعر الراحل في زمن كورونا جريس سماوي السلاما.
كنا ننتظر الميلاد بفرح عظيم. ولم يكن عيدا للأولاد فحسب، بل كان عيد الوداعة والأمل والسلام، بحلوله كانت آمال الناس تنطلق كقطعان أحصنة وحشية أفلتت لتعانق المدى. كانت رائحة الشتاء في الهواء بشائر خير وبركة، كنا نأوي لننام على وسائد من شوق وتحتها ملابس العيد وأحذيتنا الجديدة. كانت ليالي الميلاد رحلة من نبيذ وصلاة وحنين، تصير فيها بيوت القرية المتواضعة قصورا تفيض رضا؛ وكأن الملائكة كانت تسجن شياطين الأرض والسماء، وترش على الناس سحُبا من ورد ومسك وعنبر.
كبرنا، لا أذكر تماما متى توقفت عن ممارسة طقوس الصلاة التي كنت أَسيرها وأنا طفل لا يعرف من المشاعر إلّا أطرافها الحادة. كنت كأترابي أمارس الصلاة مثل الفرح العاري، من دون حرج النضوج وإغواءات التبرّج. كنا نفرح ونحزن من غير مراسم، كجداول تبكي شحا بصمت وتدمع على فراق ضفافها. «كانت أنانا» هشّة كجناحي أمنية، تمارس ارتباكات الطفولة وحبها بعفوية قصوى. لقد كان كل ذلك قبل أن يصبح الطفل كهلا ويشهد على سطوة تراتيل الظلام وينام ويصحو على تعاليم الرصاص وعلى مزامير الطغاة. كان ذلك قبل أن تغتال رصاصات الغدر شيرين أبو عاقله وتبعثها إلى العدم «عروسا لا عريس لها»، وكذلك قبل أن ينفطر قلب «الأمعرية» مرة تلو المرة على فقدان فلذات أكبادها وإبعادهم عنها.
غدا ستحل ليلة الميلاد، فيا ليتني أعود طفلا ولو لليلة واحدة، ساعتها قد أجده.. ربما.
كاتب فلسطيني

 

 

ما بين حزب «كل مواطنيها» وشعار

«دولة كل مواطنيها» يكون حلم القائد

جواد بولس

 

نشرت بعض المواقع الإسرائيلية ووسائل التواصل الاجتماعي دعوة لحضور المؤتمر التأسيسي الأول لحزب سيحمل اسم «كل مواطنيها». برز في نص الدعوة الشعار المركزي للحزب الجديد ويقول «شراكة الآن»، ثم تبعته قائمة أسماء بعض المشاركين المركزيين في الاحتفال، حيث ورد اسم رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي سامي أبو شحادة بينهم، إلى جانب شخصيات يهودية صهيونية معروفة أمثال أبراهم بورغ (رئيس سابق للكنيست الإسرائيلي والوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية) وموسي راز وجابي لاسكي (نائبين سابقين عن حزب ميرتس في الكنيست الاسرائيلي) والجنرال احتياط في الجيش الإسرائيلي عميرام ليفين، ومعهم أيضا شخصيات عامة عربية ومعروفة مثل البروفيسور فيصل عزايزة والصحافي والكاتب عودة بشارات والسيدة أميمة حامد (ميرتس).
من الواضح أن المضامين السياسية التي يعتمدها المبادرون كأسس لإقامة حزب «كل مواطنيها» ستمثل من يختار أن ينضم إلى صفوفه فقط.
من المفترض أن تستدرج مشاركة النائب التجمعي السابق سامي أبو شحادة في هذا المؤتمر، المنعقد اليوم في مدينة تل أبيب، اهتمام العاملين في الشؤون السياسية بين المواطنين العرب والمحزّبين، وشرائح المثقفين وقادة منظمات المجتمع المدني، لاسيما تلك التي تعمل في مجالات الدراسات والأبحاث وإنتاج المعرفة السياسية والاجتماعية على أنواعها. ولكن يبدو أن جميع هؤلاء ليسوا «معنيين» بالتطرق إلى هذه المسألة ولا حتى لملامستها بشكل مهني وموضوعي؛ وإن سألناهم عن عزوفهم هذا سنجد أن لكل فصيل منهم ذرائعه وعند كل شريحة دواعيها.
ما نشاهده اليوم يؤكد أننا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، نعاني من تفشي ظاهرة مزمنة يصح أن نطلق عليها آفة «خرس القيادات السياسية والنخب الاجتماعية». تنتشر هذه الظاهرة بيننا منذ زمن طويل، ومن الجدير أن نتناولها في المستقبل بشكل أعمق؛ فمخاطرها علينا كانت جسيمة لأنها، في بعض تحوّراتها اللافتة، دفعت المصابين بها إلى ممارسة أدوار من الرياء الاجتماعي المعدي، أو التأتأة أمام ظواهر العنف المستشري، أو النكوص أمام ممارسات الإكراه الديني وسطوة التقاليد المستبدة في حق النساء والفئات المستضعفة، بينما جعلتهم في محطات سياسية مفصلية يكيلون بأكثر من مكيال، ويتصرفون بمداهنة مؤسفة وصلت أحيانا حدّ التواطؤ مع أحداث غير عادية جرت داخل عدة مؤسسات وأحزاب، وبضمنها كانت محطات في تاريخ حزب التجمع نفسه.

كمواطنين عزّل سندفع من جهة، ثمن مواقف قادة آمنوا بالسياسة ولم يتقنوا فنونها، ومن جهة أخرى، مواقف قادة آمنوا بطهارة العدالة والعقيدة ولم يستوعبوا عقمها

وعلى الرغم من حالة التغاضي الشائعة الموصوفة أعلاه، وجدنا أن فئة صغيرة، خرجت عن مألوف الساعة وكتبت عن الحدث وعن ارتداداته المحتملة على حزب التجمع تحديدا، وداخل الفضاءات السياسية بشكل عام؛ لقد كان معظم من كتبوا حول هذه الدعوة من مؤيّدي وناشطي حزب التجمع الديمقراطي ومناصرين، من الوريد إلى الوريد، لزعامة رئيسهم سامي ابو شحادة، فواجهوه بانتقاداتهم، بعد أن فوجئوا بإدراج اسمه، من دون سابق إنذار، في الدعوة المذكورة، وطالبوه بعدم المشاركة في المؤتمر، وبضرورة إعطائهم المبررات التي دعته للإقدام على خطوة تتعارض بشكل قاطع مع معتقداتهم السياسية وموقف حزبهم التاريخي، القاضي بتحريم اللقاءات والتحالف مع أجسام سياسية وشخصيات معروفة بتاريخها وحاضرها الصهيونيين والعسكريين؛ وقد طالبه بعضهم بالاعتذار عن فعلته وأشاروا، من باب الاستنكار طبعا، في حالة انعقاد المؤتمر بحضوره، إلى ضرورة تقديم الاعتذار من الجبهة الديمقراطية للسلام وغيرها من الحركات والأحزاب السياسية التي نادت بضرورة العمل مع جهات يهودية تقدمية، وإذا اقتضت الحاجة في بعض المواقع مع جهات صهيونية يسارية. قرأت ما أتيح لي من تعقيبات نشرت، أثر انتشار صيغة الدعوة، واتفهم غضب قلة من أنصار الحزب، الذين بعد مقاطعتهم للانتخابات في الجولات السابقة عادوا، على شكل فزعة قبلية، للتصويت لحزب التجمع لأنهم آمنوا بتميّز شخصية سامي أبو شحادة الوطنية، وأمانته السياسية وصدقه الحزبي ودفئه الاجتماعي ونجوميته الطبيعية؛ فصدمة هذه الفئة مبررة ودهشتهم من خطوة أبو شحادة مستوعبة، خاصة أنهم لا يرون أي موجب سياسي جديد يستدعي مشاركة قائد حزبهم الوطني نشاطا سياسيا حزبيا إسرائيليا بارزا، حتى لو دعي إليه تحت يافطة كبار الضيوف وحسب.
لست من مصوتي حزب التجمع، وقد اعترضت دوما على مزايدات بعض من ناشطيه بخصوص مسألة الوطنية واحتكارهم لها؛ لقد كان ذلك قبل الإعلان عن مشاركة سامي أبو شحادة في مؤتمر حزب «كل مواطنيها»، وسيبقى كذلك بعد انتهاء ذلك المؤتمر، سواء شارك فيه أبو شحادة أو قاطعه في النهاية. فأنا لا أعرف كيف ستتفاعل مؤسسات حزب التجمع مع هذه المحطة المحرجة، التي أوقفهم عندها قائدهم، خاصة بعد أن قرأنا في المواقع بيانا مقتضبا عن مصادر في حزب التجمع يفيد «بأن المشاركة في هذا المؤتمر تمثل سامي أبو شحادة ولا تمثل حزب التجمع الوطني الديمقراطي». لا يمكننا إلا أن نستهجن هذا الموقف، إذا كان هذا فعلا هو موقف الحزب الرسمي، ونعدّه واحداً من تلك البيانات الزئبقية المتّسمة بديماغوجية واضحة وبتهرّب من الواقع والحقيقة؛ عدا عن كونه، طبعا، إهانة صارخة بحق قائد حزبهم ونجمه، وباعث الروح في عظامه، كما رأينا في معركة الانتخابات الأخيرة.
من الواضح أن خطوة سامي أبو شحادة اللافتة، أثارت على جبهات مختلفة، أسئلة كثيرة، وأحرجت لا مؤسسات حزبه وناشطيه وصمت مثقفيه وحسب، بل نجحت، حتى عن غير قصد، في إظهار هشاشة موقف الجبهة الديمقراطية وضعفها وغيابها عن ساحة النضال المشترك مع قوى يهودية. فرغم مرور الوقت منذ انتهاء المعركة الانتخابية، لم تبادر الجبهة لأي فعل سياسي جبهوي جامع جدي، يستهدف مواجهة الواقع السياسي الإسرائيلي الخطير المتشكل أمام أعيننا وفي مواقعنا. سوف نسمع منهم عن ضرورة الانتظار إلى أن تلتئم مؤسسات الجبهة، كي تجري تقييمها ولتتخذ القرارات المناسبة بشأن المستقبل؛ إنه الادعاء ذاته الذي نسمعه منذ أكثر من عشرين عاما. ما زالت تفاصيل غامضة كثيرة حيال ما سبق اتخاذ سامي أبو شحادة قراره بالمشاركة في مؤتمر سيعلن فيه عن تأسيس حزب يهودي صهيوني عربي جديد؛ فهل يعقل أن يكون قد أقدم على خطوته، من دون أن يستأنس برأي بعض من رفاقه، وأن يتسلح بموافقة بعضهم على الأقل؟ وإن كان لديه شركاء في هذا القرار، فهل يمكننا أن نفترض أن حزب التجمع مقبل على إمكانية الانقسام؟ أو هل من الجائز أن يكون البعض قد دعم قرار سامي بالمشاركة كي «يحرقه» ويخسر مكانته كالقائد الوطني المجمع عليه والنجم الساطع في سماء مظلمة.
لقد تمنى بعض أصدقاء سامي أبو شحادة عليه التريث قبل أن يستمر في خطوته المعلنة، فليس هكذا، حسب رأيهم، يقفز القائد الحكيم في فضاءات السياسة الملتبسة؛ وبعض آخر من رفاقه أعلنوا دعمهم القاطع لقراره. لقد تحدث الفريقان باسم السياسة وسبل ممارستها، واقرّا بأن لها الغلبة في واقعنا، لأننا نقف على فوهة بركان. وضدهما وقف رهط يؤمن بأن الغلبة يجب أن تكون للمبادئ الأيديولوجية، فهي أمّ جميع النهايات وسيدة كل السياسات. أما أنا فأقف حيث وقفت دوما وأسأل أين كان بعض هؤلاء حين امتهنوا الصمت حرفة والمزايدات دروب راحة وهدأة بال وطنية. لا أكتب كي أسائل سامي ابو شحادة بخصوص قراره المذكور، ولا كي امتدحه؛ فنحن بصدد خطوة لا يمكن تحميلها أكثر مما تحمله، والأمور تقاس دوما بخواتيمها، ولكن، على الرغم من كل ذلك، علينا أن نشعر بجرأة القائد المختلف الذي يستبطنها قرار سامي أبو شحادة. أتمنى أن أكون صائبا، وأنه مع قادة آخرين، من التجمع وغيره، يعيدون ويدققون حساباتهم بعد انتهاء معركة فاصلة؛ ويقيّمون تداعياتها الواضحة عساهم يهتدون إلى طريق آمن لإنقاذ ناسهم وأهلهم من بطش بات في مرمى النظر وأقرب إلى صدورهم من زفرة قدر. فنحن كمواطنين عزّل سوف ندفع، من جهة، ثمن مواقف قادة آمنوا بالسياسة ولم يتقنوا فنونها، ومن جهة اخرى، مواقف قادة آمنوا بطهارة العدالة والعقيدة ولم يستوعبوا عقمها؛ واليوم نقف جميعا على باب جهنم ونسمع هسيس الجن.
كاتب فلسطيني

 

 

الفاشية لن تمر…

هل حقا لن تمر؟

جواد بولس

 

كان هذا عنوان مقال كتبته عام 2009؛ واليوم، لم أعد متأكدا من أنه ما زال يصلح كعنوان لمقال، خاصة وأننا نقف على عتبة دولة ستتسيد القوى الفاشية سدة الحكم فيها لتشرع في تطبيق عهد جديد من إضطهادنا العنصري، نحن مواطني إسرائيل العرب، والتنكيل بأشقائنا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
أقرأ ما يكتبه عدد من القادة والمثقفين والمحللين العرب، وأعجب من تأكيدهم على اقتراب موعد المواجهة الدموية مع القوى الفاشية، ويعتبرون أن تلك المواجهة هي شأن مكتوب علينا كالقدر؛ فنحن في حالة حرب وصدام محتوم، هكذا يقول هؤلاء، ولزاما علينا أن نكون حطبا لنيرانها. في المقابل، يكتفي البعض بتوصيف واقعنا وخطورته، لكنهم يعترفون، من باب النزاهة، أنهم يعدمون الرأي إزاء الحلول الممكنة أو الاجابة على سؤال الأسئلة جميعها: ما العمل؟
يعمل نتنياهو، في هذه الأيام، على رفو آخر خيوط عباءة حكومته المقبلة، التي لن يشبه قمعها ممارسات حكومات إسرائيل السابقة. هو يعمل ونحن نترقب ونحلل وننتظر!
لن أتطرق مجددا للفوارق الأساسية بين الحالتين السياسيتين الإسرائيليتين، الحاضرة والغابرة؛ علما بأن بيننا ما زال من يصر على إنكار وجود الاختلاف، فاليهود برأي هؤلاء، كل اليهود، صهاينة وأعداء للعرب وهم واثقون من قوتنا، نحن الفلسطينيين، ومن قدرتنا على الصمود ومن حتمية انتصارنا على كهنة المعابد الجدد وعلى جيوشهم المسعورة.
لا أمانع بتزود ناسنا وأهلنا بجرعات من الأمل، لكنني مؤمن بأن الأمل إذا مصصته حتى منتهى الأماني يتعب أو ينفد ويصاب حامله باليأس.
لقد عكفتُ منذ أكثر من عقدين على الكتابة حول عملية التدهور السياسي الفاشي الحاصل داخل المجتمع اليهودي، وفي الوقت ذاته أشرت إلى التغييرات السلبية الخطيرة الحاصلة داخل مجتمعنا العربي. لقد أسميت تلك العملية، ذات الرأسين، «بالمنزلق الخطر»؛ وهي المرحلة التي وصلنا اليها ونقف اليوم على شفيرها.
يشعر قادة الأحزاب والحركات اليمينية الفاشية والدينية الصهيونية المتزمتة بعد فوزهم الساحق في الانتخابات الاسرائيلية، بضرورة إنجاز عدد من المَهمات الأخيرة كيما يتمكنوا من إحكام سلطتهم المطلقة على جميع عروق الدولة وشرايينها.

 الجبهويون والشيوعيون تخلوا عن شعاراتهم التاريخية الملهمة وأهملوا القيام بواجبهم الضروري والمميز في مثل ظروفنا وهو العمل على بناء «الجبهة ضد الفاشية»

لقد كان احتلال مواقع منظومة القضاء الإسرائيلي على جميع تفرعاتها، واحدا من عناوينهم الرئيسية المستهدفة؛ فعملوا خلال سنوات طويلة على اختراقها والمس بحياديتها (النسبية) التي كانت تمارسها خاصة في ما يخص شؤون مواطني الدولة اليهود وفي بعض القضايا الهامشية التي تخص المواطنين العرب.
لقد نجحوا في مهمتهم وصاروا «قاب قوس وأدنى» من ابتلاع هذه المنظومة بالتمام بعد أن وطنوا عناصرهم في معظم أرجائها وزرعوا رؤاهم ومفاهيمهم العقائدية داخل أروقتها، وطوعوها، فصارت تدين بدينهم في كل ما يتعلق بتعريف الجريمة والمجرمين ومساطر الولاء والجزاء. لقد كنا نحن، ومعنا جميع الفلسطينيين، ضحايا لتلك «الإنجازات» الفاشية التي ستحصد مزيدا من الضحايا، كما تشير تداعيات الأحداث الأخيرة كما رأيناها في ميادين المواجهات ووفق تصرفات الشرطة ومواقف النيابات العامة وأحكام القضاة في المحاكم.
كانت المحكمة العليا هدفا مباشرا لهجمات معظم الجهات اليمينية وبقيت كذلك ولن يهدأ بالهم حتى يخضعوها لمآربهم بشكل نهائي. وكل الدلائل تشير الى أن نصرهم على هذه الجبهة بات وشيكا، خاصة بعد أن أحرزوا تقدما ملموسا بعد عدة معارك خاضوها مع قضاة المحكمة في السنوات الماضية. سيسيطرون على هذه «القلعة» إما عن طريق ملئها بقضاة موالين لهم ومجندين لصالح تنفيذ سياساتهم، وإما عن طريق تطويقها بجرافات الـ
d9) ) وتحييدها عن مراكز التأثير، كما أعلن بعضهم على الملأ، وإما بتقزيم دورها بشكل مذل ومعيب. لن يفضي اخضاع المنظومة القضائية لتثبيت شكل الحكم الجديد، فبدون التحكم بعدد من المفاصل الرئيسية في صفوف وحدات الجيش والاندماج في بُناه التراتبية، وبدون السيطرة على جهاز المخابرات العامة، الشاباك، فلسوف يتعثر اكتمال مشروعهم القاضي في نهايته الى إقامة مملكة إسرائيل الجديدة.
لم تبدأ مناكفات الجهات اليمينية الدينية الاستيطانية مع قيادة الجيش قبل أيام، ولا بسبب سجن الجندي الذي اعتدى بالضرب المبرح على ناشط يهودي يساري جاء الى الخليل متضامنا مع أهلها ضد موبقات المستوطنين بحقهم، فصراع حاخامات الاستيطان المتزمتين وأتباعهم مع المؤسسة العسكرية نشأ منذ سنوات طوال، وقد أحرزوا فيه انتصارات لافتة؛ حتى أنهم باتوا يسيطرون على وحدات عسكرية ميدانية كاملة ووازنة، يتحكم جنودها في السيطرة على معظم الأراضي الفلسطينية ويقمعون سكانها ويؤازرون سوائب المستوطنين في اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم.
وكما أداروا صراعهم على مراكز القوة داخل مواقع الجيش، يديرون بالتوازي صراعا ليس أقل احتداما مع قادة جهاز المخابرات العامة، «الشاباك»، وخاصة ضد ما يسمى «الوحدة الخاصة بالمواطنين اليهود». لقد برز هذا الصراع منذ بداية نشاطات ميليشيا المستوطنين الإرهابية المنظمة واتساعها ضد أهدافها الفلسطينية، واستمر في تجاذبات متقطعة وصلت لإحدى ذراها في الصدام الذي حصل بينهم بعد اعتقال أفراد خلية إرهابية يهودية نفذ أفرادها جريمة حرق وقتل أفراد من عائلة دوابشه في قرية دوما. لم تنقطع المناكفات بين الجهتين حتى صارت أشرس أخيرا، كما برز ذلك قبيل المعركة الانتخابية حين استُهدف جهاز «الشاباك» بكثافة في دعاية بعض تلك الاحزاب، وعلى ألسنة قادتها ومناشيرهم.
لن تستمر تلك المعارك لزمن طويل؛ ولن يكون فيها إلا منتصر واحد، هو الفاشية والفاشيون. فالفاشية تقدمت وتتقدم وتتعملق، وفق ما تعلمناه من دروس التاريخ، إذا لم تجد، في الوقت المناسب، من يصدها أو يعرقل مسيرتها. وهذا تماما ما حصل معنا، نحن المواطنين العرب، خلال العقود الثلاثة المنصرمة، على الاقل منذ أن رفعت « الكاهانية» قبضاتها الفولاذية نحو وجوهنا وشعارها الأهم كان: الموت للعرب أو تهجيرهم.
سأستعيد في هذا الصدد ما كتبته في الماضي للتذكير مجددا بعجزنا كمجتمع، تدمن أكثريته وتعشق وتكتفي بممارسة دور الضحية. فكما قلت وقتها أؤكد اليوم على أن «مواجهة أوضاعنا الخطيرة، التي ستتأزم أكثر في المستقبل، هي مسؤولية كبرى تقع على عاتق الجماهير العربية، وعلينا جميعا» هكذا كتبت في العام 2009 وأضفت: «وكي لا تضيع فرصنا في الحياة الطبيعية والآمنة، يتوجب على جميع القيادات صياغة رؤى مستحدثة تأخذ بعين الاعتبار مستجدات واقعنا ومخاطر المستقبل القاتم، وهذا يستوجب إعداد دراسات جدية ومراجعات لجميع الخطابات السياسية التقليدية وضروراتها الراهنة ومدى نجاعتها وعلاقتها وإمكانية تأثيرها على مجتمع الأكثرية اليهودية». لقد بحت حناجرنا في سبعينيات القرن الماضي، أثناء سنوات دراستنا الجامعية، هاتفين في وجه زمر يمين ذلك الزمن بأن «الفاشية لن تمر»، لكن السنين مرت وصار من هتفنا في وجوههم حكام البلاد، واليوم هم يورثونها لتلاميذ تفوقوا عليهم في العنصرية وفي كراهيتهم المرَضية العرقية للعربي.
فالفاشية لن تمر، أحقا؟ ومن سيتصدى لها وكيف ومتى؟
الجبهويون والشيوعيون تخلوا عن شعاراتهم التاريخية الملهمة وأهملوا القيام بواجبهم الضروري والمميز في مثل ظروفنا، وهو العمل على بناء «الجبهة ضد الفاشية»، وتنازلوا عن دورهم في التواصل مع كل مؤسسة أو حركة أو حزب أو جهة تعلن وقوفها ضد الفاشية والفاشيين. لقد آثرَت بعض قياداتهم المتنفذة اللهاث في دهاليز القوميين أحيانا أو الانزواء داخل هياكل حزبية بالية لم تعد صالحة لإسعاف أحوال مجتمعنا. أما أصحاب الطريق/ المشروع الوطني فيعدوننا بالمواجهات وبالنضال، وهي لن تكون إلا كما كانت، مجرد ردات فعل لما ستُقدم عليه الدولة والفاشيون، فسوى اسم الطريق لا نعرف شيئا عن البوصلة ولا عن تضاريسها ولا عن برامجهم الفعلية. وبعيدا عن الشيوعية والوطنية يبقينا انشطار أصحاب المشروع الإسلامي في دوامة كبرى والتباس بين حركة إسلامية جنوبية اختار شيوخها طريقا سياسيا مختلَفا عليه أوصلهم حتى التحالف مع «أعداء الأمة»، وبين حركة إسلامية شمالية يبشرنا شيوخها بالفرج القريب، من دون أن نعلم من أين وكيف سيحصل «بعيرنا» على «قطرانه» كي يبرأ قبل أن يأكله الذئب.
الفاشية لن تمر … يجب أن نُبقي الشعار مرفوعا، ولكن من سيوقفها ومتى وكيف، فإنني لا أرى في المدى خيال فارس قادر على تحقيق هذه المعجزة. لا أزايد على أحد لكنني أكتب وكأنني أسمع عواء الذئاب وهي تدوي في شوارعنا، وأتخيل كيف ستهب حشود الشباب والفقراء المظلومين كي يتصدوا لتلك القطعان؛ وأقدر، بوجع، كم هي الأثمان التي سيدفعونها، وأعرف أن أثمان مواجهات الماضي (أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2000 وأحداث مايو/ ايار 2021) ستظهر كأنها عينات صغيرة مقابل ما سيكون. فهل حقا الفاشية لن تمر؟
كاتب فلسطيني

 

 

في الحروب الكروية…

ننسى كأننا لم نكن!

جواد بولس

 

تطغى أخبار ألعاب كأس العالم لكرة القدم المقامة في إمارة قطر على سائر الأخبار المحلية والدولية؛ ونعيش، نحن الناس، كما في كل دورة مشابهة، تداعيات مشهدية غريبة، تعيدنا إلى حيرة الفيلسوف وسؤاله الأول حيال ذاك السحر المكنون في لعبة تكتنز كرتها جميع المجازات المتناقضة، وتتيح للمتابعين عوالم من التأويلات البسيطة والمركبة. ليست اللعبة ما يعنيني في هذه العجالة، بل هو النسيان الذي نسكنه بفرح عظيم ونحن في حضرتها، ونحلّق على أهدابه نحو البعيد البعيد، فنصير أبطالا غاضبين نلهث وراء هدف لا وراء سراب وطين، ونقاتل ببسالة أعداءنا ونسحقهم من دون أن نصير إرهابيين.
النسيان دائما نعمة إلا في فلسطين، فهو إما أمنية مستحيلة أو لعنة، هكذا فكرت صباح يوم الأربعاء الفائت عندما غادرت بيتي، الكائن في حي بيت حنينا شمالي مدينة القدس، قاصدا مدينة رام الله. كانت صافرات السيارات في الشارع عالية ومتواصلة وكأنها عزيف الجان. زحفت بين سيارتين ولم نتحرك. فتحت الراديو فكانت مذيعة إحدى القنوات الإسرائيلية تنقل بلهجة حربية أخبارا عن تنفيذ عمليتين تفجيريتين في محطتين للباصات في القدس الغربية، وتفيد كذلك عن سقوط قتلى وجرحى.
كان طابورنا يتقدم ببطء سلحفاة، بينما ابتلعت زرقة الأفق وراءنا آخره. أجريت بضعة اتصالات مع زملاء كنت أعلم أنهم في الطريق إلى أعمالهم ففهمت أنهم عالقون مثلي، وأن الجيش والشرطة أغلقوا معظم الطرقات الرئيسية في القدس ويقومون بتفتيش جميع المركبات في الحواجز العسكرية المؤدية إلى رام الله وغيرها.
لم امتلك خيارا سوى الانتظار. كنت أطفئ الراديو من حين إلى آخر كيلا أسمع تعليقات المذيعين الإسرائيليين وضيوفهم وتحريضهم على جميع الفلسطينيين؛ فكل من تحدث منهم وعنهم هدد وتوعد، وبعضهم أكدوا أن الحكومة الجديدة ستستعيد سياسة الاغتيالات الفردية، والاجتياحات العسكرية وملاحقة «المخربين» وفرض منع التجوال وسياسة الإغلاقات وغيرها من الوسائل العقابية المجربة والمستحدثة بحق المواطنين الفلسطينيين. طال وقوفنا ولم يكن أمامنا مخرج بديل. اتصل بي صديق وأخبرني أنه عالق منذ الساعة السابعة والنصف صباحا في منطقة «بسجات زئيف» القريبة من المحكمة العسكرية في «عوفر»، ثم استطرد قائلا: «دعنا من هذا القرف ولنتكلم عن انتصار السعودية»، وأضاف مازحا إنه سمع مسؤولا سعوديا يعلن بعد هزيمة الأرجنتين أن فتح الاندلس أصبح مسألة وقت وحسب، ثم تلى عليّ مجموعة من النكات والنهفات التي تفتقت عنها قريحة الناس في أعقاب تلك اللعبة، ومنها خطبة لشيخ يجزم أن اللعبة وحدت جميع مسلمي العالم وانتصار الفريق السعودي ما هو إلا انتصار المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها على جميع الكفار. قالها وحاولنا أن نستحضر مشاعر مدرب منتخب الفريق السعودي الكافر هيرفي رينار الفرنسي الجنسية والمنبت. لست من مدمني مشاهدة لعبة كرة القدم؛ وللحقيقة تعمدت أن أفطم من عشقي لها وتعلقي المرضي بتشجيع فريق معين، وبدأت اتبع سياسة الانحياز للفريق الذي يؤدي عرضا أفضل.. لم يكن ذلك سهلا، لكنني صممت على أن أتخلص من ذلك الدنف، بعد أن أحسست أن مستويات التعصب داخل مجتمعاتنا العربية وصلت حدودا خطيرة، وانقسامات نووية كان أشدها الصراع بين قبيلتي «البارشا والريال». حاولت أن أكون قدوة أمام أبنائي وأقاربي، ولكنني اكتشفت أنني لم أشفَ من ذلك السحر الكروي بشكل تام؛ فمباريات المنتخبات الدولية احتفظت بعناصر تشويقها المنيعة أمام محاولات الفطام أو الابتعاد عن مشاهدتها، لاسيما خلال مباريات كأس العالم، وكأنها استبدال ممسرح لحرب عالمية متخيلة. كنت وحدي عندما شاهدت لعبة المنتخب السعودي. لم أعرف من قبل أية تفاصيل ذات قيمة عن لاعبيه أو تاريخه وإنجازاتهم؛ بينما كانت الأسماء الأرجنتينية نجوما تحيط بقمرها الواحد والوحيد ليو ميسي. هيأت نفسي لتشجيع الأرجنتين من دون أن أبحث عن أسباب عقلانية أو موضوعية لذلك، فعلى ما يبدو كان شيء ما بداخلي مقتنعا باختياري من باب الإنصاف والاستحقاق. بدأت اللعبة وكانت سجالا بين قوتين متكافئتين والسعوديون يحاربون كأبطال الملاحم والمعلقات. لم انتبه متى ولماذا خلال مجريات اللعبة بدأت أنحاز لصالح المنتخب السعودي، ولم أجد لغاية اليوم سببا واضحا جعلني مع نهاية المبارة أداري الدمع المتدحرج من عيني ككرات من فرح حذر.  كل الأجوبة على هذه الأحجية ممكنة، وكلها، في الوقت ذاته، غير كافية أو ملتبسة. كانت للأرجنتين مكانة وردية باسمة في مخيلتي، فلم أفتش على ثأري في الملعب منها؛ والانتصار عليها لم يعد، في قاموس الحماسات الوطنية الشعبوية، هزيمة لرمز إمبريالي تقليدي أو رأسمالي خنازيري، كما لو هزم منتخب فلسطين منتخب بريطانيا مثلا. فلماذا إذن فرحت لهذا الانتصار، وأنا، مثل عرب وفقراء كثيرين، برازيلي الهوى؟

كانت أخبار التفجيرين تتوالى تباعا بتقارير مكرورة ومستفزة، ومصحوبة بخبر عن قيام شبان من مدينة جنين باختطاف جثمان شاب عربي من سكان مدينة دالية الكرمل، كان قد أصيب بحادث سير بالقرب من مدينة جنين، فنقل على أثره للمستشفى حيث فارق الحياة هناك، فاختطفه الشبان، حسبما جاء في الأخبار، بحجة أن إسرائيل تتحفظ على جثامين عشرات الشهداء الفلسطينيين بينهم حوالي العشرين جثمانا من منطقة جنين. بدأت السيارات تتقدم ببطء والأخبار تنقل نداءات قيادات الأحزاب والحركات العربية في إسرائيل الموجهة للجهة التي تتحفظ على جثمان الشاب بإعادة الجثمان كي يتمكن أهله من دفنه، حسب الأصول. بعد أكثر من ساعتين وصلت إلى اجتماعي في رام الله. لاحظت أن أحاديث الحضور، ومعظمهم كانوا من الأسرى المحررين، كانت تتناول أخبار الطرقات وجلطاتها المرورية من باب التفاكه الروتيني على المشهد، ثم كان لحادث التفجيرين قسط في حديثهم، ففهمت منهم أن الأمر كان متوقعا بعد التمادي الذي مارسته قطعان المستوطنين في الاعتداءات الدموية اليومية على المواطنين في القدس وجميع الأراضي المحتلة وعلى ممتلكاتهم، وبدعم من جيش الاحتلال المباشر، وكان متوقعا كذلك بعد انسداد جميع أفاق السياسة وطاقات الأمل، وأن المقبل سيكون أخطر، هكذا توقع وأجمع معظم المتحدثين. وأجمعوا كذلك على أن عملية اختطاف جثمان الشاب العربي تيران فرو، وإن لفتت أنظار العالم إلى جريمة احتجاز إسرائيل لجثامين الفلسطينيين، كانت عملية خاطئة منذ البداية وارتجالية بشكل مسيء وغير محسوبة بشكل سليم. كاد النقاش في هذه القضية يتشعب حتى تدخل أحدهم وقال حاسما: «انسونا يا شباب من وجع الراس، بكفينا اللي جاي، خلونا نحكي شوي عن انتصار المنتخب السعودي».
فجأة تغيّرت أجواء القعدة واكتسى الكلام بألوان زاهية، مثل لون الفرح والرضا واحترام الذات. بعضهم اعترف بانهم من مشجعي الأرجنتين التاريخيين، ويعتبرون ميسي بطلهم الفريد، لكنهم شعروا بطمأنينة بعد انتهاء اللعبة من دون أن يتخلوا عن رغبتهم في انتصار المنتخب الارجنتيني في اللعبة المقبلة. تحدثوا وكأنهم خاضوا حربا حقيقية أعادت لهم بعضا من كرامة سليبة، وتحدثوا كأنهم كانوا مسافرين في دهاليز الزمن، حيث صارت أحلامهم نقوشا على وطن. جميعهم يعرفون أنها مجرد لعبة بين فريقين، لكنهم أكدوا أيضا انها تثبت ما آمن به المناضلون بأن الهزائم ليست قدرك إذا امتلكت فريقا مستعدا للنزال. كنت أسمعهم فرحين بعد هزيمة الأرجنتينيين، وأدرك لماذا تدحرج دمعي بعد انتهاء المباراة. فلساعتين فضيّتين في هذا الزمن الرديء، صار الملعب مسرحا واقعيا تقفز فيه لهفة المحاصرين فتصير سحابات هائمة؛ ولساعتين، من وقت الوجع، لم نكن مجرد متفرجين على صراع الأقدام وانسكاب العرق من الأجساد، بل كنا كأبناء الهزائم جوعى لقطعة شمس خريفية وحلم خفيف كنرجسة نركض وراءه فنركله ونضحك، ونركض وراءه، مرة أخرى فنركله مرة وأخرى ونستريح. لساعتين من عمر الرمل عشنا في عالم النسيان الكروي، فلم نكن واهمين ولا واقعيين، ولا لاعبين ولا متفرجين، ولم نكن منتصرين ولا مهزومين؛ لقد كنا مجرد منسيين وناسين. لقد بكيت، اسألوا دمعي، وأنا في عالم النسيان، ربما من فرح على نصر لم يكن، أو ربما من وجع على هزيمة لم تكن؛ فمن قال إن النسيان في فلسطين لا يكون أحيانا نعمة؟
كاتب فلسطيني

 

يث

حروب اليهود الجديدة…

الساخنة والباردة

جواد بولس

 

لا يبدو على بنيامين نتنياهو أنه ملهوف على إنجاز مهمة تركيب حكومته اليمينية الجديدة؛ وقد افترض الجميع، بناءً على فوز معسكره الكبير في الانتخابات الأخيرة، أنها ستكون مسألة سهلة ومحسومة. من الواضح أنه تلكؤ محسوب من طرفه يستهدف، بدايةً، ترويض «الطواويس» المنتفضة داخل حزبه ومن مثلهم في سائر الأحزاب الحليفة، التي انبرى بعض قادتها «بالتطاوس» عليه وبفرض شروط مغالية، لن تبقي، لرفاقه في الحزب إذا ما استجاب لها، غنائم وزارية مرضية تذكر.
سيختار بنيامين نتنياهو لحظة الحسم، وسيعلن عن نجاحه بإقامة حكومة بعد أن يكون قد انهك جميع محاوريه وأظهر، في الوقت ذاته، لحلفاء إسرائيل، خاصة للإدارة الأمريكية، أنه وصل إلى خط النهاية بعد أن بذل كل الجهد من أجل تبديد مخاوفهم، كما أُعلن عنها هنا وهناك؛ هذا إذا ما افترضنا أن اعتراض البيت الأبيض حيال إمكانية توزير النائبين سموتريتش وبن غفير، في منصبي وزيري الدفاع والأمن الداخلي، هو اعتراض حقيقي وجادّ، وليس مجرد مساهمة تكتيكية تسهّل على نتنياهو إنجاز مهمته كما يريد.

لن تكون أمام الفلسطينيين مخارج إلا الاستعداد لمواجهة «الكائن الجديد» فهو عدو من فصيل متحوّر أشرس من الذي سبقه وأكثر فتكا وإصرارا منه

سيكون الفلسطينيون في الأراضي المحتلة هدف الحكومة الإسرائيلية الجديدة المباشر، التي من المتوقع أن تضاعف وتعزز دعمها لإرهاب المستوطنين ولاعتداءاتهم على المواطنين العزل، وعلى الأرض الفلسطينية. يحسب البعض أنه لا جديد في هذه الرواية؛ فهذه القطعان السائبة تمارس، منذ سنوات طويلة، هذا الإرهاب بحق المواطنين الفلسطينيين وتعتدي على ممتلكاتهم وتغتصب أراضيهم؛ لكنني، على الرغم من صعوبة الوضع القائم حاليا، أتوقع أن التصعيد الاستيطاني الآتي، المدعوم من جيش الاحتلال، سيكون بأنماط ووسائل مغايرة على صعيدي الكم والكيف، وسيتّسم بممارسات دموية عنيفة، سيتقلد فيها منفذوها ميراث أنبيائهم التوراتي ويتبعون أثر «أبطالهم» كما نقلتها الأخبار الدارسة وأساطيرها ؛ فعشرات نواب الكنيست القوميين الشعبويين، وجميع الأحزاب الصهيونية المتدينة الشريكة في الحكومة المقبلة، يؤمنون بحق الشعب اليهودي على أرض فلسطين كلها، ويزعمون أن «جنودهم» موكلون من السماء بتجسيد هذا الحق على أرض الواقع، وبمواجهة كل من سيعرقل إنجاز مهمتهم بالطرق التي أجازتها تعاليم دينهم: فإما خنوع الأعداء والاستسلام، وإما تهجيرهم وإما القضاء عليهم. من الصعب أن نتنبأ كيف ستتداعى الأمور داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيد أن الشرارات الأولى للحرائق التي قد تندلع بدأت تتطاير، في القدس وفي غيرها من المناطق المحتلة، وهي كما نعلم رسائل الغضب الفلسطيني، وصراخات ناس لن يقبلوا العيش في حضن الضيم القائم ولا برسم المذلة المتزايدة. تتنامى في فلسطين مشاعر القلق من الغد الآتي، ومع القلق يكبر الاستعداد لمواجهته والتصدي للمرحلة المقبلة؛ ولئن يظهر من بعيد أن كل شيء باق على ما هو عليه في الأراضي الفلسطينية، فذلك شعور غير دقيق وغير صحيح. تحاول مكنة الدعاية الاسرائيلية بث مشاعر اليأس والإحباط في صفوف الفلسطينيين، ونزع الشرعية عن القيادات الفلسطينية، ودور ومكانة منظمة التحرير، ويساعدها على ذلك بعض المنابر والمنصات العربية والمحلية التي تؤدي دورا مشابها، مع اختلاف النوايا طبعا؛ وفي المقابل يحاول العديدون من أصحاب الرأي والقياديين ومعاهد الأبحاث والدراسات معالجة الواقع بمسؤولية وبروية، ويجرون التقييمات ويسدون النصائح الدؤوبة من أجل مستقبل فلسطين وحماية أهلها وحقوقهم، آخذين بعين الاعتبار مستجدات المرحلة الراهنة محليا ودوليا، عربيا واسلاميا، خاصة بعد أن أثبتت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عن أن إسرائيل قد «تغيّرت ويبدو إلى الأبد»، وذلك كما جاء في ورقة تقدير موقف صدرت مؤخرا عن «المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية» في رام الله. ولهذا لا بد من أن تتأهب القيادة الفلسطينية لمواجهة ما ستقدم عليه الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وتبادر لاتخاذ خطوات جدية وكفيلة لاستعادة المناعة الوطنية والقدرة على الصمود أمام جميع الضغوطات المحتملة، وقد تكون أولى هذه الخطوات، كما جاء في ورقة المركز المذكورة، العودة إلى «منظمة التحرير» وتعظيم دورها وإبراز قيادتها للمرحلة الحالية، والعمل، بشكل فوري، على تحقيق المصالحة الوطنية، ومنح المقاومة الشعبية منحى آخر، ودعم أطراف عديدة للمشاركة فيه، وتفعيل دور المخيم الفلسطيني وتنظيمه والمساهمة في تطوير الخدمات المقدمة للمخيمات، كونها حصونا للوطن، وتوثيق التنسيق مع الدول العربية وشعوبها. لن يكون أمام الفلسطينيين مخارج إلا الاستعداد لمواجهة «الكائن الجديد» فهو عدو من فصيل متحوّر أشرس من الذي سبقه وأكثر فتكا وإصرارا منه.
إننا مقبلون على عهد دموي وعنيف، لا في الأراضي الفلسطينية المحتلة وحسب، بل عندنا أيضا داخل إسرائيل. فعلى الرغم من خطورة الأوضاع التي ستزجنا فيها الحكومة الجديدة، ما زالت فئات واسعة بيننا تعتبر أن لا فرق بين القوى السياسية الجديدة، التي ستتسنم مقاليد الحكم ومن حكموا إسرائيل في العقود الماضية؛ فقد كنا نعامل كمواطنين عرب بعنصرية وباضطهاد، وهكذا سنعامل أيضا تحت حكم الحكومة الجديدة. حتى إن بعض الفرق بيننا راحت تقول باستخفاف: «خلوها تكبر، فإذا ما كبرت ما بتصغر»، وهو شعار مأخوذ من عالم الحرائق والنار طبعا، ويغفل أو يتغافل قائلوه أن النار لن تصغر إلا بعد أن تأكلنا، نحن حطبها.
أعرف أنه لا يروق للبعض أنني مصمم على قرع أجراس الخطر، قبل الانتخابات وبعدها؛ فمن لا يستوعب الفرق بين النظامين السياسيين، إسرائيل العنصرية كدولة احتلال، وإسرائيل الفاشية كدولة مستعمرة، سيواجه قريبا في الشوارع نيران مسدسات هذه الميليشيات وسياط قادتها الذين سيصبحون الآمرين الناهين في شؤون أمن الدولة وشرعها وشريعتها. القضية ليست محصورة بشخص أو بشخصين، بل هي قضية نظام شامل صار قريبا من حالة الاكتمال؛ فعلاوة على شرائحه السياسية الفوقيه التي ستؤلف الحكومة، تساعده مجموعات من النخب الاقتصادية والعسكرية والأكاديمية ومنظومة من البنى التحتية التي تسهم في بناء هذه المؤسسة العنصرية الفاشية. إنها سيرورات بدأت تتقدم وتتطور بمنهجية مُحكمة منذ سنوات، حيث برزت من دعائمها المؤثرة شبكة من الجمعيات المدنية التي تختص كل واحدة منها بتغطية قطاع من قطاعات معيشة أبناء المجتمع العربي، ولاحقت وستلاحق العاملين فيه وفق مجموعة من القوانين القائمة والجديدة، بينما تعززها ميدانيا الدوريات المدنية المسلحة المرخصة المدعومة من قبل الدولة، التي انشئت في بعض المدن المختلطة على غرار كتائب المستوطنين، أو من كانوا يسمون «شباب الهضاب». سوف تعيش البلاد حالتين من الحرب: ففي الأراضي الفلسطينية المحتلة ستسود لغة البارود والدم؛ بينما سنواجه نحن، المواطنين العرب، في جميع أماكن عملنا وتحركنا ووجودنا، حربّا باردة، وسيكون عمادها ما ستنتجه الكنيست من قوانين عنصرية وفاشية في مسعى خبيث منها لمحاصرتنا في جميع مناحي حياتنا، بهدف إجبارنا على أن نختار طريقنا وفق إيقاعات طبول الفاشية: استسلموا كي تسلموا، أو هاجروا كي تغنموا، أو قاوموا كي.. لا اعرف من سينظم الجماهير ويضبطها عندما سيكتب على مجتمعنا، لاسيما الشباب فيه، خيار المقاومة؛ فالأحزاب والحركات العربية الناشطة بيننا، تلك التي دخلت الكنيست وتلك التي خارجها، أثبتت أنها غير قادرة على إنجاز هذه المهمة، ومثلها كانت سائر المؤسسات القيادية التقليدية، التي باتت عاجزه عن احتواء الأزمة ومواجهة المأساة؛ فمن سيقود الدفة ومن سيكون في قلب النار عندما ستستعر الحرب بيننا، لا أعرف! «فالحق الحق أقول لكم أنه ستأتي ساعة وهي الآن حاضرة» حين ينام النخباء والنجباء ويصمت العقلاء والظرفاء وتتدفق الحماسة ويتمادى التنظير ويستقوي التفهاء. فالساعة الآن حاضرة.
كاتب فلسطيني

 

 

إسرائيل بعد الانتخابات…

وصلنا إلى حافة المنزلق الخطر

جواد بولس

 

أكتب مقالي هذا قبل نشر نتائج الانتخابات الإسرائيلية الرسمية؛ فالصورة العامة التي كشفت عنها صناديق الاقتراع واضحة وهي تؤكّد أننا سنواجه في الحقبة القريبة المقبلة اكتمال تشكيل نمط حكم سياسي جديد مختلف عمّا واجهناه منذ إقامة دولة إسرائيل وحتى أيام الحكومة السابقة.
أعرف أن الكثيرين من أبناء مجتمعي العربي سيعترضون على هذا التوصيف، لأنهم يساوون بين سياسات الحكومات الإسرائيلية السابقة، منذ عهد دافيد بن غوريون حتى عهد حكومة يئير لبيد، تجاه المواطنين العرب وما ستفعله حكومة نتنياهو سموطريتش بن غفير وحلفائهم من الأحزاب الصهيونية والمتدينة. لقد عاملت جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة مواطني الدولة العرب بعنصرية ممنهجة سافرة، وأحيانا بقمع دموي أسقط، في بعض محطات المواجهة الساخنة، الضحايا العرب مثل ما حصل في مواجهات يوم الأرض عام 1976 ومواجهات أكتوبر عام 2000 وفي حالات اعتداء فردية كثيرة.
من الصعب طبعا إقناع العديدين من شرائح المجتمع العربي بوجود فوارق خطيرة بين نظام الحكم العنصري الذي أقرت «ديمقراطية» قادته العرجاء، بعد فشلهم بتهجير آبائنا إبان النكبة، بضرورة معاملة المواطنين العرب بمساواة منقوصة، في حين كانوا يمارسون ضدنا سياساتهم العنصرية بشتى الأساليب والذرائع، ونظام «كامل الفاشية» سوف يتعاطى ويتصرف معنا حتما وفق مفاهيم تقضي بضرورة تلقيننا، نحن المخربين، حسب قاموسهم، خلاصات قناعاتهم، «القومودينية»، ومفادها انهم «أصحاب هذا البيت وسادة هذه الأرض»، ولن يقبلوا معهم في هذه المساحة شريكا ولا نزيلا. لقد أخفق جميع قادة الأحزاب العربية، ومؤسساتنا القيادية الأساسية، اللجنة العليا لمتابعة شؤون المواطنين العرب، واللجنة القطرية للرؤساء، ومعهما معظم مؤسسات المجتمع المدني، بتذويب الفوارق بين الحالتين وبتعبئة المواطنين وبتنظيمهم استعدادا لمواجهة لحظة الحسم، وذلك كما تجلّت مواقف الجميع إزاءها قبل وخلال المعركة الانتخابية. لقد آثرت أن أكتب مجددا عن مخاطر ما أفضت إليه نتائج الانتخابات، وأبتعد متعمّدا، على الأقل في هذه المرحلة، عن معالجة تداعياتها وتحليل نتائجها المقلقة؛ فكثيرون سيشرعون باستلال أقلامهم وإغراقنا بهذه التحاليل ولا حاجة لمزيد، ولقناعتي بعدم وجود جدوى من أي انتقاد لأصحاب المواقف وكيف مارسوها قبل وفي يوم الانتخابات، ولأن ما يهمني اليوم هو كيف سنواجه ما ستفضي اليه هذه النتيجة في اليوم التالي لإقامة حكومة نتنياهو المتوقعة. قد يراهن البعض على أن الحكومة المقبلة، مهما كانت يمينية قومية متدينة ومتطرفة، لن تجرؤ على القيام بما لم تجرؤ عليه سابقاتها. لا أعرف من أين يجيء هؤلاء بهذه القناعة، خاصة بعد أن سمعنا وعود عشرات النواب، من معظم أحزاب الإئتلاف المرتقب، لناخبيهم وتعهداتهم بتطبيق مواقفهم الفاشية تجاه الفلسطينيين بشكل عام وتجاهنا، نحن المواطنين العرب، على وجه التحديد؛ وسمعناهم أيضا يجاهرون بمخططاتهم لاستكمال عناصر إحكام سلطتهم على جميع مرافق الدولة، وتمكينهم كحكومة ووزراء، من تجسيد عقائدهم «القومودينية» لتأكيد فوقية الشعب اليهودي وتسيّده على أرض إسرائيل ومن يسكنها من الأغيار، من دون منازع وكما وعدهم ربّهم.

الأمل مهما دثّرناه بالعواطف الصادقة، لن يكفي لصد قطعان الفاشيين الذين تتأهب كتائبهم لاختلاق الذريعة والانقضاض على مواقعنا

سيكون «قانون القومية» مجرد متكأ لما يخططون له، فمنه سينطلقون للاستيلاء الكامل على المحكمة العليا الإسرائيلية، وذلك من خلال تغيير قانون انتخاب قضاتها وتفويض الحكومة بتعيينهم، أو على الأقل، بضمان أكثرية حكومية في لجنة التعيينات؛ كما سيبادرون مباشرة إلى سن قانون يخول الكنيست سلطة إلغاء قرارات المحكمة العليا، عندما تتدخل هذه المحكمة وتلغي قانونا لا يتماشى مع مبادئ الديمقراطية والمساواة وغيرها. هكذا صرّح قبل يومين، عضو الكنيست عن الليكود ميكي زوهر، عندما سئل عن نشاطه الأول في الحكومة المقبلة، وأضاف أنهم سيشرّعون في اليوم الأول قانونا «يحظر على العرب في إسرائيل رفع العلم الفلسطيني، وسحب جنسية كل مواطن يرفعه». لن يكفي مقال لجرد قائمة ما ينوون تنفيذه بعد استلام الحكومة؛ فالنائبة ميري ريغف مثلا، ستبدأ بتنظيف الوزارات من طبقة الموظفين المهنيين، التكنوقراط، لأن هؤلاء الموظفين يعرقلون تنفيذ قرارات الحكومة في أحيان كثيرة، ويتوجب التخلص منهم. بينما أعلن سموطريتش أنه إذا أصبح وزيرا للجيش فسيدفع بوحداته النظامية إلى شوارع المدن المختلطة لتضمن تلك القوات إحقاق النظام والأمن هناك. وفي المقابل صرح زميله في القائمة إيتمار بن غفير الذي يطالب بحقيبة الأمن الداخلي، على أنه سيبدأ مباشرة بتغيير تعليمات إطلاق النار «فلن تلقى، بعد اليوم، الحجارة والصخور على عناصر الشرطة دون أن نأذن لهم بإطلاق النار. سنمنح حصانة شخصية لكل شرطي، وفي كل حدث وحادث يحصل على خلفية قومية ستمنح الجنود وللشرطة حرية العمل». لن أسهب حول كيف يفكر هؤلاء تجاه العرب/المخربين وممثليهم في الكنيست ففكرة تهجيرنا/ الترانسفير لم تعد مجرد هواجس صهيونية كما كانت في السنوات الخوالي، بل أصبحت خطة ناجزة تنتظر فرصة مؤاتية لتنفيذها في ظل الحكومة المقبلة.
من الواضح أن عناصر النظام المقبل تعمل على تطوير منظومة أدوات متكاملة لإدارة الحكم ولتثبيته وفقا لمفاهيمها ولأهدافها، ولملاحقة جميع «اعداء الدولة والنظام» ومعاقبتهم، بدءا من عامة الناس، مرورا بطلاب الجامعات والموظفين، وحتى الأطباء والمحامين والمحاضرين في الجامعات. فهناك من سيراقب سلوك الجميع اليومي ونشاطاتهم المرئية والفيسبوكية وغيرها؛ وما مارسته حكومات نتنياهو سابقا سيظهر كتدريبات تمهيدية على ملاحقات عرقية ستطال جميع شرائح مجتمعنا من دون تمييز وحساب. نقلت مواقع الأخبار قبل أيام معدودة عن رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست النائب عن حزب يش عتيد، بن براك تصريحا مفاده إنه على قناعة «أن عودة رئيس المعارضة (يقصد نتنياهو) للسلطة مع حزب «الصهيونية المتدينة» ستكون بداية النهاية فهذا تحالف خطير» ؛ وبعد تأكيده على وجود الاختلاف والفارق بين الحالتين، أضاف مؤكدا أن «هتلر اعتلى سدة الحكم بصورة ديمقراطية، فبناء الديمقراطية يتم خلال سنوات ولكن من السهل هدمها». ورغم تأكيده على وجود اختلاف، فقد أثارت أقواله عاصفة داخل إسرائيل على جميع الصعد. ألنا في هذا التصريح عبرة؟
يؤسفني أن الصراعات والملاسنات بين قادة وناشطين داخل الأحزاب العربية ما زالت مستعرة؛ بدل أن يقوموا بمراجعة تبعات الهزيمة التي تحققت، وهي هزيمة حتى لو اعتبرها البعض نصرا، وإعلامنا ماذا سيفعل كل «تيار» منهم في مواجهة خطر الفاشية الداهمة. فأنا لا أعتقد، كما كتبت في الماضي، أنهم يملكون رؤية واضحة من الممكن تحويلها إلى خطة عمل مؤثرة وناجعة وتتعدى شعاراتهم الهوياتية الحزبية وحسب. أعرف أن زرع الأمل في نفوس الناس هو المقدمة الأولى لصمودهم ولثباتهم، وأنا طبعا أوافق على ذلك؛ بيد أن الأمل مهما دثّرناه بالعواطف الصادقة، لن يكفي لصد قطعان الفاشيين الذين تتأهب كتائبهم لاختلاق الذريعة والانقضاض على مواقعنا. قد تكون المدن المختلطة، كما صرّحوا، هي أول المعاقل المهاجمة في المستقبل القريب، وإذا حصل ذلك سيتصدى لهم أهل المدن وسيدافعون عن «البيت والعرض» ببسالة طبعا. ولكن لن يضير القادة إذا تذكروا اليوم ما قاله «لاعب النرد» وفكّروا بالجنود الذين سيدفعون أرواحهم أثمانا من دون أن يعرفوا من المهزوم ومن انتصر .

كاتب فلسطيني

 

عندما تصير أرحام

أمهاتنا أعداء لإسرائيل

جواد بولس

 

سنصحو، بعد أربعة أيام، على واقع جديد في إسرائيل؛ حيث سيتبيّن لنا، نحن المواطنين العرب، أن أكثرية المواطنين اليهود ماضية في انجرافها نحو حالة دينية عصبية عمياء، ممزوجة بعقيدة يمينية فاشية لن تقبل وجود «العربي» بين ظهرانيها كما قبلته، مغلوبة على أمرها، مؤسسات الدولة وحكامها خلال العقود المنصرمة؛ فالعنصرية المقسطة وقمع المواطنين العرب المبرمجين وفق ما تجيزه قوانين «ديمقراطية» الدولة اليهودية، لن تعودا مساطر مناسبة للتعايش في إسرائيل المتحوّرة إلى كيان متوحش وخطير.
من المؤسف أن تنتهي الحملات الحزبية الانتخابية كما بدأت؛ معارك طاحنة بين معسكرات «شقيقة» مجيّشة ومشحونة بذخائر مسمومة، ستترك آثارها بيننا بعد انقضاء المعركة، وجنود يرددون الشعارات المستهلكة التي أهملت مواجهة القضايا الحارقة، وتعاملت مع واقعنا البائس بخفة مستفزة وبتضليل يستسخف بعقول الناس. لقد بات من انتقد وقاطع حزب القائد الفرد النجم، يهلل ويهتف لحزب النجم القائد الفرد.
قد يكون المواطن العادي معذورا إذا انساق وراء وعود برق الخطباء الخلّب، أو إذا غرر به سرابهم، فلولاه «لما واصلوا السير في البيد». بسطاء الناس، أو من كنّا يوما نطلق عليهم اسم الكادحين، طيّبون ويصدّقون النبوءات وأهازيج المطر، ويفرحون لأنين الربابة حين يسري في عروقهم المتعبة، ولا يتأففون عندما يصغون لبحة الناي وهي تناغي «قصب» جدودهم الذي غمره غبار الزمن. هؤلا الكادحون، هكذا افترض، لم يسمعوا تصريح رئيس قسم جراحة القلب والصدر في مستشفى سوروكا، في مدينة بئر السبع، أمام جمهرة من الأكاديميين اليهود، وهو يعبر عن دهشته من عدم مواجهة حكومات إسرائيل لأحد أهمّ المخاطر الموجوده في داخلها، وهو المرأة العربية الولّادة؛ فمن جهة، هكذا صرّح «البروفيسور» في ندوة منزلية أقيمت بحضور الوزيرة أييلت شكيد في بلدة «عومر» بالنقب: «نحن نفهم أن التكاثر هو الذي سيهزمنا، أي الرحم العربي. ومن الجهة الأخرى نقوم بتشجيع ذلك من خلال دفعنا لهم عن أولادهم مخصصات التأمين الوطني». وطالب «جنابه» الوزيرة محاربة هذه الظاهرة الخطيرة من خلال فحص إمكانية تدفيع العائلة العربية غرامة مالية عن ولادة الابن الخامس ومن يليه! أعرف أن الكثيرين بيننا سوف يستخفون بهذا الحدث؛ فهو ليس الأول من نوعه، ولا الأخطر من حيث وقعه الآني؛ لكنني أختلف مع هؤلاء ولا أوافقهم. فنحن لا نستطيع سلخ هذا المشهد المقيت المستفز عن مجمل ما يحصل في شوارع الدولة وميادينها، ولا عن مسلسل الاعتداءات الهمجية شبه اليومية التي يقوم بها أوباش اليمين المنفلتون؛ فضلًا عن كون المتحدث في هذه المداخلة أكاديميا موثرا، وطبيبا يرأس وحدة جراحية مهمة تعالج عشرات المرضى العرب ويعمل معه فيها وفي المستشفى عدد كبير من الأطباء والموظفين/ات العرب. لقد استنكرت رابطة الأطباء العرب في النقب تصريحات العنصري ساهار، وطالبت بفصله من العمل؛ ولكن مدير المستشفى اكتفى بإصدار بيان أوضح فيه أن: «تصريح أحد رؤساء الأقسام في المستشفى، الذي قيل في مناسبة خاصة، لا يمثل مستشفى سوروكا ولا عمّاله. لقد اوضحت الإدارة ذلك لمدير القسم وهو اعتذر عن موقفه». لم نقرأ، للأسف، في بيانهم أي اعتذار واضح عمّا قيل، ولا نفياً لنظرية «الأرحام العربية العدوة». لم تر النخب العربية، من مواقعها الأكاديمية والتشغيلية الوثيرة، خطورة تصريح البروفيسور ساهار، ولم تتطرق إلى كيفية معالجته من قبل إدارة المستشفى وسائر مؤسسات الدولة ذات العلاقة. لقد حافظت تلك الشرائح على صمتها الذي أدمنت عليه منذ سنوات طويلة، حيث ساهم صمتهم منذ سنين في تمادي الزخم الفاشي من جهة، وفي تعزيز مشاعر اليأس بين المواطنين، وهروب الأفواج نحو الهوامش؛ فإما التدين والركون إلى مشيئة الله، وإما «التوحد» وتطليق السياسة ومتاعبها، من جهة اخرى.

نعيش وسط مجتمع عنصري ومتطرف دينياً، تهرول قياداته الفاشية نحو سدة الحكم، ويتوجب علينا إفشالهم، والمشاركة في الانتخابات

توقعت أن يوظف قادة الأحزاب هذه الحادثة في استثارة همم الناس، خاصة همم الأكاديميين العرب واليهود على حد سواء؛ ورغم إصدار بعضهم بيانات شجب واحتجاج، رأينا كيف التصق معظمهم بحملاتهم الدعائية المبرمجة والمعدة من قبل مستشاريهم الإعلاميين، وهؤلاء، كما نعلم، يعملون في التجارة لا في السياسة؛ فدعونا نتصور للحظات أن هذا البروفيسور سيصبح وزير الصحة القادم في حكومة يؤمن جميع وزرائها مثله وأخطر! عندها كيف ستأمن نساء العرب مباضع من يعتبر أرحامهن خطرا على مستقبل إسرائيل وشعبها اليهودي؟ أو من سيحمي ملاكات عمل الأطباء والمحاضرين والمهندسين والمعلمين العرب وغيرهم من انتقامهم الأكيد وكيدهم المعلن؟ ومختصر السؤال نكرره، من سيحمينا من هؤلاء وكيف؟ أمواطنة، أرادوا، هم، أن يحرمونا منها، وجعلناها نحن عرجاء ستكفي؟ أو عدل قضائهم الذي سيقف على رأسه قضاة يمارسون الاستيطان فكراً وسكناً؟ أو ربما هي فزعة أشقائنا العرب الذين سيفتحون أمام مفكرينا وأكاديميينا وطلابنا أبواب جامعاتهم ويضعون ميزانيات مراكز دراساتهم العليا تحت تصرف باحثينا وعلمائنا؟ لقد سألت هذه الأسئلة لمن يدعون إلى مقاطعة الانتخابات، ولا أعني الأفراد منهم، ولم أقرأ رداً صريحاً يتعدى بابي التمني والدعاء، أو عتبة الشعارات المقاتلة التقليدية التي تقال من دون أرصدة عملية. فنحن نعيش وسط مجتمع عنصري ومتطرف دينياً، تهرول قياداته الفاشية نحو سدة الحكم، ويتوجب علينا إفشالهم، والمشاركة في الانتخابات هي وسيلة مهمة في سبيل هذا الجهد، وهي أفضل طبعا من الاستخفاف والمقامرات والمزايدات والمغامرات التي مهما مورست بنيات حسنة ستوصلنا حتما إلى جهنم.
سأصوّت كما صوّتُّ دائما، لصالح قائمة «الجبهة الديمقراطية»، وحليفتها اليوم «الحركة العربية للتغيير»، وأدعو الناس للتصويت لهذه القائمة، كونها عنواناً مجرباً وأصيلاً للنضال الكفاحي الواقعي المشترك، العربي اليهودي، وللوقوف في وجه الاحتلال والعنصريين والفاشيين؛ ومن لا يرغب بها فليصوت لمن سيقف في وجه الفاشية والاحتلال، فمواجهتهم، بجبهة نضالية موحّدة، هي مهمتنا الأولى بعد معركة الانتخابات. ويبقى التصويت، في جميع الأحوال، للأحزاب اليمينية الصهيونية محرّماً طبعا.
كاتب فلسطيني

 

 

صوّت تحمي حقّك:

همسات قبل معركة حاسمة

جواد بولس

 

«الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر إلى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا. والثاني ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد. وفي الليل، يضيق الفارق، ويتسع التاويل» – محمود درويش.
على الرغم من وجود بعض الدلائل، والأماني طبعا، على أن نسبة التصويت في الانتخابات المقبلة للكنيست الإسرائيلي قد تتعدى الخمسين في المئة من المواطنين العرب أصحاب حق الاقتراع، ما زالت المخاوف على مصير قائمتي حزب التجمع الديمقراطي وقائمة الجبهة الديمقراطية والحركة العربية للتغير، حقيقية؛ بخلاف وضع القائمة الإسلامية الموحّدة التي، في ما يبدو، ستكون حظوظها بعبور نسبة الحسم أوفر.
لن أعود إلى تفاصيل ليلة فك الارتباط بين حزب التجمع وشريكيه في القائمة المشتركة؛ فالنبش فيها لن يسعف أحدا، بل قد يعيد البعض إلى حالة الامتعاض التي تفشت، في أعقابها، بين المواطنين الذين كانوا يؤمنون بضرورة استمرار الشراكة، لاسيما بسبب ظروف واقعنا السياسي المأزوم ومعاناة مجتمعاتنا من حالات تذرر خطيرة، ومظاهر العنف المتعاظم من يوم إلى يوم. وكم كنت أتمنى أن يطوي الجميع هذه الصفحة وينتقلوا، بالقول وبالفعل، إلى مواجهة مهمّتهم الأصعب وهي، إقناع الناخبين بضرورة مشاركتهم في العملية الانتخابية، حيث من البديهي أن يكون شرط نجاحهم الأول في هذه المهمة هو النأي عن المناكفات بينهم، والتوقف عن تهجمات بعضهم على بعض، والامتناع عن المزايدات؛ فالناس تعرف تاريخ جميعهم السياسي، منذ أن بدأت التحالفات الانتخابية بينهم، على مداوراتها، في عام 1999، وكانت حينها بين حزب التجمع، برئاسة مؤسسه الدكتور عزمي بشارة، والحركة العربية للتغيير برئاسة الدكتور أحمد الطيبي، وحتى أيامنا هذه. فمن كان منكم بلا تلك الخطيئة له سبق الطهارة. يدّعي البعض أن تفكيك القائمة المشتركة وخوض حزب التجمع الانتخابات في قائمة منفصلة، سيزيد من فرص التنافس السياسي بين الأحزاب الثلاثة، وهذا بحد ذاته سيشكل حافزاً، داخل جميع المعسكرات، لدى مجموعات من مقاطعي التصويت، ودافعا لعودتهم إلى طريق الصواب، مستنهَضين بعصبية حزبية جاهزة، ودفاعا عن كرامة وطنية كانت معطّلة، بسبب ظروف أملَتها ضرورات مرحلة آفلة! لن نعرف صحة هذا الادعاء ولا نتائج فك الشراكة الثلاثية على مصير القوائم العربية، إلا بعد الانتهاء من فرز الأصوات وإعلان نتيجة الانتخابات. ومع أننا قرأنا فعلا عن نوايا مشاركة فئات محدودة من المقاطعين في الانتخابات المقبلة، كل ومبرراته، قرأنا أيضاً أن معظم استطلاعات الرأي المعلنة حتى يوم كتابة هذا المقال، ما زالت تؤكد عدم حدوث انقلاب جاد وملموس على نسبة المصوتين؛ بل يخبرنا المحللون أن مثل ذلك الانقلاب لن يحدث إذا لم تنجح قيادات قائمة «حزب التجمع»، وقائمة «الجبهة والتغيير»، بنكش وعزق رواسب الماضي، وباجتراح برامج نضالية سياسية جديدة وواقعية وواضحة ومقنعة، تتعدى الخطابات المكرورة والتشديد على الفوارق بين شعاري القائمتين «الكرامة» و»التأثير بكرامة»، رغم أهمية تلك الفوارق وما سيترتب عليها في المستقبل، سياسيا وعمليا، حيال أداء كل حزب من الحزبين ودوريهما في خدمة المواطنين والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم. كانت وستبقى قضية مقاطعة المواطنين العرب للانتخابات البرلمانية الإسرائيلية من أهم العوائق في وجه الأحزاب العربية، التي تختار العمل البرلماني كأحد الروافد النضالية في خدمة الجماهير ودفاعاً عن حقوقها، من خلال تمثيلها أمام مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من وضوح تأثير هذه القضية في مصائر الأحزاب كلها، وتبعاتها على شكل العلاقات المستقبلية بين مجتمعاتنا ومؤسسات الدولة، لم ينشغل فيها قادة تلك الأحزاب ومؤسساتها التنظيمية، ولم يحاولوا معالجتها وتفكيكها إلا في أوقات وقوع المعركة الانتخابية.

مقاطعة المواطنين العرب للانتخابات البرلمانية الإسرائيلية من أهم العوائق في وجه الأحزاب العربية، التي تختار العمل البرلماني كأحد الروافد النضالية في خدمة الجماهير ودفاعاً عن حقوقها

ليس من الصعب أن نعدد قائمة المسببات التي تدفع المواطنين العرب إلى حالة العزوف التام والنأي عن الانخراط في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ فبعض تلك العوامل يتوالد بيننا ويتكاثر في واقعنا ومواقعنا، بينما تصدّر الدولة ووكلاؤها ما ينقصنا منها، ليكتمل ويتكامل مشهد المقاطعة، مع استراتيجية الإقصاء المتعمدة من قبل من يتأهبون للانقضاض على مقاليد الحكم بعد الانتخابات مباشرة. وفي غياب ما يحيّد جميع هذه «المحفّزات» تصبح مقاطعة الانتخابات هي الخيار الطبيعي عند نصف المجتمع، على الأقل، ما يضع جميع الأحزاب في خانة خطر السقوط والفشل.
لقد سمعنا مؤخرا النائب سامي أبو شحادة رئيس حزب التجمع الديمقراطي، يعلن بثقة على الملأ أن قائمة «الجبهة والتغيير» والقائمة «الموحدة الإسلامية» قد ضمنتا عبور نسبة الحسم، لا أعرف ما هي المصادر التي اعتمدها النائب أبو شحادة عندما أعلن تصريحه بثقة واضحة، وطلب من الناخبين، بناء عليه، التصويت لحزبه كي يضمن نجاحه أيضا. من الواضح أن إعلانه المذكور لا يعتمد على معطيات حقيقية وموثوقة، هي ليست ولن تكون موجودة أصلاً، وقد يندرج تحت باب التكتيك الانتخابي فقط؛ فهو يعلم، مثل الكثيرين، أن نجاح الأحزاب الثلاثة في جولة الانتخابات المقبلة لن يتحقق إذا لم تتزايد نسبة المصوتين العرب بشكل حقيقي؛ وهو يعلم أيضا أن عدد الناخبين العرب المسجلين في سجل الناخبين يناهز المليون ناخب، علينا أن نخصم منهم، مئة وخمسين ألف ناخب، على الأقل، لا يصوتون للأحزاب العربية؛ وهو يعرف كذلك أن كل قائمة ستكون بحاجة إلى ما يقارب المئة وخمسين ألف مصوت كي تعبر نسبة الحسم، وهذا لن يتحقق لقائمتين في المعطيات الحالية. إننا أمام مشهد سياسي خطير وجديد لا نستطيع تحديد مآلاته المستقبلية اليوم. يحاول البعض التهجم على من يحذرون من خطورة اعتلاء اليمين الفاشي إلى سدة الحكم، وهو الاحتمال الأقرب إلى الواقع، لا أعرف كيف يبرر هؤلاء استخفافهم بمخاطر ميليشيات الفاشيين القادمين وبمخططاتهم؛ رغم أننا نواجه كل يوم عينات من ممارسات هذه الميليشيات، التي سبقتها تصريحات قيادييهم المعلنة؛ علاوة على ما علّمنا تاريخ الحركات الفاشية التي قيّض لها أن تحكم في دولها، وتضطهد وتقمع وتريق دماء كل من وضعتهم في خانات الأعداء.
وكما قلنا في مرات سابقة، من حق كل مواطن أن يقاطع الانتخابات، ومن حق الحركات السياسية المعارضة للتصويت أن تدعو مؤيديها وتحثهم على مقاطعة الانتخابات، ولكن من حق شعبهم عليهم أن يعرف ما هي برامجهم في مواجهة الخطر الفاشي الداهم، وكيف سيذودون عن مجتمعاتهم في حال شرعت زمر الفاشيين يتطبيق قوانينها وشرائعها الدموية؟ وإن كان شعار بعضهم مرة «قاطع لتحمي شعبك» نقول لهم كيف؟ والاصح أن نقول: «صوت تحمي حقوقك». يعيب علينا بعض المفكرين والمحللين أن نحذر أهلنا من الآتي، وأن نخاف على مصائر أولادنا واحفادنا في وطن لم يعرف من النصر إلا «نونه» وهي مجرورة بهاءات الهزائم. فللأنقياء من أولئك، بخلاف المزايدين والمفسدين، أقول: لا تقسوا على من لا يجيد السفر مثلكم على جوانح الغمام، ومن يخشى النوم على أنوف السيوف. فلكَم تمنيت أن تكون هذه الذئاب مجرد مخلوقات كابوسية، لكنني في كل مرة التفت أتذكر كيف كانوا قبل حفنة عقود مجرد كمشة «أعشاب ضارة» فصاروا غابات ضارية؛ وتذكرت ايضًا بئر «الدرويش» الراقدة في حضن طليلة البروة، وهي تبكي حصانا قضى وحيدًا على حفافها، عندما كان الحالمون يمضون شرقا ويحملون في صدورهم تناهيد وطنية، وقربهم ملآنة دموعا ووعودا وحسرات. فاحلموا يا اخوتي كما تشاؤون ودعونا واقفين على محطة القطار قبل أن يسقط مجددا عن الخريطة. فأنا أتابع الأخبار مثلما يفعل السجناء، وأسمع كيف تتساقط الأماني عند عتبات الأمل، وفي ساحات البلد، وأسمع قهقهات الشياطين صارت قريبة من مخادع أولادنا، واسمع أيضا كيف ينقضّ عَمرنا على زيدنا، وجيوشهم نائمة على كتف السماء تترقب رعد الأساطير الباردة. كم أريد أن أحلم أنا أيضا، ربما مثلكم أو ربما أكثر؛ فمن قال إني لا أريد أن يتمسك الناس، كل الناس بأحلامهم ؛ فللقوميين أن يحلموا «بوطنهم حبيبهم، الوطن الأكبر» وبتحرير القمر وجزره؛ وللإسلاميين أن يحلّقوا كي يستعيدوا الأستانة ونيسابور وقرطبة، وللأوفياء أن يستحضروا في صلواتهم وفي أعيادهم بيسان وأم الرشراش والبصة ويمطروها أيام عودات. ولي أن أحلم بأنّ دوريّ صغير ينقر شباك بيتي لينبئني بولادة قلبي من جديد، وأن ينام حفيدي على زندي المتعبة وفراشة عسلية تقبل جبينه كمسحة ملاك.
صوّتوا كي تحموا حقوقكم؛ واحلموا كما شئتم. فمن يجرؤ على وأد أحلامنا، وهي حليب الجائعين الخائفين من مواضينا الخائبة؛ وهي سعاداتنا المؤجلة وطريقنا الآمن نحو غدنا المرتجى. وإن اختلفنا فلنختلف في الليل حيث «يضيق الفارق ويتسع التأويل».
كاتب فلسطيني

 

 

عدل إسرائيلي مغشوش

وذاكرة فلسطينية شعبية قصيرة

جواد بولس

 

أجازت المحكمة العليا الإسرائيلية في قرارها الصادر في السادس من الشهر الجاري لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، خوض المعركة الانتخابية المقبلة للكنيست؛ وبهذا تكون عمليا قد نقضت قرار لجنة الانتخابات المركزية القاضي بشطب قائمة الحزب.
لا أعرف كم من المواطنين، لاسيما أولئك الذين تابعوا تداعيات تلك القضية وعقّبوا عليها، قد قرأ جميع مضامين الوثائق القضائية الخاصة بها، وأهمها نص الاستئناف الذي قدمه «مركز عدالة»، باسم حزب التجمع، مرفقا بتصريح النائب سامي أبو شحادة، المشفوع بالقسم، وكذلك قرار المحكمة الذي كتبته في الأساس رئيستها القاضية إستر حيوت، وتعقيبات زملائها الثمانية على المسوّغات التي أوصلتها للنتيجة المذكورة.
لا شك بأن لجوء أي حزب عربي إلى المحكمة الإسرائيلية العليان متظلماً من غبن مؤسسات الدولة، واستخارتها في طلب تحقيق العدل، يتضمن إقرارا، لا التباس حوله، بأن هذه المؤسسة هي الوسيلة النضالية القانونية المقبولة على قادة ذلك الحزب؛ وارتضائهم طوعيا بأن يكون سقف القانون الإسرائيلي النافذ هو فصل المقال بين موقف حزبهم وموقف غريمه، وهو في هذه الحالة لجنة الانتخابات المركزية. وقبل أن أنتقل إلى المحور الآخر في هذا المقال، لا بد من التأكيد على أن حق جميع الأحزاب، أو المرشحين ضمن قوائمها الانتخابية، بالتوجه إلى المحكمة العليا، مكفول وفق القانون؛ بيد أن اللافت في مثل هذه الحالات هو التناقض الصارخ بين حاجتنا وتوجهنا إلى المحكمة العليا، واتهامنا، نحن المواطنين العرب، الصحيح والمبرر، لها ولجهاز القضاء الإسرائيلي بشكل عام، بأنها مؤسسات غير نزيهة تجاهنا، وتعمل بمنهجية واضحة على ترسيخ عنصرية الدولة ضدنا. ولئن كان هذا السلوك العبثي صحيا ومنتشرًا في حالتنا السياسية العامة، فهو أشد عبثية في حالة حزب التجمع الديمقراطي، الذي يعتبر نفسه ممثلا وحيدا للوطنية الفلسطينية في الداخل، وجزءا من حركتها الكفاحية؛ فعنده يشكّل التماس عدل هذه المؤسسة العنصرية «ورطةً»؛ ويكشف، في الوقت ذاته، عن إحدى معاضل واقعنا المتعلقة بممارسة هويتنا القومية داخل إسرائيل العنصرية. وقد يكون هذا الإشكال هو ما دفع النائب سامي أبو شحادة، لأن يعلن في تعقيبه الأول بعد صدور قرار المحكمة، أن حزبه فاز بنتيجة تسعة لصالحهم مقابل صفر لصالح غانتس وليبرمان والمتآمرين معهما! ووصفه، غير الموفق، لموقف القضاة التسعة كإجماع من طرفهم «على دعم فكرة دولة جميع مواطنيها». من الغريب أن يتبرع النائب أبو شحادة بإكرام أولئك القضاة بمثل هذا التقدير، وهم من ذلك براء طبعا؛ علاوة على كون كلامه بحقهم غير دقيق ومنافياً لما ورد في حيثيات قرارهم، الذي لو قرأه الناس لتسنى لهم تقييم إسقاطاته على واقعنا، وعلى ما يقوله حزب التجمع علنا للناخبين.

الوطنية موجودة ولم يخترعها قائد واحد، مهما علا شأنه أو توقّد فكره، والوطنية انتماء، لم يكتشفها حزب مهما صخب صوت قادته وبُحّت حناجر ناشطيه

يحظر البند (السابع أ) من قانون أساس الكنيست، على أية قائمة انتخابية، أو مرشح في قائمة انتخابية، التنافس في الانتخابات إذا كان من بين أهدافهم أو أعمالهم أو تصريحاتهم، المعلنة أو الضمنية، واحد من هذه الاهداف: نفي وجود الدولة كدولة يهودية وديمقراطية، أو التحريض على العنصرية، أو دعم النضال المسلح لأية دولة عدوة أو تنظيم ارهابي ضد دولة إسرائيل. ويكفي أن نُعمل قليلا من المنطق كي نستنج أن أمام القضاة عرضت موادّ كافية لإقناعهم بأن البرنامج السياسي الرسمي لحزب التجمع لا يتضمن موقفا صريحا وعمليا ضد يهودية الدولة، وهي العلة التي اعتمدتها لجنة الانتخابات، كأساس لقرار شطبها لقائمة التجمع. وكي نكون منصفين للحقيقة يجب أن نشير إلى أن القضاة أكدوا أن قصة شطب حزب التجمع وشطب الشطب لم تبدأ في أيام رئيسه الحالي، بل بدأت في زمن مؤسس الحزب، وبعده، مرورا في محاولة شطب النائبة حنين زعبي، وبعدها محاولة شطب النائبة هبة يزبك، وعليه، كانت قرارت المحاكم السابقة في تلك الحالات سببا مساندا لعدم شطب الحزب في هذه المرة.
لقد تمنينا ورغبنا بأن يلغى قرار لجنة الانتخابات التي تعمل بدوافع سياسية حزبية عنصرية ضيقة، وهذا ما تم فعلا؛ بيد أن قرار المحكمة العليا لا يحولها إلى جهاز عادل ومنصف تجاه قضايانا، كأقلية مضطهدة داخل الدولة، وسيظل عدلها أحيانا بمثابة الورطة المحرجة حتى لو تحممنا بشموس وطنية. يعلن قادة حزب التجمع، إلى جانب تأكيدهم على شعار «دولة كل مواطنيها»عن كونهم القوة الوطنية الوحيدة الفاعلة بين المواطنين العرب داخل إسرائيل، ويؤكدون أنهم جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى انسجامهم مع اهداف شعبنا الفلسطيني ومشروعه التحرري.
وما داموا ودمنا نتكلم عن الوطنية والمساواة التامة في دولة جميع مواطنيها، ساستذكر إحدى المحطات النضالية التي وقفت قيادات تلك الأزمنة على ناصيتها، ولا تعرفها أجيال اليوم، للأسف؛ خاصة بعد أن طويت أخبارها في بطن التاريخ، وغُيّب وأهمل دور هؤلاء القادة الذين ناضلوا من أجل حقوقنا وبقائنا بكرامة وطنية وبحكمة وبإخلاص.
في السادس من يونيو عام 1980 صدرت جريدة «الاتحاد» الحيفاوية وعلى صفحتها الأولى عنوان عريض صارخ يعلن بتحدّ واضح موجه لحكام اسرائيل أنه «حتى لو جوبهنا بالموت نفسه لن ننكر أصلنا العريق؛ إننا جزء حي وواع ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني». كان نداء جريدة «الاتحاد» موجها إلى ممثلي أوساط الرأي العام العربي في إسرائيل، يهيب بهم إلى عقد مؤتمر يعبّر عن إرادة شعبنا في التصدي الحازم، جنبا إلى جنب مع القوى الديمقراطية اليهودية، لتصاعد خطر العنصريين والفاشيين في إسرائيل. جذبت العريضة المنشورة في الجريدة مئات التواقيع؛ فبادر أصحابها إلى اقامة لجنة تحضيرية، ترأسها ووجه أعمالها القائد الشيوعي الدكتور اميل توما. التأم اجتماع اللجنة الاول في مدينة شفاعمرو، في السادس من سبتمبر عام 1980، وفيه وضع الدكتور إميل توما ملامح المشروع المرتقب، وحدد المفاصل الأساسية لمفهوم وأهمية المؤتمر ومهامه الكفاحية في بناء وحدة الجماهير العربية، كأقلية قومية. ووضع تصوراته بخصوص برامج النضال وبالمشاركة التي خطط أن تستهدف ايضا القوى الديمقراطية اليهودية الحقيقة، وضرورة طرحها بديلا للإجماع القومي الصهيوني السائد. لم يسمع معظمكم بتداعيات تلك الحقبة، أو بما كان يعرف عندئذ «بوثيقة السادس من حزيران/يونيو 1980» التي قضّت مضاجع حكام إسرائيل بشكل غير مسبوق، ودفعت رئيس الحكومة مناحيم بيغن، بصفته وزير الأمن أيضا، لإصدار أمر عسكري، يعتمد على أنظمة الطوارئ الانتدابية، يحظر بموجبه عقد المؤتمر والتعامل مع وثيقة السادس من يونيو، بعد أن أعلنه كنشاط خارج عن القانون، ويحظر كذلك استمرار عمل اللجنة التحضيرية للمؤتمر.
لقد أخافتهم فكرة انعقاد المؤتمر، الذي كان كفيلا، لو قيّض للقائمين على فكرته النجاح، أن ينقل قضايا المواطنين العرب في إسرائيل من كونها هواجس حزبية أو فئوية ضيقة إلى قضية وجودية كبيرة، أو كما كتب في حينه: «أن يجسّد المؤتمر أوسع وحدة شعبية عرفتها الجماهير العربية في هذه البلاد، بغضّ النظر عن معتقداتها السياسية، الاجتماعية المتباينة، وعن انتماءاتها الحزبية؛ فبهذه الوحدة تستطيع الجماهير التي تؤلف قوة سياسية اجتماعية ذات وزن كبير، أن تمارس دورها في الكفاح من أجل حقوق الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، من أجل السلام العادل والدائم، ومن أجل العيش باحترام متبادل في هذه البلاد، ومن أجل المساواة ولا أقل من المساواة للجماهير العربية».
لقد اخافتهم وطنية إميل توما ورفاقه وسائر القياديين الميامين حين أعلنوا «نحن أهل هذه البلاد ولا وطن لنا غير هذا الوطن» وأضافوا، «من العمى أن يتصور القائمون على هذه الدولة أنهم يستطيعون اقتلاعنا من جذورنا الضاربة عميقا في تربة وطننا. لقد صمدت الجماهير العربية وهي أقلية ضئيلة وهي تعاني صاعقة نكبة الشعب الفلسطيني، واستطاعت حتى في تلك الفترة العصيبة أن تتغلب على شعور التمزق والضياع، فخاضت معركة البقاء بصلابة وحزم فما بالكم اليوم». ولكن إسرائيل صحت على ما استهدفته الفكرة، واستوعبت خطورتها، فحاربتها وبدأت بهجومها المضاد من أجل تدمير ما كان منجزا، سيان على المستوى الوطني والقومي أو على المستوى المواطني الحقوقي. وهذه روايات اخرى. هكذا إذن، الوطنية موجودة منذ نطق التراب؛ ولم يخترعها قائد واحد، مهما علا شأنه أو توقّد فكره. والوطنية انتماء، لم يكتشفها حزب مهما صخب صوت قادته وبُحّت حناجر ناشطيه. وهي، كما قلت ذات يوم لأولادي: جوّاكم، تولد الوطنية في صدوركم وترضعونها مع حليب الأمهات الحرّات، وتكبر فيكم مع كل طلة فجر، حيث خمائل الطفولة وحيث يتكاثر الحنان.. الوطنية ربة تنام على شرفات بيوتكم كيما تحرس النور في عيونكم والأمل، وهي هكذا حرّة ترفض التعليب والتصدير.
كاتب فلسطيني

 

 

أسرى الأمل في فلسطين:

جوع وموت في سبيل الحرية والكرامة

جواد بولس

 

 قد تكون المآسي اليومية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية المحتلة، أكبر شاهد على حقيقة غياب ما يسمى «الضمير العالمي»، وتسامح أصحابه مع تجاوزات الاحتلال الإسرائيلي اليومية، واعتداءات جنوده على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم.
لم تعد عناصر جيش الاحتلال هي القوة الوحيدة التي تقتحم المدن والقرى الفلسطينية وتعيث فيها الفساد وتزرع الخوف بين سكانها، وتعتدي عليهم بأساليب قمعية وترهيبية غير مسبوقة، بل صارت تنافسها وتسبقها كتائب قطعان المستوطنين المسلحة، التي بتنا نتابع جرائمها بقلق، ونشاطاتها الدموية المكثفة في مناطق فلسطينية متفرقة من جنوب الأراضي المحتلة حتى شمالها.
يتشبث الفلسطينيون بحقهم في الحياة فوق أراضيهم وفي وطنهم، ويصرّون على انتزاعه بكل وسائل النضال المقدّرة لهم، والتي تكلّفهم أحيانا التضحية بأرواحهم أو حرّياتهم حين يزجّ بهم في سجون الاحتلال. ومن حق أولئك المناضلين علينا، وعلى كل صاحب ضمير ونخوة وكرامة، أن نتذكرهم وهم يواجهون زمن المحنة، وأن نقف إلى جانبهم، فالحر أخ الحرّ.. بالنطق وبالاسناد طبعا، إذا «لم يسعف الحال».
يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي حاليا ما يقارب (4700) أسير من بينهم (31) أسيرة و(190) قاصرا، لم تبلغ أعمارهم الثمانية عشر عاما، وحوالي (800) سجين إداري. يحمل كل أسير من هؤلاء قصة تستحق التوثيق والكتابة عنها؛ فتاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية هو في الواقع سجّل نابض وثّق وما زال يوثّق تفاصيل كفاح الشعب الفلسطيني، من أجل نيل حريته والعيش في دولته المستقلة بسلام، أسوة بشعوب الأرض؛ ومن جهة أخرى، يفضح، هذا السجل، جرائم الاحتلال وتواطؤ معظم دول العالم معه وسكوتهم المستفز عن موبقاته وتمكينه ليصبح أطول وأشرس الاحتلالات في العصر الحديث.
لن تكفي مقالة واحدة للتعريف بما قاساه ويقاسيه الأسرى الفلسطينيون وراء قضبان قمع الاحتلال الإسرائيلي، لكنني سأسلط الضوء في هذه العجالة على حالتين استثنائيتين، تتداعى فصولهما المأساوية، هذه الأيام، وراء قضبان القهر، من دون أن تحظيا بما تستحقانه من رعاية واهتمام محلي وعالمي.. الأولى هي حالة الأسرى المرضى الذين لا ينالون حقهم في الرعاية الطبية الملائمة داخل السجون الإسرائيلية؛ فيمرضون ويعانون ويرحل بعضهم من عالمنا، جراء سياسة الإهمال الطبي من قبل المسؤولين، في ما يسمى «مصلحة السجون الإسرائيلية»، تاركين وراءهم عائلات تتأسى ورفاقا ينتظر بعضهم نهاياتهم المرّة بكبرياء وبمقاومة، كما يليق بمن يحسبون أنفسهم مشاريع شهداء وهم أحياء. والحالة الثانية، هي فئة الأسرى الإداريين، حيث أعلن ثلاثون منهم في الخامس والعشرين من الشهر الفائت اضرابا مفتوحا مستمرا عن الطعام. لقد خبّرتكم قبل عام عن حالة الأسير ناصر أبو حميد، الذي زرته، حينها، في سجن عسقلان بعد أن أجرى له أطباء مستشفى «برزلاي» عملية جراحية استأصلوا فيها من رئتيه ورما خبيثا. لم تشفه العملية، فخلال هذا العام تدهورت حالة ناصر بشكل ملحوظ، إذ تبين أن مجرورات المرض الخبيث منتشرة في جسده، ولا يوجد ما يستطيع الأطباء فعله، أو كما كتبت مؤخرا إحدى طبيبات مستشفى «أساف هروفيه» بعد أن أجرت فحوصاتها الطبية لناصر: «لا أرى وجود أي إمكانية وحاجة لإخضاعه لعلاج كيماوي، فهذا لن يساعده؛ أوصي بتأمين علاج حاضن وإسنادي له». ثم أضافت، بلفتة إنسانية استثنائية، لا يحظى بها الأسرى الفلسطينيون عادة من جهة معظم الأطباء الإسرائيليين، فكتبت: «أوصي بالأخذ بعين الاعتبار إمكانية الإفراج عنه، كي يمكث مع أهل بيته في أيامه الأخيرة». كتبت.. وماذا يعني لو كتبت؟ ممثلو نيابة إسرائيل الرسمية أعلنوا رفضهم الإفراج عنه متذرعين بوجود مواد قانونية لا تجيز لهم ذلك.

منسوب الغضب واليأس في فلسطين مرتفع حتى درجة الغليان والانفجار، بينما تزداد موبقات سوائب المستوطنين المنفلتين بوحشية دموية، محاولين إشعال الحرائق

قد تكون قصة عائلة ناصر أبو حميد عيّنة موجعة لمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ومثالا بارزا لحدود التضحيات التي يختار دفعها فلسطينيون كثيرون في سبيل تحرير أرضهم والذود عن كرامتهم؛ فالأسير ناصر أبو حميد هو من سكان مخيم الأمعري، الذي يتوسط، كنغزة في خاصرة التاريخ، مدينتي البيرة ورام الله، وهو واحد من بين خمسة أشقاء يقضون في سجون الاحتلال أحكاما مؤبدة، أي لمدى الحياة، بعد إدانة كل من نصر وناصر وشريف ومحمد بتهم أمنية، ثم ادانة شقيقهم، إسلام، في عام 2018، مثلهم بالحكم المؤبد. كما يذكر أن شقيقهم، عبدالمنعم أبو حميد كان قد استشهد عام 1994. لقد تمنّت أم ناصر، عندما علمت بمرض ابنها، أن ينتصر عليه ويقهره «كما قهر الاحتلال». هكذا قالت في حينه؛ لكنّها تعرف اليوم ما يعرفه الجميع، وتتمنى، وهي المرابطة بعزة وبصمود على ضفاف المستحيل «أن يخرج ناصر محرّرا ولو ليوم واحد» وأن يموت في حضنها «في بيته، وأن يدفن بكرامة في تراب الوطن». كم من الشر يجب أن يختزن «السجان» كي يرفض تحقيق مثل هذه الأمنية؟ وماذا يمكن أن يقال ويكتب بعد سماع أمنية أمّ لا تحلم إلا بأن تحتضن جسد ابنها للحظة قبل أن يصير نجمة فلسطينية تضيء سماء الملائكة والأحرار في العالمين؟ يوجد في سجون الاحتلال زهاء ثمانمئة أسير إداري. تعتقلهم إسرائيل بناء على ما تسميه «معلومات سرية» ومن دون مواجهتهم بتهم عينية؛ ويتم تقديمهم إلى محاكم صورية لا تكفل لهم أدنى شروط المحاكمة النزيهة وحق الأسير بالدفاع القضائي السليم عن نفسه ودحض الاتهامات الموجهة اليه. رفض الأسرى الفلسطينيون في الماضي قبول سياسة الاحتلال في ممارسة الاعتقالات الإدارية وقاوموها بأساليب مختلفة، حيث كان الإضراب عن الطعام، سواء الفردي أو الجماعي، أبرز تلك الأساليب وأكثرها صخبا وإثارة، وربما تاثيرا من حيث نجاحهم في تسليط الضوء على التجاوز الإسرائيلي، ولفت نظر المجتمع الحقوقي، المحلي والدولي، لعذابات ضحايا تلك الممارسة الاحتلالية الإسرائيلية المقيتة.
في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر الفائت، أعلن ثلاثون أسيرا اداريا شروعهم في إضراب مفتوح عن الطعام. وقد يكون دوري، في هذه العجالة، أن أطلع القراء على ما جاء في بيانهم الأوّل الذي وجّهوه لأبناء شعبهم الفلسطيني ولجميع الأحرار والمناصرين في العالم، فقالوا: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ولأعداء الانسانية نقول: على هذه الأرض ما يستحق النضال كي نتمكن من الحياة.. مطالبنا: هواء نقيّ، وسماء بلا قضبان، ومساحة للحرية، ولقاء عائلي على مائدة. بينما يطلب الاحتلال سلخنا عن واقعنا الاجتماعي، وعن دورنا الوطني والإنساني، وتحويلنا إلى ركام». ثم يتوجهّون إلى أبناء شعبهم وضمائر العالم ويخاطبونهم معلنين: «نحن أبناء الأرض، ورثة أبو عمار، والحكيم، والياسين، والشقاقي والقاسم، ورثة الشهداء. نحن رفاق ناصر أبو حميد الذي فضح مجددا، بوجعه وبمرضه، حقيقة الاحتلال الفاشي، نقول بثقة وبغضب: واهمٌ كل من يعتقد أن اعتقالنا سيحوّلنا إلى حطام.. فرغم القتل البطيء نعلنها صرخة رفض للظلم، ونعلن أن النضال ضده هو غذاء أرواحنا المحلّقة في سماء الوطن. وعبر هذا النضال، وبإسناد شعبنا المقاوم، سنصنع غدا مشرقا. أيها الأحرار في كل مكان، نحن نخوض هذه المعركة ضد سياسة الاعتقال الإداري آملين أن تتدحرج بانضمام كل المعتقلين الإداريين لها، فهي حلقة مهمة في سلسلة النضال لإنهاء هذه الجريمة البشعة، وما يميّزها أنها تحمل على أكتاف مجموعة مناضلين ارتضوا خوضها، لإعلاء الصوت ضد ظلم الاحتلال، وعلى طريق إنهاء هذه السياسة التعسفية، فالإرادة تصنع المستحيل».
من المبكّر أن نتكهن كيف سيتدحرج وإلى أين هذا الإضراب؛ فمنسوب الغضب واليأس في فلسطين مرتفع حتى درجة الغليان والانفجار، بينما تزداد موبقات سوائب المستوطنين المنفلتين بوحشية دموية، محاولين اشعال الحرائق، ومستغلين أجواء هذه الأسابيع التي تسبق موعد الانتخابات المقبلة للكنيست؛ فمؤشر ازدياد قوة الفاشيين يتطلب مزيدا من الدماء الفلسطينية، وكثيرا من الشر الذي، كما قلنا مرارا، لا يعرف إلا أن يتمظهر بطبيعته العادية، صفراء كالموت وبيضاء كالعدم. بالمقابل، لا يمكن أن نغفل انه ولأكثر من خمسة عقود يحاول جنرالات الاحتلال القضاء على حلم الفلسطينيين بكنس الاحتلال، وإجهاض إصرارهم على مقاومته ولم ينجحوا؛ فها هي السجون وجدرانها تشهد على تلك العزائم التي لم تقهر وعلى أرواح رفاق ناصر أبو حميد الذين سقطوا قبله بأمراضهم، فبقيت زفراتهم وعودا حرّة ترفرف في الفضاء، وأنفاسا تتجدد في أحضان أمهات يعرفن كيف يبكين بصمت وبكبرياء وهن يرددن، ما قالته أم ناصر في إحدى مقابلاتها الصحافية، على لسان ولدها: «حرّ أنا رغم القيود بمعصمي.. أحيا عزيزا ولا أذلّ لمجرم».
هكذا تختصر لنا من أسميتها مرّة «وردة من الأمعري» حكاية أمهات أسرى الحرية الفلسطينية، وقصص مئات الأسرى الفلسطينيين، المرضى والإداريين؛ فهي، وإن بكت، تقول وتحيا عزيزة..
وسيبقى القول ما قالت الأمعرية..
كاتب فلسطيني

 

 

حين تصبح الكنيست بيتًا

مرغوبًا للحركة الوطنية الفلسطينية

جواد بولس

 

بعد أن هدأت عاصفة تفكك القائمة المشتركة، بدأت الأحزاب العربية الثلاثة بمخاطبة أبناء المجتمع العربي واقناعهم بضرورة وأهمية مشاركتهم في انتخابات الكنيست المقبلة؛ حيث يجمع معظم المتابعين والمحللين، عربًا ويهودًا، بأن نسبة التصويت بين المواطنين العرب ستكون من أهم العوامل، إن لم تكن أهمها، في تحديد مستقبل الخارطة السياسية البرلمانية الاسرائيلية القادمة. ومن دون أن ندخل في صحة هذا التقييم، يبقى شيوعه داخل مجموعات نخبوية يهودية قليلة، لكنها وازنة، مؤشرًا هامًا يجب أن نعود إليه بجدية في مرحلة ما بعد الانتخابات، لا سيما اذا نجحت قوى اليمين الفاشية وتمكنت من إقامة حكومة، اذ لن نستطيع، نحن المواطنين العرب، أن نواجهها لوحدنا.

اخترت أن أبدأ حديثي عن الفاشية موقنًا أنها التحدي الأكبر القائم أمامنا والخطر الحقيقي الذي على جميع الأحزاب والحركات السياسية، سواء تلك المشاركة في الانتخابات أو تلك التي تدعو الى مقاطعتها، أن تتعاطى معه وتكشف لنا كيف وبأية وسائل نضالية سوف تواجهه وتحمينا منه؛ فالمواجهة الحقيقية سوف تبدأ بعد صدور نتائج الانتخابات. 

أقول هذا وآسف عندما أقرأ تصريحًا لسياسي لا يعرف ما تكونه الفاشية وما خطورتها، رغم اننا بدأنا نلمس نذائرها في حياتنا اليومية؛ أو كيف يحاول بعض القياديين ومن يكتبون في هموم السياسة، نفي وجود هذا "البعبع"، خاصة عندما يقرنون تعريف الحالة بهوية شخص مثل نتنياهو أو جانتس أو لبيد أو بن جڤير وأمثالهم، ويساوون بينهم، من باب طمأنة الناس على أن جميع  الساسة الصهاينة سواسية في الشر "ونحن لم نخف من نتنياهو ولن نخاف من بن جڤير". لو كانت هذه الشعارات من باب الرغبة في عدم اشاعة الهلع بين المواطنين فقط لقبلتها، لكنها تقال لغايات سياسية أخرى. 

فعلى سبيل المثال، لا تفرق "الحركة الاسلامية الموحّدة" بين طبيعة الحكومات الاسرائيلية وهوياتها السياسية، ولا بما تؤمن به الأحزاب المكوّنة لهذه الحكومات خاصة تجاه المسلمين والعرب عمومًا؛ فالحركة  تعلن، وفق نظريتها "النفعية" انها مستعدة لدخول أية حكومة اسرائيلية تقبل بها شريكًا، وتتذرع بواجبها في خدمة مصالح المواطنين، بالرغم من ثبوت فشل هذا الادعاء ومضرته المتحققة في تصديع هويتنا الجمعية الواقية.   

ومن الجدير أن يتابع قادة "الحركة الاسلامية" ونحن معهم، آخر التطورات التي حصلت مع "سريّة بارئيل" وقد كنا قد لفتنا النظر الى الشروع بتأسيسها قبل تسعة شهور . ولمن نسي نذكّر كيف بادرَت بعد أحداث  "هبة أهل الجنوب" أو ما أسمته الصحافة العبرية "بالتدهور الأمني"، مجموعة من خريجي الوحدات الخاصة في جيش الاحتلال إلى تأسيس هذه "الميليشيا اليمينية الشعبية" كوحدة تابعة لجسم عنصري كبير  يسمى "اللجنة لانقاذ النقب".  ولقد أطلق عليها اسم "برئيل" تيمنًا بجندي إسرائيلي قتل على حدود غزة في شهر آب/ أغسطس من العام 2021، فأقسم رفاقه أن "يخلّدوا" ذكرى دمه! وقد أعربت وزارة الأمن الداخلي عن مباركتها للفكرة وكذلك فعلت بلدية بئر السبع، معتبرة أن ما يحصل هو بمثابة مبادرة رائدة هدفها حماية "أمن المواطنين اليهود" ومواجهة "ارهاب العرب". ويبلغ عدد المجندين المنخرطين في صفوف السريّة داخل مدينة بئر السبع ستين مسلحًا، بينما يصل عددهم في المناطق المحيطة لمائة وخمسين مسلحًا. وقد باشروا بعملهم الميداني قبل أيام بعد أن أعلنت البلدية وجمعيات وشركات ومؤسسات أخرى بدعم أنشطتهم الشرطية، ماديًا ومعلوماتيًا وتقنيًا. من المتوقع، حسب ما تشير اليه الدلائل، أن تحذو بلدات يهودية أخرى حذو مدينة بئر السبع، وتقيم داخلها ميليشيات شعبية مسلحة  "لحماية أمن" المواطنين اليهود ولمواجهة "عنف العرب"، خاصة في المدن الساحلية المختلطة: عكا وحيفا ويافا وفي اللد والرملة. إنها مقدمات للمشهد الفاشي الناجز. 

لا يجوز لأي جهة أن تخاطبنا كمصوتين من دون أن تكشف لنا كيف ستحاول حمايتنا وكيف ستناضل من أجل حقوقنا في الحياة وفي العمل وفي الحركة وفي التعبير. أكتب كل ذلك محاولًا ألا اصدق أننا نقف على تلك العتبات؛ فمن يعتقد أن حكومة فاشية مقبلة ستقبل بما لدينا وبما حققناه من دون أن تفرض علينا شروطها، فهو واهم .

أوجه تساؤلي هذا في الأساس لحزب "التجمع الوطني الديموقراطي" ولتحالف "الجبهة الديموقراطية والحركة العربية للتغير"؛ ولا أوجهه "للحركة الاسلامية الموحّدة" ، لأنها، كما قلنا، تؤمن بكونها صوتًا "واقعيًا ومؤثرًا ومحافظًا" عن طريق الاندماج المدني الكامل داخل المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة. 

لقد أعلن حزب التجمع الديمقراطي عن نفسه " كتيّار ثالث"، ويقصد طبعًا ثالث التيارات المتنافسة في الانتخابات. فاذا كانت "'الحركة الاسلامية الموحدة" تيار الاندماج التفريطي و"تحالف الجبهة والعربية للتغيير " يعتبر "تيار التأثير الواهم"  فهم يشكٌلون "التيار الوطني الفلسطيني" داخل الكنيست الاسرائيلي، على حد تعبيرهم. 

قلنا ان عاصفة تفكك المشتركة بدأت تهدأ نسبيًا ؛ فقد أعلن قائد حزب التجمع، سامي أبو شحاده، بعدما جرى في أعقاب حادثة ليلة ذلك الخميس المشهودة، عن قرارهم بالنأي عن لغة الاختصام المباشر والتحريض والتخوين خاصة في حديثهم عن تحالف "الجبهة والتغيير للتغيير"؛ ورغم ذلك الاعلان ما زلنا نرى أن كثيرين من نشطاء وقادة التجمع ما زالوا يحرضون على شركاء الأمس، ويقسمون عالمهم إلى معسكرين: "المعسكر الوطني", "ومعسكر  لبيد" . كنا في غنى عن هذه المزايدات والمناكفات التي لا تقنع الناخبين، خاصة وقد أتخمنا بها منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كان تحرير القدس، عند القوميين الوطنيين، يجب أن يبدأ بتحرير جزيرتي "سبتة، ومليلة" المغربيتين، وقد تغيّر اليوم ليبدأ تحريرها، عند الاسلاميين، بتحرير دمشق والقاهرة وعدن أولًا.  

نحن بحاجة لسماع نقاشات سياسية واضحة لا تقف عند حلاوة الشعار ولا تستدر عواطف الناس الوطنيين وحسب؛ فلحزب التجمع حق أن يعلن بأنه "التيار الوطني" الوحيد داخل مجتمعنا، ويعلن كذلك أن الفارق بينه وبين ما يمثله "تحالف الجبهة" هو بأن الجبهة تعتبر نفسها حزبًا عربيًا-يهوديا، وساحة نضالها هي الساحة الاسرائيلية، بينما يرى التجمع نفسه "جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية"؛ ولكن، إن كان ذلك حق حزب التجمع، فحقنا أن نسأله لماذا تختارون الكنيست الإسرائيلي ساحة لنضالاتكم ؟ وماذا وكيف ومع من سيعمل من يعتبر نفسه "جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية" داخل الكنيست الصهيوني؟ وكيف ستمثلون "الحركة الوطنية الفلسطينية" وشرعية وجودكم في الكنيست ستكون مشروطة بأن تقسموا يمين الولاء لدولة إسرائيل ولقوانينها؟

لا أقول هذا من باب المزايدة على أحد، وقد مررنا قبلكم في هذه التجرية عندما كنّا طلّابًا جبهويين في الجامعات ؛ فأنتم تعرفون أن هذا النقاش موجود على ساحتنا منذ قيام إسرائيل، وتشهد عليه مواقف الحركات القومية، مثل حركة  أبناء البلد، التي بسبب رؤية تنظيمها كجزء من "الحركة الوطنية الفلسطينية" رفضت المشاركة في انتخابات البرلمان الصهيوني. 

انها أسئلة مستحقة وواجبكم الاجابة عليها أمام الناس، كي يقتنعوا بكم وتنجحوا بعبور نسبة الحسم ، كما أتمنى ويتمنى كثيرون مثلي من غير مصوتيكم. فمن مثلكم يعرف طبيعة العمل في الكنيست وفي لجانها وكيف تتخذ القرارات اليومية وتحصّل بعض الحقوق والميزانيات وتقايض الأصوات في بعض الحالات وما الى ذلك من واقع كنتم في خضمّه؛  أما اليوم، وبعد أن أعلنتم عن لاءاتكم السياسية، فهل لنا كمجتمع يعيش تحت وطأة العنف والسلاح، أن نعرف ما هي برامجكم لمكافحة الجريمة والقتل؟ وإذا قلتم: لا للشرطة الصهيونية المتآمرة والمتواطئة، ولا لإسرائيل غريمتكم ولمؤسساتها، فكيف ومن سيضمن للناس تحقيق شعاركم/نا لا للعنف ولا للجريمة؟  وهو نفس التساؤل بخصوص القضايا الكبيرة الأخرى مثل هدم البيوت والميزانيات وغيرها .(هذه الأسئلة وغيرها ستوجه طبعًا لتحالف الجبهة والتغيير الملزمتين باقناع الناخب كيف يكون التأثير بكرامة، ولماذ لم يسعفنا ذلك لغاية اليوم.) 

في فضاءاتنا التباسات كبيرة وشعارات تتطاير وتقال بسهولة مدهشة وهي وان قيلت بحسن نية قد تكون عواقبها وخيمة. فمثلًا كيف تفسر لنا المرشحة الثالثة في قائمة حزب التجمع للكنيست، قصدها حين أعلنت من مدينة باقة الغربية في الرابع والعشرين من الشهر الجاري:  "نحن الوحيدون الذين لم نفرق بين فاشي وفاشي، ووضعناهم جميعًا في سلة واحدة. إسرائيل هي غريمنا وليس نتنياهو ..."  إسرائيل غريمكم! فليكن؛ ولكن لماذا تتنافسون لدخول برلمانها الصهيوني؟ وكيف ستناضلون من على منصاته بدون من أسميتموهم  "معسكر لبيد"، وأنتم لا تفرقون بين فاشي وفاشي؟ 

يتبع ،،     

 

 

 

 

 

انشطار القائمة

المشتركة وسياسة النجوم

جواد بولس

 

راهنتُ على أن قادة الأحزاب العربية الثلاثة: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير، سيتوصلون، مهما راوغوا وناوروا وضَلّلوا وضُلّلوا، إلى تفاهمات أساسية تفضي في نهايتها لإعادة بناء القائمة المشتركة وتُمكّنهم، مجتمعين، من العبور، هذه المرة أيضا، نهر السياسة الإسرائيلية المضطربة، وتنجّيهم من السقوط الكبير.
فشلت رهاناتي؛ فعند اقتراب ساعة الصفر وقبل إغلاق باب تقديم القوائم إلى لجنة الانتخابات الإسرائيلية بوقت قصير، سمعنا نبأ حدوث «الانفجار الكبير» الذي نجم عنه تقديم قائمتين منفصلتين، واحدة باسم التجمّع الديمقراطي، وأخرى تجمَع الجبهة الديمقراطية والحركة العربية للتغيير.
لن أتعاطى في هذا المقال مع سيل التبريرات والادعاءات التي دفع بها كل طرف لشرح مسببات قرار الانفصال، وتأثيم شركاء اللحظة قبل الأخيرة، بحدوث ما حدث. لن أفعل ذلك لأن المشهد برمته كان معيبا؛ وهو يشبه خناقة بدأت بين أطفال في شوارع قرية، ثم ما لبثت أن انتقلت إلى كبارهم ثم إلى اقتتال دام بين عائلتين كتب عليهما، بسبب تلك الخناقة، أن تمضيا العمر تحت ظلال الثأر والانتقام والضغينة الدفينة. ما حصل كان مؤسفا، ولعبة «إنت بديت..لأ، انت بديت» كانت طفولية إلى حد السذاجة، ومستفزة إلى حد الدهشة؛ لكنها في الواقع أثبتت أن الاقتتال لم يكن بسبب «رمّانة، بل من قلوب مليانة»، ومن يبحث يستطيع أن يجد كم مرة أشهرت بين الشركاء الخناجر المخبأة تحت العباءات وفي أنفاس الزمن. ليس من الصعب اليوم، بعد أن تكشّفت بعض الوثائق والتسجيلات، أن يتعرف مستطلع محايد إلى ماذا ومن كان وراء القرار الحاسم بالانسلاخ وفض تلك الشراكة؛ ولن أتطرق هنا إلى الدوافع التي رجّحت وحسمت سلوك كل طرف من الأطراف الثلاثة، خاصة قادة حزب التجمع، ولماذا اختاروا الطريق الذي اختاروه في النهاية؛ فالخوض في تلك التفاصيل اليوم لن يكون في مصلحة الحملات التي تطالب المواطنين العرب وتحثهم على التصويت والمشاركة في حسم المعركة الانتخابية، وهذا ما بدأ ينتبه له قادة وناشطو الأحزاب في اليومين الأخيرين. توجد ضرورة لطي تلك الصفحة والانتقال إلى الجوهر، كما صرّح مؤخرا معظم قادة الأحزاب العربية، وبضمنهم النائب سامي ابو شحادة، فالوضع الذي أوصلونا إليه خطير وبائس، ويتطلب بذل مجهودات استثنائية، من قبل جميع الأحزاب، لإقناع الناخبين بضرورة المشاركة في التصويت، ثم إقناعهم بالتصويت لأحزابهم بعد أن يستعرض كل حزب برنامجه السياسي وتصوره حول الوسائل الممكنة والمتاحة من موقعهم في الكنيست، لتحقيق تلك البرامج. على الرغم من أهمية هذه المسألة، وكي تكون مساعي طي الصفحة أنجع، من المفترض أن تُنقّى الفضاءات الاجتماعية و السياسية في قرانا ومدننا من رواسب الحملة الخطيرة، التي شنها قادة وناشطون في حزب التجمع، بعد فض الشراكة، ضد شركائهم في القائمة المشتركة، خاصة اتهامهم الصريح للنائبين أيمن عودة وأحمد الطيبي بالتآمر مع يئير لبيد رئيس الحكومة، على تفكيك القائمة المشتركة والقضاء على وجود حزب التجمع عن طريق عرقلة إمكانية تقديم قائمته الانتخابية للجنة الانتخابات؛ وهي فرية تعادل في عرف السياسة والقوانين الاجتماعية والأخلاقية تهمة «الخيانة». لم أتوقع أن يتبنى النائب سامي أبو شحادة مثل هذا الادعاء المختلق، الذي لا يستسيغه عاقل، وغير المسبوق بخطورته؛ ولا أن يردده بتصميم من على جميع المنصات لبضعة أيام، وهو الذي عرفناه دمثا رزينا متعقلا، يصون لسانه كما يصون كرامته، ويدافع عنها بصلابة وإصرار. لم أكن على معرفة شخصية مع النائب سامي أبو شحادة، إلى أن التقيته مؤخرا خلال وجودنا في عمان للمشاركة في حفل الفنان مرسيل خليفة، الذي أقامه «نادي الهلال المقدسي». كانت لقاءاتي به في عمان قليلة وقصيرة، لكنها كانت كافية كي ألمس طيبته وهدوءه واتزانه في علاقاته مع الآخرين. وقد لفت انتباهي دفء علاقته مع زميله النائب أحمد الطيبي، الذي وجد في عمان للسبب نفسه، والاحترام الظاهر المتبادل بينهما، في كل اللقاءات التي حضرتها أو شاهدتها أو عرفت عنها. أقول هذا ليس من باب الصدفة أو النميمة، بل كي أوكد أن ما حدث ليلة الخميس الماضي لم يكن متوقعا ولا مبررا؛ والأغرب من ذلك كان الهجوم الشرس على شخصي أيمن عودة والطيبي، بعد حصول الانفصال، بمشاركة النائب أبو شحادة غير المفهومة لديّ على الإطلاق والغريبة على أسلوبه السياسي العام الذي يبديه في الحديث حتى عن ومع الساسة اليمينيين العنصريين.

رغم الاختلافات السياسية في مواقف الأحزاب المشاركة في عملية الانتخابات وبينهم وبين من يقاطعونها، يجب أن تبقى جسور الاحترام والحذر ممدودة بين الجميع

جميعنا يعرف أننا على عتبة مرحلة سياسية مصيرية سنشعر بتبعاتها في الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، أي بعد ظهور نتائج الانتخابات. وعلى الرغم من الاختلافات السياسية في مواقف الأحزاب المشاركة في عملية الانتخابات وبينهم وبين من يقاطعونها، يجب أن تبقى جسور الاحترام والحذر ممدودة بين الجميع، لاسيما عندما نشاهد اليافطات العملاقة التي يعلّقها ناشطو اليمين الفاشي المحموم في شوارع المدن اليهودية، وعليها صور النائب أيمن عودة والنائب الطيبي وهما يتلفعان علم إسرائيل وشعار كبير بينهما يعلن بشكل تحريضي «هكذا ستكون صورة النصر»، والمقصود طبعا نصر يئير لبيد ومعسكره. لا يمكن أن نستبعد تأثير هذه الدعاية في بعض المأفونين ودفعهم إلى الاعتداء على النائبين، قد يصل إلى حد ارتكاب جريمة القتل. ألم يكن على قادة حزب التجمع، وكل من يستسهل إطلاق تهمة الخيانة ضد غريمه السياسي، أن يحذروا من إشاعة أجواء التنابز العنيف ومن عواقبها المحتملة، خاصة ونحن نعيش بين نارين: نار العنصرية الفاشية ودعايتها المحرضة على القتل، ونار العنف والجريمة التي قد تتمادى وتجيّر، في معطيات مختمرة، لبث الفتنة والفوضى السياسية داخل مجتمعاتنا. لقد صارت احتمالات الاغتيالات السياسية في مواقعنا أقرب مما يتخيّلها البعض، ولنا بما يحصل في المجالس البلدية والمحلية عبَرٌ واضحة.
لسنا في معرض سرد سلبيات وإيجابيات مسيرة القائمة المشتركة بتشكيلاتها المختلفة، فالبعض ينتقدها ويشدد على أنها أدت إلى غياب المنافسة الحزبية وإضعاف الأحزاب وهيئاتها، وبالتالي ساعدت على تغييب دور السياسة من حياة الناس، وساعدت على تنمية شخصية القائد النجم؛ لكننا لا نستطيع، في المقابل، حتى إن فعلا ساهمت في تأزيم تلك الحالة الموجودة أصلا، أن نغفل حقيقة كونها عاملا مهما في «ترويض» النفوس المتحزبة المتزمتة والمتمردة، والحد من تأثيرها في تقويض حالات السلم الأهلي السياسي داخل مجتمعاتنا، وفي تهذيب لغة الخطابة بين الشركاء، سيان على مستوى القيادات والكوادر؛ مع أننا كنا نسمع صليل سيوف هؤلاء المردة من حين لآخر. لم يدم هذا السلام والتفاهم بين الإخوان طويلا؛ فما أن انتشر نبأ انشطار القائمة المشتركة حتى صحت الجحافل من سباتها، وعادت أفواج المستقيلين والمقالين والزعلانين والمتمزعلين إلى أحضان قبائلهم، وطفقوا يطلقون سهامهم القشيبة، هذا إلى صدر ذاك، ورجعنا إلى حالة التفوير السياسية، حيث لا عقل يسود ولا قلم يفتي، وأبناء «مارك» يملأون الفضاءات «فكرا» ويبرع منتجو الأخبار بتلفيق أخبارهم وشائعاتهم. كنت على مسافة قريبة من مجريات الأحداث ولم أصدق كيف حدث هذا الانهيار بهذه السرعة.
أتمنى أن ينسى الناس تفاصيل ما جرى وأن يكونوا مستعدين لسماع ما لدى قادة الأحزاب، أن يقولوه وأن يقبلوا بعودتهم لممارسة دورهم الاجتماعي والسياسي في التأثير في مجريات الأمور في الدولة، مهما كان ذلك التأثير محدودا؛ أقول أتمنى وأشعر بأننا سوف نخسر «السياسة» بعد أن خسرنا «وحدتنا» وسوف نبقى، أو ربما لا، مع عالم النجوم، القدماء منهم والجدد، وأبرز الجدد هما الدكتور منصور عباس، نجم الحركة الإسلامية الموحدة، وعلى ضفة السماء الأخرى النجم سامي أبو شحادة قائد وزعيم حزب التجمع الديمقراطي. لقد أنهيت مقالي الأخير قبل أسبوعين، بالتمني أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في استعادة بناء القائمة المشتركة؛ وأضفت أنني أشعر إذا مضى حزب التجمع في «طريقه الثالثة» فقد يشكل قراره خطوة مفصلية في تشكيل خريطة التيارات السياسية الفاعلة داخل مجتمعنا العربي؛ وقلت، كذلك، قد نكون بحاجة إلى هذه الخضة السياسية، كي تظهر الصورة على حقيقتها ونعرف بأي أدوات سياسية علينا مواجهة المشهد السياسي الذي سيتشكل في إسرائيل، بعد الانتخابات المقبلة. واليوم وقد اختاروا في التجمع أن يعودوا إلى طريقهم الأولى لم يبق لنا إلا أن ننتظر ونسمع ما سيقوله لنا كل حزب وكيف سيضمن لنا نجومه السلامة والأمن والكرامة والوطن بعد الانتخابات المقبلة.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

الطريق الثالث… كل

الطرق تؤدي إلى الطاحون

جواد بولس

 

أكتب هذه المقالة قبل أن تعلن مركبات القائمة المشتركة الثلاثة وهي: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وحزب التجمع الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير، عن نجاحها في التوافق وإعادة تركيب القائمة، أو عن فشلها في ذلك. وتراقب الجماهير العربية الواسعة سلوك تلك الأحزاب في أجواء من انتشار الشائعات المتضاربة والأخبار المناوراتية المسربة، التي تغذي دوافع عزوف المواطنين عن المشاركة في العملية السياسية، وتراجع أعداد المصوتين حتى باتت استطلاعات الرأي تتوقع تدني نسبة التصويت إلى حدود 40% فقط.
حاولت قيادات الأحزاب الثلاثة إيهامنا بأن المفاوضات بينهم تدور حول تحسين أداء القائمة في الدورة النيابية المقبلة، عن طريق تمتين وتطوير العلاقات المشتركة بينهم وعلى أسس من القواسم السياسية الواضحة، التي من شأنها أن تقلل فرص المناكفات المضرة وتمنعهم من ممارسة المزايدات، أو الوقوع في أخطاء قاتلة. لقد صرّحت تلك القيادات، مباشرة بعد الإعلان عن حل الكنيست، عن نيّتها المحافظة على القائمة المشتركة، إلا أن كل طرف أكد سعيه من أجل الارتقاء بها كأداة عمل نضالية تكفل الدفاع عن مصلحة المواطنين العرب العامة، وعن حقوقهم المدنية والقومية. وهكذا برر بعضهم تمسكه بالمفاوضات بدل المحافظة على تركيبة القائمة، ولم يمض على تركيبها إلا القليل.
ورغم جميع ما سمعنا من تصريحات وشعارات، حول دوافع كل طرف في إدارة المفاوضات وحرصه على حماية مصالح الجماهير ومكانتها، تبقى الحقيقة جلية والواقع قهارا ؛ فحروب الحلفاء مستعرة، في السر وفي العلانية، حول أعداد المقاعد النيابية التي يقاتل كل طرف لضمانها، خاصة في المقاعد السبعة الأولى؛ وهي الحرب التي تحكمها، في فقه السياسة السائلة، «قواعد الدراية الكافية في علوم المحاصصة الرابحة». وبعد أن تعذر، حتى كتابة هذه المقالة، التوصل إلى توافق نهائي بين جميع الأطراف، وعلى الرغم من استمرارهم بعقد اللقاءات التفاوضية، أصدرت اللجنة المركزية لحزب التجمع الديمقراطي بيانًا، أعلنت فيه أنهم يواصلون استعداداتهم لخوض الانتخابات «كتيار ثالث»، كما كان قد أعلن عنه النائب سامي أبو شحادة في رسالة مصوّرة بُثّت على الملأ في العشرين من الشهر المنصرم.

لم تتحول القائمة إلى رافعة قادرة على تحقيق ما كان متوقعا منها، ولا على تشكيل حالة نضالية يطمئن لها المواطنون ويخاف منها النظام العنصري ويحسب الفاشيّون لها حسابا

لست بصدد مناقشة العناوين السياسية التي أعلنها حزب التجمع ورفعها كيافطات تبرر مضيّه في بناء «الطريق الثالث» من داخل البرلمان الصهيوني، وتأكيده على ضرورة استعادة وإحياء «الصوت الوطني»، خاصة وهم يشعرون بوجود حاجة «لمراجعة جدية لمشروع المشتركة؛ فعدة أخطاء تتطلب ذلك. وهناك تراجع كبير في نسبة التصويت والخطاب السياسي والمشروع المطروح للناس»، كما جاء على لسان النائب أبو شحادة. ليس سرا أنني كنت من مؤيدي القائمة المشتركة منذ بدايات تأسيسها، وحين كانت تتشكل من أربعة مركبات؛ وبقيت من مؤيديها حتى بعد انسلاخ القائمة الإسلامية الموحدة عنها بقيادة النائب منصور عباس؛ فهي ما زالت في واقعنا السياسي الحالي، الخيار السياسي الأنسب لنضالات المواطنين العرب المؤيدين للمشاركة في الانتخابات للبرلمان الإسرائيلي والمؤمنين بضرورة استغلال هذا الرافد النضالي المهم. وقد ينفع التذكير بأن تشكيل القائمة المشتركة جاء في الأساس كمخرج وحيد وكفرصة نادرة أتاحتها لقادة الأحزاب الأربعة خرائبُ مؤسساتهم الحزبية الهرمة، وقد كانت على حافة الاندثار؛ فجاء تشكيلها كردة فعل طبيعية على مؤامرة الحكومة الإسرائيلية في رفع نسبة الحسم أمام الأحزاب المشاركة في الانتخابات، وكاستجابة بديهية لغريزة البقاء التي يتقنها السياسيون بعفوية وبانتهازية فطريتين. من الجدير أن نقرأ ما يتحدث عنه النائب أبو شحادة في معرض تعليله لعودة حزب التجمع إلى خيار «الطريق الثالث»، خاصة أنه يشير إلى وجود عيوب بنيوية أعاقت وتعيق عمل القائمة المشتركة وتمنعها من أن تتحول إلى «جزء من مشروعنا لتنظيم الأقلية الفلسطينية في الداخل على أساس قومي وهي ليست كذلك»، كما صرّح في خطابه المذكور، هذا كلام يستوجب المناقشة. فقد يكون ما قاله، وفقا لمفاهيم حزب التجمع، صحيحا؛ كما قد يكون صحيحا ما أضافه أبو شحادة حين قال: «نحن لسنا جزءا من اليمين واليسار الصهيونيين، بل جزء من الحركة الوطنية (يقصد الفلسطينية طبعا) ونمثل شعبنا أمام حكومات إسرائيل، ولن نكون جزءا منها أو شبكة أمان لها». ومع جزيل الاحترام لما قاله النائب أبو شحادة، وإن كان الأمر كذلك، فلماذا راهن حزب التجمع، منذ البدايات وطيلة سبع سنوات، على الشراكة في قائمة كان من الواضح للجميع، قبل قيامها ومنذ يوم ولادتها الأول، على أنها مجرد مغامرة لن تتجاوب مع توقعات حزب التجمع القومية، حتى في حدها الأدنى، وأنها ستكون إناءً سياسياً هشا لا يمكنه، في معطيات العمل المشترك في البرلمان الصهيوني، أن يسع مبادئ حزب التجمع المعلنة والمعروفة، وكما يشدد عليها اليوم قادة الحزب ولجنته المركزية. وما دمنا نكتب من باب التذكير، فلن يضرنا إذا ما عدنا وراجعنا ما قلناه، خلال معارك الانتخابات المعادة والمتكررة في السنوات الماضية، حين انتبه الكثيرون إلى الخلل في أداء القائمة المشتركة وإلى بواطن ضعفها وقصورها، وتمنوا على قادتها، وبضمنهم طبعا قادة حزب التجمع، أن تتصرف أحزابهم بنضوج وبمسؤولية، عساهم ينجحون في استحداث أداة سياسية عصرية متماسكة وقادرة على تصميم وهندسة مفاهيم كفاحية جديدة تتلاءم مع جميع المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي.
لقد مضت السنون وزاد يأس المواطنين، لم تتحول القائمة إلى رافعة قادرة على تحقيق ما كان متوقعا منها، ولا على تشكيل حالة نضالية يطمئن لها المواطنون ويخاف منها النظام العنصري ويحسب الفاشيّون لها ألف حساب. لم يحصل هذا، وأعتقد أنه لن يحصل في هذه المرة أيضا؛ فالقائمة ولدت وبقيت في غرفة الانعاش. وكي لا نظلم قادتها بما لم يكونوا قادرين عليه أصلا، يجب أن نعترف بأن اللجوء إلى إقامة القائمة المشتركة كان هو العلامة على إفلاس الحالة السياسية الحزبية داخل مجتمعاتنا، والدليل على أزمة غياب القيادة السياسية ونفاد قدرتها على التجاوب المرتجى مع هواجس ومشاعر المواطنين العرب في إسرائيل. إنها أزمة كبيرة لا تتوقف تداعياتها على عتبات الكنيست، بل تتخطاها لتشمل كل منظومة المؤسسات التمثيلية السياسية والمدنية القائمة داخل مجتمعنا وداخل معظم التيارات السياسية الناشطة بينها.
من المؤسف ألا يشعر، في هذه الأيام، قادة الأحزاب المتنافسة على تركيبة القائمة أضرار تأخير إعلان نتائج مفاوضاتهم؛ خاصة بعد أن بدأت ترشح تفاصيل خلافاتهم المتمحورة فقط حول محاصصة مقاعدهم النيابية. ومن الواضح أن تراجع حزب التجمع عن عزمه في بناء الطريق الثالث من جديد، إذا حصل ذلك، لن يساعد في ترميم ثقة الناخبين، بل على العكس، قد يكون عاملا في تراجع نسبة المصوتين، وذلك على الرغم مما يحظى به النائب أبو شحادة شخصيا من تعاطف واحترام في أوساط شعبيه لافتة. إن غدا لناظره قريب؛ يساورني شعور أن الفرقاء الثلاثة سيتوصلون إلى حلول بينهم، حيث لم يعد لديهم متسع من الوقت للمماطلة والمناورات. وإذا لم ينجحوا بذلك سيكون من شأن قرار حزب التجمع في خوض الانتخابات، كتيار ثالث، التأثير في الحالة السياسية الحزبية القائمة داخل مجتمعنا العربي، وقد يخرجها من حالة الالتباس الذي عاشته في السنوات الأخيرة وعززته تجربة القائمة المشتركة. ومع أنني، كما صرحت سابقا، أتمنى أن ينجحوا في استعادة بناء القائمة المشتركة، أشعر إذا مضى حزب التجمع في تحديه لإحياء الطريق الثالث، بأن قراره سيشكل محطة مفصلية في تشكيل خريطة التيارات السياسية المؤثرة داخل مجتمعنا العربي. وهذا يعني بالضرورة ظهور القوة الحقيقية لكل تيار من التيارات الأساسية التي ما زالت تدّعي أنها تحظى بمكانة بين الجماهير، وهي أكثر من ثلاثة تيارات التي عناها حزب التجمع في إعلانه، اعتقد ساعتها سيضطر حزب التجمع أن يشرح للمواطنين نظريته السياسية، وتبريره لخوض الانتخابات في ظل إعلان رئيسه النائب أبو شحاده على أن: «شعبنا مسيّس.. وهم مدركون ولديهم قراءة ويعرفون الحقيقة أنه لا شريك في الخريطة السياسية في إسرائيل، ولذلك لن نبيع الناس وهما وسنكون واضحين مع الناس، الهدف هو رفع نسبة التصويت  وتصويب الخطاب السياسي للمجتمع الفلسطيني في الداخل». ما القصد وماذا بعد؟
قد نكون بحاجة إلى هذه الخضة السياسية كي تظهر الصورة على حقيقتها ونعرف بأي أدوات سياسية علينا مواجهة المشهد السياسي الذي سيتشكل في إسرائيل بعد الانتخابات المقبلة.
كاتب فلسطيني

 

 

مرسيل خليفة ..

في الطريق الى القدس

جواد بولس

كان لقائي الأخير بمرسيل خليفة في مدينة عمّان قبل ثلاثة أعوام. حينها وقف على مسرح مهرجان جرش الجنوبي وغنّى، بعد أن حيّا محمود درويش، صديقنا الباقي كالنبض بين ضلوعنا، فأبكى وأفرح وأرقص آلافًا من عشاقه جاؤوه على صهوة اللهفة والأمل، طوابير تهرول خشية أن تفوتهم تنهيدة واحدة من صدر حارس الأصالة الأمين. تواصلنا في زمن الكورونا وبعدها، لكننا لم نلتق

كنت في بيتي عندما تلقيت مكالمته وفيها أخبرني أن "نادي هلال القدس" دعاه ليشارك في احياء حفل خيري يقيمونه في عمان بتاريخ 2022/8/26 دعمًا لأطفال وأيتام المدينة. أحبَّ أن يطمئن مني عن هوية النادي والداعين، وليؤكد على ضرورة حضوري الى عمان للمشاركة في هذا الحدث.

أحسست بفرحه وكيف كان يشعر في تلك اللحظات؛ فهو عندما سمع بلفظ القدس وهي تهيب به، صار سيلًا من رعد وكتائب برق تستقدم الأيام بشوق طافح وتنتظر الساعة كي يمطر فارسها سماء بهية المدائن بالورود ويملأ قلوب أهلها بالنور والحب والعواصف. تواعدنا على أجمل عهد.

وصلنا عمّان في ساعات الظهيرة. تعانقنا، فعصر صدرانا أنفاسَ الشوق. تبسمنا. لم أنطق بكلمة. كنت بحاجة لبعض الصمت كي أداري عجقة الندى في عيوني. لاحظت أن حزنه المخبأ في تقاسيم وجنتيه صار أكبر من قبل، وأن ضوء عينيه تائه بالبعيد؛ لكنه بقي مرسيلنا، الشامخ بتواضعه والدافيء ببسمته الخجولة. كنت أود أن أخبره كيف كنا، أنا وابناء جيلي الطلاب في الجامعات، نتحلق، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حول مسجل صغير وندس في حلقه شريطًا كان صاحبه يحرسه كطفل ويخاف عليه من التأذي؛ وكيف كنا نغني مع العاصفة، ونتيه على "زنود ريتا" ونخبىء هوياتنا في حيطان الذاكرة؛ لم ننم من النشوة لأنه كان معنا وكنا مثله. لقد كان مرسيل في ذلك الزمن، يوم كان الناس يعبدون رب المقهورين والفقراء والبؤساء والمحبة والعدالة والسلام، أيقونة زرعها الثائرون على الظلم والودعاء في صدورهم، وسكروا على بخورها في جميع الميادين. حينها كانت أناشيده تمائم ومطارق، وأعواده مقاصل ومناجل. أحببناه لأن قبضاته كانت قبسًا ينير عتمة العشاق

لوهلة وددت أن أبوح له أن تلك القدس، قدسه وقدسنا، التي كانت تحتضننا بشغف وبشهوة، رحلت في شرايين الشرق النازفة ودُست سبية في أغماد الغاصبين؛ لكنني لم أقل شيئًا، إذ تذكرته وهو يمشي في أزقة المدن وشوارعها حاملا عوده على ظهره ومطرقا في الأرض، أم المقامات، فنظرت في وجهه وسمعت عينيه تقولان لي: تذكّر .. عوده صليبه، وهذه القدس التي لا مكان فيها، كما كتب قبل يومين فقط، "للمتعدّد إلا في الخيال الخصب حين يجمح..في القدس ما يجرح الحقيقة في حقيقتها، ويُدبر عن المقيّد. للمتعدّد مجازٌ شعري في الحارات، في دروب لا تغلق ألافق على سلّم لتسلّق الحكاية حتى آخر نوتة مطرزة بحرير يبلله غمام القيامة". إنها ما زالت قدسه التي من "حجر شحيح الضوء فيها تندلع الحروب"، وتولد في أفيائها العزيمة أو الهزيمة.       

أنهينا طقوس استعادة "العادي" بيننا حتى أوصلنا الحديث، بسرعة متوقعة،  إلى مأساة وفاة صديقنا الشاعر جريس سماوي، ابن مدينة الفحيص، الذي راح ضحية لجائحة الكورونا بعد أيام من رحيل أخيه سليم لنفس السبب، وفي ظروف عبثية مؤلمة. اتفقنا، وقد صرنا ثلاثة بمجيء صديقنا طلال قراعين، وهو عنوان آخر للوفاء والاخلاص، على أن عمّاننا هذه المرة ناقصة صديقًا نقيًا مخلصًا كريمًا، كان يلقانا، في كل مرة جئناها، بحفاوة وبدفء وبدماثة غامرة.

 قررنا أن نبدأ نهارنا من طريق الوجع، وأن نتحرّك نحو بيت جريس وسليم سماوي في الفحيص ونقدم واجب العزاء لزوجة سليم ولابنه فارس. من الصعب أن ننسى ما سمعناه هناك من منى، زوجة سليم، حول ظروف رحيل الاخوين، وكيف قضيا في المستشفى من دون أن تودعهما العائلة، ودفنا في المقبرة من غير طقوس أو مشاركة أحد. كانت تفاصيل الرواية محزنة ومخيفة وقاسية، وذكّرتنا بفصول رواية "العمى" للروائي العالمي جوزيه ساراماغو، فاصبنا بالخرس. سمعنا الأسى يسيل من روح زوجة كسيرة وعرفنا ألا عزاء لها إلا في مستقبل ابنها فارس وفي صدر حنين مؤجل وفي نعمة النسيان. جلسنا أمام قبرين توأمين تظللهما أشجار السرو. كان الصمت في المقبرة "سماويًا" فلم نبك لأننا، هكذا يبدو، أدركنا أن الدموع، في مثل هذا الموقف، ترف جنائزي مستهلك، وأمّا الحكمة، التي فتشنا عنها في اختيار السماء، وجدناها مدفونة في التراب.

عدنا الى بيت العائلة. وقفنا في شارع سمّي على اسم الشاعر الراحل  "جريس سماوي"، الغائب جسدًا والحاضر في أشعاره التي على الجدران المحاذية للشارع. فقرأنا من شعره عن إحدى أمنياته تقول: "أعدني إلى أوّل الكون ، حيث الندى نيّء، والجبال عجين ، وروحي هلامية لا تجف. أعدني.. أعدني إلى الله روحًا ترِفّ".

كنا محبطين و بحاجة إلى شيء مختلف، فرجعنا إلى طريق القدس، حيث "الموسيقى هي الوجع الشديد ترفع الروح عن المألوف وتأخذنا إلى القريب البعيد" ، كما أعلن مرسيل مخاطبًا العالم قبل الاحتفال.

أراد الجميع أن ينجح الحفل ليس لأن ريعه سيكون من نصيب أطفال القدس وحسب، بل لأن القدس كانت هي عنوانه؛ هكذا كان يردد المحامي ضياء شويكي، رئيس نادي الهلال المقدسي المبادر لاقامة الحفل، ومثله أيضًا راعي الحفل النائب خليل عطية، وطاقم مساعديه. كانت الأعصاب مشدودة والقلق باديًا على وجوه المنظمين إلى أن حان وقت رفع ستائر المسرح، فحينها تبين أن أكثر من ثلاثة آلاف شخص قد احتلوا مقاعدهم في القاعة ولبوا نداء "هلال القدس" رغم جميع العوائق والصعوبات والأخطاء التي برزت خلال العمل على تنظيم الاحتفال .

افتتح الحفل ضيف الشرف الشاعر والاعلامي زاهي وهبي، المصاب، هو أيضًا، بحب فلسطين، والمعروف بمناصرته العنيدة والدائمة لقضاياها ولحقوق شعبها، والذي حضر من بيروت خصيصًا ليدعم القدس وأهلها وليشاركهم همهم وأحلامهم. قرأ زاهي ثلاث قصائد من قصائده الجميلة والمناسبة لاجواء الاحتفال فاستقبلها الحضور بالتصفيق وبالهتاف، ثم دعا بعدها، صديقه مرسيل إلى المسرح وقدّمه للحضور كي يبدأ وفرقته برنامج الليلة.

ما أن ضرب مرسيل بريشته على وتر  عوده وأغمض عينيه وبدأ بترتيل "بغيبتك نزل الشتي" ضجت القاعة، وكأنّ سدًا قد خلع ليندفع منه سيل هادر؛ ثم فجأة ساد السكون. مضت لحظة بعدها أحسست بسخونة طفيفة تسري على خدي ثم  شعرت بها تقف على طرف شفتي.لم يكن ذلك بكاءً، لكنه كان ماء الطرب.

غنّى مرسيل من جوّاه بعاطفة مميزة وكأنه يقف على أسوار القدس. أنا لا أبالغ بل أقول هذا لأنني سمعته من قبلُ في عشرات المسارح والمدن والمناسبات حيث كان يعطي أجمل ما عنده ، لكنه  في ليلة القدس كان مختلفًا؛ فالى جانب ايمانه بقدسية فنيّ الابداع الموسيقي والغناء، وهما في عرفه رسالتان انسانيتان خالدتان، حضرت في وجدانه القدس التي كان يحلم فيها لتكمل في تلك الساعات جميع المعاني المنسية والمنهكة في قاموس الكرامة العربية. لقد أخرجها مرسيل من تحت رماد الاحتلال كجمرة الروح وغنّى لها كيلا تنطفيء مهما قست عليها الأيام وخانها الاخوة وتمادى على لحمها الاعداء.

لم يكن توظيف مرسيل في المؤتمر الصحفي الذي سبق الاحتفال لاستعارة كونه "في الطريق إلى القدس"، مجرد استرسال بياني أو تعبير نزق؛ فقد صرح بذلك متعمدًا وطلب منّا أن "ننظر في مرآة العيون فنرى القدس تختال بين القصيدة والأغنية". فمرسيل، مثل كل المبدعين الصادقين، يعرف أننا نعيش في زمن الثرثرة الخاوية والحماقة والتفاهة، ولذلك رأيناه يتوجه إلى أطفال القدس وشبابها  المؤمنين بالعمل وبالابداع وبالعطاء قائلًا : "ارتفعوا عن الثرثرة السياسية التافهة في الصميم، واظهروها كما هي في خيانتها"، ثم ربّت على أكتفاهم وقال لهم : "انتم الوطن بلا علم وبلا نشيد، وجودكم في قلب الموسيقى اعتراف صريح بطقس التحرير..". إنني على قناعة بأنه قصد ما كان يقول واختار اغانيه خدمة لذلك الهدف، فلما ألهب القاعة بنشيد "إني اخترتك يا وطني" كان عمليًا يدق على أبواب القدس، وعندما صلّى لأمه كانت أمهات القدس تزفّ نبضات قلبه، وحينما وقفت القاعة على ساقيها تردد وراءه "شدّوا الهمة" كاد هو أن يطير إلى هناك ليصرخ من باب عامودها: "يا أهلنا في غزة، في الضفة، في فلسطين نحبكم ! من يستطيع أن يغني وهو يعيش الموت؟". من يفتش عن جواب لهذا السؤال كان يجب أن يسمع عازف البيانو الرائع، رامي خليفة، وهو يهدي "القدس" قطعة من مجد السماء.

كنت أراقبه وأخاف على أضلعي أن  تتكسر؛ فأمامي كان ذلك المرسيل الذي تحلّقنا حول صوته قبل خمسة وأربعين عامًا، وحملناه أيقونة في أحلامنا وتميمة في ضياعاتنا. كانت ليلة مقدسية بامتياز .

في الغد، لم أجد أجمل مما قاله مرسيل لمن فتشوا عن خلل في المشهد وحاولوا، كعادة مثبطي العزائم، أن يقللوا من شأن الحدث أو ينتقدوا القائمين عليه، فجوابه لجميع هؤلاء وغيرهم كان "قليل من الأمل يكفي كي يمحو جبلًا من الياس". ما أجملك!

ودّعته، كما في المرة السابقة، وأنا لا أعرف إن كنت سأرجع ثانية إلى عمّان وتساءلت: يا فرحنا هل تدوم ؟

لم أنظر إلى الوراء، لكنني تخيٌلته يدندن هناك في وسط الردهة: "وجدنا غريبين يومًا .." ومضيت أفتش عن قدسي .  فالى لقاء أيها الصديق.   

              

ايلول الفلسطيني،

موحدون في وجه السجان

جواد بولس

من المفترض أن يشرع، في مطلع أيلول / سبتمبر القادم، الأسرى الأمنيون الفلسطينيون في جميع سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعددهم قرابة 4500 أسيرًا، في خوض إضراب مفتوح عن الطعام، وفق ما جاء في قرار عممته "لجنة الطواريء العليا للأسرى" من داخل المعتقلات الاسرائيلية.

وحسب ما جاء في بيان نشره "نادي الأسير الفلسطيني" من مدينة رام الله، فإن البدء في خطوة الاضراب سيكون مرهونًا بموقف ادارة سجون الاحتلال إزاء مطالب الأسرى، وفي طليعتها العدول عن قرارات هذه الادارة في التضييق على الأسرى، لاسيما من ذوي الأحكام العالية وتحديدًا المحكومين بالسجن المؤبد.

وفي استعراض لخلفيات هذه الخطوة أكد "نادي الأسير الفلسطيني" على أن هذه الخطوة هي امتداد لمعركة الأسرى التي اندلعت في شهر شباط /فبراير من العام الجاري في اعقاب سلسلة من الاجراءات القمعية والتنكيلية التي أعلنت عنها، في حينه، ادارة مصلحة سجون الاحتلال، أثر نجاح عملية "نفق الحرية" وهروب الأسرى الستة من سجن "جلبوع" في شهر أيلول /سبتمبر من العام المنصرم.

لقد كان جليًا، لكل من يتابع شؤون الحركة الأسيرة الفلسطينية، على أن معركة قمع الأسرى المصيرية ومحاولة النيل من حقوقهم المكتسبة خلال عقود من النضالات والاصرار والصمود، بدأت عمليًا قبل عملية "نفق الحرية" وذلك حين أعلنت "لجنة أردان"، وزير الأمن الداخلي في العام 2018، خطتها الاستراتيجية لمحاصرة الأسرى وسحب معظم منجزاتهم وخلخلة شروط حياتهم التنظيمية والمعيشية كما استتبت  منذ عقود .

لقد استشعر الأسرى خطورة ما ترمي اليه إجراءات المسؤولين في مصلحة السجون ، وتعمدهم استغلال عملية النفق للايغال في خطواتهم القمعية، فأعلنوا في شهر شباط / فبراير المنصرم عن رفضهم لمخططات مصلحة السجون وبدأوا في تنفيذ سلسلة خطوات احتجاجية تصعيدية ضدها، حيث كان من المنتظر أن تتوج بالاعلان، في الخامس والعشرين من شهر أذار / مارس الماضي عن إضرابهم الشامل عن الطعام .   

لم يخض الأسرى الاضراب عن الطعام كما كان مقررًا، فقبل قدوم ميعاده بيوم واحد، توصلت "لجنة الطواريء العليا" في السجون، وهي لجنة تضم ممثلين عن جميع فصائل الأسرى وانتماءاتهم التنظيمية في الأسر، مع ممثلي مصلحة السجون إلى تفاهمات، قضت في جلّها بالمحافظة على أوضاع الأسرى كما كانت عليه قبل عملية " نفق الحرية"؛ وعدم المساس بما هو قائم.

إلا أن الأمور لم تسِر حسب ما اتفق عليه؛ حيث استأنفت مصلحة السجون الاسرائيلية تنفيذ خطواتها القمعية، في حراكات متحدية لارداة الاسرى ومراهنة على جاهزيتهم للدفاع عن حقوقهم وكراماتهم؛أو كما أكّدوا الأسرى أنفسهم في بيانهم الأول الذي نشروه في العشرين من الشهر الجاري، وأعلنوا فيه " كعادتهم التي عهدناها عليهم بالنقض للعهود والمواثيق؛ ها هي إدارة سجون الاحتلال تتراجع عن التفاهمات التي حصلت معهم في شهر آذار الماضي، والتي على أثرها أوقفنا حراكنا الاستراتيجي آنذاك وتقرر العودة لقرارها بالتنكيل بالاسرى عمومًا وبأسرى المؤبدات خصوصًا".

ومن بين ممارسات تنكيل ادارات سجون الاحتلال بالاسرى، برز قرارها بنقل عدد من قدامى الأسرى، الذين أمضوا عشرين عامًا أو أكثر في الأسر، كل ستة أشهر  من سجن إلى آخر ، في محاولة لمنع استقرار الأسير نفسيًا وحرمانه من امكانية العيش بانسجام مع محيطه داخل ذات السجن ! لم ولن تقتصر قرارات ادارة السجون على هذه الخطوة؛ فالواضح انها وغيرها ستكون البداية لنسف الوضع القائم وتوازناته المتعارف عليها  داخل السجون منذ سنوات طوال.

 يمكن فهم موقف الأسرى في شهر آذار / مارس المنصرم وقرارهم اعطاء فرصة لادارة السجون لتنفيذ ما اتفق عليه، كمغامرة محسوبة من جهتهم؛ فهم يعرفون، كما جاء في بيانهم الثاني، الصادر قبل ثلاثة أيام فقط، أن معاركهم مع السجان "لا يوجد فيها أم المعارك، وستبقى عملية التدافع معهم مستمرة ما دام هناك احتلال" ؛ وبناء على هذا التقييم الصحيح والثاقب قاموا بتوصيل رسالتهم الواضحة والحازمة لادارة السجون أولًا، وللجميع من بعدها، فقالوا : "لم نسمح يومًا للسجان أن يفرض إرادته علينا، ولن نسمح بذلك اليوم أيضًا، عبر وحدتنا الوطنية وخلف قيادة وطنية موحدة"؛ والتشديد هنا على أهمية وحدتهم الوطنية ووقوفهم خلف قيادة وطنية موحدة.

لقد قلنا في حينه أن اعلان "لجنة أردان" بشأن أوضاع الأسرى الفلسطينيين ومنظومة حقوقهم داخل السجون، يعتبر بمثابة قرار اسرائيلي رسمي وقطعي يستهدف تقويض أواصر وجود الحركة الأسيرة الفلسطينية وهدم منظومة الحقوق والأسس القيمية والمعيشية التي بنتها تلك الحركة عبر مسيرة كفاح طويلة وصارمة لامست، في بعض محطاتها، حدود المعجزات. وقلنا كذلك إن حروب المؤسسة الاسرائيلية مع الحركة الأسيرة الفلسطينية منذ يوم الاحتلال الأول ومرورًا باعلان "لجنة أردان" ولغاية الآن، لم تتوقف ولن تتوقف بتاتًا. بيد أن أباء هذه الحركة ومن تلاهم من أجيال متعاقبة، قد افشلوا ما كان الاحتلال يخطط لنيله ويتمناه؛ ونجحوا، بعد أن خاضوا  أشرس المعارك ضد قمع السجانين، بقلب المعادلة رأسًا على عقب؛ ففي حين حاول "السجان الإسرائيلي"  تدجين المقاوم الفلسطيني ومعاملته كمجرم وكإرهابي يعيش في ظل القانون الاسرائيلي ومننه، أصر هؤلاء المناضلون على أنهم أسرى للحرية وجنود يضحون بالاغلى في سببل كنس الاحتلال وحق شعبهم في الاستقلال وبناء دولتهم أسوة بباقي شعوب الأرض.

لقد استوعبوا منذ البدايات، وبفطرة المقاومين الأنقياء عشاق الحياة الكريمة، أن بناء الجماعة هو الضمانة الأكيدة لحماية الأفراد من خباثة أعدائهم، والوسيلة الوحيدة لصد سياسات المحتلين، فأشد ما كان وما زال المحتل بحاجة إليه، هو ظفره بأرواح المناضلين الفلسطينيين والتحكم فيها وراء القضبان، كي يحيلها إلى ظلال تائهة وفرائس للخيبة والى أفراد مهزومة فاقدة للأمل .

لم يكن قرار الحكومة الاسرائيلية المذكور مجرد نزوة عابرة، ولا يمكن لأية جهة فلسطينية احتسابه كردة فعل تأديبية ضد أي فصيل أو مجموعة من الأسرى جراء قيامها أو عدم قيامها بفعل ما ؛ فحكومات اسرائيل تعيش منذ سنوات حالة من الوهم أو ربما الاقتناع الذاتي بأنها باتت أقرب من مسافة قدم على الاجهاز على مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، حيث لم يبق أمامها الا مهمة تفتيت جسد الحركة الاسيرة وهزيمة "الروح الفلسطينية المقاومة" وتيئيس حامليها من نجاعة نضالاتهم وتضحياتهم.

لم تأت تلك القناعة الاسرائيلية من فراغ، ولن تتوقف محاولات السجان لتحقيق أهدافه بشكل تلقائي؛ فلقد استشعر القائمون على إعداد خطة سحق "الحركة الأسيرة الفلسطينية" بروز عدد من المتغيرات السلبية والمحفزات النامية داخل صفوف المقاومة والمجتمع الفلسطيني، وفي مقدمتها تعدد الانقسامات الفصائلية الفلسطينية، خارج وداخل السجون، وانتشار حالات التشرذم والتشظي على طول البلاد وعرضها،  فوظفوها واستغلوها كعوامل مسهلة في تنفيذ مهمتم الاستراتيجية المذكورة.

لقد استغلت الأحزاب اليمينية كلها حادثة "نفق الحرية" في سجن "جلبواع" وحرضت على جميع الأسرى وعلى تنظيماتهم وعلى القيادة الفلسطينية المتهمة بدعم هؤلاء "الارهابيين" وبتشجيعهم ؛ وكان متوقعًا أن توظف المؤسستان السياسية والامنية، هذه الحادثة والمضي بما بدأته حكومة نتنياهو وأردان، وشن  حملات ثأر جديدة، تمامًا كما شاهدنا منذ شهر أيلول العام المنصرم ونشاهد في هذه الأيام أيضًا.

من الصعب أن نتكهن كيف سيكون مصير الخطوة التي أعلن عنها الاسرى  ومهدّوا لها  ببعض الاجراءات التحذيرية الأولية، مثل امتناعهم عن الخروج إلى  يسمى بعمليات "الفحص الأمني" وارجاع بعض وجبات الطعام. ففي الاول من ايلول/ سبتمبر سيدخلون في مرحلة الاضراب عن الطعام الذي إن دخلوه فلسوف لن يتراجعوا عنه "إلا بتحقيق مطالبنا ولن تنتهي معانتنا ألا بتحقيق حريتنا" ، كما جاء في بيانهم المذكور .

من الصعب التكهن، لأن كل شيء سيكون منوطًا بهم أولًا وبتجسيد وحدتهم الحقيقية، فبعدها سيحق لهم مطالبة ومحاسبة أبناء شعبهم وجميع أحرار العالم؛ لأن "قضية الأسرى هي قضية حرية الانسان على طريق حرية الأرض"، كما ورد في بيانهم ..   

                  

 

كيف نتصدى

«للاڤا» النتنياهوية

جواد بولس

 

قبل خمسة أعوام، وعندما بدأت وحدات التحقيق الخاصة في شرطة إسرائيل باستجواب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكثيرين مِن أقربائه والمقربين إليه ومَن عملوا معه وفي محيطه خلال السنوات الماضية؛ كثرت التكهنات حول مصيره السياسي ومن سيحل محله.
وكما يعلم الجميع فقد أفضت التحقيقات إلى تقديم أكثر من لائحة اتهام خطيرة في حقه، ما زال القضاء الإسرائيلي ينظر فيها، ولا أحد يستطيع اليوم أن يتكهن بنتائجها؛ فكل الاحتمالات حيالها كانت وما زالت مفتوحة. لقد راهن الكثيرون، وفق ما انكشف في الصحافة من دلائل، على دنو نهاية بنيامين نتنياهو السياسية، أو على الأقل، على تراجع شعبيته بين المواطنين؛ بيد أن بنيامين نتنياهو لم يرتدع، كما كان متوقعا وطبيعيا أن يتصرف رئيس حكومة يواجه عددا من التهم الجنائية، كما لم تتراجع شعبيته بين المواطنين، على المستويين الشعبي والنخبوي؛ بل على العكس تماما، فقد واجه ويواجه منافسيه بشراسة لافتة ويحظى، في الوقت نفسه، بشعبية قد تقوده مع حزبه إلى تشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة.
لم يقتصر المشهد الإسرائيلي في السنوات الخمس الأخيرة على طريقة ازدراء نتنياهو نفسه لتفاصيل قضيته، بل تجاوزها حين وظفها في حربه من أجل تقويض أسس منظومة الحكم الإسرائيلية، وفي طليعتها الجهاز القضائي على تفرعاته؛ فدأب، بأساليبه الجهنمية والشعبوية، وبمساعدة فرقه الضاربة، على تأجيج الأجواء وتأليب مؤيديه ضد مؤسسات الحكم والقانون، والطعن بشرعيتها والتشكيك باستقلاليتها وبنزاهتها. لقد تقدم نتنياهو صفوف معسكره في هذه الحرب، وكانت سياسته، في جميع محطاتها، هي الخميرة التي ساهمت في تسريع اكتمال عملية الجنوح اليميني الفاشي، وفي تجسير الهوات داخل شرائح المجتمع الإسرائيلي اليهودي، المتخاصمة والمتنافرة، وصهرها معا لتندفع معا في شوارع الدولة وميادينها كسيل من اللاڤا الحارقة. لقد أثارت هذه التطورات استياء عدد من الشخصيات الاعتبارية في صفوف النخب الإسرائيلية، فأبدى بعضها، إلى جانب الاستياء، تخوفا على شكل الحكم ومصير دولتهم نفسها، بينما تعاطى آخرون مع ظاهرة بنيامين نتنياهو كحدث شاذ وعابر، مؤمنين بأن مؤسسات الدولة ما زالت قادرة على معاقبته وتحجيمه وإنقاذ بُنى الدولة من «الفساد والعفن السلطويين» اللذين تمكنا واستحكما في معظم أعضاء جسدها. ستسقط جميع رهانات هؤلاء قريبا؛ فالقضية، كما قلت قبل خمسة أعوام، ليست مقصورة على نتنياهو وزمرته، ولا على مصيره السياسي، بل تتعدى كل ذلك إلى ما هو أعم وأخطر، حتى لو وسم اسمه، في أوراق التاريخ، هذه الحقبة برمتها.

عرف آباؤنا كيف يكون البقاء في الوطن وكيف يجترحون آيات النضال والصمود، حين فهموا أن القضية ليست محصورة في شخص من يقف على رأس الدولة، بل هي في دمائنا

من أين تأتي شعبية نتنياهو العالية؟

في الواقع يقف حزب نتنياهو وراءه وقفة رجل واحد؛ وهذا بحد ذاته يُعد حصادا متوقعا لما خطط له في العقدين الأخيرين، حين تعمد بمنهجية سافرة استبعاد جميع القادة التقليديين التاريخيين في حزب الليكود واستقدام شخصيات مغمورة «التاريخ والنسَب الحزبي»، وتجنيده بهذه الطريقة لفرق من «الاستشهاديين» السياسيين المستعدين لافتداء «القائد المظفر» بكل ما يملكون، ومهما فعل أو لم يفعل. وإذا راجعنا كيف تصرف هؤلاء وما صرحوا به، لتحققنا من كونهم جنودا مخلصين في جيش نتنياهو، ولاكتشفنا عمق الفوارق بينهم وبين من أسسوا حزب الليكود وقادوه ردحا من الزمن؛ فالنائب ميكي مخلوف زوهر، مثلا، لم يتورع عن تشبيه التحقيقات مع «قائده المفدى» بعملية قتل رئيس الحكومة السابق إسحق رابين، أو كما صرح هو في حينه: «لقد قلت في الماضي بشكل واضح إنه وكما أراد يچآل عمير إسقاط الحكومة بشكل غير ديمقراطي، هكذا يفعلون لرئيس الحكومة نتنياهو من خلال محاولات «تشويه وتلطيخ سمعته»، ففي حالة نتنياهو تكون «وسائل الإعلام هي يچآل عمير وهي التي تحاول هدر دم الرجل من خلال ملاحقته، وهذا ما يشعر به الشعب»، وفق تصريح زوهر مع بدء التحقيقات مع نتنياهو. لم يكن هذا النائب وحيدا في تقمصه لشخصية الناطق باسم «الشعب»، مثل زعيمه، وهجومه على «الآخرين»، فغيرُه أيضا تلفظوا بخطابات تحريضية خطيرة، يمكننا من خلال التمعن فيها سبر ما يعتمد عليه نتنياهو أساسا لقوته ولثقته. فالشعب هو الهدف الثابت في خطابه السياسي الأساسي، واسترضاؤه هي المهمة الأسمى عنده؛ هكذا هو وهكذا علّم أتباعه، ويكفي أن ننتبه لرد النائب زوهر، ولتأكيده الواضح والمستفز، عندما طالبه بعض زملائه في الكنيست بالاعتذار عن أقواله السابقة، على أن مواقفه «واضحة ولن اعتذر عن أقوالي، فأنا لست «ساذجا»، بل إنني أعكس ما يشعر به الشعب. أنا أمثل مليون مصوت دعموا حزب الليكود، ويشعرون بأن البعض يحاول سرقة الحكم منهم بطرق غير ديمقراطية». إنهم تلاميذ مطيعون يتكلمون كمعلمهم ويحاولون مثله القفز عن مؤسسات الدولة ويتجاهلونها؛ فباسم «الشعب» يدافعون عن «ديمقراطيتهم» ويدوسون الديمقراطية الحقيقية بنعالهم، وباسم الشعب يخترعون «حقا» لهم وباسمه يستبقون النتائج وبقوته يبرئون زعيمهم، ويلبسون دور «الضحية» وباسمها يهاجمون من ليسوا معهم، ومن لا يمتثلون لأهوائهم ولرغبات زعيمهم. إنها مدرسة الولاء المطلق للزعيم القوي، التي تعتمد خطاب «الديماغوجية الخالصة»؛ وطلابها هم البارعون في السعي إلى بناء نظام يقف على رأسه «المعلم» الساحر القوي القهار الجبار القادر على كل شيء، والمنزه عن المعاصي، والمغفورة كل زلاته وأخطائه؛ فهو عندهم هذا «النتنياهو»، منقذ الشعب وحامي مستقبل الدولة من جميع أعدائها في الخارج وداخلها.
إنها حالة تولد في عقل وحضن «الشخص»، ثم ما تلبث أن تصبح أكبر وأخطر منه، تماما كما عرفنا التاريخ على مثيلتها؛ فنتنياهو قد يكون اليوم المشكلة الكأداء، لكنه قد يختفي أو ينتهي دوره بقرار قضائي أو بغيره، ولكن «الحالة» التي هندسها وأرسى مفاهيمها باقية، وهي مشكلتنا الحقيقية؛ فهو قد أصبح قائدا «معبودا» داخل شرائح وقطاعات واسعة بين الشعب، لأنه عرف كيف يزرع مفاهيمه في «جيوبهم» ويصل منها إلى قلوبهم ومن هناك ليتحكم في قبضات أياديهم. إنه، باختصار، القائد «الملكي» القادر على استمالة قلوب بسطاء شعبه، أسوة بعقول أصحاب المال وعتاة العدة والعتاد، وأن يتحدث أمامهم فيشعرهم بأنهم «أسياد الكون» وبأنه معهم يقفون على «أنف الدنيا» وعلى رأس دولة لا تجارى بقوتها؛ ثم يأسرهم، بلغة جسد وبخطابية فذة لا يفت من صلابتها سجن مفترض، ولن توقف مدها قضبانه التي يراها من ورق. فإسرائيله/ اسرائيلهم، كما يردد في جميع المناسبات، هي أم التقدم والتفوق في جميع مجالات الحياة؛ فهي ربة القوة والجيش التي لا تتحداها قوة، وهي قلعة الاقتصاد المنيعة التي تشهد لها مكانة شيكلها في أسواق عملات الأمم، وهي سيدة العلوم والتكنولوجيا التي أصبحت مكانتها مثالا بين القارات والدول، وأسماء جامعاتها تدرج إلى جانب أفضل وأعرق جامعات الدول المتحضرة الأخرى. إنه القائد الذي يعرف ماذا يريد وكيف يحصل على ماذا يريد، ولكن..
سينتهي قريبا النظر في جميع ملفات نتنياهو المنظورة أمام القضاء الإسرائيلي، وسنعرف ما إذا ما زال يوجد في إسرائيل قضاة يتجرأون على إدانة هذا «الزعيم»؛ لكنني، وبعيدا عن أية نتيجة سيصل إليها قضاة المحاكم، أنصح بألا ننتظر مصير نتنياهو الشخص، وألا نركن على عدل لم ينصف ضحايا نتنياهو ومَن سبقوه من زعماء شاركوا، كل بمفاهيمه، في تعبيد طرق القهر والقمع والعنصرية التي أوصلتنا حتى الفاشية الناجزة في أيامنا. فمأساتنا، نحن المواطنين العرب، بدأت بعيدا في الزمن، ولنقل مع «البنغوريونية» وقبلها، واستفحلت من عصر إلى عصر حتى تفاقمت في عصر «النتنياهوية». لقد عرف أباؤنا كيف يكون البقاء في الوطن وكيف يجترحون آيات النضال والصمود، وذلك حين فهموا أن قضيتنا لم تكن محصورة في شخص من وقف على رأس الدولة، بل هي «أبعد من ذلك في دمائنا»، فليس بن غوريون كان المشكلة إنما «البنغوريونية»، ولا شارون كان القضية، بل «الشارونية»، واليوم لن يكون الحل مع أو ضد غانتس أو لبيد أو نتنياهو، بل في فهمنا وفي جاهزيتنا، عربا ويهودا، لمواجهة «النتنياهوية» ومتحوراتها القاتلة المقبلة لا محالة.
كاتب فلسطيني

 

 

 

القائمة المشتركة:

سيل نزّاز خير من نبع مقطوع

جواد بولس

 

تتوقع معظم استطلاعات الرأي محافظة القائمة المشتركة على قوتها الحالية في البرلمان الإسرائيلي. ويعتبر البعض ذلك إنجازاً، خاصة في ضوء استمرار حملات التهجم عليها من جهة الأحزاب الصهيونية ومؤسسات دعايتها المضادة والموكلة بالتشكيك في شرعية القائمة، وفي مصداقية قادتها، وفي نجاعة مواقفهم لمصلحة ناخبيهم وقضايا المواطنين العرب في إسرائيل.
سيبقى نجاح حملات تلك القوى الصهيونية ضد القائمة المشتركة محدودا وقابلا للدحض وللتفنيد؛ بيد أن استعداءها من قبل مراكز قوى عربية محلية والتهجم عليها، تارة من قبل وكلاء سياسات الدولة الداخليين، وتارة أخرى من قبل جهات لا تؤمن بحاجتنا، كمواطنين في الدولة، للاشتراك في انتخابات البرلمان الصهيوني – سيبقى هو العامل الأكثر خطرا على قوة القائمة وعلى إمكانية بقائها في ميدان العمل البرلماني الإسرائيلي.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد من مخطط قادة أحزاب اليمين الصهيوني بالقضاء على جميع الأحزاب العربية الناشطة بين المواطنين العرب، عن طريق رفع نسبة الحسم إلى مستوى لا يستطيع أي حزب عربي تجاوزه لوحده، ورغم سوء نية الحكومة الإسرائيلية فقد تبيّن، من باب لا تكرهوا شيئا عساه خيرا لكم، إن قرارها المذكور أتاح عمليا فرصة نادرة لتغيير نمط العمل السياسي القائم، منذ عقود، بين المواطنين العرب والمعتمد على البنى الحزبية التقليدية؛ إذ بات بمقدور قادة الأحزاب ومؤسساتها، الانتقال إلى العمل المشترك من خلال بناء جبهة سياسية عريضة تضم جميع القوى السياسية التي يستطيع قادتها التوافق على برنامج سياسي واضح يستهدف، أولا وأخيرا، التصدي لسياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه مواطنيها العرب والوقوف مع شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.

عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما

لم تستطع الأحزاب والحركات السياسية بناء القائمة على أسس الشراكة الجبهوية التنظيمية الضرورية؛ فاكتفى قادة مركباتها الأربعة – الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب التجمع الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير والقائمة الإسلامية الموحدة – بالاتفاق على خوض معركة الانتخابات بقائمة واحدة، لا بسبب خوفهم من عتبة الحسم القانونية وحسب، بل استجابة «لإرادة الجماهير» التي كانت في شوق إلى العمل الوحدوي ولمّ الشمل في واقع سياسي خطير ومرير، حسبما صرّح به قادة القائمة قبل تشكيلها، وتباهوا فيه بعد أن حصدت القائمة خمسة عشر مقعدا في انتخابات عام 2015. لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والناشطين السياسيين، فاتّهم بعضهم قادة الأحزاب بالتصرف الانتهازي الذي من شأنه أن يؤدي إلى شلّ العمل الحزبي نهائيا، وإغراق المواطنين في حالة العزوف السياسي المنتشرة بشكل مقلق وواضح بين المواطنين؛ بينما تمنى الآخرون على قادة تلك الأحزاب أن يتصرّفوا بنضوج وبمسؤولية أكبر، من أجل بناء إطار تنظيمي جامع ومتين، يكون في هذه المرحلة، الأداة السياسية العصرية القادرة على تصميم وهندسة مفاهيم نضالية جديدة تتلاءم مع جميع المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي. لم يحصل هذا، واعتقد أنه لن يحصل رغم انسلاخ القائمة الموحدة الاسلامية عنها؛ فالقائمة المشتركة ولدت وبقيت في غرفة الإنعاش؛ ولا يعكس تردد أزماتها الداخلية، حقيقة كونها وعاء سياسيا غير ناضج لمواجهة واقعنا المستجد، ولا وسيلة غير كافية تنظيميا لمواجهة سياسات الدولة وأمراضنا الاجتماعية الذاتية فحسب، بل هو مؤشر، جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل.
قد يدّعي البعض أن تكرار المعارك الانتخابية في السنوات الاخيرة، بوتائر غير مسبوقة في إسرائيل، شكّل عائقا أمام قادة القائمة المشتركة ومؤسسات أحزابهم، ومنعهم من دراسة تجربتهم وتقييمها بشكل معمق، ومن التوصل إلى خلاصات ومخرجات تمكنهم من تطويرها نحو ما أمّل منها. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن واقع تلك الأحزاب البائس وأمراضها المزمنة، تبقى شواهد على عجزها عن تطوير هياكلها وتحديث برامجها السياسية، وهذا يشمل جميع تلك الاحزاب – خاصة ما يدور في دهاليز الجبهة الديمقرطية، وهي أكبر وأعرق هذه الأحزاب – التي لم يشعر قادتها، للأسف، بما سببه ويسببه قصورهم، من نشر أجواء عدمية الانتماء السياسي، وما خلّفته هذه الحالة من محفزات خطيرة ومحبطة، ساعدت على تفكيك اللحمة الاجتماعية داخل مجتمعاتنا، وعلى تنامي مظاهر العنف والتطاول والتحدي، التي بتنا نراها وهي تعبث في أمن مواقعنا وسلامة «قلاعنا» وتفسد ما كنا نعتبره محرما سياسيا ومرفوضا اجتماعيا.
أتمنى أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في التوصل إلى بناء قائمة مشتركة قوية، فأزمة القائمة المشتركة كما عاشها المواطنون في السنوات الأخيرة، أكّدت بوضوح وعرّت أحد أعراض الأمراض الخبيثة التي تتغلغل في جسد مجتمعاتنا، وهو غياب «مؤسسة القيادة» الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة التجربة والأثر، والمستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية. إنها أخطر ما يؤثر في حياتنا؛ وهي الحالة التي أدت، في نهاية المطاف، إلى تقزيم مكانة «لجنة المتابعة العليا» وإلى تشويه وتحييد دور «اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية» وغيرها من التنظيمات التي كانت من المفروض أن تشكل كيان المجتمع المدني القوي والمتين. لن يختلف اثنان على أن السياسات العنصرية الإسرائيلية حاربت، منذ البدايات، جميع محاولات إنشاء المؤسسات القيادية العربية الوطنية، وسعى أصحاب تلك السياسات، بالتالي، لإفشال تلك المؤسسات الرائدة، أو لنزع الشرعية عنها، أو لخلخلتها من الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فقد فشلوا ونجح القادة الآباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بإنشاء «لجنة المتابعة العليا و»اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية»، اللتين تحولتا، إلى جانب سائر المؤسسات المدنية التقدمية والأحزاب والحركات الوطنية، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت راياتها ويلتزمون بحدودها، لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية ومطعّمة بمضادات قوية كانت تصد كل جسم غريب وتوقفه عند حده. واليوم، كما نرى، خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر حتى بتنا نتمنى أن ينجح الساسة ببناء «قائمة مشتركة» حتى لو كانت عرجاء ومنقوصة. فعقالنا آمنوا بالحكمة الشعبية «نزازة نازلة ولا نهر مقطوع». ولا يمكننا طبعا أن ننهي الحديث عن المشهد السياسي الحالي من دون أن نتطرق لنداءات مقاطعة الانتخابات؛ سيان إن جاءت النداءات على خلفيات عقائدية، قومية أو إسلامية، أو لأسباب سياسية لم أسبر كنهها ونجاعتها في معظم الحالات.
من الواضح أن الكثيرين ينادون بالمقاطعة عن إيمان بمواقفهم، ويبررونها أمام أنفسهم والغير، برضا وبقناعة كاملين، ولا ينادون بها بسبب معارضتهم لمبدأ الاندماج، كما يسمونه، وحسب، ولا من أجل إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة إقصاء يحلم به عتاة اليمينيين العنصرين؛ ولكن ستبقى ذرائعهم محض مغامرة سياسية أو وهمية أو مجرد اختيار للأسهل، إلّا اذا زوّدونا بتفاصيل خياراتهم السياسية العملية المعلنة والواضحة، التي من شأنها أن تكون بديلا للنضال البرلماني، مهما كانت نتائجه ومنجزاته محدودة، فالمقاطعة لوحدها واعتماد تكتيكات ردود الفعل الموسمية لن تشكل برامج كفاحات كفيلة بالتصدي لسياسات الحكومة الفاشية المقبلة بنجاعة أكبر مما نحن عليه اليوم.
على من يتخلى عن خيار النضال البرلماني المتاح له طوعيا، أن يواجه جماهيره ببدائله العملية؛ فتحويل جميع الناس إلى مؤمنين مسيسين في حركة دينية سياسية، قد يعدّ إنجازا لقادتها، لكنه لن يفضي إلى القضاء على سياسات إسرائيل القومية العنصرية أو عليها ككيان متسيّد في المنطقة. أولم يعلمنا السلف فوائد بعض القطران وضرورته؟ كذلك فإنّ عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما. لقد قلنا ونكرر إن الشعوب المقهورة عرفت خلال مسيراتها النضالية خيار مقاطعة مؤسسات الدولة الاستعمارية أو العنصرية، وسلكت طرقا نضالية أخرى منها العنيفة ومنها السلمية، مثل أساليب العصيانات المدنية. فهل ينادي قادة التيارات الدينية والقومية إلى جانب مقاطعة الانتخابات بمثل هذه الأساليب؟
لنسمع ونفهم ونناقش..
كاتب فلسطيني

 

 

 

حمّى البحر المتوسط

جواد بولس

 

«هزمتك يا موت الفنون جميعها..» هكذا قال محمود درويش
لم تعد أخبار إلغاء النشاطات الفنية على أنواعها في مدننا وقرانا العربية حدثا يسترعي أي التفات مجتمعي، لا ولا بحدّه الأدنى. وتمرّ هذه الأخبار، على الأغلب، من دون أن تحدث ضجّة أكبر من ضجة سقوط شجرة عالية في غابة بعيدة، لا يسكنها بشر.
من المؤسف أننا كمجتمع ناضل وما زال يناضل من أجل نيل حرّياته الأساسية، ومن ضمنها، تاريخيا، حرية الإبداع والكتابة والإنتاج الفني، قد استسلمنا لظاهرة القمع الخطيرة؛ فما زال أبناء جيلي يتذكرون كيف لاحقت المؤسسة الإسرائيلية الأمنية جمهرة المبدعين المحليين في محاولات لم تنجح، رغم قسوتها، بإخراس أصوات «شعراء الحب والمقاومة»، أو قمع المسرحيين الأوائل، أو إسكات المغنيين الشعبيين، سواء كانوا حداة استنفرت حناجرهم أكف الشباب وحميّتهم دفاعا عن الكرامة والعزة وضد الطغيان، أو كانوا مطربي أفراح يستحضرون الفرح العربي الشقيق ويرقّصون الليل على أغان كتبت أصلا في مديح الأرض والثورة وحب الوطن. كنا مجتمعا يحب الحياة ولا يقدّس الموت وثقافته.
قد يحسب البعض أن التطرق لهذا الموضوع ونحن على أعتاب خوض معركة الانتخابات للكنيست الإسرائيلية هو اجتهاد غير موفق من ناحية التوقيت، وإن كان يُجزي صاحبه أجرا واحدا؛ وقد يفتي غيرهم بأن التعاطي مع الفنون وقمعها ليس بالأمر الملحّ وأمامنا مهام جسام، في طليعتها مواجهة مأساة استشراء العنف في شوارعنا، وتفشي عمليات القتل على خلفياتها المعهودة: فإمّا ثأر موروث، أو عرض مدّعى، أو إجرام مستحدث ومستجلب إلى حواضرنا المنكوبة. لا يستطيع عاقل وحريص أن يقبل بمثل هذين الادعاءين أو ما يشبهما، وأن يترك، بسبب ذلك، قضية قمع الحريات الاجتماعية واضمحلال مساحات الحيّزات العامة ومكانة «ساحات البلد» في تراثنا المجيد؛ فمن يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع الدولة من أجل نيل حرّيته، فالأولى به أن يصونها داخل بيته وفي حاراته وداخل مجتمعاته، وأن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراها، مهما كانت المسمّيات والذرائع. لا يمكن أن نجزّئ حالة الفوضى التي تسود مجتمعاتنا، فهي كلٌّ عضويّ متماسك بمتانة، يغذي طرفُه الواحد طرفَه الآخر؛ كذلك لا يكفي بأن نتمسك بإلقاء كامل المسؤولية على إسرائيل ومؤسساتها. فالدولة مسؤولة من بابي البداهة وواجبها تجاه مواطنيها؛ بيد أنها، كما نعرف وكما نتّهمها بحق، غير معنية بضمان سلامة مجتمعاتنا وغير قادرة على تأمين تلك السلامة. ورغم أهمية ذلك، سأكتب اليوم عن الفرح وعن الرجاء، وسأترك «التنغيص» لمقالات مقبلة؛ فتناول تبادلية العلاقات بين إسرائيل العنصرية وتقصيرها الممنهج بحق مواطنيها العرب، وواجبات مجتمعنا تجاه نفسه، سيبقى موضوعا حيّا، في الوقت الحاضر وفي المستقبل، وعلينا معالجته بجرأة وبمسؤولية تستوجبان تفكيك نقاط اشتباك تلك العلاقة مع عادات وأعراف مجتمعاتنا الاجتماعية المحافظة الموروثة طوعا وابتهالا. لن ننجح بتناول هذه الإشكالية بجدية مؤثرة، من دون أن نخوض بموضوعية في مكانة أنظمة الثأر القبلي والعائلي، التي ما زالت نافذة بيننا منذ تبنتها القبائل العربية قبل «قانون يثرب» وبعده؛ ولا أقلّ منها وجعا جرائم قتل النساء باسم «شرف العائلة والقبيلة» المنتشرة في مواقعنا العربية؛ والسؤال ما علاقة الدولة وتأثيرها في هاتين؟
لن أكتب اليوم عن هذه المواجع، بل سأكتب عن الفن ومبدعيه الذين يحاولون بأدواتهم تحطيم تلك «الشواهد» وحث الناس على الغضب وعلى ألا يستسلموا لليأس، ودعوتهم للثورة على واقعهم البائس. دعاني مطلع شهر نيسان/إبريل المنصرم الكاتب والفنان عفيف شليوط مؤسس ومدير «مسرح الأفق» لحضور مسرحية بعنوان « أنتيغوني تنتفض من جديد»، التي كتبها وأخرجها بنفسه، وعرضت على خشبة مسرح حيفا. تحاكي فكرة هذه المسرحية الأساسية، حكاية أنتيغوني، بطلة مسرحية سوفكليس الخالدة، التي رفضت الانصياع لقرار ملك «كريون» وتحدّته مصرّة على التصدي لشرور الطغاة والمجرمين، من خلال تسليط الضوء على مكانة القانون والحدّ بين حق الحاكم إزاء حق الشعب.

من يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع الدولة من أجل نيل حرّيته، يجب أن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراها

يعتبر لجوء المؤلف عفيف شليوط، لايحاءات المسرحية الإغريقية و»موتيفاتها» مغامرة جريئة لما تتطلبه من إلمام وإحاطة بذلك الموروث المهم؛ فالعودة إلى أدب الإغريق العريق وحبكات مسرحيات كباره، كسوفوكليس، فيها من المخاطرة قسط ومجهود كبيران لاستعراض ممكن لامتزاج الثقافات، لاسيما فيما تركته القديمة من تجارب إنسانية وقيم خالدة.
تطرقت المسرحية إلى أكثر من محور، لامست هموم حياة مجتمعنا، وفي طليعتها قتل «انتيغوني الجليلية»، التي مثلت دورها الممثلة روضة سليمان، بيد شقيقها «دفاعا» منه عمّا يسمّى «بشرف العائلة». تنتفض انتيغوني حيفا على عادات المجتمع البالية، وتسعى من أجل نيل حقوقها، وهي تعرف ما قد يكون الثمن. إنه قتل ككل القتل، فلا شرف فيه، بل انصياع أعمى لربة الظلام الدامس والعالم السفلي؛ هي «كاوس» عند الإغريق القدامى. أما في الثلاثين من شهر تموز/يوليو الفائت، فقد دعتني المخرجة مها الحاج ابنة مدينة الناصرة، لحضور العرض الأول، في البلاد، لفيلمها الجديد «حمّى البحر المتوسط» الذي عرض مؤخرا في مهرجان «كان» السينمائي، ونالت عليه، ضمن مسابقة «نظرة ما»، جائزة أفضل سيناريو. لقد تعرّف العالم على مها الحاج بشكل واسع بعد صدور فيلمها الطويل السابق «أمور شخصية» عام 2016، حيث لفتت من خلاله نظر النقاد والمتابعين، ونالت عنه جائزة «آرشي» في مهرجان فيلادلفيا السينمائي، وجوائز أخرى. لن أفي، في هذه العجالة، حق مها الحاج وإبداعها المتميز، ولا عملها الحالي الفذ، ويكفي، تعبيرا عن تجربتنا، ما شعرنا به حين خرجنا مع نهاية الفيلم، قرابة خمسمئة مشاهد. انسللنا إلى خارج القاعة بخشوع، وكأننا نترك معبدا، معبّئين بمزيج من مشاعر الغبطة والغضب والحزن. لم نحمل داخلنا يأسا ولا مشاعر بالضياع، رغم مأساوية مواضيع الفيلم. كانت علاقة وليد الكاتب المصاب بالاكتئاب الشديد، الممثل عامر حليحل، بجاره جلال، الرجل العابث بالحياة ظاهريا، والمتورط في الخفاء في عالم الإجرام، الممثل أشرف فرح، معقدة وغريبة؛ وقد مرّت بمحطات عديدة وقفنا معهما في جميعها لنتعرف إلى دواخل نفسية الفلسطيني حين يصاب بالاكتئاب وأسبابه، ويبقى محبا لعائلته ولوطنه؛ وانكشفنا، كذلك، على شخصية وقعت ضحية لعالم إجرامي قاس لا يعرف حدودا، كما تعيشه مجتمعاتنا المحلية. حاول جلال أن يغرق وليد في شباك متاهاته، والتحايل، من جهة أخرى، على عبثية واقعه الحقيقي بتتفيهه وامتصاصه، دون أن يعرف، أو ربما عرف، أنه الفريسة، لكنه كان يؤمن «بأن الموت لا يخيف بل هي الحياة التي تخيف». أدّى الممثلون أدوارهم بإقناع وقد تميّز بشكل لافت الممثلان عامر حليحل وأشرف فرح. لقد تعرضت مها الحاج – كاتبة سيناريو الفيلم أيضا – إلى قضايا مهمة يعيشها ويعاني منها المجتمع في حياته اليومية. ولولا حذاقتها المهنية بحبك العسير وبالاخراج، لكنا شاهدنا مقاطع متقطعة مصورة من يوميات مجتمع صغير يمضي أفراده أيامهم بهامشية بائسة عادية، قد تتكرر في مواقع أخرى؛ لكنها، بمهارة المبدع الخلّاق، أجادت جدل ضفائر مرايانا بأسلوب «السهل الممتنع»، فتناولت رزمة من عناوين اجتماعية كبيرة وصهرتها ببوتقة أنيقة حتى تلقيناها، نحن المشاهدين بفرح عظيم. لم تتركنا نتيه عند مفترق ملتبس، ولا نغفل للحظة؛ فعندما سافرت داخل التراب الوطني «سيّلته» في نفوس أبطالها بطبيعية غير مقتحمة وغير مبتذلة، ثم رتقت عليه، ببراعة رسام ملهم، قصصا حقيقية، كعلاقة الرجل بالمرأة ومكانة الدين في حياة الناس ودور المدارس في تنشئة أطفالنا وجمالية جغرافيا بلادنا وغيرها من المشاهد التي جمّعتها بانسيابية ورقّة مرهفة، فظهرت أمامنا كرسم بديع، أجمل من تلك «الجرة اليونانية». لن استطرد في رواية أحداث الفيلم كيلا أفسد على القراء متعة مشاهدته عندما سيتاح للجمهور الواسع؛ لكنني سأقفل مقالتي بما كتبته لمها الحاج مباشرة بعد خروجي من صالة العرض في حيفا، واستميحها عذرا لأنني أفعل. قلت «أيّتها المها. شكرا على دعوتنا لحضور العرض. ما زلت أحاول استيعاب روعة ما شاهدناه قبل أن أقول لك ما أرغب أن أقول لك. خرجت من الصالة مع شعور باعتزاز شخصي ومزهوّا كأنني صاحب هذا الإنجاز المشرّف، فلك الشكر. حاولت أن أضبط مشاعري أمام الحضور ففضحني قلبي، ووشت عيناي بما حبسته في صدري، فلك الشكر. فرحنا رغم الغصة، تماما كما يجدر بالإبداع أن يعمل بالنفس البشرية، فلك الشكر. فدومي للعطاء هبة وسيري على دروب الشمس والنجوم، وعانقي المدى هناك عند حفاف الورد والندى.. نحبك».
كدت انهي مقالتي عندما وقعت عيناي على خبرين مزعجين متزامنين، الأول يفيد بأن لجنة الطاعة في جامعة بن غوريون في بئر السبع ستنظر في شكوى ضد الطالبة العربية «وطن ماضي» بسبب قراءتها قصيدة لمحمود درويش خلال يوم ذكرى النكبة الفلسطينية الأخيرة؛ والثاني يفيد بأن بلدية مدينة عربية قررت منع إقامة حفل للفنان تامر نفار، ابن مدينة اللد، بسبب مضامين أغانيه التي لا تتوافق وذائقة المجتمعات المحافظة، حسبما جاء في الخبر.
قرأت؛ حزنت وعدت لاحضان «أنتيغوني «و»حمّى البحر المتوسط» وأملي…
كاتب فلسطيني

 

وقفة عابرة

على عتبة الكنيست

جواد بولس

 

لقد حسمت، على ما يبدو، القائمة الإسلامية الموحّدة قرارها بخوض الانتخابات المقبلة للكنيست الإسرائيلية، لوحدها، من دون أن تحاول فحص إمكانية وجود أية فرصة للانضمام إلى تركيبة القائمة المشتركة؛ وهما القائمتان العربيتان الوحيدتان اللتان ستخوضان الانتخابات، مع حظوظ واقعية لعبور عتبة الحسم والفوز بأربعة أعضاء كنيست، في حالة القائمة الموحدة، وبأكثر من ذلك في حالة القائمة المشتركة. لقد كان هذا القرار متوقعا ومتوافقا مع ما كان يصرح به رئيس هذه القائمة الدكتور منصور عبّاس، وهو مدعوم من قبل مجلس شورى الحركة الإسلامية الحاضنة الشرعية للقائمة وراعيتها.
بالمقابل ما زال أقطاب القائمة المشتركة، وهم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وحزب التجمع، والحركة العربية للتغيير، يتباحثون حول مصير قائمتهم وشكلها، في أجواء تتجاذبها نزعات المناورة حينا، والتطمينات حينا آخر، وتأكيدهم على أنهم لا يتعاطون مع قضية محاصصة المقاعد في هذه المرحلة، بل إنهم يحاولون التوصل إلى أفضل التفاهمات حول أمور أكثر جوهرية، من شأنها أن ترضي جمهور الناخبين وتقنعهم بضرورة المشاركة في عملية الانتخابات ودعم قائمتهم.

سيبقى التحدي الكبير في وجه القائمتين، الاسلامية الموحدة والقائمة المشتركة، هو إقناع المقاطعين بضرورة اشتراكهم في الانتخابات

على الرغم من أن الصورة التي تتحرك أمامنا على مسرح السياسة الإسرائيلية تبدو مشابهة لتلك التي كانت موجودة قبل عام، وفي جميع الجولات الانتخابية التي تكررت منذ ثلاثة أعوام؛ إلا أنني اعتقد أننا نقف أمام مشهد مغاير، وفي مرحلة مصيرية بكل ما يتعلق بطبيعة الأحزاب اليهودية وهوياتها وبرامجها السياسية، التي سيعملون، من داخل الكنيست، على تطبيقها في المستقبل القريب؛ ويكفي، كي نفهم خطورة ما نحن مقدمون عليه، أن نقرأ عن قوة حزب سيجمع بين النائبين اليمينيين المتطرفين بن جبير وسموطريتش، وتوقع استطلاعات الرأي بأن يحصلا على ثلاثة عشر مقعداً. أمّا على ساحات المجتمع العربي فستكون هذه الانتخابات حاسمة كذلك بالنسبة للقائمتين المشاركتين ولحزب الممتنعين العازفين عن المشاركة في العملية الانتخابية. فالحركة الإسلامية ستخوض أهم امتحاناتها وتحدياتها السياسية حين ستطلب مجدداً من المواطنين منح نهجها الذي اختارته في الكنيست السابقة، الثقة والدعم وتمكينها من عبور نسبة الحسم؛ وهذا سيعني، كما صرّح قادتها، مضيّها في ترسيخ مفهومها الخلافي لمعنى المواطنة الإسرائيلية، وانضمامها مرة أخرى للائتلاف الحكومي، إلا إذا لن يقبلها المؤتلفون في الحكومة الجديدة. وهذا احتمال وارد في حالة انتصار الأحزاب اليمينية الفاشية، وتوليها مهمة تركيب الحكومة المقبلة، وهي تعتبر الدكتور منصور عباس عدواً متساوياً مع سائر زملائه النواب وجميع المواطنين العرب في إسرائيل. ومن جهة أخرى قد تكون هذه الجولة الانتخابية هي آخر فرص القائمة المشتركة لتطوير مغازي تجربتها، والتعاطي بمسؤولية مع الثقة التي منحها لها الناخبون، وتحويل وحدة مركباتها من مجرد وسيلة تكتيكية تضمن نجاح الثلاثة أطراف في الانتخابات، إلى صيغة عمل سياسي أكثر عمقاً قادر على تأطير المجتمعات في قرانا ومدننا العربية، وراء حالة «جبهوية» جامعة وقادرة على النمو، وعلى استنفار رغبات المواطنين السياسية واستعادتها للانخراط الفاعل بشكل إيجابي وصحيح ومؤثر. وعلى الرغم مما تواجهه القائمة المشتركة من انتقادات، تكون صحيحة أحياناً، ومن تهجمات مغرضة على الأغلب، نستطيع تسجيل عدة ملاحظات إيجابية حول نشاط وأداء أعضائها داخل الكنيست وخارجها؛ فمشاهد تصديهم لنواب اليمين العنصريين بثبات وبإصرار، ومواجهتهم للتشريعات العنصرية بكرامة وبعنفوان أثبت أن ساحة الكنيست تشكل أحد ميادين الصراع المهمة وحلبة نضالية يجب استغلالها والبقاء فيها. لا يختلف عاقلان على أن العمل السياسي الوطني في الظروف السياسية الهمجية التي تسود شوارع وفضاءات إسرائيل وفي الكنيست تحديداً، أصبح معقداً وخطيرا وسيزيفياً إلى حد بعيد؛ ومع ذلك رأينا كيف دافع نواب المشتركة عن معتقداتهم السياسية، من دون مهادنة أو تفريط، وحاولوا الوجود في معظم نقاط التماس، ومع معظم ضحايا القرارات الرسمية والقضائية الجائرة. لست ناطقا باسم القائمة المشتركة ولا باسم أعضائها، لكنني أحاول، ونحن على أعتاب معركة طاحنة، أن أنصف ما فعله نوابها في ظروف مستحيلة وحرصوا على تمثيل ناخبيهم بأمانة وبإخلاص.
سيبقى التحدي الكبير في وجه القائمتين، الاسلامية الموحدة والقائمة المشتركة، هو إقناع المقاطعين بضرورة اشتراكهم في الانتخابات؛ مع أنني اعتقد أن المنافسة بينهما قد تكون عاملا في زيادة نسبة المصوتين، خاصة إذا استطاعت القائمتان عرض الفوارق المفاهيمية العميقة بينهما، ومعنى حسم المواطنين بين النهجين، وتأثير ذلك في وجودنا في الدولة مستقبلاً. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اللجوء إلى لغة التشهير الشخصي والتخوينات المباشرة، بين قادة ومصوتي القائمتين، لا يسعف الحالة، ولا يساعد على تحقيق هدف القائمتين بإقناع الناس للذهاب إلى الصناديق، بخلاف المحاججة المطلوبة وانتقاد المواقف الشرعية والواجب. يجب على مركبات القائمة المشتركة إنهاء مباحثاتهم الداخلية بسرعة قصوى وعرض قائمتهم وبرنامجها السياسي على الناخبين؛ فضرورة إشاعة أجواء الوحدة والوضوح السياسي ستشكل عاملا في إقناع مجموعات كبيرة من الناخبين المترددين أو المستائين، وإن كان هذا هو مطلب الساعة، فالتوصل إلى حالات رأب الصدع ولم الشمل داخل مؤسسات الأحزاب نفسها لا يقل أهمية عن ذلك.
نحن أمام خيارات صعبة؛ وقد تكون هذه آخر تشكيلة لكنيست إسرائيل، حيث يستطيع فيها النائب أحمد الطيبي مثلًا، أو أحد زملائه في القائمة المشتركة، بصفته رئيس جلسة، أن يأمر حرس الكنيست بطرد وزير عنصري يهودي من منصة الخطابة وإخراجه بالقوة من القاعة؛ أو أن يصرخ النائب أيمن عودة أو سامي أبو شحادة في وجه النواب الفاشيين بكل صرامة وحزم وعزة وكرامة. قد تكون هذه المرة الأخيرة التي سيتسنى فيها للمواطنين العرب انتخاب ممثلي هذه الأحزاب والحركات السياسية والدينية بشكل حر ومباشر، وللتحقق مما أقوله أرجو أن يسمع ويدقق الجميع بما يصرح به قادة تلك المجموعات الفاشية، وما تتوعد أن تفعله، مع أعداء الدولة، من داخل الكنيست وخارجها. نحن مليونا مواطن عربي في إسرائيل، ونملك خيارات نضالية قليلة، معظمها صعب ومكلف، خاصة في الظروف التي تواجهنا وتعيشها مجتمعاتنا المحلية، نتيجة للواقع السياسي الخطير داخل إسرائيل، والذي يحيطنا داخل الدول الشقيقة أو تلك البعيدة عن أحلامنا وهواجسنا. إنها فرصتنا الحاضرة، فخيار النضال السياسي البرلماني هو أحد هذه الخيارات وأكثرها إتاحة فيجب ألا نتنازل عنه وألا نهمله.
كاتب فلسطيني

 

 

ملاحظتان عن زيارة بايدن

 

جواد بولس

 

سوف ترى هذه المقالة النور أثناء وجود الرئيس الأمريكي على أرض فلسطينية محتلة وقبل أن ينتقل لمحطة جولته الأخيرة في المملكة العربية السعودية. لن يتوقف سيل التحليلات والتعقيبات التي يحاول أصحابها فهم دوافع الإدارة الأمريكية من وراء هذه الزيارة، ولا ماهية أهدافها المحددة؛ بيد أن معظم الذين تطرّقوا إليها أشاروا إلى أنها تأتي على خلفية تدهور الحالة الاقتصادية الأمريكية وانعكاساتها على حياة المواطنين الأمريكيين في مجالات الطاقة والبطالة وتخفيض قيمة الدولار؛ وأن الهدف الرئيسي، أو ربما الوحيد منها، سيعقد حول خصور صهاريج نفط حكام المملكة السعودية، وفي مدى استعدادهم لمساعدة إدارة بايدن، التي بمفهوم معين، تأتيهم صاغرة، اذا ما تذكرنا مواقف هذه الادارة تجاه ولي العهد السعودي في أعقاب مقتل الصحافي جمال خاشقجي. في مثل هذه الحالة تكون تعريجة الرئيس بايدن على إسرائيل وفلسطين مجرد غطاء دبلوماسي تكتيكي، من شأنه أن يبرر تراجعه عن موقفه الأخلاقي المعلن بعد اغتيال خاشقجي، والمتمسك به أمام حزبه وشعبه والعالم طيلة المدة المنصرمة منذئذ.
أمّا على الساحة الإسرائيلية فسيرصد مردود الزيارة السياسي الفوري لصالح معسكر رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد، ومن يُسَمّون، في قاموس السياسة الحزبية الحالي، قوى «المركز واليسار الصهيوني»، علاوة على ما قد تفضي إليه من اتفاقيات تعاون تجارية وصناعية، ستعزز الوشائج المتينة القائمة بين النخب الحاكمة والمستفيدة في الدولتين، خاصة في مجالات الصناعات الحربية والهايتك والسايبر.

التجاذب بين ما مضى وما سوف يكون لن يحسم إلا وفق إرادات الفلسطينيين وإيمانهم بأن البقاء لصناع الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله أقوى

لم أكن أنوي التطرق لتفاصيل هذه الزيارة، حيث ما زالت تداعياتها في أوجها؛ إلا أنني ارتأيت تسجيل ملاحظتين عابرتين لهما علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية، وبنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل. فعلى الرغم من إجماع معظم من كتبوا على أن بايدن وإدارته لم يولوا القضية الفلسطينية أية رعاية جدية، قبل وخلال هذه الزيارة، وأن كل ما فعلوه وصرّحوا به لا يتعدى كونه ضريبة كلامية وحسب، وحتى لو كان هذا الكلام صحيحا إلى حد بعيد، فإنني سأختلف، في هذه العجالة، مع هؤلاء، وسألجأ إلى حكمة المتشائل الفلسطيني، وقناعته بأن التجاذب بين ما مضى وما سوف يكون لن يحسم إلا وفق إرادات الفلسطينيين وإيمانهم بأن البقاء لصناع الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله أقوى. أعرف أن الظلمة حولنا خانقة، لكنني أعرف أيضا أن الناس في بلادنا بحاجة إلى جرعة أمل، وإلى حزمة نور تفج عتمة أرواحهم؛ فدعوني، من باب التمني، أرى أن زيارة بايدن لمستشفى المطلع في القدس الشرقية (وبعدها الانتقال لمقابلة الرئيس محمود عباس في مدينة بيت لحم) قد تعني، في مآلات مستقبلية، تأكيد الموقف الدولي القاضي بكون القدس الشرقية أرضا محتلة، خاصة إذا أسقطنا معاني هذه «القفزة» شرقا، على إعلان بايدن حول موقف دولته بشأن «حل الدولتين»، الذي يبقى حسب قوله «الطريق الأفضل لتحقيق السلام والحرية والازدهار والديمقراطية للإسرائيليين والفلسطينيين»؛ مع إنني لن أنسى، بالطبع، ما أضافه في هذا السياق، لافتا انتباهنا كيلا ننسى، ومؤكدا على أنه يعرف «ان ذلك لن يحصل في المدى القريب»! كم نحن بحاجة لروح ذلك المتشائل كي لا نهزم.
لقد تعمّد معظم المتحدثين الاسرائيليين الرسميين في خطاباتهم الترحيبية القصيرة، في يوم الزيارة الأول، العودة إلى «التوراة» بما تؤكده، حسب جميعهم، من متانة العلاقة بين شعب إسرائيل وأرضه والتزام الأمريكيين وإداراتهم بأمن وسلامة وقوة إسرائيل وشعبها. وعلى الرغم من وضوح جميع ما قيل وصحته في الوقت الحاضر، نجد أن بعض المعلّقين والمحللين الإسرائيليين آثروا، في خضم مشاعر النشوة الإسرائيلية، تذكير متابعيهم وقرّائهم بتشخيص مغاير يشي بوجود بدايات مأزق في ديمومة هذه «الزيجة الكاثوليكية» وببروز أصوات معارضة لها، سواء داخل حزب بايدن نفسه، أو في محافل أمريكية كثيرة أخرى، ومنها رؤساء عدة كنائس أمريكية (كان آخرها الكنيسة المشيخية المهمة) بدأت تتنصل من «قدسية» تلك العلاقة التاريخية، وطفقت تتحدث باسم الحق الفلسطيني الإنساني، وضد الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين. إنها قضية طويلة ومعقّدة تستحق العناية الخاصة والفائقة. وقد أشرت في الماضي إلى ضرورة إقامة جسم فلسطيني مكوّن من خبراء متخصصين في دراسة ومتابعة علاقات الكنائس بالقضية الفلسطينية، بدءا من الفاتيكان ومرورا بأمريكا وغيرها من الدول التي سمعنا من كنائس كثيرة فيها مواقف داعمة ومؤثرة لصالح القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المسلوبة. أمّا عن علاقتنا، نحن عرب الداخل، بهذه الزيارة فقد لفت انتباهي خبر أفاد بأنه من المتوقع أن تحرز زيارة بايدن للسعودية اتفاقا يسمح بموجبه للحجاج المسلمين الإسرائيليين بالسفر إلى السعودية من مطار بن غوريون إلى جدة مباشرة. وهي خطوة ستؤكد عمليا سلامة مراسيم التطبيع واكتماله بين المملكة السعودية وإسرائيل، التي تكون قد اهتمت بتمثيل مصالح ما يقارب المليونين من مواطنيها العرب. لن نخوض في هذه المسألة قبل حدوثها؛ مع أن البعض كانوا قد أثاروا في الماضي حساسية قضية اشتباك تحريم «التطبيع» مع تأدية فريضة الحج، في حالة المواطن الإسرائيلي المسلم؛ خاصة عندما قورب بين هذه الحالة ومنع الأقباط المصريين، أو غيرهم من مسيحيي الدول العربية، من تأدية مناسك الحجيج إلى كنائسهم المقدسة: المهد والقيامة والبشارة وغيرها.
قد نكون في عروة قضية جانبية وهامشية؛ ولكن، إن كان التفات مهندسي السياسة الإسرائيلية إلى جزئية تسهيل مراسم الحج، يدل على أنهم يخططون عمدا، في حالتنا، كي يصبح المواطنون المسلمون في إسرائيل جزءا من الرزمة السياسية الشرق أوسطية العامة، ومشاركين في عملية التطبيع التي يسعون إلى ترسيخها مع النظام في المملكة العربية السعودية، فلماذا لا نستغل هذه «المكيدة» لإحراج حكام إسرائيل وحلفائها، السعودية وأمريكا وجميع الأنظمة المشاركة معهم، ونتوجه إلى جميعهم، كأقلية قومية تطالب بحقوقها، ونحاول توريط الإدارة الأمريكية مع الحكومة الاسرائيلية، في عرض مطالبنا المواطنية التي تتعدى حق المواطنين المسلمين بقضاء فريضة الحج، هذا على افتراض أن هذا الحق يعلو على فرض تحريم التطبيع، كما كان الوضع عليه منذ عام 1948 حتى عام 1978.
أعرف أن موقف بعض الأحزاب السياسية والحركات الدينية تحرّم التواصل مع الإدارات الأمريكية الكافرة، بالنسبة لبعضها، والمعادية لحقوق الشعوب ومصالحها؛ وقد تكون التجارب التي شاهدناها وعشناها في العقود الماضية أفضل برهان على صحة هذا الموقف؛ علما بأنه تاريخيا كانت لتلك الشعوب، أو الأقليات المضطهدة، وبضمنها الشعب الفلسطيني ومنظمة تحريره، ملاذات آمنة يلجأون إليها كي يضمنوا قسطًا من توازن القوى ويتجنبوا الهزائم. لن أستعرض محطات سقوط الأنظمة والمجتمعات منذ نهاية ثمانينيات القرن المنصرم لغاية أيامنا، والتي تخطت فيها أنظمة كثيرة في العالم، الموحّد وغير الموحّد، محاذير الحديث عن التطبيع مع إسرائيل، وشرعنوا بدله بناء التحالفات معها من النخاع للنخاع. في مثل هذا الواقع، الذي تضمحل فيه خياراتنا النضالية وتزداد أوضاعنا سوءا يوما بعد يوم، أنا أسأل: لماذا تعجز قياداتنا عن التفكير في وسائل مبتكرة جديدة وخارجة عن المألوف وعن بعض التابوهات الصدئة؟ ماذا لو أعدّت هذه القيادات ورقة «عرضحال» وقدمتها لبايدن خلال زيارته وهي شاملة لحقوقنا المسلوبة ولممارسات حكومات إسرائيل المتعاقبة ولسياسات القمع والاضطهاد العنصري الذي مورس ويمارس ضدنا، خاصة أننا نتوقع تفاقم هذه الأوضاع بعد الانتخابات المقبلة، رغم زيارة بايدن وإمكانية تجييرها لصالح معسكر «المركز واليسار الصهيوني». ماذا لو جرّبنا وحاولنا التأثير في أنظمة أثبتت انزياحها لصالح إسرائيل، خاصة في وضع صارت فيه معظم أنظمة العالم قريبة من إسرائيل ومن أمريكا.
إنها مجرد أفكار حضرتني من وحي واقع عبثي ومأزوم. كنت قادرا على لعن الظلام، لكنني حاولت أن أشعل شمعة في زمن كله ليل وصحراء ورصاص وموت.
كاتب فلسطيني

 

 

 

هواجس أوّلية

قبل معركة ساخنة

جواد بولس

 

يتأهب المجتمع العربي داخل إسرائيل لخوض معركة الانتخابات العامة المقبلة، وهو يعيش حالة من الفوضى السياسية المحبطة، ويعاني من عدة مشاكل اجتماعية مستفحلة، في طليعتها، طبعا، استشراس مظاهر العنف والقتل في معظم قرانا ومدننا العربية؛ وليس أقل منها خطورةً تلك التصدعات البارزة في الهوية الجمعية، وتناثر مشاعر انتماء المواطنين العرب بين مرجعيات متنافرة وولاءات متعددة ومختلفة.
لا أعتقد أن التصويت على حل الكنيست فاجأ المنخرطين في اللعبة السياسية البرلمانية، أو مَن توقعوا، منذ اليوم الأول لإقامة حكومة الرأسين، نفتالي بينيت ويائير لبيد، حتمية فشلها، واستحالة صمودها في الواقع الإسرائيلي المتأزّم.
ورغم ما بدا جليّاً منذ أكثر من عام، لم تسْعَ الأحزاب والحركات والمؤسسات الناشطة داخل المجتمعات العربية، إلى استشراف ما يتوجب فعله مباشرة بعد سقوط الحكومة، وكيف سيواجهون المرحلة المقبلة.
قد يبرر البعض أسباب هذا الشلل الفكري والتنظيمي، بعدم حصول أي متغيّرات على الحالة الإسرائيلية العامة، فما سيكون هو ما كان؛ وليس مطلوب منا ، نحن العرب، إلا أن نعيد «هندمة» صفوفنا التي كانت، ثم نمضي بها نحو مستقبلنا المجهول. فعلى أقطاب «القائمة المشتركة» أن يجدوا، مرّة أخرى، معادلة أرخميدس الساحرة، التي ستسعفهم في تخطي مأزق المحاصصة المزمن، ويزفّوا ، بعد ذلك، بشراهم لأبناء الشعب، ويهيبون بهم، باسم الوحدة والمثابرة، للخروج إلى صناديق الاقتراع والتصويت لقائمتهم. أمّا مجلس شورى الحركة الإسلامية فسيلتئم، مرات ومرات، وسيعصف أعضاؤه بأفكارهم، حتى ينجحوا بتذليل جميع العقبات الفقهية ويفكّكوا معظم التساؤلات الشرعية، ويشهروا فتواهم القاضية بضرورة خوض المعركة المقبلة والدخول، من أجل مصلحة الأمة، إلى الكنيست ومنها إلى حكومة إسرائيل، داعين السماء ألا يكون الحاخام دروكمان من عرّابي الحكومة المقبلة، فهو فيما قرأنا، لا يثق بالعرب، سواء كانوا من « أيمن» أو من «عبّاس»، حتى لو أغرقه العباس بالعسل ووعده «بالقصب». من المستحيل طبعاً أن يوافق عاقل على مثل هذا التشخيص والتسويغ؛ فحالة الشلل الفكري والتكلس التنظيمي مستأصلة منذ سنوات، داخل هياكل الأحزاب والحركات والمؤسسات السياسية الفاعلة بيننا في إسرائيل؛ بينما هي حالة من الجمود العقائدي الملازم لبعض الحركات الإسلامية السياسية الناشطة في شرقنا. فشق الحركة الإسلامية الشمالية سيتمسك أكثر وأكثر بموقفه الداعي لمقاطعة الانتخابات، وسيعزز هذه المرة، حججه التاريخية المعروفة، بما يصفونه انحرافاً خطيراً مارسته، باسم الانتماء الإسلامي، الحركة الإسلامية الجنوبية حين كانت ترتمي في حضن أعداء الأمة؛ وبالمقابل ستواجه الحركة الإسلامية الجنوبية هذه الانتقادات والهجوم بسيولة فكرية إسلاموية معهودة، شاهدنا مثلها في تاريخ الصراعات الحديثة والقديمة، وسيتسلّح قادة هذا الشق، في سبيل تسويق مفاهيمهم الذرائعية، وتحليل ححجهم النفعية، بإسنادات فقهية من إنتاج شيوخ هذه الحركة، كما فعلوا في السنة المنصرمة. ما زال من المبكر تناول خريطة الأحزاب العربية واليهودية التي ستخوض الجولة الانتخابية المقبلة؛ لكنني رغم ذلك، أستطيع أن أتوقع صعودا في قوة تيّارين يكملان بعضهما بعضاً، من حيث التأثير على نسبة التصويت للأحزاب العربية:

سنواجه معركة انتخابات قد تمحق نتائجها كثيرا من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، تحدّيات لم نشهدها من قبل

الأول هو تيار الداعين إلى مقاطعة الانتخابات. لقد قلنا في الماضي عن هذا التيار، ونكرر اليوم إنه لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات؛ لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر والتفرس في التجارب السابقة، أن نفترض أن الفئة الأولى والأكبر هي تلك التي تلتزم بموقف عقائدي، شخصي أو حركي، على اختلاف مظلاته، مثل أتباع «الحركة الإسلامية الشمالية»، أو أتباع حركات قومية لا تؤمن بشرعية نضال المواطنين العرب في البرلمان الصهيوني – وقد برز من بينهم تاريخياً أتباع «حركة أبناء البلد» على تفرعاتها – أو الناشطون في «الحراكات الشعبية» التي بدأنا مؤخراً نلمس تأثيرها المحدود في بعض المواقع بين أوساط شبابية، ثم إلى جانبهم سنجد مجموعات من المقاطعين الآخذة أعدادهم بالتنامي، بعد أن أصابهم السأم من الحالة السياسية العربية، فقرروا العزوف والابتعاد عن «ساحة البلد»، خاصة أنّ تكرار جولات الانتخابات لم يفض لأي مخرج حاسم في المشهد السياسي العام، ولا لأي تغيير جوهري في البنى السياسية والمؤسساتية العربية. وقد لا يضير إن أضفنا إلى جميع هؤلاء مجموعات صغيرة، لكن مؤثرة، من الحزبيين «الزعلانين» والمحتجين على تنظيماتهم، أو غيرهم من المدمنين على الرفض العبثيين والمزايدين.
أما التيار الثاني الذي تتنامى قواه ومكانته في قرانا ومدننا العربية، فهو ذلك الذي نجحت «قياداته» المحلية وأوصياؤهم في إشاعة أجواء العدمية القومية، وتتفيه الحاجة لحرص المجتمعات على صيانة هويتهم الجمعية، ونجحوا كذلك بالتحريض على شرعية القيادات والمؤسسات التاريخية، وعلى دورها في رسم معادلة التوازن السليم بين المواطنة والوطنية وتصويب بوصلة المواجهة الرئيسية ضد سياسات الاضطهاد والقمع التي مارستها، وما زالت تمارسها الحكومات الإسرائيلية؛ وقد يكون في طليعة هذا التيار، رؤساء بعض البلديات والمجالس المحلية، وبعض كبار رؤوس الأموال، وبعض الشرائح الاجتماعية المنتعشة بفضل سياسة حكومة إسرائيل المقصودة، وغيرهم كثيرون.
لن تكفي هذه العجالة كي نعالج دوري هذين التيارين وما قد يحرزانه في المستقبل القريب، وكيف تتفاعل المؤسسة الإسرائيلية إزاءهما؛ لكن من الغباء ألا نرى كيف يتغذيان ويستقويان داخل مجتمعاتنا، بسبب ضعف حالة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية، التي، كما قلنا، لم تجر هيئاتها أي مراجعة جدية ومسؤولة، ولم تتخذ أي خلاصات أو عبر، على الرغم من وضوح الانزلاق داخل مجتمعاتنا، ورغم سقوط القلاع وخسارة معظم الكوابح السياسية والهوياتية والقيمية. ليست الأحزاب والأطر السياسية وحدها المسؤولة عما وصلنا إليه من حضيض؛ فمؤسسات المجتمع المدني وجمعياته والنخب التي تسيّدت على فضاءاته، كان لها دور مركزي في «تعويم» الحالة النضالية وزجها في «غرف انعاش» وهمية وفي «عوالم افتراضية» لم يستفد من معظمها مجتمعنا، بل بقيت عوائدها عليه محدودة، في حين استفادت منها كوادر تلك المؤسسات. سنواجه معركة انتخابات شرسة قد تمحق نتائجها كثيراٍ من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، إن تحققت، تحدّيات لم نشهدها من قبل. لا أعرف كيف سنخرج من هذا المرجل سالمين، خاصة إذا بقينا عالقين بين فكوك ثلاث معضلات رئيسية ذات علاقات متبادلة، تؤثر جميعها في مستقبلنا وفي ظروف حياتنا؛ فالعنف والإجرام المنظم المستشريان داخل مجتمعاتنا، والخوف الذي يسببانه بين المواطنين من جهة، وضعف الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية وغياب دورها في تأطير وحماية المجتمع من جهة ثانية، وأهمية المشاركة في العملية الانتخابية بكونها ممارسة لحقنا الأساسي في المواطنة المتساوية، خاصة بعدم وجود بديل كفاحي أكثر شمولية وواقعية لها، هي قضايا مرتبطة عضوياً ببعضها بعضا، وعلى من يهمه مصير وسلامة مجتمعاتنا أن يواجهها بمسؤولية وحزم، ومن دون رياء ولا وجل.
سأتطرق إلى هذه الموضوعات في مقالات مقبلة؛ لكنني أود، من باب الحرص، أن أؤكد، أن للمواطن حقاً في مقاطعة الانتخابات، مع أنني أرى أن واجب الفرد المواطني الأساسي ووظيفته الاجتماعية والسياسية الاحتجاجية يلزمانه بالمشاركة في الانتخابات؛ أقول ذلك وأعرف أن إسرائيل ما زالت، منذ يومها الأول ولغاية الآن، تحاول إقصاءنا مرّة، وابتلاعنا حيناً، وتفتيتنا أحياناً، وأعرف أيضا أننا لن ننتصر على هذه السياسة والممارسات «بنضالنا» في ساحة البرلمان لوحده؛ لكنني، رغم ذلك، أجزم بأن أوضاعنا ستسوء أضعافًا مضاعفة إذا ما حملنا بأنفسنا «صحيفة المتلمس» – وفيها حتفنا – ونزحنا عن هذه الساحة، التي هي ساحتنا.
كاتب فلسطيني

 

 

غافلون على رصيف

معركة إسرائيلية جديدة

جواد بولس

 

رغم جميع محاولات المحافظة على استمرار عمل حكومة الرأسين، نفتالي بينت ويئير لبيد، لم ينجح أقطابها بمنع سقوطها، تماما كما توقع لها الكثيرون منذ اليوم الأول لولادتها.
لن تكون مهمة البحث عن أسباب فشلها صعبة؛ ويكفي، من أجل ذلك، إلقاء نظرة خاطفة على التنافرات السياسية الجوهرية والعقائدية القائمة بين جميع مركباتها الحزبية، مع التأكيد على ضرورة استثناء وجود القائمة الإسلامية الموحّدة ضمن تلك التناقضات، لأنها، وفق تصريحات قادتها منذ انضمامهم للحكومة وحتى يومنا هذا، باقية في الإئتلاف الحكومي، رغم كل التعقيدات والعقبات، ومستعدة لدخول أي إئتلاف حكومي مقبل.
من الصعب أن نتكهن ماذا سيتمخض عن هذه الأزمة المستمرة منذ سنوات وكيف ستكون الخريطة الحزبية السياسية الإسرائيلية بعد جولة الانتخابات المقبلة؛ بيد أننا نستطيع أن نجزم بأن جنوح المجتمع اليهودي نحو اليمينية الأصولية الدينية الصهيونية، سوف يتعزز بشكل واضح، مقابل تقهقر مكانة ما كان يسمى تاريخيا بأحزاب المركز، واختفاء أحزاب اليسار الصهيوني التقليدية. ستحاول الأحزاب حاليا استنفاد جميع المناورات من أجل المحافظة على هذه الحكومة، أو تشكيل واحدة جديدة من دون الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ لكنني اعتقد بأننا سنواجه المعركة الانتخابية قريبا، وسنسمع خلالها الأصوات نفسها الداعية إلى مقاطعتها، من جهة وفي مقابلها سينشط دعاة الانخراط في الأحزاب الصهيونية بحجة ما تؤمّنه هذه الخطوة من عوائد مادية على «مجتمعاتنا الفقيرة» بعكس الشعارات «الفارغة» التي تسوّقها الأحزاب العربية وقياداتها. ومن المؤكد أن تخوض القائمة الموحدة الاسلامية الانتخابات المقبلة بناء على رؤيتها وتبنيها للنهج الذرائعي الراسخ والنفعي المعلن، وقد تُعزّز صفوفها باستجلاب شخصية جديدة بدل النائب مازن غنايم، ابن الحركة القومية سابقا، الذي لن يترشح معها، كما أعلن في الأخبار. لا أعرف إذا كانت القائمة المشتركة ستخوض المعركة المقبلة بتشكيلتها الحالية نفسها، أو أنها سوف تجري تعديلات عليها؛ علما بأن ضعف قواعد مركباتها الثلاثة معروفة للجميع، مع الإقرار بأن الجبهة الديمقراطية للسلام تبقى أقواها من دون منازع.

رغم أننا نشكل خمس عدد سكان الدولة، ستكون المعركة الانتخابية المقبلة يهودية – يهودية؛ وستحسِم نتائجها شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها

على الرغم من أننا نشكل خمس عدد سكان الدولة، ستكون المعركة الانتخابية المقبلة معركة يهودية – يهودية، وستدور رحاها، بشكل أساسي، داخل المجتمع الإسرائيلي؛ وستحسِم نتائجها شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها. أقول هذا متأسفا على غياب دور المواطنين العرب في التأثير في شكل نظام الحكم بسبب فقداننا لعناصر قوتنا الطبيعية والتاريخية، يوم كانت الأغلبية تتصرف كمجتمع توحّده هوية راسخة، وهموم وجدانية متفق عليها؛ رغم اختلاف الرؤى السياسية والحزبية بين من تصدروا المواجهات مع سياسات الاضطهاد الحكومية وضد التمييز العنصري، وكافحوا بوسائل أجمعوا على معظمها، ومن خلال بنى تنظيمية أثبتت حيويتها ونجاعتها بإثارة جاهزية الجماهير وقيادتهم في معارك الصمود والتحدي. هنالك من يتنكرون بإمعان مستفز للتغيّرات الجذرية التي عصفت في هياكل مجتمعاتنا؛ ولعل أهمها هو انحسار، حتى اندثار، مكانة الأحزاب والحركات السياسية التاريخية، التي لعبت دورا أساسيا في تنمية الوعي العام السليم، وتوجيه بوصلة الصراع دائما نحو العدو الأول لمصالح المواطنين، وهي سياسات القمع والاضطهاد العنصري. ويجب ألا ننسى أن من أعظم مآثر قيادات ذلك الزمن الذهبي، وفي طليعتهم قادة الحزب الشيوعي وعدد من القيادات الوطنية، كان تصميمهم على بناء المؤسسات والأطر المدنية والنقابية والسياسية، التي كانت ضالعة في بناء الكيانية الجمعية للأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها، وتطوير مجساتها الوطنية المنيعة. لقد كانت اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس المحلية، من أهم تلك المنجزات؛ وهي الإطار الذي كان موكلا، حسبما خطط له، بتوحيد صوت المجالس والبلديات والارتقاء بمكانتها التمثيلية كي تعمل كحكومات محلية منتخبة من قبل المواطنين، ولتدافع عن «قلاعها» في وجه السياسات الحكومية العنصرية. وإن كانت «اللجنة القطرية» ذراع المواطنين المدنية وحصن حقوقهم المواطنية؛ فإلى جانبها تأسست «لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب» التي أقيمت كي تكون الخيمة الكبرى التي تجتمع تحت سقفها كل الأطر والمؤسسات والأحزاب والحركات الناشطة بين الجماهير، في سبيل رص صفوفها وتوحيد كلمتها والدفاع عن حقوقها السياسية والقومية. وطبعا لا يمكن أن نغفل دور «لجنة الدفاع عن الأراضي» وباقي الأطر النسوية والطلابية والنقابية التي لعبت دورا سياسيا نوعيا موحدا بارزا في تلك السنوات.
لم يكتف قادة ذلك الزمن الأكفاء ببناء تلك التنظيمات والمؤسسات، بل رأوا بضرورة جمعها تحت «راية عليا» مهمة كبرى، فدعوا إلى عقد «مؤتمر الجماهير العربية» الذي كان يفترض أن يتمخض عنه الإطار الأعلى لقيادة المواطنين العرب، وهو ما يشبه «حكومتهم الأم»، على ما كانت ستفضي إليه هذه الخاتمة من تبعات على مستوى العلاقة مع الدولة ومكانة الأقلية العربية فيها. لقد أحس قادة إسرائيل «بالخطر الداهم»، فقرروا حظر انعقاد المؤتمر وأعلنوه نشاطا خارجا على القانون، ثم وضعوا مخططاتهم لضرب منجزات القيادة، فشرعوا بضعضعة مكانة اللجنة القطرية وإفراغها من مضامينها الأساسية، حتى إنهم نجحوا بذلك إلى حد بعيد؛ ثم حاصروا «لجنة المتابعة العليا» محاولين نزع شرعيتها تارة، وخلخلتها من الداخل تارة أخرى إلى أن وصلت لحالة ضعفها الحالية. لا أريد أن أسترسل في سرد محطّات تاريخ هذه الانهيارات، لكنها وصلت اليوم إلى ذروتها، حيث نرى هياكل أحزاب متكلسة وأجساد حركات ممزقة ومؤسسات ضعيفة لم تعد قادرة على القيام بما عقد عليها من آمال ومهام.
في مثل هذه الأوضاع سوف نذهب إلى المعركة الانتخابية المقبلة وسنكون أضعف مما كنا عليه في المعركة السابقة، وسنستمع إلى البيانات الممجوجة نفسها من جميع الأطراف. حركتان إسلاميتان تحاول كل واحدة منهما إقناع المصوتين المسلمين بأنها صاحبة الصراط المستقيم والهداية الحسنى؛ فالحركة الجنوبية ستستغيث بالمصوتين مدّعية سعيها ووقوفها إلى جانب فقراء الأمة وحقوق بسطائها، حتى لو اختار قادتها الوقوف على عتبات السلاطين كبينيت أو نتنياهو أو بن- جبير. والحركة الإسلامية الشمالية ستتوعد وتنذر المنحرفين وتدعو إلى مقاطعة الناخبين وتبشر بالفرج القريب للعالمين. أمّا معظم الشيوعيّين المتنفذين في رسم سياسات الحزب فسيهتفون بنشوة على الرصيف المقابل، وكأنهم ما زالوا واقفين على «نون» نجمتهم الحمراء وينكرون أنهم أسقطوا، منذ ضاعت موسكو، مطارقهم، والمناجل صارت في أيدي بعضهم حصادات تقص أخضر الدولارات وتقطع «رؤوسا قد أينعت»، ويلاحق مطوّعوهم «الخوارج» والمعارضين لمواقفهم، وسنسمع القوميّ من على منابر القصب يدعو إلى «أندلس وقد حوصرت حلب» ويبيع نفطنا في «حارات أسياده السقايين العرب». سوداوي أنا، وأكتب من حبر واقعنا؛ لكنّها معركة كتبت علينا ويجب أن نخوضها. لماذا وكيف، وما الفوائد والبدائل؟ سنعود إلى ذلك قريبا.
كاتب فلسطيني

 

 

سيصير خليل

عواودة يوما ما يريد

 

جواد بولس

 

وصلت إلى مكتب المدعي العسكري في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين الفائت. كنت على ميعاد معه لمناقشة ملف الأسير الإداري خليل عواودة، المحتجز في عيادة سجن الرملة بحالة صحية خطيرة للغاية.
لم أنتظر طويلا عند مدخل المحكمة العسكرية في معسكر عوفر؛ فما أن وقفت أمام الباب الخارجي، وقبل أن أصرخ على الحارس، سمعت طنين القفل الكهربائي المتواصل، الذي يشبه موسيقى المونيتور المزعجة، حين يتوقف قلب المريض الموصول به، فدفعته وتقدمت نحو الحارس الذي كان ينتظرني وهو يشق بجسده الكبير الباب الحديدي ويرحب بي بحفاوة وباحترام. تساءل، مبديا قلقا، حول غيبتي الطويلة عن المحكمة؛ فطمأنته بعجالة، وشرحت له، ببضع جمل مقتضبة، أنني مررت بأزمة صحية أجبرتني على الابتعاد قليلا، وأخبرته أنني أحاول أن أجد مرفأ جديدا يكون أكثر هدوءا ووفاء، ويقبلني، وأنا بكامل بياضي، لألقي على أرصفته معاطفي القديمة، وفي مياهه مرساتي الثقيلة. كان ينظر وفي عينيه بريق خافت، فقلت له: «ببساطة أريد الانصراف عن عالمكم الرصاصي الكثيف، حيث يختبئ الموت تحت ألف قناع وعين، والقهر يمارس عهره بجنون يومي وعادي». لم أشعر بأن الحارس فهم كل كلامي؛ لكنه بدا مرتاحا وراضيا، فأدخلني وتمنى لي يوما جميلا وناجحا؛ شكرته على كل حال، فهو لا يعلم طبعا أن دعوته، إن أصابت، ستعني عمليا نجاحي بإبطال أمر الاعتقال الإداري ضد الأسير خليل عواودة المضرب عن الطعام منذ خمسة وتسعين يوما.
مشيت ببطء وبتثاقل ممتثلا لأوامر رئتي؛ فالشمس، هنا فوق فلسطين المحتلة، هي أيضا في خدمة الاحتلال، وأشعتها مسلطة على رؤوسنا كمسلات من نار محفورة عليها رسائل غضب السماء وصور لأشباح هزيلة. كنت أقطع باحات المحكمة مطرقا في ترابها، وكأنني لا أريد أن أتذكر كيف ريقت على أديمها دموع الأمهات الباكيات مصائر أكبادها، ولا كيف ديست أرواح الإنسانية بسهولة فجة ومستفزة. كنت ألهث كفجر خريفي يحاول أن يهرب من ليل فاحم، وأتهيأ لمواجهة يومي. كان الطريق أطول بكثير مما ألفته خلال سني عملي في هذه المحكمة، لكن رائحته بقيت كما كانت، حامضة كالقيء. كان النائب العام شابا نحيفا طويل القامة صارم القسمات، كما يليق بجندي يمثل احتلالا عاتيا. وقف باسطا يده لتحيّتي، فسلمت عليه. كان يبتسم بمودة متأنية ومدروسة. عرض عليّ مشاركته بشرب فنجان قهوة مردفا، أنه تعرّف عليّ أول مرة قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، حين كان جنديا إداريا يعمل في مكتب المدعي العسكري العام في وزارة الجيش في تل- أبيب، وكنت أتردد على المكتب لمناقشة بعض الملفات التي كنت موكلا فيها وأتابعها. كانت مقدمته فاتحة مشجعة وإيجابية. ثم انتقلنا بعدها للأهم، فسألني ماذا أريد؟ أجبته من دون تردد وبسرعة: «الإفراج عن خليل عواودة»؛ وأضفت: «إنني على قناعة بعدم وجود سبب حقيقي لاعتقاله إداريا، خاصة أن قوات الأمن سجنته في البداية وحققت معه حول منشور، كان ألصقه على صفحته في الفيسبوك حيّى فيه انطلاقة الجبهة الشعبية، رغم أنه لا ينتمي إليها؛ بعد التحقيق معه أنزلت بحقه لائحة اتهام عزت له تهمة التحريض، ومعها طلب لتوقيفه. رفض القاضي العسكري توقيفه حسب طلب النيابة وأمر بإطلاق سراحه.. لم تطلقوا سراحه، بل قمتم، كما في كثير من هذه الحالات العبثية، بإصدار أمر اعتقال إداري بحقه لمدة ستة شهور، بذريعة أنه ناشط في حركة الجهاد الإسلامي، من المفروض أن تنتهي مدة هذا الأمر في السادس والعشرين من الشهر الجاري». سمعني بإصغاء وأجاب باقتضاب: «أنت تعرف، من تجربتك الغنية والطويلة، أننا، نحن في النيابة العسكرية، لسنا العنوان الحقيقي لهذه الملفات؛ فأوامر الاعتقالات الإدارية يوقع عليها قائد الجيش ويصدرها وفق توصيات جهاز المخابرات العامة، ثم نتولى نحن مهمة الدفاع عنها أمام قضاة المحاكم العسكرية فقط، لكننا لسنا المخولين بإلغائها أو بتغييرها». لم تفاجئني إجابته، لكنني اعترضت على طريقة إدلائه بها بصورة روبوتية خالية من أي منطق ومن أي قدر لاحترام الذات. تركت مكتبه بهدوء خاسرٍ يعرف كيف يحتضن كبرياءه ويداري ربيعها، ولم أتلُ عليه، كما كنت أفعل مع من سبقوه في ماضي السنين، دروس الضحايا وماذا بعد عنجهية الطغاة؛ فهو ومثله جميع من ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء.

جميع من ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء

على حاجز صغير قبل مدخل سجن الرملة أوقفني سجّان أسمر بدا عليه النعاس والملل، سألني، بلغة تشبه العبرية، عن مقصدي وقبل أن يسمع إجابتي رفع ذراع الحاجز وأشار بيده موجّها إياي إلى موقف السيارات. أدخلوني إلى ردهة السجن بسرعة نسبية، فاستقبلني، من وراء الزجاج، سجّان تصرّف معي بلطافة لافتة لأنه يسكن في بلدة جليلية لي فيها أصدقاء كثر. انتظرت بضع دقائق حتى مرّت سجّانة، فوافقت أن تصطحبني إلى عيادة السجن. أنهيت الفحص الأمني من دون عثرات، ومشينا فسبقتني برشاقة مقصودة. حاولت أن أتبعها من دون فائدة. كانت تنظر وراءها، من حين إلى حين، لتطمئن أنني هناك، وليبتسم شبابها، تبسمت مثلها، فالتبس عليها الأمر وعَبَست. دخلتُ مبنى العيادة الذي يشبه باقي أقسام السجن. أعطيت تفاصيل بطاقتي الشخصية واسم موكلي للسجان، فطلب مني أن أدخل إلى غرفة الزيارة لافتا انتباهي إلى أن حالة خليل الصحيّة متضعضة، فعليّ ألا أرهقه بالكلام. أحضر خليل وهو جالس على كرسي متحرك.. تركه السجان وراء الزجاج وغادر الغرفة. رفع رأسه وفتح عينين متعبتين وجفنين منهكين. كان ضعيفا جدا وشعره خفيفا. كانت ملابسه تفضح خسارته ثلاثين كيلوغراما من وزنه، وصفرة وجهه تنذر بخطورة المرحلة التي وصل إليها. وضعت كفي على لوح الزجاج الذي كان يفصل بيننا ففعل مثلي وانفرجت شفتاه عن أسنان بيض كالصباح، ثم قال ضاحكا: «لقد كبرت الجاكيت عليّ..» وحاول أن يمنع سقوطها عن جسمه. نقلت له سلام الأهل والأحبة فرأيت نورا يشع من جبينه، ومضينا في رحلة، تمنيت ألّا تنتهي إلّا وهو معي بالسيارة. لماذا أنت مضرب يا خليل؟ ساأته وأضفت: لقد وصلتَ إلى مرحلة خطيرة تواجه فيها احتمال الموت المفاجئ في كل لحظة! أخذ نفسا عميقا، كمن يحاول الإفلات من موجة عالية واستجمع بقايا روح وقوة وقال: «أريد حريتي؛ فهذا الاعتقال عبثي بامتياز. لقد اعتقلوني إداريا في الماضي لمدة ستة وعشرين شهرا وأفرجوا عنّي عام 2016. التحقت بعدها بالجامعة لدراسة الاقتصاد وأقمت عائلة ومضيت نحو المستقبل كأي إنسان حر يريد أن يعيش بكرامة وبسعادة في كنف عائلته وبلده وأهله. لقد اعتقلوني وحققوا معي حول منشور عادي نشرته على صفحتي فقرر قاض عسكري أن يفرج عني، لكنهم قاموا باعتقالي إداريا بصورة كيدية وانتقامية، فقررت أن أخوض هذه المعركة انتصارا لكرامتي وللحرية وبالنيابة عن كل احرار العالم». كان صوته يأتيني عبر الهاتف متقطعا وضعيفا، وكان يتوقف عن الكلام أحيانا ليتقيأ، فهو لا يشرب إلّا الماء منذ زهاء تسعين يوما، ويشعر بأوجاع شديدة في عضلاته وفي منطقة الصدر، ويشكو من عدم انتظام في نبضه ومن رؤية ضبابية. تحدثنا كصديقين عتيقين حول مفهوم وصحة النضال من خلال الإضرابات الفردية عن الطعام، رغم ما تسببه أحيانا من إرباكات، أو إحراجات للبعض وللحالة الوطنية العامة. وتحدثنا عن خلّة الوفاء الذي يؤمن بضرورة وجوده كعماد لصيانة الهوية النضالية الفلسطينية، وتطرّقنا إلى منابت الفرح الذي يحاول هو أن يزرعه كل ليلة في أحلامه وكيف يجرحه ظلم الإنسان للإنسان.
كان خليل أمامي حرا كالأمل، وكان يحدثني عن هواجسه وأحلامه ورؤاه بكل صراحة وحب؛ وكنت أمامه حرا حتى حدود الدمع. فهمت أنه كان يقرأ ويحب ما أكتب، خاصة ما نشرت في شؤون الأسرى والإضرابات الفردية عن الطعام. وإنه يؤمن بأن هذه المعركة التي يخوضها، وهو على حافة الدنيا، بحاجة إلى فوارس يجيدون الركوب على حصانين ويمضون بهما في وجه الريح ونحو نهاية المدى؛ فحصان يعدو في ميادين قضاء الاحتلال العبثي، لكنه غير آبه للخسارة، وحصان يصهل في وجه العدم وأمام جميع الأمم. كان كلانا يعرف أن النصر قد يتأخر أو حتى لن يجيء، لكننا نعرف أيضا أن هزيمة الإرادة هي أقسى الهزائم وأشدها بؤسا.
كان صوته خافتا كالصلاة وكلامه بطيئا وواثقا؛ وكانت بسمته مطبوعة في الهواء. وحولنا نسمع ترددات صدى وصوت ينشد «سأصير يوما ما أريد/ سأصير يوما طائرا، وأسلّ من عدمي وجودي.. أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي، لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى»… جلست وراء مقود سيّارتي وهممت بالرجوع إلى القدس، أحسست أنني كطائر حبيس. على المقعد بجانبي ما زال الكتاب الذي كنت أقرأ فيه مفتوحا على صفحة تنتهي بجملة كتبها بطل الرواية لأصدقائه تقول: «هناك دائما وقت للرحيل حتى لو لم يكن ثمّة مكان تذهب إليه». وبدأت رحلتي من جديد.
كاتب فلسطيني

 

القدس بعد

)عهد الفيصلية(

جواد بولس

 

كما في كل عام، منذ واحد وعشرين عاما، يحل شهر أيّار/مايو على القدس ومعه تذكارات من رائحة الملح المخبأ في شقوق الزمن، وأصوات نايات حزينة تنساب همسات خافتة في عروق حجارة أسوارها. القدس، مأوى الملائكة ومساكن الغضب، لا تعرف طعما للحزن ولا كيف يكون الندم؛ إنّها ابنة ذاك الأزل، تغفو على زنوده السماوية المقدّسة وتصحو كغزالة الأساطير المذعورة بعد صخب حفلة صيد وحشية.
هي القدس، أعود إليها في أواخر كل ربيع متعبا من غدر الفصول ووداع الأحبة؛ وأيار ينسلّ، بقهقهاته مختالا، إلى حيث محارق الأمل، تاركا على أسوارها تناهيد فجرها المذبوح، وتمتمات الأرامل، وعذاباتها. كان أيارنا، عندما كنا نزوّج المطارق للمناجل، بئرا لعرق الفقراء والبسطاء والكادحين، وشريانا لدمائهم الطاهرة، فصار، مذ «أكل أهل الشرق أثداءهم» شهر القهر والردى، يأتي ليذكرنا بجهالتنا وبالحكمة الغائبة، ولينكأ جرح القدس المفتوح، منذ سافر فيصل الحسيني حامي أحلامها وناطور قلاعها، في رحلته الأخيرة نحو تلك الصحارى الغادرة.
سيبقى لذكرى رحيل فيصل الحسيني وهو في قمة نشاطه وعطائه، طعم من المرارة المتجدد؛ وذلك ليس لأننا توقعنا، في حينه، أن خسارته الفادحة لن تعوّض وحسب، بل لأننا شعرنا بأن تغييبه، في الظروف المعقدة التي كانت تواجهها مدينة القدس تحديدا، فرض تساؤلا منطقيا حول الذين كانوا المستفيدين من واقعة رحيله والتخلّص من دوره المفصلي في التصدي الناجح لمعظم المكائد التي حيكت ضد القدس وضد مكانتها كعاصمة فلسطينية فرضها فيصل والمقدسيّون معه على وجدان العالم وفي الحياة اليومية. لم يكن ذلك الأمر ممكنا لولا ما تحلّى به فيصل من خصال مميزة ورؤية ثاقبة ومصممة على ضرورة بناء الهوية المقدسية الفلسطينية الوطنية الجامعة، وإسباغها على جميع سكان المدينة، الذين تسربلوها، برضا وبعزة، وتصرفوا بحمايتها ودافعوا عنها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وأمام جميع أعدائها من الخارج والمدسوسين. فلماذا فيصل؟ من السهل أن نجيب على ذلك، كما فعل الكثيرون مرارا؛ لأنه كان إنسانا نقيا بامتياز، ومحاورا سياسيا دمثا وحذقا وحكيما، ومناضلا شرسا وعنيدا من أجل كرامة المقدسيين وحرّياتهم. لقد شهدَت لفيصل شوارع القدس كلها وساحاتها؛ وعرفته جميع المنابر الدولية التي كان يستقبل فيها ببالغ الاحترام وبحفاوة ظاهرة، تماما كما يجب أن يستقبل القائد الذي يعرف كيف يسخّر جميع جوارحه ومجساته في سبيل الفوز في المعركة، أو في تفادي الهزيمة المتوقعة. لقد تحلّى فيصل بجميع تلك الصفات، لكنّه تعمّد تخصيبها بمزايا «فيصلية» إضافية هي التي أدخلته إلى قلوب الفلسطينيين، وجميع المقدسيين طبعا، ومكّنته حتى أصبح فارس القدس المحبوب وحامي مظلتها الأمين وضابط مسطرتها الوطنية، التي «بشفرتها» رسمت الحدود بين الخيانة وعكسها. ومن تلك المزايا كانت قناعته بأن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين هي ظاهرة طبيعية ومقبولة، شريطة ألا تتحول هذه الاختلافات إلى خلافات تعبث بالجسد الفلسطيني الواحد وتهدم أسس نضاله الذي يجب أن يبقى موجها وموحدا ضد الاحتلال الاسرائيلي. لقد سعى فيصل بحنكته وباستقامته وبنزاهته إلى تجسيد تلك القناعة في القدس، ونجح بتجميع جميع الفصائل والقوى السياسية، الوطنية والإسلامية، تحت مظلة واحدة تجلّت أهميتها في رحاب «بيت الشرق» الذي قضّت مكانته، بين الأمم والفلسطينيين، مضاجع حكّام إسرائيل. لقد مارس فيصل قيادته بهدي ما يسمى في عالم السياسة العصرية «كيانية الدولة العليا»، أو الممارسة الفوق فئوية أو حزبية؛ أو ما يعرف اصطلاحيّا بحالة (
statehood) ، وهي من المصطلحات غير المألوفة في حياة الشعوب والأنظمة العربية، وذلك لأسباب مفهومة طبعا. ولأنه كان يؤمن بحيوية العمل وفق هذا المبدأ وتقديمه على جميع المحفزات التقليدية، تعمّد، خلال مسيرته السياسية، ألّا يستغل تأثير نسبه العائلي المرموق، وأن يظهر دوما بشخصه المستقل كفيصل الحسيني، علما بأنه كان فخورا بأبيه المناضل القائد المعروف عبدالقادر وبتاريخ عائلة الحسيني، المشهود لها عبر العقود. وحتى «فتحاويته» كانت عبارة عن هوية سياسية كفاحية مجرّدة من أي مراهقة فصائلية متشاوفة. لقد اختار فيصل أن يكون ابن كل فلسطين وخادم قدسها والمسكون بها أبدا، وقائدا شعبيا متصدرا واجهات الميادين، كالترس وكالرمح معا؛ لأنه كان يؤمن، ببساطة، بأن من يخاف ويتذيل الصفوف مستجيرا بصدور شباب فلسطين وهي تتحدى عارية غطرسة الاحتلال، غير جدير بأن يكون قائدا لهم.

فيصل ونظرية الردع ورفع العلم الفلسطيني

لا أعرف كم من أولئك الذين تطرقوا إلى ظاهرة التوحّش الإسرائيلي، البوليسي والعصاباتي الشعبي، ضد من يرفع العلم الفلسطيني في القدس وداخل إسرائيل، يعرف تاريخ هذه الظاهرة ومحطاتها الفارقة، لكنني سوف أستذكر، في هذه العجالة، إحدى تلك المحطات الجميلة، لاسيما ونحن نكتب عن ميزات عهد «الفيصلية».

كانت قناعة الحسيني أن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين ظاهرة طبيعية ومقبولة، شريطة ألا تتحول إلى خلافات تهدم أسس نضالهم الموجه ضد الاحتلال الإسرائيلي

لقد واجه فيصل سياسة إسرائيل في القدس الشرقية على عدة جبهات وبعدة وسائل؛ واعتمد ميدانيا على اتباع ما كان يسميه بمنهج «الردع الإيجابي»، الذي أدّى إلى إجهاض العديد من مخططات إسرائيل العدائية. قد تكون المعركة ضد أمر إغلاق «بيت الشرق» في عام 1999 أبرز تلك الحالات التي أثبتت فيها القدس أهمية جاهزيتها الحقيقية لمقاومة الاحتلال ومعنى التفاف أهلها حول فيصل الحسيني ورفاقه في القيادة. لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى تلك الحادثة وسأكتفي بالإشارة إلى أن الردع المقصود يتطلب أحيانا أن تكون مبادرا في التحرش الموزون بعدوك وألّا تكتفي بردات الفعل وحسب. وهذا يعتمد أيضا على مبدأين أساسيين، كان فيصل يرددهما أمام الإسرائيليين: الأول يقول: «لا تخطئوا الحساب! فمن يستطيع فرض الهدوء والأمن والأمان في شوارع القدس الشرقية يستطيع إشعال النيران وإيقاظ المارد من قمقمه»، وكان يقصد بالطبع أن بيت الشرق وقيادته هي التي تتحكم في نبض الشارع المقدسي. والثاني يقول: «إن كان عدوّك يجيد المصارعة أو الملاكمة فلا تنازله بما يجيد، بل حاول أن تستدرجه إلى رقعة أنت فيها أبرع وأكثر مهارة، فإن أجدت لعبة الشطرنج مثلا، فاستدرجه إلى رقعتها، فحظوظك فيها ستكون أوفر». وهو ما حاول أن يفعله مرارا. لقد فشلت حكومة نتنياهو أمام صمود المقدسيين وتراجعت عن قرارها بإغلاق «بيت الشرق» بعد أن فهمت معنى استعداد فيصل والمقدسيين للدفاع عن قدسهم، أو إشعال ضفتي المدينة.
وكان أن أعلن الفاتيكان، بعد أشهر من تلك المعركة، عن قرار البابا يوحنا بولس الثاني زيارة الأردن وإسرائيل وفلسطين وبضمنها القدس. قام ممثلو الفاتيكان بتنسيق تفاصيل الزيارة مع كل دولة على حدة؛ أما في ما يخص زيارة البابا للقدس فكان عنوانهم «بيت الشرق» ورئيسه فيصل الحسيني. لقد عقدت في بيت القاصد الرسولي في حي «الصوانة» عدة اجتماعات لتنسيق كل كبيرة وصغيرة تتعلق بترتيبات الزيارة، حسب طلب الفاتيكان، ورغم اعتراض إسرائيل واحتجاجاتها. رفض البابا المبيت في فنادق القدس الغربية وأصرّ على أن يبقى في بيت القاصد الرسولي، وأن تبدأ زيارته للقدس من هناك، ثم مباشرة إلى باحات المسجد الأقصى. أعلنت المؤسسات التعليمية الفلسطينية المقدسية عن إيفاد طلاب المدارس ليقفوا محيّين البابا على جنبات الطرق من الصوانة وحتى باحات الأقصى. واعترضت إسرائيل على القرار، لكن فيصل والقدس أصروا على تنفيذه؛ فعبّر البابا عن ارتياحه من ذلك. قمتُ بالتواصل مع قائد الشرطة الإسرائيلية ونقلت له على لسان فيصل: «إما أن يصطف المرحبون، وإما لا أمن ولا أمان لأحد». فهمت الشرطة مغزى الرسالة، وكان قادتها يدركون أن فيصلا قادر على تنفيذ تهديده؛ فوافقوا شريطة أن يحمل الطلاب المرحبون الورود فقط وألا يرفعوا أعلام فلسطين. رفض فيصل قبول شرطهم وأصر على أن يرفع كل شبل وردة وترفع كل طفلة علم فلسطين. غضب الجانب الإسرائيلي وارتاح الفاتيكان، مرّة أخرى، فقمت بنقل رسالة ثانية من فيصل إلى قائد الشرطة ومفادها: «سنحمل العلم لا محالة، وعليكم أن تختاروا، فإما العلم وإما الحجر». رضخ الإسرائيليون، تفاديا لفضيحة إلقاء الحجارة على موكب البابا الذي سار، وفق الاتفاق، على طرقات فلسطينية يحميها أطفال فلسطين المزينة أياديهم بالورود وبأعلام فلسطين. وكانت زيارة بنكهة فيصيلية وقدسية.
بعد الزيارة بعام سافر فيصل إلى الكويت ولم يعُد، وبقية الحكاية يكتبها شباب القدس، أبناء فيصل، وترويها صفرة العشب المهمل في ساحات «بيت الشرق» المغلق بأمر شرطة إسرائيل، صدر بعد أفول حقبة قد يسميها المؤرخون، ذات يوم، زمن القدس الذهبي، أو «عهد الفيصلية».
كاتب فلسطيني

 

 

متلازمة علم فلسطين

وضرورة إسقاط النعش

جواد بولس

 

 

شنّت جهات يمينية عديدة هجوما كاسحا على إدارة جامعة «بن غوريون» في مدينة بئر السبع، لأنها سمحت، يوم الاثنين الفائت، لكتلة «الجبهة الطلابية» برفع الاعلام الفلسطينية داخل حرم الجامعة، أثناء الاحتفال بإحياء الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني.
وكان رئيس بلدية بئر السبع روبيك دنيلوفيتش، أوّل من وجه رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الجامعة البروفيسور دانيئيل حايموفيتش، قال فيها «إن اعلام فلسطين ترفع بفخر. يوجد لدولة إسرائيل علم واحد فقط. لقد تخطوا اليوم خطا أحمر إضافيا. يجب علينا إظهار قيادتنا الواضحة من دون تأتأة. عليّ أن أقول لك: أنا خجلان».
لم يكن تصريح رئيس البلدية مفاجئا لأحد، فقد برز مؤخرا كأحد الشخصيات العامة اليمينية الناشطة في تأليب الرأي العام اليهودي وشحنه بجرعات عنصرية تحريضية خطيرة، حتى إنه أعلن دعمه الكامل لإقامة ميليشيات مدنية مسلحة من أجل إنقاذ النقب من «إرهاب» مواطنيه العرب!
لم يكن رئيس بلدية بئر السبع وحيدا في حملة التحريض على إدارة الجامعة وعلى الطلاب العرب في جامعات البلاد؛ إذ فعل ذلك الكثيرون، وقد برز من بينهم، بسبب مكانته السياسية وحدّة لغته، وزير المالية الليكودي الأسبق يسرائيل كاتس. لا أعرف إذا كانت أجيال هذه الأيام تتذكر تاريخ هذه الشخصية يوم كان، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قائدا يمينيا شرسا في الحركة الطلابية الجامعية؛ وهي الحقبة التي أشار إليها في خطاب الترهيب الأخير الذي توجه من خلاله، من على منصة الكنيست ليل الاثنين الفائت، إلى طلاب اليوم ليذكرّهم قائلا: «لقد حدث ذلك أيضا في نهاية السبعينيات في الجامعة العبرية وفي حيفا وتل أبيب، عندما توهّم العرب في إسرائيل، في أعقاب حرب أكتوبر، أن اليهود أصبحوا ضعفاء، فأقام الطلاب العرب مظاهرات دعم للعدو وضد دولة إسرائيل» ونصحهم أن يسألوا أباءهم وأجدادهم عن ذلك. لا جديد في عالمَي كاتس، الشخصي والسياسي، ولا في حساسيته المفرطة لرفرفة العلم الفلسطيني، ولا في أحلامه بترويض المواطنين العرب أو بتهجيجهم خارج الدولة؛ ورغم ذلك سيبقى لأقواله في هذه الأيام وقع مرّ خاص، لأنها وإن كانت مكرورة من جانبه، تعكس في واقعنا الراهن تعبيرا واضحا ليس عن رأي مجموعات يمينية هامشية وحسب، كما كان يُدّعى في سنوات السبعين، بل عن موقف إسرائيلي، رسمي وشعبي، شبه مجمع عليه. من المؤسف أن تاريخ الحركة الطلابية العربية في جامعات إسرائيل لم ينل حقه من قبل الدارسين، ولم يوثَّق بشكل مهني وكاف؛ على الرغم مما شكّلته تلك الحركة من مشهدية صاخبة ولافتة، ومن حالة نضالية استثنائية عكست نضوج الذين أسسوا لمسيرة تلك التجربة وقادوها بمسؤولية عالية وبتضحيات كبيرة.

لطالما أجّجت الرموز الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وتاريخ هذا الصراع حافل بالأمثلة؛ ولكن سيبقى العلم، هو «ولي الدم» الحاضر وسيّد الفوران

يسرائيل كاتس وليل السلاسل

لقد شكّل جيل يسرائيل كاتس ورفاقه في قيادة النشاط الطلابي الجامعي ومنهم، على وجه الخصوص، الوزير السابق تساحي هنجبي، والوزير الحالي أفيغدور ليبرمان، نموذجا مؤسسا للتعامل صداميا مع أعدائهم، الطلاب العرب، حيث تعمّدوا تنفيذ اعتداءاتهم على طريقة الميليشيات الفاشية، بعنف حتى إراقة الدماء أحيانا، وبطريقة مكشوفة للملأ، ثم ساعدوا، في ما بعد، من خلال مواقعهم الحزبية على تطوير ذلك النهج ونقله إلى خارج حدود الجامعات، ليصبح في السنوات الأخيرة سلوكا شائعا ومألوفا تدعمه منظومات الحكم وتنفذه عناصرها الرسمية أو وكلاؤها. ولعل في تجاعيد الماضي فائدة وعبرة ترتجى؛ فأنا وأبناء جيلي كنّا الشهود على بدايات تلك المرحلة. وقصتنا مع ما فعله «أمراء الظلام» طويلة وشائقة، حتى إن استحضار تفاصيلها، الشاخصة أمامنا، يبعث في نفوسنا، رغم مرور السنين، نبض حنين أرجواني لا يبهت، وعبق مغامرات تذكرنا، بحسرة، كيف كنا نقف على ذوائب الريح مصممين أن نُفهم الكاتس وأمثاله، أن الحر لا تأسره السلاسل، وأن هسيس الجن لا يفت من عزم مسافر نحو الشمس، ولا الترهيب يشفي عاشقا من الدنف.
بدأت دراستي في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في خريف عام 1974، وكانت، حينها، أعداد الطلاب العرب في الجامعة محدودة. ورغم قلة أعدادهم في الجامعة، استوعب الطلاب العرب، منذ البدايات، بحدس وطني وفطري، معنى بناء وحدتهم وانتظامهم في جسم يمثل مصالحهم ويحمي هوياتهم، فبادروا إلى تشكيل «لجنة الطلاب العرب» في جامعة القدس، ثم تلتها لجان مشابهة في سائر الجامعات. لقد بدأت تلك اللجان الطلابية تلعب، في أواسط السبعينيات، دورا سياسيا محوريا بين الطلاب وعلى المستوى القطري العام؛ وشكلت أنشطتها ومعاركها، إلى جانب «الاتحاد القطري للطلاب العرب»علامة فارقة على خريطة التنظيمات السياسية الفاعلة بين الجماهير العربية داخل إسرائيل، وعاملا رياديا في مقارعة الجماعات اليمينية التي عملت داخل الجامعات الإسرائيلية وكانت معززة بعقائد وبوسائل متّشحة بأردية فاشية واضحة، فكرا وممارسة.  لقد وجدت بين الطلاب العرب في الجامعات حركتان سياسيتان هما «جبهة الطلاب العرب» وكانت بمثابة التنظيم الابن «للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» حديثة الولادة، وحركة «أبناء البلد» الناشطة كتنظيم قومي يتماثل مع نظرائه من الحركات القومية العربية التي كانت تتمتع بوجود وازن على ساحة السياسة الكبرى. أما بين الطلاب اليهود فقد أقامت المجموعات اليمينية تنظيما طلابيا باسم «كاستل» قاده في ذلك الوقت كل من يسرائيل كاتس وتساحي هنغبي، ومعهما بعض من منفذي الأوامر الطيّعين، ومن بينهم كان أفيغدور ليبرمان. وبالمقابل أسست مجموعة من الطلاب اليهود اليساريين، الصهيونيين وغير الصهيونيين، حركة «كامبوس» التي انضم إليها لاحقا عدد من قادة الطلاب العرب الجبهويين والناشطين، وهذه التجرية بالذات جديرة بمقالة مستقلة في المستقبل.
لن أثقل عليكم بسرد تفاصيل أحداث تلك السنوات المهمة، التي ملأت أصداؤها جنبات البلاد والمنطقة قاطبة؛ ولكن لا بد من العودة إلى تداعيات ما أصبح يعرف في تاريخ النضال الطلابي ضد قطعان الفاشيين «بليل السلاسل» التي كلّما تذكرت تفاصيلها، أو كتبت عنها أشعر بالغثيان وأغضب، لأننا لم نعِ وقتها، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، حقيقة النذر التي صاحبت أحداثها، ولم نفهم كفاية أنها كانت في الواقع مؤشرات على بدايات «تهجيرنا» الثاني نحو الشمال، في طريق كان كلّه ليلا وجهلا وتنافسا وخسائر.
تظاهرنا، نحن مجموعة من الطلاب العرب، في مساء يوم مقدسي بارد من شهر كانون الثاني/يناير عام 1979. وقفنا في إحدى زوايا الحرم الجامعي على جبل سكوبوس «جبل المشارف» وهتفنا ضد الفاشيين، جازمين بأن «الفاشية لن تمر» كما كنا نهتف دوما في تلك الأيام. وفجأة هاجمنا عشرات من الطلاب اليهود، بقيادة كاتس وهنغبي وليبرمان، المعززين بزمر من البلطجيين المستورَدين والزعران الوافدين من أحياء القدس الغربية، لينهالوا علينا بالهراوات وبالسلاسل الحديدية، فأصابوا من أصابوا وجرحوا منا العديدين. كان عدوانهم مطابقا لجميع ما تعلمناه في الكتب عن تاريخ الحركات الفاشية؛ لكنه، رغم قساوته، لم يثننا عن الاستمرار في الوقوف ضدّهم، مؤمنين أن «الفاشية لن تمر». لقد اهتزت أركان الجامعة بعد ذلك الهجوم؛ واضطرت رئاستها إلى إقامة لجنة تحقيق أفضت إلى تقديم عدد من الطلاب لمحكمة تأديبية؛ ولكن، هكذا تبيّن في ما بعد، كانت تلك عبارة عن فقاعة أكاديمية تناثرت عراها في جوف الزمن ليبقى شعار «الموت للعرب» هو اللازمة المؤثرة وخريطة إسرائيل الوحيدة الملزمة، لا من على مدرجات ملاعب الكرة وحسب، بل في دفاتر الحكومة وقوانين الكنيست وقرارات القضاء وفي رصاص الجيش؛ فهل حقا الفاشية لن تمر؟

متلازمة علم فلسطين

لطالما أجّجت الرموز الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وتاريخ هذا الصراع حافل بالامثلة؛ ولكن سيبقى العلم، خاصة في هذه الأيام، هو «ولي الدم» الحاضر وسيّد الفوران. لقد ذكّرنا كاتس بعام النكبة وفعل ذلك قبله بأسابيع الجنرال عوزي ديان؛ فلا جديد في قاموس «القداسة» على هذه الأرض سوى أن من يدعونها لأنفسهم وحدهم بدأوا يهدّدون أعداءهم جهارا ويطلقون عليهم النار من أجلها بلا تردد ولا خوف من العواقب؛ فإسرائيل الغائبة في الأسفار، هي أم تلك السلاسل والهراوات، وانبياؤها اليوم كأنبيائها في الأمس، لا يؤمنون بالليل وسترته. إنهم يقفون أمامنا ويهتفون بلا وجل: إن واجهت عدوّك يا «إسرائيل» اضربه بلا رحمة وبلا خجل وحتى إذا مات فاضرب نعشه حتى يسقط، ليرى العالم وليعتبر أو ليحبس أنفاسه على عتبات الجحيم.. وينخرس.
كاتب فلسطيني

 

 

شيرين…

هبة فلسطين للسماء

جواد بولس

 

ما زالت مشاهد قتل شيرين أبو عاقلة وتداعيات جنازتها التي استمرت على مدى ثلاثة أيام كاملة، تسكن فينا وتستثير الدهشة والدمع، الذي تغلب على “حياء جرير”، فبكى الرجال أيضا، في فلسطين وأبعد، موتا استثنائيا نزل عليهم في زمن استوطن فيه القهر حلوقهم وجفف الذل منابع آمالهم.
لن تنتهي محاولات الباحثين والمحللين لسبر حقيقة هذا الحزن المتدافع نحو أقاصي المدى، بتحدّ وحب خرافيين، وكأن شرايين السماء تقطعت فجأة، وأمطرت على “بلاد شيرين” غضبا مغموسا بتباشير بعث بطولي، كنا نعتقد أنه هجر مواقعنا وعاد إلى مأواه في الأساطير.
لم تكفِ تباريح المجازات كلها في وصف هذا الموت؛ ولم تسعف أحابيل البلاغة في رسم تقاسيم روح أيقونته الباقية. سيذهب الزبد وسيبقى، في بعض الفداء، صوت دم الحقيقة النازفة، وتردّد صدى القرابين المذبوحة الراحلة مسموعين. هي كذلك “أرضنا المقدسة”، تنام على حد سيف يوشع وزعيق أبواق أنبيائه الذين صلوا باسم ربّهم من أجل “أرضهم الموعودة”، وتصحو على حشرجات الفجر فوق التلال الفلسطينية المحتلة المغتصبة. ليس من الصعب أن نتصور كم سريعا سوف ينسى حكام العالم مقتل “ابنة الورد” الفلسطينية الندية؛ فعندهم يحصل كل شيء في عالم افتراضي ومتغيّر، بينما يبقى عهرهم ثابتا، ولهاثهم، وراء صنّاع الفجور والظلم، دينا ودنيا. قد تتباعد، بالمقابل، الذكرى عن موطنها وتتسرب أنفاسها الحزينة في أخاديد الزمن الفلسطيني والعربي؛ ولكن ذاكرات هذه الأجيال، التي تخصّبت من روعة الحدث، لن تنسى كيف بكى السحاب أنوارا، وشهقت طيور الجنة حائمة فوق نعش المقدسية، وكيف تمنت كل الحرائر أن يقفن اشبينات لشيرين في أبهى عرس ذكّر الناس بدموع المجدلية.

شيرين المسيحية، فلسطينية الوشم

إنني على قناعة أن شيرين تنظر إلينا من فوق وهي حزينة مرتين: مرّة لأن بعض رؤساء الكنائس، وفي طليعتهم قداسة البابا، تنصلوا من معرفة الحق، فلم يتحرروا، كما جاء في الآيات، بل غابوا عن المشهد وتلعثموا في تأثيم الجريمة والمجرمين وفي الدفاع عن الضحية؛ ومرّة عندما حرّم من حرّم، بفتوى مقحمة، الترحم على من افتدت عزة الضعفاء والمقهورين بروحها الطاهرة، لأن الترحم، بحسب هؤلاء المفتنين، على غير المسلم، حرام. من الواضح أن معظم الناس اكتشفوا ديانة شيرين بعد عملية قتلها، حيث كان لكشف هذه الجزئية تأثير صاخب إيجابي أدّى إلى مضاعفة التعاطف والحزن عليها. لقد مارست شيرين مهنتها لمدة ربع قرن بتفان مطلق وبتماه كامل مع رسالتها الإنسانية في الذود عن الحقيقة التي بحثت عنها في كل خبر نقلته، وفي كل تقرير أعدته بمهنية وبصدق؛ وكانت في سبيل الدفاع عن قضيتها الأولى والأخيرة، عن فلسطين المكلومة الحرة، تتنقل من موقع إلى آخر، وهي تصرخ من خلال حنجرتها الدافئة وعدسات كاميراتها المتوجّعة، وتعلن أنّها “فلسطينية العينين والوشم، فلسطينية الاسم/ فلسطينية الأحلام والهمّ، فلسطينية الكلمات والصمت /فلسطينية الميلاد والموت”. لا أعرف إذا كانت شيرين تخبئ مسيحها بين أضلاعها وتنتخيه ساعة الخطر، لكنني عرفت، كما عرف العالم بأسره، أنها عاشت وهي فلسطينية الهواجس والكلمات والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم. وأعرف أنها كانت مثال المرأة الصالحة المؤمنة التي قاومت من خلال عملها، بإصرار وبمثابرة، الظلم والظالمين وساندت شعبها في مواجهة المغتصبين.

عرف العالم بأسره، أن شيرين عاشت وهي فلسطينية الهواجس والكلمات والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم

من المؤسف ألا نسمع موقف قداسة البابا إزاء هذه الجريمة، وهو الذي ذاع صيته بالدفاع عن المقهورين والفقراء والضعفاء؛ فبدلا عنه سمعنا ممثل الفاتيكان في إسرائيل يكتفي بشجب ممارسات قوات الشرطة الإسرائيلية داخل باحات المستشفى الفرنسي في القدس ومهاجمتهم للمشيعين ولنعش الراحلة فقال: “إن تصرفات الشرطة كانت غير مبررة ولم تأت بسابق استفزاز”، وأضاف أن إسرائيل انتهكت حق العبادة بشكل “صارخ ووحشي”!

إن صمتي في وجه هذه المواقف الهلامية أبلغ

وهل يعقل أن يكتفي مثلا بطريرك القدس للاتين، وعلى أثر عملية القتل، بنشر بيان كنيسته الموجه فقط إلى آل أبو عاقلة، معلنا أنه “ببالغ الأسى تلقيت نبأ الوفاة القاسية لابنتكم وابنتنا الحبيبة شيرين، بينما كانت تنجز بأمانة وبشجاعتها المعتادة واجبها كصحافية لتغطية المعاناة اليومية لأهل هذه الأرض، وإعطاء منظور آخر للنزاع المعقد وأشكال الظلم كافة، الذي يمزق شعوب هذه الأرض”. أحقا لا يشعر غبطته بأن هذه النصوص اللولبية تمس إنسانيتنا وتحتقر عقولنا؟ موقف معظم رؤساء الكنائس في القدس إزاء معاناة الفلسطينيين من قمع قوات الاحتلال والمستوطنين جدير بالمتابعة والنقاش؛ وقد برز تقصيرهم بشكل واضح خلال الجنازة؛ وما إصدارهم تلك البيانات التي تعتمد لغة فضفاضة وتعابير دبلوماسية، إلا برهان على ابتعادهم المتعمد والتاريخي عن هموم المسيحيين العرب، أبناء هذه الأرض وأصحاب الرسالة الأصيلة، التي كانت من دون شك شيرين أبو عاقلة حاملتها هنا على الأرض وستكون حاميتها هناك في دنيا الأماني والوعود.. ألم تكن بالنسبة لكنائسكم شيرين مسيحية صالحة؟

شيرين المسلمة، أخت الفوارس

لقد تصدت فلسطين بمعظم مؤسساتها ومنصاتها ودحضت موقف من أفتى بعدم جواز الترحم على غير المسلمين. وكانت صور تشييعها، بداية في مخيم جنين وبعده في نابلس ورام الله وقلنديا والقدس، شهادات فخر لفلسطين ولشعبها. وستبقى، في الوقت ذاته، مشاهد أوباش الشرطة، أبناء الشر، وهم يهاجمون النعش وحامليه، براهين على لا إنسانيتهم وشهادات على بطولة أبناء القدس الذين تحمّلوا ضرب الهراوات وصمدوا وحالوا دون سقوط النعش، وكأنهم يحملون روح فلسطين ويحموها من كل أذى.  انها وقفات فلسطينية لن يمحوها التاريخ؛ ومع ذلك هنالك ضرورة لتعقب بدايات تلك الفتوى والتحقق من حقيقة انتشارها في حياتنا اليومية العادية؛ فبعضنا يعلم أن فتوى تحريم الترحم على من ليسوا مسلمين والمشاركة في جنازاتهم منتشرة في عدة مدن وقرى فلسطينية، هنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبيننا، داخل المجتمع العربي في إسرائيل. لقد أتاحت لنا جنازة شيرين فرصة معالجة هذه الحالة والتصدي لآثارها المهلكة.

 شيرين “الجزيرة”

لقد قتلت شيرين رغم أنها كانت تلبس سترة الصحافة المميزة الواقية وخوذة بارزة. وفجع عالم الصحافة في أرجاء واسعة من العالم بسبب مقتلها، ولكن فاجعة زملائها في فضائية “الجزيرة” كانت هي الأكبر، خاصة بين من عرفها منهم شخصيا وعمل معها بشكل يومي وواجه مثلها المخاطر والتحديات نفسها. لقد كان لافتا حجم الجهد الذي بذلته “الجزيرة” في تأمين تغطية الجنازة من كل زاوية ممكنة، وعلى جميع المستويات، الميدانية والوجاهية مع عشرات، إن لم يكن مئات المعقبين والمعلقين والمحللين من عدة دولة في العالم. وكما فهمت من شهادات بعض الخبراء لم يكن ذلك ممكنا لولا أن استحضرت “الجزيرة” كما هائلا من المعدّات المتطورة والطواقم المؤهلة التي عملت بوفاء، على مدار الساعة لمدة ثلاثة ايام وتابعت تفاصيل مأساة مقتل واحدة من أبرز مراسيلها التاريخيين. كانت شيرين مراسلة مخلصة لفضائية الجزيرة ولم تغادرها حتى بعد أن تراجعت شعبية المحطة داخل فلسطين وغيرها من الدول العربية بشكل ملحوظ وواسع، وكما شاهدنا، فلقد أوفت “الجزيرة” أمانتها لابنتها الفقيدة، فردّت شيرين وهي في رحلتها نحو أجمل الفراديس، على الوفاء بوفاء، وكان أن استعادت “الجزيرة” شعبيتها بين الناس الذين واصلوا البكاء وانتظار تحقيق وعد الجزيرة بألا يذهب دم نجمتهم هباء.

 شيرين البلاغة

سيكون صعبا على أجناس البلاغة رسم صورة للأمل وهو يقتل على حافة العدم؛ فلنلجأ إلى “طباق” محمودنا، سيد البلاغة، الذي قال “قناصة بارعون يصيبون أهدافهم بامتياز. دما دما ودما، هذه الأرض أصغر من دم أبنائها الواقفين على عتبات القيامة مثل القرابين. هل هذه الأرض حقا مباركة، أم معمّدة بدم ودم ودم لا تجففه الصلوات، ولا الرمل. لا عدل في صفحات الكتاب المقدس يكفي لكي يفرح الشهداء بحرية المشي فوق الغمام. دم في النهار. دم في الظلام. دم في النهار. دم في الكلام”.
فوداعا يا “عروسا لا عريس لها”، يا من وقفت على عتبات القيامة، ويا من أشعلت بموتك بوارق الأمل في أرض اليباب.

*كاتب فلسطيني

 

 

فلسطين تنجب أيقوناتها

جواد بولس

 

قُتلت شيرين أبو عاقلة، صباح يوم الأربعاء الفائت، على أرض مدينة جنين الفلسطينية؛ وكانت قد وصلتها كي تغطي، لصالح فضائية «الجزيرة» عملية اجتياح أحد أحياء المدينة من قبل قوة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. لقد سقطت بعد أن اخترقت خوذتَها رصاصةٌ أطلقها قناص إسرائيلي، تعمّد وفقاً لجميع البراهين والقرائن والأدلة، قتلها. ومنذ انتشار نبأ الفاجعة تحاول إسرائيل التهرب من مسؤوليتها عن عملية اغتيالها، بيد أن شهادات العديدين من شهود العيان الذين كانوا على مقربة منها وفي مكان الجريمة، تؤكد أن عناصر جيش الاحتلال هم من أطلقوا النيران باتجاهها وتسببوا بقتلها.
من الواضح أن إسرائيل ستحاول، بشتى الوسائل والادعاءات، التملص من تبعات هذه الجريمة؛ لاسيما بعد أن شاهد زعماؤها ردات الفعل الجماهيرية الغاضبة التي اجتاحت، لا ساحات فلسطين وحسب، بل الكثير من مدن وعواصم العالم؛ وسمعت سيل شجوبات المسؤولين السياسيين في العديد من الدول العربية والغربية، على حد سواء، واستنكارات رؤساء معظم المؤسسات الحقوقية والمدنية في المجتمع الدولي.
من السابق لأوانه أن نتكهن كيف ستتداعى فصول هذه المأساة، بعد أن تجف الدموع في المآقي، وعند وقوع الفاجعة المقبلة؛ ولكننا، رغم رجوح التوقعات بأن «ضمير العالم» الغائب عن فلسطين المحتلة منذ عقود لن يصحو بسبب ولادة أيقونة فلسطينية جديدة، سوف تبقى مشاهد آلاف المواطنين، وهم يجتاحون شوارع وميادين المدن الفلسطينية، مدعاة للدهشة، ووقودا يتخزّن في مراجل شعب انتفض باكيا على ما كانت شيرين أبو عاقلة تعنيه في حياتها بالنسبة لهم.
لم يكن سهلا عليّ أن أستوعب حجم ردّات فعل الناس وحزنهم المتهاوي بعفوية صادقة منذ شيوع نبأ الوفاة؛ خاصة أن فلسطين متمرسة بتوديع شهدائها، ومنهم من سقطوا وهم يؤدون واجبهم الإعلامي. في البداية عزوت حالة الكآبة الشديدة التي أصابتني وأقعدتني، طيلة ذلك النهار، في البيت، إلى كوني أعرف شيرين شخصيا، منذ بداية عملها الصحافي، وقيامها بتغطية العشرات من القضايا التي تابعتها في مسيرتي، وإلى تراجيدية موتها؛ لكنني سرعان ما تنبهت إلى أن القصة ليست أنا ولا هم، بل هي شيرين: تلك الفتاة المقدسية الوادعة التي كبرت على طريق الآلام، وكيف أسكنها الناس في عيونهم، وكيف عاشت بهدوء في قلوبهم. لم تكن مشاهد العزاء ووداع الجثمان في جنين ونابلس ورام الله والقدس وغيرها من المواقع، هنا وفي الخارج، متوقعة ولا مسبوقة أو مفهومة ضمنيا، خاصة إذا تذكّرنا أن الضحية هي صحافية وأنثى ومسيحية. قد يحسب، في عرف العادة، جميع الشهداء سواسية في الرحيل وفي القصيدة والدعاء، ولكن ليس في فلسطين، فحين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات في أزقة مخيم جنين على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر. وكذلك عندما يسير الرجال وراء رايات وصور «أخت انطون» هاتفين لروحها الطاهرة، ترقص النجوم في سماء الشرق وينخرس الجهل؛ وعندما يحكي الشيخ الثقة كيف بكت اخته رحيل شيرين الأيقونة، تخاف الشياطين ويصحو في فلسطين شعب الجبارين.

حين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر

إنّهم، في إسرائيل، يخافون هذا العرس؛ بينما يحسب حلفاء إسرائيل، من عرب ومسلمين وغرب، حساباتهم، ويخشون أن تنفجر الحناجر وتصير مناجل، والأكف أبسطة من ريح. تتحدث الأخبار عن أن جهات دولية عديدة توجهت إلى حكومة إسرائيل وطالبتها بضرورة إجراء تحقيق في حادث مقتل شيرين أبو عاقلة ونشر نتائجه علنا. وقد ذكرت المواقع موقف الخارجية الأمريكية التي قال متحدثها الرسمي في تغريدة له: «نشعر بالحزن الشديد، وندين بشدة مقتل الصحافية الأمريكية شيرين ابو عاقلة، في الضفة الغربية. يجب أن يكون التحقيق فوريا وشاملا ويجب محاسبة المسؤولين». لا أثق بجميع هذه البيانات التي تمليها قواعد البروتوكولات الدبلوماسية وحاجة بعض الزعماء لتخدير شعوبها، لاسيما أولئك الذين يتشدقون بدفاعهم عن الحريات الأساسية، وبضمنها حرية الصحافة وسلامة الصحافيين. وكي لا نطيل الحديث في هذه الجزئية، يكفينا أن نستحضر موقف الإدارة الأمريكية إزاء مقتل المسن المواطن الفلسطيني عمر أسعد، قبل أربعة شهور بالتحديد، ومطالبتها إسرائيل بالتحقيق في الحادث ومحاسبة المسؤولين عنه. فحينها، وعلى أثر افتضاح وقوع تلك الجريمة، أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن «الوزارة على دراية بموت الفلسطيني الأمريكي عمر أسعد، الذي يبلغ من العمر ثمانين عاما، بعد اعتقاله وتكبيل يديه، على أيدي سلطات الاحتلال الاسرائيلي.. لقد وجهت استفسارا إلى الحكومة الإسرائيلية بشأن ملابسات وفاة عمر أسعد ونحن بانتظار الرد».
هل تتذكرون تفاصيل تلك المأساة؟ لقد مرّت أربعة أشهر عليها ولم تتخذ أمريكا أية خطوة باسم الحقيقة، أو دفاعا عن حقوق مواطنيها، فهل هناك من يعتقد أن هذه الأمريكا سوف تغيّر جلدها وتتحرك بسبب اغتيال أيقونة فلسطينية اسمها شيرين، فقط لأنها تحمل الجنسية الأمريكية أيضا؟ لو سئلت لنصحت أصحاب المصلحة والشأن بأن يرفضوا كل محاولات إقامة أية لجنة تحقيق، ولنصحت في الوقت نفسه بإعداد ملف فلسطيني يوثّق لعملية الاغتيال بصورة مهنية ومتكاملة، والذهاب فيه إلى المحاكم الدولية والأمريكية؛ فمجرد القبول بفكرة إقامة أية لجنة تحقيق سيثير الشك في هوية القاتل، وهم عناصر جيش الاحتلال، ويضعضع صحة الرواية الفلسطينية، وهي واضحة وضوح الدم الذي سال من رأس شيرين.
أصغيت لعشرات المواطنين والمواطنات الذين شرقوا بدموعهم وهم يحاولون أن يصفوا مزايا شيرين التي عرفوها؛ وسمعت شعراء حوّلوا حزنهم عليها شعرا يبكي «العكاز والحجرا» حتى جاءت ابنة مخيم جنين السيّدة أم أحمد فريحات، ولخصت لنا أهم فصول هذه الحكاية؛ فشيرين، كما حكت دموع الناس، كانت واحدة من أهل هذه الأرض، إلى جانبهم ساعة يخوضون معاركهم، وتنبش، مثلهم، بأظافرها، الأنقاض لتخرج ضحاياهم من تحتها. وكانت تعطش مثل أفقر وأصلب البسطاء ولا تجد نقطة ماء لتشربها، وتلتحف ترابهم برضا وتحتضن أوجاعهم وتنام، جنبا إلى جنب، على شوكهم. كنت أسمع أم أحمد بصمت باك، وبجانبي تجلس ابنتي وصديقاتها، وقد «تولى الدمع عنهن الجوابا» فلما هتفت أم أحمد «من جنين الأبية طلعت شمعة مضوية/ يا شباب الله الله، هاي شيرين مش حيا لله» نظرت نحوهن وسألت ابنتي، لماذا هي بالذات؟ ماذا كانت تعني لكنَّ؟ حبست أنفاسها برهة؛ ثم انطلقت وكأنها تستعيد ماضيا يسكنها بين الجفون، فقالت: «إنها أيقونة جيلنا؛ لقد وعينا على طلّاتها كفرس أصيلة تتنقل من موقع إلى آخر وهي محملة بهم فلسطيني صادق. كانت صحافية مهنية من دون ابتذال، وكان الحزن في عينيها رسائل وفاء تنقلها باسم كل حر ومقاوم لظلم الاحتلال. فلسطينية من دون نواقص ولا زوائد، حتى أننا لم نكن، قبل استشهادها، نعرف أنها قد ولدت في عائلة مسيحية». قالت هذه الجملة بصوت خافت وكدليل على أصالة شيرين، وصمتت ثم أكملت: «كما أنها كامرأة كانت لنا قدوة في الشجاعة وفي كبريائها الواثقة.. لقد كنا مرارا نقف أمام مرايانا ونقلدها ممسكين ميكروفونا وهميا ومرددين: «معكم شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، من القدس المحتلة»؛ ثم أنهت وقالت: «كنا، أنا وأبناء جيلي، إناثا وذكورا، نحلم أن نصير مثلها». وتمنت، بصوت مخنوق، ألا يذهب موتها سدى وتمتمت من قصيدة الشاعر درويش: «تُنسى كأنك لم تكن/ تُنسى كمصرع طائر/ ككنيسة مهجورة تُنسى/ كحُب عابر، وكوردة في الليل… تُنسى». وبكت.
للحقيقة، أنا أيضا أخاف من الآتي، وأشك في ما إذا سيؤدّي موت شيرين إلى تغيير في سياسات الدول تجاه الاحتلال الإسرائيلي وموبقاته، أو إلى هزة في وسائل الإعلام العربية والعالمية، أو حتى إلى الكشف عن القاتل؛ لكنني على ثقة أن ما شاهدناه، بعد موتها في فلسطين وغيرها، سيبقى نذورا مدفونة في الصدور وفي الأرض ولسوف يصير ذات فجر وعودا وعواصف مهما طال ظلم وظلام الاحتلال وطفَح بطشه.
كاتب فلسطيني

 

 

لغزة من

قلوبنا سلام ورجاء

جواد بولس

 

استحوذ خطاب القيادي يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة، الذي ألقاه يوم السبت الفائت، أمام جمهرة من الشخصيات الإسلامية والوطنية وممثلي المؤسسات والأطر السياسية والاجتماعية، على انتباه معظم سياسيي الدول، الذين يتابعون تداعيات الأوضاع الراهنة في فلسطين والمنطقة. لا يكثر القيادي السنوار في طلّاته الإعلامية، ولا في إلقاء خطاباته أمام الحشود؛ وعندما يختار أن يفعل ذلك تكون الرسالة الأولى في توقيت خطبته والإشارة إلى استشعاره بأن خطبا جللا قد يقع في كل لحظة؛ ويبقى المخفي، كما تعرف القدس، أوجع وأعظم.
لقد تعمّد السنوار توجيه رسائله وتحذيراته، إما بشكل مباشر أو مضمر، إلى عدة عناوين محلية، وقطرية وعالمية، وبرز في مقدّمتها، بطبيعة الحال، قادة إسرائيل، من سياسيين وعسكريين، وقادة الدول العربية والإسلامية، وفي طليعتهم دولة مصر، كما خصّ جميع الفلسطينيين، بمن فيهم نحن، المواطنين العرب في إسرائيل.
لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى جميع محاور خطابه، رغم أهميتها، وسأكتفي بمعالجة أقربها الينا؛ فرسالة السنوار إلى المواطنين العرب، خاصة تلك التي وجّهها إلى أعضاء القائمة الإسلامية الموحّدة، وتحديدا إلى رئيسها منصور عباس، تعدّ أكثر من عتاب معقول بين المؤمنين الأخوة؛ وتقترب إلى كونها انذارا ساخنا وتدخلا لافتا يستدعي المناقشة بهدوء وبمسؤولية؛ فهو حين يصرّح بأن «شبكة الأمان التي تمنحها القائمة الموحّدة للحكومة الإسرائيلية، تشكّل جريمة لا تغفر، وبأن عضوية القائمة الموحّدة في الائتلاف الحكومي تعدّ تنكّرا لدين أعضائها ولعروبتهم» يعلن بوضوح عن طبيعة فهم حركة حماس لاشتباك علاقتها مع العرب المسلمين في إسرائيل، ويفترض ضرورة أن تتوافق هذه العلاقة بشكل جوهري مع العقيدة الدينية، كما تترجمها وتؤمن بها حركة حماس وقادتها، وأن تتكامل معها على مستوى النهج وفي جميع وسائل تمكينها النضالية. وإذا ما أضفنا لهذه الجزئية العامة نعته للدكتور منصور عباس «بابي رِغال» (وهو اسم الشخصية التي صارت رمزا عربيا موروثا ينعت به مَن يخون قضية قومه من أجل مصالحه الضيّقة والشخصية، كما تعاون هذا الرجل مع أبرهة الأشرم، ملك الحبشة، في حملته على الكعبة بغرض تدميرها في السنة التي ولد فيها الرسول محمد وعرفت تاريخيا «بعام الفيل») نتحقق من ضعضعة مكانة ما كان معروفا بيننا مجازا بعهدة «الستاتوس كوو»؛ وهي مجموعة قواعد سلوكية سياسية وقيم وطنية واجتماعية، درجت فئات شعبنا الفلسطيني، بينها وبين بعضها، على احترامها ومناقشتها محليا، لاسيّما إذا تعلّق الأمر بقضايا وجودية تخص علاقتنا كمواطنين فلسطينيين مع الدولة. وللنزاهة أقول: لم تكن حركة حماس متفرّدة في نقض تلك العهدة، أو ربما ليست هي أول من اخترقها جهارة وبشكل عملي وتنظيمي متعمّد؛ فقد سبقتها فصائل فلسطينية أخرى وقيادات دول عربية مختلفة عملت جميعها، منذ سنوات طويلة، على استمالة معظم قيادات مجتمعنا العربي، السياسية والاجتماعية والدينية والمدنية، ونجحت باحتضان بعضها من خلال عمليات تدجين أفضت إلى خلق حالات من «الانتماءات الرخوة» وجزر بشرية مرتبطة بمن يسمّنها ويحافظ عليها ويشتري ولاءاتها بآهاتها وفق أنظمة «دكننة» متستر عليها. لقد برّر البعض، في حينه، الشروع ببناء تلك العلاقات بالتماهي الأيديولوجي، أو لاحقا، تحت ذريعة «التواصل الإنساني» وهي قضية محقّة وحارقة؛ لكنّ تجنيدها، كما حصل في تلك الأعوام، بحجة اختراق جدارات شام الأسد، كان، كما تبيّن فيما بعد، مجرّد بدعة أدّت إلى زعزعة قلاع حصانتنا، ثم إلى تصدّعها بعد اعتماد تقليعات جديدة من التواصل، التي سرعان ما صارت تصرف على شكل مكرمات سلطانية أو أميرية أو ملكية، والتهافت عليها، مرّة باسم دعم طلّابنا، ومرة إنقاذا لمرافقنا الحيوية، ومرة لتنمية مؤسساتنا المدنية، أو باسم التصدي لزحف اليمين الإسرائيلي الفاشي؛ وهكذا حتى وصلنا عمليا إلى ترسيخ وتمتين ظاهرة تشابك مصالح الحركات الإسلامية، على اختلاف رؤاها ومشاريعها التفصيلية، مع أخواتها العربية والإسلامية ومع الأنظمة العربية والإسلامية والغربية الراضية عنها، التي شكّلت لتلك الحركات مظلات ودفيئات في بلاط آل سعود، أو تحت أجنحة السلطان أردوغان، أو داخل قصور أمراء الخليج، أو كما سمعنا في خطاب القيادي السنوار، في حضن الجمهورية الإسلامية الايرانية.

نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا

هنالك حاجة لدراسة هذه المسألة ولاستخلاص النتائج والعبر منها؛ فاليوم لسنا في معرض وضع الإصبع متى وكيف حصل الاختراق الأول في منظومة الكوابح التي حمتنا من هذا التشرذم أو الاحتضان، وحافظت على هويتنا الواحدة الجامعة؛ لكن قد يكون الاعتراف بالواقع أولى الخطى نحو الخلاص، ومراجعة ما فعلته كل حركة أو مؤسسة وما رضي به كل حزب في هذه القضية، ستكون الشرط الذي قد يعيد لهذه الهيئات والأحزاب رشدها وشرعية حقها في مناقشة مواقف بعض الحركات الإسلامية كما عبّر عنها القيادي السنوار، بكل حزم ووضوح ومباشرة، وجميعنا يعرف أن هناك من يصغي إليه ويؤيده بيننا.
من يراجع موقف حركة حماس من «القائمة الإسلامية الموحدة» سيجد في الخطاب الأخير لهجة تصعيد بارزة، تجاه قيادات الحركة الإسلامية الجنوبية خاصة تجاه الدكتور منصور عباس. لا أعرف باليقين ما هي مسببات هذا التغيير، وما جعل حماس تختار خطاب التخوين المباشر بدل المناقشة السياسية أو المحاورة الدعوية؛ خاصة إذا انتبهنا إلى أن «الخيانة» في كثير من تجلّياتها، لم تعُد موضع إجماع بين أفراد الأمة أو بين مللها ونحلها. لكنني أشعر بأن حركة حماس، ونظيراتها في الحركات الاسلامية السياسية المتآخية، بدأت تشعر بخطورة نهج الحركة الاسلامية الجنوبية عليها؛ لاسيما في الظروف الخاصة التي يعيشها مجتمعنا العربي في الداخل، الذي من أجل رغده، كما تدّعي القائمة الموحدة، تصرّ على المضي مع حكومة بينيت – لبيد، وهي معززة بفتاوى مشايخها وبتبريرها الذرائعي بأنها تفعل ذلك لمصلحة المؤمنين والفقراء وأبناء الشعب. لقد ووجهت الحركة الإسلامية الجنوبية بانتقادات لاذعة أطلقها شيوخ وقادة في الحركة الإسلامية الشمالية المحظورة من قبل حكومة إسرائيل، وعلى الرغم من صراحة ما قيل وقساوته، نجحت قائمتها في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وهناك من يدّعي بأن شعبيتها تزداد رغم الهجوم عليها وتخوين طريقها بسبب مواقفها النفعية. قد تخشى حركة حماس أن يصيب داء الالتباس «معادلة الهدنة» بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، التي يتم الحديث عنها في الأخبار من حين لآخر؛ وتخشى أن يُستغل ذلك الالتباس، بشكل مقصود، في تسويغ علاقات بعض المفاعيل والجهات السياسية العربية والفلسطينية مع إسرائيل، خاصة بعد أن نجحت الحركة الإسلامية الجنوبية، من خلال اعتمادها على نصوص ملتبسة، بتحوير وتشويه مفهوم المواطنة، و»تحريره» من ضرورة تحقيق حقوقنا الوطنية، كرديف لتحقيق حقوقنا المواطنية. لقد وضع هذا الالتباس المواطن المسلم العادي في إسرائيل وفي غيرها من المواقع، أمام معضلة جديدة لا يبدو أن الحسم فيها سيكون قريبا أو سهلا، حتى إذا اتهمت حماس ومن يؤيدها منصور عباس بكونه «أبو رغال» هذه المرحلة؛ فللحركة الإسلامية الجنوبية مكانة ولها امتداد شعبي محسوس وتدعمها زعامات وقيادات محلية بضمنها رؤساء مجالس وبلديات معروفين.
لغزة بحرها وسنوارها وحلمها، ولنا، نحن العرب في إسرائيل، ما لنا وما علينا؛ وكم ناقشت وناقش غيري مواقف «القائمة الموحدة الإسلامية» واعتبرناها مضرة بمصالح مجتمعنا؛ لأنها علاوة على ترسيخها لسابقة سياسية خطيرة، ستفضي مع نهاية التجربة، إلى تقوية القوى اليمينية الفاشية. وعلى الرغم من انتقادنا الشديد لمواقفها لم ألجأ إلى تخوين أعضائها وقياداتها، لأننا ببساطة، كما قلت سابقا، نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا. للخيانة مقاسات ومساطر، وجميع هذه كانت، يوم كنا نصحو على صوت الندى، واضحة وضوح الجرح في جبين الفجر؛ واليوم صار كل شيء زائغا، حتى الربيع في شرقنا صار يخشى ضوء القمر. لقد بدأت مأساتنا حين اختلّت معاني التحرّر ومزّق الوطن، قبل وقوع منصور عباس عن حردبة الأمل. وكبر جرحنا حين رضينا بأن يبقى من سقطوا عن صهوات العزة والكرامة قادة أحزاب وطنية وأصحاب رأي وقلم، وحين صار لكل معبد دين وجيش وفقهاء ودولة وعلم. للخيانات رائحة الملح والعرق وصوت يشبه هسيس الجن لن تخطئه حين تسمعه حتى لو كنت ساكنا في بلاد العسل. والخيانات تتكاثر بيننا كالنمش على صدور السحاب، وتختبئ كحبات الرمل تحت الأظافر، وفي عرى معاطف «الخواجات» وعميقا في جيوب الطغاة وتحت وسائد السهر. سيحمل منصور عباس وحركته وزر ما فعلوا، وسيحاسبهم مجتمعهم إن كانوا مخطئين أو جناة بحقه؛ وإلى أن يتم ذلك، أو عكسه، دعونا من إغواء الاستعارات ووقعها المؤذي. أولم نكن وحدنا، نحن أبناء الشمس، حين رفونا للتاريخ ملاءات من ورد حكاياتنا وسقينا الينابيع دموع الأمل؟
كاتب فلسطيني

 

 

جمعة القدس الحزينة

جواد بولس

 

لن يسمع العالم، بأغلب الظن، بتفاصيل القضية التي رفعَتها يوم الثلاثاء الفائت مجموعة صغيرة من المواطنين العرب المسيحيين المقدسيين، بالنيابة عن بعض المؤسسات الأرثوذكسية المقدسية، وبالأصالة عن أنفسهم، ضد قرار شرطة إسرائيل القاضي بتحديد أعداد المشاركين في احتفالات عيد الفصح التي ستجري في رحاب وداخل كنيسة القيامة، وأهمها صلاة «الجمعة العظيمة» وصلاة سبت «فيض النور» وقداس «أحد القيامة».
أكتب مقالتي قبل صدور قرار المحكمة العليا، التي لجأ إليها الملتمسون باسم الدفاع عن حرية العبادة والحركة في مدينة محتلةٌ كل أركانها؛ لأنني أفترض أن هذه المحكمة ستبقى، كما كانت، بعيدة عن إحقاق العدل مع الفلسطينيين، ولأنني على قناعة بأن مشكلة المواطنين الفلسطينيين المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه الكنيسة اليونانيون – الذين يتسيّدون على كنيسة القيامة وعلى أهم الكنائس المسيحية الأخرى في «الأرض المقدسة» ويبسطون على جميعها سلطتهم المطلقة – وتنتهي في مواجهة قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بذريعة المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.
لن أستعيد، في عجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل البلاد العرب المسيحيين ومن استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة السياسيين وتعاون رجال إكليروس عاجزين، وتواطؤ حفنة من أبناء هذه الكنيسة المنتفعين؛ لكنني أؤكد مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة أحيانا، التي تنتاب كل مسيحي حر حين يدخل هذه الكنائس التي يتحكّم فيها كاهن أو كهنة يونانيون، خاصة في كنيستَي القيامة (أم الكنائس) والمهد. وهذا هو بيت القصيد في هذه الحكاية. فالقضية، إذن، أكبر من كونها معركة على ضمان حرية العبادة والحركة لسكان حارة النصارى أو للوافدين إلى البلدة القديمة في هذه الأيام، ورغم أهمية هذه المعركة القضائية التي يخوضها بعض الغيورين على القدس، يجب أن نتذكّر أن الفصح، عند مسيحيي الشرق يُعدّ من أهم الأعياد، لا بل هو العيد الكبير، عيد الأعياد وموسم التهاليل والفرح العظيم؛ وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يعتبر القبلة المشتهاة عند جميع المؤمنين من مسيحيي العالم. لقد دافع الكثيرون من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم الإنسانية وعن هويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وحاولوا، رغم جميع العراقيل التي واجهوها، تحرير كنائسهم وحماية عقاراتها وأوقافها؛ لكنهم فشلوا لأسباب عديدة، فبقيت معظم تلك الكنائس وممتلكاتها، الروحية والمادية، تحت حكم أغراب مستعمرين جاؤوها في حقب تاريخية رمادية، وفي ظل أزمات عانت منها مجتمعاتنا المحلية، فأسروا صليبها واستحوذوا على مسيحها؛ على مهده وعلى قبره، وتنمّروا على رعاياها العرب من أهل البلد.

دافع الكثير من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم الإنسانية وهويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وعن كنائسهم وعقاراتها وأوقافها؛ لكنهم فشلوا

ليالي شرقنا طويلة «فكليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصب»؛ هكذا كتبت قبل أكثر من عقد وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني، وأمانينا كالنجمات معلقة على أهداب السحاب. لم نحب النابغة أكثر من أترابه من فحول ذلك الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه «أشعر الناس إذا رهب» وأنه «لا يرمي إلا صائباً» وهو الذي أجاد ووصف «ليلنا البطيء الكواكب». لقد كنا في الأمس صغاراً وكانت صباحاتنا كصباحات صغار اليوم، كلّها نزوات؛ وكبرنا فصارت ليالينا، كليالي كبار الأمس، كلّها شهوات، وبقيت جُمعاتنا كجمعة الذبياني حزينة وعظيمة وأمانينا معلقة على حدبة العمر. لا حاجة لتغيير ما كتبت حينها، قبل أكثر من عقد؛ فالخلاصات في أرضنا السليبة تبقى مثل «بنات الجبال»؛ و»جمعة القدس» تأتينا منذ ألفي عام بفرحها الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في زمن توقف منذ دُقّت المسامير في راحتي «ابن الإنسان» بعد أن علّقه الرومان، أباطرة ذلك العصر، على خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا فنالوا. لقد كانت أيام خَلِّ وما زالت؛ ففتشوا عن الحكمة في هذه الرواية، ستجدوا أبناء فلسطين يتجرعون اليوم خلّ الطغاة كما تجرّعه ابنها بعد أن اتهموه بالكفر وبالتمرد وسجنوه وعذبوه وحاكموه، فمات مصلوباً لتروي دماؤه قحل الزمن، ولتبقى كلماته نوراً في الأرض وغرساً في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء. لقد وقف أسير فلسطين، ابن ناصرة الجليل، ولم يعترف بشرعية محكمته وقد اتهموه بجناية «التجديف» فاضطروا إلى نقله لبلاط الوالي الروماني كي يقاضيه هذا بتهمة التمرد على سلطة قيصر؛ بعد أن تبين للكهنة اليهود أعضاء «السنهدرين» أن روما لن تقبل اتهامه بجناية التجديف، لكونها تهمة مبنية على المفاهيم الشرعية لتلك الطائفة اليهودية.
لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم تعذيبه، التعاطي مع «المحكمة». لن أسترسل بتفاصيل أسبوع الآلام ونهايته بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وكان يعرف أن الإجراءات بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على سلطتهم ومواقعهم، فلفقوا القضية ضده. لم تكن أحلام صاحب الفصح من شوك ولا تعاليمه سفسطة، وقد أوجزها بموعظة صارت تعرف «بموعظة الجبل» التي وصل صيتها حتى أورشليم، فجاء أهلها «رقاق النعال» يستقبلونه بالريحان على مشارفها وبالأهازيج وبالسباسب، وهي سعف النخيل في لغة النابغة الذبياني وأهل عصره. لقد سموه عيد الفصح؛ عيد العبور، عيد التجاوز والانعتاق، عيد «القيامة» فمن يسر على درب الخير وعمل الصالحات ينجو ويعش اسمه إلى الأبد. هكذا آمنا صغاراً، من باب الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه المجهول والمطلق. فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددوا فصار «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به». ثم كبرنا ولم يبقَ في صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني البسيط، فأسكنا «القيامة» في بيضة وأعطيناها للأطفال كي يلهوا ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك فحوّلناه كعكاً من قمح هذه الأرض فطحناه وعجناه وحشونا بالتمور وبالجوز والسكر. وإسفنجة الخل استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها بأجواء كلها إلفة عائلية معمولا ليؤكل ويمحو طعمه، ولو ليوم واحد، طعم الخل والعلقم. إنها تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم المنقول كوسائل إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم القيامة عليها عسيراً أو عصياً.
عيدنا اليوم كعيد الذبياني، ولا يختلف عنه عيد «أبي الطيب»: فرح حامض وبهجة عابرة؛ همٌّ ينام ولا يترك وسادة لنوم حامله. إنه عيد الحياة والفداء والتضحية؛ عيد الحب والصفح؛ تماماً كما أوصى وهو على ذاك الجبل: «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا لمبغضيكم». لقد قالها ومشى إلى أورشليم، والنهاية كانت كما جاء في الكتب. واليوم، في هذه الجمعة الحزينة، تبكي عذارى أورشليم على دروب الآلام كما بكت قبل ألفي عام، وكما بكت معهن مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتلون دستور الإيمان عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض والكعك والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم. لقد ذهبت روما وبقي «قوس بيلاطس البنطي» في القدس البهية شاهداً على محاكم الظلم وعلى معاني الفداء، وبقيت فلسطين، في الفصح، كما كانت: بحة المدى وصاحبة فجره الدامي، وقطرة الندى؛ وإن غفا على جفونها الوعد حتماً ستصحو ذات نيسان ليحتضن أبناؤها «قاف» القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.
فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.
كاتب فلسطيني

 

 

والقول كما قال أيمن

في باب العامود… ولكن !

 

جواد بولس

نشر النائب أيمن عودة يوم الأحد الماضي شريط فيديو قصيرا، بطول دقيقتين ونصف الدقيقة فقط، كان صوّره وهو يقف أمام أشهر وأكبر المداخل إلى مدينة القدس القديمة المحتلة، المعروف باسم «باب العامود».
ولم تتوقف حملة التحريض الإسرائيلية ضد النائب عودة رئيس القائمة المشتركة، منذ لحظة نشر الفيديو حتى يومنا هذا، ولم يشارك فيها أبواق اليمين الصهيوني المنفلت ووسائل إعلامهم وحسب، بل انضم إليهم أيضا قادة الأحزاب الصهيونية وإلى جانبهم معظم وسائل الإعلام العبرية ومن يعملون فيها تحت صفة صحافيين؛ وهم من هذه المهنة براء.
لقد نشر النائب عودة شريطه المصوّر بعد أن التقى مع عدد من المواطنين الفلسطينيين المقدسيين، الذين اشتكوا أمامه من اعتداءت بعض المواطنين العرب من حملة الجنسية الإسرائيلية المجنّدين في قوات أمن الاحتلال، على المصلّين المقدسيين وعلى غيرهم، وعلى المواطنين الذين يسكنون داخل البلدة القديمة. كان بمقدور النائب عودة ألا يعير الشكوى أي اهتمام، وأن يقتدي «بحكمة» القادة الوسطيين، أو بما يفعله باعة التنظير أو الوعّاظ الذرائعيون حين تكون نجاتهم الشخصية دوما بترداد النصائح «الفارهة» أو الشعارات المجوّفة، وأهمها في هذا الزمن: شعار «حايد عن ظهري بسيطة»؛ لكنه، وهو الذي تربى في أحضان حزب وجبهة رفع قادتها، منذ بداية التكوين، شعار: لا للاحتلال وموبقاته ولا للخدمة في قوّاته، قرر أن يخاطب جميع هؤلاء الشباب وعائلاتهم، على قلة أعدادهم، ويقول لهم: «من العار أن يقبل أي شاب، أو أهل أي شاب، أن ينخرط ضمن ما تسمى قوات الأمن.. قوات الاحتلال التي تسيء لشعبنا وأهالينا ولمن يذهب للصلاة في المسجد الأقصى» ثم أضاف مؤكدا، أن «موقفنا التاريخي هو أن نكون مع شعبنا المظلوم من أجل إنهاء هذا الاحتلال المجرم، ومن أجل أن تقوم دولة فلسطين وتعلق أعلامها هنا على أسوار القدس وليحل السلام في أرض السلام»؛ ثم توجه لمن يحمل سلاح الاحتلال من هؤلاء الشباب وأهاب بهم قائلا: «ارموا السلاح في وجوههم، وقولوا لهم: مكاننا ألا نكون جزءا من الجريمة والإساءة لشعبنا.. مكاننا الطبيعي أن نكون مع الحق والعدل، وجزءا أصيلا من الشعب العربي الفلسطيني..». لم يختلق النائب أيمن عودة مسألة معارضة الجبهة الديمقراطية للسلام، وقبلها الحزب الشيوعي، للاحتلال الإسرائيلي، ولا موقفهم التاريخي من قضية التجنيد لما يسمى قوات الأمن الإسرائيلية، على جميع مصنفاتها؛ وعلى الرغم من كونها مواقف مدرجة تحت ما تصح تسميته «أمهات المواقف» المجمع عليها وطنيا، نجد أن بعض الجهات العربية المحلّية، مؤسسات وشخصيات، تجرأت على استهجان مواقفه، أو حتى على اتهامه باللجوء إليها من باب المزايدة السياسية والتهوّر غير المحسوب الذي سوف يغيظ ساسة إسرائيل ويؤلبهم علينا، نحن المواطنين العرب، لاسيما في هذه الأوقات المحمومة. معظم العرب الذين انتقدوا أو هاجموا النائب عودة كانوا مدفوعين بنوايا سيئة ومن أجل مآرب سياسية مفضوحة؛ ولكن قلة غيرهم فعلوا ذلك بسبب خلافاتهم السياسية معه واعتراضهم على طريقه في العمل السياسي وإصراره على إيجاد الشركاء اليهود والصهاينة من أجل الوقوف معهم ضد الاحتلال وضد الفاشية على حد سواء. وقد أصاب النائب أيمن عودة في عدم رده على جميع هؤلاء، فالمرحلة بحاجة إلى رص الصفوف لا إلى تفريقها. ولكن بعيدا عن تلك المشاهد، علينا أن نعترف بأن تنامي هذه الظاهرة وتعدد الأصوات التي بدأت تدافع عن «حق» البعض بالتجند للجيش، أو بالانخراط في أذرع الأمن على تنوّعها، تشكّل برهانا على مقادير التآكل القيمي الذي أصاب مجتمعاتنا وشواهد على انهيارات واضحة في منظومة الكوابح الوطنية والمحاذير الاجتماعية السياسية، التي كانت قائمة منذ البدايات، والتي أدّى انهيارها إلى زعزعة «محرّمات» كثيرة، لم يجرؤ أحد في الماضي على أن «يغمز جنباتها» أو أن يتحدّاها كإرادة لمجتمع كامل. ولكم في القصص الصغيرة عبرة.

ما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من «الانتماءات السائلة» وتعاني من تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية

كنت من أبناء الجيل الأول الذين ولدوا بعد النكبة في قرية كفرياسيف الجليلية؛ وما زلت أذكر كيف كان الالتحاق بقوات الأمن الإسرائيلية، على جميع فروعها، سواء كان ذلك انصياعا لفرض التجنيد الإجباري، أو الانضمام الطوعي لقوات الأمن، أو كمصدر رزق وعمل، محظورا كحالة بديهية يحترمها أهل القرية جميعهم، كما في سائر القرى الشبيهة بقريتي. وعندما أقول جميع أهل القرية، أتذكر أن أحد أبنائها كان قد انخرط ليعمل سجّانا في ما يسمى مصلحة السجون الإسرائيلية؛ وكان انضمامه في وقتها استثناء خارجا عن المألوف. ولأن ذلك المواطن كان يعرف تلك الحقيقة، حرص ألا يعود، بعد انتهاء ورديات عمله، إلى القرية بزيّه الرسمي، فكان ينزل من الباص قبل وصوله إلى تخومها ليقوم بتغيير ملابس «العمل» ويدخلها بلباسه المدني كيلا يستفزّ مشاعر أبناء قريته عامة. هكذا كانت «الدنيا» عندما كانت هوّياتنا مثل جيناتنا أصيلة، طبعا وتطبّعا، وكانت المحاظير والمحاذير هواء تتنفسه الأجيال وتحيا بهديه. لقد حصر النائب أيمن عودة كلامه في «قوات الأمن» بتعميم مقصود؛ وأشار لدور تلك القوات في تكريس الاحتلال وقمع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لاسيّما في القدس الشرقية، التي تواجه فائضا من وجبات القمع والاضطهاد اليومي. ومن تابع تصريحات النائب عودة شعر بأنه كان واعيا لتشعّبات مسألة الخدمة في قوات الأمن، داخل المجتمع العربي، وللتصدّعات التي ألمّت بها في العقود الأخيرة، خصوصا، إذا تحققنا من أعداد المواطنين العرب الذين انضموا خلال السنوات الأخيرة إلى الأجهزة الأمنية على فروعها: الجيش، الشرطة بكل أقسامها، حرس الحدود، مصلحة السجون، النيابات العامة وغيرها من المواقع التي كانت بمثابة «مناطق محرّمة» يمنع الاقتراب منها والعمل فيها، مثل وزارة الخارجية وسلكها الدبلوماسي، وأجهزة القضاء على درجاتها. فهل نحن إزاء انهيارات جدّيّة، أم أننا نشهد حالة مستمرة من الانصهار الطبيعي الذي يجب أن يحصل بين أي دولة ومواطنيها؟ لم يتطرق النائب أيمن عودة إلى هذه القضية، فمن سيجيب على هذه الأسئلة؟
كنت في الماضي قد انتبهت ونبّهت مما تضمره سياسة الدولة التي بدأت تعتمد أنماطا جديدة من مظاهر الاحتواء السياسي؛ وأشرت، حينها، إلى ما تولّده بيننا تلك السياسات من «المعاضل السياسية» التي ما لم نواجهها فسيكون تأثيرها في مستقبل علاقتنا مع الدولة وفي شروط حياتنا في قرانا ومدننا كارثيا. وذكّر إن تنفع الذكرى؛ فقد تناولت هذه المسألة بعد أن اشتكت قيادات المجتمع العربي السياسية والمدنية، قبل سنوات عديدة، من ظلم إسرائيل وعدم استيعابها لمواطنيها العرب في الوظائف والشواغر التي تتحكم فيها مؤسسات الدولة، وطالبتها بضرورة تحقيق المساواة الفورية والتامة. حينها قلت إنه لا يختلف اثنان حول عنصرية إسرائيل تجاه مواطنيها العرب؛ لكنني لم أفهم كنه المطالبة كما أعلنتها القيادات وقتها. فهل فعلا نحن نريد مساواة كاملة في جميع ميادين العمل المتاحة في الدولة؟ أنريد، حقا، مساواة وظيفية بكل وزارة ودائرة ومؤسسة عامة وحكومية؟ وأضفت: هل نريد، مثلا، خمس ما تتيحه «الكنيست» من وظائف في جميع مواقعها؟ وهل يشمل ذلك حصّة كاملة في حرس الكنيست؟ أو هل يعتبر عمل المواطن العربي في وزارة الشرطة أمرا مسموحا؟ وهل يجب أن نطالب بأن يكون قائد الشرطة العام أو نائبه مواطنا عربيا؟ أم علينا أن نكتفي، مثلا، بالمطالبة بتعيين قائد شرطة عربي للمنطقة الشمالية أو في النقب؟ أو قائد شرطة عربي لمكافحة العنف والمخدرات؟ هل تملك قياداتنا موقفا إزاء هذه التساؤلات؟ أم سيعتبر كل من يخدم في الشرطة خارجا عن إجماع مجتمعه أو منحرفا أو ربما خائنا؟ وماذا عن آلاف المواطنين الذين يخدمون كسجانين وضباط كبار في مصلحة سجون الدولة؟ وتساءلت أيضا، هل يسمح للمحامين العرب أن يوظّفوا لدى نيابات الدولة وأن يتدرجوا فيها حتى أعلى المناصب؟ وهل من حقنا أن نطالب، كمواطنين مصرّين على نيل حقوقنا المدنية كاملة، بأن يكون النائب العام للواء الشمال أو غيره عربيا؟ وهل نريد حصصنا في جميع المرافق والشركات الحكومية مثل البنوك والموانئ والجمارك وسلطات الضرائب وغيرها وغيرها؟
لن أستعيد كل ما كتبت في الماضي، فجميع تلك التساؤلات لم تنل أية عناية من أية جهة أو مؤسسة مدنية أو حزب أو حركة أو قيادة أو مثقف. ومضت السنون وما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من «الانتماءات السائلة» وتعاني من تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية التي أصبح يمثلها في حياتنا اليومية المواطن العربي «الشاطر» الجديد، الذي لم يعد يعنيه أن ينزل من الباص قبل دخوله القرية متحاشيا خدش مشاعر أهلها، بل يتعمد أن يدخلها متبجحا «كرامبو القبضاي» وبارودته ملقاة على كتفه.
كاتب فلسطيني

 

 

(حروب اليهود) في

الكنيست – المعركة الأخيرة

جواد بولس

 

نحن على أبواب إسرائيل أخرى؛ مملكة يهودا والسامرة، التي سيحكمها ما يشبه «السنهادرين» وكهنته، وقادة عسكريون يؤمنون بأنّ هذه الأرض مخصصة لليهود، كعرق نبيل، وقد اختارهم الرب ليبنوا له الهيكل العظيم في أقدس بقع المعمورة، وليقدّموا له ذبائحهم. لن يكون في هذه المملكة مكان للآخرين ولا لأحزابهم التي أنهكتها الأيام وحوّلت برامجها إلى مراثٍ لم تعد تنفع في هذا الزمن الرصاصي، لأنّ «توراة الملك» صارت هي أول الكلام وآخره.
فمنذ اليوم الأول لولادة حكومة بينيت – لبيد كان واضحا أنها ستعيش في حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل» سيوقف انفجارُه مسيرتَها وسيؤدّي إلى نهاية «عمرها» من دون أن يصل يئير لبيد إلى كرسي رئاسة الحكومة؛ وهذا، على ما يبدو، ما سيفضي إليه قرار عضو الكنيست عيديت سيلمان، التي انسحبت من الإئتلاف وتركت زميليها في حزب «يميناه» نفتالي بينيت وأييلت شاكيد، داخل حكومة لا تحظى بأغلبية برلمانية.
وعلى الرغم من أن العمل السياسي يتطلب أحيانا، في سبيل تشكيل الحكومات في الدول البرلمانية وبينها إسرائيل «السير على الماء» وإجادة فن البهلوانيات الحزبية، حتى الغريبة منها وغير المتوقعة، إلا أن ما حصل بعد الانتخابات العامة الأخيرة فاق كل التوقعات، وتخطّى حدود الخيال السياسي. إنه مشهد مخاتل؛ فالتوافق بين حزب «يميناه» المعروف بعنصريته المتطرفة، مع أحزاب الوسط الصهيونية واليمين الصهيوني العلماني المدعوم من حركة إسلامية، وابتعاده عن حلفائه «الطبيعيين» من الأحزاب الصهيونية القومية المتدينة العنصرية المتطرفة، كان عبارة عن مغامرة سياسية انتهازية خاضها بينيت وحزبه ضد «الطبيعة» وبعكس جميع المعطيات الاجتماعية والسياسية الحقيقية التي أنجبتهم وأوصلت معهم إلى الكنيست جيشا كبيرا من غلاة المتطرفين العنصريين اليمينيين، الذي يناهز عددهم الثمانين نائبا «ونائبة».
ليس من الحكمة أن نتكهن ماذا سيحصل خلال الشهر المقبل، وكيف سيتصرف البرلمان الإسرائيلي حال عودته من الإجازة التي ستنتهي في الثامن من مايو المقبل؟ فهناك ثلاثة احتمالات واردة: فإمّا التصويت على حل البرلمان والذهاب إلى معركة انتخابية جديدة؛ وإمّا التصويت على حجب الثقة عن الحكومة الحالية، وإقامة حكومة بديلة لها، شريطة أن يشمل مقترح حجب الثقة اسم رئيس الحكومة الجديد المقترح؛ وإمّا التصويت على إبقاء الحكومة الحالية بدعم أكثرية صغيرة أو عارضة، غير ملتزمة بشروط الإئتلاف الحكومي، ما سيبقيها في حالة ضعف مستديم وخاضعة لاشتراطات من يدعمها أو لابتزازاتهم، خاصة في جميع المسائل التي يتطلب حسمها تصويتا عدديا، مثل تشريع القوانين والميزانيات وغيرها. تضع جميع هذه الاحتمالات المواطنين العرب وقياداتهم السياسية أمام معاضل كأداء وتقرّبهم نحو فوّهات العبث والهاوية.

كان واضحا أن حكومة بينيت – لبيد ستعيش في حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل» سيؤدّي إلى نهاية عمرها

من الجدير أن ننتبه إلى أن انسحاب العضو عيديت سيلمان من الإئتلاف كان على خلفية موقف وزير الصحة، رئيس حزب ميريتس نيتسان هوروفيتس، في مسألة دينية، بعد سماحه بإدخال الأطعمة الخامرة إلى مستشفيات إسرائيل خلال أيام عيد الفصح اليهودي؛ وهو ما تمنعه «الهلاخاه» اليهودية، التي استماتت عيديت سيلمان بالدفاع عنها، وقطعت، من أجلها، حبل الود مع حزبها وزعيمه. من الواضح أن هذه القضية كانت الذريعة لتنفيذ خطوة الانسحاب، التي جاءت لتذكّرنا بهويتها وهوية زملائها في حزب «يميناه» وشعورهم حيال هذه الحكومة التي يعتبرونها «غير طاهرة» لأسباب عديدة، من بينها أنها مدعومة من قبل «الحركة الإسلامية» التي تعدّ عندهم، رغم مهادنتها المنبطحة لسياسات حكومتهم ولقراراتها، خنجرا مغمدا في خاصرة الدولة اليهودية. أقول هذا مفترضا أن القائمة الموحّدة الاسلامية ستبقى داعمة لحكومة بينيت-لبيد، أو لأي حكومة غيرها، إذا قبِل بها، طبعا، قادة الأحزاب التي ستشّكل تلك الحكومة في الأسابيع المقبلة؛ وهذا ما أشكّ في حصوله. بالمقابل، فإننا لا نعرف كيف سيتصرف نوّاب القائمة المشتركة وأطرهم الحزبية إزاء هذه الأزمة؛ فعلى الرغم من أننا نلاحظ بداية وجود تمايزات وفوارق في تصريحاتهم ومواقفهم، نراهم يقرّون بخطورة المرحلة وبتداعياتها الممكنة علينا، كمواطنين عرب. أخشى أن تخذلهم الحكمة وأن يختلفوا قبل يوم الامتحان؛ لاسيما مع وجود احتمال بأننا نقف أمام آخر معركة في «حروب اليهود» التي ستحدد نتائجها، بطريقة مأساوية، من هي الطغمة التي ستتحكم في الدولة وفي رقابنا؟ وما شكل النظام السياسي الذي سيتسيّد على المنطقة في العقود المقبلة؟
ربما لم يقرأ بنيامين نتنياهو نبوءات من تكهنوا بزوال إسرائيل حتى نهاية هذا العام؛ أو ربما قرأ وضحك من ذلك في غيّه، وراح يعبّر عن غبطته لانسحاب عيديت سيلمان من الإئتلاف، محيّيا باسم الآلاف من شعب إسرائيل، عودتها إلى «المعسكر القومي» ومؤكدا أن ما أرشدها كان «القلق على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل والخوف على أرض إسرائيل».  وإذا كانت أقوال نتنياهو غير كافية كدليل للآتيات العاتيات، فلنقرأ ما صرّح به رئيس حزب «الصهيونية المتدينة» بتصلئيل سموطريتش، وهو لسان حال المرحلة السياسية المقبلة، واصفا الخطوة «بفجر يوم جديد في دولة إسرائيل» مضيفا: «إنها نهاية حكومة غير صهيونية، حكومة بينيت والحركة الإسلامية، وهي اللحظة التي يمكن فيها تغييرها بحكومة يهودية، صهيونية وقومية» ثم انتقل ليحيّي عضو الكنيست عيديت سيلمان «على خطوتها التي وضعت من خلالها خطا أحمر أمام المسّ بهوية دولة إسرائيل اليهودية وبقيم الصهيونية الأساسية». ما أوضح هذا الكلام وما أخطره وهو يقال وأصداء عمليات إرهاب «الدواعش» ما زالت تملأ الفضاء وتحشو صدور المجتمعات اليهودية بالكراهية للعرب وتجيّشهم لساعة الانتقام. لقد كان واضحا للكثيرين أننا نعيش مرحلة انتقالية خطيرة، ضعُف فيها أداء الأحزاب العربية، بينما برز دور «القائمة الموحدة الاسلامية» التي قرر قادتها، لأول مرة في تاريخ العمل السياسي بيننا، دعم حكومة إسرائيل في موقف ساعد على اختمار الظروف للانتقال إلى شكل حكم مستبدّ جديد في الدولة «اليهودية الصهيونية القومية». لا يجوز أن نفصل ما يجري في أروقة الكنيست عن الأحداث والظواهر الحاصلة داخل مجتمعاتنا المحلية، وعن تطوّراتها؛ وقد تكون هبة مايو المنصرم الجماهيرية أبرزها حجما وأخطرها بما خلّفته من غضب في النفوس وجسور محروقة بين الدولة ومواطنيها العرب، لكننا يجب ألا ننسى أنها اندلعت ومجتمعنا العربي يعيش في مناخ عام حاضن للعنف وعاجز أمام عالم الجريمة التي تنفذها نفوس متطرفة ومأجورة وجاهزة للقيام بجرائم قتل ضد الأبرياء، تارة باسم الدين أو الدفاع عن أمّته، وتارة من أجل الشرف؛ ودائما باسم البلطجة وسطوتها.
وعلى الرغم من تقصير الدولة وإهمال حكوماتها في مواجهة مظاهر العنف والجريمة المستفحلة بيننا، نرى أن معظم قادة الأحزاب الصهيونية اليمينية يرفعون شعار «علينا إعادة الأمن والأمان إلى شوارع مدننا وبلداتنا» ويستغلون اللحظة السياسية الحاضرة وتداعيات مشاهد عمليات قتل المواطنين في بئر السبع والخضيرة وبني براك، ويتناسون أن جميع القيادات السياسية والإسلامية والمؤسسات الفاعلة بين المواطنين العرب، شجبت تلك العمليات وأكدت رفضها لهذه الوسائل بشكل قاطع. قد يكون من المناسب اليوم ونحن على أعتاب حقبة سياسية جديدة داخل إسرائيل أن أذكّر بما أشرت إليه مرارا؛ فالاكتفاء بالشجب وهو مقرون بدور الاحتلال الإسرائيلي وممارساته كمولّد لتلك الظواهر ومحفز لمن يمارسونها، وإن كان صحيحا وضروريا من الناحية السياسية، لا يكفي. من الطبيعي أن يمتلئ كل إنسان يتعرض لمشاهد قمع المحتلين وعناصرهم غضبا على المحتل وقمعه، لكنه لن يصل إلى تلك المرحلة النفسية والاستعداد الفعلي لقتل نفسه والآخرين، من دون أن تضاف إلى دور الاحتلال وممارسات جنوده، عوامل مجتمعية داخلية هي التي تدفعه في النهاية إلى تنفيذ تلك العمليات المدانة. لم تتوقف قيادات مجتمعنا عند هذه الظاهرة بجدّية، ولم تحاول سبر مكنوناتها بجرأة وتفكيك بناها بمسؤولية؛ ولو فعلوا ذلك لتوصّلوا إلى مجسات التأثير السلبية على تلك النفوس، واكتشفوا معامل وعوامل التخمير الفعالة، خاصة بعد أن وضع بعضهم أطراف أصابعهم على جزء من تلك المؤثرات، حين أشاروا إلى الفقر والبطالة والجهل وما يجري من على بعض منابر التجييش الدينية، التي تحترف نشر خطابات متزمّتة عنصرية مكرورة، همّها الدعوة للاقتصاص من الكفرة والتصدّي «للآخرين» والثأر للدين ورموزه المقدسة وفي طليعتها المسجد الأقصى على سبيل المثال.
نحن اليوم أقرب إلى نقطة اللاعودة ويجب أن نسقط الذرائع الدموية من أيادي كتائب الموت، ومن لا يقر بذلك فليقرأ كتاب «توراة الملك» وليتعرف على فقهه الذي سنكون نحن أول ضحاياه.
كاتب فلسطيني

 

 

إسرائيل – من دولة عنصرية لها

مؤسسات وجيش إلى كيان مارق

وكتائب فاشية

جواد بولس

 

لا ضير من تذكيري مرّة أخرى بقائمة المؤشرات التي يمكن، بالعودة إليها، تشخيص ما إذا كانت الفاشية قد تملكت من عروق نظام الحكم في دولة ما، أو إذا كان ذلك النظام يجنح نحوها؛ فعلماء الاجتماع السياسي عدّدوا ما يلي:
سيادة الجيش وهيمنة «العسكرة» التعامل شبه المرضي في ما يسمى أمن الدولة، العلاقة الوثيقة بين المؤسسة الحاكمة والمؤسسة الدينية، دفاع الدولة عن الشركات الكبرى والعلاقة الوطيدة بين السلطة ورأس المال، إضعاف نقابات العمال، غطرسة المشاعر القومية المتطرفة، الاستهتار بحقوق الإنسان والاعتداء على الحريات الأساسية، الإجماع على استعداء هدف وإيجاد «أكباش فداء» على شاكلة أقليات قومية أو فئات اجتماعية مستضعفة، وسائل إعلام مجندة وغير موضوعية وفاقدة للمهنية الإعلامية الحيادية، فساد متفشّ في جميع منظومات الإدارة والحكم، محاربة «الحرية الأكاديمية» والاستخفاف بمكانة الأكاديمي والمثقف.
لقد تمّمت إسرائيل في سنواتها السبعين جميع هذه الخطى ووصلت حدّ الهاوية؛ ونحن نعيش في وطننا وسط النار، ونحاول أن نختار حكمتنا الفاصلة بين بقائين: فإمّا الموت على حدود سيوف حقنا والبقاء في ترابه، أو العيش في أنفاس الزهر والموج والبقاء فوق أرضه.
«لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد عملية الطعن التي نفذها المواطن محمد أبو القيعان، من سكّان بلدة حورا في النقب، في مركز مدينة بئر السبع يوم الاربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن؛ فبعض المعلقين يتكهنون بأن البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدا أمنيا خطيرا، لا سيّما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع أولئك «المنجّمين» وألّا تَصْدق توقّعاتهم». هكذا كتبت في مقالتي السابقة، بعد عملية «عاصفة الصحراء النقباوية» التي نفّذها مواطن عربي إسرائيلي قيل إنّه ينتمي إلى تنظيم «داعش»؛ فالمسألة لم تكن بحاجة، على ما يبدو، لاجتهادات «منجّمين» لأننا كما توقعت نقف «داخل إسرائيل على حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار» وما سوف يأتينا سيكون حتما أعظم.
لقد كانت مدينة الخضيرة الإسرائيلية، الواقعة في مركز البلاد، ساحة الغزوة التالية التي نفّذها أيضا مواطنان عربيان من مدينة أم الفحم، قيل إنّهما ينتميان إلى تنظيم «داعش» الإسلامي، من دون أن يدّعي أحد وجود أي علاقة أو تواصل بين محمد أبو القيعان، منفذ عملية بئر السبع، وأولاد العم، أيمن وإبراهيم إغبارية، منفذيّ العملية في الخضيرة. لم ينتظر معظم المحللين الإسرائيليين حتى انتهاء عمليات تقصّي الحقائق، أو حتى سماع تقييمات المسؤولين ذوي الاختصاص في هذه المسائل، مثل جهاز المخابرات العامة؛ بل راحوا بعنصرية مفضوحة ومن دون أي مهنية أو حذر، يطلقون سهام خيالاتهم المغموسة بسموم التحريض على جميع المواطنين العرب، ويصرّون على تأثيم الإسلام كديانة تربّي أتباعها على معاداة اليهود، وعلى السعي بعزم إيماني أعمى في سبيل تقويض أسس الدولة اليهودية والقضاء عليها. لقد جنّد هؤلاء «المحللون» والمعلقون المستعربون، حقيقة كون منفذي العمليتين الثلاثة عربا من مواطني إسرائيل، وبنوا عليها جبالا من الافتراءات والتحاليل المغرضة، التي ساهمت في تأزيم الحالة السياسية بين الدولة ومواطنيها العرب، وهي المأزومة أصلا، وفي تكثيف مقادير الكراهية العرقية الفاشية المتفشية داخل المجتمعات اليهودية. ثم جاءت عملية «بني- براك» المدينة القريبة من تل-أبيب، التي نفّذها الشاب ضياء حمارشة، وهو مواطن فلسطيني يسكن مع عائلته في قرية يعبد في محافظة جنين، فشوٌشت هذه الحقيقة خلاصات أولئك المحلّلين، لاسيما حيال ادعائهم التحريضي حول استئثار المواطنين العرب في إسرائيل بمهمة تنفيذ العمليات الانتحارية، في حين ابتعد عنها أهل مناطق الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، الذين تم»تدجينهم» وتحييدهم تحت بنادق الاحتلال.

علينا أن نصحو وأن نجد ما يسعفنا لنخرج أحياء من المستنقع ونبقى فوق أرضنا وليس أمواتا داخل أغماد حقنا

يجب أن نقرأ ما يكتبه هؤلاء المحرّضون، حتى لو كنا على يقين بعدم صحته، أو بما يرمون من ورائه ؛ فدور الإعلام العبري العنصري في تجنيد الرأي العام الإسرائيلي حاسم من دون أدنى شك، وعلاقته مع صنّاع القرار السياسيين والأمنيين متبادلة، فهم يستغلونه من أجل ترويج عقائدهم وزيادة شعبيتهم، كما شاهدنا في قضية نتنياهو وأصحاب موقع «واللا»؛ وهو، أي الإعلام، يتحوّل إلى قوة تأثير هائلة على جنوح هؤلاء القادة نحو فضاءات الرعاع، وتغذية مواقفهم ونشاطاتهم الوحشية؛ وهو كما أشرنا سابقا من أهم مؤشرات تعاظم الفاشية. لقد كان الاعلان عن إقامة « كتيبة بارئيل» قبل مدة قصيرة – وهي عبارة عن مبادرة لتشكيل ميليشيا مختلطة من العناصر الشرطية والأمنية، على أنواعها، ومن سوائب العنصريين اليمينيين المتطرفين – مؤشرا على اختمار المجتمعات اليهودية، وانتقالها من مرحلة «التخصيب العقائدي الذهني» «والشحن الغوغائي العاطفي» الفاشيَّين، إلى مرحلة الانطلاق الفعلي نحو تحقيق الأهداف. لا يمكن اعتبار هذه المبادرة مجرد نزوة؛ فكما أسلفنا تعتبر عملية عسكرة المجتمع وإدماجه، بمنهجية فوقية، في البنى الأمنية والعسكرية الرسمية، من أهم الدلائل على تحوّل الدولة، وفي حالتنا إسرائيل، من دولة لديها جيش، كان الأقرب إلى التقديس، ومؤسسات وقوانين، كانت عنصرية، نحو دولة يتحكم فيها نظام فاشي متكامل ومجتمع متماهٍ مع ذلك النظام، يتغذّى منه ويغذّيه.
فرئيس الحكومة نفتالي بينيت دعا قبل يومين كل من يحمل قطعة سلاح مرخصة بالتسلح بها، وأوضح على أن «هذه هي الساعة لفعل ذلك» معلنا أن الحكومة استدعت المزيد من كتائب «حرس الحدود» وأنها شرعت بتشكيل لواء جديد من قوات هذا الحرس، فيما وصفه «بإجراء استراتيجي يتجاوز موجة الإرهاب الحالية» وأضاف أنه سيتم نشر (15) كتيبة إضافية من قوات الجيش في الضفة الغربية، وعلى «خطوط التماس» وأنهم بصدد إصدار تعليمات جديدة سيسمح بموجبها للجنود النظاميين ولقوات الاحتياط مغادرة قواعدهم العسكرية، وهم يحملون أسلحتهم. لا أوضح من هذا الكلام؛ فأهداف الحكومة هي «إجراءات تتجاوز موجة الارهاب الحالية» ومع ذلك فإذا كان هذا كله لا يكفي كبرهان على ما ستفضي إليه عملية العسكرة الجارية، فلنسمع بينيت يدعو المواطنين اليهود إلى «الحفاظ على اليقظة والتحلّي بالمسؤولية» ولنسمع أيضا ما صرّح به وزير الدفاع غانتس، أو لنتمعن في رزمة الخطوات التي أعلن عنها وزير الأمن الداخلي عومر بار ليف، التي تضمنت تجنيدا فوريّا لثلاثمئة عنصر جديد في قوات «حرس الحدود» مع دعوته «المواطنين المعنيين والراغبين في المشاركة في هذا الجهد إلى القدوم والتطوع» ثم إعلانه عن فتح أبواب قوات «الحرس المدني» في جميع أنحاء الدولة، وإهابته بسكان كل مدينة وبلدة وكيبوتس للانضمام إليها؛ وتأكيده على إلحاق مئات الجنود في وحدات الشرطة وتعزيز قدراتها ووسائل العمل في جميعها بشكل فوري وعاجل.
ولا يمكن ألا نأخذ على محمل الجد تهديد الجنرال احتياط عوزي ديان نائب رئيس الأركان ورئيس مجلس الأمن القومي الأسبق، لجميع المواطنين العرب في إسرائيل، وليس فقط لمنفذي العمليات «بنكبة جديدة»؛ وذلك حين صرّح قبل يومين، بعنجهية واضحة ومستفزة، وقال في لقاء متلفز: «في حالة وصولنا إلى حرب أهلية، فهذه ستنتهي بحدوث نكبة أخرى.. علينا أن نتصرف كما وأننا في حالة طوارئ، ما يشبه حرب الاستقلال، حرب التحرير، ويجب أن ننهيها في الداخل أيضا». لقد بدأ الناس في إسرائيل يذوّتون معنى «العسكرة» ويتصرفون وفق فهمهم الغريزي لها، كما رأينا في الاعتداءت الكثيرة على المواطنين العرب في مواقع مختلفة في البلاد، أو داخل الجامعات مثلما حصل في الأسبوع الماضي داخل حرم الجامعة العبرية في القدس، عندما اعتَقل طالبان يهوديان، تبين انهما يعملان في سلك الشرطة خارج ساعات الدراسة في الجامعة، طالبين عربيين بحجة أنهما كانا يغنيان أغنية تحريضية.. ويبقى هذا غيض من فيض.
لديّ ما أقوله حول «داعشية» منفذي عمليتي بئر السبع والخضيره وكيف ولدت هذه الهوية وشبيهاتها بيننا، ومن يعمل ماذا، مباشرة أو بغير مباشرة، ضدها أو معها؟ لكنني لا أكتب حول هذه القضية، فهمّي الأكبر اليوم هو أن أنبّه مجدّدا، مثلما فعل كثيرون قبلي وأجمعوا على اننا قريبون من «يوم الدين»؛ فالفاشية تستحكم بيننا والعسكرة تتفشى ويستقوي بلطجيّوها؛ ونحن نجترّ عجزنا ويكتفي بعضنا بشجب هذه العمليات وآخرون بكتم سعادتهم من نتائجها داخل صدورهم. ويسألونني ما العمل؟ فأجيب: على نُخبنا الحرّة وقياداتنا الديمقراطية والمسؤولة الإقرار أولا بوجود هذا الخطر الوجودي، ومن ثم الشروع بالتفتيش عن وسائل عمل كفاحية مبتكرة ضده؛ وكنت اقترحت في الماضي إقامة «جبهة العمل ضد الفاشية» و»منتدى الحقوقيين الديمقراطيين» وذلك بهدف رصد النشاطات الفاشية وملاحقة المتورطين فيها بمنهجية مهنية ناجعة.
إنها مجرد مقترحات ويوجد غيرها بطبيعة الحال؛ فالقصد أن نصحو وأن نجد ما يسعفنا لنخرج أحياء من المستنقع ونبقى فوق أرضنا وليس أمواتا داخل أغماد حقنا.
كاتب فلسطيني

 

 

من برلين إلى بئر السبع…

موعظة ودماء

جواد بولس

 

من كتاب “الفاشية.. مقدمة قصيرة جدا” للكاتب كيفن باسمور.. عظة لجميعنا  ولأعضاء القائمة الإسلامية الموحدة في الكنيست أيضا.
“عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني السابق، الرايخستاغ، في دار أوبرا “كرول” وسط برلين يوم 23/3/1933. بعد أن دمر حريق مبنى الرايخستاغ قبل بضعة أسابيع. وداخل القاعة تدلى علم ضخم يحمل رمز الصليب المعقوف. وكي يتمكن النواب من الدخول إلى القاعة، كان عليهم أن يتحملوا الإهانة أثناء مرورهم وسط جمع مريع من شباب وقحين يحتشدون في الساحة المواجهة، ويرتدون شارة الصليب المعقوف، وينادون النواب بأوصاف مثل “خنازير الوسط” أو “خنزيرات الماركسية”. كان النواب الشيوعيون قد اعتقلوا إثر مزاعم بتورط حزبهم في إحراق مبنى الرايخستاغ، واحتجز أيضا عدد قليل من الاشتراكيين.
كان هناك موضوع واحد مطروح على البرلمان وهو تمرير “قانون التمكين”، الذي  يمنح المستشار الألماني سلطة إصدار قوانين دون موافقة البرلمان، حتى إذا كانت قوانين تخالف الدستور. ولما كان القانون يستلزم تعديلا دستوريا، كان يتطلب موافقة أغلبية ثلثي النواب، لذلك كان النازيون بحاجة إلى دعم النواب المحافظين. حوى خطاب هتلر الذي ألقاه لطرح القانون تطمينات للمحافظين، ما جعلهم يصوتون لصالح القانون. قرأ هتلر إعلانه في تجهم حاد، ورباطة جأش استثنائية، ولم يتجل انفعاله المعروف إلا عند دعوته لإعدام مدبر الحريق على رؤوس الأشهاد، ووعيده الشرس للنواب الاشتراكيين؛ فهدر صوت النواب النازيين بشعارهم المعروف “ألمانيا فوق الجميع”. وقد احتج نائب اشتراكي ردا على هتلر، لكن صوته بالكاد سمع؛ فرد عليه هتلر في عصبية محمومة وهسيس أفراد “كتيبة العاصفة” كان يتردد من ورائهم صارخين: “سوف تعدمون اليوم شنقا”. وافق البرلمان على “قانون التمكين”، الأمر الذي أطاح بسيادة القانون وأرسى الأساس لنوع جديد من السلطة القائمة على إرادة الفوهرر. منح هذا القانون النازيين عمليا حق العمل، وفق ما يرونه مناسبا – ما يحقق “المصالح العليا للشعب الألماني”، والقضاء على رأي أي شخص يعتبرونه عدوا للرايخ؛ وكان الاشتراكيون أول الضحايا”.
ومن برلين إلى بئر السبع لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد عملية الطعن التي نفذها المواطن محمد أبو القيعان، من سكان بلدة حورا في النقب، وأدت إلى مقتل أربعة مواطنين يهود في مركز مدينة بئر السبع يوم الأربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن. فبعض المعلقين يتكهنون بأن البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدا أمنيا خطيرا، لاسيما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع أولئك “المنجمين”، وألا تَصْدق توقعاتهم؛ لكنني أعرف أننا نقف، في داخل إسرائيل، على حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار، ونحن، عرب هذه البلاد، سنكون لها العيدان والحطب. لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل المنظور؛ فلا الدولة اليهودية بقياداتها الراهنة معنية بحدوث هذا الانفراج، وليس بيننا من هو قادر على فك الاشتباك أو المعني بالتفتيش عن جسور جديدة حقيقية معها، والمؤهل لحمل هذه المسؤولية. ويكفي أن نراجع عددا من المشاهد التي حصلت في الأيام القليلة الأخيرة، قبل حدوث عملية بئر السبع، كي نخشى ما قد يحصل لنا في الأسابيع القريبة. فما زالت الكنيست تخضع لهيمنة اليمين، وتصوت على قوانينه العنصرية، سواء دعمتها القائمة الإسلامية الموحدة أم لا. وعلى الرغم من وجود حزبي العمل وميرتس في الحكومة، تتصرف معظم وزاراتها كمنظومات يمينية تقليدية. فعلى خزينتها يسيطر حزب “إسرائيل بيتنا” المعروف بمواقفه العدائية تجاه العرب؛ وفي أمنها الداخلي تتحكم شرطة كبر قادتها على موروث يقضي بمعاملة المواطنين العرب بقليل من الاحترام وبكثير من الريبة والتحسس وبالتخوين دائما؛ بينما ما زال العنف يشكل جزءا من واقع بلداتنا والجريمة مشهدا مستفحلا في معظم مواقعنا.

لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل المنظور

وإن كان ذلك لا يكفي، فحظنا من سياسات وزيرة الداخلية، أيليت شاكيد، لا يتوقف عند تبعات قانون منع لم الشمل، ونتائجه الكارثية على آلاف العائلات الفلسطينية، ولا عند معوقات وزارتها أمام تطوير قرانا ومدننا وخنقها بعنصرية فاضحة؛ بل يتعداها نحو سيطرة جشعة على جهاز القضاء وحشوه بقضاة موالين، لاسيما بعد أن أعلنت عن خطتها في الاستيلاء على هيئة المحكمة العليا من خلال تعيين قضاة “محافظين”، مؤدلجين يمينيين ومستوطنين. ولتأكيد مخاطر سياستها القضائية يكفينا مراجعة مواقف هؤلاء القضاة في عشرات القضايا، التي رسخوا فيها أحكاما جائرة بحق العرب، وكتبوها بهدي عقائدهم المتساوقة مع سياسة حزب شاكيد – بينيت اليمينية العنصرية. لقد كان آخر هذه الأحكام رفض المحكمة العليا، في الأسبوع الماضي، لالتماس قدّمه عدد من المواطنين في مدينة طيبة المثلث، ضد قرار ما يسمى “حارس أملاك الغائبين”. لقد قررت هذه المؤسسة العنصرية، التي استحدثتها الحركة الصهيونية من أجل سرقة أملاك الفلسطينيين بعد النكبة، الإعلان، في عام 2017 على أرض تبلغ مساحتها ثلاثين دونما من أراضي مدينة الطيبة، كأملاك للغائبين ومصادرتها من أصحابها أبناء المدينة، بحجة أن هذه الأراضي وقعت، قبل سبعين عاما، بمقتضى خط هدنة مؤقت رسم لضرورات ميدانية في عام 1948، خارج حدود إسرائيل؛ لم يسعف السكان أن ذلك الخط أزيل بعد شهور معدودة من رسمه، ومن ثم عادت الأراضي لأصحابها الأصليين الذين تصرفوا بها كملاك لغاية يومنا هذا. لن أرهق القراء في تفاصيل هذه المهزلة العنصرية العبثية، ولكن يجب أن نعلم بأن هيئة المحكمة العليا التي أصدرت قرارها الظالم والعنصري ضد المواطنين العرب، تشكلت من قاضيين مستوطنين وقاض ثالث استقدمته الوزيرة شاكيد، عندما كانت وزيرة للقضاء في حكومة نتنياهو، بسبب آرائه اليمينية المعروفة، من أمريكا، إليها كان قد هاجر من إسرائيل قبل سنوات طويلة.
أعرف أن قطعان اليمين لم تكن بحاجة إلى “غزوة هذا المجاهد” في بئر السبع كي تتأهب سراياها للانطلاق في رحلة صيدها المقيت؛ لكنها، مثلها مثل شبيهاتها في تاريخ الأمم الأسود، تستوحش عند مشاهدة طرطشات الدم اليهودي وهو ينفر على الشوارع، وتتحول إلى شياطين جائعة ترقص حول نعوش ضحايا الموت الرخيص المستفز وتصرخ باسم الثأر والانتقام. يريدنا البعض ألا نخاف وألا نتحسب من تبعات هذه العملية/الجريمة ولإمكانيات توظيفها ضدنا، كما يحصل، من قبل الجماعات اليمينية الفاشية وقيادييها من الساسة والحاخامين. فعلى الرغم مما بدأنا نسمعه ونشاهده، ما زال بعض “المفكرين” والمحللين يمعنون في محاولات تحليل العملية بروية عقائدية، وبعضهم يحاول أن يتفهم دوافع القاتل بلغة الفرح الصاخب المرفوض، وكأن هؤلاء لا يسمعون عواءات الذئاب الجائعة وهي تتدافع على عتبات ديارهم. وعلى الرغم من قيام معظم قيادات مجتمعاتنا العربية المحلية والبدوية على وجه الخصوص، من شجب العملية، رأينا كيف انبرت بعض فرق السحيجة إلى التصفيق من وراء الحدود “لأبطالنا”، الذين يفتكون باليهود، وكيف أخذت منابرهم تخاطبنا بحميمية خانقة، وكأننا قد خلقنا جنودا في سبيل عزهم، ويجب أن نموت كظلال لأحلامهم العقيمة، أو أن نعيش كوكلاء لهمهم، ساعة راحوا هم يهادنون “السلاطين” أو يغازلون “قيصر”.
كنت أقرأ ما نشره ناشطو بعض الفرق اليمينية الفاشية على أثر عملية بئر السبع، خاصة تصريحات قادة ومؤسسي “سرية بارئيل” الحديثة التكوين، وأفكر بأولئك “البعيدين” الذين يقامرون على وجعنا وعلى نهاية إسرائيل القريبة. فقرأت عن مئات من المتطوعين الذين انضموا إلى صفوف هذه الوحدة/ الميليشيا التي سيعمل أفرادها من أجل “خلاص النقب” وإعادة الأمن الشخصي لسكانه. إنها سرايا الموت التي سأعود للحديث عنها قريبا؛ “فسرية بارئيل” وكتيبة “نيتسح يهودا” وحركة “لاهافا” وغيرها وغيرها، هي الحقيقة الثابتة التي سنواجهها في مواقعنا لا محالة. وهي، للعلم، عبارة عن”كائنات” قاتلة كانت قد فقست في دفيئات الحكومات السابقة والحالية، وكبرت في ظل بيئة سياسية مساندة، واشتدت أعوادها في حضن مجتمعات يهودية ستفيق قريبا وتتمرغ في فراشها أو تحت نعالها. إنهم ورثة يوشع وسائر أنبياء اسرائيل ومثلهم يتحدثون بلغة السيف والنار، فبالنسبة لهم يعد جميع أعضاء الكنيست العرب “مخربين”، ويوصف مقتل المواطن سند الهربد، ابن مدينة رهط، بنار المستعربين بالحدث “الروعة”، لكنه غير كاف، فهم يعتقدون أن هنالك “بضعة عشرات الآلاف، الذين يجب أن يكون مصيرهم مشابها لمصيره”. وأما هدفهم الحقيقي فهو اشعال المنطقة وتنظيفها من جميع المخربين.
أعرف شخصيا بعض من يستهزئ بما نواجهه من مخاطر كارثية وأتمنى أن يصحو هؤلاء قبل فوات الأوان؛ ولا أعرف شخصيا كثيرين من أصحاب الأصوات المتهافتة علينا من وراء النهر ومن بلاد السراب، لكنني أقول لهم: حطوا عن رحالكم واتركونا بحالنا، فنحن أبناء هذه الأرض وأدرى بشعاب أنقابنا وبالدفاع عنها، نحن الأجدر؛ ومن دعا منكم باسم “داعش” وأخواتها وكبر، ليرحل؛ فنحن، النجاة من النكبة، لنا رب وأنبياء وأباء علمونا أن نحب الحياة ومن أجلها نصلي ونتعبد، مهما تعاظم الظلم في ربوعنا وتجبر.

*كاتب فلسطيني

 

 

الثابت والمتحول هنا

في فلسطين وهناك في أوكرانيا

جواد بولس

 

محمود درويش الثابت بيننا في كل العصور
نحن في فلسطين نحب آذار كثيرا، ففيه يزهر كل عام شجر اللوز احتفاء بولادة الشاعر محمود درويش، ويرقص زهره مع عصافير الجليل «شفيفا كضحكة مائية نبتت على الأغصان من خفر الندى».
تحلّ ذكرى ميلاده في هذا العام، وفينا من الحنين وجع يتكسّر على أطراف أحلامنا وفي حلوقنا المسامير من حروف ضائعة ولغة مغتصبة؛ فهناك على أرض أوروبا يقطّع السيّافون شرايين الورد، ويموت الجنود وهم يغنون لبلاد من تراب ونار، وينتشي أمراء العبث وينامون على رماد من وهم وغار. وهنا، في فلسطين، يكبر الاحتلال ومعه يتعاظم تيه الأبناء ويطول سفرهم بين السجون والنجوم. ويبقى صوت «درويشنا» يغني كما في كل آذار لسيّدته الأرض ولحارسها الأمين الذي «إن فتشوا صدره فلم يجدوا غير قلبه، وقد فتشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه، وقد فتشوا صوته فلم يجدوا غير حزنه، وقد فتشوا حزنه فلم يجدوا غير سجنه، وقد فتشوا سجنه فلم يجدوا غيرهم في القيود. وراء التلال ينام المغني وحيدا، وفي شهر آذار تصعد منه الظلال». إنه محمودنا الثابت في صدورنا وفي لغتنا، والذي من أجله نحب كل فصول السنة ونحب آذار لأن منه «تصعد الظلال» نحو ذلك الجبل البعيد وتمطر علينا تناهيد وفرح.

الثابت: الأسير الفلسطيني، المتحوّل: الحرب في أوكرانيا

سوف تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية قريبا، وستنضم قوافل ضحاياها البشرية إلى قوائم العبث الذي يزخر بها تاريخ الإنسانية الدموي. ولعلنا نجد، بعيدا عن مجريات هذه الحرب وتداعياتها اليومية المؤسفة، في إرفاق اسم فلسطين، وتذكير العالم بها وبكونها أرضا محتلة من قبل إسرائيل منذ سبعين عاما، ما يثير نوعا من الرضا المتواضع، ويبعث في النفوس بعض التفاؤل والإيمان باستمرار وجود تلك الفسحة من الأمل. أقول هذا بحذر شديد، ومن دون تعويل على صحوة ضمائر أنظمة تلك الدول، التي تدعم أوكرانيا من جهة أو روسيا من الجهة الأخرى، وعلى إمكانية تخلّيها فورا عن اعتمادها للمعايير المزدوجة ولسياسات الكيل بمكيالين، وتحرّكها لدعم حق الشعب الفلسطيني بنيل حريته والاستقلال. ورغم ذلك، وكمن يواكب المشهد الفلسطيني من أرض الواقع، أشعر كم كان وقع تلك الأصوات المناصرة للقضية الفلسطينية إيجابيا في فضاءات فلسطين، خاصة حين قارب هؤلاء الخطباء والمتحدثون، سواء في برلمانات بعض الدول، أو من على شاشات الفضائيات، ردود فعل دول العالم إزاء ما يجري في أوكرانيا، وقارنوها منتقدين مواقف دول هذا العالم نفسها، إزاء ما جرى ويجري منذ عقود على أرض فلسطين المحتلة. لقد ضخّت مشاهد أعلام فلسطين وهي ترفرف في بعض ساحات الدول الأوروبية جرعات قوية من الأمل في عروق الفلسطينيين، في وقت غطّت فيه أخبار الحرب الروسية على ما تقوم به سوائب المستوطنين من اعتداءات في القدس الشرقية، وفي سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى قمع قوات جيش الاحتلال وملاحقته للشباب واعتقال العشرات يوميا وهدم بيوت بعضهم.

بوقوف الأسرى أمام سجانهم بصرامة، استطاعوا أن يستعيدوا كثيرا من وهج حركتهم الضائع، وأن يُكسبوها، مجددا، مكانتها الطبيعية أمام العالم

واليوم سأحاول أن أعيد القراء إلى ساحات الوجع الفلسطيني، لاسيما إلى ما يواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث يقبع أربعة آلاف وخمسمئة أسير أمني فلسطينيي، منهم حوالي الخمسمئة أسير إداري، ومئة وثمانين قاصرا، لم يبلغوا سن الثامنة عشرة، وثلاث وثلاثين أسيرة. لقد أعلن الأسرى الإداريون، منذ مطلع العام الجاري، عن مقاطعتهم للمحاكم الإسرائيلية العسكرية، على جميع درجاتها، والمحكمة العليا أيضا؛ احتجاجا منهم على دور المنظومة القضائية في ترسيخ سياسة الاعتقال الإداري الجائرة، ولكونها تعمل من خلال محاكم غير نزيهة على الإطلاق. لم يأت إعلان الأسرى الإداريين من فراغ؛ فأوضاع الحركة الأسيرة داخل جميع سجون الاحتلال كانت تمر في ظروف قاسية، في أعقاب حملة قمع شديدة أطلقتها «إدارة مصلحة السجون» إثر نجاح عملية الهرب من سجن «جلبوع» في السادس من أيلول/ سبتمبر المنصرم. لقد أصدرت إدارات السجون بعد عملية «نفق الحرية» رزمة من القرارات التي استهدفت منجزات الحركة الأسيرة عبر السنين. لم ترضخ قيادات جميع فصائل الأسرى لتلك الأوامر الجديدة، فرفضوها وحاولوا، من خلال لغة الحوار الواعي ووحدتهم التنظيمية، درء تبعاتها. وعلى ما يبدو لم ينجحوا في التوصل إلى حلول مقبولة ومرضية لغاية الآن؛ لكنهم، بوقوفهم أمام سجانهم بصرامة، استطاعوا أن يستعيدوا كثيرا من وهج حركتهم الضائع، وأن يُكسبوها، مجددا، مكانتها الطبيعية أمام العالم، كشوكة سرمدية لا تنكسر ولا تكسر، وكبوتقة تصهر الجميع وتؤدي دورها كضابط أمين لنبض الشوارع الفلسطينية النضالي، ولهتافات الميادين ضد سياسات الاحتلال وممارساته. تشهد هذه الأيام احتداما جدّيا بين الأسرى وسجّانيهم، ما دفع قيادات الحركة الأسيرة للإعلان عن قرارهم بالشروع بإضراب مفتوح عن الطعام سيبدأونه في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. فالحركة الأسيرة تستوعب أن المخطط المرسوم لها يستهدف وجودها نفسه ومنجزاتها التاريخية ورمزيتها الوطنية، ككيان يعيش حالة صدام مستديمة مع السجان، بصفته أوضح رموز الاحتلال والدليل الحي على قمعه. لا نعرف كيف ستنتهي هذه المواجهة، فالأسرى عازمون على ألا يستسلموا لسجّانهم، لكنّهم سوف يستمرون في محاولاتهم للتوصل معه إلى حلول مرضية ومقبولة، كما أعلنوا في رسالة وجهوها إلى قيادات وأبناء شعبهم، من داخل سجونهم، قالوا فيها إن إدارة السجون «تقوم منذ 6/9/2021 بإجراءات قمعية وعقابية، كانتقام لما حدث في سجن جلبوع، وقد فرضت الكثير من القيود التي حوّلت حياة الأسرى في السجون إلى جحيم لا يطاق.. وقد حاولنا وبكل الوسائل وقف هذه الهجمة وتغيير هذه الإجراءات، من خلال الحوار والخطوات التكتيكية، التي ما زالت مستمرة لهذا الحين، لكن للأسف تستغل سلطات الاحتلال ما يحدث في الخارج، للضغط والتنكيل ولعدم الاستجابة إلى مطالبنا، وبناء على ذلك تمكّنا من تشكيل لجنة طوارئ عليا من الفصائل كافة وفي السجون كافة.. وبعد التشاور قررنا الشروع بخطوة استراتيجية وخوض إضراب مفتوح عن الطعام، بتاريخ 25/3/2022 ، دفاعا عن كرامتنا وإحقاق حقوقنا». أتمنى، كما يتمنى الأسرى أنفسهم، أن تحل هذه الأزمة عن طريق الحوار المدعوم بوحدة جميع الفصائل وبالحكمة وبالعزيمة الصادقة، فالشروع بإضراب مفتوح عن الطعام، كما علّمتنا التجارب السابقة، ليس بالشأن السهل، خاصة في مثل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية الصعبة، التي تعيشها المجتمعات الفلسطينية، وفي ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا، وانشغال دول العالم بها.
لقد استفز الرياء العالمي، كما مورس على الساحة الأوكرانية، أقلام الكثيرين من المعقبين السياسيين والناشطين الاجتماعيين في مجتمعاتنا المحلية، وكأن جميع هؤلاء كانوا بحاجة إلى اندلاع هذه الحرب كي يتحققوا من عهر تلك الأنظمة، الغربية والشرقية وما بينهما، وتجاهلها غير الأخلاقي لمعاناة الشعب الفلسطيني طيلة سنيّ رزوحه تحت نير الاحتلال الإسرائيلي؛ واليوم، بعد أن عبّر الجميع عن مواقفهم إزاء تلك الحرب، وبعد أن تكشّفت جميع الأنظمة الحاكمة بقبحها وبتملقها، أتوقع أن يعود جميع « الأبناء» الصالحين إلى مواقعهم الطبيعية على خريطة الهمّ الفلسطيني، وتحديدا إلى قضية الأسرى، واحتضانها بدفء، لاسيما في هذه الأيام الحاسمة كما قرأنا. ليس أحوج من أسرى الحرية الفلسطينية إلى دعم كل أصحاب الضمائر الحية، هنا وفي جميع أرجاء العالم؛ فحين ناضل هؤلاء الأسرى ضد الاحتلال الإسرائيلي وضحّوا من أجل نيل حقوق شعبهم المسلوبة، كانوا يفعلون ذلك أيضا باسم كل إنسان حر وحقه بالعيش بكرامة في دولته المستقلة، وعلى أرض وطنه. فالثابت، إذن، في ما يجري من أحداث أمامنا، منذ أكثر من خمسة عقود، هو الحق الفلسطيني الضائع وتنكر المجتمع الدولي له وصمت الدول على ما يرتكب بحق أبناء شعب فلسطين من جرائم وقمع واضطهاد؛ وأما المتحول فهو حروب قياصرة هذه الزمن، وبينهم قيصر روسيا الجديد، ومخططاتهم لاقتسام خيرات دول العالم وتوزيعها كغنائم ونهبها، بعد تمزيق أواصر البلاد وسحق شعوبها كما شهدنا في السنوات الماضية ونشهد في أيامنا هذه.
كاتب فلسطيني

 

لأوكرانيا

ولا لحرب بوتين عليها

جواد بولس

 

حاولت ألا أكتب حول قضية الحرب الدائرة بين روسيا وأكرانيا؛ تجنبا منّي للخوض في ما تستدعيه هذه المسألة من أسئلة صعبة، ومن تناقضات لم يعد الحسم فيها واضحا أو شبه تلقائيّ كما كان بالنسبة لي ولكثيرين مثلي، في زمن كان العالم فيه مقسوما إلى معسكرين: واحد يمثل الخير بمفهومه المبسّط والفطري، والثاني يجسّد الشر بمفهومه المطلق. فالاتحاد السوفييتي وحلفاؤه في العالم، كانوا بالنسبة لنا، نحن الشباب اليساريين «شمس الشعوب» ومظلته الواقية؛ بينما اعتبرنا الغرب، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها من دول وأنظمة مستبدة، عدو تلك الشعوب وناهب خيراتها ومفسد أوطانها. لكن كيف لكاتب مقال أسبوعي أن يغفل حالة حرب تؤرق تداعياتها حيوات مئات ملايين البشر، في جميع أرجاء المعمورة؟
ما زلت أذكر حرقة الدمع على خدّي في تلك اللحظة، قبل أربعة عشر عاما، حين وقفت الحافلة التي كانت تقلّنا وسط الساحة الحمراء، قلب موسكو الساهرة، وعروس أحلامنا الخالدة. بكيت كرجل يحقق أمنية طفولته السحيقة. أحسست بأنني غيمة من ندى أرجواني تطير نحو ذاك البعيد، حيث لا ينام من سقوا الفولاذ وعلّموا المشانق كيف تجدل ضفائر العزة والكرامة. كانت الساحة أوسع من حلم، والمباني تحيطها كنجوم سابحة في فضاء مسحور؛ كل شيء حولي كان مدعاة لشهقة، والقباب، بألوانها الزاهية، ترتفع كالرماح حتى حلق السماء.
عشت لحظات على وقع الصدى ودردبات الطبول في ساحات بلداتنا في مسيرات الأول من أيار/مايو. تذكّرت، وبسمة موجعة تسيح من أطراف وجهي، كيف كنّا في فورة شبابنا، ننتشي ونحن نشاهد استعراضات طوابير دبابات وصواريخ الجيش الأحمر، وهي تهز أركان العبث في احتفالات ثورة أكتوبر/تشرين الأول وتمجيدا للانتصار على النازية في المكان نفسه الذي كنا نقف فيه. ضحكت في سرّي عندما تذكّرت كيف كنّا نتغزّل كالسكارى «بجبروت» حاجبي «الرفيق بريجينيف» الغليظة، وبحذاء نيكيتا خروتشوف وهو يضرب به وجه العالم القميء؛ وكيف كان ينتصب بقية قادة الحزب الشيوعي السوفييتي كأعمدة من رخام أوليمبي، ويتصدرون المنصات الحمراء العالية كآلهة يونانيين؛ ونحن على قناعة بأنهم قادرون على تحقيق كل معجزة وسحق كل عدو وتذليل كل خطر. مرّت اللحظات وأنا سارح في نفق ذلك الزمن الرمادي. لم أصغ لما قال مرشدنا السياحي بخصوص برنامج زياراتنا في اليوم التالي؛ لكنني فهمت، من أحد أصدقائي في المجموعة، أنه لم يأت على ذكر زيارة ضريح لينين، علما بأنه أحد أهم المعالم البارزة الموجودة في الساحة الحمراء. في الباص سألته لماذا لن نزور الضريح؟ فأجاب بأنه مجرد «قبر» وهنالك مواقع أجمل منه وأهم في روسيا الحديثة. كان مرشدنا، كما أفهمنا المسؤولون في المكتب السياحي، الذين رتبوا لنا إجراءات الرحلة، محاضرا سابقا ومتخصصا في تاريخ روسيا تحديدا، ويعدّ من أبرز المرشدين السياحيين وأنجحهم، لأنه يعرف المدينتين، موسكو وبطرسبورغ، حق المعرفة. لم أقبل بإجابته وطلبت أن يضيف زيارة الضريح إلى برنامجنا، ففعل ذلك بعد أن صوتت المجموعة كلّها على المقترح.
اصطففنا، في الصباح التالي، وراء عشرات المواطنين الذين حضروا لزيارة الضريح قبلنا. كانوا يقفون في الساحة الحمراء بخشوع ويتقدمون على وقع حفيف أغصان شجرات عاليات تحيط بإحدى جهات المكان. في الداخل تسكن الرهبة وقليل من الضوء. كانت الغرفة باردة، وفي وسطها مسجى جثمان فلاديمير الييتش لينين، وحوله يقف، على الجانبين، حرّاس يهيبون بالزائرين أن يتقدموا من دون تلكؤ، وهكذا فعلنا. كانت لحظات مؤثرة حتى أنني ما زلت أتذكر قسمات وجهه المائلة إلى الصفرة، وأنه كان قصير القامة. أنهينا الزيارة بصمت، وأذكر أننا لم نتحدث عنها إلا بعد وقت، فالمكان لم يكن، بالنسبة لبعضنا، مجرد قبر، كما قال مرشدنا السياحي.
خرجت حزينا، فلينين ذلك المارد الأحمر، الذي جئنا لزيارته، لم يكن موجودا هناك، وأعني في روسيا الحديثة التي صارت غالبية شعبها تؤمن «بفلاديمير» الآخر، أو قل «بأبي علي» وتعتقد أن فيها أماكن ومواقع ورموزا أهم من المعلم لينين وأجدر منه.

روسيا عازمة على التصدّي لجميع ما يحصل، حتى تسترد مكانتها كقوة عالمية، في بنى النظام العالمي الذي لن يرسم إلا معها وبمشاركتها التامة

كانت محطتنا المقبلة زيارة أحد الأسواق العصرية التي تحتضنها روسيا الأوليغارخية ورأس المال الفاحش. وصلنا المركز التجاري الذي يقع على أطراف الساحة الحمراء، وهو عبارة عن مجموعة من المباني الفخمة المبنية على طراز معماري عصري هجين على روح المكان، تملأ ساحاتها مئات السيارات الفارهة التي يسوقها، أو يخرج منها، الروسيّون الجدد، أبناء حلفاء بوتين وشركائه في إدارة الدولة ونهب نعمها وخيراتها؛ إنهم حرّاس حلم روسيا الجديد، ينامون على نفط وحرير، ولا يعرفون كيف تمسك المناجل ولمن تدق المطارق.
عدت من روسيا التي لم أحلم بها. لم أكره ما شاهدت، فكثير من عظمة تاريخها ما زال شاخصا في الشوارع والساحات؛ والحنين الذي كنا نبحث عنه ما زال ينادي من يفتش عن أنفاسه الضائعة هناك؛ لكنني عدت من دون أن أحبّها كما هيأت قلبي لملاقاتها وطلبت منه أن يستعد لها. عدت منها متيقنا أن روسيا اليوم هي دولة مثل باقي الدول المتجبرة، وإن بقيت «شرقية» بالميراث، إلا أنها أصبحت «غربية» حتى النخاع، بأطماعها وبجشع قادتها، وبإتقانهم للعبة المصالح، ولهاثهم وراء استلام حصصهم من خيرات سائر الدول الضعيفة والمستضعفة. روسيا فلاديمير بوتين، لم تعد «شمس الشعوب» التي رقصنا تحت وبحماية دفئها، ولا حليفتهم، إلا إذا اقتضت مصالحها أن تلعب هذا الدور، كما لعبته في العراق وليبيا وسوريا وفلسطين، وتؤديه اليوم في أوكرانيا، سواء كانت مكرهة على ذلك، كما يعتقد مؤيدو بوتين، أو حفاظا على مصالحها كدولة عظمى، كما يعتقد المعارضون لبوتين. أقول ذلك وأعرف أنني أفتح على نفسي جبهة من المعارضين، الذين لا يوافقونني اليوم ولم يوافقوني وقتها على هذه القسمة؛ وجبهات من المعارضين الذين لن يقبلوا ما سأقوله بناء على زوال أسس هذه القاعدة، ساعة انهار الاتحاد السوفييتي العظيم، واختفى معه حلف وارسو، الذراع العسكرية الرادعة في مواجهة الغرب وذراعه العسكرية، حلف الناتو، الذي ساهمت قوته في اخضاع دول العالم، إلى هيمنة «القطب الواحد» وإلى معاملة روسيا كقوة ثانوية، أو في أحسن الأحوال كقوة إقليمية عجزت، لسنوات، على مواجهة عدة أحداث عالمية بندّية متوازنة. لن نجد أوضح مما يقوله بوتين بنفسه عن دوافع بلاده من حربه الحالية ضد أوكرانيا؛ فهو، بعد أن يسرد ماذا حصل من لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي وتعاظم دور أمريكا وحلفائها الأوروبيين واعتداءاتهم على كثير من الدول المستقلة وتدميرها والفوز بمقدراتها، واستمرار مساعيهم في محاصرة روسيا، والشروع باتخاذ خطوات فعلية تهدد أمنها ووحدة أراضيها، مثل ما حدث من جانب أوكرانيا خلال السنوات الماضية، يعلن أن روسيا عازمة على التصدّي لجميع ما يحصل، حتى تسترد مكانتها كقوة عالمية، لها ما لها وعليها ما عليها، في بنى النظام العالمي الذي لن يرسم إلا معها وبمشاركتها التامة.
فهل، والحال كما يصرّح بوتين بنفسه، يتوجب على كل إنسان أن يتخذ موقفا معه أو ضده؟ وهل يكفي من أجل تفضيله في المنازلة الحالية بينه وبين أوكرانيا الدمية، حليفة أمريكا الإمبريالية، ما نسمعه من مؤيديه بيننا بأن الفارق يكمن بكون أمريكا دولة إمبريالية مارقة، بينما لم تزل روسيا بوتين، حتى يومنا هذا، مجرد دولة رأسمالية كبرى، تأوي عتاة الرأسماليين الذين سطوا على خيرات الاتحاد السوفييتي، وروسيا تحديدا، ويتحكمون في رقاب دولة كانت ذات يوم امبراطورية عظمى؟
أنا ضد سياسة أوكرانيا واعتداءاتها على الأراضي الروسية وتحرّشاتها الوقحة بالسيادة الروسية؛ وضد سياسات أمريكا التوسعية وتدميرها للدول ونهب خيراتها وسحق شعوبها ومحاولاتها للتحكم المنفرد في النظام العالمي؛ لكنني لا أستطيع تأييد حرب بوتين الحالية على أوكرانيا، حتى لو بررتها مصالح روسيا، كما ساقها بوتين علنا، فالذي سيدفع فواتير هذه الحرب هما شعبا أوكرانيا وروسيا، ويكفي بذلك دافعا ألا أقف معها. أسمع من سيهزأون بإنسانية هذا الموقف وتقريعه، لاسيما أولئك الذين يعيشون على حد مسطرة واحدة اسمها أمريكا، فاين تكون أمريكا يكونون ضدّها. هذا حقهم وليؤمنوا به؛ لكنهم لا يستطيعون أن يدّعوا امتلاك ناصية الحق وحدهم، فهم ينامون في حضن «دب» كان قد عض «أثداء أمه» تلك التي كنا نسميها «شمس الشعوب». ستنتهي هذه الحرب وستبقى الحقيقة غائبة بين فلاديمير لينين وفلاديمير بوتين.
كاتب فلسطيني

 

 

الطريق إلى شانغهاي:

مشاهد على متاهات

العرب في إسرائيل

جواد بولس

ستصبح مشاهد هبة شهر أيار / مايو المنصرم مجرد فواصل صغيرة في حياة شعب عرف الأمل مطويا، منذ أكثر من مئة عام، في صفحة وعد بريطاني مشؤوم؛ وتجرع حليب فجر ذبحوه في عام النكبة. وستمضي الشهور ولن يبقى في الذاكرة غير الغصات وفي الصدور غير الوجع. أعود إلى تلك الهبة وتبعاتها بعد أن قرأت، يوم الاربعاء الماضي، في جريدة هآرتس العبرية، ما قاله ممثل النيابة العامة الإسرائيلية لقضاة المحكمة العليا الإسرائيلية أثناء مرافعته في الاستئناف على قرار الحكم الذي أصدرته المحكمة المركزية في حيفا ضد الشاب، ابن مدينة عكا، محمد أسود.
ففي أعقاب تلك الهبة الشعبية اعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الشبان العرب، وقدمت ضدهم لوائح اتهام، تضمنت تهم المشاركة بأعمال الشغب والتسبب بأضرار لممتلكات يهودية وغيرها من هذه التهم الشبيهة، وطالبت بإدانتهم وبإنزال عقوبات قاسية بحقهم. وفي نهاية الشهر الماضي حكم قاضي المحكمة المركزية في حيفا على الشاب محمد أسود بالسجن الفعلي لمدة سنة بعد أن أدانه بمثل تلك التهم.
وفي الاستئناف على القرار طالب ممثل النيابة من قضاة المحكمة العليا تشديد العقوبة على المتهم بشكل استثنائي وغير مسبوق لكي يصبح الحكم في هذا الملف سابقة تحتذى في سائر القضايا المرفوعة ضد معتقلي الهبة الذين وصفهم بمثيري الشغب؛ وبسبب الخطورة الصارخة المنبعثة من الأحداث التي جرت في مواقع مختلفة من البلاد «ولأننا لا نتحدث عن عدو خارجي وإنما عن مواطني الدولة وعن جزء من النسيج المدني المشترك فيها» كما جاء في أقواله أمام القضاة. وأضاف جازما بأن هؤلاء المواطنين قد «تحولوا إلى عدو من الداخل، فالاحتجاجات قد استهدفت المناعة القومية للدولة، والأمل بحياة مشتركة» وهذا كله ينطوي على خطورة بالغة قد تؤدي إلى انشقاق بين المواطنين، حسب رأيه.
سننتظر كيف ستتعاطى المحكمة العليا مع هذه المسألة الخطيرة؛ وسنعرف عما قريب، فيما إذا سيقبل قضاتها موقف النيابة العامة ويعتبرون بدورهم كل المواطنين العرب الذين شاركوا في الهبة الشعبية «أعداء من الداخل» على كل ما سيستوجبه هذا التعريف القانوني من تبعات، ويعنيه بالنسبة لمكانة المواطنين العرب وحقهم في الاحتجاج ومواجهة سياسات القمع والاضطهاد العنصري الممارس ضدهم من قبل مؤسسات الدولة.
إننا نقف أمام مشهد مفصلي في مصير علاقة الدولة بمواطنيها العرب؛ وقد أراهن اليوم على أن المحكمة العليا الإسرائيلية ستنضم بشكل سافر وواضح، عاجلا أم آجلا، لموقف النيابة العامة الذي يمثل، في الواقع، موقف الحكومة الرسمي وسياساتها، في الحاضر والمستقبل، تجاه مواطنيها العرب.

لن يجدينا التهرب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة

ومن المفارقات المدهشة أن ما شاهدناه خلال أحداث هبة أيار/مايو وكيف تعاملت وستتعامل مؤسسات الدولة مع مواطنيها العرب، يجري بالتوازي مع تنفيذها لبعض السياسات المغايرة تجاههم ولاتخاذها بعض القرارات الرسمية التي قد تبدو نقيضة لممارساتها العنصرية العملية؛ لكننا، إذا ما تمعنا فيها بجدية، سنجد أنها ليست أكثر من تكتيكات مكملة ومدروسة وتنفذ كجزء من سياسة الحكومات الإسرائيلية المرسومة بدقة تجاه من تعتبرهم «أعداءها من الداخل». فلقد قرر وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، تعيين النائبة عن حزب ميرتس، غيداء ريناوي زعبي، قنصلا إسرائيليا عاما في مدينة شنغهاي الصينية. وسوف تكون السيدة غيداء أول مواطنة عربية مسلمة تتبوأ منصبا هاما كهذا؛ لكنها ليست أول مواطن عربي يخدم في السلك الدبلوماسي الإسرائيلي، اذ سبقها إلى ذلك المنصب مواطنون عرب آخرون، دروز ومسلمون ومسيحيون.
لم يلق هذا القرار ما يستحقه من اهتمام بين المواطنين العرب، لا من باب المعارضة ولا على سبيل الدعم، كما تحاول أن تدعي بعض المواقع الإخبارية العبرية؛ فباستثناء بعض التعقيبات عليه من جهة بعض من يتعاطون الإعلام السياسي، سنجد أن الخبر قد مر بهدوء نسبي، من دون أن يؤدي قرار التعيين نفسه إلى أي احتدام أو مواجهات بين معسكر من المؤيدين ومعسكر المعارضين. وهذا ليس صدفة بل دليلا على حالة السبات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.
لا أعرف متى ستتراجع حكومة إسرائيل عن موقفها الحالي وتطلب عودة قنصلها العربي من شنغهاي، لكنني على قناعة أن ذلك سيحصل قريبا؛ خاصة وأن البعض قد غمز وأشار إلى أن قرار الوزير لبيد مشكوك في نزاهته، ويستهدف، في الواقع، أولا، إبعاد النائبة غيداء عن ساحة الكنيست لتضمن حكومة بينيت – لبيد عدم تكرار «مشاغبتها» في المستقبل، كما حصل عندما صوتت ضد قانون تجنيد الشبان المتدينين اليهود (الحريديم)؛ وثانيا، لمعاقبتها بسبب بعض تصريحاتها ومواقفها التي استفزت ديوك الحكومة وصقورها.
لقد تزامن قرار تعيين مواطنة عربية كقنصل يمثل إسرائيل في أحد المواقع الجغرافية المؤثرة في العالم، مع قرار تعيين قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، خالد كبوب، في المحكمة العليا الإسرائيلية، خلفا للقاضي العربي الحالي جورج قرا، الذي سيخرج قريبا إلى التقاعد. قد يفهم من قرار تعيين القاضي كبوب أن صناع القرار في الدولة سيحافظون، لأسبابهم الدعائية الخاصة، على وجود قاض عربي واحد في المحكمة العليا، وقد يتم ذلك بالتناوب بين أبناء الطوائف جميعها، فخالد المسلم يخلف جورج المسيحي، وهذا قد يخلفه في المستقبل قاض من بني معروف.
لم يكن غريبا اذن أن تقوم المصادر العبرية بتأكيد هوية القاضي كبوب الدينية، كمسلم يخلف مسيحيا؛ لكنني لم أستوعب حين لجأت وسائل إعلام عربية الى إبراز هذه الجزئية، أو حين سخرتها بعض الشخصيات العربية التي باركت الخطوة وهنأت القاضي، مثلما فعلت النائبة غيداء ريناوي زعبي عندما كتبت على صفحتها: «خطوة تاريخية، تعيين قاض عربي مسلم في المحكمة العليا. ألف مبروك اختيار القاضي خالد كبوب خلفا لجورج قرا بالعليا، وبهذا يحقق خطوة تاريخية كعربي مسلم يشغل منصب قاض في المحكمة العليا». كلام يقال من قبل شخصية قيادية عربية، بروتينية عادية، ويعكس في الواقع ما تعانيه هويتنا الفردية والجمعية من أزمات. كلام يكشف، مرة أخرى، عن تعقيدات حياتنا، خاصة فيما يتعلق بفهمنا لمكنونات هويتنا، وبعلاقتنا مع الدولة، وكيف يكون تحقيق مطالبنا في المساواة الكاملة وما هي مساحات اندماجنا المتاحة في الدولة اليهودية والمرغوبة من قبلنا.
لقد كتبت في الماضي منوها الى أن من يراهن على أن إسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم في عرى مواطنة هادئة، يخطئ ذلك لأننا بالرغم من مواجهتنا لتداعيات أزمة خطيرة وساحقة، لم ننجح كمجتمع في وضع رؤى كفاحية حقيقية وواقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، ولم نحاول إيجاد السبل الصحيحة للتوافق المتزن مع الدولة أو للاشتباك الرابح معها.
إنها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية وبعيدا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء. ففي النهاية لن يجدينا التهرب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة. لا تحتاج هذه المواجهة الى الجرأة السياسية فحسب، كما يطالب البعض، بل تحتاج إلى التعامل معها كضرورة وجودية ملحة، والاعتراف بها كمعضلة يجب تفكيكها بمفاهيم صحيحة وحكيمة، وإلا سيبقى التسيب القائم اجتهادا متاحا بعشوائية لكل المواطنين ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، وليس محصورا في هذه الحركة أو ذاك الحزب.
وبعودة إلى مشاهد التيه من هذا الأسبوع، فهل حقا نريد تعييين مزيد من القضاة في جهاز القضاء الاسرائيلي بشكل عام وخاصة في المحكمة العليا؟ وإذا كان منصب القاضي يعتبر إنجازا مرموقا واستحقاقا لمن اختاروا كلية الحقوق عنوانا لطموحهم في شبابهم، فلماذا نعيب على من قبل أن يكون قنصلا في شنغهاي مثلا، وهو منصب مرموق أيضا بدون شك؟ وإذا كان الجواب على هذا مطبوعا في فقه البداهة التي عشنا في أكنافها، والحظر في أن نقبل أن نكون أبواقا تدافع عن سياسات دولة تعتبرنا أعداءها الداخليين فماذا سنقول لمئات الأكاديميين العرب الذين استوعبتهم مرافق الدولة حتى أصبح بعضهم يتبوأون أعلى المناصب في الجامعات والمستشفيات والشركات والوزارات، ويقفون على منصات البلاد وخارجها، كعرب وإسرائيليين، ويستعرضون منجزاتهم ومنجزات مؤسساتهم الإسرائيلية التي يمثلونها؟
لا أقول هذا دفاعا عن قبول النائبة غيداء وموافقتها لإشغال منصب القنصل في شنغهاي، ولا تقليلا من مكانة القضاة، ولا ذما لجميع من كافحوا وتميزوا في ميادين العلم أو في الادارة أو في الرياضة واستحقوا عن جدارة مناصبهم وتمثيل ما أنجزوه حتى لو كان باسم الدولة وتحت علمها، أقول ذلك، لأذكر بسوء حالنا وبتيهنا وبأننا ماضون نحو مستقبل قاتم لا نعرف فيه كيف يكون الحسم بين المرغوب والمشتهى وبين المحظور، فهذا سيبقى قرارها وستتحمل هي وحدها عواقبه.
كاتب فلسطيني

 

بين «بيغاسوس» والأسرى

الفلسطينيين الإداريين تسكن الحقيقة

جواد بولس

 

أثارت أخبار فضيحة استعمال برنامج التجسس «بيغاسوس» من قبل عدة مؤسسات وجهات عالمية، وبضمنها، كما جاء في الأخبار، بعض حكام أنظمة الدول وكبار المسؤولين فيها، موجة من الغضب والانتقادات؛ لاسيّما بعد أن نُشرت، في كبرى الصحف العالمية، قائمة من خمسين ألف شخصية، كانت أرقام هواتفهم مدرجة كأهداف للتنصت عليها، وتعقبها من قبل جهات معنية، نجحت بشراء ذلك البرنامج وباستعماله.
ومع أنني لست خبيرا في علوم البرمجة والحاسوب، ولا مطلا محترفا على آخر ما وصلت إليه تقنيات «السايبر الهجومي» إليها ينتمي هذا البرنامج المتطور، إلا أنني أعرف أننا نتحدث عن سلاح خبيث ومعقد؛ فهو عبارة عن برنامج يمكن تثبيته على جميع أجهزة الهواتف الذكية، وتشغيله من قبل مصنّعيه أو مقتنيه بسهولة نسبية، بهدف التجسس على صاحب الهاتف، ونقل جميع ملفاته وتحويله إلى هدف يخضع للمراقبة الدائمة وللسيطرة وما يتبعهما.
صاحبة هذا الاختراع هي شركة إسرائيلية، تسمى «أن أس أو» (
NSO) ، يقع مركزها في مدينة هرتسليا، ويعمل فيها العديد من خريجي الوحدات العسكرية الإسرائيلية المختارة، وفي طليعتها وحدة المخابرات المعروفة برمزها ( (8200.
وقد ثارت ثائرة بعضهم في خضم توارد الأنباء والتفاصيل عن حجم الفضيحة، بعد أن وردت أسماؤهم في تلك القائمة. وقد يكون أبرز المستَفزين هو الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي طلب شخصيا من نفتالي بينيت رئيس حكومة إسرائيل، التحقيق في خبر إخضاع هاتفه الشخصي لعملية التجسس، والتحقق من جميع أنشطة الشركة، صاحبة البرنامج. وهاجم ماكرون وغيره الشركة الإسرائيلية، واتهموها بتخطي جميع الخطوط الحمر، والأعراف المتبعة دوليا، حين وافقت على بيع منتجها الخطير لعدة جهات في جميع أنحاء العالم، على الرغم من أنه كان واضحا أن تلك الجهات ستستغل البرنامج لأهداف غير نظيفة، كما اتضح فعليا. لا أعرف كم من متابعي هذه القصة سوف يصدّقون حرقة الرئيس الفرنسي ماكرون وأمثاله من أصحاب النفوذ والأطماع السياسية في دول أخرى؛ إذ لولا وقوعه شخصيا، ومن مثله من المسؤولين السياسيين، فرائس لهذا السلاح، كما نشرت الصحافة، لما أعاروا، لا هو ولا هم، هذه الفضيحة اهتماما حقيقيا، ولما عبّر، بأسلوب قاطع، عن غضبه واعتراضه على تسويق ذلك البرنامج في السوق العالمية، وبيعه بملايين الشواقل لكل من يرغب ومن يدفع. ولأنني لا أصدقه وأعرف أن كثيرا مما قيل، من قبله وقبل آخرين، في حق شركة
NSO قد قيل وهو مغمّس بالرياء وبالتملق، أعترف بأنني تابعت فصول هذه الفضيحة وأفعال أبطالها بغضب دفين؛ وكنت، في الوقت نفسه، أتابع ما يرد من أخبار عما يحصل مع الأسرى الفلسطينيين الإداريين ومقاطعتهم لمحاكم الاحتلال التي أعلنوا عنها منذ مطلع العام الجاري.

بيغاسوس أسقطت الستائر التي تغطي تفاصيل جريمة صناعة الأسلحة الخبيثة، التي لا تخضع لأية معايير إنسانية أو قانونية، وبيوعات لا تحكمها ضوابط أخلاقية

يقبع في السجون الإسرائيلية، هذه الأيام، قرابة خمسمئة سجين إداري؛ وهم، مثلهم مثل آلاف الأسرى الإداريين الذين سبقوهم، اعتقلوا من دون أن توجه لهم تهمة عينية، ومن دون أن يحظوا بحقهم بالدفاع عن أنفسهم في محاكم نزيهة، وبناء على ما يدعى «ملف البيّنات السري». كنت في الماضي أسخر من هذه الملفات وتسميتها المغرضة، وكنت أتحدّى القضاة العسكريين، بأن يعطوني ساعة لأكتب لهم فيها بضعة شبيهات من تلك الصفحات «الاستخباراتية» وسأسميها أنا أيضا، ملف معلوماتي السرية. كنت أصف، متهكما، تلك الأوراق/التقارير، التي كانت محفوظة داخل مغلفات بنية، وموضوعة في صناديق حديدية تحملها عناصر المخابرات، بأوراق لف «أرغفة الفلافل» فهي تشبهها من بعيد. ومرّت السنون.. حتى شاركت ذات يوم في ندوة كنت قد دعيت إليها من قبل فرع نقابة المحامين الإسرائيلية في القدس. كان عنوان الندوة «الاعتقالات الإدارية – ضروراتها مقابل قانونيتها». وقد شاركتني على منصة المتحدثين مجموعة من المسؤولين القانونيين العسكريين الكبار، ومستشار قضائي متقاعد، كان يرأس، لسنوات طويلة، وحدة قضائية في جهاز المخابرات العامة (الشاباك). سادت في الندوة – كما لكم أن تتخيلوا – أجواء ساخنة؛ خاصة بعد أن تلقيت دعما من قبل بعض الزملاء اليهود الحاضرين، الذين وافقوني ولم يخفوا اعتراضهم على ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين. ما زلت أذكر كيف حاول، حينها، المستشار القضائي لجهاز المخابرات أن «يطمئنني» كاشفا أن جهازهم قد توقف، منذ سنوات، عن الاعتماد على ما ينقله لهم المخبرون والعملاء فقط، وعن استعمال «أوراق الفلافل» قالها مداعبا مقلّدا تسميتي؛ فالعالم، هكذا أعلن بثقة مخابراتية جازمة، تغيّر، والتقنيات التي أصبحت في متناول أيادي المخابرات تطوّرت، وجهازهم أصبح قادرا حتى على التقاط «أنفاس ناموسة» تائهة فوق سرير من يخضع للملاحقة والتنصت، وهو داخل غرفة نومه. لم أسمعه ينطق باسم «بيغاسوس» عندها، ولكن روح ذلك «الحصان المجنّح» – وهو «بيغاسوس» في الميثولوجيا الإغريقية – كانت تهيم في القاعة.
لم تنحصر بيانات الاندهاش والشجب، من افتضاح حجم سوق مبيعات الشركة الاسرائيلية ونوعية زبائنها، بأصوات تهافتت من أنحاء العالم؛ بل انضمت إليها أصوات العديد من الشخصيات الإسرائيلية، خاصة بعد أن شاعت أخبار عن تسخير جهاز الشرطة الإسرائيلية لهذا البرنامج، واستعماله في ملاحقة عدة أشخاص ومن بينهم ناشطون اجتماعيون وصحافيون وشخصيات، كانت لهم علاقة في ملفات الفساد المفتوحة ضد بنيامين نتنياهو. كان المشهد الإسرائيلي الذي رافق هذه الفضيحة عبثيا ورخيصا؛ فالقضية أخطر وأكبر مما حفّز الرئيس ماكرون على التعبير عن رأيه، ولا تنحصر فقط بمحتويات هاتفه ولا على أعتاب شركة (
NSO) ولا بسبب تصنيعها لبرنامج التجسس «بيغاسوس» وضحاياه الحقيقيين والمزعومين. فعن هذه المخاطر، تحديدا، نشرت عشرات التقارير، وبعضها ذكّر بتاريخ هذه الظواهر وبصمت «العالم الحر» عنها. إنها أكبر لأنها تسقط الستائر التي تغطي تفاصيل جريمة صناعة الأسلحة الخبيثة على أنواعها، وكيف تجنى المليارات في أسواق «خنازيرية» تمتد من مشارق الأرض إلى مغاربها، ومن خلال صفقات، تنضح جشعا، ولا تخضع لأية معايير إنسانية أو قانونية صارمة، وبيوعات لا تحكمها أية ضوابط أخلاقية. وقد تكون إسرائيل من أنشط الدول في هذه الأسواق المعتمة؛ وقد تكون شركة (NSO) خرقت جميع المحاذير والمحظورات، لكنها ليست الشركة الوحيدة التي تقوم بذلك، لا في إسرائيل ولا في كثير من دول العالم «المتحضر». ولا أقول ذلك من باب ايجاد الأعذار للشركه ولأفعالها، بل للتأكيد على شيوع هذه الجرائم وتورط الكثيرين في ممارستها.
لن نستطيع في مقالة واحدة استعراض تاريخ تلك العلاقات التي سادت بين شركات تصنيع الأسلحة التقليدية والإلكترونية الحديثة والخبيثة، وجهات مشبوهة، أو حكام أنظمة ظلامية لجأوا، في الماضي واليوم، إلى استخدام «بيغاسوس» وأشباهه؛ فبعض المآسي، التي تسببتها تلك الأسلحة، موثقة في سجلات الأمم، ومكتوبة بدماء الضحايا الذين لوحقوا وأخضعوا للمراقبة قبل بيغاسوس وبعده، واعتقلوا وقضوا في غياهب الزنازين أو في الأحراش النائية. لقد دار معظم النقاش داخل إسرائيل حول تمادي الشرطة باستعمال هذا البرنامج في تعقب هواتف العديد من الاشخاص، من دون أن تحصل على أوامر قضائية لفعل ذلك؛ ورغم أهمية هذه الجزئية إلا أن النقاش لم ولن يتدحرج نحو صلب الظاهرة نفسها وخطورتها. فأنا مقتنع بأن المجتمع الاسرائيلي غير مستعد للكشف عن الحقيقة، سواء عن حقيقة علاقات هذه الشركة ومثيلاتها في العالم، أو عن حقيقة الظروف التي استعملت فيها الشرطة ذلك البرنامج.
وبعودة إلى أحداث تلك الندوة؛ لم نتفق حول معظم المواضيع التي تطرقنا إليها؛ فجميع المتحدثين العسكريين دافعوا عن حق إسرائيل في اعتقال الفلسطينيين إداريا، بينما عارضتهم وفندت ذرائعهم واحدة تلو الأخرى. وقد حمّلت قضاة المحاكم العسكرية والمدنية المسؤولية عن الإفراط في ممارسة الاعتقالات الإدارية، وعن الانزلاقات التي نشهدها داخل المجتمع الإسرائيلي، وعن التآكل الأخلاقي والقيمي والقانوني الحاصل في داخله؛ لأنهم، أي القضاة، تمنعوا عمدا عن ممارسة دورهم في تحجيم شهية المؤسستين الأمنية والسياسية، وأطلقوا لها الأعنة. وقد فاجأنا مستشار الشاباك حينها عندما صرّح أنه يشاركني رأيي حول مسؤولية ودور القضاة عمّا حصل ويحصل في الدولة. استحضرت اليوم، وأنا أتابع أخبار فضيحة التجسس، موقفه وتيقنت أن هؤلاء القضاة كانوا عمليا «بيغاسوسات» ذلك الزمن؛ ولكنني، بالمقابل، عندما قرأت أخبار إصرار مقاطعة الأسرى لمحاكم الاحتلال، تيقنت أن الحقيقة لا تعيش في الأساطير، بل تتدفق كالبرق من عتمة الزنازين.
كاتب فلسطيني

 

 

مرايا العرب

في إسرائيل مهشّمة

 

جواد بولس

 

بعد أن نجحت الوزيرة أييلت شاكيد، شريكة رئيس الحكومة نفتالي بينيت في حزب يمينا، بتمرير قانون المواطنة، الذي بموجبه ستخسر آلاف العائلات الفلسطينية فرصة لمّ شملها والعيش في حالة استقرار إنساني، صرّحت، بنشوة المنتصرين: “لقد انتصرت الصهيونية والعقل السليم”. وأضافت موضّحة، في مقابلة صحافية نشرتها على صفحتها، أنها لا تريد أن تتطرق إلى مسألة التصنيفات، أو في ما إذا كانت تعتبر أعضاء حزب ميرتس صهاينة أم لا، فالقانون في أساسه، “يدافع عن الأمن وعن الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، ويجب ألا نمارس أي “غسيل للكلام”، فللقانون توجد كذلك موجبات ديموغرافية، كي نمنع تجسيد حق العودة بشكل زاحف”. إنها تتحدث بوضوح وبإصرار، كممثلة شرسة لليمينية الدينية الصهيونية، التي يسعى دهاقنتها إلى إحكام سيطرتهم على مقاليد الحكم والتسيّد في الدولة.
تعدّ شاكيد، في قاموس السياسة الدارج والواقع الإسرائيلي الحالي، حليفة للدكتور منصور عباس وإخوانه في القائمة الموحدة، الذراع السياسية للحركة الإسلامية. ورغم تطرّف شاكيد السياسي لا نراها تقسو عليهم؛ بل إنها تبدي، حتى وهي تشيد بانتصارها الصهيوني الظافر ، تفهّمها لموقفهم الصعب، لأن القانون من ناحيتهم “ليس سهلا”، كما قالت في تلك المقابلة.
على الرغم من ذلك، كان تصرّف قائمة الدكتور منصور إزاء مبادرة الوزيرة شاكيد متوقعا؛ بل نراه، هذه المرّة أيضا، مدافعا عن بقائهم في الحكومة، على الرغم من تبعات القانون الكارثية على إخوانه العرب والمسلمين، ومشيدا بإنجازات قائمته، ومتحدّيا خصومه الحركيين الإسلاميين والحزبيين السياسيين؛ كما كتب قبل أيام على صفحته، حينما أجاب مَن ساءلوه: “لماذا يا منصور ما بتفرجينا عضلاتك وبتسقط الحكومة ؟” قائلا: إن “أسلوب العضلات لا يجدي نفعا. الحلول تأتي بالتأنّي والحوار والإقناع بأسلوب واقعي وعقلاني. فبعد أن ننتهي من هذه المرحلة سنعرض على أبناء مجتمعنا ما أنجزناه بالحقائق والأرقام.. وندعو الآخرين أيضا أن يعرضوا ما أنجزوه بسياساتهم وأساليبهم خلال هذه المرحلة، ليكون أبناء مجتمعنا كافة حكَما بيننا”. إنّه يتحدث بلغة القائد الجديد الواثق من أن ما يفعله وإخوانه في الحركة يلقى قبولا بين عامة الناس، وأنّ مستقبل حركته السياسية سيكون زاهرا، لأن المواطنين العرب، هكذا يصر، قد عافوا الخطابات السياسية التقليدية وشعاراتها الفارهة، ويريدون حصصهم من موائد رحمة الدولة ومؤسّساتها؛ وهو من أجل تحقيق ذلك يعمل وسيبقى يعمل من داخل الحكومة.
يعتقد البعض أن ما يقوم به قادة القائمة الإسلامية الموحّدة، لا يستحق المتابعة ولا النقاش؛ فهذه حقبة سوف تمسي قريبا مشهدا من تاريخ عابر، وستنتهي فصولها كنثار هش منسيّ، وستطوى وكأنها لم تكن. ومع أنني أتوقع مثلهم، كما قلت في السابق، بأن فترة “زواج المنفعة” القائم حاليا بين القائمة الإسلامية الموحدة وباقي مركبات الحكومة الإسرائيلية، سوف تنفد ضرورياته قريبا؛ إلا أن التجربة، كما زوّدونا بها، ستترك وراءها آثارا لن تمّحي تلقائيا؛ فالائتلاف بين قوة سياسية حركية إسلامية، تحظى بتأييد واضح بين المواطنين العرب في إسرائيل، وعناصر من اليمين الصهيوني المتدين المتطرف، شكّل سابقة غير معهودة في العمل السياسي الإسرائيلي، بشكل عام، وداخل المجتمع العربي على وجه الخصوص؛ وعزّز، كما نلمس بوضوح، نشوء مفاهيم “مواطنية” شعبوية، مضللة وملتبسة، ساعدت على تشكيل معالم شخصية الفرد/ المواطن العربي المسلم الراضي بمعيشته في ظل دولة إسرائيل، والقانع بدوره “المؤثر” في أحضان “مجتمع محافظ”، تماما كما نادى شعار الحركة الإسلامية قبل الانتخابات، ودعا الناس للتصويت لهم لأن صوتهم “واقعي، مؤثر ومحافظ”.

بينيت وشاكيد وزملاءهما لن يقبلوا بأن تكون “عصمة” حكومتهم بيد منصور عباس وحركته الإسلامية، وسيبقى الطلاق خيارا من طرفهم فقط

لن تتوقف القضية، إذن، على مصير القائمة الموحّدة السياسي، ولا على مستقبل حركة الدكتور منصور عباس الإسلامية؛ فتزايد قوّتها الاجتماعية والسياسية من أصله، كان نتيجة لتراجع قوة سائر الأحزاب والحركات السياسية التقليدية؛ كما أدّى ذلك إلى تشجعّهم على الترويج لبناء شخصية المواطن العازف عن ممارسة واجبه السياسي الوطني الفعّال، في مواجهة سياسات القمع والعنصرية الإسرائيلية الرسمية، والقانع بدوره “المؤثر والمحافظ” في مجتمع يسعى لنيل حقوقه المعيشية “بالتأني والحوار والإقناع بأسلوب واقعي وعقلاني”، حتى لو كان الثمن، كما نرى، فك الارتباط الكامل بين ضفتي الهوية التاريخية لمجتمعنا بمركبيها التقليديين: المواطني والوطني. لم يُخفِ الدكتور منصور عباس، ذات يوم، رؤية حركته السياسية والاجتماعية؛ بل على العكس تماما، كان ولم يزل يجاهر بها، ويعمل من أجل تحقيقها مهما كلّفه ذلك من توافقات ذرائعية خطيرة، توصّل إليها مع أعتى القوى الصهيونية اليمينية؛ فاجتماعيا هو لن يُسقط الحكومة، لأنه يريد أن يحقق تغيير أحوال المواطنين ليضمن “مجتمعا محافظا”، كما أعلن عنه منذ البداية؛ وسياسيا، لن يسقطها لأنه يعرف أن “الحكومة المقبلة، في حالة سقوط هذه الحكومة، ستكون أسوأ بالتأكيد”، وهذه بالتأكيد لن ترضى به حليفا. لا أعرف إذا كان الدكتور عباس مؤمنا بقوته أو بحرّيته على إسقاط الحكومة، لكنني متأكد بأن بينيت وشاكيد وزملاءهم لن يقبلوا بأن تكون “عصمة” حكومتهم بيد منصور عباس وحركته الإسلامية، وسيبقى الطلاق خيارا من طرفهم فقط؛ وهذا سيحصل حتما حين تختمر الظروف السياسية ويُعرف مستقبل نتنياهو السياسي، وتصبح إمكانية إقامة حكومة يمينية خالصة جديدة مواتية وممكنة. لقد خلقت تجربة دخول القائمة الاسلامية الموحّدة إلى شراكة مع النظام الصهيوني الحاكم في الدولة اليهودية، بمبرراتها المعلنة من قبل شيوخها وقادتها السياسيين، سابقة لافتة وتحدّيا جدّيا لمواقف الحركات الإسلامية، التي لا تؤمن بشرعية النضال البرلماني، أو الشراكات مع المؤسسات الصهيونية؛ حيث نفت، بدخولها إلى الإئتلاف الحكومي، استحالة ذلك التزاوج بسبب إسلامية المواطن أو هوية التنظيم الاسلامية وحسب، وأثبتت، في الوقت ذاته، أن هذا الخيار ممكن من الناحية العملية، وجائز من الناحية الشرعية، ومرغوب لأسباب نفعية؛ وقد يكون لهذه التجربة مآلاتها في المستقبل.
وكما قلنا، فإنّ آثار مغامرة القائمة الإسلامية الموحدة ستبقى حتى بعد انفضاض عقد هذه الحكومة، خاصة في ما يتعلق بترسيخها لمصطلح “المجتمع المحافظ” الفضفاض، الذي خلق هامشا قيميا ملتبسا تمّ تسخيره من قبل بعض القيادات المحلية والقطرية لتبرير بعض قراراتهم الخلافية، كما حصل، مثلا، قبل أسبوع عندما حظر رئيس مجلس محلي قرية جت المثلث عرض مسرحية “أصوات”، معللا قراره بأن “محتوى المسرحية يمسّ بتعاليم الدين الإسلامي وتقاليد مجتمعنا المحافظ”. مع العلم أن المسرحية عرضت في عدة قرى عربية من دون أي اعتراض من قبل رؤساء تلك القرى المسلمين. ففي صالح مَن خلق هذا الالتباس؟ نقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة ستسيطر فيها القوى اليمينية الدينية على منظومات الحكم، وستبطش بأيديولوجياتها العنصرية على كل الجبهات، حتى تنهار آخر مواقع دولة إسرائيل الأولى؛ وهذا يحدث بالشراكة وبالتواطؤ مع قوى متعدّدة من داخل مجتمعاتنا، التي تمر بحالة فوضى وضياع رهيبتين. إننا نعيش في ما يشبه الحلقة المفرغة، فالمؤسّسة الحاكمة تعمل على تشجيع نموّ مراكز قوى محلية حديثة النعمة والولاء، وعلى تفريخ عوامل إضعافنا الذاتية وتآكلنا من الداخل، وعلى دعم مظاهر العنف والجريمة والفساد وعدم محاربتها، ومن الناحية الثانية، فإن هذه التشكيلات الجديدة تعزز تأثير المؤسسة الحاكمة بيننا وتمكنّها من تفتيت عرى مجتمعاتنا والقضاء على بواطن حصانتها. وكل ذلك يجري من دون أن تنجح نخب مجتمعنا الواعية المأمولة في خلق حالة مواجهة ملائمة، واستعادة الرشد الكافي لوقف النزيف والبدء في عملية بناء متينة تستشرف المستقبل ومخاطره. لقد أشرنا إلى مخاطر ظاهرة القيادات الجديدة البديلة، ولم نر أي محاولات جدّية لمواجهتها؛ بل اكتفى البعض بالوقوف أمام مراياهم القديمة وممارسة صمتهم، أو إطلاق عبارات التهجم على تلك القيادات وتقريع بعض رموزها، ونسوا أن ذلك لوحده لن يغيّر واقعا ولن يحسم مصيرا. علينا، إذا ما أردنا الحياة الكريمة، أن نحطم مرايانا المهشمة ونمضي إلى ليلنا بعزيمة أصحاب الفجر والتراب.

*كاتب فلسطيني

 

 

تقرير أمنستي وإحياء

فقه النكبة الفلسطينية

 

جواد بولس

 

لم يكن توقيت نشر نتائج التحقيق العسكري الذي أجراه جيش الاحتلال مع نفسه حول حادثة مقتل المسن الفلسطيني حامل الجنسية الأمريكية عمر محمد عبد المجيد أسعد، ابن الثمانين عاما، محض صدفة؛ فقادة إسرائيل كانوا يعلمون عن عزم منظمة «أمنستي» العالمية، على عقد مؤتمر صحافي خاص يوم الثلاثاء، الأوّل من شباط/فبراير الجاري، حيث ستعلن المنظمة من خلاله بمقتضى المعايير الدولية، عن إسرائيل دولة فصل عنصري.
لقد تورطت إسرائيل بعد انتشار الأنباء عن مقتل ابن قرية جلجيلية الفلسطينية، الواقعة شمالي مدينة رام الله، بسبب كونه مواطنا أمريكيا، لا بسبب فضح الظروف الوحشية التي مورست على مسن فلسطيني من قبل عناصر الجيش؛ ولو لم يكن كذلك لما اكترثت ولا تحرّكت الإدارة الأمريكية.
كان رد فعل الإدارة الأمريكية على نتائج التحقيق العسكري متوقعا، فالناطق باسم الخارجية نيد بيرس، صرّح في أعقاب نشر التقرير قائلا: «إن أمريكا تنتظر إجراء تحقيق جنائي كامل، وتحمّل مسؤوليته كاملة». وعندما سئل في ما إذا كانت إدارته راضية من التوضيحات التي زوّدتها بها إسرائيل، قال: «نحن ما زلنا قلقين من ظروف موت أسعد، الذي هو مواطن أمريكي. لقد سجّلنا أمامنا رد الجيش وتفاصيل التحقيق والخلاصات، التي أظهرت وقوع فشل في الدفاع عن حياة إنسان».

مسألة فلسطين وشعبها لم تعد مجرّد قضية إنسانية تنتظر رحمة العالم ومِننه؛ وحسب المفاهيم الجديدة، تعتبر قضية سياسية وحقوقية وعرقية

على الأغلب فإن الإدارة الأمريكية سوف تعبّر في النهاية عن رضاها عن الإجراءات الإسرائيلية، وسوف تغلق هذا الملف، كما أغلقت جميع الملفات التي سبقته، وستعود العلاقات الحميمة بين الدولتين إلى طبيعتها. لقد جاء في البيان الصادر عن الجيش الإسرائيلي أن الحادث يكشف عن وجود «فشل قيمي في صفوف القوة العسكرية المتورطة، وعن خطأ في تقدير الموقف، وانتهاك جسيم لقيمة كرامة الانسان»؛ وأوصى التقرير بضرورة استخلاص نتائج التحقيق والعبر واستيعابها ونشرها بين جميع الوحدات، لمنع تكرار مثل هذه الحالات. كما قرر قائد الأركان كوخافي توبيخ قائد كتيبة «نيتسح يهودا» وإبعاد قائد السرية وقائد الفصيل، المتورّطَين في الجريمة، ومنعهما من إشغال مناصب قيادية لمدة عامين. لم تستحوذ تداعيات هذه الحادثة، رغم تفاصيلها المرعبة، على انتباه المجتمع الإسرائيلي؛ وحتى بعد نشر نتائج التحقيق العسكري وثبوت الوقائع، التي أدت إلى مقتل المواطن الفلسطيني، لم تتحرك ضمائر من يدّعون الموضوعية القيمية، ولم يُستفز إلا ندرة من المهتمين وأصحاب الأقلام في الصحافة العبرية. وبالمقابل، وكما كان منتظرا، فقد عرضت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية إنياس كالمار، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد، كما كان مقررا يوم الثلاثاء الفائت، خلاصة ما جاء في تقرير المنظمة، الذي امتدت فصوله على أكثر من مائتي صفحة؛ وجاء تحت عنوان «نظام الفصل العنصري (أبرتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، نظام قاس يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الانسانية».
لن نخوض اليوم في التفاصيل كما أتى عليها التقرير، ولا بمسوّغات خلاصاته الدامغة بحق إسرائيل ووصفها كدولة فصل عنصري، تدير نظام اضطهاد عرقي وهيمنة على الشعب الفلسطيني في كل المناطق التي تسيطر عليها وتتحكم فيها؛ وهذا يشمل جميع الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة، وأولئك المواطنين في إسرائيل نفسها، علاوة على اللاجئين النازحين في البلدان الأخرى. وعلى الرغم من ردة فعل قادة إسرائيل وتهجّمهم العنيف على مضامين التقرير، واتهامهم التلقائي لمنظمة العفو الدولية كجهة منحازة وخاضعة «للمنظمات الإرهابية» المعادية، أشعر بأن هنالك، داخل منظومات الحكم الإسرائيلية وخارجها، من يستوعب بأن هذا التقرير قد يشكّل انعطافا مهما في علاقة المؤسسات الحقوقية الدولية حيال حقوق الفلسطينيين، والممارسات الإسرائيلية ضدهم. وهذا ليس بسبب خطابهم الصارم الجديد، وكيفية تناولهم لمجموعة المسائل التي تحرّاها بمهنية دقيقة معدّو التقرير وحسب، بل كذلك بسبب منهجيتهم المفاهيمية اللافتة والمغايرة عمّا كان مألوفا وسائدا، في اجتهاد تلك المؤسسات الدولية، وحرصها على اتّباع سياسة التوازن المصنّع، الهادف إلى اعتبار اسرائيل ضحية الماضي والحاضر، التي يسمح لها، لأنها الضحية، أن تكون فوق قواعد قوانين الأمم ومواثيقه العقدية والإنسانية.
إنّ مسألة فلسطين وشعبها لم تعد مجرّد قضية إنسانية تنتظر رحمة العالم ومِننه؛ وهي، حسب المفاهيم الجديدة، تعتبر قضية سياسية وحقوقية وعرقية، تعود جذورها إلى عقود من القمع الممنهج والهيمنة التي بدأت بعام النكبة. لقد تنبأ بعض المفكرين والسياسيين اليهود مباشرة بعد انتهاء حرب يونيو/حزيران1967 بما سيسبّبه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وكيف ستصبح إسرائيل دولة أبرتهايد لا محالة. ورغم أن نبوءاتهم كانت تتحقق، عاما بعد عام، استمر قادة الشعب اليهودي بإحكام سيطرتهم على الفلسطينيين، والإيغال في وسائل قمعهم واضطهادهم. لم تكن نتائج الاحتلال مقصورة على الفلسطينيين كضحايا مباشرين لقمع المحتل واضطهاده، بل تسربت عواقبه إلى داخل المجتمع اليهودي، الذي بدأ يتعرّى كمجتمع أسياد مستعمرين، كان كل همه، ولم يزل، الاستئثار بكل الأرض وبكل خيراتها وإقصاء أهلها والتخلص منهم ومحو تاريخهم، بعد تدمير جغرافية الأمكنة وذاكرتها.
أقول هذا عائدا إلى جريمة قتل المسن الفلسطيني عمر أسعد، التي لم يكتب عنها فقهاء القانون وغيرهم ممن سيهاجمون، باسم النزاهة والعدل والحق، تقرير أمنستي وخلاصاته؛ وحتى بعض من كتبوا لم يفعلوا ذلك، إلا من باب وخزة ضمير صهيوني ناعس، أفاق كي يدافع عن طهارة الجيش المستحيلة. وقد يكون ما كتبه الصحافي عاموس هارئيل في جريدة «هآرتس» العبرية يوم الثلاثاء المنصرم احدى تلك المقالات البارزة، لا لأنه تطرق إلى تفاصيل الجريمة وحسب، بل لأنه ألقى بعض الضوء على ممارسات هذه الكتيبة المسماة «نيتسح يهودا» وألقى الضوء على الأسباب السياسية التي ستردع قادة الجيش الإسرائيلي من استنفاد العقوبات ضد أفرادها وقادتها المتورطين في حادثة القتل. لقد تبيّن أن تلك الثلة من الجنود قامت باحتجاز عمر أسعد وآخرين من أبناء قريته في فجر ذلك اليوم، من دون أي سبب أو ذريعة؛ ثم اعتدوا عليهم وألقوه، مع الآخرين، وهو مكبّل اليدين ومعصوب العينين، في ساحة بيت مهجور على أطراف قريتهم، وتركوهم تحت رحمة الليل والبرد القارس لمدة ساعات. وبعد أن أشبع الجنود نهمهم، أمروا الفلسطينيين المحجوزين بمغادرة المكان، بينما كان المسنّ عمر ملقى على الأرض دون حراك؛ بعدها غادر الجنود الموقع تاركين «صيدهم» وراءهم. لاحقا، وبعد مغادرة الجنود، أحضر المواطنون طبيبا من القرية فوجدوا عمرَ جثة وقد فارق الحياة.
«هذا تسلسل مرعب للأحداث» هكذا كتب عاموس هارئيل في مقالته المذكورة وأضاف «إن الجنود لم يروا بعمر أسعد إنسانا.. فتصرفوا معه بفظاظة قصوى ثم تركوه ليموت». لقد انتقد عاموس هارئيل قرار قائد الأركان وتمنى لو أنه استغل هذه الحادثة ليتخذ إجراءات أقسى بحق المتورطين والكتيبة برمتها، لكنه يعرف، مثل الجميع، أنها أمنية مستحيلة، فهؤلاء الجنود هم عبارة عن أشخاص تركوا أطر تعليمهم الدينية/الحريدية والتحقوا، مع مجموعات يمينية سائبة تسمّى «شباب الهضاب» بكتيبة «نيتسح يهودا» التي تتصرف بدوافع أيديولوجية متطرفة، امتثالا لتعاليم الحاخامات المرافقين للكتيبة، ورغم علم الجميع بهذه الحقيقة، لم تقم أي جهة مسؤولة بأي إجراء رادع بحقهم، فمضى أفرادها ينفّذون موبقاتهم بحرية تامة ضد الفلسطينيين، وهم يعرفون أنهم مدعومون من قبل شرائح مؤثرة في المجتمع وسياسيين ووزراء وصمت العاجزين والخائفين.
لقد تحققت نبوءة اولئك الأشخاص اليهود، الذين توقعوا كيف سيحوّل الاحتلال إسرائيل إلى دولة مارقة، وإلى نظام فصل عنصري واضطهاد عرقي؛ وهذا عمليا ما وصفته منظمة «أمنستي» في تقريرها الأخير، ومثلها فعلت منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية وجهات محلية ودولية كثيرة. لكن، ومع أن تقرير «أمنستي» قد يشكّل، كما قلنا، منعطفا في كيفية تعاطي بعض المؤسّسات القانونية والمحافل الدولية مع إسرائيل وسياساتها تجاه الفلسطينيين، لكنه وضع، في الوقت نفسه، تحدّيا جدّيا ليس أمام إسرائيل وحسب، إنما أمام مواطنيها العرب وقياداتهم أيضا. فإعادة القضية إلى أصولها، أي إلى ما قبل النكبة وخلالها وبعدها، والتطرق إلى ما حصل من تداعيات كوحدة واحدة سواء على مستوى الأرض/الجغرافيا، أو على مستوى الشعب، التاريخ والمستقبل، سوف يستدعي التوقف عند مضامين التقرير، وربما إلى إغواء البعض لإعادة النظر في فرضيات العمل السياسي ومآلاته المستقبليه وتأثيرها في واقع المواطنين العرب في إسرائيل. أعرف أن بعض الفلسطينيين وحلفاءهم سينظرون بعين الرضا إلى لغة أمنستي، وإلى خطابها الصارم، فموقفها بتناول القضية الفلسطينية، كرزمة واحدة، فيه الشيء الكثير؛ مع أن البعض قد يعتبره موطن ضعف كبير، لأنه يخلط بين الحلبات والجبهات والاستحقاقات الواجبة في كل ظرف وكل موقع.
كاتب فلسطيني

 

 

أوميكرون

وراءكم واللينش أمامكم

جواد بولس

 

 تستمر التداعيات السياسية داخل أروقة الكنيست الإسرائيلية، وعلى مستوى جميع الأحزاب السياسية بالتفاعل اليقظ، بالتوازي مع انتشار أخبار تفشي أوميكرون، المتحور الأخير لفيروس كوفيد 19، وما يدور حوله من نقاشات بين عامة الشعب وداخل أجهزة الحكم نفسها.
لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف ومتى سينتهي هذا الفاصل الوبائي من حياة البشرية، لكن تفاصيله سترافقنا في المستقبل، كمادة مهمة للباحثين الجديين في دراسة نشوء الجوائح، وللعلماء المهتمين بمستقبل الإنسان على كرتنا الأرضية؛ وستبقى تداعياته الحالية نثارا إنسانيا متطايرا يتلقطه بعض المتسكعين على أرصفة عصر التفاهة، وزادا في أفواه بعض الحمقى والمدّعين، يلوكونه إشباعا لجهلهم ولنرجسيّاتهم المخاتلة.
لقد زوّدتنا السنتان الفائتتان بكم هائل من المواد الخام الجاهزة، لتكريرها على شكل روايات، من جميع “جانرات” الرواية المعروفة والمبتكرة، أو قصائد أو مجموعات قصص قصيرة، أو أشكال إبداعية قادرة على إحياء أجناس أدبية اندثرت، مثل المعلقات والملاحم والمقامات والرباعيات. ولا أخفيكم أنني فكّرت، لوهلة، وأنا محجور في بيتي، بعد إصابتي بالفيروس، أن أطرق أحد تلك الأبواب، وأسجّل مشاعري الخاصة، إزاء ما قرأته وشاهدته في هذه الأسابيع القليلة، إلّا أنني وجدت أن ما سأكتب عنه اليوم أولى وأجدر برعايتي، لأنه هو الهاجس الحقيقي الذي ما انفك يتنامى في ظلال أخبار تحوّرات الفيروس؛ وهو، لا الفيروس، يشكّل الخطر الذي سيحسم مصيرنا، نحن المواطنين العرب، في إسرائيل. من منّا لا يتذكر المشاهد التي رافقت مواجهات هبة أيار/مايو المنصرم، خاصة تلك التي شاهدناها في شوارع وساحات المدن المختلطة مثل، عكا وحيفا ويافا واللد والرملة؟ وكيف يمكن أن ننسى محاولة قتل المواطن العربي، الذي مرّ صدفة بمركبته، يوم 12/5/2021، في أحد شوارع مدينة بات – يام، المتاخمة لمدينة يافا، حيث انقضت عليه قطعان الفاشيين وسحلوه محاولين القضاء عليه أمام أعين الكاميرات، وعلى مسمع ومرأى من العالم بأسره. لقد ملأت صور ذاك “اللينش” شاشات الفضائيات وتصدّرت تفاصيله عناوين معظم الصحف في إسرائيل وخارجها؛ ومع انتهاء موجة المواجهات بُشّرنا بأن قوات الأمن الإسرائيلية قامت باعتقال أربعة شبان يهود من المتورطين في محاولة القتل الجماعية، وانها أعدّت بحقهم لوائح اتهام جنائية. وكما علمنا مؤخرا فإن التقاضي بخصوص ثلاثة ملفات، ما زال جاريا أمام المحاكم، بينما صدر، في مطلع شهر كانون الثاني/يناير الجاري، حكم بالسجن الفعلي لمدة عام واحد على أحد المتهمين واسمه لاهاف أوحانانيا. لقد سمعنا عن القرار المستفز، بعد أن قررت نيابة الدولة تقديم استئناف عليه لدى المحكمة العليا الإسرائيلية مطالبة بإنزال حكم أقسى على المجرم، لكي يتناسب مع خطورة ما فعل، ومع تداعيات الجريمة التي شاهدها العالم برمته.

دور بعض قضاة المحكمة العليا وكثيرين من قضاة جهاز القضاء الإسرائيلي، كان حاسما في تقوية عصابات الفاشيين بعدم إنزال عقوبات رادعة بحقهم

لن أسهب في تفاصيل الوقائع كما سجّلها قاضي المحكمة المركزية بيني سجي، واعترف بها المتهم أمامه؛ لكننا نعرف أن المتهم وصل إلى المنطقة استجابة لنداء نشره بعض الناشطين في فرق الموت، من خلال وسائل التواصل، وفيه يهيبون بجنودهم الحضور لإطلاق حملة صيد ضد المواطنين العرب، وبهدف التعرض لمصالحهم التجارية الموجودة هناك. لقد تجمع عشرات المحمومين العنصريين أمام مطعم للشاورما يمتلكه مواطن عربي؛ فرفع أمامه هذا المجرم علم إسرائيل وبدأ يصرخ بالحاضرين المسعورين مرددا ومحرضا إياهم “الموت للعرب”؛ ثم اقتحم المطعم وسرق منه علب المشروبات ووزعها على المشاركين، بهدف إلقائها على زجاج المطعم وتكسيره. وقد أدين بناء على اعترافه بلائحة اتهام تضمّنت عدة تهم من بينها: “التحريض على العنف” و”التحريض على العنصرية” و”المشاركة في أعمال شغب أدت إلى أحداث ضرر على خلفية عنصرية” و”التسبب عمدا بأضرار لمركبة بدافع عنصري”، بعد أن قام بتكسير زجاج مركبة المواطن العربي وسرقة محتوياتها، والبصق عليه عندما كان ملقى وينزف على قارعة الطريق. ثم قام بإجراء مقابلة حية من الموقع مع إحدى قنوات التلفزيون، فدافع عمّا يحدث وأضاف، على الملأ، مؤكدا أنهم خرجوا “اليوم إلى الشوارع كي نقاتل هؤلاء العرب.. وإن كانت هنالك ضرورة سوف نقتلهم أيضا، سوف نقتلهم”. لن أحاول فهم ذرائع هذا القاضي، حين أصدر حكمه الهدية على هذا المجرم المأفون؛ فقد يئست من التعويل على مواقف القضاة في مثل هذه الحالات، ولا أعرف إذا كان قضاة المحكمة العليا سيهتزون من استهجان نيابة الدولة، أو من موقفها إزاء حكم القاضي، الذي لا يناسب خطورة الأفعال التي اقترفها المجرم، ودوره البارز في عملية التحريض، التي كادت أن تحصد حياة إنسان، ذنبه الوحيد أنه عربي قاده قدره في تلك اللحظة إلى أنياب تلك القطعان السائبة، كما كتبت النائبة العامة في استئنافها. لا أقول ذلك جزافا فدور بعض قضاة المحكمة العليا كدور كثيرين من قضاة جهاز القضاء الإسرائيلي، كان حاسما عبر العقود الماضية في تقوية عصابات الفاشيين بعدم إنزال عقوبات رادعة بحقهم. ولم تكن سياسة أولئك القضاة مهادنة عن طريق الصدفة أو الخطأ، بل كانت تجسيدا لمفهوم هذا الجهاز كما شكّل في بداياته، ودوره في كيفية التعامل مع من اعتبرتهم المؤسسة الرسمية طوابير خامسة تعيش داخل الدولة. ورغم جميع التغيّرات التي حصلت داخل الدولة وبين المواطنين العرب، فقد بقي ذلك المفهوم المؤسس مرشدا أعلى لنظرة غالبية القضاة، ودافعهم البارز في مثل هذه القضايا، خاصة في السنوات الأخيرة، لأداء دورهم المكمّل في تنفيذ السياسات القامعة والعنصرية بحق مواطني الدولة العرب، وسببا للتساهل مع قطاعات واسعة من الرعاع الصاخب، بصفتهم وكلاء لتحجيم مكانة المواطن العربي وطموحاته وتقليم أغصان آماله وأحلامه.

لننتظر ولنر

لم تكن حادثة “اللينش” المذكورة في بات – يام وحيدة، ولن تكون؛ فقد قرأنا قبل يومين عن حادثة لا تقل بشاعة وخطورة قد جرت وقائعها في المنطقة نفسها وعلى الخلفية نفسها؛ فالضحايا، كما قرأنا، كانوا عربا وكان المعتدون مجموعة من تلك القطعان السائبة. ففي الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم وفي ساعات الليل جلس على أحد مقاعد حديقة “أشكول” في مدينة “بات – يام” شابان عربيان وإلى جانبهما جلست شابتان يهوديتان. وبينما هم جالسون بهدوء مرّ بهم ثلاثة شبان يهود. وقفوا بجانبهم هنيهة، وبدأوا يتحرشون بهم خاصة بأحد الشبان العرب، الذي كان مقعدا على كرسي متحرك بسبب مرضه. وبعد تبادل بعض الكلام “اكتشف” الشبان اليهود أن الشابين عربيان؛ فابتعدوا عن المجموعة لدقائق ثم عادوا نحوهم وبدأوا، من دون سابق إنذار، بضربهم بعنف وهم يصرخون ويرددون بجنون عصبي “اقتلوه فهو عربي”. وقد أوسعوهما ضربا، ثم رفع أحد المعتدين مسدسا من صنع بيتي فضرب به أحد الشابين بقوة حتى أوقعه أرضا واستمر، وصحبه، بركله بشدة. ثم وجه أحد المعتدين المسدس إلى صدر الشاب العربي، إلا ان شريكه بالعدوان قام بحركة سريعة وأزاح المسدس عن صدر الشاب العربي، فانطلقت الرصاصة وأصابت ساق إحدى الشابتين اليهوديتين. وقد نقل الشاب العربي إلى المستشفى لتلقي العلاج بعد إصابته برأسه وبوجهه وبسائر أنحاء جسده، كما نقلت الشابة اليهودية إلى المستشفى بعد أن اخترقت الرصاصة ساقها؛ أما الشاب المقعد فأصيب أيضا في عدة أنحاء من جسده وما زال يعاني من جراء الاعتداء عليه. طالبت النيابة تمديد توقيف المعتدين حتى نهاية الإجراءات القضائية بحقهم وكتبت في متن طلبها لاعتقال المتهمين الثلاثة بأنهم “اعتدوا بصورة عنيفة وبشعة وبدم بارد وبشكل متعمّد وبمساعدة السلاح على ضحاياهم، الذين كانت خطيئة اثنين منهما الوحيدة أنهما مواطنان عربيان رغبا بتمضية سهرة برفقة صديقتين، فتاتين يهوديتين، في متنزه عام..”، ثم أضافت في وصف أفعال المتهمين وأكّدت: “إن أفعال المتهمين تعد إرهابا خطيرا، لاسيّما وقد تخللها إطلاق نار حي في وسط المدينة، وعنف جسدي قاس وكلام مدفوع بكراهية وبعنصرية وبأيديولوجية قومية متطرفة، وبعدائية تستهدف التعرض للعرب، فقط لأنهم عرب، وتستهدف أيضا إشاعة الخوف والذهول والهلع بين المواطنين العرب في إسرائيل.. إن أعمالهم تجسّد خطورة خاصة وبشاعة بارزة لأنهم هاجموا إنسانا مقعدا، ولأنهم استمروا بالاعتداء العنيف على ضحيّتهم، حتى بعد أن سقط من جراء ضرباتهم على الأرض”. ولا أوضح مما كتبَت. لا أجد حاجة لإضافة أية كلمة على هذا الوصف المخيف وعلى تشخيص حالتنا بالعموم؛ لكنني أخشى أن قطار العدل، الذي تلهث وراءه هذه المدعية العامة، كان قد سقط عن المحطة منذ سنوات؛ وأشعر بأننا، نحن المواطنين العرب، فالحون في الغط تحت أجفان الزمن وماضون إلى مجهولنا، ونحن نفتش عن أصحاب المؤامرة الكبرى، وكلٌّ يحمل طعمه تحت إبطه؛ أرى أننا ننتظر على أرصفة التيه والأوهام والعجز، ولا يعرف الواحد منّا متى سيحين موعد اصطياده، أو في أي “لينش” سيكون هو البطل؟

*كاتب فلسطيني

 

 

غزوة حكومة إسرائيل

على قرية (سعوة الأطرش)

جواد بولس

 

من المتوقّع أن تستمر الاحتجاجات في عدة بؤر في مناطق النقب لبضعة أيام مقبلة؛ وقد نشهد تصعيدا في وتيرة المواجهات بين المواطنين العرب وقوات الشرطة الإسرائيلية، خاصة بعد أن بدأنا نلمح مشاركة نضالية تقودها بعض الفئات الشبابية الصغيرة المشحونة بدوافع غير نمطية، وغير منقادة بملازم الصراعات السابقة، التي عمّت النقب في العقد الأخير؛ مثلما حصل، مثلا، قبل ثمانية أعوام، في الاحتجاجات ضد «قانون برفرمان» أو في أم الحيران والعراقيب وبير هداج وغيرها.
ومن المرجّح أن يكون معظم الناس قد نسوا تفاصيل تلك الأحداث وماذا أطلق على بعضها من الأوصاف؛ «فأيام الغضب» كان عنوانا سائدا توّجت به بعض الاحتجاجات الشعبية، التي اندلعت في مواقع عديدة ضد أهداف «قانون برفرمان» كما أننا لم نعدم نداءات المرابطة والنفير والتحشيد وما شابهها من حالات الاستشاطة العاطفية التي كانت تعبّر، في الواقع، عمّا فينا من أماني؛ لكنها كانت تخطئ وصف حالتنا، ولا تعكس حقيقة ضعف الجاهزية النضالية القائمة في صفوف الجماهير العربية.
كانت ردود أفعالنا وما زالت تخضع لتأثيرات تيارات قيادية متناطحة وغير متوافقة على إجماع أساسي، أو على رؤية لمستقبل هذه الجماهير داخل الدولة، ولا تملك مشروعا نضاليا وحدويا واضحا، من شأنه أن يجذب الجموع ويجنّدها عن قناعة راسخة بصحّته وبضرورة السير على هديه ومن أجل تحقيقه.
ومع أنني لست خبيرا ولا ضليعا في جغرافية النقب، ولا في دهاليز تركيبته السكانية وخرائط عشائره الكريمة؛ لكنني، مثل كثيرين من المتابعين لما يحدث على أرضه، أستطيع أن أتكهّن أن مصير هذه الجولة من المواجهات، التي أثارها، هذه المرة، تحرش المؤسسة الإسرائيلية، السياسية والاستيطانية، بأراضي عشيرة الأطرش، سيكون مثل مصائر ما سبقها من مواجهات؛ وسيؤول إلى تهدئة ستمكّن كل طرف من أطراف النزاع أن يدّعي الانتصار لصالحه وليّ ذراع غريمه. هناك عناصر تشابه كثيرة بين ملامح الجولة الحالية، التي ما زالت أحداثها تتداعى أمامنا، وسابقاتها؛ إلا أننا لا نستطيع أن نغضّ النظر عن أنها استعرت، هذه المرة، في زمن حكومة ليست مسنودة بأصوات بعض النواب العرب الأعضاء في أحزاب صهيونية تقليدية، كما كان يحصل أحيانا في السنوات الماضية وحسب، بل بدعم أربعة نوّاب القائمة الموّحدة، الذراع السياسية للحركة الإسلامية. إنها مفارقة مستفزة بلا شك، لكنها تبقى، في الوقت ذاته، وقفة لافتة لحركة سياسية ما فتئت تكشف بممارساتها عن أحد ملامح الحالة السياسية المأزومة داخل المجتمع العربي، التي ستتطور حتما إلى ما هو أعمق وأعقد، كما نستطيع أن نستدل على ذلك من التصريحات التي أطلقها منصور عباس ورفاقه في الحركة الإسلامية على خلفية المواجهات الأخيرة. لم يتوقع أحد ألا يغرقنا نواب القائمة الموحدة، أو القياديون في الحركة الإسلامية، ببياناتهم المستنكرة وبرفضهم لعمليات التحرش في النقب وبتأكيد وقوفهم إلى جانب أهله، وتأييد حقهم في استعمال أرضهم؛ لكن قد أخطأ كل من راهن على أنهم سوف ينسحبون من الإئتلاف الحكومي بسبب هذه الأزمة، مفترضا أن انضمامهم إلى هذه الحكومة كان من أجل الدفاع عن أراضي النقب، أو أي غرض من هذا القبيل، وليس كتعبير عن رؤيتهم السياسية الذرائعية الأشمل، المسندة بالحجج الشرعية الواضحة.

كانت ردود أفعالنا وما زالت تخضع لتأثيرات تيارات قيادية متناطحة وغير متوافقة على إجماع أساسي، أو على رؤية لمستقبل الجماهير داخل الدولة

وقد يكون ما أعلنه النائب وليد طه قبل أيام على صفحته خير برهان على موقفهم الثابت، الآن وفي المستقبل؛ فقد صرّح بأن «أسهل طريقة للتعاطي مع هذا التحدي هو إعلان فوري للانسحاب من الإئتلاف، وهذه أداة في متناول اليد، ويمكن تنفيذها في كل وقت، لكن المطلوب منا هو استنفاد كل الأساليب والأدوات المتاحة لضمان وقف التجريف الحالي، وعدم تكرار هذه السياسات المجنونة للسنوات المقبلة». لقد قال ذلك وهو يعرف أن هذا الأمر لن يحدث على الإطلاق.
برزت بين بعض المراهقين السياسيين تعابير التشفي بأهل النقب، الذين دعم بعضهم الأحزاب الصهيونية والقائمة الاسلامية الموحدة، وقد فات هؤلاء أن ظاهرة دعم تلك الأحزاب تفشت في كثير من المواقع العربية داخل إسرائيل، وهي في الواقع عارض بارز يكشف وقوع مجتمعاتنا ضحايا لحالة غياب المرجعية السياسية الموثوقة والمؤتمنة، ولضعف مكانة المؤسسات القيادية التي نشأت، في ظل تلك القيادات، كتعبير عن قوة المجتمع العربي ولحمته السياسية الاجتماعية ووعيه بضرورة الوقوف وراءها في وجه سياسات الحكومات الإسرائيلية وصد ممارساتها القمعية، فالنقب يعاني ربما، بسبب بعض خصوصياته وتركيبته القبائلية، أكثر مما تعانيه سائر المناطق العربية داخل إسرائيل؛ لكنه مثلها يعاني من تعدد المرجعيات المحلية والقطرية المتخاصمة، وغير القادرة على فصل المقال والحسم وعلى لملمة الفرقاء تحت « الخباء الواحد المعمّد»؛ ويعاني كذلك من غياب الرؤية نحو المستقبل الواعد والآمن، ونحو طبيعة العلاقات مع الدولة ومع مؤسساتها. وهنا، في هذه البقعة بالذات، يجب أن نتعرّف على حقيقة الوشائج التي ربطت مصير عشرات آلاف المصوتين وقيادييهم المحليين، بالقائمة الإسلامية الموّحدة، ونسبر دوافعهم التي لن تتوقف فقط عند عتبات الدعوة الإسلامية وسحر العقيدة، بل سوف تتخطاها نحو فكرة «المواطنة المبتورة» عن بعدها القومي، كما تبنتها الحركة الإسلامية، وكما يروّج لها الدكتور عباس ورفاقه. فهذه القطاعات من أهالي النقب التي دعمت الدكتور عباس وإخوانه لن تتخلّى، هكذا أتوقع، بعد هدوء عاصفة قرية «سعوة» المتحرَّش بأراضيها، عن استمرار دعمها للقائمة الاسلامية الموحدة، من منطلق إيمانها بمواطنة تشبه مواطنة النائب وليد طه وبكونها «الطريق الأصعب لانتزاع حقوق أهلنا» ومثله لن يكتفوا «بتسجيل المواقف وترديد الشعارات الجوفاء» فالقائمة الإسلامية الموحدة لن تستطيع إنهاء ظلم سياسات رسمية، استمرت لعشرات السنين في عدة شهور، لكن نوّابها «مصرّون على العمل لرفع الظلم عن أهلهم في النقب، وعدم الاكتفاء فقط بتسجيل المواقف والزيارات الموسمية، والتقاط الصور من دون رصيد عملي آخر على مدار العام». إنها خطبة المواطنة الإسلامية الإسرائيلية الجديدة، التي لا يكتفي أصحابها بدعم حكومة انتقالية خبيثة ساعية في التمهيد للانتقال إلى حكم ديكتاتوري خطير، بل تتحدى، بسفور، سائر التيارات السياسية والحركات الدينية الفاعلة بين المواطنين العرب في إسرائيل، التي «يكتفي قادتها بترديد الشعارات وبالزيارات الموسمية وبالتقاط الصور» وجميع هؤلاء، هكذا يفترض النائب طه ورفاقه، عاجزون عن اجتراح البديل السياسي القادر على مواجهة حركتهم والرد عليها، والحد من تعاظم قوتها، في النقب وفي غيره من المواقع.
لقد استغلت حكومة إسرائيل تنامي مظاهر الجريمة داخل المجتمعات العربية، وادّعى بعض وزرائها أن النقب، تحديدا، يتمرد على سيادة الدولة ويتحدّى مقوّمات الحكم والسلطة على أراضيه، فجنّد هذه الفرية ذريعة لهجمته الحالية على أرض النقب وعلى أهله. لقد كانت هذه الصورة المعلنة، لكن الواقع كان أمرّ، فهذه الحكومة باشرت بغزوتها وهي تعرف أنها مدعومة من «قائمة إسلامية» على ما يسبغه هذا الدعم عليها من «بركات «، وما يخلقه من التباس بين الناس.
لقد أوصلت حكومة إسرائيل رسائلها إلى أهل النقب وإلى غيرهم، وبدأت باتخاذ تدابير «المصالحة» لتمكّن الدكتور عباس ورفاقه من البقاء في مواقعهم؛ وهي حتما ستعود إلى هناك بغزوة جديدة؛ لكنّها، إلى ذلك الحين، قد تتيح للقائمة الاسلامية الموحدة تسجيل بضعة إنجازات مواطنية جديدة، مثل اعتراف الحكومة ببعض القرى البدوية غير المعترف بها، أو تخصيص ميزانيات هزيلة للنقب، وما إلى ذلك من «مكرمات سلطانية» ستبقي تهديد النائب مازن غنايم للحكومة مجرد قفزة وهمية في الهواء. فهو حين أعلن على صفحته قبل أيام أنه سيقف «ضد هذه الحكومة حتى تتراجع عن كل أعمال التجريف بالنقب» كان يعرف أن ذلك أقرب لتهديد «فزّاعة» لكنه حينما أضاف بلسانه قائلا: «لا يعقل أن نعطيهم حكومة وهم يستكثرون علينا العيش بكرامة على أرضنا» كان يشهد على عمق مأساته وكبر الورطة؛ فأنت، أيّها السخنينيّ، قد أعطيتهم حكومة، أما الكرامة على أرضك، ومن مثلك يا ابن يوم الأرض يعرف، أنها لا تستجدى، بل تنتزع وتؤخذ.
كاتب فلسطيني

 

 

هشام أبو هواش انتصار

صغير في زمن الهزائم الكبرى

جواد بولس

كنت في بيتي والوقت مساء.. كانت الحركة في شوارع القدس خفيفة وفي الجو برودة لاذعة؛ وكان الهدوء حولي يشعرني بحاجتي إلى النوم، وهو، لمن ينتظر مثلي ظهر الغيب، مستحيل. لم تكن أخبار المستشفى مطمئنة «فحبيبات الرمل قريبة من النفاد» هكذا كتب لي طبيب مسؤول في «أساف هروفيه» وكان يحثني أن أجد مخرجا لقضية «مريضه» هشام، قبل فوات الأوان. يتناوب أبناء العائلة، كسرب من الدوريات، بالنقر على شرفتي ويسألوني عن كل جديد وبشرى؟ ومن رام الله يطلبون مني التريّث فهم يرون الانفراج قريبا؛ أمّا غزة فكانت تعدني بأن خير النيل وأهراماته مقبل.
كنت قريبا من لحظة الانفجار وأحسّ في صدري لغماّ يتحرك على وقع نبض مرتجف، وعقلي يضجّ يسائلني: ماذا لو في هذه الساعات يستسلم قلب هشام بصمت؟ ولماذا لم ينجح العالم في إنقاذه، وهو الذي بدأ إضرابه من أجل أن ينال حريته كأي إنسان يستحق الحياة بكرامة، أو كي يحاكم في محكمة نزيهة وعادلة، بحيث يستطيع أن يواجه أمامها لائحة اتهام واضحة، وأن يدافع عن نفسه بجدارة وبحق.
قبيل الثامنة مساء تلقيت هتافا من رام الله يخبرني بأن الاسرائيليين تراجعوا عن موقفهم السابق، وأنهم جاهزون لقبول موقفنا الذي تفاوضنا عليه طيلة اليومين الأخيرين، فرِحت، لكنني تماسكت، فالأمور محكومة بخواتيمها والشيطان يسكن دوما بين التفاصيل، وأنا أعرف هشاما المقاوم، فهو يريد تأمين الضمانات كي يكون نصره كما تمنى مكللا بالحرية وبالكرامة. تأكدت من الطرف الإسرائيلي بأنهم وافقوا فعلا على سحب مقترحهم الأخير، الذي كان يقضي بتمديد توقيف هشام لمدة شهرين إضافيين، بحيث سيفرج عنه في السادس والعشرين من نيسان/ إبريل المقبل، ووافقوا على أن يفرج عنه مع نفاد مدة أمر الاعتقال الإداري الحالي، أي في السادس والعشرين من شباط/ فبراير المقبل، مقابل أن يعلن عن وقف اضرابه الليلة.

الأسير يُضرِب ليس حبا منه في الاستشهاد، بل تقديسا منه للحياة على أن تكون هذه حرة وكريمة، في الوقت ذاته، لا يستبعد ولا يخاف أن يرتقي شهيدا

سارعت لإخبار أهله وزوجته، أم هادي، التي بقيت بجانبه في المستشفى كل الفترة الماضية، فأبدت رضاها؛ لكنها طلبت مني الحضور مباشرة، فهشام يثق بما سأقوله ويريد أن يسمع مني التفاصيل شخصيا. انتشر الخبر كما يليق بدفق الولادة، وصرت هدفا لمطر غزير من الاتصالات الهاتفية والاستفسارات. كنت أطلب من جميع المتصلين التروّي حتى أصل عند هشام وأسمع رأيه في الاتفاق؛ حاولت ولم أنجح؛ فسماء فلسطين اشتعلت بالأضواء وبالأهازيج، وفي مفارقها، من غزة حتى جنين، بدأوا ينصبون منصات النصر التي بدأت تعجّ بالخطباء والمحللين «والهشاميين». أردت، في تلك اللحظات، أن أصرخ وأطلب أن يتركوا لصانع هذا الفرح رقعة من ضوء على صفحة الليل، فصاحب هذا النصر هو رجل واحد وحيد، مقاوم محب صلب مؤمن، اسمه هشام. كنت ومرافقتي المحامية دانة وحدنا في الطريق، فلم أصرخ؛ وقد تعلمت، خلال أربعين سنة من عملي في فلسطين، سنن الآدميين الأوليين، التي وُضعت من قبل سفر التكوين، فللنصر دوما آباء كثر ومعهم تقف، دائما، كمشة من المدّعين والأفاكين والانتهازيين. كان الليل صاخبا وحالة من التأهب بين حرّاس المستشفى. دخلنا غرفة هشام بعد مماحكة قصيرة مع حارس حاول أن يعترض طريقنا. لأول مرّة انتبهت أن لون عيني هشام عسلي، وأن جبينه أعرض مما كنت أظن. وقفت بجانب سريره في قسم العناية الطارئة في مستشفى «’أساف هروفيه» فرفع ساعده الأيسر بصعوبة ظاهرة، وطوى ثلاثة أصابع على بطن كفه وأبقى سبابته ووسطاه واقفتين لترسما شارة النصر على شكل شاعوب برأسين؛ ولم يبتسم. أمسكت بيده وضغطت على كفه ثم أدنيت رأسي من وجهه فلم أسمع إلا صوت أنفاس الحرير وشعرت بدفء روح شامخة، لا أعرف لماذا تتطيّر بعض المجتمعات من أيام الثلاثاء، فأنا في ذلك المساء تمنيت لو كل أيام الأسبوع كانت ثلاثاء.
رويت له بتأنّ تفاصيل الأحداث الأخيرة، وجميع التداعيات التي تراكمت بعد زيارتي له قبل يوم، وشرحت بإسهاب كيف وصلنا إلى لحظة النصر الحاضرة بيننا. أصغى واستوضح بصوته الخفيض عن بعض التفاصيل، فأجبته عنها بكل صدق وشفافية كما يستحق الفارس الذي من نور وغمام. شعّت عيناه بكلام كثير، فبدا كأنه يولد من جديد، ثم نظر نحو أم هادي وسألها بالإشارة عن رأيها، فحنت عليه برأسها وغمرته بالدعاء وبورق الغار، ففهم وطلب أن يشرب أول ملعقة شاي محلّى من يدها.
لقد سألني هشام لماذا الآن فقط وافق الإسرائيليون على التوصل إلى هذا الاتفاق، وجعلوا، في الواقع، معالم انتصار الأسير أوضح وأعمق، وتأثيره بين الفلسطينيين أقوى؟ لم يكن هذا سؤال هشام وحسب، فقد واجهته من قبل معظم الإعلاميين والمحللين.
وقبل الخوض في الإجابة على هذا التساؤل المشروع، يجب أن نقرّ، بداية، أن إرادة هشام قد انتصرت على إرادة السجان، وأن نستكشف لماذا وكيف حصل ذلك؛ فإذا اتفقنا على العوامل التي أفضت إلى انتصار الأسير على سجّانه، لن يبقى التساؤل الثاني ضروريا. إن العامل الثابت والشرط الأساسي في نجاح مغامرة الأسير، وفي حالتنا تجربة هشام، الذي يلجأ لوسيلة الإضراب عن الطعام، هو قناعته بصحة خياره وتمسكه به بإيمان «قدسي» حتى النهاية. وعندما أقول «النهاية» لا أعني حتى استشهاده بالفعل؛ بل يكفي الأسير أن يخلق «حالة نضالية» صاخبة وقوية، تؤدي فعليا إلى إقناع السجّان بأنه ماض في إضرابه، حتى لو أدّى به الأمر إلى الموت.
يعتمد هذا التكتيك النضالي على وجود فرضية أساسية تقوم على عمادين؛ الأول هو أن الأسير يُضرِب ليس حبا منه في الاستشهاد، بل تقديسا منه للحياة على أن تكون هذه حرة وكريمة بكل معنى الكلمة؛ لكنه، في الوقت ذاته، لا يستبعد ولا يخاف أن يرتقي شهيدا، مع أنه لم يتعمّد ذلك منذ البداية. أما العماد الثاني، فيفترض أن إسرائيل عندما تواجه الأسير الفلسطيني الإداري المضرب عن الطعام، ستتصرف بكل صلافة وعنجهية وعناد، تماما كما يتوقع من كل دولة تحتل شعبا آخر؛ فهيبة الاحتلال لن تتحصّل من دون إفراطه في إظهار العنجهية ووسائل الردع. لكن إلى جانب ذلك تنص الفرضية على أن إسرائيل، رغم حاجتها إلى قوانين الردع، لا تريد أن يموت في سجونها أسير إداري مضرب عن الطعام، وذلك لعدة أسباب قد نعود إليها في المستقبل. لقد اعتمدتُ في جميع الحالات التي مثّلت فيها الأسرى المضربين على هذه الفرضية، فمن دونها ستصبح عملية الدفاع عنهم بدون جدوى وبلا معنى؛ فإذا تعمّد الأسير منذ البداية وصوله إلى الشهادة، من جهة، وإذا لا تكترث إسرائيل، منهجيا، بموت أسير مضرب لديها، فأي جدوى ستبقى من وراء الإضراب؟ وأي معنى للدفاع عن ذلك الأسير؟
إذن شرط نجاح المغامرة الأول هو موقف الأسير وقدرته على الصمود والاحتمال؛ ثم يتبعه وقفة الحركة الأسيرة نفسها، ومعها وجود حركة إسناد شعبية متنامية، يصبح التغاضي عنها تهمة أو إهمالا أو تقصيرا؛ تماما كما حصل بعد ثبات هشام أبو هواش وإصراره على موقفه، فتنامت الحركة الشعبية المناصرة في ربوع فلسطين، وشملت جميع القوى والفصائل السياسية؛ ثم تلتها تحركات المؤسسات القانونية المحلية فالدولية، ثم جاء دور السياسيين في فلسطين وفي أرجاء عديدة من العالم. جميع هذه العوامل تحرّكت بشكل متواز ومتكامل، وحين وصلت إلى ذروتها مع تزايد احتمالات استشهاد هشام، وفقا للتقارير الطبية الإسرائيلية، بدأت إسرائيل بإعادة حساباتها، خاصة حينما استشعرت عودة فقه «الاحتلال والمقاومة» إلى صدارة نشرات الأخبار محليا وفي العالم، واحتمال تفجر الأوضاع داخل فلسطين، بموجة قد تنسف حالة الهدوء النسبي القائم على الجبهتين الضفاوية والغزية على حد سواء. ومع تعالي أصوات الاحتجاجات الدولية، إزاء موقف إسرائيل من قضية أبو هواش، سارعت إلى التراجع، في محاولة لدرء عاصفة الانتقادات الدولية التي بدأت تتناول تجاوزاتها للقوانين الدولية، خاصة في مسألة الاعتقالات الإدارية، وليس في قضية أبو هواش وحسب.
مع ثبوت عدم نجاعة الجهاز القضائي الإسرائيلي مجددا، وكونه جهة متواطئة مع سياسات الاحتلال، وعند اختمار جميع العوامل أعلاه، صار التدخل السياسي ضروريا ووازنا، فقامت السلطة الفلسطينية، رئاسة ومؤسسة أمنية، بدور فعّال وحاسم، كان مسنودا بدعم مصري، أتاح للطرف الإسرائيلي، استغلاله كمخرج تم التراجع من خلاله، فتمكنّا من التوصل إلى الاتفاق المذكور. لقد كانت تجربة شاقة خاضها الأسير أبو هواش، ورغم ما لمسناه من تغيير جدّي في طريقة إدارة هذه المواجهة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، القضائية والأمنية، إلا أن إرادته انتصرت في النهاية على إرادة السجان؛ فهل سيبقى هذا الحال عندما سيعلن الأسير القادم إضرابه عن الطعام؟ أم إننا سنرى من جانب إسرائيل تغييرا لقواعد هذه اللعبة التي ألفناها منذ سنين؟
كاتب فلسطيني

 

 

رسالة مفتوحة لقاضي

المحكمة العليا يتسحاك عميت

جواد بولس

 

درجت، منذ سنوات عديدة، على كتابة مقالتي الأخيرة في السنة، على شكل رسالة مفتوحة تُعنى بقضية عامة بارزة، أو موجهة لشخصية معينة؛ وقد خاطَبتْ رسالتي المفتوحة التي كتبتها قبل إحدى عشرة سنة، مَن كانت رئيسة المحكمة العليا، دوريت بينيش؛ ثم خاطبتُ، بعدها بستة أعوام، مَن خلفتها على كرسي الرئاسة، القاضية مريام نائور.
لقد مثلت أمامك مؤخرا في عدة ملفات، كان أبرزها ملف الأسير الإداري هشام أبو هواش، الذي ما زال يرقد بين الحياة والموت في مستشفى «أساف هروفيه». وددت أن أسألك إذا تسنى لك أن تقرأ الرسالتين المذكورتين؛ لكنني أفترض أنك قرأت رسالتي الثالثة، التي وجهتها، قبل عامين، إلى جميع قضاة المحكمة العليا، فهي رغم كتابتها بالأصل باللغة العربية، فقد ترجمت إلى العبرية ونشرت في الصحافة المحلية.
لم أخترك عنوانا لرسالتي الرابعة بالصدفة؛ فحين انتَخَبتك، في عام 2009، لجنة تعيين القضاة، لهيئة المحكمة العليا الإسرائيلية، سمعنا من زملائنا، الذين عرفوك قاضيا في محكمتيّ الصلح والمركزية في المحافظات الشمالية، بعض تعابير الفرح والتطمين، لأن قصر العدل، حسب رأيهم، قد فاز بقاض رزين يؤمن بقيم العدالة والمساواة وسلطة القانون، وبإيفاء الإنسان، كل إنسان، حقه بالعيش بحرية وكرامة وبلا عنصرية واضطهاد وخوف. لقد استبشرنا، نحن معشر المحامين المتعاطين كثيرا مع المحكمة العليا، خيرا من قدومك كعنصر معزز لمعسكر مفقود من أصحاب النقاوة والعقل والاتزان، وذلك في فترة بدأت فيها المحكمة العليا تنخ تحت وطأة هجمات القوى اليمينية الشعبوية والحكومية الرسمية، وحيث شرع قضاتها بالتراجع نحو الهاوية وإحناء ظهورهم أمام فتوحات الظلاميين الكواسر.

جهاز قضائي لا يميز بين الضحية الحقيقية وجلادها، أو يخاف أن يميز بينهما، لن يحمي جلده حتى إذا تراجع أعضاؤه خوفا أو انحنوا إذعانا للكهنة والفاشيين

لم يمض وقت طويل حتى تكشفت أمامي معالم الصدمة وحدود خيبتنا؛ ففي جميع محطات وقوفي أمامك في قاعة المحكمة، لم أشعرك مختلفا عن باقي زملائك، بل كنت، في كثير من الأحيان، قائد الرهط وخطيبهم المفوه. فأنا ما زلت أذكر حوارنا في قضية مواطن فلسطيني جاءكم يطلب عدلا؛ فحينها بادرتكم بأنني لا أتوقع منكم إنصاف هذا الفلسطيني، بل أعرف أنكم سوف ترفضونه، كما رفضتم آلاف التماسات الفلسطينيين قبله. ناقشنا القضية باستفاضة، وعندما سكت أنا كنت أنت الذي توجه إليّ بلغة وبثقة صاحب القوة والسلطان، وقلت بنبرة الساخر المتشفي: «لقد ربحتَ الرهان، سيد بولس، فقد خسرتَ القضية». وقتها حاولت ألا أنظر في وجهك، كي لا أفرحك، لأنني شعرت بطرف بسمة عدوة هادئة تستوطن في زوايا شفتيك.
إذن، لقد اخترتك عنوان رسالتي المفتوحة لهذا العام، التي أتوقع أن تكون الرسالة الأخيرة لكم، بعد أن تمنيت، في ذلك اليوم، لو أستطيع أن أقابلك وجها لوجه لأفهم كيف من إيجاع إنسان/محام يستطيع إنسان/قاض أن يقطف العسل؟ وكي أؤكد لك، أيضا، ما قلته أمامكم مرارا أن الفلسطينيين هم المخطئون إذ يصرون على قرع أبوابكم، رغم أنكم أثبتم، أنت وزملاؤك، أنكم لستم إلا جنودا في خدمة العلم.
ولقد اخترتك عندما قرأت كيف هاجم، يوم الأربعاء الفائت من على منصة الكنيست، عضو الكنيست الليكودي دودي إمسلم، محكمتكم بعد أن رد زميلك القاضي دافيد مينتس، طلبه بالتدخل لإلزام وزير الدفاع والمستشار القضائي للحكومة بتعيين شخص معين كمدير عام «للصناعات الجوية» مستندا بقراره على ذريعة عدم امتلاك عضو الكنيست إمسلم للحق القانوني، الذي يخوله بأن يكون ملتمسا في مثل هذا الموضوع. لا تعنينا هنا تفاصيل القضية، لكن ما كان لافتا، حتى الدهشة، هو أن الهجوم على المحكمة وعلى قاضيها كان سافرا وغير مسبوق من حيث قساوة لغته المستعملة؛ فبعد صدور القرار صرح النائب إمسلم وقال على الملأ: «جاءني قاض مهلوس.. فهو يشبه القاضي. وإذا لم يكن قد شرب زجاجة ويسكي، قبل مجيئه، فلا تسموني دودي. إنه لا يخجل». وبعد أن أنهى كلامه وبدأ ينزل عن المنصة عاد إليها ليقول بسخرية بالغة: «هو لم يشرب الويسكي، فقد شرب عرق الغزالين». لم يكتف بكل هذا الكلام، بل أخذ يهاجم الكنيست والمحكمة فقال فيهما: «هل هذه هي المحكمة العليا؟ استمروا بمديحهم وبتسبيحهم وبتأليههم، وحولوهم أربابا. هؤلاء (يعني القضاة) هم أناس مسيسون، وسطيون وأدنى من ذلك» ثم أنهى كلامه بنصيحة قدمها للقاضي مينتس بأن عليه أن «يستقيل فورا» فهو، أي القاضي «لن يُقبل كطالب في السنة الأولى في كلية الحقوق، ولذلك عليه أن يخجل من نفسه». هكذا بكل مباشرة ووضوح. كان من الممكن استيعاب ذلك المشهد كأحد تداعيات الحالة السياسية الراهنة، إلا أنك تعرف، مثلنا، أن القاضي مينتس هو مستوطن يقيم وعائلته على أراضي فلسطينية محتلة؛ وتعرف أيضا أن هذه الحقيقة، التي تكفي لكشف هوية القاضي السياسية، لم تردع النائب دودي إمسلم، ولم تثنه عن مهاجمة القاضي. إنها إشارة مهمة وخطيرة تذكرنا بما قلناه لكم دائما، وتثبت أن ما يحرك النائب إمسلم وأمثاله من عتاة اليمينين، هي قاعدة سياسية بسيطة واحدة مفادها: كن معنا وإلا فأنت عدونا؛ تماما كما تعلمنا، نحن ضحايا هذا الزمن، من التاريخ، ونسيتموه أنتم.
فنحن، المواطنين العرب في إسرائيل، نرى أن المعركة الجارية على عتبات محكمتكم العليا هي آخر المعارك، التي تخوضها قطعان الهضاب من المستوطنين وزعمائهم وغلاة المتطرفين المتدينين، ضد مؤسسات «الدولة البنغورينية» القديمة. وهذا ما حاولتُ طيلة سني عملي أمام محكمتكم، لا سيما في العقدين الأخيرين، أن أنبهكم منه ومن خطورة ما يجري داخل الدولة، ومن كونكم أحد الأحصنة التي تجر عرباتها نحو الهاوية، لكنكم أعرضتم وكنتم منشغلين بتأكيد انتصاراتكم على أعدائكم الواضحين، الفلسطينيين الذين هناك، وإخوانهم الذين هنا، فهذه المهمة هي الأسهل عليكم ونتائجها تكون دائما مضمونة.
لقد نظرتم إليّ وإلى زملائي بتشاوف السيد، كما إلى ثلة من المشاغبين. ولم تقتنعوا بأننا ضحايا الحاضر الراهن، وقد يكون منكم بعض اللاحقين؛ ولم تصدقوا بأنني أخاف على مصير محكمتكم، لأنني أريدكم، أنتم القضاة، رغم تمييزكم العنصري ضدنا نحن العرب، أقوياء كي تبقوا سدنة لقانون يحمي الضعيف من سلطان الحاكم المستبد، وكمواطن يطمع أن يحتمي بقوتكم عندما يسلب الحاكم حقه جورا.. وكابن لأقلية قومية، يناضل كي تكونوا ترسه الذي يصد عنه مخالب العنصريين المسلولة.
أتمنى أن تكون قد قرأت ما كتبته في رسائلي السابقة إليكم؛ فقصتنا، نحن العرب، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تُستقصى من بداياتها التي كانت قبل ولادتي كعربي بسنين قليلة، وقبل ولادتك كيهودي بالطبع. فأنت ومجايلوك من القضاة ورثتم مساطر عدل مشوهة، ومفاهيم منمطة حول نظريات «الأمن» «والولاء» وتصنيف الضحايا والحلفاء، لكنكم تساوقتم معها وتسربلتموها كجنود في ساحات المعارك حين يطوعون كل القيم الإنسانية في سبيل النصر حتى لو كان على مواطنين في الدولة، لأنهم صاروا في أعين الأجهزة القضائية، كما كانوا في أعين المؤسستين الأمنية والسياسية، لا أكثر من أجسام مشبوهة، أو ألغام مزروعة على طريق الدولة اليهودية. فهل ستقرون يوما بأن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة القتلة والعصاة، وبأن جهازا قضائيا لا يميز بين الضحية الحقيقية وجلادها، أو يخاف أن يميز بينهما، لن يحمي جلده حتى غذا تراجع أعضاؤه خوفا أو انحنوا وطأطأوا رؤوسهم إذعانا للكهنة والفاشيين؟
لقد ناديناكم ولم تسعفنا النداءات ولا نبوءات الغضب.. فكيف النجاة، لمن سيبقى خارج غبار القطيع، ما دام صوت المسدسات يصرخ في ساحاتنا وساحاتكم ودردبات طبول الفاشيين تملأ الفضاء عبثا ويأسا؟
وأخيرا، لقد رويت عليكم مرارا قصة «الثور الأبيض» وهي، كما حاولت أن أفهمكم، حكمة دماء الضحية الناجزة وهي تروى لضحية تنتظر على خطوط التماس؛ واليوم، ونحن على آخر عتبات عام رمادي يطوى، أتمنى عليك أن تقرأ خطبة النائب دودي إمسلم في التعرض لقاض احتل كرسيه في المحكمة العليا مستوطنا، فعساك تتعظ ما دام في قناديل التاريخ زيت. لأن أقواله ليست مجرد هرطقات على باب هيكل مشتهى، بل هي آخر إشارات العاصفة التي تسبق الطوفان.
كاتب فلسطيني

 

 

من يستطيع أن يسلب

فلسطين مسيحها ؟

جواد بولس

 

استقبلت عدة قرى ومدن عربية في البلاد بشائر حلول عيد الميلاد، بتزيين ساحاتها العامة وشوارعها؛ وأقامت مهرجانات احتفالية تحت اسم «كريسماس ماركت» ومسمّيات أخرى مشابهة، استقطب بعضها آلاف الوافدين، الذين جاؤوا ليشاركوا في الحدث وليتحوّلوا، بشكل تلقائي، إلى صنّاعه لا مستهلكيه وحسب.
قد يكون برنامج الأيام الثلاثة لمهرجان الميلاد، الذي بادر إليه المجلس المحلي في قرية كفرياسيف الجليلية أبرز هذه الاحتفالات وأكثرها جذبا لأعداد غفيرة من الناس، وللتأثير الايجابي في نفوسهم، وفي إشاعة أجواء الفرح الإنساني، وطرد روائح البارود من الصدور، كي يمتلأ الهواء في ربوع الجليل، بالزنابق وبالوعود.
فعلى مدار ليال ثلاث كانت شوارع القرية، التي يبلغ عدد سكانها حوالي عشرة آلاف نسمة، ينتمون إلى ثلاث طوائف، المسيحيين والمسلمين والدروز، تزدحم بالمركبات وبآلاف الزوّار الذين كانوا يهرولون، بخفة، صوب ساحات المهرجان، والبهجة تفرّ من عيونهم، رغم حملات التحريض على المناسبة، وعلى شرعية المشاركة فيها!
لا أعتقد أن تلك الجماهير الغفيرة كانت على دراية بتفاصيل معركة لافتة دارت رحاها بين أعضاء جسم يسمّى «رؤساء الكنائس المسيحية في القدس» وحكومة إسرائيل. وما زالت أصداء هذه المواجهة تتداعى، خاصة بعد أن أصدرت حكومة إسرائيل، يوم الاثنين الفائت، بيانا نفت فيه مواقف رؤساء الكنائس وادّعت أنهم «يشوّهون حقيقة المجتمع المسيحي في إسرائيل» وحذرت، في الوقت نفسه، من أن «الزعماء الدينييّن لهم دور حاسم في التربية من أجل التسامح والتعايش، وينبغي أن نتوقع من قادة الكنيسة أن يفهموا مسؤوليتهم وعواقب ما نشروه، ما قد يؤدي إلى العنف وإلحاق الأذى بالأبرياء». سوف تنتهي هذه المواجهة بشكل أو بآخر؛ لكنها سوف تترك، من دون أدنى شك، أثرا كبيرا في طبيعة علاقة بعض تلك الكنائس، الغربية الهويّات بمعظمها، مع حكومات إسرائيل التي ما زالت تتمسك بمواقفها المهادنة، إزاء تعدّيات سوائب الجماعات المتطرفة على المواطنين المسيحيين، وعلى أماكنهم المقدسة وعلى كهنتهم ورهبانهم، فقد أصبح المسيحيون، حسبما جاء في بيان البطاركة ورؤساء الكنائس «مهددين بالطرد من جانب الجماعات الإسرائيلية المتطرفة، وتحديدا المستوطنين المعتدين، إذ أنهم يهدفون إلى تقليص الوجود المسيحي». كما اتّهم البيان تلك الجماعات الأيديولوجية المتطرفة، بتدنيس المواقع الدينية وبتخريبها، وبالاعتداء على الكنائس وارتكاب الجرائم بحق الكهنة والمصلّين.

حكومات إسرائيل ما زالت تتمسك بمواقفها المهادنة، إزاء تعدّيات سوائب الجماعات المتطرفة على المواطنين المسيحيين، وأماكنهم المقدسة وكهنتهم ورهبانهم

لقد حظي بيان رؤساء الكنائس باهتمام عالمي وإعلامي واسعين، خاصة في الصحافة البريطانية، التي انفردت فيها صحيفة «ديلي تلغراف» علاوة على نشر البيان المذكور، بنشر مقالة كتبها حارس الأراضي المقدسة الأب فرانشيسكو باتون، يوم 19/12/2021، جاء فيها: «إن وجودنا محفوف بالمخاطر ومستقبلنا في خطر» ثم أردف مؤكدا على أن حياة العديد من المسيحيين أصبحت لا تطاق، بسبب اعتداءات المجموعات الإسرائيلية المتطرفة، التي على ما يبدو تستهدف «تخليص البلدة القديمة في القدس من الوجود المسيحي». وبالتزامن مع مقالة حارس الأراضي المقدسة نشر رئيس أساقفة كانتربري البريطاني جاستن ويلبي، مقالة كتبها بالشراكة مع رئيس أساقفة القدس الأنجليكاني الشفاعمري حسام نعوم، في صحيفة «صنداي تايمز» قالا فيها إن هنالك «محاولة منسقة لترويع المسيحيين وطردهم»؛ ثم أوضحا أن الزيادة في مجتمعات المستوطنين، إلى جانب القيود المفروضة على الحركة بسبب جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل، عمّقت من عزلة القرى المسيحية التي بات بقاؤها مهددًا. نشاهد هنا لغة غير مسبوقة بحدّتها وبعدد الكنائس التي أيّدتها؛ وكم كنت أتمنى أن تلتفت قيادات مجتمعنا المحلّية، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، إلى هذه التطوّرات، وأن تتواصل مباشرة مع أصحاب تلك البيانات، خاصة بعد أن دعا رؤساء الكنائس في بيانهم المذكور إلى «حوار عاجل مع السلطات الإسرائيلية والأردنية والفلسطينية، التي سبق وأعلنت التزامها حماية الحرية الدينية من أجل الحفاظ على الوجود والبقاء»؛ فكما هو معروف سنبقى نحن خارج إطار تلك الدعوة وخارج الحوار؛ هذا في حالة انعقاده. سنبقى خارجه رغم أن وجود العرب المسيحيين في إسرائيل، مثل وجودهم في سائر الأراضي الفلسطينية، هو الآخر، مهدّد، لا بسبب ملاحقتهم من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة وحسب؛ بل لعدة أسباب أخرى، قد يكون في طليعتها استحكام الجهل العميق في ذهنيات المجتمعات العربية، حيال ضرورة الحفاظ على الوجود العربي المسيحي الأصيل في فلسطين التاريخية، وبسبب سهولة التخلّي عمّن تبقى منهم في أرض أجدادهم المسيحيّين، على الرغم من الحاجة الوطنية للإبقاء على تمازج النسيجين، الحضاري والثقافي، الضروريّين للحفاظ على مركّبات الهوية الفلسطينية التاريخية الجامعة والثابتة.
لقد أشرت في الماضي إلى الخطورة في استمرار تناقص أعداد العرب المسيحيين وإلى تفتت كياناتهم المحلية وغيابهم كمجموعة شريكة في بنى المجتمع الفلسطيني وهويته العربية الحضارية، وقد أكدّت حينها، وأكرر مجددا، أن ما يحرّكني في هذه المسألة هو ليس الهاجس الديني العقائدي، ولا الكنسي المؤسّساتي؛ فهذان البُعدان لا يؤرّقاني شخصيا، لكنني أستشعر، مثل الكثيرين، دنوّ نهاية وجود مجموعة سكانية أصيلة بشكل حزين. وليس تقلّص أعدادهم، بتسارع ملحوظ، هو شاهدي الوحيد على ذلك – فهذه هي النتيجة – بل هو التغيّرات المفاهيمية السلبية، التي رسخت في أذهان أبناء مجتمعاتنا الجديدة، وهي كثيرة، ومن ضمنها محاولات تحويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صراع ديني، يهودي إسلامي، حول أحقية مَن في الأرض وفي المعابد، ما أسهم في عملية رفع الغطاء الجمعي عن مصالح المواطنين العرب المسيحيين، وعن أهمية حماية وجودهم، وبالتالي دفع الكثيرين نحو الشعور بخسارتهم «لحواضن الأمومة» المجتمعية الطبيعية الواقية. هذه الحواضن تكون، كما عاشتها الأقليات في المجتمعات البشرية المدنية المتقدمة، مكوّنة بالعادة من سلطة مركزية حامية بشكل فعّال وحقيقي؛ ومن أكثرية سكانية متقبلة للغير ومؤازرة له، عن قناعة وليس من باب المداهنة أو الاستقواء؛ ومن مؤسسات مدنية قوية ومتكافلة؛ ومن وحدة بين مركبات الأقلية السكانية ذاتها، وثقتها بأهمية تلك القوة في تحصين أمانها الجمعي وأمن أفرادها وصمودها في وطنها.
ونحن إذا راجعنا كيف تدهورت أحوال مجتمعاتنا، في العقود الأخيره، سوف نرى كيف اختفت معظم تلك الحواضن، أو أن بعضها قد انقلب على أبنائه بشكل واضح؛ فلا الحكومات، خاصة حكومة إسرائيل، معنية بحماية المواطنين العرب المسيحيين، ولا الأكثريتين السكانيتين، اليهودية والمسلمة، بقيتا على مفاهيمها الأصلية المتسامحة تجاه العرب المسيحيين وحرّياتهم بممارسة طقوسهم وعاداتهم؛ ولا مؤسسات المجتمع المدني نجحت ببناء كيان قادر على استعادة التوازنات الحافظة التي خسرناها مع حدوث الانهيارات السياسية داخلنا، ومع نشوء القوى الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية الجديدة.
أعرف أنّ ما تقدم سيستفزّ البعض، ومنهم من سيدّعي أن الواقع معاكس، وأن الحقيقة مغايرة؛ وقد تحرّض، بالمقابل، قلّة باسم التعفّف الفكري والتحسّس الزائف من ولوجي إلى «المناطق الحمراء» الخطيرة؛ لكنني سأقول لجميعهم: إن التعامي عن الواقع لن يخفيه، وإنّ الشعارات لا تكفي والبيانات لا تشفع، وإنّ النوايا، مهما حسنت، ستكذّبها مخاوف المواطنين وأفعال المغرضين، وهم موجودون طبعا في جميع الطوائف. وأعرف، كذلك، أن بعض رؤساء تلك الكنائس، أو أسلافهم، ومعاونيهم العرب المحليين، كانوا شركاء في اضطهاد العرب المسيحيين، وفي سلبهم صليب هذه الأرض وروحها؛ فالمسيح، الذي يحتفي العالم بذكرى ميلاده، هو ابن هذه الأرض السمراء، والكنائس التي شيّدت عليها هي شواهد على حضارة فلسطين العربية المسيحية، كما تغنّى بها فحول شعراء العرب المسيحيين في قصائدهم الخالدة، وكما زرعتها معاول الفلّاحين الأوائل مآثر في صدور التاريخ، وحفظتها الأجيال كالأماني في التراتيل وفي الشعائر. لكن، لقد كتبت في الماضي أن مصير العرب المسيحيين في فلسطين قد حسم، وقد صاروا في حالة تشبه ما يصطلح عليه في علوم الأحياء والأنثروبولوحيا «نوع في حالة انقراض» فجهات كثيرة، غريبة وقريبة، معنيّة بتبخّرهم؛ لكنني، وأنا أقرأ عن معركة حكومة إسرائيل مع «رؤساء الكنائس» (وإن كان بعضهم من الشرق براء) أتنشق جرعة من أنفاس ميلادنا. وعندما أقف في ساحات كفرياسيف الفرح والحياة والمستقبل، وأمامي يقف وينتشي عشرات الآلاف من المحتفين المصرّين على استحضار غدهم الأرجواني الجديد، أقبض على ناصية العاصفة وأفكّر من يستطيع أن يخطف مريم، الطاهرة والمصطفاة على نساء العالمين، من أهلها؟ ومن يستطيع أن يسلب فلسطين مسيحها؟
كاتب فلسطيني

 

 

(القائمة الإسلامية) موحدة

في خدمة حكومة إسرائيل

جواد بولس

 

في ساعات فجر يوم الثلاثاء المنصرم وبأصوات أعضاء القائمة الموحّدة، الذراع السياسي «للحركة الإسلامية الجنوبية» مرّرت الكنيست ثلاثة قوانين خطيرة جدا تمسّ مباشرة بمصالح المواطنين العرب في إسرائيل، وبحقوق الأسرى الفلسطينيين الأمنيين المحتجزين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أثار موقف الدكتور منصور عباس وزملائه حفيظة الكثيرين وحرّك ضدّهم موجة جديدة من الانتقادات الشديدة، لأن موقفهم الأخير يُعدّ سابقة في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ إذ لم يقم في الماضي حزب إسلامي أو عربي بدعم مثل هذه القوانين ذات الأبعاد الأمنية، التي ستفضي حتما إلى التضييق على حرّيات المواطنين، وتنتقص من حقوقهم، وستؤدي، كذلك، إلى زيادة فرص قمع الأسرى الفلسطينيين الذين يعانون من ممارسات السجّانين واضطهادهم اليومي.
وفقا لأحد هذه التشريعات، قانون الخدمة الأمنية، (أمر مؤقت) وضع خريجي قوى الجيش في خدمة مصلحة السجون (لعام 2005) سيسمح بتعزيز مصلحة السجون الإسرائيلية بجنود من جيش الاحتلال، شريطة أن يستخدم هؤلاء الجنود في السجون، أو في الأقسام، التي يحتجز فيها الأسرى الأمنيين الفلسطينيين، وحسب.
ويكفي في هذا الاشتراط أنه دليل على عدم وجود حاجة لهؤلاء الجنود من أجل تعزيز طواقم إدارة السجون أو لمعالجة نقص أو أزمة في الموارد البشرية، وأنه برهان على أنها خطوة تستهدف استقدام «قوة» عسكرية ستتكفل، عمليا، بفرض مزيد من الترهيب بحق الأسرى. وإذا كان الوضع على هذه الحالة فيجب ألّا يغيب عن بال أحد ماذا سيحصل مع الأسرى الفلسطينيين، في أول مواجهة مع تلك القوة العسكرية المستوردة؛ فعناصر الجيش التي سوف توكل «بحراسة» الأسرى الفلسطينيين سينفذون مهامهم وهم على درجة كبيرة من الاحتقان الدفين، ومدفوعين بمشاعر الانتقام، تحديدا من أولئك الأسرى الذين يقبعون وراء القضبان، بعد أن أدينوا في المحاكم العسكرية كمقاومين واجهوا الاحتلال وجنوده هؤلاء وأقرانهم.
أمّا القانون الثاني الذي دعمته «القائمة الإسلامية» فقد أتاح للجيش إرسال وحدات خاصة لتعزيز قوّات الشرطة والأمن في عملها، من أجل تحقيق أهداف «أمنية قومية» مثل مواجهة المظاهرات والاحتجاجات التي شاهدناه في شهر أيار/مايو المنصرم، أو التي قد تندلع في شوارع وساحات بلداتنا قريبا. لا تنحصر خطورة هذا التشريع في إسقاطاتها المتوقعة على نشاطات المواطنين العرب، وفي إمكانية تسخيرها كأداة مشروعة في عسكرة تعامل الدولة مع مواطنيها العرب، لاسيما في ساعات الشدة والصدام؛ بل يجب النظر إليها كنتاج لتدهور مكانة الدولة وعلاقتها مع جميع مواطنيها، وكخطوة كبيرة في اتجاه إلغاء نظام حكم السلطات الثلاث، وكضربة حاسمة ضد دور القانون وسيادته.

منذ أكثر من عقدين صارت إسرائيل «معسكرا» كبيرا ومعظم مواطنيها اليهود جنودا وحياتهم معركة، لا قانون فيها، بل حكم البندقية وصوت البارود

قد يقول قائل إن إسرائيل لم تكن في يوم من الأيام إلا جيشا يمتلك دولة؛ وفي ذلك ضرب من الصحة، لكن ليس كلّها؛ فهواجس الأمن المزمنة، ومكانة الجيش والنزعة إلى تنزيهه حدّ القداسة، كانت جميعها من المفاهيم المؤسسة والسائدة داخل المجتمع الإسرائيلي وبين نخبه؛ لكن، بالمقابل، لا يستطيع أحد أن يتنكر إلى كيف تطور هذا الكيان على ضفاف التاريخ، المدنية، الاجتماعية والاقتصادية، بالتوازي مع كونه كيانا ذا نزعة عسكرية قوية ناشزة؛ فإسرائيل كانت تعيش بطبيعتين متكاملتين ومتصالحتين: الدولة «الإسبارطية» المتعسكرة المحتلة القامعة، ودولة المؤسسات والقانون تجاه مواطنيها اليهود، والعنصرية تجاه مواطنيها العرب. قلت كانت، لأنها لم تعد كذلك؛ فمنذ أكثر من عقدين فقدت إسرائيل «ميزان مائها» وصارت عبارة عن «معسكر» كبير ومعظم مواطنيها اليهود جنودا وحياتهم معركة، لا قانون فيها، بل حكم البندقية وصوت البارود. القضية اذن، يا من بأصواتكم سهّلتم على أخيار «مملكة يهودا» مهامهم، ليست مجرد تعديل هامشي يبغون من ورائه قمع مظاهرات الشباب العرب، في أول مواجهة تنتظرهم وراء المنحنى؛ بل القضية هي دوركم السيئ في تمكين ماكنة النار من جلودنا، وفي ذرائعكم غير المقبولة التي لا تختلف عن ذرائع أمثالكم في التاريخ، حين ادّعوا أنهم ليسوا إلا براغي صغيرة وأنهم يحاولون، من مواقعهم، التأثير وإفادة إخوانهم ببعض من الفتات وكثير من السراب.
أما القانون الثالث، الذي صوتت عليه الإسلامية في ذلك الفجر الأخضر، فقد أتاح لقوات الشرطة والأمن اقتحام بيوت المواطنين وتفتيشها من دون أن يكون بحوزتهم أوامر من المحكمة. لن أثقل على القراء في سرد تفاصيل الحالة القانونية السائدة قبل هذا التشريع، التي رغم ما أتاحته من هوامش تصرف كبيرة لقوات الشرطة، ومن تضييق على حريّات الأفراد وبيوتهم، لكنها لم تصل إلى خطورة ما أجازه التعديل الأخير. فبتصويتكم أيّها النوّاب العرب ألغيتم آخر الكوابح التي حافظت على بعض من حرمات بيوت المواطنين وعلى كرامات أجسادهم. إنهم الأغبياء والمتغابون فقط من لن يستطيعوا التكهن، أو التخيل كيف ستستباح بيوت المواطنين العرب لأهون الأسباب وبأبسط الذرائع.
لا أقول هذا جزافا بل كتقييم واقعيّ يكمل المشهد الذي وقفتُ على خطورته، جرّاء إقحام قوات الجيش من أجل تأمين الأهداف «القومية الأمنية» للدولة، ويكفي أن نقرأ ما أعلنته الحكومة في تسويغات عرضها لمشروع هذا القانون، كي نفهم ما كان وراءه، ومن هم ضحاياه المؤكدون، كما جاء، فإنّه «على ضوء ظاهرة الإجرام الخطيرة داخل المجتمع العربي، وعلى ضوء الصعوبات الخاصة بنفاذ القانون في هذا المجال، قررت الحكومة أن تشرّع، بشكل طارئ، قضية تفتيش الأماكن من دون أمر محكمة». ألم يقرأ النوّاب العرب، وليس فقط أعضاء القائمة الموحدة الإسلاميين، هذا الهراء والاستهبال؟ وهل فعلا هذا ما كان ينقص الدولة كي تنجح بمحاربتها لظاهرة الاجرام الخطيرة داخل المجتمع العربي؟ لقد صوّت مع هذه القوانين تسعة أعضاء عرب، لكن سيبقى تصويت أعضاء القائمة الموحدة/الإسلامية أبرزهم وأكثرهم غرابة واستفزازا؛ فأولئك الأعضاء الخمسة (من أحزاب: ميرتس، والعمل، وكاحول لافان، ويسرائيل بيتينو) يمثلون أحزابا صهيونية، لها أجنداتها وتاريخها ومفاهيمها الخاصة لطبيعة علاقاتها مع مجتمعها اليهودي، ومع مصوّتيها العرب؛ وهم في البداية والنهاية ملتزمون بقرارات أحزابهم، بينما تبقى «القائمة الموحدة» الإسلامية الهويّة والعربية المنشأ، ابنة مجتمعها الذي سيتأذى بسبب قراراتها ومواقفها.
لا أعرف مَن ما زال يتذكر كيف هوجم أعضاء القائمة الاسلامية الموحدة جراء تصويتهم ضد قانون لم شمل العائلات الفلسطينية، في شهر تموز/ يوليو المنصرم. كما لا أعرف من ما زال يتذكر كيف كان رد فعل الدكتور عباس وصحبه على تلك الانتقادات الصارخة؟ لكنني أذكر كيف استمر هو ورفاقه بنشاطهم البرلماني، كحليف متين في حكومة شاكيد – بينت، ونشاطهم الميداني حين كثّفوا من زياراتهم للمجالس العربية، المحلية والبلدية، التي استقبلتهم بأجمل الترحاب وبكامل التأهيل.
لم تمض أكثر من خمسة شهور على تلك الواقعة، ولم تتراجع القائمة الإسلامية الموحّدة عن نهجها، بل ما زالت توغل فيه يوما بعد يوم، وتتواصل، في الوقت نفسه، مع مراكز القوى المحلية وتوطّد علاقاتها مع نخبها البلدية المنتخبة. ويكفي إلقاء نظرة خاطفة على صفحة الدكتور عباس لنعرف اين كانوا أمس وأين راحوا قبله، ومن استقبلهم بحفاوة الحلفاء من «الجلبواع» في الشمال، حتى أقاصي النقب في الجنوب؛ رغم جميع الأصوات التي تندد، وبحق، بمواقفهم الداعمة لحكومة بينت -شاكيد. وللحقيقة فقد توقعت، وكثيرون مثلي، ذلك.
ما زلت على قناعة أن خطابَي الحركتين الإسلاميتين، الجنوبية والشمالية، رغم الفوارق بينهما واختلاف المناهج، يشكلان تحديات كبيرة لسائر الأحزاب والحركات السياسية غير الدينية، كما أنهما يضعان أمام مؤسسات المجتمع المدني مهام ثقيلة وصعبة. وما دمنا نتحدث عن الحركة الإسلامية الجنوبية، فالتزامها أمام أتباعها بالعمل السياسي، في واقعنا المشوه، وفق منهج «النفعية المطلق» من جهة واحدة، وتمسكها بالعمل من أجل بناء «مجتمع محافظ» من جهة ثانية، سيفضي حتما إلى استمرارها بالسير على طريقها الحالي، الذي قد يؤدي إلى زيادة في قوتها الشعبية. وستبقى حليفة للحكومة حتى تختمر ظروف الطلاق منها، ولن تكون «العصمة» بيدها.
هذا ليس قدرنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، لكنه سيكون مصيرنا إذا بقينا في هذه الحالة من السبات والعجز…
كاتب فلسطيني

 

 

ماذا لو كان هشام أبو هواش

حاضرًا في "معهد العالم العربي"

 

جواد بولس

 

    لقد حدّثتكم في مقالتي السابقة عن قضية الأسير الإداري هشام أبو هواش، المضرب عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ حوالي المائة يوم؛ وأخبرتكم لماذا طلبتُ تأجيل سماع جلسته، رغم أن قاضي محكمة الاستئناف العسكرية استقبلني، وقتها، بذراعين مفتوحتين وببسمة لا يتقنها إلا الجنود الذين ينامون في بطن الخوذة ويصحون على تصفيق أسراب السنونو المذعورة الهاربة من شرفات فلسطين نحو مجهولها البعيد.

انتظرت أسبوعًا كاملًا حتى التأمت المحكمة مجدّدًا يوم الأربعاء المنصرم. 

كان الجو ماطرًا، بغزارة فاجأتني، عندما ركضت نحو قاعة المحكمة. لم يكن في الساحات أحد؛ فعائلات الأسرى لم تصل، والجنود كانوا، فيما يبدو، مختبئين في غرفهم. حاولت أن أغطي رأسي بعباءتي السوداء، وأسرعت نحو ديوان رئيس المحكمة، علّني أفهم منه أين اختفى الجميع، ولماذا ما زالت قاعات المحكمة مقفلة؟ فتحت الباب دون استئذان، فوجدت أمامي مجندة يافعة ما زال في وجهها بقايا طفولة لم يمحها المكان بعد. تبسّمَت بلطافة حذرة، ودفعت تجاهي برزمة ورق كي أنشف وجهي، وأماءت، بيدها الأخرى، نحو رأسي فأبعدت العباءة المبلّلة عنه. أخبرتني أن رئيس المحكمة مجاز ، وأن قاضيًا من قوة الاحتياط سيتولى أمر قضيتي، لكنه ما زال في طريقه إلينا. ثم أكّدت لي أن الأسير سيحضر جلسة اليوم من خلال شاشة الفيديو وهو على كرسيه المتحرّك في عيادة سجن الرملة.  

انتظرت القاضي في القاعة لأكثر من ساعة قضيتها في قراءة أخبار منشور أصدرته "حملة المقاطعة الفلسطينية" دعت فيه إلى مقاطعة نشاطات مهرجان دعا إليه "معهد العالم العربي" في باريس. دخل المترجم وأشعل شاشة الفيديو، ثم دخل القاضي فوجدني واقفًا أمام الشاشة أشرح عن الجلسة وعن مآلاتها. كان بجانب هشام سجّان يتحدث العربية، فأفهمني أن هشاماً لا يستطيع الكلام ولا تحريك أطرافه بشكل عادي. شرحت بإسهاب فسمعني هشام وردّ بما يشبه صوت شخص عالق تحت ركام بناية مهدومة.

افتتح القاضي الجلسة فطلب، وفقًا للعادة، من المترجم أن يعرّف المستأنف عن نفسه. فقلت: "موكلي لا يستطيع أن يتكلّم" . فنظر القاضي نحوي بنوع من الاشمئزاز، أو ربما الدهشة؛ فأفهمته أنني لا أمزح، ولا موكلي بأخرس ، بل هو أسير مضرب عن الطعام احتجاجًا على اعتقاله الإداري التعسفي منذ أكثر من ستة أشهر، وقد ساءت حالته الصحية، كما تراها على الشاشة أمامك، بسبب إضرابه المتواصل، حتى أصبح شبه مشلول ويواجه امكانية الموت المفاجيء كما يقول الأطباء. لم يبدِ القاضي حرجًا ولا استغرابًا ممّا سمعه؛ فهو من أبناء الجيش المجرّبين والواثقين بأنفسهم؛ ويعرف كيف يتعامل مع "هذه الحالات" من دون عواطف وأحاسيس، ويعرف كيف يبقى "روبوطًا" حازمًا وقادرًا على شم شرور الفلسطينيين حتى وهم مدفونون تحت الركام !  

بدأت مرافعتي منوّهًا إلى أن مصلحة السجون لم تنفذ قرار القاضي العسكري الذي أرجأ الجلسة، في الأسبوع الفائت، بسبب عدم إحضار موكلي إليها ولعدم وجود تقرير طبي محدّث من شأنه أن يوضّح حالة الأسير الصحية. وأضفت أن زميله قد أمر أطباء مصلحة السجون بإعداد تقرير طبي شامل في فترة أقصاها خمسة أيام، إلّا أنّهم لم ينفّذوا ما أمر به القاضي. فسألني: "ماذا تريد مني ، هل تطلب تأجيل الجلسة ؟". بدون تردد، أجبته :" لا، بالطبع لا أطلب ذلك" وأضفت: "بل أطلب أن تأمر بإبطال أمر الاعتقال الإداري الصادر بحق موكلي والإفراج عنه فورًا، أو، بالتبادل، أن تأمر بتعليق الأمر الإداري ضده وبنقله إلى مستشفى مدني كي يكون تحت رقابة وعناية أطباء مؤهلين؛ فوجوده في عيادة السجن هو مبعث للخطر وللقلق على حياته" ثم أردفت فحمّلت المحكمة ومصلحة السجون والنيابة العسكرية  كامل المسؤولية عن حياة موكلي وسلامته.

حاول القاضي، أكثر من مرّة، أن يسكتني وعبّر عن اعتراضه على مضامين مرافعتي القاسية، كما قال، لكنه سمعني لأكثر من ساعة، ثم أصغى إلى أقوال ممثلة النيابة العسكرية التي أعادت ببغاوية مألوفة ادعاءاتها، وطلبت، ببضعة جمل، رد استئنافي وإبقاء هشام في السجن، وذلك رغم سوء حالته الصحية.

ودّعت هشامًا بعد أن فهمت، من هزة رأسه، أنه سيستمر في إضرابه عن الطعام رغم المخاوف التي نبّهته منها. 

كنت في بيتي مساءً عندما استلمت رسالة من سكرتارية المحكمة وفيها نسخة عن قرار القاضي، الذي استهله بإجمال لمحاور مرافعتي، ثم ألحقها بأقوال ممثلة النيابة، ثم أنهاه بخلاصة قصيرة كتبها ببرودة الرصاص قال فيها: " لقد أمر  قاضي محكمة الاستئناف (ن، س) يوم 24/11/2021 مصلحة السجون بإعداد تقرير محدّث حول وضع الأسير الصحي. اليوم، أثناء الجلسة، تبيّن أنهم لم يعدّوا ذلك التقرير، ولم يوضحوا لماذا لم يعدّوه. لقد ادّعى أمامي المحامي اليوم أن الأسير ما زال مضربًا عن الطعام ويواجه خطر الموت؛ وطلب، بسبب ذلك، تعليق أمر الاعتقال الإداري. من الواضح أنني لا أستطيع النظر في ادعاءات المحامي بشكل مناسب من دون تقرير طبي محدّث، وهو ما كان قد أمر بإعداده القاضي السابق، ولذلك لا مفرّ من تأجيل البحث في الملف إلى موعد آخر ستعيّنه سكرتارية المحكمة بعد استلامها للتقرير الطبي". قرأت الكلام فشعرت بالغثيان. أخبرت أفراد عائلة هشام بمضمونه، فسألوني "ماذا يعني هذا؟". لم أجب، فسمعتهم يستدعون السماء ويرجونها أن تحفظ لهم هشامًا. كنت ساعتها "أعض على نواجذي" وأخاطب نفسي متسائلًا، مرّة أخرى، متى سيقاطع الأسرى الإداريون هذه المحاكم/ المهازل؟  

مقاطعة مهرجان في باريس 

كانت أخبار دعوة "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" لمقاطعة "مهرجان Arabofolies التطبيعي"، الذي ينظمه في باريس "معهد العالم العربي" خلال الأيام المقبلة، تتهافت عبر وسائل "التشابك الاجتماعي"؛فالبيان كان قد دعا المنظمين إلى إلغاء مشاركة مغنية إسرائيلية فيه وإلى "مقاطعة المهرجان، في حال رفض المنظمون ذلك" .            

لاحقت تداعيات هذا المشهد فتبيّن لي أن الإسرائيلية المدعوة للمشاركة في منصة المهرجان الفنّية هي فنانة محلية، لم اسمع عنها من قبل، تحمل اسم " نيطع الكيّام". وبعد التفتيش عنها تعلّمت إنها فتاة يهودية ولدت في بلدة إسرائيلية اسمها "نتيفوت"، في العام 1980، من أبوين مغربيين؛ وانها احترفت الغناء باللهجة المغربية وتعد صاحبة مشروع شخصي لإحياء تراث أجدادها المغاربة كما تربوا عليه كيهود في المغرب. وقرأت على لسانها تصريحًا لافتًا أطلقته تعقيبًا على الدعوة إلى مقاطعتها. على جميع الأحوال فهذه الفتاة لا تعنينا اليوم، إلّا لأن دعوتها للمشاركة في المهرجان دفعت حملة المقاطعة الفلسطينية لإصدار بيانها المذكور، الذي نجح باستدراج بعض المدعوّين إلى الانسحاب من محاور المهرجان.  وقد عرفنا منهم أسماء بعض الفلسطينيين، وكذلك اسم الروائي الكبير الياس خوري الذي كتب على صفحته: "أعلن انسحابي من المشاركة في محور " أيام التاريخ" في معهد العالم العربي بباريس، وهذا ناجم عن الالتباسات التي أحاطت به وبالمناخ التطبيعي الذي رافقها".

 سأعود إلى مناقشة هذه المسألة في مقال آخر، فما يصحب عادة هذه الدعوات من صخب وبلبلة وأحيانًا أضرار، يستوجب التوقف عنده، والتدقيق في تبعاته وفق موازين الربح والخسارة السياسية.  

فمن يدقق، مثلًا، في نص الياس خوري سيلتفت، رغم قصر الإعلان، إلى أنه أرجع  سبب انسحابه لما أسماه، بحذر واضح: "الالتباسات التي أحاطت به وبالمناخ التطبيعي الذي رافقها"، وهذا النص يشكّل، برأيي، دعوة لتمحيص ما دعت إليه حملة المقاطعة ومناقشة صحته، خاصة وأنها تطرقت هناك إلى ما أسمته "معايير المقاطعة الثقافية لإسرائيل ومناهضة التطبيع" وذلك عندما برّرت دعوتها إلى مقاطعة المنصة الفنية، بينما أجازت في ذات البيان "نشاط المهرجان الآخر الذي ينظمه ذات المعهد تحت عنوان" Fete de la langue Arabe"،  فهذا المهرجان، هكذا كتبت الحملة "وبعد الفحص والتدقيق ، غير خاضع للمقاطعة الثقافية ولا يعد تطبيعًا .. وذلك بالرغم من وجود دعم مقدّم لأحد معارض المهرجان من المؤسسة الأمريكية- الصهيونية المدعوّة American Sephardi Foundation"، ورغم أن هذه المنظمة الأمريكية هي منظمة صهيونية، إلا أنها لا تعدّ منظمة ضغط(لوبي) لصالح إسرائيل". انه موقف يستدعي التفكير ؛ فهل ما قالته الحملة صحيح؟ وهل فعلًا لا تعمل هذه المؤسسة الصهيونية الناشطة في أرجاء العالم لصالح إسرائيل؟ وحتى لو افترضنا ان الحملة دققت فعلا وفحصت هويات المشاركين والداعمين، ألا تخلق هذه التعريفات مناخات من الالتباسات والبلبلة؟ فمتى يجوز، مثلًا،  التعامل مع مؤسسة صهيونية، ومتى لا يجوز ؟ ومن يملك تلك المساطر السحرية التي بواسطتها يتم الحسم من دون أن نضر بقضية فلسطين ؟ 

لقد كنت في قاعة المحكمة وحيدًا انتظر قاضيًا صهيونيًا سفارديًا لا يعرف إلا أن يكون جنديًا في خدمة الاحتلال وأفكر في حملة تدعو الفلسطينيين لمقاطعته. وكنت أقرأ كم سهلًا أن يقاطع المثقف العربي/الفلسطيني مهرجانًا بحجة عدم التطبيع إسرائيل؟ وكنت حزينًا لأن في شرقنا يخاف المثقفون بسرعة الطلقة؛ وفيه، لا أهون من صناعة الالتباسات، وتجييش الشعارات والعواطف،  والمرور على جثث المفارقات العبثية.

يتبع..

رسالتان إلى

الصحافي جدعون ليفي

جواد بولس

 

من لا يعرف من قرّاء الصحافة العبرية، بلغتها الأصلية أو المترجمة، مقالات الصحافي جدعون ليفي، التي دأب على نشرها أسبوعيا، في صحيفة «هآرتس»؛ تناول فيها، ولمّا يزل، ممارسات وقمع جنود الاحتلال الإسرائيلي واعتداءات قطعان المستوطنين على أبناء الشعب الفلسطيني وضد ممتلكاتهم؟
لقد عدّ الفلسطينيون والإسرائيليون، على حد سواء، جدعون ليفي، جراء ثباته على الكتابة من ضفة المعتدى عليهم، نصيرا مستوثَقا لضحايا الاحتلال، وشاهد حق على ما يعانون؛ وسكن، بسبب ذلك، قلوب معظمهم كواحد «معنا» وليس مع «أعدائنا». لقد دخل القلوب إذ كانت مطمئنة له، من أبواب الوجع، فهل سيبقى فيها بعد المودة التي أبداها تجاه بنيامين نتنياهو وعائلته، كما قرأنا وكما نشر وأفاد؟
لقد لبّى الصحافي جدعون ليفي دعوة زميله في صحيفة «هآرتس» العبرية، بيني تسيبر، وشارك في احتفال أقامه صاحبه بمناسبة عيد ميلاد سارة نتنياهو عقيلة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو. لم يكتف ليفي بحضور الاحتفال الخاص في بيت زميله، الذي يعمل، منذ سنوات طوال، محررا للملحق الثقافي في الجريدة، بل خصّ تلك الليلة بمقال نشره في «هآرتس» يوم 11/11/2021 تحت عنوان «مع عائلة نتنياهو لدى عائلة تسيبر في الصالون». لقد صدمت مشاركة جدعون ليفي الاحتفالَ معظم قرّائه، واستثار مضمون مقالته دهشة متابعيه؛ حيث اعتبره معظم «معجبيه» من العرب واليساريين خيانة لما عهدوه في مواقفه الإنسانية من صدق أخلاقي، وتراجع عن دعمه السياسي للحق ولأصحابه؛ بينما اتهمته، في المقابل، أوساط اليمين على أطيافها بالتلوّن وبالمداهنة، مدّعية أنّه سيبقى، رغم مغازلته لنتنياهو ولزوجته، عدوّ اسرائيل وصديقا للفلسطينيين. ليس من الصعب أن نتفهم غضب جميع من هاجم أو لوّم أو انتقد أو خوّن أو خطّأ خطوة جدعون ليفي، خاصة أنه لم يكتف بالمجاهرة بها، بل أضاف على «إبّالته أضغاثا» من الاستفزاز حين افتتح مقالته واصفا، بتودد واضح، عائلة نتنياهو بلغة حليفة ودافئة، فقال: «لقد جلس اليوم الشخص الذي يحظى بكراهية كبيرة وبإعجاب كبير مع زوجته وأولاده على أريكة قديمة في صالون صغير.. وربّت على يد زوجته وسحر كلّ محدّثيه». لقد كان جدعون ليفي نفسه، هكذا يفهم من النص، واحدا من بين أولئك المسحورين بحضور عائلة نتنياهو، التي كانت، كما وصفها «العكس المطلق تقريبا لما يقولونه عنهما وعكس ما يعتقدونه عنهما، ولم يظهر، في ذاك المساء، أي شيء مما قيل عنهما من قبل المنتقدين لهما المليئين بالاشمئزاز». هكذا كتب واستفز، وهيّج أرواحا كانت تؤمن به أكثر من إيمانها بهيئة الأمم المتحدة وبالجامعة العربية، وبكثيرين من أبناء شعبها. لن أسرد جميع ما جاء في هذه المقالة المستهجنة؛ فما أفصح عنه فيها من رفق وود تجاه نتنياهو وأسرته، سيبقى من حقه كصحافي، ومحسوبا له وعليه؛ لكنني، ومن باب إنصاف ماضيه الصحافي ومواقفه الحاسمة ضد الاحتلال وموبقاته، وفضح سياسات حكومات اسرائيل خاصة بقيادة نتنياهو، ومن أجل الحقيقة، أود أن استذكر مقالا بعنوان «استعراض نتنياهو» كان جدعون ليفي نفسه قد كتبه ونشره يوم 17/8/2016 بعد مشاركته وأعضاء هيئة تحرير جريدة «هآرتس» اجتماعا مغلقا دعاهم إليه نتنياهو، فكتب حينها هكذا: «استضاف أمس نتنياهو أعضاء تحرير هآرتس للقاء مغلق دام أربع ساعات تحدث فيها بدون توقف.. نتنياهو شخص غاضب، هائج، صاخب، صلب، حاد، مغرور، ومقتنع بصدق دربه، ويؤمن بالقوة فقط، وعنده ميول نرجسية، وحب للعظمة، متعال، ثرثار، ويعاني من شعور بأنه ملاحق». ثم وصف جدعون ليفي أيديولوجية نتنياهو على أنها متشددة ومتطرفة؛ فهو، أي نتنياهو، شخص لا يؤمن «بأي سلام مع الفلسطينيين، ولا يعنيه قدرهم قيد أنملة. وهو سيلحق الكارثة بإسرائيل، لأنه صبي لم ينضج وخياله ما زال عالقا في عالم الكتيبة». هكذا إذن، رأى جدعون ليفي نتنياهو قبل خمسة أعوام، فكيف لن يغضب من يقرؤه اليوم وهو يصفه «بالشخص الذي يملأ الفضاء بحضوره؛ فحتى، وهو في خريف حياته السياسية، يبقى مثيرا للفضول أكثر من أي سياسي إسرائيلي. وستبقى إمكانية أن نفهم دوافع الإعجاب به أسهل من أن نفهم مصادر الكراهية العميقة التي يثيرها تجاهه». لم يكتف ليفي بهذا القدر من الشهادة والمديح، بل مضى فبقّ حصوة «الراسي» الكبيرة، وأعلن أن دور نتنياهو «في صناعة دولة الأبرتهايد لم يكن أسوأ من أسلافه، ولا كان تأثيره على انهيار الديمقراطية مميزا، لأن ساحات إسرائيل الخلفية مسيطر عليها من قبل ديكتاتورية عسكرية». أقوال، وإن كانت تحتوي على بعض من الواقع السياسي والحقيقة، إلا أنها، حين تقال من شخص في مكانة جدعون ليفي سيكون وقعها موجعا، وتأثيرها في المجتمع ككل، خاصة على رعاع اليمينيين، أخطر.
لقد تابعت ردة فعل جدعون ليفي على منتقديه اليهود، لاسيما على أولئك الذين يعرّفون أنفسهم يساريين؛ فلم يسكت أمامهم، بل دافع عن حضوره الحفلة، وكذلك عمّا كتبه في أعقابها؛ وقد فعل ذلك متذرعا بادّعائين أساسيين، جنّدهما على طريقة من يقول كلام حق يراد به باطل؛ فادعاؤه بأن جميع القادة السياسيين اليهود، خاصة من وصفهم باليساريين، سواسية، فيه من الإجحاف للواقع قسط، ومن التمويه والمغالطة والتضليل أقساط؛ ثم أن محاولته تبرير شرور نتنياهو بكون الآخرين أشرارا أيضا هي اجتهاد بائس وخطير، ولا يمكن تسويغه سياسيا ولا قبوله أخلاقيا.

محاولة جدعون ليفي تبرير شرور نتنياهو بكون الآخرين أشرارا أيضا هي اجتهاد بائس وخطير، ولا يمكن تسويغه سياسيا ولا قبوله أخلاقيا

لقد قبل جدعون ليفي الدعوة لحضور حفل عيد ميلاد سارة نتنياهو، وهو يعلم، بالطبع، تعاطف زميله في الجريدة المعلن مع سارة ودفاعه عنها وعن عائلتها وعمق صداقته معهم منذ سنوات طوال؛ ويعرف أيضا مواقف زميله من الاستيطان والمستوطنين، ومواقفه المستهترة من اليسار الإسرائيلي؛ وهو، لجميع ذلك، وبسبب تجربته الطويلة، ولحساسية الأوضاع السياسية التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي ونية نتنياهو المعلنة بالعودة إلى رئاسة الحكومة، كان قادرا أن يقيّم مدى تأثير مشاركته وما كتبه بعدها في المشهد الإسرائيلي العام وفي مشاعر أصدقائه الفلسطينيين وفي الاحرار في العالم تحديدا.
على الرغم مما ذكرته وعلى الرغم من فحش ما قام به لن تكون مهمة الدفاع عن جدعون ليفي مستحيلة؛ فإذا ما راجعنا تاريخ ما كتبه عن الاحتلال الإسرائيلي، وعن ضحاياه الفلسطينيين، وإذا ما تذكرنا مواقفه الصارمة ضد الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وعملياتها في الضفة المحتلة، فقد نشفع له، ونأمل بثقة من يفتشون عن حلفاء، أن يعود في الغد ويقف على حافة الجرح الفلسطيني ويتوجع ويكتب كي يعرف الإسرائيليون والعالم من هو القاتل ومن هي الضحية.
لو كنت قاضيا لطالبت جدعون ليفي بأن يراجع نفسه ويتراجع عما قاله في وصف تلك الليلة التي قضاها في صالون عائلة تسيبر، ولذكّرته، أيضا، بأن حياة الفلسطينيين، كما وثّقها بحدقات أقلامه الدامعة طيلة سنوات طويلة، لا تقايض بحفلة ميلاد ولا بجلسة سمر مع «ساحر» كان يصغي بهدوء، ويربت على يد زوجته التي لم تحتس الكحول في تلك الليلة. لكنني لست قاضيا، بل أنا محام سيصفح، على طريقة المتشائلين، لجدعون ليفي خطيئته لأنه، هكذا أشعر، كما كان هو باق هناك ولم يتغيّر.
وقبل أن ترجموني أنا بحجارتكم أتمنى أن نستوعب معا أن جدعون ليفي يكتب كما يكتب ليس لأنه فلسطيني، ولا لكونه مجرد إنسان بلا هوية، بل يكتب من موقعه «كوطني إسرائيلي» أو كما صرّح هو بنفسه ذات يوم فقال: «أنا أكتب في جريدة إسرائيلية، للإسرائيليين، وليس للفلسطينيين. أنا اكتب للإسرائيليين الذين يريدون أن يقرأوا ما يجري مع الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي. اكتب من وجهة نظر إسرائيلية، أو ربما من وجهة نظر وطنيّ حسبما أراها. أكتب بالأساس عما نفعل بهم، وليس كي نساعدهم، ولا كي نساعد اي أحد آخر؛ بل من أجل أن نعرف». فلنقبله بحجم صديق، هكذا كما هو، ولنترك رصيده الأخلاقي مفتوحا على جهات الريح.

والرسالة الثانية: كن، يا جدعون، كما تريد، وابق حرا، وتذكر أوجاع قلبك، ولا تخذل أنفاس الحقيقة التي باسمها كتبت وشمخت؛ وتذكر، كذلك، أطفالا ينامون خائفين أمام فوهات البنادق ويحلمون بأمثالك، رجالا، يكتبون من أجل أن يمتلأ فجرهم بالزنابق .
كاتب فلسطيني

 

 

من يعيد الفرح

والأمان لفضاءاتنا العامة؟

جواد بولس

 

أقامت في الخامس من الشهر الجاري، جمعية «أنغام للموسيقى» و»الفرقة الماسية النصراوية» حفلا تكريمياً للموسيقار الخالد بليغ حمدي، على مسرح مدرسة «راهبات مار يوسف» في مدينة الناصرة. كان مشهد السيارات التي ملأت ساحات المدرسة مبشّرا بعدد الحضور الكبير، الذي تجاوز عدده الستمئة شخص، كما علمت لاحقا.
دخلنا القاعة الرحبة مباشرة عندما شرعت الفرقة تعزف. لوهلة قد تتخيل أنك في أحد المسارح «الأجنبية» الراقية؛ فالصمت في القاعة جارح وطغيانه يشي بشغف الحاضرين باجتراع الموسيقى الأصيلة. جلس العازفون، وكلّهم أبناء البلد، على المسرح، وتحتهم قليل من ريح. كانوا يحتضنون آلاتهم برفق العشاق، وأمامهم كان ينتصب، مثل سهم، المايسترو كميل شجراوي، الذي ما أن رفع قوس كمانه وحطّه، بما يشبه الغضب، على خاصرة الوتر، بدأت رحلة الفرقة على طريق النحل، وأخذتنا والسعادة، مع باقة من أغاني الكبار، أم كلثوم، وردة، صباح، ميادة الحناوي، عبد الحليم، نحو المدى البعيد، فأمضينا بضع ليلة مع تناهيد ماض جميل وبقايا من نور كنا قد افتقدناه. كان تكريم واحد من أعمدة الموسيقى العربية لائقا ومشرفا، فألحانه عزفت بحرفية لافتة وقد زادها صوت ابنة قرية الرامة الرائعة رنا حنا – جبران، شجنا وطربا، ثم «عَشّقها» صوت الشاب الوسيم ابن قرية ترشيحا شادي دكور، بقطع من عذوبة وورد. لقد توالت فقرات الحفل كسكب رقيق من عسل، فطارت ساعة ونصف الساعة من زمن ليس كالزمن، حتى انتهينا على وجع وما زال فينا «الغليل لظى، والوجد محتدما، والشوق ظمآنا».
لست ناقدا موسيقيا، ولا أكتب من هذا الباب؛ لكنني اعترف، بأنني كلّما أشارك في مثل هذه المناسبات أصاب بنوبة من فرح وزهو؛ لا لما نسمع من طرب أصيل ونشاهد من إبداع محلي مبهر وحسب؛ بل لأنني وكثيرين مثلي، نعتبر هذه النشاطات الفنية ومثيلاتها جزءاً من معارك مجتمعنا على فضاءاته العامة وتعزيزاً لانتشار الثقافة الحرّة فيه ولدور الإبداع في بناء الحصانة الجماهيرية وإشاعة التعددية الفكرية والثقافية بين ظهرانيه. كم كنت أتمنى أن يتعرّف العالم على ما ينتجه المواطنون العرب في إسرائيل من أعمال ثقافية وفنية إبداعية مختلفة؛ ومن الواضح أن هذا المقال لن يتسع لذكر قوائم المغنين البارزين والفنانين والمبدعين، وأسماء الفرق الغنائية والمسرحية الجادة، وما يقدمونه من إنتاج فني سنوي مرموق؛ وهم يفعلون ذلك على الرغم من ضيق الهوامش المتاحة لمعظمهم، وعلى الرغم من انحسار عدد المنصات والمواقع العامة التي يستطيعون عرض إنتاجاتهم عليها، ومحاربتهم ومنع عروض بعضهم في كثير من البلدات، كما حصل في الماضي وكما قرأنا مؤخراً.
تتداعى الأحداث في مدننا وقرانا بسرعة جنونية، وبتواتر متصاعد من يوم إلى يوم؛ ويكاد المواطن العادي لا يعيرها اهتمامه إلا لحظات عابرة، رغم أنها تؤدي، من خلال تراكمها الضاغط والعفوي، إلى تزايد مشاعر الاغتراب الاجتماعي، والخوف بين الناس، وإلى ابتعادهم عن الحيز العام ولجوئهم إلى ملاذات ضيّقة، قد يكون أهمها «البيت» أو ما ينوب عنه من بدائل وهمية يحسبها المواطن «حصوناً» تؤمن للمهدّدين منهم وللخائفين حماية، في واقع خسرت فيه المجتمعات المحلّية معظم مظلاتها الواقية وفقدت كوابحها القيمية والسلطوية والقيادية.

لن ننجح في مواجهة واقعنا المقلق والخطير، من دون تشخيص مسببات الآفات بجرأة وبوازع غير مرتهن لأي مصلحة فئوية أو دينية أو مادية

وليس من الصعب على الباحثين الجدّيين في علوم الاجتماع والسياسة الرجوع إلى بدايات التحوّلات/الانهيارات الكبيرة التي أصابت مجتمعاتنا المحلّية، والكشف عن العوامل الحقيقية التي أدت إلى تدهورها ووصولها، كما هو الحال في أيامنا، إلى حافة الهاوية؛ لكننا، كمجتمع مأزوم ومفجوع، يجب أن نقرّ بأننا لن ننجح في مواجهة واقعنا المقلق والخطير، من دون تشخيص مسببات تلك الآفات بموضوعية وبجرأة وبوازع غير مرتهن لأي مصلحة فئوية أو دينية أو مادية. فهل توجد بيننا تلك الفئة القادرة على إنجاز هذه المهمة؟ وإن وجدت هذه الفئة بيننا، فهل ستكون لديها الدوافع والنوازع والاستعدادات، لتتصدّر المواجهة التي ستتفجر، حتماً، على جبهتين كبيرتين وخطيرتين؛ الأولى، هي جبهة الدولة ونهج مؤسساتها العنصري والفاشي في بعض تجلّياته؛ والثانية، وقد تكون الأخطر، هي المواجهة مع جميع القوى البلدية المحلية، التي تنتج مؤسساتها ثقافات العنف على أشكاله، وتسوّغ مفاهيمُها ومصالحها وقدراتها المادية والمعنوية، جميعَ أشكال الصدام مع «الآخرين» وتبرر غاياتُها كلَّ وسائل الاستقواء والبلطجة وترخيص القتل على أشكاله. إنها باختصار المعركة على أمن البشر وضمانة حرّياتهم وصون كراماتهم وهي كذلك معركة من أجل حماية رئات الوطن وتسييج ساحات البلدان. لقد خرجنا من قاعة مدرسة «راهبات مار يوسف» منتشين، لكن بنا بعض من الحسرة والحزن. فبعضنا استذكر كيف أعلن قبل ايام معدودات مجلس محلي في إحدى قرى الجليل عن إلغاء حفل موسيقي كان من المفروض أن تحييه الفنانة نادين خطيب «استجابة لتوجه رجال الدين لرئيس مجلس القرية»؛ بينما تذكّر آخرون مشاهد إطلاق الرصاص على أحد المشاركين في حفل زواج خاص فأرداه قتيلاً.
تحلّقنا طاولة في بيت أحد الأصدقاء؛ وبلهفة المنتصرين تغنينا بالموسيقى وتسابقنا بالحديث عن نهفات بليغ الحر حتى آخر أنفاس الزبد، وعن شقاواته وحبه للحياة مثل حب زوربا اليوناني. كانت أخبار النهارات، بمرّها، تتناثر بيننا كلما جنّ الليل وزاد عتمة، حتى وصلنا، رغما عنا، إلى آخر أخبار الرصاص، فتناقشنا حول قضية إشراك جهاز المخابرات العامة في مكافحة الجريمة والعنف بين المواطنين العرب. لم نتفق على موقف واحد إزاء هذه القضية، فعدنا إلى قصص الغناء والشعر والنحت والتمثيل والفرح. كان واضحا لجميعنا أن نجاح مثل هذه الليالي يؤخر موعد إعلان هزيمتنا الثقافية الكبرى، ويضخ في مطارحنا جرعات مهمة من مصل الأمل؛ لكن ذلك لن يثمر ولن يتم إلا إذا حظي جميع المبدعين والفنانين برعاية مؤسساتية ومجتمعية أكبر، وبدعم قطاعات نخبوية واسعة وبمساندة حاسمة من قبل من يصلّون بهدوء وبصمت وبدون أن يراهم الناس تماما، كما كان يصلي زوربا، لأنهم مثله يؤمنون بألا «تستطيع قطرة البحر إلّا أن تكون في أعماق الموج».
لم نعرف كيف اقتحمت صلاة زوربا اليوناني ليلنا، وهو الذي أجاب حين سألوه كيف تصلي فقال: «بالحب.. أقف وكأن الله يسألني: ماذا فعلت منذ آخر صلاة صليتها لتصنع من لحمك روحا؟ فأقدم تقريري له وأقول: يا رب أحببت فلانا، ومسحت على رأس ضعيف، وحميت امرأة في أحضاني من الوحدة، وابتسمت لعصفور وقف يغني لي على شرفتي، وتنفست بعمق أمام سحابة جميلة تستحم في ضوء الشمس». لم ننتبه كيف حضر معنا زوربا ليلة لتكريم موسيقار مصري عاش يرتشف الحب ويوزعه ألحانا بجنون عبقري، لكننا مثله، أنهينا جلستنا بكثير من الصلاة وتراتيل الحب والشوق لمثل هذا الفرح. لقد تمنينا في تلك الليلة كثيرا، وافترقنا وكلنا نعرف أنها مجرد أمنيات سوف تمحوها سكرة أول فجر دامٍ كان جدّ قريبا؛ ففي الواقع لقد خسرنا المعركة على «حيّزنا العام» وقبلها، كنا قد أضعنا «ساحة البلد».
كاتب فلسطيني

 

 

غصات الأسرى: مرضى

ومضربون عن الطعام

جواد بولس

خضع الأسير ناصر أبو حميد في التاسع عشر من الشهر الفائت، لعملية جراحية معقدة في مستشفى «برزيلاي» الإسرائيلي، حيث استأصل الأطباء خلالها ورما من رئتيه، كانوا قد اكتشفوا وجوده بعد فحوصات طبية أجروها له في شهر آب/ أغسطس الماضي.
ولمن لا يعرف قصة هذه العائلة، إليكم عصارتها المرّة؛ فالأسير ناصر أبو حميد هو من سكان مخيم الأمعري، الذي يتوسط، كنغزة في خاصرة التاريخ، مدينتي البيرة ورام الله، واحد من بين خمسة أشقاء يقضون في سجون الاحتلال أحكاماً مؤبدة، أي لمدى الحياة، وذلك بعد إدانة كل من نصر وناصر وشريف ومحمد في عام 2002 بتهم أمنية، ثم إدانة شقيقهم إسلام، في عام 2018، مثلهم بالحكم المؤبد. كما يذكر أن لهم شقيقاً سادساً، هو عبدالمنعم أبو حميد الذي استشهد قبل سنوات. لم يسلم سائر أفراد العائلة من الاعتقالات ومن تنكيل الاحتلال الإسرائيلي، كما تجلّى ذلك في حرمان والدتهم الفاضلة أم يوسف، من زيارتهم في السجون لسنوات طويلة، علما بأنهم كانوا قد فقدوا والدهم الذي توفي وهم في الأسر.
لقد عقّبت أم ناصر أبو حميد عند سماعها نبأ مرض ابنها «إن معنويات ناصر قوية وعالية رغم إصابته بالسرطان، وهو سيقهر المرض كما قهر الاحتلال». وأضافت، في إحدى مقابلاتها الصحافية وعلى لسانه: «حرّ أنا رغم القيود بمعصمي، أحيا عزيزا لا أذلّ لمجرم». هكذا، إذن، اختصرت من سميتها مرّة «وردة من الأمعري» حكاية مئات الأسرى الفلسطينيين المرضى؛ وهي إذا قالت، فالقول كما قالت الأمعرية.
لكل أسيرة وأسير فلسطيني حكايةٌ ترددُها أنفاسُ الليل، أصداء للوجع الدائم، وأثرٌ لا بدّ أن يرى وأن يدوم. وتبقى حالات الأسرى المرضى أصعبها عليّ وأكثرها استفزازاً؛ فبعض هذه الحالات تشعرني كيف يفقد السجّان، ابن آدم، إنسانيته ويتحول إلى مجرد مسخ كلّه من شر، ويبقى الأسير، مقابله، يتقلّى، بشموخ الحرّ، ككتلة من صفيح ساخن. من حق جميع أولئك الأسرى علينا أن نروي حكاياتهم للعالم، وأن نوثّق كيف عانوا، وأيّ إهمال طبي مورس بحقهم، حتى سلّم بعضهم أرواحهم داخل السجون الإسرائيلية، بعد أن كانوا قد ضحّوا بحرياتهم من أجل وطن مشتهى وكرامة شعب مهيضة. عرفت أن نهاري سيكون صعباً؛ فبداية سأزور الأسير ناصر أبو حميد في سجن عسقلان، وبعده سأتوجه إلى عيادة سجن الرملة، حيث سألتقي بعض الأسرى الإداريين المضربين عن الطعام منذ أيام طويلة. انصعت لتوجيهات تطبيق «ويز» الذي أدخلني طرقًا التفافية تعرفت فيها على الأحياء الشمالية الجديدة لمدينة عسقلان. بدت العمارات عن بعد جميلة مع لمسات هندسة عصرية، لكنها لم تكن، في الواقع، هكذا تحققت عندما اقتربت منها، إلا كتلا من أبنية «كتشية» رخيصة، كانت قد بنتها حكومات إسرائيل اليمينية لتسدّ نهم الطبقات الشعبية والوسطى الغوغائية الصاعدة على عتبات قصور اليمين الفاشي. كان البحر يتهادى على يميني، وهو أجمل ما يمكن أن تراه هناك، والرمل الذي في كل مكان، كان يشوّش الذاكرة ويعيد إليها صور القوافل الراحلة وحداءات التيه والضياع.

عاد صوت «أم ناصر» إليّ، فسمعتها وهي تقول لي: «المهم يا أستاذ، ألا تُظهر ضعفك، وألّا تدع عينيك تدمع أمامهم؛ فنحن سنبقى أقوياء

لم يتغير سجن عسقلان منذ زرته آخر مرّة؛ فالسجون، في إسرائيل، مهما حاول القائمون عليها تحديثها وترميمها، تبقى شواهد فاهية على محاولات وأد الأرواح، ومعاقل جرداء لتفريخ الحقد ولتخصيب الكراهية. أنهيت إجراءات التفتيش وانتظرت سجّانا سيصطحبني إلى غرفة المحامين. لم تكن الغرفة كما قد تتخيلون؛ فهي مكان قد يذكرك برسومات بيكاسو التكعيبية؛ فهي ليست مستطيلة ولا مربعة، ولا شكلها كشكل شبه المنحرف؛ بل كانت، أو هكذا أحسست، مثل مبنى مهجور كالذي كنا نشاهده، أحياناً، في أفلام رعاة البقر الأمريكية. كان الغبار منثورا في جنباتها، وعلى يساري، حيث كنت أجلس على دكّة من باطون أجرد، لاحظت ما يشبه الباب. كان عبارة عن لوح خشبي غير مدهون، يعاني سطحه من عدة كسور، وخلفه لاحظت ما كان من المفروض أن يكون حماماً، إلا أنه تحوّل مع الزمن وبسبب الإهمال، إلى مكرهة صحية، لا ماء فيها ولا هواء. حاولت أن أقتل وقت الانتظار، فاستدعيت ما قالته لي «أم يوسف» ذات يوم عندما اتصلت لأسأل عن حالها، كان صوتها الذي استحضرته في مخيلتي، كصوت الورد الناتئ في شقوق صخر المخيمات، ينبض بقوة هادئة ويشحنني بالثقة وبالحزم. قطعت خرخشة الأصفاد القريبة مني حبل تفكيري، ففتح السجان بابا حديديا ثقيلا وأدخل منه ناصر أبو حميد، الذي جلس، بعد أن فكّت أصفاده، خلف الزجاج الذي لم يحافظوا على لونه الأبيض الشفاف الأصلي. حيّيته من خلال سماعة التلفون فرد التحية بصوت متعب تخللته نوبات من السعال الخفيف. حاولت ألا أبدي قلقي مما رأيت؛ فوجهه كان شاحبا بصفرة مصحوبة بخضرة خفيفة كورق الغار، وعيناه غائرتان، في ذبول واضح، تحت جبين تفضح ثناياه ما حاول ناصر أن يخفيه عني. نقلت له تحية العائلة والأصدقاء وسألته عن حاله. أعلمني أنه نقل إلى مستشفى برزيلاي بتاريخ 29/9، أي قبل حوالي العشرين يومًا من زيارتي له، حيث أجريت له فحوصات طبية شاملة، تبين منها أنه يعاني من وجود ورم في رئتيه. وأخبرني أن الأطباء حرروا له تقريرا مفصلا عن حالته وطلبوا في نهايته أن يعاد إلى مستشفى برزيلاي بعد عدة أيام من أجل إجراء عملية جراحية ضرورية.
كان التقرير الطبي في حوزته، فعرضه، على الزجاج أمامي، وقرأناه معا. كان واضحا أنه بحاجة لإجراء العملية فورا؛ ومماطلة مصلحة السجون كانت سببا في تفاقم وضعه الصحي، لأنهم، هكذا أكد أمامي، لو قاموا بواجبهم مباشرة عندما أحسّ منذ البداية، وعندما بدت عليه علامات المرض، لما تقهقر وضعه ولما وصلت حالته إلى ما هي عليه في هذه الأيام. وقد أخبرني أن إدارة السجن وعدت بنقله في مطلع الأسبوع القريب إلى مستشفى برزيلاي كي يجري العملية هناك؛ ثم أردف: وإذا لم يفوا بوعدهم، فسيتخذ جميع أسرى السجن خطوات تصعيدية غير مسبوقة، إضافة إلى ضرورة تحريك المسار القانوني، على الرغم من انعدام ثقتنا فيه.
وعدته بأنني سأتابع هذا الموضوع مع إدارة السجن، وإنني سأعود إلى زيارته، كان ودودا، باسما وهادئا، فحمّلني سلامًا لأحبته ووزنة من عزيمته الواضحة. وقف محتضناً همّا وأملا كبيرين، وكانت كفه ملقاة على الزجاج تعانق كفي؛ وقال قبل أن يغادر: لا يمكن السكوت بعد عن سياسة الإهمال الطبي بحق الأسرى الفلسطينيين؛ فبعضهم قد رحلوا بصمت وبحسرة والباقون هم مشاريع شهادة.. جاء سجان وأخرجه من الباب الحديدي واختفيا. أما أنا فبقيت انتظر من يخرجني من هذا القفر ومن قلقي.
تأخروا، فوقفت بالباب منتظرا أن يمرّ أحدهم فأذكره بحالي. عاد صوت «أم ناصر» اليّ، فسمعتها وهي تقول لي: «المهم يا أستاذ، ألا تُظهر ضعفك، وألّا تدع عينيك تدمع أمامهم؛ فنحن سنبقى أقوياء إذا تبسمنا في وجوههم حتى وهم يهدمون بيوتنا ويقتلون أبناءنا؛ نحن سننتصر على جبروتهم بصمودنا وبتضحياتنا لأنهم الضعفاء، فأصحاب الحق أقوى من الطغاة، وأولادي وكل ما أملك فداء للكرامة ولفلسطين». وقفت هناك متبسما فمرّت، بعد دقائق، من أمامي سجانة لونها كلون القهوة، فسألتني من أنا ولماذا أقف هناك؟ أجبتها وأنا متبسم. ضحكت بغنج مهاجرة افريقية خجولة ووافقت على توصيلي حتى مدخل السجن، الذي كان يبعد عنا بضعة أمتار فقط.
تركت السجن واصطحبت تطبيق «ويز» مجددا، فأوصلني إلى سجن الرملة.
وقفت أمام بوابة السجن الكبيرة وقدمت للسجان بطاقتي.. دخلت غرفة الانتظار؛ حاولت أن أبتسم فكان وجه ناصر المتعب أمامي والبسمة عاجزة. كنت أعرف ما ينتظرني: ثلاثة من حرّاس القدر يقاومون بجوعهم سطوة السجان، وينتظرونني كي نجد معا دربا للخلاص ومخرجا نحو الحرية والكرامة.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

كفرقاسم: من لم يتعلم من

«قرش شدمي» لن تنقذه المليارات

جواد بولس

 

لو كنت مكان الوزير عيساوي فريج، لاعتذرت على الملأ، أمام النائبين أيمن عودة وعايدة توما – سليمان، وأمام زملائهما، النواب في القائمة المشتركة، وأمام عشرات آلاف المصوتين للقائمة وداعميها.
ليس من حق الوزير فريج ممثل حزب ميرتس الصهيوني في حكومة بينيت – لبيد، أن يزايد على نوّاب القائمة المشتركة، لأنّهم أصروا على تقديم اقتراح قانون يطالب دولة إسرائيل بالاعتراف بمجزرة كفر قاسم، وبتحمل المسؤولية عن وقوعها؛ فأسلوبه الغاضب لم يزده احتراما، ولا تعابيره الفظّة والمستفزة التي هاجمهم بها، رفعت من مكانته.
في مثل هذا الأسبوع قبل 65 عاما، وتحديدا في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1956، قتلت، بدم بارد، كتيبة ما يسمى «حرس الحدود الإسرائيلي» سبعة وأربعين مواطنا عربيا من سكان قرية كفر قاسم؛ وكان من بين ضحايا تلك المجزرة أطفال وشيوخ ونساء، لم يقترفوا أي ذنب سوى أنهم وصلوا عند تخوم قريتهم وقت حظر التجوّل، الذي لم يعرفوا به قبل مغادرة بيوتهم في ساعات الصباح.
أذكر أننا طلاب كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس، تعلّمنا، قبل أربعين عاما، عمّا حصل في ذلك اليوم في كفر قاسم؛ بيد أن المحاضر لم يسمّها مجزرة، ولم يبدِ أي تحفظ أو انتقاد «لجهاز العدالة» الإسرائيلي، الذي برّأ قضاتُه قائدَ المنطقة، المدعو يشكا شدمي، من تهمة القتل العمد وأدانوه بتهمة «تجاوز الصلاحيات»، وحكموا عليه بالتوبيخ وبغرامة مقدارها قرش واحد؛ أصبح يعرف «بقرش شدمي» الذي اتخذه المواطنون العرب رمزا للتعبير عن سخطهم على جهاز القضاء الإسرائيلي، وعن مشاعرهم بفقدان الثقة بعدل الدولة تجاه مواطنيها العرب. لقد علّمونا في حينه أن الضابط الذي نفّذ أوامر قتل الأبرياء تجاوز صلاحياته، لأن «راية سوداء» كانت ترفرف عليها وكانت، لسوادها، توجب رفضها وعدم الالتزام بها. لم أصطدم في الماضي مع الوزير عيساوي فريج، الذي أكن له احتراما، ولا مع حزب ميرتس الذي ينتمي إليه منذ سنوات طويلة؛ وعلى الرغم من وجود اختلافات وخلافات سياسية واضحة بيننا، دأبتُ على التمييز بينهم وبين حزب العمل، وبينهم وبين سائر الأحزاب الصهيونية، لاسيما اليمينية منها والفاشية. أقول ذلك مقتنعا بأن الحالة الهستيرية التي وقع الوزير فريج تحت تأثيرها وأدت إلى هجومه غير المسبوق على نواب القائمة المشتركة، هي نتيجة للوضع غير الطبيعي الذي أفضى إلى استوزاره طوعا في حكومة يقف على رأسها زعيم متدين ويميني وتدعمها أحزاب يمينية عرف زعماؤها بمواقفهم العنصرية تجاه المواطنين العرب والعدائية الاستيطانية تجاه الفلسطينيين وأراضيهم. ما شاهدناه من على منصة الكنيست يوم الأربعاء الفائت، كان في الواقع انعكاسا لتلك الحالة السياسية الشاذة، التي أتوقع أنها ستتكرر في المستقبل؛ وهي الحالة نفسها التي دفعت، عمليا نواب الحركة الإسلامية، بعد قرارهم بدعم هذه الحكومة، للتصرف بعكس ما كان يتوقع منهم، أو بالتنكر التام لممارسات الحكومة ولخططها التوسعية في القدس، وفي الأراضي الفلسطينية، وتشجيعها لاقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى، وفي استمرار تنفيذ سياساتها العامة في معظم الميادين، وفق المفاهيم السلطوية الصهيونية القديمة، التي يمكن أن نعبر عنها، مجازا، بالاستعانة  «بقرش شدمي «وبرايته السوداء التي خرقتها العواصف والرياح، ولم يبق منها الا غبار الرصاص والأسى.

من المؤسف حقا أن يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب إسلاميين وأحزاب «يسارية»

لقد صرّح الوزير فريج بأن عرض القانون من قبل النائبة عايدة توما للتصويت في قاعة الكنيست قد تم بغرض إحراجه، وهذا الادعاء هو نفسه الذي لجأ إليه نواب الحركة الإسلامية، عندما عارضوا مشاريع قوانين قدّمها نواب القائمة المشتركة وأسقطوها بحجة الإحراج أمام حلفائهم من أحزاب اليمين. فهل علينا إذن أن نقبل، باسم ذلك الحرج، تهافت نواب الحركة الإسلامية ودعمهم المطلق لحكومة إسرائيل؟ أو أن نبرر للوزير فريج وغيره مثل تلك الانزلاقات، واستعمال اللغة واتهامات اليمينيين نفسها بحق القادة العرب، لدرجة أنه حاز تصفيق العنصري ايتمار بن جبير؟
نعيش، نحن المواطنين العرب، في خضم أزمة حقيقية؛ وما نراه يتداعى أمامنا، منذ انتهاء عملية الانتخابات الأخيرة، وإقامة حكومة بينيت – لبيد، بدعم من الحركة الإسلامية وحزب ميرتس، ما هي إلا أعراض لتلك الازمة الخطيرة ولنتائجها.
واذا عدنا لقضية المجزرة في كفر قاسم، فسنجد أنها حظيت عبر السنين بإدانات شعبية ومؤسساتية إسرائيلية واسعة، بخلاف ما يدور من نقاشات داخل المجتمع الإسرائيلي حول مجازر أخرى نفذتها المنظمات الصهيونية، على اختلافها، بحق المواطنين الفلسطينيين، في قرى ومدن عديدة خلال عامي 1947 و1948. ويكفينا أن نتذكر هنا خطوة رئيس الدولة السابق رؤوبين ريفلين، الذي قرر في عام 2014، مشاركة أهالي كفر قاسم في الذكرى الثامنة والخمسين للمجزرة، رغم تحذيرات مستشاريه، ووقف أمام النصب التذكاري وأعلن: «جئت اليكم اليوم، كفرد من أبناء الشعب اليهودي، وكرئيس لدولة إسرائيل، كي أقف أمامكم، عائلات الضحايا والجرحى، لأتألم معكم في هذه الذكرى».  لقد كان ريفلين الرئيس الإسرائيلي الأول الذي بادر بنفسه لزيارة كفر قاسم في ذكرى وجعها، محاولا تضميد بعض من جرحها، الذي ما زال مفتوحا؛ فلماذا تغيب هذه الحقيقة عن نواب الإسلامية وعن وزراء ميرتس؟ ولماذا لم يحاولوا إقناع حكومتهم بدعم القانون وإغلاق واحدة من دوائر الدم الكثيرة في تاريخ السيرة والنسيرة الفلسطينية؟
انني أسأل وأعرف الجواب؛ فنهج نواب الإسلامية الذرائعي، وتحييد دور النائب مازن غنايم الوافد من أحضان القومية التجمعية، ومهادنة حزب «ميرتس» لسياسة بينيت- لبيد، أو مقايضتهم مصلحة بمصلحة، سيتسببوا بتقويض شروط تعاقدنا التاريخية مع الدولة، وإلى تغييب أحد أركان تلك الشروط، وهو دور هويتنا الجامعة وما ترتب ويترتب عليها من حقوق وواجبات، في ترسيم حدود علاقتنا مع النظام السياسي المركزي. من المؤسف حقا أن يسقط قانون مجزرة كفر قاسم في زمن حكومة مدعومة من نواب إسلاميين وأحزاب «يسارية» وذلك ساعة اختارت فيه جريدة «هآرتس» أن تخصص افتتاحية عددها الصادر يوم الأربعاء الماضي تحت عنوان «اعتراف واعتذار وتعلم» وتختتمها بأمنية قالت فيها: «الآن، مع التحالف الحالي في الكنيست، هناك فرصة لتصحيح الظلم التاريخي والاعتراف رسميا بمسؤولية الدولة عن هذه الجريمة، والاعتذار الكامل والصادق لعائلات الضحايا ودمج قصة المجزرة في المناهج الدراسية». ولكن بينيت وأمثاله، من أهل اليمين والعنصريين، يعرفون معنى اعتراف دولة إسرائيل بمجزرة واحدة، ويستشعرون ما قد يترتب على تحمّلهم الرسمي لمسؤوليتها، ولذلك، لأنهم يعرفون، أنهم سوف يستمرون بمحاولاتهم لإجهاض كل مبادرة من شأنها أن تغلق هذه الدائرة، وكيلا تفتح أخرى.
لم يتردد الرئيس ريفلين في عام 2014 ولم يحرج مثل حرجكم اليوم، حين أعلن أمام العالم وقال: «ما حصل في كفر قاسم هو جريمة نكراء يتوجب علينا أن ننظر إليها مباشرة، ولزاما علينا أن نعلّم الأجيال القادمة عن هذا الفصل العصيب وعن خلاصاته».. هكذا قالها بدون تأتأة وبلا مناورات. أما عندنا فمن لم يتعلم من «قرش شدمي» لن تنقذه الخطط الخماسية ولا المليارات.
كاتب فلسطيني

 

فلسطين على موعد مع

الوجع في موسم الجوع الكبير

جواد بولس

 

اكتب مقالتي في وقت يعاني فيه سبعة أسرى فلسطينيين إدارييين مواجع إضراباتهم عن الطعام، الذي بدأه بعضهم قبل أكثر من خمسين يوما؛ بينما قطع فيه الأسيران، كايد الفسفوس ومقداد القواسمة، حاجز الثمانين يوما، وباتا يواجهان، وفق جميع التقارير الطبية، إمكانية الموت الفجائي، أو إصابتهما بأضرار جسدية لا يمكن معالجتها في المستقبل.
لا أعرف كيف سينهي الأسرى إضراباتهم؛ فشرط كل واحد للتوقف عن إضرابه هو أن ينال حريته، أو في أسوأ الخيارات، أن تتعهد قوات الأمن الاسرائيلية بتاريخ محدد للإفراج عنه، على أن يكون قريبا من ميعاد انتهاء مدة أمر الاعتقال القائم.
كنت قد أشرت في الماضي إلى أن الاعتقالات الإدارية بحق الفلسطينيين تعتبر إحدى ممارسات الاحتلال الخبيثة والقاهرة، لا لأنها لا تحترم حقوق الإنسان الأساسية ولا تتيح للأسير فرصة نزيهة للدفاع عن نفسه وحسب، بل لأنها تترك الأسير في حالة من الغموض والقلق المنهك، إذ إنه لا يعرف موعد الإفراج عنه؛ فالقانون العسكري يسمح، عمليا، لقائد جيش الاحتلال تمديد أوامر الاعتقال بحق أي أسير أداري لمدد غير محدودة، على ألا تتجاوز مدة الأمر الواحد فترة الستة شهور. وقد اعتقل عشرات المواطنين الفلسطينيين إدارياً لعدة سنوات، بدون أن تقدم بحقهم لوائح اتهام وبدون مواجهتهم ببيّنات مكشوفة وواضحة؛ وقد صادق قضاة المحاكم العسكرية والمحكمة العليا، بشكل روتيني، على أوامر الاعتقال طيلة سنوات الاحتلال.
قمت بزيارة الأسير مقداد القواسمة الذي يرقد في مستشفى «كابلان» في رحوبوت مؤخرا؛ بعد أن قضت «المحكمة العليا الإسرائيلية» بتعليق أمر اعتقاله الإداري، نظرا لخطورة حالته الصحية، التي بسببها يبطل اعتباره «خطرا» على أمن «المنطقة» وسلامة الناس. نقلت إليه آخر تطورات قضيته، وشرحا عن آفاق تحرّكي القانوني المنتظر؛ علما بأنه، وفق التطور الأخير، لم يعد أسيرا بالمعنى التقليدي للكلمة، ولم يصبح مريضا بالمعنى المألوف للبشر؛ فقرار قضاة المحكمة العليا حوّله إلى «أسيض» (نحت من كلمتي أسير ومريض) وهي حالة استحدثتها قواميس الاحتلال الاسرائيلي، حيث يمكن تطبيقها على الفلسطينيين، إذا ما قرروا أن يواجهوا، بمعدهم الخالية، إرادة السلطان، وأن ينشدوا حريتهم، وهم على حد «الظبات».
كان ضعيف الجسد بشكل مقلق.. سمعني، بعينين سوداويتين مفتوحتين، لكنه لم يقو على الكلام، أدنيت منه وجهي كي أسمع ما يحاول أن يقوله، فوجدت بين الأنفاس إصرارا، وعند كل وقفة أملا ووصية بألا أنحني. قلت له: لكنك تنشد الحياة؛ فنقل كفه ببطء وألقاها على كفي، فشعرت بحرارة وبرعشة وطلبت منه أن ينزل الكمامة عن وجهه، فأنا أومن بالابتسامات، لغة الروح للروح، ففعل، فساحت أمامي بقايا صبح خليلي متعب. حاولت أن أطمئن والديه بما أسعفني الحال؛ لكنّهما يعرفان أن حالته الصحية حرجة، حدثاني عن شعورهما بعدائية الناس وبعض أفراد طاقم المستشفى، خاصة بعد أن ذاع خبر اتصال الشيخ إسماعيل هنية بهما للاطمئنان عن صحة المقداد، وبعد نشر صور ممرضين عربيين وهما يحتضنانه برفق وبمحبة، كنا خارج الغرفة وكنت أتأهب للسفر لزيارة عيادة سجن الرملة، حيث يرقد فيها كل من هشام أبو هواش، وعلاء الأعرج، وشادي أبوعكر، ثلاثة فرسان رفعوا جوعهم سيوفا في وجه الظلم، ومضوا يذيبون أجسادهم مشاعل على طريق قوافل الحرية والفخار. فاتحتني أم مقداد وقالت: «أوجاعه تزداد وأنا يزداد قلقي وتزداد حسرتي عليه. فأنا لا أريد أن يسجل أنه خاض أعلى إضراب عن الطعام ، بل أريد أن أنقذ ابني كي يرجع إلى بيتنا ويأكل من يدي» سمعت كلامها فحزنت وتذكرت أمي، وكم أكره منصات الرياء واجترار الشعارات عند الخطباء والمتاجرة بجوع وبمعاناة العظماء. قد تشتبك تداعيات عملية السادس من سبتمبر المنصرم وهروب الستة أسرى من سجن «الجلبوع» مع قضية الإضرابات الشخصية التي يخوضها في هذه الأيام، كما ذكرت، سبعة من الأسرى التي تنتمي أكثريتهم لحركة الجهاد الإسلامي، ويشارك معهم عناصر من حركة فتح وحركة حماس. فقد قرأنا يوم الأربعاء الفائت بيانا صادرا عن أسرى حركة الجهاد في سجون الاحتلال، أعلنوا فيه عن شروع مجاهدي الحركة بالإضراب المفتوح عن الطعام في كل السجون من الشمال إلى الجنوب. سيكون عنوان الإضراب، كما أعلنوه: «معركة الدفاع عن إرث الحركة الأسيرة وبنيتها التنظيمية» وهو عنوان لافت لخطوة جريئة تستدعي المتابعة والتحقق من مآلاتها ومدى نجاح المبادرين في تطبيق ما أعلنوه من خطوات تصعيدية، وردت في البيان.

تقول أم مقداد: «أوجاعه تزداد، لا أريد أن يسجل أنه خاض أعلى إضراب عن الطعام ، بل أريد أن أنقذ ابني كي يرجع إلى بيتنا ويأكل من يدي»

لن أتطرق، في مقالتي اليوم، إلى مضمون البيان وتبعاته الممكنة المستقبلية؛ فعلينا الانتظار لما ستفضي اليه الأيام المقبلة، وبعدها سأعود لأتناول أبعاد هذه الخطوة وتأثيراتها الممكنة في الحالة السياسية الفلسطينية العامة، وعلى واقع الحركة الأسيرة، التي تعاني من خلل جسيم لم يعد السكوت عنه، كما يبدو، ممكنا. وإلى أن نعود إلى أصداء البيان، سألفت النظر إلى ما جاء في البند الخامس منه، حيث نودي فيه إلى ضرورة «إنهاء الاعتقال الإداري للأخوة المضربين إداريا». إنه مطلب طبيعي لم يكن بمقدور أحد القفز عليه، بيد أنني اعتقد أن المبادرين لهذه الخطوة كانوا قد تنبهوا، وقد أخذوا بالحسبان أن تضمينهم لمطلب كهذا، في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها المضربون السبعة، ليس بالضرورة سيكون في صالح المضربين، بل قد يعقد قضيتهم ويؤخر حلها، خاصة إذا أصرت «لجنة الإضراب» على تحقيق جميع مطالبها الستة الواردة في البيان كشرط للعودة عن خطوتهم. وصلت ساحة سجن الرملة في تمام الساعة الواحدة. دخلت، فاستقبلني سجان، مهاجر روسي يجيد لغة الروبوتات الآدمية، فطلب مني أن أتوجه إلى شبّاك الاستقبال لأسلم بطاقتي وهاتفي ومفاتيح سيارتي. خلف الشباك جلس سجان عربي كان يعرفني، من زياراتي السابقة، فحيّاني بترحاب لم يستحسنه المهاجر، كما فهمت من حركات عظام رقبته. وضعت كل ما عليّ في حاوية صغيرة وأدخلتها ماكينة الفحص وتوجهت نحو بوابة، تشبه مسخا لقوس نصر بلاستيكي، مزنرة بمصابيح حمراء كانت كلّها مطفية، فما أن «دعست على طرفها» حتى بدأت تصفر بأصوات مجنونة. تراجعت إلى الوراء، فقفز السجان المسؤول عن ترويض الآلة وسألني بغضب: هل تلبس حزاما؟ لم ينتظر الإجابة، فأمرني بإزالته وأن أخلع حذائي وإدخالهم في بطن ماكينة الفحص.
انتهت عملية التفتيش بسلام؛ فمضيت بصحبة المهاجر نحو العيادة. كان ودودا بهدوئه وكمامته السوداء التي تغطي أكبر مساحة من وجهه الأبيض. كان صدره منفوخا كصدر رياضي محترف وشعره قصيرا كملاكم. فجأة، سمعته يقول لي بصوت خافت: «قد لا نستطيع دخول العيادة الآن، فلقد علمت أن أحد المساجين قد توفي أو سقط هناك قبل لحظات وهم يحاولون إنعاشه» قالها ببرودة لطيفة واستمر بمشيه. كتمت أنفاسي مستعدا للصراخ، فنظر إليّ فشعرت بأنه لا يكذب عليّ.
وقفت أمام باب العيادة سيارة إسعاف صفراء وحولها عدد من ضباط مصلحة السجون.. توقفنا أمامهم فتعرّف عليّ أحدهم، وهو ضابط صرح أمام زملائه، بنوع من الغبطة، أنه يعرفني منذ ثلاثين عاما. رحّب هذا الضابط بحضوري، لكنه اعتذر مباشرة لأنني لا استطيع الدخول.. فهناك ملقاة جثة أسير كان قد توفي قبل دقائق معدودة؛ ثم أردف، بنبرة مطمئنة: إنه جنائي، وليس من أصحابك!
أرجعوني إلى قاعة الدخول، فانتظرت فيها ساعة. جاء بعدها، كما وعدوني، مرافقي، فأدخلني إلى غرفة المحامين. لاحظت أن سيارة الإسعاف الصفراء ما زالت واقفة على مقربة من مدخل العيادة. سألت مرافقي عنها، فأدار ذراعيه بحركة فهمتها: الأجدر بك ألا تسأل. طلبت إحضار الأسير علاء الأعرج، فأفادني الضابط المسؤول أنهم نقلوه في اليوم نفسه إلى أحد المستشفيات المدنية لإجراء فحوصات طبية. فطلبت الأسيرين هشام أبو هواش وشادي أبوعكر. جاءاني يجرّهما سجّان على كرسيين متحركين، فهما، بعد خمسين يوما من الإضراب عن الطعام، لا يستطيعان المشي كل تلك المسافة. زرت كل واحد منهما على حدة من خلف زجاج بارد وسميك. كان صوتهما عبر الهاتف منخفضا وبطيئا. لقد اشتكيا من أوجاع في الرأس والمفاصل ومن ضعف في الذاكرة، وفي القدرة على التركيز. كانا يتقيآن باستمرار لأنهما لا يشربان إلا قليلًا من الماء. طمأنتهما على العائلة، وأوجزت لهما آخر التطورات مع النيابة العسكرية، ووعدتهما بأن أتابع مع جميع الجهات عساني أنجح بالتوصل إلى حل يرضيان عنه؛ فهما مثل باقي زملائهما يصران على نيل حريتهما والعودة إلى عائلاتهم بكرامة. لم آت معهما على ذكر فكرة الإضراب الكبير، فهذه قصة تحتمل التأجيل.
تركت العيادة وسيارة الإسعاف ما زالت واقفة في مكانها؛ وتذكرت أنهم كانوا ينتظرون حضور وحدة التشخيص الجنائي لتنهي فحوصاتها الميدانية قبل نقل الجثمان. ثم فهمت، وأنا في الطريق إلى خارج السجن، من أحد السجانين، أنهم ما زالوا ينتظرون وصول تلك الوحدة. أدرت ذراعيّ، مقلّدا حركة مرافقي المهاجر، ولم تصبني القشعريرة.
كاتب فلسطيني

 

 

محكمة تجميد العدل العليا

جواد بولس

 

يوم الأربعاء الفائت، وصلت ساحة المحكمة العليا، على غير عادتي، مبكرا بعض الشيء. كانت أخريات الصباح ترحل مثقلة بتناهيد الشرق، وشمس أيلول تتهيأ لتتوسط سماء القدس. كنت مترددا كيف عليّ أن أواجه القضاة، وبينهم سيجلس قاضٍ مستوطن لا يخفي نوازعه السياسية، بل يعبّر عنها، متخفيا بمهنية زائفة، في عدة قرارات شارك في صياغتها، مخالفا رأي الأكثرية فيها تارة، أو مضيفا على رأيهم، من جعبته سهاما واخزة، تارة أخرى.
سرت في الساحة التي كانت، على غير العادة، خالية من الناس. كانت جدران البناية الرخامية ترتفع شاحبة وكأنها أسوار سجن عتيق. لوهلة حسبت المكان مهجورا، لولا حركة حارسين، من وحدة أمن المحاكم، جفلا حين دفعت زجاج باب المدخل الثقيل. ببرود واضح عرضت بطاقتي وتلوت على الحارس تفاصيل القضيتين المسجلتين باسمي، ثم قمت بشكل عفوي بعرض شارتي الخضراء التي تفيد بسلامتي من كورونا، من على شاشة هاتفي؛ فسرّ الشاب من جاهزيّتي ومن كوني مواطنا ملتزما. ثم سألني، متمما واجباته الأمنية، إن كنت أحمل سلاحا ؟ فمددت سبابتي باتجاه فمي فتابعها، بدهشة، ثم تبسم.
جلست على أحد المقاعد الخشبية وأمامي ينحني بهو المحكمة بقوس صخرية ضخمة، مستوحاة من شكل حائط الهيكل الكبير، كانت مضاءة من أشعة الشمس التي تسرّبت من نوافذ عالية، وتدلت كأثداء من السماء، ثم ارتمت على رخام الأرض، فصار أبيض كلون الدهشة. حدّقت في الفراغ الفاهي وتذكّرت أن البناية أقيمت على هضبة لتكون أعلى من بنايتيّ الحكومة والكنيست المجاورتين، برمزية معمارية لسيادة القانون والعدل، كما عبّر عنها الذين بادروا لإنشاء المبنى؛ فالدهاليز فيها مستقيمة كما يتوجب على الحق والقانون أن يكونا، أو كما جاء في سفر المزامير «بارّ أنت يا رب وأحكامك المستقيمة» وكذلك الدوائر استوحيت كرموز توراتية لعلاقتها بمفهوم العدالة وحتميتها في الموروث الديني اليهودي. كنت أقرأ عن حملة التحريض المستفزة ضد ترشيح قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، ابن مدينة يافا خالد كبوب، أمام لجنة تعيين القضاة ليصبح قاضيا في المحكمة العليا. لقد بدأ التحريض ضد ترشيح القاضي كبوب من قبل جمعية يمينية، قامت بإعادة نشر خبر قديم حول مشاركته، قبل عام تقريبا، في حفل أقيم في مدينة يافا وفيه كرّمت جمعيتان فلسطينيتان من القدس، اسم والد القاضي الذي كان يشغل منصبا رسميا، رئيس لجنة الأوقاف في المدينة حتى وفاته عام 2006. لن أسهب في تفاصيل هذه المسألة، رغم أهميتها، فهي جديرة، لما تثيره من أسئلة وتداعيات على عدة مستويات، بمقالة خاصة. قرأت آراء المحرضين وقرأت أيضا مواقف المدافعين؛ فانتابني غضب شديد، لأن العالم يلهث وراء الخبر الرخيص والتحريض، ويترك ما يجب أن يقضّ مضاجعهم بحق؛ فإذا كانت هنالك حاجة لمحاسبة أي جهة على خطابها، فهي بدون شك هذه «المحكمة العليا» التي يجب أن تحاسَب على قبولها بضم قضاة يستوطنون أراضي فلسطينية محتلة، ويخرقون القوانين، ويشاركون بارتكاب ما يجمع قانون الأمم على تعريفه كجريمة حرب واضحة.

قرار «التجميد» يشكل «اختراعا» خبيثا يفضي عمليا إلى ترحيل المسؤولية عن حياة الأسير بحجة أنه مجرد مريض يعالج في المستشفى

قررت أن أكون صداميا مع القضاة؛ رغم شعوري بالإحباط والتعب؛ فهم، هكذا تذكّرتهم، لم يكونوا سعاة حق ولا دعاة إنصاف؛ وأنا لم أذق منهم ولا مرّة، خلال أربعين عاما، هي عمر وجعي أمامهم، طعم العدل، بل كانت الخسارة دوما من نصيبي، وكان القهر والحسرة حصة مَن جئت لأدافع عنهم. دخلت القاعة قبل موعدي.. كانت مندوبة نيابة الدولة تدافع عن قرار شرطة إسرائيل بإغلاق ملف شكوى قدمها مجلس قروي فلسطيني في محافظة نابلس، ضد جمعية دينية يهودية دعت من خلال إعلانات منشورة، إلى حملة تجنيد أموال من أجل البدء في بناء مستوطنة على أراض فلسطينية خاصة. لم يستوعب القضاة، هكذا فهمت من خلاصات ما سمعته بعجالة، موقف الشرطة الذي لم يكن مدعوما بأي مبرر أو مسوّغ قانوني، بعكس موقف جمعية «يش دين» (يوجد قانون) وهي الجهة الملتمسة باسم مجلس القرية الفلسطينية، التي دعّمت موقفها بجدارة قانونية، وبما تملكه من مصداقية مهنية أثبتتها تقاريرها في كشف موبقات الاحتلال ووكلائه من جمعيات استيطانية أو محاكم عسكرية وغيرها. كانت القاعة خالية إلا من مندوبتين عن جمعية «يش دين» وبعض أعضاء الجمعية الاستيطانية ومندوبة عن الشرطة. كان القضاة الثلاثة غاطسين في مقاعدهم وتلف وجوههم كمامات زرقاء، مثل كمامات سائر الحاضرين؛ فبدوا، من بعيد، كثلاثة كائنات خرافية في قصة من عالم الخيال. ملأ النعاس القاعة، وكادت رتابة صوت مندوبة الدولة، أن تنيم الحاضرين، لولا احتجاجات القاضيين على كلامها، التي كانت تسمع، من حين لآخر، كهمهمات رجال إطفاء متعبين. لم يتدخل القاضي المستوطن بمجريات القضية، بل حافظ على نعاسه ملقيا خده الأيسر على كف يده، برسالة منه لجميع الحاضرين تفيد بأنه خارج «لعبة» زميليه القاضيين. تلوا قرارهم بسرعة « الحانقين» وأعلنوا عن استراحة لمدة نصف ساعة.
كلّفتُ بالدفاع عن الأسيرين مقداد القواسمة، من مدينة الخليل، وعلاء الأعرج، من مدينة عنبتا، المعتقلين إداريا في سجون الاحتلال، على أنهما ناشطان في صفوف «حركة حماس» ويشكلان خطراً على أمن وسلامة الجمهور. كلاهما مضرب عن الطعام احتجاجا على اعتقاله تعسفيا ومن دون تهم عينية، ويطالبان بنيل حريتهما بشكل فوري. بعد انتهاء الإجراءات بحقهما في المحكمة العسكرية، تقدمت بالتماسين للمحكمة العليا، وطلبت فيهما الإفراج عنهما. قدّمت النيابة العامة الإسرائيلية ردها على الالتماسين مطالبة بردهما وإبقاء الأسيرين رهن الاعتقال، على الرغم من تسلّمها لتقريرين طبيين يصفان خطورة وضعيهما، بما في ذلك تأكيد على أنهما يواجهان احتمال الوفاة، أو إصابتهما بضرر جسدي غير قابل للعلاج.
عاد القضاة إلى القاعة، فسألني رئيس الجلسة إذا استلمت التقرير الطبي الخاص بالأسير علاء الأعرج؛ فبناء على ما جاء فيه، فإنهم يتجهون نحو تعليق/تجميد أمر الاعتقال الإداري بحقه. ثم تحول القاضي إلى النائب العام وسأله حول موقفه في هذه المسألة، رغم أنها مسألة محسومة بناء على السوابق التي حصلت في الماضي بحالات مشابهة. دهش القاضي عندما سمع رفض مندوب النائب العام لموقف المحكمة، فطلب منه القاضي أن يستفهم من مسؤوليه في وزارة القضاء عن موقفهم النهائي. أظهر القاضيان غضبهما من موقف النيابة المتحدي للمحكمة، فاضطروا لإصدار أمر احترازي طالبوا فيه النيابة تقديم مسوّغاتها لرفض مقترحهم، على أن تتم مناقشة القضية في اليوم التالي. لم يكن في القاعة سوانا نحن، المحامين ومندوبي المخابرات العامة، فالأسيران لم يحضرا بسبب سوء حالتيهما الصحية، والعائلات الفلسطينية ممنوعة، على الغالب، من دخول إسرائيل. انتقل القضاة لسماع ملف الأسير مقداد القواسمة، الذي يرقد في حالة خطر قصوى في مستشفى «كابلان» الإسرائيلي. توجه القاضي لمندوب النيابة سائلا عن موقفهم إزاء إمكانية تعليق أمر الاعتقال بحق الأسير مقداد، فلم يعطه النائب ردا إيجابيا في البداية، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة ووافق على مقترح المحكمة فصدر قرارها بتعليق أمر الاعتقال.
خرج القضاة مسرعين كالصدى. وقفت، أمام الحجارة الصماء، محاولا أن ألملم بقايا روح وأمضي. شعرت بوحدة قاهرة وتمنيت، لحظتها، أن احتضن أحفادي وبينهم أبكي. تنبّهت إلى هرمي. أردت أن أصرخ، لكنني خفت أن يخونني دمعي. أبكيت؟ لا أذكر فأنا لم أهزم إلا مجازا. أضحكت؟ لا أذكر، فأنا لم أنتصر إلا مجازا. هكذا حاربتهم كل دهري: في صدري لغم والسراب حلمي.
كانت أم مقداد تنتظر اتصالي فسارعت وأخبرتها أن مقداد انتصر، فأمثاله يصنعون أقدارهم وغصاتنا. ثم قلت لصحافي كان برفقتي أن يكتب: إن تعليق/تجميد الاعتقال الإداري لا يعني إلغاءه، لكنه بالحقيقة إخلاء مسؤولية إدارة سجون الاحتلال والمخابرات عن مصير وحياة الأسير القواسمة وتحويله إلى «أسير» غير رسمي في المستشفى، حيث سيبقى تحت حراسة «أمن» المستشفى بدلا من حراسة السجّانين، وسيبقى فعليا أسيرا لا تستطيع عائلته نقله إلى أي مكان، علما بأن أفراد عائلته والأقارب يستطيعون زيارته كأي مريض، وفقا لقوانين المستشفى. إن قرار «التجميد» يشكل «اختراعا» خطيرا لجأت إليه نيابة الاحتلال، ودعمته المحكمة العليا كحل قضائي خبيث يفضي عمليا إلى ترحيل المسؤولية عن حياة الأسير بحجة أنه من اليوم فصاعدا مجرد مريض يعالج في المستشفى.
فليكن قلت في سرّي.. لكنه حيّ ويقاوم.
يتبع..
كاتب فلسطيني

 

 

بين غزة وكفرقاسم…

مواطنة ودموع وهوية

 

جواد بولس

 

أثارت تصريحات القيادي عضو الكنيست عن «الحركة الإسلامية الجنوبية» وليد طه، بخصوص موقف حركته إزاء حكومة إسرائيل، في حالة اتخاذها قرارا يقضي باجتياح قطاع غزة، غضبَ عدة جهات عربية وإسلامية، محلية وخارجية؛ وقد يكون أبرز وأحدّ تلك الردود، ما جاء على لسان الناطق باسم حركة «حماس» الذي وصف، من غزة، تلك التصريحات بأنها تمثّل «سقوطا وطنيا وقيميا، وانسلاخا عن الهوية الفلسطينية، ولا تخدم إلا أهداف الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعمل على تمزيق وحدة شعبنا ومكوٌناته الوطنية والنيل من صموده». لست بصدد الغوص بما قصده النائب وليد طه في هذه المسألة، ولا مقارعته حول مواقفه إزاء معضلات وحالات، نظرية ومفترضة، أخرى، فأنا لا أومن بأهمية محاولات إحراجه وزملائه، بأسئلة حول إمكانيات تراجعهم المستقبلي عن دعم حكومة «بينيت – لابيد»، وفي أي شروط وأي حالات؟
إنّ اللجوء إلى التضييق عليهم بمثل هذه المسائل الافتراضية قد يحرجهم، قليلا ولمدة قصيرة، لكنه يزودهم، في الواقع، بمسارب للتهرب وبهوامش للتأويل وبفرص للمضي قدما على طريقهم؛ لذلك يبقى الأهم، في حالتنا السياسية التعيسة، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، هو مواجهة برنامجهم السياسي المعلن، وخيارهم في دعم هذه الحكومة، والتصدي لنهجهم كما يمارسونه على أرض الواقع. ويكفي أن نرصد يوميا نشاطات قادة الحركة ومؤسساتها التنظيمية في مدننا وقرانا، وأن نتابعهم وهم يتصرفون كجزء عضوي من السلطة الحاكمة في إسرائيل، وكممثلين لحكومتها، والقيّمين على تسويقها داخل المجتمع العربي وهيئاته القيادية، وفي طليعتها المجالس البلدية والمحلية، التي قام رؤساؤها، في بلدات الجنوب البعيد حتى أعالي الجليل، باستقبال نواب الحركة ووفودها، وتباحثوا معهم، كما جاء على صفحة الدكتور منصور عباس، حول سبل تقديم المساعدات المالية لهذه البلدات وطرق التواصل المستقبلي بينهم.
لقد جوبهت بعض تصريحات ممثلي الحركة الإسلامية في الكنيست بالمعارضة وبالانتقادات الشديدة، ووصفت من قبل قادة الأحزاب والحركات والمؤسسات العربية والناشطين داخل مجتمعنا العربي بتعابير قاسية أحيانا؛ ورغم تلك الحملات لم تتراجع الحركة عن طريقها، بل على العكس تماما، كان مجلس شورتها يعلن، في كل مرّة ترتفع فيها أصوات المنتقدين وتشتد لغتهم، عن دعمه السياسي الكامل لقائدها، الدكتور منصور عباس، وعن موافقتهم على ما يقوم به ممثلوها في الكنيست.

قادة الماضي، سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أو في الداخل، فرضوا حالة من الوضوح السياسي وناضلوا في سبيل الوطن، ومواطنة كاملة كريمة ومتساوية

لم تفاجئنا الحركة الإسلامية بممارساتها الحالية؛ فهي تتصرف وفق الصورة التي توقّعها المحللون والمراقبون بعيد انتهاء المعركة الانتخابية الأخيرة وشروع الدكتور منصور بتفكيك معاني الشعارات التي رفعتها الحركة كرايات عقائدية، وبدئه بتطبيقها على طريقته الذرائعية، وباسم وسطية سوّغت له الانضمام إلى الحكومة، رغم ما جاء في برنامجها السياسي الذي وضع بهدي «قانون القومية»، ومخططاتها للإبقاء على الاحتلال والاستيطان ومحاصرة غزة.
ما أحاول قوله، في هذه العجالة، إنني وغيري، كنا قد توقعنا، في المشهد الإسرائيلي المستجد، وفي حالة التيه السياسي والهوياتي الذي تعيشه مجتمعاتنا، كيف ستتصرف الحركة الإسلامية، وأشرنا إلى مبرراتها العقائدية الجاهزة، وإلى دوافعها السياسية والاجتماعية المعلنة؛ وأشرنا في الوقت نفسه، إلى ضرورة إعداد خطط سياسية لمواجهة هذه الحالة غير البسيطة والمتنامية بين فئات شعبية واسعة. لم يكن هذا التوقع صعبا ولا مستحيلا، لاسيما بعد أن كان واضحا أن الحركة الإسلامية ستحصل، بالتوافق مع مخططات مستشاري الحكومة المتخصصين بأوضاع «الوسط العربي»، على كمشة من المحفزات المادية، التي من شأنها أن تثير شهية شرائح سكّانية محتاجة، وتدفع ببعض القطاعات المدنية التكنوقراطية نحو التعاون مع الحكومة، ومع ممثليها، على أمل موهوم بتحسين ظروف الناس الحياتية، خاصة بعد انتشار مقولة «لقد انهكتنا السياسة العقيمة ومواقف من تاجروا فيها»، أو غيرها من المقولات والشائعات المغرضة بحق شرعية المطالبة بحقوق المواطنين، ودور مؤسساتهم القيادية التاريخية التقليدية ومن يقف على رؤوسها. حاول النواب عن القائمة المشتركة التصدي لسياسة الحكومة تجاه الفلسطينيين وسياستها تجاهنا، نحن المواطنين العرب، وأكّدوا أن إسناد نواب الحركة الإسلامية للحكومة، بدون أي مقايضة جدّية أو اشتراطات سياسية تذكر، سيفضي حتما إلى ترسيخ تبعات «قانون القومية» وإلى إحكام سياسة الأبرتهايد ضدنا، حيث سنمضي معها، كما مضى «طرفة بن العبد»، وهو يحمل «صحيفة المتلمس».
كم قلنا إن ما يقوم به نواب المشتركة، أو على الأصح ما لا يقومون به، لا ولن يكفي في مواجهة الحالة التي أفرزت تنظيما محكما كالحركة الإسلامية، وزوّدته بشعبية وازنة، وبقوة تأثير لافتة؛ فمن غير استحداث بنى حزبية منظمة ومهيئة لاجتراح سياسات جديدة وصحيحة وواضحة وقادرة على اختراق حالة العزوف الشعبي المهيمنة، ستبقى المقولات التضليلية سيدة الفضاءات «المحافظة» وملاجئ سهلة للنفوس العاجزة. ومن المفيد أن نتذكر أن الحركة الإسلامية استغلت الالتباس الذي خلّفه الغموض في مكنونات وحدود فكرة الدمج بين استحقاقات الوطن، وضرورات المواطنة؛ فحين وقعت هذه الفكرة فريسة بين من نادى بها بخجل وبتأتأة من جهة، ومن هاجموها بصرامة من جهة ثانية، لم يدافع عنها، بجرأة سياسية وبحسم موضوعي، المؤمنون بصحتها، بل عاملوها بتردد وبضبابية، خلقت كثيرا من البلبلة والتخبط، وسمحت للكثيرين، ومنهم للحركة الاسلامية، تطويع مسألة المواطنة وتطبيقها بشكل منقوص ومشوّه، إلى حد الارتماء أمام عتبات السلطان وتوسل الصدقات من بابه! لم تكن مسألة المواطنة هي الوحيدة التي أهملت القائمة المشتركة مواجهتها وتشخيصها بحكمة وبجرأة وبمسؤولية؛ ويكفي أن نعود إلى رزمة التساؤلات التي انكشفت في أعقاب هروب الأسرى الفلسطينيين من سجن «جلبوع» وما أثارته من نقاشات حول طبيعة علاقتنا كمواطنين مع إسرائيل ومع ابناء «الحركة الأسيرة الفلسطينية»، وكيف يجب أن نقيم التوازن السليم والمقبول بين شقي المعادلة التي نحيا في ظلها، كفلسطينيين في وطننا ومواطنين في دولتنا. لم تكن هذه الإشكالات في الماضي القريب جائزة وشائعة، كما هي عليه اليوم؛ فقادة الماضي، سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أو في الداخل، فرضوا حالة من الوضوح السياسي والتوافق حول كيفية ضمان التكامل النضالي بين جميع فئات الشعب وحسب أماكن تواجده، فأمنوا، بسبب ذلك، الوقوع في الحفر السياسية وناضلوا، كل من موقعه، في سبيل الوطن، ومن أجل مواطنة كاملة كريمة ومتساوية. ولكن عندما ترهّلت الأطر القيادية وضعف قادتها، اختلفت الموازين وسادت فوضى الشعارات وتخلخل معنى الالتزام، حتى وصلنا إلى حالة نقرأ فيها بيانا لحركة «حماس» وهي تحيي فيه «جماهير شعبنا الفلسطيني في مدن الداخل المحتل، الذين انتصروا للقدس والأسرى، ولا يزالون متمسكين بأرضهم وهويتهم الوطنية ويرفضون سياسة الاحتلال العنصرية وهمجيته بحق شعبنا ومقدساته» ثم ينهونه بدعوة مباشرة وصريحة «إلى جماهير شعبنا في الداخل وقواه الحية وأحزابه المختلفة إلى إدانة هذا الموقف اللاوطني، الذي لا يمثل إلا وليد طه». فهل فقدنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، «يواطرنا»، وصرنا جماهير مناصرة أو جنودا لدى «حركة حماس» أو لدى غيرها من الفصائل الفلسطينية الأخرى؟
وأخيرا، لا أعرف مدى تأثير تصريحات النائب وليد طه عندما سئل عن موقفه في حالة اجتياح إسرائيل لغزة، ولا تأثير تصريحات النائب منصور عباس بخصوص الأسرى الفلسطينيين، أو غيرها من التصريحات الخلافية، على شعبية الحركة الاسلامية بين المواطنين العرب في إسرائيل؛ فهذه النتيجة ستبينها نتائج المعركة الانتخابية المقبلة والفاصلة ليس بحق نهج النائب منصور واخوانه وحسب، إنما بحق القائمة المشتركة وجميع مركباتها؛ فهنالك من يجزم باستحالة عبور جميع مركبات القائمة المشتركة لعتبة الحسم، إذا خاضوا المعركة وهم منفصلون وهنالك من يعتقد انهم لن يعبروها حتى إذا خاضوها مجتمعين، إذا بقي أداؤهم على ما هو عليه في هذه الأيام. وإلى أن نتبين ذلك علنا نصحح ما جاء في بيان حركة حماس، فالنائب وليد طه لا يمثل فقط نفسه، كما جاء في البيان، بل يمثل حركة إسلامية وليدة فكر إسلامي قديم ومعروف، وتحظى بشعبية لافتة وبأربعة مقاعد في البرلمان الصهيوني وشراكة مع حكومة اسرائيل وتأثير لا يستهان به.
أما بخصوص مواقفنا الوطنية واللاوطنية، فهذه قضية لم نتفق عليها في مطارحنا، كما ترون، ولن نتفق عليها، كما يبدو؛ ألم تعرفوا أن بين كفرقاسم وغزة، دمعة حرّى وهوية زرقاء ونداءات وطن؟ فارجوكم أتركونا كي نقتلع أشواكنا بأيادينا؛ ولغزة منا الحرية والحياة والسلام.
*كاتب فلسطيني

 

 

 

بين إياد شفاعمرو

وعزيز عمان ميدالية واعتذار

جواد بولس


لقد حظيت أخبار فوز الشاب إياد شلبي ابن مدينة شفاعمرو بميداليتين ذهبيتين في أولمبياد طوكيو لذوي القدرات المحدودة، بأصداء إيجابية لافتة في الإعلام العبري والإعلام العربي على حد سواء. ويعدّ هذا المديح المضاعف في حياتنا، مؤشرا لغرابة الحدث أو لكونه «شاذا»؛ ويعكس، في واقعنا المركب، إشكالية تتخطى تبعاتها شؤون الشخص نفسه، أو حتى عائلته أو مدينته.
نحن أمام دليل آخر على تعقيدات علاقاتنا مع الدولة؛ فإياد شلبي المواطن المسلم العربي، فاز باسم دولته إسرائيل بميداليتين ذهبيتين واستلمهما، على إيقاع نشيد هتكفا الصهيوني، كبطل إسرائيلي «كاشير». مع ذلك قامت عدة قيادات وشخصيات عربية بتهنئته على إنجازه الكبير، فكتب ابن مدينته محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا: «الآن شفا عمرو تحتفل بعودة ابنها وابن جماهير شعبنا كله، البطل العالمي إياد شلبي. إياد حقق ميداليتين ذهبيتين في أولمبياد طوكيو لذوي القدرات الخاصة. فخورون بإياد وفخورون بأهله الإعزاء الكرام».
وقامت عدة مرجعيات رسمية إسرائيلية بتهنئته بحرارة، برز من بينها رئيس الدولة يتسحاك هرتسوغ، ووزير الثقافة والرياضة حيلي طروبر، الذي أعلن بدوره: «أنه انتصار كبير. كل التهاني لسبّاحنا الإسرائيلي.. إياد هو شخص مثير للإعجاب. نحن فخورون بك إياد شلبي». سيبقى، رغم هذا الاشتباك، إيادنا بطلا عالميا ويستحق تقديرنا وإعجابنا.

عزيز مرقه «يا باي»

لا أعرف لماذا نشر، قبل يومين، الفنان الأردني عزيز مرقة، صاحب الأغنية الشهيرة «يا باي» على حساب الفيسبوك الخاص به اعتذارا يبدو، من حيث موضوعه وتوقيته الحالي، غريبا ومستهجنا ومثيرا للشفقة؛ حيث جاء فيه: «أود أن اعتذر عن أسفي الشديد واعتذاري الأكيد عن الأخطاء التي ارتكبتها دون تثبت منّي للظروف التي أحاطت بالفعالية التي أقمتها بتاريخ 2019/12/16 لأهلنا في كفرياسيف المحتلة من الداخل الفلسطيني، بناء على دعوة من بلديتها، وأوكد أنني ضد التطبيع بكل أشكاله، قولا وفعلا، وأنني التزم من الأن فصاعدا بالمعايير التي أجمعت عليها الهيئات المناهضة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، وأنني أؤكد أنه لم يكن لديّ في أي وقت من الأوقات علاقة بالكيان الصهيوني.. إنني اتحمل مسؤولية جميع الأخطاء المتعلقة بي من هذه القضية، ومرة أخرى أعتذر من كل قلبي لأهلي وشعبي الفلسطيني وأمتي العربية عن تلك التجربة المريرة التي آلمتنا جميعا»! لقد أعادنا هذا المنشور إلى ملابسات حدث جرت تداعياته على خلفية إحياء الفنان عزيز مرقة حفلا غنائيا ناجحا، نهاية عام 2019، في قرية كفرياسيف الجليلية، حل فيه ضيفا على أهل الجليل وشاركهم الفرحة، ملبيا دعوة مجلس القرية المحلي، كضيف خاص على هامش احتفالات «الكريسماس ماركت» التي استمرت فعالياتها الثقافية والفنية لمدة أربع ليال متتالية. لن أنهك القراء بتفاصيل تلك الحادثة؛ ففي حينه تعرّض الفنان الأردني/الفلسطيني، بسبب تقديمه للعرض الفني في كفرياسيف، إلى هجوم كاسح من قبل ناشطين يعملون فيما يسمى «اللجنة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل (BDS 48)؛ ورغم الظلم الذي سببه ذلك الهجوم عليه، واتهامهم الجائر له بالتطبيع مع العدو الصهيوني، أعلن هو في حينه عن اعتذاره الصريح، لاعتبارات يستطيع كل مواطن عربي واع وصادق مع نفسه، أن يتخيّلها، ثم طلب ممن هاجموه العفو وصك غفرانهم.

علّمنا أجدادنا الذين رفعوا في وجه الليل المناجل وخاطوا من الكرامة للوطن كوفية، أن نرفض الذل والتذلل

ما زال، على ما يبدو، عزيز مرقة ملاحقا بسبب تلك الزيارة من قبل بعضهم في بلده، أو ربما في محافل أخرى، وما زال يدفع ثمن غنائه على أرض الجليل؛ فلولا معاناته المستمرة حتى هذه الأيام، هكذا افترض، لما اضطر، بعد مرور قرابة العامين، أن يكرر نشر اعتذاره الآنف، وبلغة محزنة تذكرنا بأجواء محاكم التفتيش البغيضة، وبما ساد في مجالس أمراء الاستبداد. ومن المؤسف، في الوقت نفسه، ألا نسمع أصواتا تدافع عنه وعن أمثاله، ليس من أجل إنصافهم، كفنانين أحرار وحسب، بل من أجل تصويب حالة عربية مشوهة يشوبها كثير من الالتباس والخلل؛ وأقصد تلك الحملات والملاحقات التي تشنها ما تسمى «اللجان الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل من الداخل، وما تثيره مواقفهم أحيانا من نقاشات زائدة، وتتيحه نصوص لوائحهم التوجيهية من مغالطات وفرص للمزايدات والبلبلة، التي خلقت في بعض الحالات وتخلق الفوضى في صفوف المناصرين لنضالات المواطنين العرب داخل إسرائيل، وتضر بنشاطاتهم الاجتماعية والثقافية، التي تهدف إلى المحافظة على هويتهم الثقافية الجامعة العريقة، وإلى ترسيخ وجودهم الصلب في وطنهم.
من المؤسف أن يضطر بعضنا، من حين لآخر، إلى العودة ومناقشة تلك اللجان وحثها على ضرورة إعادة النظر في منطلقاتها نحونا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، والتدقيق مجددا فيما يضعونه، جزافا، من مساطر تحرّم علينا وعلى غيرنا القيام، أو عدم القيام بفعل ما، تحت يافطة مقاطعة إسرائيل، العدو الصهيوني. فعزيز مرقة لم يأت إلى كفرياسيف مطبعا مع العدو الصهيوني، بل على العكس تماما، فهو حين وقف على المسرح قرب ساحة السوق الكفرساوية الشهيرة وحيا فلسطين وهو يضم كوفيتها بعفوية ساحرة، روّى حناجر الشباب بحماس وأسقاها حبا أعاد إلى ربوع الجليل وعد أآبائنا الصادق، لكن ما دمنا في حضرة اعتذار جديد لابن الأردن بسبب الظروف التي أحاطت بفعاليته في كفرياسيف، على حد تعبيره، أودّ تذكيره كيف تماوج آلاف الشباب على وقع «دمعته» السخية وهي تغني لهم بفرح جليلي فريد؛ وكيف وقفت الحشود أمامه وقبل مجيئه، على مدار أربع ليال متتالية، كي تنشد للحرية أهازيج من عزة، وترقص بفرح على إيقاعات الجمر الذي أوقده قبله وقبل ميلاد صرعات المقاطعة والتحريم، شاعر صبغ الوطنُ سمرةَ وجهه، فصرخ في وجه القهر والقمع والرصاص معلنا في أحد مهرجانات كفرياسيف التاريخية: «اليوم جئت وكلنا سجناء فمتى أعود وكلنا طلقاء»؛ هذا هو راشدنا، فهل تعرفتم عليه في بلادكم، وهو ينفخ في رماد العرب ويتحلّف دولة القهر ويتوعدها صارخا: «سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر».
نحن يا عزيزنا، في كفرياسيف وأخواتها، الرابضات من أعالي جبال الجليل حتى آخر خيمة ساهمة في رمال النقب، ولدنا كأبناء للقلق؛ فعلّمنا أجدادنا الذين رفعوا في وجه الليل المناجل وخاطوا من الكرامة للوطن كوفية، أن نرفض الذل والتذلل، وعلّمونا، أيضا، كيف نعتصر الأمل من بطن غيمة ساهرة لتحرس ساحات البلد. أنا لا أعرف من أو ماذا يجبرك، في هذا الصيف المريض، على نشر اعتذارك بهذا النص المستفز لكل حر؛ لكن عليك أن تتيقن بأن حضورك وغناءك بين أهلك في الجليل، بخلاف لو غنيت في احتفال ترويجي للمؤسسة الصهيونية أو لعملائها، لم يكن تطبيعا مع دولة العدو الصهيوني؛ واعلم كذلك بأن صدى تلك الليالي، رغم ضجيج من هاجموك ورغم اعتذاراتك، بقي في صدور جيل علمه الكبار قبلك وقبلهم كيف تلاطم أياديهم المخارز، وعلموهم ألا يرضخوا لهرطقات مستوردة عرجاء ومغرضة، ولا لسفسطائيات هوجاء ونزقة. لقد اعتذرت يا عزيزنا في حينه أمام قلة هاجمتك، لأنك غنّيت للحب في ساحات كفرياسيف، التي كانت كما وصفها حاديها محمود درويش «بالبيت والطريق» فأحزنتنا وأبكيت نجوم الجليل؛ أو لم تكن تعلم أنك وقفت ليلتها في حضن التاريخ، وغنيت في إحدى قلاعه المنيعة التي وقف على أبراجها «السميح» وخاطب سماءها قائلا: «أنا لا أحبك أيها الموت.. لكنني لا أخافك»؛ وتألق في رحابها قبله رفيقه سالم جبران حين علم الكون درسا في حب الوطن وأنشد: «كما تحب الأم طفلها المشوه أحبها.. حبيبتي، بلادي». فهناك قريبا من حيث وقفت أنت، أشهرَ «الدرويش» هويته في وجه الحاكم الإسرائيلي العسكري وأمره: «سجّل أنا عربي». أولئك، وأمثالهم كثر، هم أهلي وهم بناة هوية شعبي الثقافية؛ فقل لي بربك، يا عزيز، أمام من اعتذرت؟
وأخيرا، أعرف أن القضية لم تبدأ بزيارتك إلينا ولن تنتهي عند مخاضات التطبيع والتتبيع؛ ولذلك ستبقى محاولات إخضاع مجتمعنا العربي في إسرائيل لمفاهيم المقاطعة الثقافية، من خلال استنساخ تجارب هجينة لا صلة لنا فيها، هي مجرد محاولات عاقر لا يمكن أن تلد، إلا الاعتذارات أو المناكفات التي تستفيد منها في النهاية إسرائيل.
لن استعيد اليوم قوائم معضلاتنا التي تنتظر تفكيكها ومواجهتنا لها بجرأة وبحكمة، لكنني سأكتفي بالعودة إلى ما بدأت فيه؛ فإياد الشلبي بطل ذهبي شفاعمري احتضنته إسرائيل بكل دفء ورعاية، ويحتضنه، أهله وأبناء شعبه، بكل تقدير وبجداره.. فماذا سيقول أهل المقاطعة في ذلك؟ أنا لا أنتظر الإجابة من أحد؛ فكما ترى، يا عزيزنا، نحن قوم يعرف بعضنا كيف يفخر بأبطاله، ويصرون، رغم الوجع والالتباس، على أن «ينقوا عدسهم بغرابيلهم» ولا يخشون الوقوع في حفرة، فهذه كي تأمنها يفضل أن تطمرها. وأخيرا، لا أعرف كيف ستعتذر من أمة أضاعت طريقها على ضفاف دجلة والجيحون، وتشتت أبناؤها كحبات الرمل في البحار. أما من أهلك فاعتذر فهم حصنك والأدرى بشعابك، لكن لا تعتذر من شعبك فلقد اتخمته، يا باي، القوافي هباء واعياه، يا ويلي، اللهاث وراء السراب. لك منا كل الحب، ودعوة جليلية خالصة لتحل ضيفا عزيزا في ربوعنا متى ما شئت، واعلم أن بين شفاعمرو وعمان ميدالية وحسرة وحب.
كاتب فلسطيني

 

 

من دلفة الشرطة

إلى مزراب المستعربين

جواد بولس

 

 

أعلنت شرطة إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي عن بدء عمل وحدة «مستعربين» سرية ضد العصابات الإجرامية في جميع أنحاء البلاد، وضد أعمال العنف والشغب ومكافحة الإرهاب، خاصة في البلدات العربية.
وقد اطلق على الوحدة اسم «سيناء» وتم تجنيد عناصرها من ثلاثة مصادر رئيسية: الأول، قادة وضباط ومقاتلون خدموا في وحدات «حرس الحدود» التي نشطت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي المناطق المتاخمة للحدود مع قطاع غزة؛ والثاني من مجموعات المقاتلين الذين خدموا في ما يسمى «الوحدة التكتيكية» الخاصة؛ أمّا الباقون فجنّدوا إلى وحدة «حرس الحدود» من بين الوحدات الخاصة في الجيش.
لقد جاء إعلان الشرطة المذكور بعد إعلانها قبل أسبوعين عن إقامة وحدة «سيف» لمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي، وتعيين اللواء جمال حكروش رئيسا لها.
تعكس هذه القرارات حالة التخبط والهلع الذي بدأ يتسرب إلى صفوف قادة الشرطة الإسرائيلية؛ فتزايد وتائر العنف وأعداد الضحايا في معظم البلدات العربية، وبروز بدايات النشاط الإجرامي ضد مصالح بعض المواطنين اليهود، أو ضد بعض المسؤولين الرسميين، دفع ببعض الجهات الأمنية إلى إعادة النظر في فهمها التقليدي لتلك الظواهر، ولاحتسابها مجرد «مصائب قوم عند قوم فوائد» أو وفق منطق مفاده، فليقتل العربُ العربَ، وليصرخ دمهم كي يعيشوا بخوف وبدون استقرار.
من الصعب أن نعرف اليوم عمق هذا التحول المفاهيمي، ومن يدفع باتجاهه داخل دهاليز المؤسسة الحاكمة؛ لكن من الجدير أن نتابعه بعناية، وأن نتحقق من جدّيته، خاصة بعد أن بدأنا نسمع مؤخرا عن تحوّلات لافتة في مواقف بعض القادة السياسيين والمسؤولين الأمنيين، الذين أعلنوا بلغة قاطعة عن قناعتهم بأن أزمة تفشي العنف والجريمة في المجتمعات العربية بدأت تهدد أمن وسلامة الدولة، فنتائجها الكارثية سوف تؤثر في تماسك المجتمع في الدولة وفي مكانتها وتأثيرها بين جميع المواطنين.
مع إعلان المفتش العام للشرطة عن إطلاق وحدة المستعربين «سيناء» وبدء نشاطها داخل البلدات العربية، أعلنت، مباشرة، عدة شخصيات قيادية ومؤسسات مدنية عربية معارضتها للقرار، الذي اعتبر استفزازا مدروسا بحق المواطنين العرب.

في غياب دور الدولة الطبيعي في حماية مواطنيها، وجدت عناصر الإجرام، على اختلاف انتماءاتها، تربة خصبة، فتكاثرت مثل الشر المنفلت

كل ما قيل ضد هذا القرار صحيح، ويبرر ضرورة معارضته بالمطلق، تماما كما فعل رئيس اللجنة القطرية للرؤساء المحامي مضر يونس، الذي أكد على «أنه لم يتم طرح فكرة الاستعانة بوحدة «المستعربين» من قبل الطواقم الحكومية وقيادة الشرطة الإسرائيلية خلال المشاورات والاجتماعات التي عقدت مع وفد لجنة الرؤساء القطرية حول الخطة الحكومية لمكافحة العنف والجريمة؛ على الرغم من أن الشرطة ذكرت أنها ستستعين بوحدات خاصة لمكافحة العنف والجريمة، بدون أي ذكر لطبيعة تلك الوحدات، وبدون ذكر وحدة المستعربين». في الواقع تكفي هذه الشهادة برهانا على أن قرار إقامة «وحدة المستعربين» لم يأت نتيجة لتغيير جذري في عقلية جهاز الشرطة إزاء حق المواطن العربي بالعيش بأمن وبحرية وبكرامة، وبدون خوف؛ لاسيما انه أُسقط «من فوق» وبدون إعدادت مسبقة لتسويغه، علما بأن الجميع يعرف عن «ثقافة كراهية العرب» التي تربت عليها وحدات «المستعربين» ودورها التاريخي في نشاطات المنظمات الصهيونية، وممارساتها المتواصلة ضد المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وخلال المواجهات الأخيرة في شهر مايو المنصرم. لقد برزت، إلى جانب بيانات الساسة والقياديين، رسالة طارئة بعثها مركز «عدالة الحقوقي» إلى المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية أفيحاي مندلبليت، وإلى مفتش الشرطة العام يعقوب شبتاي، يطالبهما من خلالها بالعدول عن قرار إقامة «وحدة مستعربين تعمل في البلدات العربية» مع التشديد على أن قرار إقامة تلك الوحدة يعتبر «عنصريا وغير قانوني» كما أشار المركز إلى «انعدام صلاحية الشرطة بإقامة مثل هذه الوحدة، والى أن القرار في هذا الشأن هو قرار عنصري يقع في خانة التنميط العنصري، ويخلق نظامين لتطبيق القانون، واحدا في البلدات العربية وتجاه المواطنين العرب، وآخر في سائر البلدات». لا أعرف كيف ستتابع «اللجنة القطرية للرؤساء» هذه القضية المقلقة، مع أن رئيسها مضر يونس، كان قد أعلن أنه «سيجري مشاورات وسيدعو إلى جلسة للجنة القطرية وللهيئات والفعاليات الناشطة كافة بهدف التباحث حول التطورات، واتخاذ موقف موحد ضد الزج «بالمستعربين» في البلدات العربية» فمع إيماني الكامل بأهمية هذه الخطوة وبصدق وجدية صاحبها، يبقى الرهان على نجاحها في حكم المغامرة المستحيلة، لأننا نعرف ما تعانيه معظم مجالسنا البلدية والمحلية، حتى أننا لا نخطئ إذا قلنا في حالة بعضها مجازا : «من غص داوى بشرب الماء غصته.. فكيف يصنع من غص بالماء» ويكفي اللبيب غصة كي يفهم. بالمقابل، يحظى «مركز عدالة الحقوقي» بمكانة خاصة بين قطاعات نخبوية محلية وخارجية واسعة؛ ويتمتع أيضا باحترام واضح داخل «الكاتدرائية القضائية» الإسرائيلية، فقد واكبت طواقمه، خلال سنوات عمل المركز الطويلة، جملة من القضايا العربية العامة المهمة، أمام محاكم الدولة؛ وقد أحرز المركز، في هذه المسيرة، عددا من الإنجازات، وواجه معها طبعا عددا من الإخفاقات، كما يتوقع في حالة صراع مع نظام حكم عنصري ومع جهازه القضائي الظالم والمنحاز بشكل سافر وواضح. أقول ذلك متوخيا ألا يكتفي «مركز عدالة» وهو المتخصص في الدفاع عن حقوق الأقلية العربية داخل إسرائيل وصاحب الخبرة والرؤى التقدمية والمواقف الطليعية، بمطالبته المذكورة، ولا بالتوقف عند رفضه لإطلاق وحدة المستعربين ولا بالتأكيد المحق على عدائية الشرطة وأجهزة امن الدولة، بل عليه أن يتجاوز هذا الدور والانتقال إلى المبادرة لوضع تصور قانوني حقوقي شامل، يتم فيه التعرض إلى هذه الآفة من جميع جوانبها.
يعيش مجتمعنا حالة إرهاق خطيرة؛ فعلاقاته مع الدولة، بدون الدخول في تفاصيلها، تخطت، من جهة، عتبة الالتباس الهوياتي والتجاذبات التقليدية، ووصلت إلى حالة من التنافر الصادم والعدائية الحتمية، وفقد، من جهة ثانية، معظم المظلات السياسية الحامية، والمرجعيات الاجتماعية الرادعة، والأحزمة القيمية الواقية. وفي غياب دور الدولة الطبيعي في حماية مواطنيها، وجدت عناصر الإجرام، على اختلاف انتماءاتها ودوافعها، تربة خصبة، فتكاثرت مثل الشر المنفلت، مستفيدة من إهمال وتواطؤ مؤسسات الحكم وغض أبصارها عن الدماء المسفوكة في شوارع بلداتنا وعن استشراء العنف وإشاعة حالة الهلع بين المواطنين. قد تتيح هذه الأيام فرصة أمام «مركز عدالة» لإطلاق مبادرة تاريخية تتناول قضية استفحال الجريمة والعنف المستشري ولتضع رؤية مهنية جدية وجريئة حول مسبباتها، ومقترحات لكيفية مواجهتها؛ مع التأكيد على سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة ومسؤوليتها عن تناميها وعدم مواجهتها ومحاربتها ومعاقبة المتورطين فيها؛ وفي الوقت نفسه تتضمن تشخيصا صريحا لمفاعيلها المحلية. قد تكون هذه المهمة كبيرة على «مركز عدالة» لوحده، لكنه يستطيع، بسبب قدراته ومكانته وخبرته، أن يشرع بها، وأن يدعو لمساهمة عناوين أخرى، معنية وقادرة، لتأخذ دورها في هذه المهمة الكبرى .
قد تكون هذه الأيام مواتية؛ فعلى ما يبدو بدأت بعض الجهات داخل المنظومات، الأمنية والسياسية، التي ترسم سياسات الدولة الاستراتيجية، تستشعر خطر هذا الانفلات الجرائمي الجهنمي المتفشي في المجتمع العربي، على سلامة وأمن مجتمعاتهم اليهودية؛ ولنا في ما أعلنه وزير القضاء جدعون ساعر، قبل يومين، إشارة بليغة، قد تشي بما يجري هناك. فعندما خاطب موظفي وزارته بمناسبة الأعياد حثهم قائلا: «أعطوا الأولوية لمحاربة منظمات الإجرام، زوّدونا بمزيد من الآراء.. نحن بعيدون عنهم، لأسفي، مسافة سنوات. هذه حرب على مستقبل إسرائيل، فنحن كدولة لا نستطيع أن نسلّم بوجود مساحات في النقب والجليل وجنوب تل أبيب واللد، تعيش خارج نطاق سلطتنا. على جميع مؤسسات الدولة أن تتجنّد لمقاومة هذا النوع من الإرهاب. كل يوم أنا أتذكر أن بعض المواطنين في إسرائيل يعيشون في حالة خوف ولا يحظون بحماية القانون. هذا الوضع يبعد النوم عن عينيّ». ثم أوجز حاسما وواضحا بما بدأ، هو وغيره، من قادة ومسؤولين يشعرون به، فقال: «لقد صاروا موجودين هنا، وليس فقط داخل المجتمع العربي. بنظري هذا هو التهديد الأكبر على مستقبل دولة إسرائيل». ما أوضح ما قال!
لا اعتقد أن تصريح الوزير ساعر جاء من فراغ، أو بهدف المزايدة، ولا لأنه يسعى إلى تحسين صورته بين العرب وأمام العالم، فمن أراد أن يصدقه ليدق أبواب وزارة القضاء، ومن لا يريد تصديقه فليتجهز لمعركته المقبلة مع وحدات «المستعربين» ولنستخر النائب منصور عباس؛ عساه يأتي من عندهم الفرج، فلا خاب من استخار.
كاتب فلسطيني

 

 

مَن هزم مَن في أفغانستان؟

جواد بولس

 

تصدرت أخبار انهيار الحكومة في أفغانستان، وسيطرة حركة «طالبان» على العاصمة كابول، معظم نشرات الأخبار العالمية؛ وأدت مشاهد انسحاب بقايا القوات الأمريكية العسكرية ودخول قادة طالبانيين إلى قصر الرئاسة، وما رافقها من صور للفوضى التي عمّت مطار العاصمة وبعض شوارعها، إلى حدوث انقسامات عميقة في آراء المدوّنين العرب، ومعظم المعلقين والمحللين السياسيين، وإلى تضارب في تقييم حقيقة ما حدث؛ فبعضهم استحضر نظرية المؤامرة، وأكد وجود عملية تنسيق مسبق بين النظام الأمريكي وقادة حركة طالبان، في حين أكد غيرهم على أنه انتصار إسلامي خالص على قوات الغزو الأمريكية وعملائها في أفغانستان.
من السابق لأوانه أن يحكم مراقب بعيد مثلي على ما جرى في دهاليز المفاوضات، التي دارت خلال السنوات الأخيرة بين قادة في حركة «طالبان» ومسؤولين في النظام الأمريكي؛ ومن العسير أن نتنبأ حول ما ستفضي إليه الأحداث المتفاعلة على الساحة الأفغانية الداخلية؛ ومن المستحيل أن يُراهن اليوم على خيارات النظام المتشكّل ومكانه في التموقع النهائي على الخريطة الإقليمية المجاورة لحدود البلاد الكبيرة، وداخل النظام العالمي المتغيّر.
علينا أن ننتظر قبل إصدار الحكم، وأن نتذكّر أشكال اشتباك مصالح هذا النظام مع مصالح دول ساهمت في دعم حركة طالبان كباكستان، أو مصالح دول كإيران والصين وروسيا، تطمع أن تتبوأ مكانة متقدمة في صنع أحداث المستقبل. كل ذلك، طبعا، من دون أن ننسى ما صرّح به العديدون من ساسة الدول الكبيرة، الذين لم يخفوا قلق بلدانهم مما يجري، وفي طليعتهم تقف أمريكا المهزومة، التي أعلن قادتها أنها ستحتفظ بوحدة عسكرية خاصة دائمة مرابطة في إحدى قواعدها في الكويت، قوامها 2500 جندي، ستكون جاهزة للطيران إلى أفغانستان من أجل الدفاع عن مصالح امريكا إذا لزم الأمر. لم تغب أحداث الساحة الأفغانية في العقدين الأخيرين عن حوارات المثقفين العرب، وبقايا نخبهم اليسارية؛ فالصراع الذي تقوده في أفغانستان حركة إسلامية أصولية ضد جيوش الولايات المتحدة، سيدة العالم الرأسمالي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية، أحرج لغة هؤلاء القادة الحزبيين والمثقفين، وكشف عن عجز مساطرهم السياسية والفكرية، التي عمدت بعميائية دوغماتية، أن تخُط حدود مواقفها ضد أمريكا، حتى اذا كان غريم أمريكا في أي صراع، مثلما هو الحال في المشهدية الأفغانية، حركة أصولية دينية أثبتت ممارساتها بشاعة ما ستقترفه بحق أبناء شعبها، وبحق جميع القيم الإنسانية التقدمية التي يؤمن بها هؤلاء المثقفون. ومن الصعب ومن الخطأ أن ننسى كيف تمنى، قبل عشرة أعوام، أكثر من مثقف عربي وقائد حزبي يساري، أن ينتصر طالبان على أمريكا؛ وكان صوت الكاتب الفلسطيني التقدمي المعروف رشاد أبو شاور، من أشهر وأوضح من كتبوا في هذا الاتجاه، علما بأنه أكّد، مثل غيره، على أنه لا يدعم حركة طالبان، لكنه ينتظر ذلك النصر من باب تأييده لحق كل شعب في الحرية والاستقلال والسيادة والمقاومة. لقد تحققت أمنيتهم، كما رأينا في الأسبوع الفائت؛ وها هي حركة طالبان بسطت سيطرتها على معظم أراضي الدولة الشاسعة، وسوف تتحكم، في ما يبدو، بمقاليد الإمارة الإسلامية الجديدة، وبرقاب شعبها الفقير.

بين أن نقف ضد غزو أمريكا لأفغانستان ولأي بلد آخر وأن نصلّي لنصر حركة طالبان، فرق كبير، ولنا في التاريخ عبرة ودروس

هنالك فارق كبير بين تمني المثقف الثائر ضد عربدة أمريكا عندما تكون «يداه في الماء» وصباح الأفغانيين المعمّد بنار فتاوى حركة أصولية كطالبان، التي سيمعن قادتها بتطويع جميع معارضيهم، ومن سيعتبرونهم زناديق وكفرة؛ فالأمانة كانت تقتضي أن يضع كل سياسي، أو مثقف تمنى انتصار طالبان على أمريكا، نفسه مكان رفيقه الأفغاني، ليتحقق من صحة موقفه السياسي والأخلاقي على حد سواء.
لقد أحسست وغيري بعدم صحة موقف من استقدم نصر طالبان على أمريكا؛ وسأذكّر بما قلته في حينه وذلك للفائدة وللمناقشة، فعندما «يتمنى مثقف ليبرالي تقدمي علماني، أن ينتصر طالبان في أفغانستان على أمريكا الشر والطغيان، أقول هي أمنية العاجز الضعيف؛ وعندما يدعونا هذا المثقف لنصطف وراءه، ونزف أمنية على أمنية كي يحقق جيش طالبان نصره على قوات الغرب الغازية، أقول إنها دعوة لنختار بين ظلم ذلك الغازي، وظلمة حركة لا يجمعنا معها أي سلوك أو أي موقف، ولأنها لن تُبقي لأمثالنا أي هامش لنحيا بهدي عقولنا وبحريتنا ووفق قيمنا وأخلاقنا. فكل من ضدّهم، ونحن معهم، سيمسي حطبا لنار جهلهم، ولا جدال في ذلك.
أقول ما أقول وأعي أن شعباً يرزح تحت الاحتلال، أو يواجه غزواً، من حقه ومن واجبه أن يقاوم من يحتله؛ لكنني أكتب عن ذلك العجز الذي أدى بالعديد من مثقفي العرب وطلائع شعبنا أن يرفعوا الراية البيضاء، ويستسلموا لواقع يخيِّرهم بين ظلم أمريكا القبيحة وضرورة هزيمتها، وحركة رجعية ظلامية، كحركة طالبان، والدعاء لنصرتها؛ وكأننا نواجه قدرنا المحتوم، وكأنّ دور المثقفين، في عصر القحط الذي نعيشه، يقتصر على الاختيار بين ذينك الشرّين، ويعفيهم من واجب المبادرة والعمل من أجل تحقيق رسالتهم الإنسانية وبناء مجتمعات ديمقراطية وحرة.
دعوني، كي لا يساء فهمي، أن أؤكد على موقفي السياسي الواضح والرافض لغزو أمريكا لأفغانستان أو للعراق أو لغيرهما من دول العالم، فهذا يجب أن يبقى الموقف السياسي الواضح والصريح وغير القابل للمقايضة وللتبديل عند كل إنسان حر وعاقل؛لكن.. نحن لسنا بحاجة لبراهين لما ستؤدي إليه سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، ولا إلى كيف سيعيش الأفغانيون تحت حكمها؛ ولسنا بحاجة لإثباتات لما كانت ستفعله هذه الحركة حتى بحق من كتب في صالحها ودعمها، لكنه لا يؤيد عقيدتها ومذهبها. ولسنا بحاجة لقرائن لما سوف تفعله هذه الحركة مع كل «آخر غريب» أو فنان ومبدع؛ ويكفي أن نتذكر كيف حكموا، وكيف دكت مدافعهم تلك التماثيل الأثرية التي خلّفها شعب أفغانستان كشواهد على عراقة التاريخ وثقافاته الغابرة.
ولنتذكر أيضاً كيف ستعيش النساء في ظل عصيّهم وفرق مطوّعيهم؛ ولنتصور أي نظام قضائي سيسود، ومن سيحمي حرية الصحافة والنشر، وحرية الناس والمثقفين في إبداء الرأي والكتابة والتظاهر، وكيف ومن سيحاكم العاصين في ساحات البلاد ليكونوا عبرة لمن لم يعتبر. ألا يحق لنا اليوم أن نسأل بعد انتصار طالبان، إن كنا فعلا بحاجة لنتساءل قبل عشر سنوات: هل انتصار أفغانستان بقيادة حركة طالبان، هو خدمة للإنسانية؟ أو أن نتساءل بشكل آخر: هل هزيمة أمريكا، على يدي حركة طالبان تعتبر خدمة للإنسانية وانتصارا لها؟ ألم يكن هذان التساؤلان، كما طرحهما بعض مثقفي العرب، إقرارا بحالة عجز قاتلة، ومؤشرا على إفلاس فكري خطير كانت قد سبقته ظواهر التصحر الحزبي والنأي الشعبي عن طروحات اليساريين التقليدية، التي فشلت في استهواء قلوب شعوب بقيت متخلفة ومنهكة من استبداد دولة الخلافة العثمانية وما تلاها؟
ما حصل في أفغانستان له علاقة بفلسطين وبمستقبلها، ويوثر، بطبيعة الحال، في كل واحد منا، ويجب أن يؤرق كل مثقف يساري علماني تقدمي؛ فبين أن نقف ضد غزو أمريكا لأفغانستان ولأي بلد آخر، ونقف أيضاً ضد حكام الدول المستبدين بشعوبهم، وأن نصلّي لنصر حركة طالبان ولاعتلائها سدة الحكم، فرق كبير، ولنا في التاريخ عبرة ودروس. لقد كان خياري مع من كان ث