جواد بولس كاتب فلسطيني
محامي ناشط في مجال حقوق الانسان
(من كتاب البلاد)
مقالات سابقة
هل ما زالت إسرائيل واحدة؟
جواد بولس
يعتبر البعض أن قرار قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية في الالتماسات
المقدمة أمامهم ضد قانون إلغاء «حجة المعقولية» سيحسم مصير نظام الحكم
في دولة إسرائيل وشكله؛ والقرار بهذا المعنى هو حدث تاريخي سيؤثر في
حياة اليهود ومصيرهم. وقارن بعض المعقبين والمحللين بين الأحداث
الجارية داخل المجتمعات اليهودية، في إسرائيل وفي العالم، وفترة
الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل عام 1948.
لقد تم بث مجريات المحكمة مباشرة عبر الفضائيات والإذاعات الإسرائيلية
في تعبير واضح من قبل قضاة المحكمة عن أهمية الموضوع وضرورة عرضه
مباشرة أمام الشعب على الملأ. من الصعب طبعا التكهن بالقرار الذي سيصدر
قريبا، وعلى الأرجح فإن القضاة لن يجتمعوا، بسبب اختلافات مفاهيمهم
الاجتماعية وخلفياتهم السياسية ومرجعياتهم الروحية والثقافية، على
نتيجة ومخرجات واحدة.
كُتب وسيُكتب الكثير في الإعلام العبري عن مجريات المحكمة، كما شاهدها
الجميع يوم الثلاثاء الفائت؛ وهي كما قلنا شكلت حدثا لافتا ومشهدا
إسرائيليا مميزا، لكنه، رغم ذلك بقي مشهدا «خاصا»، بمعنى أنه يخصّ
المجتمع اليهودي، ولا يعنينا، نحن الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل.
فعلى الرغم من وجود قاض عربي واحد داخل هيئة المحكمة، القاضي خالد
كبوب، وعددها خمسة عشر قاضيا، إلا أن روح التقاضي التي سادت في فضاء
قاعة المحكمة، وطبيعة هواجس الأطراف، كما عُبّر عنها، دارت كلها في فلك
«الدولة اليهودية»؛ ودار الخلاف بين المعسكرين حول أية يهودية ستتحكم
في الدولة، تلك التي يسعى أقطاب الحكومة الجديدة إلى ترسيخها والعمل
بهديها، أم تلك التقليدية التي صيغت هويتها في عروة الحكومات السابقة،
وفي دهاليز المحكمة العليا ذاتها. وأشار بعض النقاد والمحللين إلى أن
الصراع بين الرأيين يعكس في الواقع رغبة القوى اليمينية المتدينة
الجديدة، تغليب دور اليهودية مع التركيز على البعد الديني للدولة، على
دور الصهيونية التقليدية، وبعدها القومي، وهذا ما لن تسمح به مجموعة من
القضاة، لكونه انقلابا على المفاهيم المؤسسة للدولة.
لقد وصلت أحوالنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، إلى حالات
عبثية مرهقة؛ وسنضيف إليها في هذه الأيام وضعنا إزاء ما يجري في هذه
المحكمة، فبعضنا لا تهمّه المحكمة من أصلها، وبعضنا قد يعلق آمالا على
قرار المحكمة المنتظر ويراهن أو يرغب، أن يزودنا القضاة بقارب نجاة
وبدروع واقية كي تحمينا من مخططات هذه الحكومة أو غيرها من المقبلات
التي سينتخبها شعب، تؤمن أكثريته الساحقة بأننا مواطنون غير مرغوب فينا
داخل دولتهم اليهودية. من العبث، برأيي، أن نعوّل على قرار هذه
المحكمة، وأن ننسى أنها هي المحكمة ذاتها التي أصدرت قبل عامين فقط
قرارها بخصوص «قانون القومية»، الذي كتبت متنه الأساسي رئيستها في حينه
والحالية، القاضية إستر حيوت. إنه القانون الذي توّج عملية جنوح
المجتمع اليهودي نحو اليمينية المتعصبة والفاشية، وهي العملية التي ما
كانت لتنجز لولا رعاية الجهاز القضائي الإسرائيلي لها وتسويغها من قبل
محكمته العليا، بمبررات عنصرية أسهمت في تطوير فكر «الفوقية اليهودية»،
وأفضت إلى إمكانية صرفها بأشكال عملية كما يطالب بها اليوم قادة
الانقلاب على الجهاز القضائي، وفي طليعتهم المحكمة العليا نفسها. أنا
شخصيا أشعر بالغضب الشديد على قضاة هذه المحكمة، وعلى رأسهم الرئيسة
حيوت وزميلها القاضي يتسحاك عميت، الذين رفضوا مرارا وتكرارا الإصغاء
إلى تحذيراتنا من أن حمايتهم المستمرة لسياسة الاضطهاد والقمع التي
تمارسها حكومات إسرائيل في حق الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، وفي
حقنا نحن المواطنين في إسرائيل. إن عدم إخضاعها لأحكام العدل ولحجة
المعقولية وقيمة المساواة العرقية، ستفضي حتما إلى ممارسة السياسة
نفسها داخل إسرائيل، إذ لا يمكن لأحد أن يوقف نيران العنصرية والقمع
على عتبات بيوت العرب، فالنار ستصل حتى عتبات محكمتهم، كما يحصل في هذه
الأيام. من المؤسف انهم لم يسمعونا، ومن المحزن أنهم لم يسمعوا زميلهم
القاضي جورج قرّا الذي كان قراره في مسألة قانون القومية عبارة عن صوت
واحد يصرخ في برية عشرة قضاة تصرفوا كحماة لمبدأ الفوقية اليهودية،
التي كانت أمّ كل الموبقات التي مارستها حكومات إسرائيل المتعاقبة داخل
الأراضي المحتلة وبحقنا داخل إسرائيل؛ واليوم تريد هذه الحكومة
احتكارها وتطوير إنتاجها ومفعولها. لو كنت أستطيع لنصحت القضاة أن
يعودوا إلى مراجعة ما كتبوا قبل عامين، حين أجازوا بقرارهم «قانون
القومية»، ويقرأوا ما كتبوا وما كتب زميلهم القاضي جورج قرّا، حين
استقرأ النتيجة الحتمية التي سيوصل اليها قانون القومية، وهي القضاء
على القيم الديمقراطية الإسرائيلية، وتثبيت «الفوقية اليهودية» على ما
سيعنيه ذلك حيال وجود المواطنين العرب في الدولة وحقوقهم. في حينه رفض
القاضي جورج قرّا تبريرات زملائه العشرة، وأكد محذرا أن القانون سيؤدي
عمليا إلى «إخضاع هوية الدولة الديمقراطية، التي في أساسها حقوق
الإنسان وحقوق الأقليات، إلى هويتها اليهودية؛ أي خلق حالة من تفضيل
القومية اليهودية وإكساب الهوية اليهودية للدولة صفة الفوقية على
هويتها الديمقراطية، وهذا من خلال التغيير القانوني»؛ وأضاف قائلا، إن
«المضمون الحقيقي لقانون القومية هو مضمون تمييزي وإقصائي ضد المواطنين
غير اليهود، وجلّهم من المواطنين العرب. يخلق قانون القومية حالة تفضيل
لقيم الدولة كدولة يهودية على قيمها كدولة ديمقراطية». قال جورج وصدق.
لقد مضى عامان على ما كتبه القاضي ابن مدينة يافا، وما توقعه هو وجميع
من عارضوا القانون، تحقق ببركة السيدة حيوت وزملائها الذين يحاولون
اليوم إنقاذ مؤسستهم «وكرامة المواطن» على حد تعبيرها.
نحن في مأزق كبير ولا نعرف ماذا نعمل وكيف يجب أن نتصرف؛ فوضعنا
القانوني داخل إسرائيل يزداد تعقيدا، ومكانتنا كمواطنين محميين جزئيا
بمظلة مواطنية، تتراجع وتفقد معظم دروعها وكوابحها الحامية. تتصرف
الأغلبية بيننا وفق حكمة أجدادنا الذين روضتهم، عبر مئات السنين، سياط
الحكام الأجانب وقصص «أيام السفربلك» وأهازيج «حيّد عن الجيشي يا
غبيشي»، وصاروا يكتفون بالعيش بعقيدة «امشي الحيط الحيط وقول يا ربي
السترة» أو «نفسي وبعدها الطوفان». أما الآخرون فقد فقدوا الثقة
بمؤسسات الدولة ويتهمون إسرائيل كمسؤولة عن جميع مصائبنا، ولا يهتدون
ولا يهدون شعبهم إلى البدائل الكفيلة لحماية مجتمعاتنا من سطوة الحكومة
وأذرعها، أو من تفشي الجريمة والرذيلة في مواقعنا، أو من سقوط حامياتنا
الأخلاقية وحواضنها الاجتماعية والسياسية وغيرها. لن يأتينا الفرج من
المحكمة العليا الإسرائيلية؛ لكنني اتمنى ألا تسحقها القوى الظلامية
والميليشيات العنصرية والكتائب الفاشية. فنحن على أعتاب حقبة خطيرة
للغاية أتوقع أن نشهد فيها جملة تصعيدات على عدة جبهات؛ فالأوضاع في
الأراضي المحتلة على حافة الانفجار والأيام المقبلة حبلى باليأس
وبالديناميت. إن ازدياد منسوب الجريمة والعنف بيننا في تصاعد حتى بتنا
نواجه حالة من «حلة الحكم» والعيش بحالة من الخوف وفقدان مشاعر الأمن
الشخصي والمجتمعي. وتتراجع أوضاع المجالس البلدية والمحلية بوتيرة
متسارعة، حتى باتت مؤسسة الحكم المحلي كلها تواجه خطرا على وجودها
وخللا جوهريا في إمكانيات تأدية مهامها وواجباتها في حماية وخدمة
مواطنيها. أما الأحزاب السياسية التقليدية فدخلت إلى غرف الإنعاش ولا
أمل في أن تخرج منها سالمة، ومثلها تعاني معظم مؤسساتنا السياسية
والمدنية القيادية؛ وأخيرا أتوقع أننا سنشهد حملة من ملاحقة القطاعات
المنتجة للفكر وللتعليم والاقتصاد داخل مجتمعاتنا، فلن يكون المعلم أو
الموظف محصنا من ملاحقة «الأخ الأكبر» أو عيون السلطان، أما الشركات
العربية الكبيرة فلن تُترك لتعمل كمملكات عربية مستقلة، إذ يجب إخضاعها
للسيد اليهودي. باختصار سوف نواجه حالة سنطالب فيها أن نقبل العيش تحت
مظلة وعصا يهوديتين ترفعهما حكومة تؤمن بفوقية يهودية ربانية، أو إذا
رفضنا فإننا سنعاقب. فهل في هذه الحالة سيكفي أن نقول ونردد في كل
مناسبة وبعد كل مصيبة «نحمل إسرائيل المسؤولية»؟ هل هذا كاف؟ وهل هذا
الشعار لوحده في المشهد الإسرائيلي الحالي صحيح؟ هل إسرائيل اليوم هي
فعلا واحدة؟ ألا يتوجب علينا أن نفتش عن إسرائيل الأخرى؟ أو ربما علينا
أن نوجدها مهما كانت المهمة صعبة، أو حتى قريبة من المستحيلة.
لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا؛ ولا يبدو أن مصيرنا، كمواطنين
وأصحاب أرض يشغل، لغاية الآن، بال معظم المتظاهرين ضد حكومة نتنياهو
وحلفائه، وعلى الرغم من ذلك لا يجوز لنا ألا نفرق بين المعسكرات
الإسرائيلية وأطيافها الواضحة؛ فإسرائيل، التي نعتبرها وحدة عدائية
واحدة، تعيش أزمة حقيقية متعددة الأوجه، إحداها هي الأزمة الدستورية،
وأهمها حالة الصراع على طبيعة نظام الحكم وعلى مرجعياته، فهل هي
التوراة أم وثيقة الاستقلال مثلا؟ والصراع على قيم الدولة الاجتماعية
والأخلاقية الأساسية، هل هي الفوقية اليهودية، أم ضرورة تحقيق مساواة
المواطنين العرب؟ والصراع على قدسية الخدمة العسكرية في ظل استمرار
الاحتلال واضطهاد شعب آخر، هل ستواصل قطاعات يهودية متدينة واسعة،
الامتناع عن تأدية تلك الخدمة، أو هل ستستمر الشرائح التي تخدم في جيش
الاحتلال تأدية خدمتها؟ إنها في الواقع أكثر من إسرائيل حتى لو ظهرت
ضدنا كأنها إسرائيل واحدة..
كاتب فلسطيني
همسات محام،
جليلي
في القدس ومقدسي في الجليل
جواد بولس
كيف تغيّرت القدس اذا تغيّرت بنظرك؟ وهل تغيرت أوضاعنا عن أوضاعكم التي
عشتموها حين جئتم شبابًا اليها ؟ هكذا سألتني أبنتي دانة قبل يومين، في
السادس من أيلول /سبتمبر، وإنا أتمم ليلتها السابعة والستين عامًا من
عمري، وأصبح، بمقتضى قوانين الدولة، "مواطنًا مسنًا" . لم أكن فرحًا
تماما بحلول ذكرى يوم ميلادي ، وهي في عرفنا الاجتماعي مناسبة للفرح،
ولا حزينًا تماما ؛ بل كانت أفكاري مشوشة حتى حد الفوضى، ومشاعري
مضطربة. منذ أن بلغت الستين بدأت في مثل هذا اليوم أشعر كأن كسلا شديدا
يستوطن رأسي؛ وكأن عقلي يدخل في حالة من الشلل المؤقت ولا يدعني استعيد
بعضًا من حالي واستحضر فصولاً من تعاريج حياتي الطويلة الماضية. في
الحقيقة، لم تكن رحلتي من كفرياسيف، مسقط رأسي الجليليّ الأنيق الى
القدس ، عاصمة السماء، بسيطة وعادية. ولم أكن أتخيَل يوم اخترت الدراسة
في كلية الحقوق في الجامعة العبرية، أنني سأبقى في القدس وأنني سأعمل
فيها محاميًا متخصصًا في الدفاع عن أسرى الحرية الفلسطينيين وعن كثير
من المؤسسات الفلسطينية وعن قياداتها . حصل ما حصل وكأنه كان من تدابير
القدر، أو ، ربما، هو حظي الذي سخّر لي الظروف قبل ثلاثة وأربعين
عامًا، وأتاحها كي أمضي في طريق كان مليئًا بالتضاريس الصعبة،
وبالمحطات التي عرفت على أرصفتها الشقاء والفرح والرضا . كنت شابا لا
يعرف الكلل ولا يهاب عواء الذئاب وكانت سجون الاحتلال تعرفني ويعرفني
سكانها، المناضلون الفلسطينيون الذين ضحوا، وما زالوا بضحون، بالغالي
في سبيل تحرير أرضهم وحرية شعبهم من نير الاحتلال. لم أنحز في عملي
لفصيل فلسطيني على حساب فصيل آخر، فكل المضطهدين كانوا إخوتي، وكل
السجناء ، على اختلاف انتماءاتهم الوطنية والاسلامية، كانوا أمانات في
عهدتي. لن يكفي مقال ولا حتى كتاب واحد للحديث عن تجربتي التي كنت فيها
شاهدًا على تداعيات وتقلبات كثيرة ولافتة في مسيرة نضال الشعب
الفلسطيني ، بشقيه : نضالنا نحن الفلسطينيين الباقين في الوطن، ونضال
أشقائنا الذين قرّبتهم منا نكسة حزيران في العام 1967، وواجهوا مثلنا
اسرائيل، التي من شهوة لا تشبع ورصاص لا يرحم وفحم ودم ، وخبروا، على
أجسادهم، انها ليست كما كان يصفها بعض العرب، مجرد فقاعة واهية وكيانا
مزعوما ومؤقتا وخللا في حسابات التاريخ سيسوّى قريبًا . لقد أنهيت
دراستي الجامعية وبدأت تدريبي في مكتب المحامية الشيوعية المناضلة
فيليتسيا لانغر وأُجزت محاميًا، لأبدأ بعدها مسيرتي وأنا أعاني من
حالة "انشطار نفسية"، اذ كنت، طيلة العقود الخمسة الماضية ، أعتبر
جليليًّا في عيون معظم المقدسيين وفي سائر أرجاء فلسطين ، وأحيانًا
جليليّا مسيحيًا في عيون بعضهم، ومقدسيا في عيون الجليليين وبين عرب
الداخل؛ أما مؤسسات وجنود الاحتلال فلقد اعتبروني وزملائي المحامين
"مخربين" نخدم "مخربين". إنها مفارقة أو ملابسة أنجبها لنا القدر،
واضطررنا أن نعيش في كنفها باضطراب هويّاتي دائم، أنا وآلاف "النازحين"
الفلسطينيين من عرب الداخل، منذ تركنا قرانا ومدننا في اسرائيل،
واستوطنّا / سكنّا القدس ومناطق فلسطينية اخرى ساعين وراء أحلامنا أو
رغبة منا بالتأكيد، ونحن الوافدين الى أحضان أشقائنا الفلسطينيين، على
هويتنا ، أو من أجل تأمين أرزاقنا بوجود فرص للعمل والتعلم والتقدم رغم
وجود الاحتلال، أو ربما بسبب احتياجاته.
لم أنو اليوم منذ البداية الكتابة في الشأن الفلسطيني العام ولا عن
المناسبة الخاصة التي سألتني فيها ابنتي عن شعوري ورغبت أن أستعرض، من
أجل الافادة، أمام الحاضرين بعض خلاصات تجربتي المهنية والانسانية بعد
أربعة عقود من العمل الحثيث في مواجهة الاحتلال ومؤسساته القضائية.
كنا نجلس في القدس، في مطعم "سيتي ڤيو". وهو مطعم يتربع على أنف "جبل
الزيتون" ويطل على البلدة القديمة التي كانت تبدو أمامنا كعروس نائمة
وتحلم كما في الاساطير. كان الوقت مساء وفي الجو تهيم النسمات وتلفنا
بحريرها المقدسي. استوعبت سؤال أبنتي ومرادها من ورائه وهممت باجابتها
الا أن أمها قاطعتني وهي تشير بيدها نحو القدس وتقول : هل هذه هي القدس
التي عشقتك وعشقتها أنت ؟ ثم أردفت بلهجة كسيرة وقالت: تذكّر وأنت
اليوم تطوي 67 عامًا، ماذا تبقى من القدس التي جئتها بعد هزيمة العام
1967 وكانت تلملم جراحها وتقاوم وترفض الاستسلام ويرفض اهلها التدجين
أو الانصهار ؟
حاولت ألا أكتب مرة أخرى عن القدس لأنني كنت قد كتبت عن جراحها بعد
رحيل أميرها فيصل الحسيني مرات ومرات، فقلت لجلسائي أن الحديث عن القدس
بالنسبة لي في مثل هذه المناسبة يشبه النبش في جرح ينزف في صدري قيحًا
ودما؛ فهي وان كانت المبتدأ في كلام العرب وكانت عند معظم المسلمين
الخبر، بقيت الضحية الذبيحة وحرثًا مباحًا لسكك ولمعاول الغاصبين.
المشكلة، يا بنيتي، انني وكثيرين مثلي قد أضعنا بعد أربعين عامًا
فلسطيننا وقدسنا وقضيتنا. اضعنا القدس وبقي العرب والمسلمون يحررونها
في الصلوات ويسجنونها وراء أسوار الوهم وتحت قباب مقدسة، فهم يهتفون
لها من على منصات الوهم بينما يعمل المحتل على ابتلاع جغرافيّتها
وتحريف تاريخها وتفتيت هوية مجتمعها عن طريق اغراق حاراتها بالوعود
وبالتساريح وبالتصاريح وبالفضة.
لقد جئت القدس بعد الهزيمة فوجدت أهلها صابرين يرفضون العيش في مذلة
ويصرون على المحافظة على هويتها الفلسطينية الواضحة التقاسيم والمعالم.
ودافعت عن الأسرى وبينهم مناضلين مقدسيين كانوا لا ينامون إلا على عهد
الكرامة والوفاء لامهم فلسطين، والقسم بولائهم لها واعتبار كل سائر
الانتماءات مجرد تفاصيل ثانوية وسطورا هامشية في صفحة الهوية الخلفية .
فلسطين التي دافعت عن مناضليها لا تشبه فلسطين اليوم، والقدس التي
عشقناها لا أجدها؛ وفي الوطن نسمع منذ سنوات أحاديث التيه وضياع الأفق
واختلال معاني الثقة وفقدان الأمل.
أتعبتني فلسطين العارية، والقدس عليلة تنام عميقًا في الصدى بعد أن
استبدلت فرسانها وهجرت سواقيها وأطاحت بنواطيرها، فلسطين التي تسألوني
عنها تفتش اليوم عن بقايا روحها والقدس تبحث عن ذراعها عساها تجد
وريدها. أقول لكم هذا الكلام وفي قلبي غصة لأنني كابن لجيل خدم فلسطين
في عصر كان اصرارها وعنادها ورفضها لكل ضيم أعلامًا ترفرف في زاوية
ومنحنى، لن أنسى أنني تعلمت على أرضها معاني جديدة للفرح وللوجع وللنصر
وللخيبة ؛ وتعلمت منها كيف يكون الوفاء ولمن يجب أن تطلق الأناشيد ولمن
تطيّـر الزغازيد وخبرت في ميادينها كيف تصطاد "العصافير" وتسقط فوق
قباب الحق أو داخل أقبية الظلام. وفي فلسطين رأيت متى وكيف تخون نفوس
الرجال أضلعها ويصير الواحد مسخ شيطان أو خنجرًا من سم وطين مغروسًا في
خواصر الوطن .
ما أجملها من رحلة فلسطينية وما أتعبها تجربة ؛ حاولت خلالها أن أبقي
كفرياسيف، قريتي الجليلية معشوقتي الأثيرة من دون أن تزاحم القدس،
مقلة العين وعاصمة السماء، التي من أزقتها انطلقت، قبل تسرب اليأس الى
جدراننا، لمطاردة السراب في محاكم الاحتلال وفي سجونه. عشت بين
كفرياسيف والقدس وعلى أكتافهما هرمت، وفي تلك المسافة، بين المرفأين،
فتشت ووجدت معاني الحياة ونعمة الانتماء. على تلك الدروب صيغت هويتي
وعليها تعبت وشاخت.
ماذا تعلمت خلال عام منصرم وبعد بعض مسيرة ؟
تعلمت أن هوية الشعب تكون مثل الشجره فاذا لا يعتني بها أصحابها ولا
يحافظون عليها تعبث فيها الرياح فتذبل وتهوي. وتعلمت أن الامل هو مرجل
الارادة ومحرك النضال فان فقده الناس تشلّ عقولهم وتموت قلوبهم ويسكن
الصمت في حناجرهم. وتعلمت أن شعبًا لا يعرف للحب معاني ولا يمارس من
أصنافه إلا حب ما يدخل الجيوب والاجساد ستكون مسيرته نحو الحرية والنور
صعبة وعسيرة. وتعلمت ان شعبا يسعى للتحرر من نير قمع الاحتلال ومن
الاستعباد ولا يسكن الوفاء قلوب أبنائه، وأبناؤه ولا يحترمون حقوق
المختلف الآخر ولا قدسية الحياة، ستبقى حريته منقوصة ونضاله أعرج .
لقد تعلمت في السنوات الأخيرة من صوت الرصاص المنفلت في مواقعنا إنه
بالفعل قد تساوى بعد اختراع المسدس الجبان مع الشجاع. وتعلمت بعد شيوع
مظاهر التفاهة وتكاثر التافهين، كيف مع اختراع الحواسيب وشبكاتها
العنكبوتيه تساوى الانسان العالم مع التافه الجهول.
تحدثت عن القدس التي تربينا في حاراتها وشوارعها وعن فلسطين التي كانت
قضية كل واحد منا، وكنت أشعر بالحسرة وبالحنين. خبّرتهم كيف كنا
مستعدين لبذل ما نقدر عليه في سبيلها وكانت هي بالمقابل تجازينا بالكرم
وبالحنان وبالأمان. كنت أحاول أن أتخيّل ماذا سأفعل بعد بلوغي ال67،
وأشعر أن للقدس روحا كانت تسمعني وأنا أتحدث عنها من بعيد، وأنها مثلي
تشعر بالوحدة وبالخذلان، لكنها ليست مثلي يائسة، لأنها، كما قلت هي
عاصمة السماء ومقلة الوطن وقاف الحق الأبدية.
قبل يومين عبرت عتبة عام جديد، وأنا ما زلت ذلك الجليلي في القدس
والمقدسي في الجليل؛ عبرتها وسأمضي كي أفتش عن خلي الوفي الذي سيحمي
قلبي وظهري اذا ما غفوت ذات يوم سهوا في المكان الخطأ؛ ولأبحث عن
الحكمة وراء القضبان عند من يربون الأمل رغم غدر السنين وعتمة الزنازين
. سأكمل الطريق، اذ لا طريق آخر عندي، وسأصغي لحدسي فأهمل الساقطين
وأرشف ما تبقى لي من رحيق في الدنيا مع الاحبة والأصدقاء.
كي لا تسقط قلعة الأحرار…
قلعة الحركة الأسيرة في فلسطين
جواد بولس
سأبدأ مقالتي بتزويد القارئ ببعض المعطيات حول الأسرى الفلسطينيين في
سجون الاحتلال الإسرائيلي؛ في محاولة مني لتقريب واقع هذه القضية
الحارقة إلى القراء وكي لا يبقى الحديث عنهم مجردا ومطلقا.
يقبع في هذه الأيام داخل سجون الاحتلال حوالي (5100) أسير فلسطيني
موزعين على ثلاثة وعشرين سجنا ومركز توقيف وتحقيق. من ضمنهم (32) أسيرة
تقبعن في سجن الدامون القريب من مدينة حيفا و(165) طفلا وقاصرا موزعين
على سجون «مجدو» و»الدامون» و»عوفر»؛ أما فئة من نسميهم «بالأسرى
القدامى» فعددهم (22) أسيرا، أقدمهم هو الأسير محمد الطوس المعتقل منذ
عام 1985؛ بالإضافة إليه هناك (11) أسيرا من محرري «صفقة الأحرار» وهم
الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم مرة ثانية، علما بأنهم كانوا في الأصل قد
اعتقلوا قبل اتفاقية أوسلو، وحُرروا ضمن صفقة تبادل في عام (2011)، ثم
أعاد الاحتلال اعتقالهم في عام (2014)؛ ويعدّ أبرزهم الأسير نائل
البرغوثي، الذي يقضي أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة الأسيرة بواقع
دخوله، قبل مدة وجيزة، عامه الـ(43)، قضى منها في السجن بشكل متواصل
مدة (34) عاما. ومن بين الأسرى (558) أسيرا محكومين بالسجن مدى الحياة؛
ويبلغ عدد شهداء الحركة الأسيرة (237) شهيدا منذ عام 1967، بالإضافة
إلى مئات الأسرى الذين استشهدوا بعد تحررهم، متأثرين بأمراض أصيبوا بها
خلال فترات اعتقالهم. وما زالت إسرائيل تحتجز جثامين (11) أسيرا كورقة
للتفاوض حول مصير بعض المفقودين من جنودها. وتفيد المعطيات عن وجود
حوالي (700) أسير يعانون من حالات مرضية متفاوتة الخطورة، من بينهم
(24) أسيرا ومعتقلا على الأقل مصابين بالسرطان. ويناهز عدد المعتقلين
الإداريين الـ(1200) معتقلا، من بينهم ثلاث أسيرات وما يزيد عن (20)
طفلا، وهو أكبر عدد أسرى إداريين معتقلين من دون تحقيق ومن دون لوائح
اتهام، وبلا محاكمات منذ سني الانتفاضة الثانية؛ كما يبلغ عدد
الصحافيين المعتقلين (18) صحافيا.
سأكتفي بهذه النبذة عساها تقرب القارئ إلى واقع يعيشه وعاشه آلاف
الفلسطينيين حين قرروا أن يضحوا بالأغلى لديهم في سبيل حرية شعبهم
وتحرير وطنهم، وبنوا، عبر الزمن، أعلى صروح الكرامة الوطنية في تاريخ
النضالات الفلسطينية، وقلعة عرف قيمتها العدو قبل الصديق كان اسمها وما
زال «الحركة الأسيرة الفلسطينية».
لقد كانت قضية الأسرى الفلسطينيين الأمنيين دائما عنوانا مهما لدى
السياسيين الإسرائيليين، ومحورا مميزا لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية على
أنواعها؛ لكنها تحولّت مؤخرا إلى جبهة صراع أساسية مستهدفة من قبل
حكومات اليمين المتطرف. ومن الملاحظ أن الحكومة الجديدة، والتي سبقتها،
بدأت تتعامل مع قضية الأسرى الفلسطينيين وفق منحى لافت وصدامي، وبوتيرة
متسارعة وأولوية بالاهتمام، حتى غدت قضية الأسرى عنوانا، مثلها مثل
قضية تعزيز الاستيطان ومخططات تعميق سياسات الأبرتهايد في جميع الأراضي
المحتلة، والإمعان في ترسيخ مفاهيم «قانون القومية» وإسقاطاته العملية
على حياة المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل؛ ويبدو أن الحكومة
الحالية قررت تحويل قضية الأسرى الفلسطينيين إلى «أزمة قومية وجودية»
إسرائيلية يجب معالجتها من جذورها. لم يكن هذا التحوّل الخطير اللافت
من قبل الحكومات اليمينية المتطرفة العنصرية عبارة عن نزوة سياسية
عابرة، أو مجرد عجرفة فردية لهذا الوزير العنصري الأحمق، أو تنفيسا
لرغبة ذاك الوزير الفاشي الحاقد؛ بل هو انقلاب جذري على واقع كان قائما
داخل سجون الاحتلال، منذ سنوات طويلة، حيث كانت معالمه وقوانينه
الناظمة قد فُرضت وتشكّلت خلال معارك ومواجهات كفاحية خاضتها أجيال من
المناضلين والمناضلات الفلسطينيين، بعد أن رفضوا الإذعان لسلطة وسلطان
السجان الإسرائيلي ومحاولاته لتحويلهم من مناضلين أصحّاء، ضحوا من أجل
حرية شعبهم وتحرير وطنهم من نير الاحتلال، إلى إرهابيين مسلوبي الإرادة
والكرامة الشخصية والوطنية. وإذا نظرنا إلى هذه المسألة بعمق، سنجد أن
تغيير السياسات الإسرائيلية إزاء مكانة وحقوق الأسرى الفلسطينيين يشكّل
في الواقع بعدا مكمّلا ومتداخلا مع عناصر الانقلاب الحاصل داخل نظام
الحكم الاسرائيلي، وجزءا من منظومة مفاهيم التيارات الجديدة الصهيونية
الدينية الحاكمة، والمتماهية مع مخططاتها ومواقفها إزاء مستقبل الأراضي
الفلسطينية المحتلة ومكانة الفلسطينيين عليها. فهذه القوى لا تؤمن بحل
الدولتين ولا بأي حل سياسي آخر، يضمن للفلسطينيين استقلالهم ونيل
حقوقهم الوطنية، أو أيّ جزء منها، كما كان يجسدها ويضفي عليها الشرعية
نضال ووجود الحركة الأسيرة؛ ومع صعود قوة هذه التيارات الظلامية بات
واضحا أنهم لن يقبلوا باستمرار وجود حركة فلسطينية شرعية متماسكة
وموحدة، كانت وما زالت كيانية أفرادها الجمعية تعكس قيم الأمل والكرامة
ورفض العيش بمذلة تحت عنجهية المحتل. لقد شاهدت هذه القوى العنصرية
المتطرفة كيف تحوّلت الحركة الأسيرة الفلسطينية، وهي داخل معتقلات
الاحتلال وبموافقة المسؤولين في السجون والوزارات الإسرائيلية
المتعاقبة، إلى رمز يوّحد الشعب ويعزز طموحه وإصراره على البقاء الحر،
وشاهدوا كذلك كيف لم تنقطع مكانة هؤلاء المناضلين، ولم يتوقف تأثيرهم
في كونهم أسرى وراء القضبان، بل إن معظمهم يستمرون بعد الإفراج عنهم
بتمثيل تلك القيم النضالية والمفاهيم الإنسانية داخل مجتمعاتهم
المحلية. لقد شاهدوا كل ذلك وانتظروا إلى أن لاحت لهم الفرصة فقرروا
تنفيذ خطّتهم: إنها خطّة الحسم والقضاء على الحلم والأمل الفلسطينيين،
وهذا لن يتم، وفق ما يؤمن به هؤلاء الظلمة، إلا بالقضاء على الحركة
الأسيرة، كما كانت وكما هي اليوم: ضابط نبض الشارع الفلسطيني الوطني
وحارسه.
في ظل هذه التحولات يجب على جميع الجهات الفلسطينية، ذات العلاقة بهذه
القضية الوطنية الكبرى، إعادة الحسابات والعمل فورا على مواجهة
المخططات التي بدأت الحكومات الإسرائيلية، منذ بضع سنوات، بتنفيذها ضد
الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، وحققت في مساعيها، لغاية الآن، للأسف،
جزءا من أهدافها. لست في معرض التعرض لمخطط مفصل حول ما يجب فعله في
وجه الحملة الإسرائيلية المتصاعدة، لكنني على يقين من أن الحركة
الاسيرة هي العامل الأهم في هذه المواجهة، وهي صاحبة الخبرة والرأي
والحق في إعداد ترتيباتها للحفاظ على تماسكها وقدرتها على تقويض المخطط
الإسرائيلي وإفشاله؛ فالأسرى، خاصة القيادات العتيقة والمجربة بينهم،
يعرفون أن تبعات كسر إرادتهم أو هزيمتهم في هذه الحرب المستعرة، ستتعدى
حدود مواقعهم وراء القضبان وسلب حقوقهم الأساسية ومستحقاتهم الحياتية
التي حصّلوها بالعرق وبالدم و»برموش العين»، كما نقول في فلسطين،
فتبعات الهزيمة ستتعداهم وستمس أيضا بقوة وبحصانة الشعب كله، وستؤثر،
بطبيعة الحال، في جوهر النضال الفلسطيني وشرعيته وعلى استمرار مسيرة
التحرر. كلنا نعرف أن الحكومة الإسرائيلية عازمة على تنفيذ مخططاتها
المعلنة، وفي طليعتها، كما قلت، قمع الحركة الاسيرة وإلحاق الهزيمة
بقياداتها. ولا يجوز لأحد الرهان على إمكانية سقوط أو إسقاط هذه
الحكومة، أو على احتمالات مواجهتها من قبل قوى المعارضة الإسرائيلية
الناشطة حاليا، فالصراع الدائر داخل إسرائيل لا يرى بمكانة الأسرى
الفلسطينيين وبحقوقهم هاجسا يجب الالتفات اليه، وسيكون من الغباء
التعويل على أي اسناد محتمل من هذه الجبهة. بالمقابل، وعلى الرغم من
جميع العثرات والمعوقات القائمة في المشهد الفلسطيني، من الضرورة
البناء على دعم الساحات الفلسطينية وعلى الإسنادات الدولية؛ فعلى
الساحة الفلسطينية توجد جاهزية شعبية «فطرية» لدعم الحركة الأسيرة؛ بيد
أن هذه الجاهزية لوحدها في الواقع الفلسطيني المنهك والمتداعي،
اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لا تكفي؛ وفلسطينيا، تقف مؤسسات السلطة
وقياداتها بوضوح وبحزم إلى جانب الحركة الأسيرة وتدعمها بعناد، رغم كل
الصعوبات والضغوطات عليها؛ تماما كما يتوقع من بلد يحترم مناضليه. بيد
أن أوضاع البلد العامة وتفاقم بعض الصراعات الداخلية شكّلت عناصر
مشوّشة على الأداء المرجو. لا يمكن الانتظار، فالآتي قريبا سيكون أخطر
وأعنف، ولذلك فهنالك حاجة ملحّة إلى مركزة العمل ومنهجته بمسؤولية
وطنية وبعقلانية وبمهنية. إن «هيئة شؤون الأسرى والمحررين» هي عنوان
ملائم لقيادة هذه المهمة محليا ودوليا، وإلى جانبها سائر المؤسسات التي
ترعى شؤون الأسرى وحقوقهم. إن العمل على مركزة العمل ومنهجيته بعقلانية
وبمهنية، سيضمن، من جهة، تحييد الصراعات الفصائلية الداخلية عن هذه
المسألة الملحّة والجامعة؛ ومن جهة ثانية سيضمن تجنيد المنافسات
الإيجابية الجمعياتية والمؤسساتية لمصلحة إنجاح المجهود العام ونجاعته،
عوضا عن تكريس المناكفات التقليدية المنهكة والمهلكة، أو الاستمرار في
خوض حروب القبائل والفرسان.
كاتب فلسطيني
لا دين
للظلم ولا لضحاياه
جواد بولس
انتشر قبل ثلاثة أيام، في مواقع
التواصل الاجتماعي، شريط فيديو لمواطن أمريكي مسلم تعرّض، حسبما يظهر
في الشريط الموجود حاليا على موقع يوتيوب، لتفتيش أمني مذلّ من قبل
طواقم الأمن الإسرائيلي في مطار بن غوريون. ويظهر في هذا الشريط
المواطن وهو بصحبة امرأة تحاول حثه، بصوت عال، للإسراع وتحمّله ذنب
تسبّبه بتأخير سفر ثلاثمئة راكب، اضطروا أن ينتظروه داخل الطائرة، حسب
أقوالها. في الشريط يظهر وهو يطلب منها ألا تصرخ عليه، لأنه لم يكن هو
السبب في ذلك التأخير، ويشدّد على أن عناصر الأمن الإسرائيلي مذنبون،
لأنهم أخضعوه للتفتيش لمدة ثلاث ساعات، حتى أنهم أجبروه خلالها أن يخلع
جميع ملابسه ليتركوه عاريا أمامهم. ويرى مشاهد ذلك الشريط كيف يدخل
المسافر الى بطن الطائرة وهو يعتذر من الركاب ويعلمهم أنه تأخر بسبب
احتجازه لدى عناصر أمن المطار وإخضاعه لعملية استجواب وتفتيش، كان
يعتذر ويؤكد انهم عرّوه بالكامل، فلا يكترث أحد لذلك على حد تعبيره.
ويقول: “لقد عرّوني لأنني مسلم، هذه هي الحقيقة”. ثم نشاهده في لحظة ما
وهو يبكي ويجهش ويقول: “هل تعرفون ماذا يعني ان تبقى عاريا.. كل ما
أريده أن أعامل كما يجب ولو لمرة واحدة”. من الواضح أن ما مرّ به هذا
المواطن الأمريكي المسلم كانت عبارة عن عملية إذلال متعمّدة لا علاقة
لها بضرورات التفتيشات الأمنية، وهي كما نعرف، نحن المواطنين
الفلسطينيين في إسرائيل، ليست محصورة على من هو مسلم ولا في ديانة
بعينها؛ إذ واجهها منا المئات من جميع الديانات والملل، مسلمين
ومسيحيين ودروز أيضا، وواجهها كذلك الكثير من مسافري الدول الأجنبية
الذين زاروا إسرائيل من جميع أصقاع العالم.
تمارس إسرائيل سياسة الاذلال، من خلال عمليات التفتيش الأمني، بأشكال
متعددة ومواقع مختلفة، لا في مطار بن غوريون وحسب، وتُعدّ حواجز
التفتيش العسكرية المنتشرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتلك
المقامة على حدود أراضي عام 1967، واحدة من أهم وأبرز نقاط التماس التي
تشهد على تلك الممارسات المُذلّة المتعمدة بكثافة ودون انقطاع.
بهدوء
مهجري توجه قريبنا إلينا، وقال “أعرف أن العجز قاهر،
والإذلال قاتل، وأعرف كذلك أن الظلم باطل، والحق باق والأمل في الغد
أقوى من كل الحواجز المحروسة بالسلاح وبالكلاب”
يزورنا من كندا في هذه الأيام ابن
خالتنا وزوجته، ومعهما ابنهما وزوجته وطفلهما الرضيع، لخالتي وزوجها
خمسة أولاد كانوا من سكان مدينة يافا، في حي العجمي تحديدا. لم تحتمل
عائلتهم أجواء المَذلّة التي واجهوها قبيل وبعد حرب يونيو 1967 مباشرة،
هي حرب الستة أيام التي لا يحب العرب ذكرها بهذا الاسم، لما يحمله من
إهانة “لكبريائهم الحربية”، فهاجرت العائلة كلها إلى كندا. هاجروا وفي
قلوبهم غصة وحلم لا ينام اسمه يافا. هذه هي المرة الأولى التي يزورنا
بها الابن، وهو عمليا من مواليد الجيل الأول في كندا، برفقة زوجته
البرازيلية ورضيعهما. قمنا باصطحاب العائلة وتعريفها على القدس وبيت
لحم وبير زيت. وقبل العودة إلى يافا والجليل، زرنا رام الله. في المساء
قررت، أنا وزوجتي أن نعود إلى يافا عن طريق عين عريك – نعلين، كي يتعرف
ضيوفنا على طبيعة قرى الريف الفلسطيني. كانت الرحلة جميلة ومثرية،
وصلنا في نهايتها إلى حاجز الجيش القريب من قرية نعلين أو “حاجز
موديعين” حسب قاموس الاحتلال. في الحاجز عدة مسارات كي تستقبل مئات
السيارات. كانت الحركة “سالكه”، وهي الكلمة التي نحبها في فلسطين عندما
نقترب من الحواجز. دخلنا في أحد المسارات فاستقبلنا في نهايته شاب
نحيف؛ مد من بعيد وحرّك أمامي إصبعا نحيفا فتوقفت. سألني من أين أتيت
وإلى أين اتجه، فأجبته: “من رام الله وإلى يافا”. طلب بطاقات هوياتنا
فأعطيناه وبعد تدقيقها أعادها وأمرنا بالتوجه إلى هناك، وأشار بالاصبع
النحيف ذاته إلى سقيفة كبيرة. ففهمت أن رحلتنا مع الفرح قد انتهت،
وسيبدأ فصل الشقاء والمذلّة، حاولت أن استفسر عن سبب قراره بينما كانت
تمر أمامنا عشرات السيارات، فأشاح بوجهه عنا وتطلع نحو السيارة التي
خلفي وأشار بإصبعه نحوها، كانت سيارة قريبي الشاب وزوجته وطفلهما.
تقدمت نحو السقيفة، ولحقني، بعد لحظات، قريبي الشاب وزوجته. كنا في
حالة سكون وغضب دفين. بعد لحظات توجهت إلينا مجندة من مهاجرات إثيوبيا،
كانت متحمسة بشكل لافت وصارمة كالليل، فطلبَت أن أفتح جميع أبواب
السيارة وأن نخرج نحن ونخرج جميع الحقائب وأن ندخل الى ذلك المبنى،
وكانت تشير بيدها نحو باب لم نعرف ما وراءه. سألتها إذا كانت تنوي
تفتيش جميع الحقائب يدويا، فقالت: “أمامكم خياران: إما إن نفتشها
يدويا، وإما أن تقوم الكلاب بتفتيشها”، وأشارت نحو مجندة شقراء كانت
تجر كلبا أشقر كبيرا. قلت لها اعتقد أن الوضع يلائم أكثر لفحص الكلاب
فدعوا الكلاب تنهي المهمة. نظرت نحوي باشمئزاز وقالت: “إذن اتركوا كل
شيء وادخلوا إلى هناك”. وإلى جانبنا كانت مجندة أخرى تطالب ابن قريبي
وزوجته أن يُخرجوا من سيارتهم جميع الحقائب وكذلك طفلهم، رغم أنه كان
يغط في نوم عميق في مقعده الخاص. حاولنا أن نقنعها بأن تشفق على الطفل
وتتنازل عن إيقاظه، إلا أنها أصرّت وصرخت بشبه تهديد: “لن أكرر طلبي
مرة أخرى”. فهمَت أمه البرازيلية من الإشارات، ما تريده المجندة فنقرت
على كتفه نقرتين فصحا، بكى الطفل في البداية ثم تبسم وهدأ، ودخلنا نحن
السبعة وراء الباب. كانت الغرفة معدّة للتفتيش وفيها ماكنة لفحص
الحقائب، وبوابة لفحص البشر. سمعنا من ورائها صوت فتاة يطلب من كل واحد
منا أن يضع جميع ما عليه وفي يديه داخل الماكنة، ثم ندخل بترتيب وبنظام
في الباب المغناطيسي. دخلنا تباعا فطلبت من كل واحد منا مرة أخرى بطاقة
هويته وهاتفه وقامت بفحصها بجهاز يشبه فرشاة الشعر. ثم توجهت إليّ
وطلبت أن أفتح حقيبتي الخاصة، بعد أن مرّرتُها في الماكنة؛ فأخبرتها
بأنني محام ولن أقبل أن تفحص الأوراق التي بداخلها. نظرت إليّ مستغربة
من “وقاحتي”، لكنني بدوتُ مصرّا، فقبلت بعد مناقشة بسيطة أن تنظر إلى
داخل الحقيبة، ثم طلبت مني أن أعيدها إلى فحص مكرر داخل المكن، كأنها
كانت تريد الثأر “لكرامتها” ومعاقبتي.
خرجنا من الغرفة فوجدنا الحقائب ملقاة على الأرض والكلاب قد أنهت
مهمتها؛ لكننا لم نجد من نكلمه. انتظرنا منهكين وواجمين حتى عادت تلك
السمراء ووراءها الفتاة الشقراء تجر كلبها الأشقر. كان يبدو الفرح على
وجهيهما. نظرَت إلينا وأعلنت بحركة بهلوانية بكفيها أنهم أنهوا المهمة،
وبمقدورنا أن نعيد حقائبنا ونرحل.
كان الحر شديدا وكان الطفل يبكي وكنا نعاني من أعراض مشاعر اليأس ودوس
الكرامة. كانت سيارات اليهود والمستوطنين تعبر الحاجز بحرية وبيسر
ظاهرين، وكان بعض المجندين/ات يلوحون لهم أحيانا بأياديهم. رحنا نعيد
أغراضنا إلى داخل السيارتين بصمت حانق، بينما كانت صدورنا تغلي بالوجع
وبالصبر. لاحظت أن زوجة ابن خالتي، الفلسطينية الكندية تبكي بالسر
وتحاول أن تخفي بكاءها عنا.
كانت يافا وجهتنا، حيث سيمضي أقربائي بصحبة أصدقائهم بضعة أيام، يعودون
بعدها إلى قريتنا، كفر ياسيف الجليلية. “لا بأس، دعوهم يعربدون كما
يشاؤون”، هكذا بهدوء مهجري توجه قريبنا إلينا، وطلب مني ألا أغضب،
“فصحّتك أهم من سفالتهم” قال، وأضاف: “أعرف أن العجز قاهر، وأعرف أن
الإذلال قاتل، لكنني أعرف كذلك أن الظلم باطل، وأن الحق باق وأن الأمل
في الغد أقوى من كل الحواجز المحروسة بالسلاح وبالكلاب والمسكونة بالشر
وبأصحاب النفوس المعطوبة”.
حاولنا أن ننسى ساعتين من الشقاء والمهانة، وكدنا ننجح لولا بكاء
الرضيع المتواصل وصدى أوامر المجندات وطنينها في آذاننا. وصلنا يافا
فملأت رائحة البرتقال صدورنا.
لا أعرف من يكون ذلك المواطن الأمريكي المسلم الذي انتشر شريطه قبل
يومين على منصات التواصل الاجتماعي، لكنني كنت أتمنى لو يقرأ مقالي
هذا، ليعرف، هو ومن يؤمن مثله، أن الشر، مثله مثل كل حالة وإيمان
وسلوك، عندما يصبح مطلقا، لا يفرق بين ديانة وديانة ولا بين إنسان
وإنسان. الشر في حالتنا هو طبيعة الاحتلال المطبوعة فيه والمطلقة، وهو
طبيعة من يولدون في حضن هذا الاحتلال ويترعرعون في فضاءاته، وهو حين
يولد يكون خالصا وطبيعيا. كم كنت أتمنى لو يقرأ هذا السائح عمّا نعانيه
نحن في فلسطين كل يوم آلاف المرات، وليعرف أنهم عاملوه كما عاملوه ليس
لأنه مسلم وحسب، بل لأن طبيعة هؤلاء الأشرار لا تعرف إلا أن تمارس الشر
والظلم ضد المسلمين وغيرهم. قد يقرأ البعض ما أكتب هنا فلا يعيره
اهتماما، أو قد يسخر منه، ربما لأنه قد عانى مثله، أو أقسى منه على أحد
حواجز الاحتلال، أو في أحد المعابر الحدودية الإسرائيلية. عانوا ولم
يكتبوا عن تجاربهم ولم ينشروها، لأنهم، كما قلت، قد اعتادوا ممارسة
حياتهم اليومية في ظل الشر وفي كنف وكلائه. لقد اعتادوا على مسايرة
الشر والظلم ومهادنته حتى الصمت والرضوخ. كم كنت أتمنى أن يعرفوا أن
الصمت عن المذلة عبودية، وأن العيش في حضن العجز مذلة، ولا شيء سوف
نتركه لأولادنا ولا لجيل ذاك الطفل الرضيع، سوى حفنة من الأمل، وإرادة
تصر على مواجهة الظلم والظالمين أو على الأقل فضحه وفضحهم.
*كاتب فلسطيني
محمود درويش
في حضرة الندم
جواد بولس
تُذكّرنا هذه الأيام من شهر آب / أغسطس بالوجع، وتصيبنا الحسرة التي لا
تشبه الحسرات المستوطنة أرض فلسطين مذ أعلنت السماء حبها الأثير لها
وأمطرتها بالأنبياء وبالشعراء وبالهزائم؛ فذكرى رحيل محمود درويش،
عندما تحلّ، توقظ فينا من جديد أسئلة الندم والوفاء والشوق، فهو «بعد
الموت لا يطاق».
ماذا لو لم يسافر إلى أمريكا كي يجري العملية هناك، أو لو قرر ألا
يجريها بالمرة ليكمل تلاوة تراتيله في الحب والحكمة والأمل حتى انفجار
اللغم؟ ماذا لو أطال نومه في ذلك الصباح الماكر وفاته ميعاد الطائرة كي
ينجو مصادفة مثلما نجا «لاعب النرد» من حادثة الباص حين تأخر عن رحلته
المدرسية لأنه نسي «الوجود وأحواله عندما كنت أقرأ في الليل قصة حب
تقمصت دور المؤلف فيها ودور الحبيب – الضحية، فكنت شهيد الهوى في
الرواية والحي في حادث السير».
في كل عام منذ رحيله، في مثل هذه الأيام، يعذبني شعور غامر بالندم
وتعيد ذاكرتي تفاصيل القلق الذي عاشه محمود بدون انفكاك، فهو لم يكن
واثقا بصواب اختياره لإجراء العملية؛ وحتى آخر لحظات مغادرته رام الله
كان يكرر السؤال عليّ وعلى سائر أصدقائه القريبين، ما رأيك، أخوض
المغامرة أم أنسى وليكن ما يكون؟
لقد فرضت تجربة محمود درويش الأدبية مقاييس إبداعية وجمالية آسرة
وطاغية حتى صار اتباعها أو الفكاك منها ورطة
لقد أمضى أيامه الأخيرة في الجليل، وفي صباحه الجليلي الأخير اصطحبته
بسيارتي من بيت أخيه أحمد في قرية جديّدة وتوجهنا الى مدينة حيفا. كان
هادئا كما يليق بعاشق يتأهب للقاء معشوقته، وأنيقا كياسمينة تلمّ في
الصباح فوضى ليلها. فرك كفّيه، وهو على مقعد السيارة بجانبي، وببسمة
عريضة كانت تستنفر هواجسه وقلقي سألني: «فكرك لازم أعمل العملية ولا
بلاش»؟ ضحكنا بخفة مواربة، فكلانا كان يعرف أن الأمر قد نوقش حتى
التعري الكامل وكان قد قُضي، فغدا سوف يترك فلسطين من رام الله ليتوجه
الى عمان ومنها الى فرنسا مباشرة ثم الى هيوستن في أمريكا. وصلنا حيفا
محطتنا الأولى. قضينا فيها بضع ساعات بصحبة أصدقاء والكرمل. كان محمود
ممتلئا فرحا ونشاطا؛ كان يتحدث عن البحر وعن الأدب وعن الثقافة
والمثقفين وعن الرواية والحب والأمل، لكنه لم يتحدث عن الرحيل ولا عن
الموت. كان يلتهم الوقت وأنفاس الطبيعة، ولو استطاع لأوقف الزمن هناك
تحت قبة السماء الزرقاء وفي ظل غابات السرو والصنوبر، لكنه كان يعلم أن
لا وقت لنسيان الألم فلقد «كبرنا فجأة والعمر مرّ سريعا».
بعد ساعات من مداعبة الشمس، وقف وفتح يديه واستنشق جرعة كبيرة من
الهواء كانت هي زاده لما تبقى من يقين، وودّع حيفاه كما تودّع الطير
الأمكنة «نرحم أيامنا، نكتفي بالقليل». مشينا نحو السيارة وركبناها
قاصدين رام الله فطلب ألا أسرع وكأنه كان يزرع البحر أسرارا ووعودا
ويحمّل أمواجه عتبا وأشواقا.
كان عشاؤنا الأخير في رام الله وكان طويلا حتى ساعات الليل الصغرى. كنا
ثلاثة، محمود وأنا وقد انضم إلينا الصديق عماد شقور. لم يكن عشاء
عاديا، ولم نرغب بأن ينتهي. كان ليلنا حزينا فرغم رأفة الجو وضحكات
الندى ورغم غنج العنب وتهافت الذكريات، كان هناك الصدى، وهو الوفي
وصاحب صاحب الصوت وراسم حدود المدى، فمع كل نقرة ليل كانت الريح توشوش
في آذاننا ببحة سيد الكلمات وناحِتِها، فتقول: «عندما تريدون الرحيل،
ارحلوا.. لكن لا تعودوا، كونوا للرحيل أوفياء، لعلنا نكون أيضا
لنسيانكم مخلصين».
واليوم يقلّ المخلصون. فها هي الذكرى تمضي وكأنها خدش طفيف على جسد
فلسطيني منهك. قد تكون زحمة الحوادث المأساوية وراء هذا «النسيان غير
المخلص» أو هو الرصاص يلعلع في مطارحنا فيقتل فينا الحاجة للوفاء لمن
أسقانا في حياته الشهد ووشم على صدورنا صلبان النور، أو ربما هي
السليقة المطبوعة في هويتنا الناقصة فهي «ما زالت قيد التأليف» وتعاني
من تشوّهات مستفزة حتى الغضب.
لن استرسل في تعداد قائمة الأسباب التي أدت الى هذا النكران المتفشي في
أوساط ثقافية أو مؤسساتية أو أكاديمية أو فردية، كان من واجبها، أو على
الأقل هكذا كان يتوقع منها، أن تحتفي «بالشاعر»، هكذا بال التعريف،
وبتراثه. إن الاحتفاء بقامة بحجم قامة درويش لا يكون من باب حاجة البشر
لاحترام قيمة الإبداع، وواجبهم تجاه من يتميز بها والوفاء لكبارهم
ولذكراهم، وحسب، بل لضرورة اغتنائهم والاستفادة، فائدة للعقل وللروح
طبعا، من تراثهم، وهو في حالة الدرويش تراث فريد وغير مسبوق في العصور
الحديثة.
لقد واجه محمود درويش في حياته عداوات شديدة وموجات تحريض ممنهجة
أحيانا أو فردية عرضية في أحايين أخرى. وعلى الرغم من أنه كان لا يعير
معظمها على الملأ اهتماما مفرطا وكان يهملها على الاغلب، فهو في
الحقيقة كان يتضايق منها ويغضب على مفتعليها، وبالأخص حين كان يعرف ما
هي حقيقة دوافع معظم من حاولوا الإساءة إليه. كان يزعجه أن بعض مَن
قادوا تلك الحملات أو من وقفوا خلفها كانوا يعدّون أنفسهم من المقربين
إليه أو حتى من حلقات «أصدقائه»، وكانوا في الواقع يمثلون شريحة واسعة
من المرائين والحاسدين من جهة، والمفسدين الاجتماعيين من جهة أخرى.
إنهم بخلاف من تعمدوا الإساءة لدرويش لأسباب سياسية أو عقائدية دينية،
يُعدّون، وهكذا كان يعتبرهم هو في حياته، أسوأ شريحة من مدّعي الثقافة
وأخطرها على تسميم فضاءات الإبداع السليم، وزعزعة روح الشعب حيال عملية
الإنتاج الفكري والأدبي، وضرب مشاعر التكاتف في زمن ما زالت فيه فلسطين
بحاجة لجميع ضروب التكاتف الذي يجب أن ينتعش، رغم التنافس، ضمن هوامش
حرية الإبداع.
لقد شكّلت مسيرة محمود درويش الأدبية ومشروعه الشعري والنثري تجربة
فريدة؛ وتحوّلت، خلال مراحل تطورها وارتقائها في سلم الإبداع الإنساني،
الى نوع من «التحدي العصي» على سائر المتعاطين بفنون الشعر والأدب.
أقول ذلك ليس لأنني ناقد أدبي، بل لأنني عايشت تلك الظاهرة كمتابع يحب
الأدب الجميل، وكنت ألاحظ كيف تتعاطى معها جمهرة من المثقفين، العرب
والفلسطينيين، خاصة الشعراء منهم والأدباء. فكثيرون حاولوا، عن دراية
أو بدونها، تقليد أشعار الدرويش، من حيث الشكل والمضامين، فسقطوا
بالتجربة. وآخرون حاولوا الابتعاد عنها حتى الجفاء، فسقطوا هم أيضا
بالتجربة. بكلمات أخرى، لقد فرضت تجربة محمود درويش الأدبية مقاييس
إبداعية وجمالية آسرة وطاغية حتى صار اتباعها أو الفكاك منها ورطة على
الحالتين. من هنا أستطيع أن أتفهم بعض الشعراء والأدباء المصابين
«بعقدة الدرويش». لكنني لا أبرر لبعضهم الانتقال من موقع الغيرة
والاجتهاد الى موقع الغيرة والتفتيش عن «مثالب» الشاعر وعثراته كما
حاولوا خلال حياته ويحاول بعضهم بعد رحيله.
يزعجني أن اقرأ من حين لآخر «اكتشافات» جديده تنسب لمحمود درويش، سواء
عن فعل يُدّعى أنه قام به أو قول قاله. وحين أفتش عن موجبات ذلك لا أجد
خيرا في نشرها لا سيما بعد موته، بل الإساءة المتوقعة لاسم محمود درويش
ولمكانته التي، بالرغم من جميعها، سيحفظها له التاريخ في سجل الخالدين.
قد يقرّ البعض بحق هؤلاء في التعبير والكتابة باسم حرية النشر وحرية
الرأي والتدقيق الأكاديمي، وأنا أيضا أقرّ بالحقّين طبعا، لكنني أخشى
من نوايا بعض المستفيدين منهما، فليس جميعهم ينتمون لصفوف هذه «المدارس
الليبرالية» ولا يؤمنون حقا بهذه الحريات، لذلك علينا التفتيش عن حقيقة
دوافعهم. وإذا وضعنا محاولة البعض التعمشق على قامة محمود وتجريحها، أو
أولئك الذين يبغون تصغيره كي يجدوا لأنفسهم مكانا في «بانتيون»
الشعراء، أو غيرهم ممن يحاولون الاستئثار بخبر صاعق لجلب الانتباه
والنظر؛ إذا استبعدنا، جميع هؤلاء، فسيبقى الجزء الذي ينتمي لفرق
مكلّفة بتشويه رموز شعبنا وخلق البلبلة حول مكانتهم وحجمهم، التي يتوحد
حولها الشعب بكل فئاته وانتماءاته، وتشكّل عمليا أحد مركبات الهوية
الجامعة وصمغ الشعوب الناضجة، وفي حالتنا، الهوية الفلسطينية العربية
العلمانية الإنسانية الجامعة. هؤلاء يخيفونني ويجب أن نواجههم، فهم
يحاولون ليس تشويه الرموز فحسب، بل يفعلون ذلك ضد مؤسساتنا الوطنية
والقيادية وقياديّيها التاريخيين أو الحاليين.
في صبيحة اليوم التالي غادر محمود درويش فلسطين ليعود اليها في كفن،
وتبقى روحه فيها الى الأبد. وأنا هنا أعيش مع سطوة الندم وأتذكر ما
قاله بوجع: «لو كان لي قلبان لم أندم على حب، فإن أخطأت قلت: أسأت يا
قلبي الجريح الاختيار وقادني القلب الصحيح الى الينابيع». ما زلت أذكر
كيف ودعته حينها ودبّ البرد في الكفّين، ولوّحنا بكفينا وشيء طاف في
العينين»، فهل يُغضب كلامي أحدا ؟ فليَغضب!
كاتب فلسطيني
التطبيع… التباسات فلسطينية…
آمال المثلوثي ونادي الوحدات
جواد بولس
ما زالت تداعيات حدثين محليين تلاحقنا، وتثير بيننا مجددا عناصر
الالتباس حيال مسألة تحريم التطبيع الثقافي مع إسرائيل؛ فالحدث الأول
تمحور حول الانتقادات الشديدة التي رافقت زيارة الفنانة التونسية آمال
المثلوثي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإصرارها على إحياء عدة
حفلات في مدينتي رام الله والقدس، بينما اضطرت، في النهاية، لإلغاء
حفلها في مدينة حيفا، خاضعة لضغوطات بعض الجهات التي تنادي بضرورة
مقاطعة إسرائيل ثقافيا.
أما الحدث الثاني فيتعلق بنادي الوحدات الرياضي الأردني، الذي أعلنت
إدارته قبل أيام معدودة أن لديها «توجها بعدم المشاركة في مباراة ضد
فريق شباب الأهلي الإماراتي في الملحق المؤهل لدوري أبطال آسيا لكرة
القدم لوجود شبهة تطبيعية»؛ والمقصود بهذه الشبهة هو مشاركة اللاعب
الفلسطيني مؤنس دبور ابن مدينة الناصرة، المحترف حاليا ضمن صفوف النادي
الأهلي الإماراتي، حيث سبق له وشارك كلاعب دولي ضمن منتخب إسرائيل. لقد
أرجأت إدارة نادي الوحدات حسم قرارها في آخر اجتماع لها، لبحث تفاصيل
هذه المسألة «بطريقة فنية وتفصيلية أكثر» كما جاء في الأخبار.
هناك اعتباطية قاسية أحيانا في نشاطات لجان المقاطعة، وملاحقاتهم لبعض
الفنانين والأدباء الذين يقررون المجيء لفلسطين للوقوف مع أهلها
والتضامن معهم
ما زالت مسألة تحريم التطبيع مع إسرائيل تخضع «لعادات وموروث قبائل
العرب»، حيث لن نجد حولها إجماعا عريضا، من شأنه، لو وجد، أن يسهم في
تحويلها إلى قضية موحِّدة ومؤثرة؛ ونجد في المقابل، أن بعض الفئات من
الناشطين السياسيين الراديكاليين، استغلوا الأوضاع العربية الراهنة
وتدهور الحالة السياسية والاجتماعية في معظم الدول العربية والإسلامية،
وغياب أو ضعف مكانة الحركات الوطنية المركزية، وشل دور الصفوة والنخب
وإخمادها، وعيّنوا أنفسهم أوصياء على وضع المساطر التعريفية لمعاني
التطبيع، وقواعد تحريمه، ثم أعطوا لأنفسهم الحق بإصدار صكوك الغفران
للناس، أو دمغهم بختم المطبّعين، كما حصل في السنوات الأخيرة، عندما
تدخلت هذه الفرق، ولاحق زعماؤها فنانين ومثقفين جاءوا إلى فلسطين
للمشاهدة والتعلم وللتضامن. تختص لجان مناهضة التطبيع مع إسرائيل في
تحريم التطبيع الثقافي، بينما لا يلاحق القيمون عليها المطبّعين في
المجالات والميادين الأخرى، وهي في الواقع الميادين الأخطر والأكثر
تأثيرا في مصير فلسطين وفي مصالح شعوب الدول العربية، فأصول تحريم
التطبيع بدأت سياسية وتبنتها علنيا أنظمة الحكم في الدول العربية
والإسلامية والعالمية الحليفة؛ وهذه المقاطعة السياسية استوجبت
بالضرورة، لعقود طويلة، المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، أو الكيان
الصهيوني، كما كانوا يدعونه، وكذلك المقاطعة العسكرية والأمنية؛ ثم
كانت المقاطعة الثقافية بمثابة تحصيل حاصل، ومثلها مقاطعة مؤسسات
المجتمع المدني وجمعياته. لم يعد هذا الواقع قائما؛ وجميعنا يعلم كيف
ومتى انخلعت جميع السدود، ومتى سقطت قلاع المقاطعة، علنا أو في السر،
حتى أصبح، على ما يبدو، التشبث بالمقاطعة الثقافية هو الخيار اليتيم
المتاح والشعار الأسلم لمن يرفعونه ويتشددون بضرورة إنفاذه؛ لأنه، بكل
بساطة، يستهدف الأفراد – من فنانين وكتاب وشعراء ومهنيين خاضعين
لنقابات قادرة على محاسبتهم كالكفرة وكالمرتدين- ولا يتعاطى مع أنظمة
الحكم القوية أو المستبدة، ليست المطبعة مع إسرائيل وحسب، بل المتحالفة
معها، ولا يتعاطى كذلك مع أصحاب رؤوس المال المتشابكين مع أقرانهم
الإسرائيليين في الأسواق العالمية، أو من خلال الشركات المتعددة
الجنسيات، أو عن طريق عالم المصارف، وغيرها من أدوات إدارة شؤون العالم
ودوله.
لا اعترض على حق من يعمل على جبهة معارضة التطبيع الثقافي مع إسرائيل،
أو يواجه بسببها المحاسبة، كما في حالة اللاعب مؤنس دبور وفريق الوحدات
الأردني؛ لكنني، كما كتبت مرارا في الماضي، أوكد مجددا أن هنالك
اعتباطية قاسية أحيانا في نشاطات تلك اللجان، وفي ملاحقاتهم لبعض
الفنانين والأدباء الذين يقررون المجيء لفلسطين للوقوف مع أهلها
والتضامن معهم من على أرض الوجع والنزف؛ فتلك اللجان تعلن أن نضالها
موجه من أجل مصلحة فلسطين وأهلها. وإذا كان هذا هو الهدف، فلتكن مصلحة
فلسطين وأهلها هي المسطرة التي يجب أن تخضع لها قراراتهم وتقيّم بحسبها
مآلاتها. لقد قرأت لوائح لجان المقاطعة وناقشت بعضها في الماضي؛ ومع
احترامي لمن وضع نصوصها ومعاييرها، سواء عندنا في الداخل أو في فلسطين
المحتلة، أو في تونس، أو في عمان، فهي مليئة بالشعارات أو بالتناقضات،
أو بالمعايير الملتبسة والقابلة للتأويل والمساءلة. لن أدخل في
التفاصيل الآن، فالتطرق إليها سيدخلنا في متاهات لسنا بحاجة إليها.
وبعيدا عن الشعارات والتنظير أنا أومن بأن من يأتي خيامنا مناصرا حقنا
دون قيد أو شرط، أو دون مداهنة لإسرائيل ولمؤسساتها، وداعيا على
الاحتلال وعلى جلاوزته وزارعا الأمل والجمر في رماد حرائقنا، وماسحا
الدمع بشغاف قلبه من عيون أطفالنا، لا يمكن أن نعتبره مطبّعا، وأن
نزيله من قواميسنا؛ بل هو مناضل نظيف ونصير للحق، بالقول وبالفعل. هكذا
كانت التونسية آمال المثلوثي التي جاءت القدس وفي صدرها أنهار من لهفة
وحب، وحملت في يمينها راية فلسطين وصوّبت سبابة يسراها نحو عين العدو،
وظللت سماءها بالندى وبالكوفية المرقّطة، وغنّت بحماسة وبشجن كما غنى
الإمام: «يا فلسطينية، وانا بدي أسافر حداكو، ناري بايديّ وايديّ تنزل
معاكو على راس الحية وتموت شريعة هولاكو..» فاهتز الشيخ والرمح والحجر.
لا أعرف من وضع النصوص الخاصة بتحريم التطبيع الثقافي مع إسرائيل، سواء
في تونس أو في فلسطين، لكنني على قناعة، إذا كان الهدف هو مصلحة فلسطين
وشعبها فهذا ما حققته آمال التونسية بيننا، فلها من فلسطين وأهلها كل
الحب والتبجيل، مع أنني تأسفت لأنها آثرت ألا تحيي حفلها في مدينة
حيفا؛ وحيفا، في هذه المقاربة الجميلة، هي أخت للقدس ورام الله، ولكن
هذه قصة أخرى قد نعود إليها.
قبل خمسة أعوام نقل على لسان اللاعب محمد صلاح تصريح مفاده أنه سيترك
فريقه، ليفربول، اذا تعاقدت إدارته مع اللاعب مؤنس دبور، وكانت حجته
وقتها السبب نفسه الذي تطرقت إليه اليوم إدارة نادي الوحدات الأردني.
أستطيع طبعا أن اتفهم تساؤلات اللاعب صلاح، إذا فعلا حصلت حينها،
وأستطيع أن أتفهم أيضا تردد نادي الوحدات حيال مشاركة اللاعب دبور في
منتخب إسرائيل لكرة القدم، ورغبتهم في استيضاح بعض التفاصيل الفنية
والتقنية؛ لكنني لن أتفهم موقفهم إذا أفضى في النهاية إلى مقاطعة دبور،
أو أي فريق يلعب فيه. لقد كتبت يومها رسالة مفتوحة لمحمد صلاح حاولت أن
أبدد فيها شكوكه إزاءنا، نحن المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل،
وإزاء هوية مؤنس دبور الفلسطينية الإسلامية؛ وحاولت كذلك أن أضيء أمامه
ما خفي عن علمه، وأن أوضح له ما جهله عن واقعنا المعقد والملتبس. ما
قلته في حينه لمحمد صلاح ما زال جيدا اليوم ومناسبا أكثر أمام الأخوة
في نادي الوحدات لأنهم أبناء الجرح الفلسطيني، وحراس التغريبة
الفلسطينية التي حرسها على الضفة الأم، أهلنا نحن، ويحرسها اليوم نحن
الباقون في حلق القدر. تجهل العرب قصتنا، نحن المنزرعون في وطننا،
والجهل كان مطبوعا في نفوس أشقائنا، أما أنتم، يا اخوتنا في التراب،
فيجب أن تعرفوا فصول الحكاية، كل الحكاية. ولعل النائب في البرلمان
الأردني خليل عطية قد ذكّركم بها قبل أيام، حين توجه إليكم من غيرته
عليكم وعلى مصلحة القضية ناصحا وقائلا: «’شعرت بالقلق مثل غيري من
الحريصين على مسيرة نادي الوحدات، جراء التقارير التي تتحدث عن سيناريو
مقاطعة المباريات مع فريق إماراتي بسبب وجود اللاعب الفلسطيني مؤنس
دبور. وأربأ بالأخوة والأحبة في نادي الوحدات إثارة شبهات الجمهور بناء
على افتراضات تساوي بين الجلاد الصهيوني الإسرائيلي والضحية من أبناء
شعبنا الفلسطيني.. إن اللاعب دبور فلسطيني عربي أبا عن جد، ولا يمكن
بحال من الأحوال خدمة العدو الإسرائيلي والإساءة لأهلنا من أبناء
فلسطين المحتلة عام 1948.. اللاعب مؤنس دبور مثل غيره «نجم فلسطيني» في
قلب الكيان، وله سمعة رياضية احترافية طيبة ومواقف وطنية مسجلة
ومعروفة، انتهت عند اعتزاله اللعب لصالح فرق العدو ووجوده على رأس فريق
عربي شقيق خدمة للمحترفين من أبناء شعبنا الفلسطيني». لقد وضع بيان
النائب خليل عطية معظم النقاط على حروفها، وشدد في بيانه الشامل على
تعقيدات واقع الشباب الفلسطيني داخل إسرائيل وعلى معضلات التناقض
الهوياتي وتجاذباته الدائمة بين المواطنة والوطنية. ما كتبه النائب
عطية مهم للغاية وفي توقيت مناسب، بينما من المؤسف والمزعج أن نقرأ
موقف بعض المنظرين الذين كتبوا في مسألة التطبيع، وحول حدود مواطنة
مؤنس دبور ووطنيته الناقصة بسبب قبوله أن يكون لاعبا في منتخب إسرائيل،
وهم بأنفسهم يعملون في جمعيات ومؤسسات ومعاهد دراسات ممولة من جهات
تصنّع التطبيع وحليفة لإسرائيل، وبعضهم يعتبرون من أقرب شركائها في
التخطيط والتربص بالشعب الفلسطيني وبقضيته. إنهم وكلاء التطبيع غير
المباشر وبُناته الخطيرون. عنهم وعن نظرياتهم في التطبيع والتتبيع
سأكتب.
لقد تعلمنا في فلسطين، بعد أن أضعنا حلم البرتقال وفككنا ضفائر عذارانا
على باب خيمة، أن نكون واقعيين مثل رائحة الزعتر، وأن نصغي دائما
لحدسنا، وأن نأخذ حذرنا من المزايدين والمغرضين والمتلفعين بالثقافة
المبهرجة. فأهلا بالتونسية والتحية للوحدات.
كاتب فلسطيني
النووي الإسرائيلي والنبي
إيليا في ظل حكومة توراتية
جواد بولس
كنت أحاول الهروب من الكتابة عن مخاطر الفاشية الإسرائيلية بعد أن
«إنهرت فشّتي» – كما نقول عندنا في فلسطين في وصف حالة التعب الحافي أو
منتهى اليأس – من كثرة ما كتبت عبثا عنها وضدها وكيف علينا أن نواجهها.
حاولت حتى جاءتني رسالة من صديق، محرر صحيفة «حيفا» يقول فيها: «نحن في
الصحيفة نجري استطلاعا حول الردود على الاعتداءات على دير مار الياس،
وهل تشعر بخطر حقيقي وماذا تقترح لحل الأزمة؟»، عندها عرفت أن لا هروب
من واقعنا، فكل الطرق في فلسطين تؤدي إلى طاحونة الفاشية؛ وفكّرت أننا
جميعنا، لا العرب المسيحيين فقط، كما يفهم من سياق الاستطلاع، في خطر
حقيقي. وإذا كان للكنائس وللأديرة أنبياء يحمونها، فمن سيحمي الناس من
حماقة متعصب أعمى يمسك في يمناه توراة وفي يسراه يتحكم في ترسانة
نووية؟
كما كان متوقعا، نجحت الحكومة الإسرائيلية بتمرير تعديل «قانون أساس
القضاء» وتعطيل قدرة استناد المحكمة العليا إلى «حجة المعقولية» في
تبريرها لإلغاء قانون حاز أكثرية داخل الكنيست، إذا وجدته المحكمة
يتنافى «وأحكام المعقولية»، أو عند أبطالها لمفعول قرار إداري يرونه
القضاة «غير معقول».
يتفق جميع معارضي خطة الحكومة المعلنة على أن هذا التشريع في حالة
بقائه، كما أقر، سيفضي عمليا إلى إجهاض دور المحكمة العليا في تأدية
وظيفتها كسلطة مستقلة تحرص على عدم السماح للسلطتين التنفيذية
والتشريعية أحيانا، بالمساس بحقوق المواطنين عامة، أو بحقوق الأقليات
أو بعض الفئات التي لا تعدّ على معسكر الأكثرية الحاكمة. «تشليح» هذه
الصلاحية من المحكمة العليا سيتيح لهذه الحكومة أن تنفلت وراء أهوائها
السياسية، وأن تنفذ مخططاتها دون كوابح قضائية، كانت المحكمة العليا
تعتمدها خلال العقود الفائتة في سبيل ضمان التوازن بين قوة الحكومات
الكبيرة، لاسيّما في مثل حالة الحكومة الإسرائيلية الراهنة، التي
تسندها أكثرية برلمانية يمينية متعصبة مطلقة ومستقرة، وبين ضرورة
المحافظة على القيم الإنسانية المجمع عليها عالميا وحقوق المواطنين
الأساسية. لست في معرض التطرق إلى جميع عواقب الانقلاب الحاصل داخل
إسرائيل، فتأثيره الواضح على جميع مناحي حياة المواطنين في الدولة
سيكون ملموسا وكبيرا؛ لكنّه سيكون كارثيا علينا، نحن المواطنين
الفلسطينيين، فاقتصاديا سوف تتدهور حالة مجتمعاتنا على المستويين
الجمعي والفردي على حد سواء، وسياسيا سوف تضيق جميع الهوامش المتاحة
لنا اليوم، أو حتى سوف تسدّ بشكل نهائي وسنشهد موجات من الاعتقالات
التعسفية والإدارية. أما مجتمعيا فسوف تتكاثر مظاهر الجريمة والعنف
والفقر وستزداد مشاعر الاضطراب والخوف وفقدان الشعور بالأمن وبالسلم
المجتمعي. ودينيا سوف تزداد أنشطة «كتائب أليشع» وعنفهم ضد جميع
الأغيار والمؤمنين من جميع الديانات غير اليهودية وضد أماكن عباداتهم
.لن تنحصر عواقب الانقلاب الجاري داخل المجتمعات الإسرائيلية وحسب؛
فتأثير مفاهيم النظام الجديد حيال الحق اليهودي الرباني والفريضة
بتحصيله، مهما كانت الوسائل والنتائج، سيؤثر أيضا في تعاملهم مع قضية
مستقبل الشعب الفلسطيني وقياداته، وعلى أدوات إدارة صراعهم مع
الفلسطينيين بشكل عام. وستتأثر كذلك معايير وضوابط العلاقات
الإسرائيلية مع جميع دول العالم، الصديقة منها أو الحيادية أو
المستعداة؛ وهذه مسألة تستوجب المتابعة بانتباه شديد، خاصة في هذه
المرحلة الدقيقة التي يعيشها اليهود في جميع أرجاء العالم. لقد تطرق
بعض المسؤولين في الدول الغربية وفي أمريكا ببيانات أشاروا فيها إلى
المشهد الإسرائيلي بتعابير عامة، وتمنوا على قادة إسرائيل، من أجل
حماية مصالحهم المشتركة، المحافظة على ما يعتبرونه ديمقراطية نظامها،
وعدم المساس باستقلالية القضاء الإسرائيلي، وغيرها من الشعارات
الفضفاضة والحذرة. لكنهم، لم يخفوا، في الوقت نفسه، خشيتهم من زعزعة
الأسس والجسور التي بنيت عليها تلك التحالفات مع إسرائيل واستمرارها،
رغم تعاقب الحكومات فيها على الحكم واختلاف تركيبات أحزابها السياسية.
بات من الواضح أن تلك الأنظمة الصديقة لإسرائيل بدأت تشعر بأن شيئا
مغايرا ومزعجا قد أصاب حليفتهم المدللة بعد الانتخابات الأخيرة، التي
أفرزت أحزابا متطرفة ومتعصبة لا يهمها قطع أحبال السرة التي كانت
تربطهم بها تاريخيا. لن أسهب في تعقيدات هذه المسألة لكنني أريد أن
ألفت النظر إلى جزئية خطيرة واحدة منها يحاولون في إسرائيل، وليس فيها
وحسب، أن تبقى في الظل وألا تنعكس في نقاشات الشوارع وبين المتظاهرين
ولا على شاشات فضائياتها. إنها قضية «الترسانة النووية الإسرائيلية»
ومصيرها إذا تنفّذ فيه وزراء الحكومة الحالية بشكل حر ومطلق. لقد حاول
رئيس حكومة إسرائيل الأسبق إيهود باراك، وهو من أشد المعارضين لحكومة
نتنياهو الحالية، تسليط الضوء على هذه القضية مرة واحدة قبل مدة قصيرة
فغرد على صفحته قائلا: «قد يظهر هذا الأمر بالنسبة لنا كأنه هوس، ولكن
في عدة محادثات جرت بين إسرائيليين وجِهات سياسية غربية، ظهرت بينهم
حالة قلق عميق من احتمال نجاح المنقلبين على منظومة الحكم وقيام
«ديكتاتورية مسيحانية» في قلب الشرق الأوسط، تحت إمرتها سلاح ذري،
بينما يتمنى مهووسوها التصادم مع الإسلام وفي مقدمته «هار هبايت» (أي
المسجد الأقصى). هذا أمر مرعب في نظر هؤلاء الساسة الغربيين. وهذا لن
يحصل». هكذا كتب إيهود باراك بشكل واضح وصريح، ومن مثله يعرف عما يتكلم
وأي خطر كارثي يتوقع. نستطيع أن نخمّن لماذا بقيت هذه المسألة طي
الكتمان؛ لكنها، برأيي، لن تبقى هكذا ويجب ألا تبقى هكذا إلى أجل غير
مسمّى؛ فهل سيأتي من سينتشلها من «هناك» وينقذ المنطقة من فقه قادة
قلعة «متسادا» الجديدة.
بات من الواضح أن الأنظمة الصديقة لإسرائيل بدأت تشعر بأن شيئا مغايرا
ومزعجا قد أصاب حليفتهم المدللة بعد الانتخابات الأخيرة التي أفرزت
أحزابا متطرفة ومتعصبة
هل نحن في خطر؟ إذا كان القصد كمواطنين عرب مسيحيين في إسرائيل،
فالجواب نعم؛ لكنّه الخطر نفسه الذي يواجهه كل مواطن فلسطيني يعيش في
إسرائيل؛ فمسيحيتك لم ولا ولن تمنحك الحصانة أمام من وفق عقيدته
السياسية يراك أولا عدوه القومي، ثم يحسبك، دينيا، مخلوقا خسيسا
ومنقوصا، ويتمنى في صلاته ودعائه أن يمحى اسم وذكر مسيحك الآن وإلى
الأبد. من يتحرشون بالكنائس ومعلّموهم وحاخاماتهم على قناعة بأن
مسيحيتك، مهما كانت وديعة، لن تنقذك من نارهم إذا صفت لهم النار. لم
يكن التحرش الأخير بكنيسة مار الياس على الكرمل أول تحرش هناك؛ فقد
سبقته تحرشات أخرى ومرّت في النهاية «بود وبسلام». وكانت قبلها
اعتداءات على كنائس في عدة مواقع في البلاد تم في بعضها حرق الكنيسة،
وأحيانا الاعتداء على الكهنة ومن وجد في المكان. يتحرك جميع المعتدين
على الكنائس المسيحية بدوافع عقائدية دينية مدعومة بتعاليم التوراة،
وأحيانا يتذرعون بحجج كاذبة أو مختلقة ليبرروا أفعالهم، مثلما ادعوا،
لتبرير تحرشهم بكنيسة مار الياس، بوجود قبر، أو مغارة للمدعو أليشع،
وهو النبي الذي استخلفه النبي إيليا قبل صعوده إلى السماء بمراكب
النار، حسبما ورد في قصص العهد القديم. أنه الادعاء ذاته الذي استخدموه
عندما احتلوا قبور منسوبة للأولياء وللصالحين أو مزارات مزعومة
للأنبياء من أعالي الجليل حتى رمال النقب، مرورا بجميع أرض فلسطين
التاريخية تضاف إليها مطامعهم في عدة مواقع موجودة في المملكة الهاشمية
الأردنية.
ما العمل؟ هو السؤال الذي طرحته في عشرات المناسبات وقصدت ما العمل في
مواجهة الفاشية والفاشيين، ولكنني لن أتعاطى معه اليوم. أما في ما يخص
العمل لإنقاذ المسيحية العربية في فلسطين، فهذه مهمة خيالية ليس إلا.
فكما كتبت في الماضي أوكد اليوم أن الفلسطينيين المسيحيين قد هزموا في
وطنهم عمليا ولم يعودوا يشكلون كيانا ذا شأن أو وزن، ولا يحسب لهم حساب
يتعدى ضرورات البروتوكول أحيانا أو التقليد المتبع أو التعويض بهدف
إبقاء أثر لهم يربط هذه الكنائس مع بدايات المسيحية وآبائها الأوائل،
الذين حافظوا عليها في مهدها، أرض فلسطين والمشرق العربي. علينا أن
نتذكر أن عدد المسيحيين العرب في إسرائيل يناهز المئة وعشرين ألفا
موزعين على حوالي سبع عشرة كنيسة، يشكل أتباع الكنيسة الكاثوليكية،
صاحبة كنيسة «مار الياس» المعتدى عليها، نصفهم تقريبا. لن أسهب في
تشخيص مسببات حالة النكوص وعدم التفاعل المثابر والجدي والحقيقي من أجل
حماية الكنائس وممتلكاتها، لكنني على قناعة بأن هذا النكوص هو جزء من
الحالة العامة التي يعاني منها المواطنون العرب في إسرائيل، وهي كذلك
نتيجة كوننا، نحن المسيحيين المحليين، مستعمرين من رؤساء كنائس أجنبية
سرقوا في الماضي مسيحنا ثم استولوا على فضاءاتنا وسادوا فيها في أجواء
من الاستعلاء الاستعماري واغترابنا المزمن عنها، وغيابهم حين تقع
الواقعة في دهاليز الدبلوماسية ومصالحهم الضيقة. وأخيرا، يجب أن نقرّ
بأن الدفاع عن هذه الكنائس والأديرة لا يمكن أن يكون جدّيا ومجديا إذا
لم يسبقه ويرافقه دفاع آباء هذه الكنائس وإكليروساتها عن ممتلكاتها
وأوقافها وإذا لم يوقفوا التفريط بها وتغييب مصالح الرعايا الحياتية.
هل من حل لهذه الأزمة؟ ربما، فعلينا بالفاشية أولا، وليكن النبي إيليا
للمؤمنين سندا ومراكبه مملوءة صبرا وحكمة ونورا.
كاتب فلسطيني
طريقنا الثالث يمر
في (قصبة كركور)
جواد بولس
ما زالت الاحتجاجات الشعبية ضد حكومة بنيامين نتنياهو مستمرة؛ ورغم
أنها قد تبدو، للمراقبين من بعيد، كحركة ثابتة النبض والتأثير، إلا
أنها في الحقيقة ليست كذلك. فإن عدنا إلى بدايات تلك الاحتجاجات
وقارناها مع ما نشاهده هذه الأيام، سنجد الفوارق كثيرة وأهمّها، ما
بدأت تتناقله فضاءات تلك الاحتجاجات إزاء مفهوم الديمقراطية، والتفات
قطاعات واسعة من القوى المشاركة فيها إلى أبعاد جديدة لحقيقة التغيير
المنشود في السياق الإسرائيلي الحالي، واكتشافهم أن الالتصاق بقشرة
شعار الديمقراطية وحده لن يحررهم من أهوال نظام الحكم، الذي خرجوا
للشوارع ضده. ولكي يسقطوا هذه الحكومة ويعيدوا بناء إسرائيل
الديمقراطية لا بدّ لهم من تطوير وسائل نضالية مبتكرة، وسكب مضامين
جديدة في عروق مواجهتهم للحكومة وأحزابها.
لا أقول هذا من باب التمني وحسب، بل من قراءتي ومشاهدتي لتداعيات
المشهد السياسي الإسرائيلي وما طرأ عليه من تصعيد متبادل بين المعسكرين
في الأسابيع الأخيرة. فمن جهة نرى مثابرة مئات آلاف المواطنين اليهود
على الاحتجاج وإصرارهم على إسقاط «طغم الفساد والعنصريين والفاشيين
والمدانين الجنائيين» ومن جهة أخرى نرى تحشيد الشرطة لعناصرها ولفرق
حرس الحدود وكتائب أخرى من أجل قمع المتظاهرين والاعتداء عليهم بعنف،
أدى إلى إصابة واعتقال العشرات منهم. ما نراه اليوم في شوارع المدن
الإسرائيلية وعلى مفارق الطرق الرئيسية لم نره من قبل، وصور المواجهات
وارتفاع منسوب الكراهية بين المعسكرات تنبئ بالآتي، وتمدد المظاهرات
لعدة مواقع جديدة وانضمام شرائح وازنة لها، خاصة من سلاح الطيران
والقطاع الصحي وغيرهم، ولغة المتظاهرين وشهاداتهم حيال قمع الشرطة لهم
وحقدها عليهم، تعيد البعض، بشكل عفوي وطبيعي، لأصول هذا العنف
الاسرائيلي ومنابته، وهي الاحتلال والسياسة العنصرية. لم يكن هذا
الربط، مع بداية الاحتجاجات، واضحا ومفهوما بشكل ضمني عند أكثرية
المحتجّين، بيد أنه تعرّى بالتدريج أمام بعضهم، مع اشتداد المواجهة
وسقوط جميع أقنعة الاضطهاد والعنصرية، وتكشف أنياب الفاشية التي لا
تقبل حليفا حتى باليهودي الصهيوني، ما دام لا يتوافق مع مخططها ولا
يطيع أوامر وعقائد أربابها.
الحديث عن الاحتلال كمستنقع تنمو فيه جميع شرور إسرائيل صار مسموعا في
العديد من المنصات والمنابر ولن يضيرنا لو انتبهنا أن بعض من كانوا
أعداءنا صاروا قربنا
تمتلئ الصحف العبرية ومنصات التواصل بمقالات الرأي وبالشهادات حول
مخاطر حكومة اليمين الحالية، وتزخر بالأخبار التي تنقل الأحداث على
حقيقتها، ورغم كثرة هذه المواد سأشرك القراء بخبر ظهر بعنوان بارز لفت
انتباهي في جريدة «هآرتس» العبرية يوم الأربعاء الفائت؛ إذ تطرق الخبر
لمظاهرة جرت على مفرق «كركور» – وهي مدينة صغيرة تقع بين مدينتي حيفا
والخضيره – خلال أحداث ما سمته قيادات الاحتجاج بيوم «الغضب
والتشويشات». نقلت الجريدة بالبنط العريض تفاصيل حادثة، قمعت فيها
عناصر الشرطة والأمن بالعنف مظاهرة شارك فيها ألفا مواطن يهودي. اختارت
الجريدة عنوانا لافتا للخبر أفاد، كما وصفت إحدى المشاركات في
المظاهرة، بأن الشرطة «جاءت كي تسيطر على «قصبة» كركور، فاعتقلوا ستة
عشر متظاهرا وجرحوا سبعة». سيمر معظم القراء على هذا النبأ دون أن
يعيروه اهتماما خاصا، وكنت أنا سأفعل مثلهم لولا خصوصية هذه الأيام،
وكيف تجري عملية تشكل مواقف المواطنين في إسرائيل وماذا يؤثر فيهم. لقد
استعارت هذه الناشطة من قاموس الاحتلال، سواء عن وعي أو بدافع من عقلها
الباطني، تشبيه «القصبة» وأسقطته على بلدتها بكل ما يعكسه ذلك عن حالة
تكوين جديدة يمر بها عقلها، ستجعلها تقف في المستقبل القريب على ضفة
الصراع الصحيحة وإلى جانب عالم القيم السليمة. إنها تعرف كيف كان
«إخوتها في السلاح» يتصرفون ضد المواطنين الفلسطينيين الساكنين في
قصبات المدن الفلسطينية، وهي الأحياء القديمة المكتظة بالفقر
وبالفلسطينيين، التي يقتحمها الجيش الإسرائيلي بوحشية ويعيث فيها
الدمار والدم. وهي تعرف أن تشبيهها لهجوم الشرطة على المتظاهرين اليهود
هو غير دقيق وغير صحيح، فشتان بين الثمن المدفوع من قبل الضحايا في
الحالتين، لكنها بلجوئها لهذا الكلام أرادت أن تؤكد، لنفسها أولا ولمن
يقف معها في الخندق نفسه، أن الشر منبته واحد، وأن العنف أبوه واحد وأن
قصّابا في نابلس لن يكون بائع ورد في الخضيرة، أو في صندلة أو في
كركور. قد يرغب البعض بتقزيم النبأ، وقد لا يولون الاستعارة، كما وردت
على لسان ناشطة بلغة غير مألوفة من قبل، أي رعاية واهتمام، لكنني مقتنع
أنها حالة لافتة، رغم صغرها؛ فالأمور الكبيرة قد تبدأ بأفعال صغيرة،
خاصة إذا كانت المسألة تتعلق بعملية تغيير شيفرات مسمّة زرعت في ذهون
قوم وكانت المسؤولة عن هندسة الاحتلال وحمايته وتزيينه بكل الذرائع
والمسوغات. هذه الناشطة ليست وحيدة، فالحديث عن الاحتلال كمستنقع تنمو
عليه جميع شرور إسرائيل صار مباحا ومسموعا في العديد من المنصات
والمنابر ولن يضيرنا لو تابعنا مناحيه، وانتبهنا إلى أن بعض من كانوا
أعداءنا تحوّلوا وصاروا قربنا وسط سيل غاشم. تريد الشرطة من خلال
لجوئها إلى القمع والعنف أن تردع هؤلاء المتظاهرين وأن تهزمهم ، وتتمنى
أن تئد هذه الولادات وهي في مهودها وقبل أن تتعاظم. وهم، المتظاهرون،
هكذا جاء على ألسنتهم في الخبر المذكور، لن يرتدعوا ولن يضعفوا؛ بل على
العكس تماما ، فكلما زادت الشرطة عنفها ازدادوا صلابة وإصرارا؛ أو كما
صرّحت تلك الناشطة لجريدة «هآرتس» بأنها «غير معتادة على العنف» ثم
أضافت، وكأنها تكشف لنا من أين سيأتي الوجع والخوف: «لكن أن ترى كيف
بلحظة تتغير عينا الشرطي الجيّدتان ويصبح الشرطي ظالما فهذا أمر مخيف.
لقد وجه الشرطي، سائق سيارة رش الماء، خراطيم سيارته نحو الشيوخ
والنساء والأطفال عندما كانوا يقفون على الرصيف. كان دفق الماء قويا
وكافيا للتسبب بجروح لا تشفى إلا بعد شهور. قلبي ينزف، لأنك في مثل هذا
الحادث تستوعب ماذا سيكون هنا غدا، في الصباح». تخاف هذه المرأة
اليهودية الصهيونية من الغد، لأنها تعرف أنه إذا تمكنت عناصر هذه
الحكومة وجيوشها من هزيمة معارضيها، ستتخلى عن خراطيم الماء التي لن
تطفئ نهمها، هي تخاف من الغد وتحارب كيلا يأتي هذا الغد، ومثلها يفعل
الكثيرون من جميع قطاعات وشرائح المجتمع الإسرائيلي؛ فأين نحن،
المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، مما يحصل، ونحن سنكون أوائل ضحاياه
المؤكدين؟
لا أعرف إذا كانت أية جهة بيننا تملك الجواب، أو إذا كانت قادرة ومعنية
بايجاد الجواب؛ فمعظم من تطرقوا إلى ما يجري في إسرائيل ومخاطره
المباشرة علينا، فعلوا ذلك من باب تشخيص الحالة ومسبباتها ونتائجها،
وانتهوا بإجماع إلى ضرورة مواجهة هذه الحالة، لكنهم لم يقترحوا كيف.
لقد قرأت حول هذه المسألة مؤخرا مقالين لافتين لاثنين من أكاديميينا
المميزين؛ ورغم أهمية ما خلصا إليه وما كتباه حيال عناصر المشهد
الاسرائيلي وعلاقة ذلك بنا، نحن المواطنين الفلسطينيين، لم يزودانا
بالتفاصيل، وتوقفا عند أول الطريق. في الثلاثين من يونيو الفائت نشر
الدكتور رائف زريق مقالا على صفحته بعنوان «احتلال كولونيالي للقانون»
وفيه يقدم تحليلا وافيا وعميقا عمّا يجري، وقراءة في طبيعة الحدث
الإسرائيلي المتمثل في مسعى نتنياهو لتغيير طابع الدولة. وبعد أن يأتي
على ذكر وجود موقفين ازاء المظاهرات التي تجتاح المدن الاسرائيلية، بين
معارضين لها ومؤيدين بشروط، يتساءل بدوره فيما إذا يوجد طريق آخر؟
ويجيب على ذلك بالإيجاب فيقول، «وإذا كان اليمين الفاشي يسعى لمصادرة
ما تبقى من الحد الأدنى من الحريات والضمانات القانونية، وإذا كان
المركز يسعى للحفاظ على الوضع الراهن بما يضمن الاحتلال والاستيطان
والفوقية اليهودية، فإن دور الفلسطينيين في إسرائيل هو طرح بديل ثالث
يسعى لتغيير الوضع الراهن نحو اليسار، أو نحو مشروع ديمقراطي يربط
الشكل بالمضمون ويربط سؤال الديمقراطية بسؤال الاحتلال وسؤال الداخل
بسؤال الخارج، فعلى الفلسطينيين أن يتحولوا إلى القطب الديمقراطي
الحقيقي في المعادلة». كلام مهم لكنه غير كاف؛ فكيف عليهم أن يفعلوا
ذلك؟ ومن سيأخذهم نحو ذلك الطريق الثالث؟ وفي أية ظروف وشروط؟ وتحت أي
مظلة؟ وما سيكون زادهم وما وجهة دعائهم؟ العناوين والخطوط العريضة
والمبدئية مهمة، لكنها لن تصبح قوارب نجاة، إذا لم ترفق بالتفاصيل فكم
مرة قتلتنا التفاصيل. أما كاتب المقال الثاني فهو الدكتور سعيد زيداني
الذي نشر على صفحته في السابع من هذا الشهر مقالة بعنوان «فيك الخصام،
وأنت الخصم، لا الحكم» استعرض فيها بإسلوبه المميز تفاصيل الحالة
الإسرائيلية ووضعنا كمواطنين نعاني في إسرائيل من سياسة الاضطهاد
وتفاقم حالات العنف والقتل، حتى وصل إلى خلاصتها فيقول: «يعرف العارفون
أن طريق نضالنا من أجل المساواة التام في الحقوق طويل وشاق ومتعرج..
ويتطلب قيادة حكيمة وقادرة على بناء تحالف داخلي، واسع وحاوٍ، وعلى
تجنيد الحلفاء/الشركاء دون تحفظ، وكذلك على تحديد أو إعادة تحديد
الأهداف والأولويات وطرق ووسائل النضال.. إن الرد المنشود يتطلب بناء
هذا التحالف الداخلي تماما كما يتطلب تصعيد النضال الشعبي وبإسناد من
الحلفاء الشركاء المعنيين من الطرف الآخر من أجل الدولة المحايدة، دولة
جميع مواطنيها، الدولة الملتزمة بمحاربة الجريمة». كلام مهم وجميل لكنه
يبقينا أيضا على تخوم التيه ودون خريطة طريق.
انا على اعتقاد ، وفق معطيات الحاضر، أن طريقنا الثالث يمر في «قصبة»
كركور .
كاتب فلسطيني
ماذا تعني الفاشية بالضبط
لفلسطيني مواطن في إسرائيل؟
جواد بولس
ما زالت تداعيات الاحتجاجات الشعبية الإسرائيلية ضد حكومة بنيامين
نتنياهو الحالية تحتل مساحات واسعة من نشرات الأخبار على مدار الساعة،
وتشغل، في الوقت ذاته، أقلام الخبراء وكتّاب المقالة في معظم المنصات
الإعلامية والبحثية والجرائد الرئيسية اليومية. ومهما حاول نتنياهو
ومستشاروه اختلاق الأحداث وتسليط الضوء عليها في مساع منهم لتغييب
مشاهد الاحتجاجات المستمرة، وإبعاد شعاراتها عن فضاءات الحياة اليومية،
وكتم أصوات المعارضين، خاصة أولئك الذين بدأوا يربطون بين تحقيق
الديمقراطية واستمرار احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، مهما حاول هو
وأعوانه إلا أنهم لم ينجحوا.
من الضروري أن نتابع كيف تتطور حركة الاحتجاج الإسرائيلية، التي ظهرت
في بداياتها كحركة عابرة جاءت لتطالب بالمحافظة على ديمقراطية الدولة
اليهودية وحسب، ولا تحمل في داخلها عمق حركة احتجاج سياسية صلبة وجدية،
وذات نفس كفاحي طويل ومتكيف لمستجدات الأحداث، لا مجرد نزوة ستتلاشى مع
الأيام. ورغم بقاء هذا الشعار كمطلب الحركة الأساسي والشائع على ألسنة
المعارضين، ورغم عدم تخلص قيادات هذه الحركة من عيوبهم ومواقفهم
السياسية السلبية، تجاه ضرورة تمكين المواطنين العرب وقياداتهم من
المشاركة في الاحتجاجات، لن نستطيع إغفال أهمية استمرار حالة
الاحتجاجات وتأثيرها فيرسم معالم نظام الحكم في اسرائيل ومكانتها في
المنطقة، وعلاقتها معنا نحن الفلسطينيين.
منسوب كراهية وعنصرية أتباع الحكومة للمواطنين العرب داخل إسرائيل
تضاعف، وأمسى الفرد منا عرضة في حياته اليومية للاعتداء الجسدي عليه
كما علينا كذلك أن ننتبه إلى تلك الأصوات البارزة، التي لم يعد يكفيها
العمل بوسائل الاحتجاج نفسها التي مورست مع بداية حركة الاحتجاجات،
ومطالبتهم بضرورة البدء في عملية عصيان مدني شامل، معللين نداءهم
اللافت بضرورة الدخول إلى مرحلة نضالية شعبية جديدة؛ من دونها ستفشل
حركة المعارضة، وستنجح قوى اليمين، القومية والدينية، في إحكام سيطرتها
على الدولة، والبدء بتنفيذ مشروعها وفق خطة الحسم المعلنة من قبلهم؛
والحسم في هذا السياق لن يكون ضد الفلسطينيين وحسب، بل ضد كل القوى
اليهودية التي عارضتهم وستعارضهم. إنها لغة جديدة وجديرة باهتمامنا،
نحن المواطنين الفلسطينين في إسرائيل؛ فرغم أن من أطلقها في البداية
هما رئيس الحكومة الأسبق إيهود براك والجنرال يئير جولان، نجد أنها
بدأت تستقطب دعم شخصيات اعتبارية أخرى، شرعت تدافع على الملأ عن الفكرة
وتفنّد مبرراتها ولماذا يجب، في هذه المرحلة المفصلية، أن تتغلب
الضرورات على المحظورات، كما فعل، مثلا، قبل عدة أيام البروفيسور
مردخاي كرمنيتسر- وهو شخصية حقوقيه مرموقة ومعروفة في إسرائيل وفي
العالم – في مقال طويل نشره في جريدة «هآرتس» العبرية، تطرق فيه إلى
قضية شرعية العصيان المدني وضرورة إعلانه في المرحلة الحالية. قد
يستبعد الكثيرون، خاصة بين المواطنين العرب، نشوب حالة من العصيان
المدني داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، بناء على تاريخ هذا المجتمع
ووقوفه دوما موحدا إزاء مسألتي الاحتلال واضطهاد الفلسطينيين، سواء في
الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو داخل إسرائيل. وقد يكون ذلك الرأي
صحيحا، إلا أن أحدا لا يستطيع أن يجزم كيف ستتطور الأحداث خلال
الأسابيع المقبلة، وإلى أين مآلاتها، خاصة بعد أن فشلت حكومة نتنياهو
بتحقيق ما كانت ترجوه حين بدأت اعتداءها العسكري الوحشي على مخيم جنين
واختلاق حالة حرب مصطنعة، سمتها عملية «البيت والحديقة» كانت تتمنى أن
تؤدي إلى إخماد حركة المعارضة كما كان يحدث في حالات مشابهة في الماضي؛
فحين كانت تضرب مدافع العسكر كان يصير الشعب اليهودي أبكم، وكل الدولة
كانت تجتمع على قلب واحد ورصاصة، لم يحدث ذلك هذه المرة، بل على العكس
فإن الاحتجاجات استمرت وبوتيرة أعلى في عدة مدن ومواقع إسرائيلية حيث
واكبها أيضا اتهام نتنياهو من قبل الكثيرين من قادة الاحتجاجات والنقاد
السياسيين بأنه افتعل هجومه على مخيم جنين لاغراض شخصية ولارضاء حلفائه
السياسيين، وهذا ما أعاد البعض إلى تناول قضية الاحتلال في تصريحاتهم
وفي مقالاتهم ووصفه كأصل البلاء ومصدر الشر الذي يجب أن يتخلصوا منه كي
تضمن إسرائيلهم مستقبلها الآمن وينعم شعبها بالطمأنينة وبالسلم.
من الواضح أن حكومة نتنياهو مصممة على المضي في تنفيذ جميع فصول
مخططها، ويبدو أنها ستنجز قريبا خطتها في إكمال منظومة التشريعات
المطلوبة لتأمين سيطرة أحزاب الائتلاف الحكومي على مؤسسات الدولة،
وتوزيع عائداتها بينهم، وفق تفاهمات يتحكم فيها قانون تبادل المنافع
واقتسام الغنائم. ومن الواضح أيضا أن القوى السياسية والاجتماعية
المعارضة لهذه الحكومة ومخططها لن تنسحب من ميادين المواجهة بسهولة، بل
سمعنا قياداتهم يتوعدون بتصعيد وتائر المواجهة وزخمها، وهذا ما
شاهدناه، في الليلتين الفائتتين حين خرجت أعداد ضخمة من المتظاهرين
وأغلقوا شوارع رئيسية في عدة مدن رئيسية وتصادموا مع قوات الشرطة التي
قامت بتفريقهم بعنف غير مسبوق واعتقلت العديدين منهم. لا أعرف متى
سيستعيد المواطنون العرب وزنهم في ما يجري من أحداث داخل الدولة، أو
ربما لن يستعيدوه؛ ولا أعرف من سينجيهم من المخاطر الحقيقية المحدقة
بهم، ولا نعرف من سيهزم من في هذه المواجهة اليهودية-اليهودية، لكننا
نشعر بأن منسوب كراهية وعنصرية أتباع الحكومة وأحزابها للمواطنين العرب
داخل إسرائيل قد تضاعف بشكل خطير وحقيقي، حتى أمسى الفرد منا عرضة في
حياته اليومية للاعتداء الجسدي عليه، في كل زمان وفي كل مكان. وقد يكون
ما حصل معي في حيفا مطلع الاسبوع الجاري مؤشرا للمقبلات ونذيرا لكل
واحد منا ومهمازا لمن يؤمنون بأنهم محصنون ضد فيالق الموت الفاشية،
وبأننا، العرب، حتما سنكون المنتصرين في حرب اليهود التي نشاهد فصولها
ونحن ساهمون على رصيف الأماني.
كنا في زيارة لابننا الساكن في أحد أحياء حيفا الجديدة التي تسكنها
عائلات عربية ويهودية وينتمي معظمها للطبقة الوسطى المستقرة ماديا
ووظيفيا. اصطحبنا قبل الساعة الثامنة مساء، زوجتي وأنا، أحفادنا
الثلاثة لسوبر ماركت الحي لشراء بعض الحاجات والطعام. وقفنا في قسم بيع
الأجبان والنقانق، وكنت أحمل حفيدي الأصغر، وعمره عامان. انتظرت بصبر
حتى جاء دوري. توجهت للبائعة وبدأت أنقلها فسمعت صوت رجل يصرخ عليّ
بالعبرية «يوجد دور». نظرت نحوه وقلت: «صحيح وأنا هنا قبلك» اقترب مني
حتى كاد كرشه يلتصق بجسمي. كان ذا ملامح شرقية: أسمر الوجه ويلبس
بنطالا قصيرا وصندلا إسرائيليا وكان رأسه شبه أصلع تتوسطه «كيباه» لم
أنتبه للونها. حاولت أن أشرح له أنني هنا قبله ولا أتعدى على دوره
فقاطعني بنبرة مهددة وقال «على ما يبدو انك لا تفهم، أنا هنا قبلك
وسأشتري قبلك». كان يهيء قبضته ويستعد لضربي، لكنه لم يفعل. ربما لأنني
ابتعدت عنه قليلا لحماية حفيدي ولأتفادى الصدام معه في هذه الظروف.
تراجعت قليلا وقلت له: «لا تصرخ، تفضل خذ دوري» ثم أضفت: «كنت أتمنى أن
تربي ابنك على قيم أخرى وليس على العنف والعربدة»، كان ابنه اليافع يقف
وراءه ويشاهد كل ما يحصل دون أن يتدخل. ما أن أنهيت جملتي حتى انفجر
بوجهي كذئب مسعور، اقترب مني مرّة اخرى وهو يصرخ ويناديني «أنت أيها
المخرب تريد أن تعلمني قواعد التربية، أنت تجيد إلقاء القنابل علينا..
يا مخرب، اذهب إلى غزة». فمه كان قريبا من وجهي ولغة جسده تقول بأنه
سيضرب. كان يصرخ ويشتم ويهدد وكنت ابتعد عنه بحذر وبهدوء ولا أريد أن
أسبب الذعر للأطفال. كان في المكان بعض الزبائن لكنهم وقفوا ولم
يتدخلوا. كانت على وجوههم علامات استغراب وخوف. حاولت البائعة اليهودية
أن تشرح له أنني كنت عندها قبله، فصرخ عليها بكلمات نابية؛ ثم نظر نحوي
وكرر تهديداته لي. ابتعدت عنه ونظرت نحو من كانوا هناك وقلت لهم: «هذه
هي الفاشية وهؤلاء قطعانها، سوائب الموت»، وتركنا المكان بهدوء. عدنا
إلى البيت سالمين، أو ربما ليس تماما؛ فنحن الكبار كنا مستفَزّين حتى
العجز ونتنفس الوجع بصمت. نظرت إلى وجوه أحفادي فكانت صافيه كالبراءة،
لكنني خفت أن أنظر في عيونهم، ففي العيون يختبئ الخوف وتمطر الدهشة.
رغم الغضب الذي كان يغلي في صدري كنت فرحا لأنني نجحت بالانسحاب راضيا
بهزيمتي المعنوية وبعودتنا إلى البيت أحياء وكاملين، فقد كان ممكنا أن
يهجم ويعتدي عليّ جسديا.. وممكنا أن يسقط من يدي حفيدي.. وممكنا أن
أسقط أنا مصابا.. وممكنا أن يسقط هو وممكنا أن أموت وممكنا أن يموت.
عدت فرحا لأنني كنت أنا الذي هناك وليس واحدا من أولادي أو أقربائي
الشباب، لأنني أعرف أنهم لم يروضوا مجسات الغضب لديهم، كما فعل المشيب
بي.
كنا نلعب مع الأحفاد وكنت أتذكر نقاشاتي مع بعض الأصدقاء حول كيف عرّف
المفكرون والعلماء والمثقفون الفاشية ومن هو الفاشي؟ كنت أتمنى لو كان
أصدقائي اليوم معي عندما قابلت الفاشية بلحمها وبشحمها، وكاد واحد فاشي
أن يصطاد فريسته.. فالفاشية هكذا هي، يمكن أن تكون في كل مكان ومتفشّية
وبين الأغنياء والفقراء، على حد سواء، أو بين المتعلمين أو الاغبياء،
وأن تظهر في حيّك حيث تسكن مع عائلتك بحب وبروتينية وبطمأنينة. وقد
تجدك أو تلاحقك الفاشية وأنت تطعم صغارك تحت دارك أو على ناصية الشارع،
أو وأنت تركن سيارتك، أو في الصيدلية وأنت تشتري حبة دواء كي تنام.
والفاشي هو مخلوق على شكل إنسان قد يكون أشقر وأزرق العينين ويتحدث
بالألمانية أو الفرنسية، أو كائنا شرقيا أسمر يربي كرشه ويتحدث بعضلاته
ويصلي بالعبرية لربه ويركع، والعصي والمسدسات إلى جانبه، لزعيمه، وقد
يكون الفاشي جارك أو سائق التاكسي أو الطبيب المناوب في عيادة حيك أو
المحاضر الذي يعلمك تاريخ أوروبا الحديث. كنت أفكر أن حيفا ما زالت
حمراء كما عهدناها، لكنها هكذا يبدو اصبحت بلد التآخي الكاذب. وكنت
أحسب أنني اتجول في حي آمن أو «حي معقم» ومنيع لن تخترقه الفيروسات
القاتلة، وكنا نحتضن أحفادنا الأطفال الصغار الثلاثة بسعادة، ونمشي
بفرح أعمى حتى عثرنا بما كان يخبئه لنا العدم، ونجونا صدفة وتعلمت
أكبادنا ماذا تعني الفاشية بالضبط لمواطن عربي في إسرائيل.
كاتب فلسطيني
الاحتلال الإسرائيلي…
يجب أن يعود إلى قاموسنا اليومي
جواد بولس
نقلت مواقع الأخبار الإسرائيلية يوم الأربعاء الفائت تصريحا على لسان
قائد أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي، قال فيه: «إنّ ضابطا يرى مواطنا
إسرائيليا وهو يهمّ بإلقاء زجاجة حارقة باتجاه بيت فلسطيني ويقف من دون
أن يحرك ساكنا، أو يقف على جنب، لن يستطيع أن يكون ضابطا». جاءت هذه
الأقوال في خضمّ موجة تصعيد جديدة بين القيادات السياسية والدينية
لميليشيات المستوطنين، والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية الرسمية، لاسيما
بعد أن وصف ثلاثة من قادة أجهزة المخابرات والشرطة والجيش، اعتداءات
المستوطنين على السكان الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم بأنها «أعمال
إرهابية وحسب».
لا يمكن فصل هذه المواجهة، التي تغيب تفاصيلها الدقيقة عنا وراء كواليس
السياسة الإسرائيلية، عن المعركة الكبرى التي تخوضها التيارات
الصهيونية اليمينية المتطرفة والدينية المتزمتة، ضد قوى «حرس الصهيونية
القديم»، وترمي من ورائها حسم مكانة الأراضي الفلسطينية كأرض محتلة، أو
«مدارة»، وتحويلها إلى أرض إسرائيلية، بالمفهومين القانوني والعملي،
ومعالجة ما يترتب على ذلك حيال مستقبل المواطنين الفلسطينيين، حيث
ستناط مهمة «السيطرة» الكاملة عليهم بقيادات الحركات الاستيطانية،
وإطلاق الأعنّة لميليشياتها للتصرف من أجل إنجاز تلك المهمة بجميع
الوسائل الإرهابية، كما شاهدنا عينات منها في السنوات والأسابيع
والأيام الأخيرة.
علينا أن نعيد «الاحتلال» إلى لغتنا وإلى أفعالنا وإلى وجداننا وإلى
ساحات نضالنا اليومية؛ وعلى أهل فلسطين المحتلة أن يتصرفوا كشعب خاضع
للاحتلال لا أكثر ولا أقل
لا يجوز لنا، كفلسطينيين، ألا نولي هذه المواجهة أهمية، وألا نتابع
تداعياتها؛ أولا: لأن حدّة الصراع الدائر وعمقه بين أقطاب الحركة
الصهيونية ومضامينه تبدو جديدة عمّا ألفناه في العقود السالفة. وهي في
بعض تجلياتها خلافات حقيقية وأعمق من مجرد كونها خلافات تكتيكية داخل
المعسكر نفسه. فمن أهمّ ما أفرزته هذه المرحلة الحرجة أنها أعادت بعض
القوى السياسية والعسكرية والاجتماعية والشخصيات النخبوية
اليهودية/الصهيونية للتفكير مجددا في مسألة الاحتلال، وإعادة ترتيبها
له في صدارة المواضيع المختلف عليها إسرائيليا ويهوديا؛ بعد أن كادت
تنجح حكومات اليمين الإسرائيلي في تعويم الواقع الفلسطيني المأساوي
وخلق انطباع أن الأمور مع الفلسطينيين تجري على ما يرام، حتى أنهم، أي
الفلسطينيين، تنازلوا عن حلمهم في التحرر وإقامة دولتهم المستقلة ولا
يتكلّمون عن وجود احتلال. وثانيا: لأن الاتفاق بين قادة الأجهزة
الأمنية الإسرائيلية الكبرى والمهمّة، على توصيف ما تقوم به ميليشيات
المستوطنين ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، كونه إرهابا كاملا، من شأنه أن
يدعم الموقف الفلسطيني في جميع المحافل والمؤسسات الدولية، وأن يعزز حق
الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم وعن ممتلكاتهم، وأن يسهل على حكومات
الدول – خاصة تلك التي تقيم علاقات حميمة مع إسرائيل وتقرّ، في الوقت
ذاته، بالحقوق الفلسطينية وبعدم شرعية الاستيطان وبضرورة إنهاء
الاحتلال الإسرائيلي – مهمتها في إسناد القضية الفلسطينية وتخليص الشعب
الفلسطيني من الغبن التاريخي الذي حل به. وثالثا، لأننا نعلم أن جميع
الحكومات الإسرائيلية السابقة، وقبل تعاظم قوة الحركات اليمينية
القومية المتطرفة والدينية الصهيونية العنصرية، والتيارات الفاشية،
كانت تدعم مشاريع الاستيطان داخل الأراضي الفلسطينية لأسباب تكتيكية
وكمخزون استراتيجي يخدم أغراض التفاوض والمقايضات السياسية المستقبلية،
وكانت تحرص على التنسيق الكامل مع القيادات العسكرية والأجهزة الأمنية
وبتكامل مدروس مع قيادات حركات الاستيطان والتفاهم الهادئ معها. كان
الاحتلال مؤقتا، وكان الجيش، بقرة الشعب المقدسة، خارج صراعات
السياسيين، وعبارة عن مؤسسة تدافع عن مصلحة الدولة وعن سلامتها، وكان
الاستيطان أداة معدّة لخدمة الدبلوماسية عندما تحين ساعتها. هكذا كان
لكن ذلك لم يدم؛ فمن يحمل في أحشائه وحشا يلد وحشا ومصير هذا الوحش أن
يكبر ويكبر.. هذا ما حدث وهذا ما أوصلنا، جميعا، حتى حافة الهاوية.
الاحتلال كان ولم يزل هو بالمختصر كل الحكاية. قد لا يكون الفلسطينيون
بحاجة إلى دراسات عن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، وما نفذه
المحتلون من جرائم بحقّهم طيلة العقود الماضية؛ فأجسادهم كانت أهدافا
سانحة لبنادق جنوده ولسياط جلاديه، وأرضهم كانت حرثا باسم ذاك «الجشع
المقدس»، ولقمة العيش كانت دوما مغموسة بالعرق وبالوجع وبالدم، ولكن لن
يضيرنا لو تعرفنا وتعرفت ضمائر العالم على بعض من تلك الحقائق، التي
كشفت في عدة دراسات سابقة ولاحقة مؤخرا، بعد أن ظلت طي الكتمان لعقود
طويلة باسم الأمن والمصلحة الوطنية.
فقد نشر يوم الجمعة الفائت الصحافي عوفر أديرت، وهو مسؤول الشؤون
التاريخية في جريدة «هآرتس» العبرية، تحقيقا لافتا عن مجموعة وثائق
نشرها مؤخرا «مركز طاوب» التابع لجامعة نيويورك، تمحورت جميعها حول
مشروع الاستيطان الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتاريخه منذ
عام 1967. فلأكثر من خمس سنوات عكف الباحثون في «مركز طاوب» على تجميع
حوالي (مليون ونصف المليون) ورقة مأخوذة من (أحد عشر ألف) ملف كانت ضمن
أرشيف الدولة وأرشيف الكنيست ومصادر أخرى. أعتقد أنه يترتب على
الباحثين الفلسطينيين وفي جميع أنحاء العالم المعنيّين بدراسة تاريخ
ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق المواطنين والأراضي الفلسطينية
المحتلة، السعي والتنقيب في تلك الوثائق وإعداد ملفات جديدة حول ما
ارتكبه الساسة الإسرائيليون وجيش الاحتلال من جرائم موثقة كما قرأنا.
فعلى سبيل المثال يتطرق تقرير «هآرتس» إلى قضية إقامة مستوطنة «جيتيت»
على أراضي قرية «عقربة» الفلسطينية في مطلع سبعينيات القرن الماضي،
فحسب ما جاء في الوثائق، حاول جيش الاحتلال «تطفيش» الفلاحين
الفلسطينيين عن أراضيهم عن طريق تدمير مزروعاتهم مرة، ومرة عن طريق
تدمير آلاتهم الزراعية. وعندما تمسك أصحاب الأرض وأصروا على البقاء في
أراضيهم، انتقل قادة الجيش والمسؤولون في الوكالة اليهودية وغيرهم إلى
خطة جهنمية أخرى قضت بتسميم الأراضي عن طريق رشها بواسطة الطائرات،
بمواد سامة ثم منع السكان بعدها من دخول أراضيهم، كما منعت مواشيهم من
الرعي فيها. لقد أفضت تلك الأحابيل في النهاية إلى السيطرة على أراض
واسعة وسرقتها من أهل القرية الفلسطينية، وإقامة المستوطنة عليها
بمباركة الجيش ودولة الاحتلال؛ وكان قائد المنطقة وقتها الجنرال رحبعام
زئيفي. وفي التقرير نقرأ أيضا تفاصيل عن إقامة مستوطنات «معاليه
أدوميم» «وسبسطية» وغيرها، وكيف جنّدت حكومة إسرائيل طرقا ملتوية بغية
التسريع في إقامتها. وتبقى خلاصة ما وجده معدّو مشروع التوثيق هي أن
«الحكومة هي المحرك. كل شيء يمر من خلالها»، أو كما جاء على لسان
الرئيس السابق «لمركز طاوب» البروفيسور رون تسفايغ: «إن دراسة المادة
تتيح لنا أن نفهم أكثر أن هذا المشروع القومي العملاق، هو ثمرة
لمبادرات من قبل حكومات إسرائيل المتعاقبة؛ ليست اليمينية وحسب، بل
جميعها». لم تكشف الوثائق عن القرارات التنفيذية التي كانت تسبق إقامة
كل مستوطنة وحسب، بل كشفت حرص قادة حكومات إسرائيل السابقة على التكتم
والعمل بعيدا عن حركات الاستعراض التي يقوم بها بعض السياسيين بهدف
الكسب السياسي. وهذه نقطة مهمة تؤكد أن قادة إسرائيل كانوا يدركون أن
الاستيطان هو عمل غير شرعي وأن الاقتراب منه يجب أن ينفذ بحذر وبهدوء
وبالخفية، تماما كما يجب أن يتصرف اللصوص ومن يقترفون الجرائم.
فالاستيطان في عصر ما قبل «الاحتلال» لم يكن غاية بحدّ ذاته بل مخزونا
يستعان به عند الضرورة السياسية وحسب، ولنا بما جرى في سيناء عبرة.
وبما إنه تحوّل في عرف «اسرائيل الجديدة» إلى استعراض مستفز ووسيلة
لطرد السكان الأصليين من وطنهم، وغاية الغايات وأقدسها، وبما أن ملوك
إسرائيل الجديدة عازمون على حسم المعركة على طريقة «يوشع»، علينا
بالمقابل، نحن المواطنين الفلسطينيين، أن نعيد «الاحتلال» إلى لغتنا
والى أفعالنا وإلى وجداننا وإلى ساحات نضالنا اليومية؛ وعلى أهل فلسطين
المحتلة أن يتصرفوا كشعب خاضع للاحتلال لا أكثر ولا أقل.
قبل أيّام قابلت أحد زملائي المحامين الذي كان يعرّف نفسه أنه صهيوني
يميني من مؤيدي حزب الليكود التاريخيين، وتناقشنا عن مقالة الصحافي
عوفر أديرت. كان نقاشا يبعث على التفاؤل، حيث انتهى بموافقتنا على
ضرورة إعادة قضية الاحتلال إلى المجالس والشوارع والساحات والمنصات
الإسرائيلية. خلال حديثنا خبرني زميلي أن قريبا له كان من كبار
الحقوقيين المرموقين المؤسسين لدولة إسرائيل، وكان مؤيدا متحمسا لتخويل
المحكمة العليا الإسرائيلية صلاحيات قضائية في القضايا الإدارية التي
تخص حقوق المواطنين الفلسطينيين المحتلين، مع أنها لا تمتلك هذه
الصلاحية وفق القانون الإسرائيلي وليس وفق القوانين الدولية طبعا. ثم
أضاف معللا موقف قريبه بإنه، كان يعرف أن الاحتلال الإسرائيلي سيكون
«وحشا» تماما كما كانت جميع الاحتلالات التي عرفها التاريخ، ولذا توقع
أن تقوم المحكمة العليا بترويض ذلك الوحش وإبقائه في قفص المعقولية.
أما اليوم بعد أن تجبّر الاحتلال ككل الوحوش وتمرد على مروّضيه فهو
متأكد، هكذا صرح زميلي، «أن قريبه يتقلب في قبره من الخيبة» وسكت
حزينا. فأضفت قائلا: «أو ربما من كونه أحد آباء هذا الوحش». سمعني وهز
رأسه وقال: ربما!
*كاتب فلسطيني
مرسيل خليفة يزرع حدائق
الأمل على مسارح عمّان
جواد بولس
وقف الفنان مرسيل خليفة على مسرح «الأرينا» في مدينة عمان في شهر أغسطس
الفائت وغنّى للقدس. في تلك الليلة، هكذا أذكر، وجه كلامه لشباب القدس
ولأهلها قائلًا: «ارتفعوا عن الثرثرة السياسية التافهة واظهروها كما هي
في خيانتها»، وأضاف مخاطبا أهل فلسطين الغائبة عن أحلام العرب وقال:
«أنتم الوطن بلا علم وبلا نشيد، وجودكم في قلب الموسيقى اعتراف صريح
بطقس التحرير». ثم غنّى.. وضج ليل عمّان وامتلأت سماؤها بالشهد
وبالندى؛ ومضى مرسيل المنتصب القامة، حاملًا ريشته وعوده والوجع، في
طريقه نحو القدس.
لم يمرّ عام حتى عاد مرسيل إلى عمان ليضيء ليلها، هذه المرة، من على
مسرح المدرج الروماني الجميل، بالفرح وبالأمل. يضيء ليل أجيال عربية
يريد البعض أن تبقى في عتمتها، وتمضي في دروب التيه والضياع. لمحته
عندما دخلت ردهة الفندق، كان جالسا على الكنبة بهدوء، الى أن اقتربت
منه ورآني فوقف ولغة جسده تحدثني بغضب خفيف؛ وسألني عن سبب تأخري.
أخبرته أننا واجهنا «وعكة» على نقطة الحدود، لكنّها انتهت بسلام؛
فتبسّم وكان حزينا مثلما كنت أنا.
تناقلنا بعض الأخبار الخاصة، وتفاصيل ما حدث معنا على الحدود، ثم
انتقلنا للحديث عن ترتيبات الحفل، لاسيما حول تفاصيل الفقرة التي سيسلم
خلالها جائزة محمود درويش للإبداع عن عام 2023، عن فئة المبدع العربي،
كما أعلن عن ذلك خلال الحفل الذي أقيم في قاعة «الجليل» في متحف محمود
درويش في مدينة رام الله يوم الثالث عشر من مارس المنصرم. تسلّم
الجائزة آنذاك عن مرسيل خليفة مدير عام مؤسسة محمود درويش فتحي البسّ
لتعذر وجود مرسيل في رام الله؛ وتم الاتفاق على أن يستلم مرسيل الجائزة
شخصيا في الأمسية التي سيحييها على مسرح المدرج الروماني في عمان يوم
السابع عشر من يونيو. لم يكن صعبا عليّ أن أرى الفرح الكبير في عينيّ
مرسيل وهو يحاول أن «يُخرج» أمامي تفاصيل تلك الفقرة، ويطلب مني الحرص
على تنفيذها على المسرح. كان فرحه صافيا وخاليا من أية نبرة عتب؛ فمن
أحق منه بنيل جائزة محمود درويش للإبداع؟ لا أعرف لماذا أغفل في
السنوات الماضية القيّمون على إعطاء هذه الجائزة اسم المبدع الأصيل
الفنان مرسيل خليفة، وكان برأيي وبرأي الكثيرين أوّل الجديرين بنيلها.
هذا التساؤل مني ومن كثيرين مثلي، خاصة أنه ينالها هذا العام، كما جاء
في مسوّغات لجنة الجائزة لأنه «أغنى التراث الموسيقي والغنائي العربي
بإضافات لافتة، كما صدحت موسيقاه وصوته في كل الحواضر العربية
والعالمية، وحفر عميقا في ذاكرة الجماهير العربية، وأثّر في وعيها
وساهم في تثوير ضمائرها وتشكيلها. علاوة على أنه خص الشعر الفلسطيني
بإبداعه، فمحطات مساره الموسيقي مؤثثة بنصوص من هذا الشعر عموما، وبشعر
محمود درويش على وجه التعيين.. ولدقة اختياره للكلمة ولمساهمته في
التطوير الموسيقي، ولالتزامه الوطني واختياراته الواعية للشعر
الإنساني، ولارتباط تراثه بالقضية الفلسطينية، وللثنائية الفريدة التي
تحققت بينه وبين درويش». قد تكون كلمات لجنة الجائزة الأخيرة الأكثر
وقعا في نفس مرسيل خليفه؛ فلهذه الثنائية/التوأمة الفريدة بينه وبين
محمود درويش، مكانة مقدسة في وجدانه. فمرسيل الذي آمن وهو شاب وثائر
«بوعود العاصفة» ظل يقاتل ودرويشه «في ساحة البلد مع أحمد العربي» ولا
ينام كي يحمي ليل العاشقين عند «سقوط القمر». إنه الفنان المبدع الثابت
في زمن المتحوّلين والقيم السائلة.
كانت ليلة من الليالي التي يولد فيها الأمل ليس على ريشة ووتر وحسب، بل
يولد من الصخر، ويتناسل بين أجيال ستحفظ وتؤكد أنها «ستصير يوما ما
تريد»
أبديت تخوفي أمامه من عدد الحضور والمسرح معروف بسعته الكبيرة وضخامته،
لكنه كان واثقا بنجاح أمسيته؛ وعندما سألته من أين يأتي بكل هذا العزم؛
سكت كعادته للحظات، فتكلمت عيناه المتعبتان، ثم همس وهو يمسك يدي بكفه:
«هذا هو حدسي. هكذا حدّثني قلبي وهكذا قال لي الحمام». كان محيط المدرج
الروماني يعج بالوافدين، وكان المنظمون وعناصر الأمن يوجهون حركة
السيارات والناس بهدوء ونظام ملحوظين. دخلنا بسهولة، حسب توجيهات
المنظمين. وقفت في صحن المدرج الكبير. كان ورائي المسرح، تنتظر كراسيه
صعود مرسيل وفرقته، وأمامي كانت تتشاهق إلى الأعلى صفوف المدرجات
بأقواس منفرجة، حتى لامس أبعدها أنف السماء. بدت المقاعد الصخرية، من
بعيد، بلون ورق الشجر الذابل في أواخر الخريف، فهي لم تكن صفراء تماما
ولا بنية ولا بيضاء. كانت بلون الطين الذي حكت عنه الأساطير، أو ربما
هو لون الزمن حين يذهب أصحابه في التراب. رويدا رويدا بدأت الصخور تغير
ألوانها حتى أصبحت في غضون نصف ساعة كلوحة مزركشة بخليط ألوان صبغها
رسّامون محترفون. امتلأت المدرجات وقدر عدد الحاضرين بأكثر من ثلاثة
آلاف شخص، نطق الصخر ودبّت في الهباء حياة. استقبل الجمهور مرسيل
وفرقته بهتافات وتصفيق عاليين، وعندما ضرب بريشته عوده علت أصواتهم
وبدأوا يغنون معه. اختار أن يبدأ ليلته مع كلمات الشاعر طلال حيدر
«بغيبتك نزل الشتي»، وانتقل بعدها إلى مقطع من «يطير الحمام يحط
الحمام» لمحمود درويش، ثم غنى له أيضا «في البال أغنية» و»ريتا» و»أحنّ
الى خبز أمي». كان الحاضرون واقفين كالسهام، يتراقصون بشجى ظاهر،
ويرددون مع مرسيل كل الكلمات، وأحيانا كانوا يغنون لوحدهم. فكلما كان
عوده يطن بمطلع أغنية كانت حناجرهم تسبقه بحماس كالذي كان يصيبنا، ولم
يزل، من قبل أربعين عاما، أي قبل ولادة معظم الحاضرين بجيل. غنى لسميح
القاسم «منتصب القامة» فضجت الأقمار في سماء عمان وصحت حجارة «روما»
على غضب هؤلاء العرب؛ وحين أعلن «إني اخترتك يا وطني» جاوبه المدى «حبا
وطواعية»، فتذكر التاريخ صاحب الكلام علي فودة، الباقي في الكلمة رغم
نار الرصاصة التي قتلته. ثم غنى لوحده «أحن إلى خبز أمي»، فكان صمت
وكانت تناهيد وكان حنين وكان فرح، ثم دعي بعد هذه الأغنية مدير عام
مؤسسة محمود درويش، فتحي البس، إلى المسرح، فقام بتسليم درع جائزة هذا
العام لمرسيل وقرأ على الملأ مسوغات قرار لجنة الجائزة، وأعلن أن مرسيل
تبرع بريع جائزته للمؤسسة نفسها، ثم عاد مرسيل للغناء وأنهى الليلة
بنشيد الإنشاد، وهو في عرف حماستنا «شدوا الهمة»، فغناه بمصاحبة عاصفة
من التصفيق ومشاركة الآلاف بالغناء، لقد تعمّدت أن أنقل للقراء مشاهد
من أجواء العرض، لأثبّت صورة إيجابية عن قطاعات واسعة من أجيال هذا
الزمن، التي يحاول الكثيرون، عربا «وغَرَبا» وعجما، من صناع الرأي
العام المغرض والمخططين لضياع شعوبنا، إقناعنا بأن مثل هذه «الخامات»
قد انقرضت ولم تعد موجودة بيننا. وكي أكون صريحا حتى أنا تفاجأت من
المشاهد التي رأيتها فآلاف من الشبان والشابات من عدة دول عربية،
وبعضهم كانوا يرفعون أعلام دولهم، وقفوا وقفة «هم واحد» وغنوا مع مرسيل
أغاني للحرية وللكرامة والغضب، وغنوا للحبيبة وللنبيذ وللوطن، حتى لو
كان بالنسبة لبعضهم وطنا متخيلا، أو مشتهى، أو مستحيلا، أو محظورا
عليهم.
كان حدس مرسيل صادقا؛ وكانت ليلة من الليالي التي يولد فيها الأمل ليس
على ريشة ووتر وحسب، بل يولد من الصخر، ويتجدد في «العيون العسلية»
ويكبر في قلوب «دائمة الخضرة ودائمة الثورة»، ويتناسل بين أجيال ستحفظ
وتؤكد أنها «ستصير يوما ما تريد». إنها ليلة تنتصر فيها «الهوية» على
من يريد أن يوقفها على «نقطة»، تماما كما غنى لنا مرسيل أغنية، «وقفوني
عالحدود»، ليزيل آثار «الوعكة» التي أصابتنا على الحدود. وهي ليلة
يستعيد فيها المرء نطفة روحه ويصير الحر أخا للحر. فإلى من أعطى أنفاس
روحه لتفريح الناس من دون حساب، وزرع في حدائقهم نور الشمس، وإلى من
آمن بكرامة الإنسان وبحريته وبالحب، ولم يحتمل مخاتلة التأويل أو تردد
المجاز، وإلى صاحب القلق الجميل، النازف على شرفات الوجع، وإلى من يقف
على حد ريشة وينام على غنجة وتر، وإلى من يجمع جنون الليل في قفف من
أحلام ونغم، وإلى من أقنعتنا حنجرته أن نرفض الموت البليد ونغني للفرح
«خلف أجفان العيون الخائفة»، وإلى من علّمنا، منذ خمسين عاما، كيف نرقص
على أهداب فجر عبوس وهو يعانق ضجر الليل، إليك يا مرسيل نقول شكرا.
كاتب فلسطيني
حديث الصحارى…
أول الكرّ خيمة ووحدة
جواد بولس
لم تتوقف احتجاجات القوى المعارضة الإسرائيلية لحكومة بنيامين نتنياهو
الحالية؛ حيث ما زالت تنظم في كل نهاية أسبوع المظاهرات في ساحات عدة
مدن يهودية، بمشاركة عشرات آلاف المواطنين المعارضين لبرامج الحكومة،
والمطالبين بالمحافظة على الديمقراطية وعلى استقلالية الجهاز القضائي،
والمحذرين من قيام نظام حكم فاشي سيؤدي إلى نهاية الدولة التي آمنوا
بها ودافعوا عنها.
ما زلنا نجهل كيف سينتهي هذا الفصل في تاريخنا، نحن المواطنين
الفلسطينيين في إسرائيل، ولا كيف سيكون شكل الاحتلال الإسرائيلي للضفة
الغربية ومصيره، خاصة فيما يتعلق بالوضع الديموغرافي هناك؛ لكنني أجزم
أننا قادرون على التأثير في مجريات الأحداث، لاسيما في هذه المرحلة
المعقدة، التي بات الكثير من الإسرائيليين فيها مقتنعين بأن الإبقاء
على شكل الاحتجاج الموجود وروتينيته والتمسك بشعاري الديمقراطية
والمحافظة على النظام القضائي القديم، رغم أهميته، لن يوقفوا، في
النهاية، زحف القوى اليمينية المتطرفة، ولو كان بطيئا، نحو تحقيق
أهدافهم، ولن يمنعهم من الاستيلاء على مرافق الدولة، وشروعهم في تنفيذ
«خطة الحسم» التي يريدون منها القضاء على مشروع التحرر الفلسطيني
وإقامة الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة؛ من جهة، ومن جهة ثانية،
تحديد مكانتنا القانونية، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وفق
تراتبية «قانون القومية» الذي وضع اليهود في الدولة في المكانة الأعلى،
وتحتهم سيعيش الباقون، غير اليهود.
في مظاهرة الألوف ستقول الجماهير لكل العالم ولإسرائيل: لن نسكت بعد
الآن وسندافع عن حقوقنا ومن أجل بقائنا العزيز والحر في وطننا
لقد ضيّعت القيادات العربية كثيرا من الوقت، في حين كان موقف معظمهم
الوحيد الواضح يقضي بعدم المشاركة في مظاهرات الاحتجاج اليهودية دون أن
يطرحوا للناس بديلا نضاليا عمليا، ولا خطة حقيقية تخاطب عقول المواطنين
وتستقطبهم، من أجل الانخراط في مواجهة برامج الحكومة ومخططاتها القمعية
ضدهم. لست في معرض مناقشة الحجج التي سيقت في تبرير ضرورة مقاطعة
مظاهرات الاحتجاج اليهودية؛ فبعضها كانت، بلا شك، ذرائع سياسية تستدعي
المناقشة؛ ولكن تبقى أخطرها تلك التي وصفت الحالة الإسرائيلية الراهنة
كحرب يهودية – يهودية ستفضي لا محالة إلى القضاء على دولة إسرائيل،
وسيكون النصر جراءها للعرب/ للمسلمين/ للفلسطينيين، بهذا الترتيب حسب
هوية المنجم، أو المؤمن، أو المتمني. لم يجرِ أحد دراسة جدّية حول مدى
انتشار هذا الموقف بين المواطنين العرب، ولا حول تأثيره الحقيقي على
تحييد جاهزية الجماهير وإخماد استعدادهم للنضال، وخلقه لحالة من «العقم
الهوياتي»، التي أدّت في الواقع إلى بقائهم في منازلهم أو في العمل،
غير مستنفرين ولا يخرجون للشوارع من أجل الدفاع عن حقوقهم وعن بيوتهم
وعن مستقبل أولادهم وأحفادهم؛ فإسرائيل باتت لدى هؤلاء ومنظّريهم أوهى
من خيوط العنكبوت. كما لم تُعدّ أي جهة عربية، محلية أو خارجية، دراسة
جدّية حول صحة هذه المقولة وحقيقة وصول إسرائيل، نتيجة للصدام القائم
بين المعسكرين السياسيين الواضحين، «قاب قوس وأدنى» من الانهيار، أو
الاندثار، كما يزعمون. ورغم إبداء بعض المحللين السياسيين اليهود
والمتخصصين بقضايا الأمن، مخاوفهم من التصدع الحاصل داخل المجتمع
الاسرائيلي، نعرف أن إسرائيل، التي تشهد صراع أبنائها الحالي، محكومة
ومحصّنة بعدة عوامل قوة ومراكز قوى، عميقة وخفية، مازالت تحافظ على
صمتها أو على احتجاجها الهادئ وبعضها محتجب ولم يقل كلمته الأخيرة في
تداعيات الأحداث، ولكن يبقى السؤال الأهم الذي يجب أن يجيبنا عليه
أصحاب نظرية «خيوط العنكبوت»، هو: كيف سيضمنون لنا أنه في حالة سقوط
نظام الحكم الحالي، وفشل حركات المعارضة في صدّ مخططات الحكومة
الحالية، سوف تسقط إسرائيل، ولن تولد إسرائيل الجديدة بعدّتها وعتادها
وعقيدتها المعلنة على الملأ. كان واضحا أن غياب المؤسسات العربية
القيادية المحلية عن مشهد معارضة هذه الحكومة الخطيرة والمتطرفة، ليس
طبيعيا ولن يطول، وهذا فعلا ما بدأنا نراه في الآونة الأخيرة، فقد بدأت
لجنة المتابعة العليا تأخذ دورها الطليعي في التحرك التدريجي في محاولة
منها لاستعادة ثقة الجماهير بها، ودعوتها إلى وقوفهم مجددا إلى جانبها
ومعها في أنشطة الاحتجاج والنضال، ليس على صعيد ما سماه اليمين زورا
«خطة الإصلاح القضائي» وحسب، بل ربط ذلك بقضية استفحال ظواهر الجريمة
والعنف داخل المجتمع العربي، مع التأكيد طبعا على مصدر الشر الأكبر وهو
الاحتلال الإسرائيلي. لقد لبّى آلاف المواطنين نداء لجنة المتابعة
ولجنة الرؤساء القطرية، وقادة الأحزاب العربية، وشاركوا في الثالث
والعشرين من شهر مايو المنصرم في مسيرة السيارات الكبرى التي أدّت إلى
إغلاق بعض الشوارع الرئيسية في البلاد، وشكلت حدثا لافتا ليس داخل
المجتمع العربي وحسب، إنما على مستوى الدولة ومواطنيها، ثم جاءت مبادرة
لجنة المتابعة لإقامة خيمة اعتصام أمام مكاتب رئيس الحكومة في القدس،
مطلع الأسبوع الفائت. استمر الاعتصام ثلاثة أيام ونجحت الخيمة باستقطاب
اهتمام جماهيري وإعلامي واسعين، حيث أمّها المئات من المواطنين العرب
واليهود، مع بروز واضح لوسائل الإعلام العربية والعبرية والأجنبية.
شارك في الاعتصام عشرات من رؤساء المجالس العربية والشخصيات السياسية،
وقادة مؤسسات المجتمع المدني، العرب واليهود. انتهى الاعتصام بالخيمة
بمؤتمر صحافي كبير أعلن فيه محمد بركة رئيس لجنة المتابعة، أن الخطوة
المقبلة ستكون تسيير مظاهرة حاشدة في مدينة حيفا، وقال: «نريدها مظاهرة
بمشاركة عشرات الألوف لتكون حدثا مفصليا» وأضاف: «نستطيع القول إننا
اليوم أقوى مما كنا عليه من قبل، فحراكات الأسابيع الأخيرة جنّدت
مجموعات لا يستهان بها من الناشطين الذين زاروا الخيمة، وأكّدوا
التزامهم بأي قرار مستقبلي في هذا الصدد». فهل يكون أول الكرّ وحدة
فمسيرة فخيمة؟ ننتظر ونأمل.
لقد شهدت الكنيست خلال الاعتصام في الخيمة، وبمبادرة من كتلة الجبهة
والعربية للتغيير، بحثا خاصا حول قضية الجريمة والعنف داخل المجتمع
العربي، بعد أن وقّع أربعون نائبا على طلب يلزم حضور رئيس الحكومة
الجلسة. ومع تصاعد عمليات الاحتجاج العربية، وبعد جلسة الكنيست اضطر
نتنياهو أن يجتمع لاحقا مع أعضاء الكنيست العرب، الذين قدموا له لائحة
مطالب عملية وعرضا سياسيا يشرح خلفية تنامي هذه الظاهرة داخل المجتمعات
العربية. من الضروري أن ننتبه إلى أنه إلى جانب أعضاء الكنيست العرب،
وقّع على طلب عقد الجلسة الخاصة عشرات النواب اليهود. هكذا فقط تم
إلزام نتنياهو، بحضور الجلسة كلها، وإلزامه بالرد على موضوعها في بث حي
شاهده المواطنون. قد يستخفّ البعض بهذا التعاون وبدعم بعض أعضاء
الكنيست اليهود لمبادرة نواب الجبهة والعربية للتغيير، وقد يقلل آخرون
من أهمية حضور عشرات الشخصيات اليهودية ومن بينهم أعضاء كنيست ومديرون
وناشطون في جمعيات كبيرة ومحاضرون، ومؤازرتهم لمطالب المواطنين العرب؛
لكنني، وكنت هناك وسمعت مداخلات بعضهم، أشعر بأنهم يؤكدون بحضورهم
وبمواقفهم كيف يجب أن يكون النضال ضد سياسات هذه الحكومة وضد مخاطرها.
فالنضال اليهودي العربي في ظروفنا الخاصة، هكذا أومن، شرط حيوي وضرورة
سياسية لنجاحنا وصمودنا في وجه الفاشية الداهمة.
قد تكون المظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية في
الثالث من يونيو الفائت في تل ابيب شاهدا آخر على ضرورة النضال العربي
اليهودي المشترك؛ ففي ذكرى مرور ستة وخمسين عاما على حرب يونيو 1967
سار آلاف المتظاهرين اليهود والعرب حاملين شعارات تندد وتطالب بكنس
الاحتلال الإسرائيلي، وتؤكد في الوقت ذاته استحالة تحقيق الديمقراطية
مع وجود الاحتلال، رددوا كذلك شعارات تطالب بمساواة المواطنين العرب؛
فلا ديمقراطية دون مساواة حقيقية كاملة، وبعضهم كانوا يهتفون «فري
بالستاين»، وضد التجند في جيش الاحتلال.
كانوا بضعة آلاف، لكنهم هتفوا وسط تل أبيب بالهتافات السياسية الصحيحة
التي نحن بحاجة لترسيخها في هذه المرحلة الحرجة. أعرف يهودا كثيرين،
كما قلت في بداية مقالتي، توصلوا إلى نتيجة مفادها أن ما قاموا به كان
مهما، لكنه لم يعد يكفي اليوم، فنداءاتهم من أجل الديمقراطية استنفدت
تأثيرها، وإن كانت ضرورية في بداية الاحتجاجات كمقدمة لتعطيل تمكين هذه
الحكومة الخطيرة من الشروع بمخططاتها، لم تعد كذلك بعد مرور هذه
الأشهر. نحن لا نعرف أعداد هؤلاء الصحيحة، لكنهم موجودون بكثرة وفي
جميع البلدات والمدن والمواقع، وهم بحاجة إلى من يقودهم أو يرشدهم أو
يقف أمامهم ويصوّب هتافهم ضد الاحتلال وضد الفاشية ومن أجل المساواة
والديمقراطية. هذه هي مسؤولية القياديين العرب وتنظيماتهم، ومسؤوليتهم
في الشروع، اليوم قبل الغد، في بناء جبهة عريضة ضد الاحتلال والفاشية
والعنصرية والعنصريين. لقد آمن الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة
الديمقراطية بهذه المبادئ وعملوا في بعض الحقب التاريخية بهديها، وما
حدث لهم في هذه السنين وتقاعسهم في تحمّل المسؤولية الواجبة ليس إلا
هجراً لمعتقداتهم التاريخية.
لقد استبشر محمد بركة خيرا، ومعه مجموعة من الخطباء في خيمة الاعتصام
في القدس، من الحراكات التي تمت في الأيام الأخيرة، ووقف على الجبهة
الأخرى ايمن عودة وامجد شبيطة وصوّبا بوصلة تل أبيب نحو الاحتلال،
وستنضم حيفا في مظاهرة الألوف التي ستقول فيها الجماهير من جديد لكل
العالم ولإسرائيل: لن نسكت بعد الآن وسندافع عن حقوقنا ومن أجل بقائنا
العزيز والحر في وطننا؛ وللقيادات المحلية ستقول الجماهير: نحن بحاجة
للمّ شملكم يا قادة والعودة معا إلى مياديننا، فهي هنا، في المثلث
والنقب والجليل، وليس، كما يريدها البعض في طهران أو الخليج أو الخليل.
كاتب فلسطيني
فيصل الحسيني… ذكرى
عطرة في زمن لا وفاء فيه
جواد بولس
قبل ثلاثة وعشرين عاما سافر فيصل الحسيني الى دولة الكويت في مهمة،
ربما كانت من أصعب المهام التي واجهها في مسيرته الكفاحية السياسية.
ذهب إلى هناك وفي صدره قلق خانق وعزم على وصل الوريد بالوريد وأمل أن
يعود الدم العربي دفاقا في عروق فلسطين، عساها ترجع، كما كانت، قبل تلك
الحرب اللعينة، صك غفران «لعرب أطاعوا رومهم، عرب وباعوا روحهم، عرب
وضاعوا» وترجع هي الحلم والوليمة والسهر، وهي المنارة، والمئذنة،
والتميمة، والقدر.
طار فيصل على جناحين من إيمان وفضيلة، ونام في ليلته الأخيرة كما تنام
الملائكة: بسكون مطبوع على وجهه الوسيم وبسمة خفيفة تحرس شفتيه
الجميلتين من العطش. كان رأسه متكئا على وسادة عالية بعض الشيء، وجسمه
يملأ الفرشة بهدوء ويداه متشابكتان فوق صدره تحرسان قلبه من العدم. نام
ولم يفق. رحل بصمت يليق بالمستحيل، وأخذ معه روح معشوقته الوحيدة. قضى
وأورثنا، نحن الباقين في بقايا قدسه، معاني جديدة للخسارة وللحسرة
وللحنين وبرهانا على كذبة الفلاسفة والمفكرين الكبيرة إذ قالوا: لكل
قائد، مهما علا شأنه، يوجد خليفة وبديل؛ فالشعوب الحرة ولادة والمستقبل
بأولئك كفيل.
ما زلت أذكر ذلك الصباح بتفاصيله الدقيقة. لم أصدق في البداية ما سمعته
وكنت في طريقي، كما في كل صباح، الى مكتبي في مبنى «بيت الشرق» حيث كنت
أعمل لسنين طويلة مع فيصل الحسيني.
أعرف أنني لست وحيدا في تذكر تفاصيل ذلك النهار الأسود، ومشاهد الجنازة
التي انطلقت من رام الله نحو القدس. نهر هادر من البشر يسيرون على
الأقدام وعلى وجوههم غير الحزن سكنت الدهشة الى جانب الخوف. كانت
الدهشة تفتش عن الحكمة في موت الأمل، والخوف كان على مصير «البيت» بعد
أن سقط سقفه وعماده. كانت فلسطين تبكي قائدا تفرد في تواضعه وفي
صلابته، وحكيما آمن بقوة المنطق وبضرورة العمل الدؤوب اليومي؛ فبمواجهة
قضايا الناس اليومية تبنى إرادات المناضلين الصحيحة، وبالتواجد في
الميادين ومنها يزهر أمل الناس البسطاء وتُبعث، بعد كل معركة صغيرة
كانت أم كبيرة، كرامات المضطهدين، ويقوى إيمانهم بضرورة التضحية من أجل
المدينة والوطن. كان فيصل خياطا ماهرا يعرف كيف يحيك الهم اليومي ليصنع
منه رداء واقيا للغد، وكيف يرتق خيمة القدس بأكف لا تخشى المخارز ولا
الهزائم، وكيف تبقى منيعة.
كان مؤمنا بحاجتنا لقراءة التاريخ، تاريخ قضيتنا، كي نستطيع سبر مغاليق
المستقبل، وكي نضع رؤانا المضمونة والسليمة من أجل ضمان تحرر شعبنا
واستقلاله وإقامة دولته العصرية
كم نحن بحاجة في فلسطين لمراجعة حياة فيصل الحسيني، ولا أقل منها
تداعيات رحيله، وذلك ليس فقط إكراما منا لسيرته اللافتة ولدوره المميز
في بناء القدس الفلسطينية العصرية ولاهتمامه في صياغة الهوية المقدسية
الواحدة الحرة، بل كي نستفيد وتستفيد المدينة من تجاربه وإرثه النضالي
في استعادة مكانتها وفي ترميم لحمة مجتمعها الذي بات يعاني، في غياب
قيادة مؤهلة وقادرة على صد الاختراقات الاسرائيلية الحاصلة على عدة
جبهات في حياة أهل المدينة، من فقدان المناعة الوطنية والتشظي
والانحرافات على أنواعها.
نحن نعرف كيف تتذكر بعض الشعوب تواريخ قادتها وكيف تحفظ المدن الكبيرة
سيَر من حافظوا على أسوارها وعلى ينابيعها ودأبوا أن تبقى مياهها
رقراقة صافية. أما في فلسطين فأنا أخشى أن البعض، وتحديدا في القدس، لا
يعرفون كيف يحمون ذكرى من زرع «القافات» في صدر التاريخ كي تبقى
مدينته/هم «قدسا» مضيئة ومشرفة في سماء الغرب والمشرق، ولا يصونون ود
من كان يدفع بصدره ترسا كي لا تصاب «عذاراهم» بضيم من مغتصب، وكي لا
يقطع سيف جلاد جديلة «المريمية».
في القدس، هكذا هي الدنيا، وعلى ما يبدو كما في سائر حواضر العرب،
الوفاء هو قيمة سائلة، لها تاريخ نفاد مثل سائر السلع، وعند البعض قد
يصير الوفاء، في أحسن الأحوال، استعارة جميلة معلقة على صدر بيت شعر أو
على عجزه، وساكن في الأطلال أو في حكاية كحكاية السموأل بن عادياء.
ثلاثة وعشرون عاما مرت على رحيل من كانت القدس معبودته وكان هو حارسها
الأمين، مرت من دون أن تُسمِع المدينة تنهيدة شوق أو تهليلة وجع. تمر
الذكرى والقدس في غيبوبة والناس في عجقة أو نعاس وكأنها نهاية العالم.
لا يوجد في شوارع المدينة أي شعار أو يافطة أو صورة تذكر برحيل فيصل
الحسيني، وكأن المدينة لم تنم على جفونه دهرا وعمرا، حتى السرو على
حوافي الطرقات كان كسولا يحاول أن يتفاهم مع الغبار على اقتسام الريح
والندى.
حاولت أن أركن سيارتي بجانب مدخل بيت الشرق، الذي ما زال مغلقا بأمر
حكومة إسرائيل منذ أكثر من عقدين، ولم أجد مكانا. فرحت، فقد افترضت أن
جميع أصحاب تلك السيارات جاؤوا ليشاركوا في وقفة لإضاءة الشموع بذكرى
رحيل فيصل الحسيني، كانت قد دعت إليها «اللجنة التحضيرية لإحياء ذكرى
رحيل الشهيد فيصل الحسيني».
أوقفت سيارتي في مكان بعيد وقفلت راجعا باتجاه بيت الشرق. كان عدد
المشاركين في الحدث قليلا بشكل ملحوظ، يتقدمهم عبد القادر نجل فيصل
الحسيني والى جانبه بعض العاملين السابقين الى جانب فيصل في بيت الشرق،
كما شارك النائبان أيمن عودة وأحمد الطيبي ووفد عن لجنة المبادرة
الدرزية والمطران عطا الله حنا وعدد من الشخصيات المقدسية وممثلون عن
القوى الوطنية في المدينة.
في الموقع تواجدت أعداد كبيرة من عناصر الشرطة الإسرائيلية وما يسمى
بحرس الحدود الذين هاجموا، مع بداية الوقفة، المعتصمين وقاموا بتمزيق
صور فيصل الحسيني التي كان يرفعها بعض المشاركين والمعلقة في المكان.
أكد جميع المتحدثين في الاعتصام على أهمية الدور الذي قام به فيصل في
بناء الوحدة المقدسية وتمتين لحمة المجتمع المقدسي ورسم عناصر الهوية
المقدسية الفلسطينية، كما أكدوا أيضا على نجاحه في بناء معادلة قوة
متكافئة مع الاحتلال كانت نتيجتها الفعلية حماية المدينة الشرقية وفرض
حالة ردع متبادل مبنية على مقولته «قد لا نستطيع أن ننتصرعليكم ولكننا
نستطيع أن نمنعكم من الانتصار علينا أو هزيمتنا».
في الواقع لن يكفي هذا المقال لاستعادة تفاصيل السياسة التي انتهجها
فيصل الحسيني في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي وفي سبيل المحافظة على
هوية المدينة الفلسطينية وفرضها كواقع، ليس فقط على إسرائيل، بل على
سائر دول العالم. ولئن كتبت في الماضي عن عناصر كثيرة اعتمدها في معرض
تثبيت مكانته كقائد حام للقدس ولمجتمعها ولمؤسساتها ولجميع فصائلها
وشرائحها، تذكرت اليوم في حديثي مع عبد القادر الحسيني ثلاثة من معالم
نهجه التي اتبعها وحاول أن ينشرها كدعائم للسياسة الفلسطينية ككل.
ففيصل كان مؤمنا بحاجتنا لقراءة التاريخ، تاريخ قضيتنا، كي نستطيع سبر
مغاليق المستقبل وكي نضع رؤانا المضمونة والسليمة من أجل ضمان تحرر
شعبنا واستقلاله وإقامة دولته العصرية. أما في مواجهته مع الاحتلال،
فعلاوة على وعيه بضرورة اكتساب عناصر القوة المتاحة، وإيمانه بأن
اختيار وسائل المواجهة الناجعة في الزمان والمكان المعينين هما من أهم
عناصر تفادي الهزيمة والفشل. علاوة على ذلك، وتثبيتا له كان يكرر دوما
في مواجهاته قولا مفاده «رأسي يمكنك أن تكسره لكنك لن تستطيع أن
تحنيه»، على ما تعنيه هذه المقولة من مآلات ومن معان وتبعات عملية
نضالية.
عندما أعلن نتنياهو، في العام 1999 حربه على بيت الشرق وأصدر أمره
بإغلاق المؤسسة والمبنى، تصدى له فيصل الحسيني وتمترس جسديا في داخله.
وتجندت الى جانبه القدس بمعظم مؤسساتها وقواها السياسية والدينية
وقيادة منظمة التحرير طبعا. استمر صموده حتى أجبر، في النهاية، حكومة
نتنياهو على التراجع عن أمرها، ليس قبل أن يعلن فيصل أمام العالم انه
لن يستسلم وأنه سيدافع عن قلعته/ القدس/فلسطين حتى آخر الأمل ففي
النهاية، هكذا كان يردد علنا «قيادة بلا بناية أفضل من قيادة بلا شعب».
فالشعب الذي تقدمه فيصل بصدره هو الذي حمى بيت الشرق الذي كان قلب
القدس وعنوان فلسطين السياسي في تلك السنوات؛ تلك كانت القدس التي
ساندت فيصل في زمنها الذهبي. فبعد أن رحل، أصدرت حكومة إسرائيل أمرا
جديدا قضى بإغلاقه. واغلق البيت فبدأت القدس تسير في مسيرة تيهها التي
لم تنته بعد. لقد أغلقت البناية وبقي الشعب بلا قيادة والمدينة بلا
شعب.
كنا نقف كمشة أشخاص، وراءنا شبح لبيت الشرق، وأمامنا عناصر الشرطة
الاسرائيلية الذين ما زالوا يخافون من صورة فيصل ومن ذكراه. كنا كمشة
توحدهم ذكرى ويجمعهم حنين وكان معنا فيصل الحسيني الذي تنفسه كل واحد
منا على طريقته وأرجعه، بعد وقفة قصيرة على رصيف الذكريات، الى مكانه
الدافئ بين حنايا الأضلع. تفرقنا وكان معظمنا يهز برأسه، وهي حركة
العرب التي يعبرون فيها عن المجهول أو عن العجز والقصور … أو ربما هي
الإشارة على أننا كنا نعرف ما المصيبة وما أسبابها، ولكن أحدا فينا لا
يملك الحل أو لا يجرؤ، في هذا الزمن العاقر، أن يجاهر به.
كانت الشوارع القريبة من بيت الشرق تعج بالشباب الذين يملؤون المقاهي
والمطاعم وبعضهم كان يتأهب لمشاهدة مسرحية «شجرة التين» للفنانة
المبدعة رائدة طه، أو عرض للفنان المميز علاء أبو دياب.
وراءنا بقيت المأساة وشبح الأورينت هاوس. كان على جدرانه نقش بحروف
باهتة تقول: عشرون عاما مرت فهلا تعلمنا أنه لا يوجد لبعض القادة خليفة
أو بديل؟ وهلا اعترفنا أن مدينة ينام أهلها عن حقهم في العيش بكرامة
وبهوية أصيلة سوف يأكلها الذئب وسينعق في خرائبها الغراب وسيحكم في
شوارعها الغريب؟
إنها المأساة يا أخي…
كاتب فلسطيني
النائب أيمن عودة من
الجبهة إلى الجبهة سيعود
جواد بولس
فاجأ إعلان رئيس قائمة الجبهة/العربية للتغير، النائب أيمن عودة، قراره
بعدم الترشح للدورة المقبلة للكنيست، معظم الأوساط الإعلامية والكثيرين
من متابعي شؤون السياسة على الساحة الإسرائيلية. ففي بث مصور، بادر
أيمن عوده الى نشره مساء الثلاثاء الفائت، قال إنه قرر أن يتخذ «موقفا
مسؤولا تجاه شعبنا، تجاه وحدتنا الوطنية، بألا أترشح للمرة القادمة،
وأن أسعى بمنهجية معكم جميعا من أجل العمل على بناء أوسع وحدة مبنية
على خط وطني كريم». وأضاف في كلمته بأنه سيبقى «نشيطا في هيئات الجبهة»
واصفا ذلك بالأمر البديهي.
تناولَت وسائل الإعلام العربية والعبرية، بطبيعة الحال، إعلان النائب
أيمن عودة باهتمام بالغ، وكذلك فعل المعقبّون على منصات التواصل،
فتراوحت ردودهم بين من أشادوا بالقرار مؤكدين كونه مخالفا «لعرف»
القيادات العربية، على طول وعرض الوطن العربي والتصاقهم بالكراسي
وعشقهم للمناصب، وبين من تناولوه بدوافع شخصية سطحية أو حزبية عصبية
وكأنهم وجدوها فرصة للمناكفة وللشماتة.
قد يكون التوقيت الذي اختاره النائب مفاجئا للكثيرين، خاصة أنه جاء في
خضم أوضاع سياسية استثنائية، سواء على ساحة الكنيست نفسها، أو خارجها،
في الدولة عموما وداخل مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص، لكنني أعتقد
أن قراره كان متوقعا ومحتوما لسببين أساسيين، كان من المفروض أن
يعرفهما المقربون من أيمن وكذلك مَن تابعوا مسيرته، في السنوات
الأخيرة، نحو مواقع القيادة داخل مؤسسات الجبهة الديمقراطية. السبب
الأول هو العلاقة المتوترة التي سادت بين المؤسسات القيادية في الحزب
الشيوعي الإسرائيلي، خاصة مع بعض أعضاء المكتب السياسي والى جانبهم بعض
قيادات الجبهة الديمقراطية وبين أيمن عودة ، علاقة أنتجت حالات من
التشويش المستمر، وخلق مشاهد ملتبسة وتهجمات مهينة بحقه، رافقتها
أحيانا قرارات حزبية قيدته بضوابط ثقيلة وألزمته بموانع حدت من حريته
في التحرك في مسائل سياسية مفصلية ومن تنفيذ برامجه ورؤاه السياسية،
على الرغم من التزامه بمبادئ الحزب والجبهة التاريخية والمعلنة.
والثاني، عملية التقهقر التي تشهدها الحالة الحزبية داخل مجتمعاتنا
وعزوف الناس عن العمل السياسي ورفضهم الانخراط والتعاون مع نداءات
الأحزاب والمؤسسات القيادية وخلق حالة شعبية جدية تأخذ على عاتقها
مواجهة الفاشية، من جهة، ومواجهة آفة العنف المستشري في مجتمعاتنا
المحلية، من الجهة الأخرى.
لسنوات طوال تبوأت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وعمادها
المركزي كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي، مكانة التنظيم الرائد في قيادة
نضال الجماهير العربية ضد سياسات الاضطهاد العنصري والقمع التي مارستها
حكومات إسرائيل ضد مواطنيها الفلسطينيين. ومنذ مطلع سبعينيات القرن
الماضي برز قادة الجبهة الديمقراطية، الشيوعيون وغير الشيوعيين، والى
جانبهم قيادات من تنظيمات أخرى، في اجتراح وسائل تنظيم الناس وهندسة
خرائط طرقهم في النضال على الجبهتين، الهوياتية القومية، والحقوق
المدنية. وكي لا ننسى تلك المناخات عسانا نتذكر بعض الأطر الوحدوية
التي بادر اليها في الأساس الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومن بينها لجنة
المبادرة الدرزية (1972)، اللجنة القطرية للطلاب الثانويين (1974)،
لجنة الدفاع عن الأراضي (1975)، الاتحاد القطري للطلاب الجامعيين
(1975)، لجنة المبادرة الإسلامية (1976)، الجبهة الديمقراطية للسلام
والمساواة (1977) وغيرها من الأطر، القطرية والبلدية، التي لعبت دورا
هاما في تحصين المجتمع والدفاع عن مختلف شرائحه، مثل اللجنة القطرية
للرؤساء، لجنة المتابعة العليا، حركة النساء الديمقراطيات، ولجان
التجار والأكاديميين وغيرها.
لا يجوز ولا يمكن إعفاء النائب أيمن عودة من المسؤولية عن الوضع الذي
وصلت إليه الجبهة الديمقراطية في السنوات الأخيرة، فقد كان يُعد في هذه
السنوات قائدا واعدا
لست في معرض تحليل الأسباب التي أدت الى اختفاء معظم هذه الأطر أو
بقائها مجرد هياكل ضعيفة، ولا أن أستعرض الأسباب التي جعلت مجتمعاتنا
المحلية تنأى عن الانخراط في النشاطات السياسية وعن التفاعل مع الأحزاب
السياسية الناشطة بيننا، لكننا نأسف على أنه بالرغم من تبخر قوة بعض
تلك المؤسسات والأحزاب، واقتراب الأخرى من الاندثار لم تبادر قياداتها
الى إعادة النظر في أوضاعها التنظيمية المتكلسة، ولا في برامجها
الاجتماعية والسياسية التي لم تعد صالحة لمواجهة واقع الدولة وحالة
الناس ومشاكلهم. وقد يكون هذا ما دفع في النهاية بأيمن عوده لاتخاذ
قراره المذكور.
من الضروري أن نسمع البيان بانتباه، فما قاله أيمن مهم وما لم يقله مهم
أيضا، وذلك لأن موقفه يعكس حالة شائعة يتعاطف معها الكثيرون من أبناء
مجتمعنا ومن بينهم أعضاء كثر في الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية،
فهو لن يترشح للكنيست في الدورة المقبلة ويؤكد في نفس الوقت على أن
القضية المركزية «التي سأعمل كل جهدي من أجلها هي المساهمة الجدية
والمنهجية من أجل القضية الأكبر، القضية الأم، وهي إنهاء الاحتلال. حيث
لا سلام ولا أمن ولا مساواة ولا ديمقراطية ولا علاقة طبيعية بين
الشعبين إلا بإنهائه. هنا ستتركز كل جهودي في السنوات المقبلة».
هكذا قال وكأني به ينتقد نفسه أولا ومعه ينتقد معظم اللاعبين السياسيين
في ساحاتنا بالقصور، وفي طليعتهم ينتقد جبهته التي، هكذا يجب أن نفهم
أقواله، لم تعمل بشكل جدي ومنهجي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي لم
تعمل على سائر الجبهات الهامة. لقد تخلت عمليا قيادات الجبهة عبر
السنين عن العمل بهدي المبادئ المؤسسة الراسخة والمعروفة التي جعلت حتى
بداية القرن الثالث، من الجبهة القطرية والجبهات البلدية المحلية،
وقيادييها ومعهم سائر العناوين الوطنية، مقالع لتنظيم الناس سياسيا،
ودفيئات لتربية الهوية الجامعة، ومظلات اجتماعية منيعة حمت المجتمعات
وأمنت للمواطنين حالة من السلم الأهلي وفضاءات من الأمن المجتمعي. هكذا
يشعر الكثيرون من مؤيدي الجبهة الديمقراطية وأنصارها التقليديين.
ألمح البعض على أن بيان أيمن عودة يتضمن إقراره بعدم نجاعة النضال من
داخل الكنيست وضرورة مقاطعة الانتخابات العامة الإسرائيلية، وهذه في
رأيي قراءة مخطوءة لكلامه، فعلاوة على تأكيده، في معرض البيان، على
تمسكه بضرورة المشاركة في الانتخابات والعمل على إدخال أكبر عدد من
النواب للكنيست، كما حصل مع القائمة المشتركة، علاوة على ذلك، يحتسب هو
هذا الإنجاز «كلحظة الزهو، المتمثلة بحصولنا على 15 مقعدا والشعور
الجماعي بالقوة»، كما يضيف على أن «هذه اللحظة يجب أن تعود وتؤسس
للمراحل القادمة». فهو، لمن يمعن في هذه الأمنية والوعد، يتنازل عن
مقاعد جبهته الديمقراطية، ليباشر، مع آخرين، عربا ويهودا، ببناء جبهة
شعبية أعرض تؤمن وتناضل بخط وطني كريم من أجل انهاء الاحتلال، لأن
الاحتلال كان وبقي هو المواجهة الأكبر، المواجهة الأم، اذ لا ديمقراطية
ولا مساواة في الحقوق ولا أمن ولا أمان مع الاحتلال.
لا يجوز ولا يمكن إعفاء النائب أيمن عودة من المسؤولية عن الوضع الذي
وصلت اليه الجبهة الديمقراطية في السنوات الأخيرة، فقد كان يُعد في هذه
السنوات قائدا واعدا ويحظى بدعم كبير بين صفوفها وداخل قواعدها
العريضة. لقد شعر، كما كان يعبر مرارا، بقصور مؤسساتها في العمل
النضالي الصحيح. لقد تطرق لتصوراته السياسية ورؤاه الاجتماعية، ليس في
مسألة مواجهة الفاشية والاحتلال وحسب، بل في مجمل القضايا الاخرى، مثل
ضرورة النضال المشترك مع القوى اليهودية، وبناء جبهة عريضة ضد الفاشية،
وقضية الدفاع عن الحيزات العامة، ومواجهة ظواهر القتل والعنف، باسبابه
المختلفة، وتراجع مكانة الحريات الفردية مثل حرية الإبداع وممارسته في
الأماكن العامة، وازدياد مظاهر الإكراه الديني والتراجع في مكانة
المرأة وحقها في ممارسة حياتها بحرية، وغيرها من المواضيع التي كانت
الجبهة الديمقراطية أول من صاغها وتبناها ودافع عنها بعناد ما زلنا
نذكره.
لا أعرف لماذا لم يحسم أيمن عوده مواقفه في معظم تلك العناوين عندما
كان يستطيع حسمها من داخل الجبهة. ربما خاف من شق صفوفها فتردد، أو
ربما، كان مرد ذلك وفاؤه لمن سبقوه في رسم معالم الطريق وربما كان يؤمن
بأنه قادر على استرضاء «الحرس القديم» وإقناعهم بضرورة العمل موحدين من
داخل جبهة جديدة ومتجددة وقادرة على استرجاع المقاود الآمنة، لكنه لم
ينجح.
لم أكتب المقال دفاعا عن عودة ولا عن خطوته المعلنة، فمآلاتها
المستقبلية ما زالت قيد التخمين والترقب، بل أكتب كي أؤكد مرة أخرى على
أننا نشهد أفول أدوار الأحزاب السياسية التقليدية ونفاد صلاحيتها،
وبضمنها طبعا الجبهة الديمقراطية التي تربيت في حضنها، فإذا لن ينجح
مجتمعنا بتخطي هذه المحنة السياسية الكبيرة، سنغرق أكثر في وحول
الفاشية وفي دماء عجزنا المتفاقم. لقد وصلنا اليوم الى ما وصلنا اليه
فصارت حظوظ بناء الجبهة العريضة ضد الاحتلال وضد الفاشية، التي يحلم
فيها كل مناضل وحر وسياسي يؤمن بالواقعية الكفاحية، تتقلص بشكل مقلق،
لكننا لن نفقد الأمل.
لقد أصدرت الجبهة الديمقراطية بيانا عقبت فيه على إعلان النائب أيمن
عودة، جاء فيه أن «النائب أيمن عودة كان قد أشرك الجهات المخولة بقراره
وعدم ترشحه لدورة إضافية، وهو قرار نقدره ونحترمه، كما نحترم الدور
الكبير للنائب عودة على مدار عقدين من الزمن في قيادة الجبهة». قرأت
البيان ولم أعرف أأبكي أم أضحك؟ لقد تناسوا كيف جلده بعضهم وصلبوه
واتهموه بالكبائر وحولوا حياته داخل الجبهة الى جحيم لا يهادن. أأبكي
أم أضحك؟ فهكذا يولد الرياء في مطارحنا، وهكذا تهدم صروح آبائنا وهكذا
«نجوع ونعرى وقطعا نتقطع.. فلتسمع كل الدنيا فلتسمع».
كاتب فلسطيني
واقفون على أهداب التاريخ…
من يحمي الديار؟
جواد بولس
لم ينجح الفاشيون في الاستيلاء على أي نظام حكم في دولة ما، إلا
بالاستفادة من صمت أكثرية المواطنين في تلك الدولة ولامبالاتهم، أو
انغماسهم في شؤون حياتهم اليومية، سواء كانوا كادحين من أجل لقمة
العيش، أو مترفين في أحضان الدولة ودلالها ومالها. ولن تختلف الحالة
الفاشية الإسرائيلية الحاضرة عمّا جرى في تلك الدول التي تشكّل فيها
نظام حكم فاشي عنصري متكامل، أو ديكتاتورية لا تعرف إلا ممارسة سياسات
القمع والاضطهاد، خاصة ضد معارضيها، أو ضد من تعتبرهم أعداء الدولة
وأمنها.
لقد لاحظنا في الأشهر الأخير تناميا جدّيا في نشاطات المجموعات الفاشية
اليهودية واعتداءاتها الدموية، خاصة على المواطنين العرب؛ ولئن شهدنا
في الماضي حدوث مثل هذه الجرائم بشكل متفرق، لا بد أن يقلقنا اليوم
اتساعها وشيوعها، وكذلك ما اكتسبته من امتيازات مجتمعية ودعم مالي
وقانوني سلطوي، سيضاعف من خطورتها وينذر بما ستشكّله في المستقبل
القريب علينا، حين ستباشر «عملها» بشكل رسمي كأداة سلطوية موكلة بتنفيذ
سياسات الترهيب الحكومية والقمع، وطبعا القتل من دون محاسبة.
لا يستطيع أحد أن يتكهن إلى متى ستحافظ هذه الحكومة على تماسكها، ولا
ما هي وجهة المجتمع الإسرائيلي النهائية ازاءها؛ فمن الواضح أننا نواجه
فصلا جديدا في حياة جميع أجنحة الحركة الصهيونية؛ والأبرز في هذا
المشهد هو حالة العناق غير المسبوق بين الحركات الصهيونية القومية
اليمينية، والحركات الدينية الصهيونية على مختلف مشاربها وعقائدها.
ومن دون أن استرسل في مآلات وتداعيات هذه الحالة المتشكّلة، أود أن
أشير إلى نقطة واحدة لأهميتها، برأيي. فإسرائيل تعيش، منذ نهاية
الانتخابات الأخيرة وتشكيل حكومة نتنياهو الحالية، حالة انقسام،
عامودية وأفقية، واضحة بين معسكرين أساسيين؛ يضم المعسكر الأول مناصري
حزب الليكود وحلفائه في الحكومة الحالية، بينما يتشكل الثاني من حركة
شعبية واسعة تحركها، إلى جانب ناشطين وقياديين من أحزاب المعارضة،
قيادات هيئات ومؤسسات وجمعيات مدنية، هبّوا جميعهم معترضين على شرعية
برنامج الحكومة المسمى كذبا «برنامج الإصلاحات القضائية».
رفع المعارضون منذ أيام الاحتجاجات الأولى شعار الديمقراطية وضرورة
المحافظة عليها كأساس من دونه لن تبقى إسرائيل دولتهم التي عاشوا فيها
وقاتلوا من أجلها، بل ستصبح، تحت حكم حكومة نتنياهو، ليفين، روطمان،
سموتريتش وابن غفير، دولة ديكتاتورية ثيوقراطية تعتمد سياسة الإكراه
الديني والاضطهاد والقمع، ولا مكان للمعارضين فيها. لقد كان واضحا
للكثيرين، وضمنهم بعض من قيادات تلك المظاهرات المعارضة للحكومة، أن
رفع شعار الديمقراطية لوحده غير كاف وغير صحيح؛ وصرّح بعضهم بأنه من
دون إرفاق شعار الديمقراطية بشعاري إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبتأمين
المساواة الكاملة للمواطنين العرب في إسرائيل، لن تتحول حركة المعارضة
الحالية إلى مفاعل سياسي قادر على الفوز بحكم مبني على أسس جديدة
ومغايرة لتلك التي سادت قبل وصول القوى الحالية إلى الحكومة؛ علما بأن
جميع هذه القوى اليمينية، وصلت إلى هذه الحكومة والسيطرة على معظم
مرافق الدولة في ظل تلك «الديمقراطية» التي كانت الحكومات الإسرائيلية
المتعاقبة تدّعيها، بينما كانت تمارس احتلالها للأرض الفلسطينية وتنفذ
سياسات الاضطهاد بحق مواطنيها العرب.
ما زالت أغلبية المتظاهرين ضد الحكومة ومعظم قياداتهم متمسكة بشعار
الديمقراطية لوحده، بيد أننا بدأنا مؤخرا نسمع ونشاهد العديد من
الأكاديميين والشخصيات النخبوية اليهودية، وهم يعبرون عن ضرورة تبني
شعاري «لا للاحتلال ونعم للمساواة»، كجناحين لن تحلق الديمقراطية
دونهما. قد يعود الفضل في اتساع هذه الظاهرة إلى مشاركة فرق من العرب
واليهود، الشيوعيين والجبهويين وغيرهم، في تلك المظاهرات وإيمانهم بأن
مشاركتهم، رغم ما ينقصها من عناصر سياسية نضالية سليمة، هي فعل نضالي
لا يوجد مثله، أو بديل عنه في قرانا ومدننا، ويمكن ممارسته بشروطهم،
كما فعلوا وهم رافعون شعاراتهم المميزة ونداءاتهم البارزة ضد الاحتلال
ومع المساواة والديمقراطية. إن النجاح في إحلال الشعارات الثلاثة
وترسيخها كمطالب تنادي بها قطاعات واسعة من المجتمعات اليهودية، من
شأنه أن يخلق واقعا جديدا حيال علاقة الحركة الصهيونية، أو أجزاء واسعة
من داخلها، بالأرض، وفي فكرة بناء إسرائيل التوراتية الكبرى والتمسك
بالاحتلال؛ ومن جهة ثانية حيال مفهوم المساواة التامة في دولة يجب أن
تكون لكل مواطنيها، كي تكون دولة ديمقراطية. وبطبيعة الحال فإن نجاح
الحركة الشعبية ضد الحكومة الحالية سيضع حدا لزحف الفاشية وتنفيذ قمعها
واضطهادها المتوقعين.
أعود للكتابة عن المظاهرات وأهميتها، لأنها الحدث البارز الإيجابي
الوحيد الجاري بيننا وفي محيطنا القريب والبعيد؛ ولأن استمرارها، رغم
نواقصها وانتقاداتنا لها، يبعث في فضاءاتنا المعتمة بريقا من أمل
وإيمان بإمكانية صد الفاشية ومواجهة هذه الحكومة التي في رعايتها وتحت
مظلاتها ستمارس ميليشيات «الحرس الوطني» وتفرّعاته الرسميه وغير
الرسمية، قمعها بإفراط لم نشهد، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل،
له مثيلا.
لا يمكن لعاقل بيننا أن يستمر في ممارسة حياته العادية من دون أن يفترض
بيقينية قاطعة أن اعتداءات الفاشيين على الشباب العربي، في الأماكن
العامة وعلى الطرقات، ستصبح مشاهد عادية وشبه يومية. لقد شاهدنا تسجيلا
مصوّرا لعملية قتل الشاب ابن قرية صندلة، ديار العمري، يوم السبت
الفائت؛ وشاهدنا كيف رماه قاتل يهودي مأفون بالرصاص وتركه يغرق في
دمائه على قارعة الطريق. وعلى الرغم من اعتقال القاتل، وهو من بلدة
«جان نير» المجاورة لقرية صندلة، لا نستطيع أن نجزم بأنه سيدان وسينال
عقابه؛ فإذا قسنا حالته على سوابق مماثلة حدثت في الماضي، لاسيما عندما
كان القتلة من بين صفوف قوات الأمن، فقد يفلت، مثلما أفلتوا، من
العقاب. إننا، كمواطنين في دولة عنصرية، نعيش واقعا مخيفا، أمست حيوات
أبنائنا فيه في خطر يومي وحقيقي، ففي أسبوع واحد هاجمت فرق يهودية
فاشية عددا من الشبان العرب؛ وكان من الملاحظ أن الهجمات نفذت في وضح
النهار وفي أماكن عامة ومكشوفة، وقد برز من بينها الاعتداء في إحداها
على حارس، من أبناء الطائفة الدرزية، كان يمارس عمله في حراسة مزار
يهودي في جبل ميرون قرب مدينة صفد، فهاجمه سبعة رجال يهود واعتدوا عليه
بالضرب بقضبان حديدية وركلوه وهو على الأرض وألقوا عليه حاجزا حديديا
فأصيب ونقل إلى المستشفى.
أتمنى ألا تنسى هذه الحوادث كما نسيت تلك التي سبقتها؛ فكما قلت في
البداية، فإن فطريات الفاشية تتكاثر في سهول النسيان أو على ضفاف الوهم
والمبالغة أو في حضن الروتين والعجز. لقد لفت انتباهي بعد مقتل الشاب
ديار العمري موقفان؛ الأول، أطلقته «حركة حماس» من غزة، فأقلقني،
وتمنيت لو أنها لم تفعل. بعد أن زفت حماس «إلى جماهير شعبنا الفلسطيني
العظيم الشهيد الشاب ديار العمري، الذي ارتقى برصاص مستوطن صهيوني، في
بلدة صندلة، بمنطقة مرج ابن عامر بالداخل الفلسطيني المحتل»، كما جاء
في الأخبار، أضافت الحركة على لسانها: «أن شعبنا البطل لن يمرر جرائم
الاحتلال ومستوطنيه بلا رد، وسيصعد مقاومته ردا على جرائم الاحتلال
وثأرا على دماء الشهيد عمري وكل أبطال شعبنا وآخرها تلك التي روت ثرى
نابلس وطولكرم، فدماء أبناء شعبنا ليست رخيصة وسيدفع العدو الثمن
غاليا». لقد أصدرت «حركة حماس» في الماضي بيانات شبيهة لهذا البيان،
وطالبت فيها أيضا المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل بتصعيد مقاومتهم
والرد على جرائم الاحتلال وتدفيع إسرائيل الثمن غاليا؛ وأذكر أنني كتبت
حينها راجيا «حماس» وجميع الفصائل الفلسطينية وغيرها من قوى خارجية أن
تعفينا من هذا الحب، وأن يتركونا ندير شؤوننا كما ترتئيها أحزابنا
ومؤسساتنا القيادية، وفي طليعتها «لجنة المتابعة العليا»، وكما توجبها
مصالحنا، خاصة في هذه الأزمنة العصيبة وشبه المصيرية عندنا. وكما قلت
في حينه أقول اليوم: اتركونا نواجه مصائرنا بأنفسنا ومن مواقعنا، فنحن
أدرى بشعابنا وبشواطئنا ونعرف، كما عرف أباؤنا، كيف نناضل. كلامكم كما
ورد لن يسعفنا، ويخلق بيننا بلبلة والتباسا نحن في غنى عنهما. أحبونا
برويّة وبقسط فنحن نحب غزة ونتمنى من أجلها أن تنجحوا أولا برتق أوصال
الوطن المقطعة وبعدها بتحرير نابلس وطولكرم وغزة طبعا.
والموقف الثاني، عندما تنادى أعضاء «لجنة المتابعة العليا» للاجتماع في
قرية صندلة كخطوة تقر بجلال المصيبة وللتضامن مع أهل الضحية وقرية
صندلة المكلومة. وقد صرح رئيس لجنة المتابعة، محمد بركة بعد الاجتماع
وقال: «كان لنا اجتماع في قرية صندلة واتخذنا سلسلة خطوات من بينها
تنظيم مسيرة في القرية بعد أن يتشاور أهل القرية في ما بينهم، لكن نحن
قطريا بصدد تسيير قافلة سيارات من النقب والشمال مرورا بالمثلث وشارع
6، شمالا وجنوبا، وصولا إلى القدس وإقامة خيمة اعتصام في مدينة القدس.
كما نبحث إقامة مظاهرة قطرية كبيرة إلى جانب وقفات ثابتة أسبوعية في
العديد من القرى والمدن». لا أعرف إذا كانت تلك الخطوات، في ما إذا
نفذت، كافية لمواجهة الحالة المأساوية التي نعيشها، لكنها تبقى مقترحات
محلية صادرة عن «لجنة المتابعة العليا» بصفتها الهيئة التي تمثل قضايا
الجماهير العربية في إسرائيل، ولها، في علاقاتها معنا، ما لها وعليها
ما عليها. ولأنها كذاك فكلي أمل، مثل آلاف المواطنين، أن تنجح «لجنة
المتابعة العليا» باجتراح الحلول والردود الكفيلة بحمايتنا وبمواجهة
خطر الفاشية والفاشيين، فنحن واقفون على أهداب التاريخ. ولأنها صاحبة
الحقل والبيدر كنت أتوقع منها كذلك وأتمنى عليها، أن تردّ على بيان
«حركة حماس»؛ فقد عوّدنا الإخوة الفلسطينيون وعوّدناهم بدورنا، مذ خلق
النضال، أن ما لغزة ولنابلس يكون لغزة ونابلس، وما لصندلة وللناصرة
يبقى لصندلة والناصرة.
كاتب فلسطيني
خضر عدنان…
من الحياة إلى الحياة
جواد بولس
لم أهيّئ نفسي لأكتب عن خضر عدنان بلغة الماضي، ولا أن أستحضر تفاصيل
من لقاءاتي الكثيرة معه، كي أرسم معالم شخصيته الفريدة في لحظة غيابه
التراجيدي؛ فرغم من وصوله إلى حالة صحية محرجة آمن هو، وتمنيت أنا، مثل
كثيرين ممن كانوا على مقربة من تداعيات حالته الصحية، وتطورات قضيته في
المحكمة، بأنه، هو ونحن، سوف نجد المخرج الآمن، والحل الذي سوف ينقذه
من النهاية المأساوية. كان خضر يعرف أنه يخوض معركته الحالية في معطيات
وأجواء فلسطينية وعامة مغايرة عن تلك التي كانت قائمة في جميع مواجهاته
السابقة؛ ورغم استيعابه لوجود الفوارق، أصر أن يمضي في طريقه مؤمنا
بنصره؛ فهو، هكذا أفهمني في زيارتي له في اليوم الأربعين لإضرابه، لم
يتغيّر وبقي هو العنصر المركزي في معادلة الصدام الجاري. فخضر الذي رفض
المذلة والضيم، وواجه السجان/ الاحتلال من أجل أن يعيش بحرية وبكرامة،
لم يزل هو ذلك الخضر الذي يؤمن بضرورة الاشتباك مع الاحتلال، حتى في
أحرج مفارق الحياة وأخطرها.
لقد اتصلت عائلته معي عساني أستطيع أن أساعد، إلى جانب المحامي الذي
كان موكلا عنه، في فكفكة تعقيدات قضيته الجارية في المحكمة العسكرية في
«سالم» الواقعة بالقرب من مدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلة. طلبت
مني العائلة أن أزوره في عيادة سجن الرملة، وأحاول التفاهم معه حول
مصير الملف واحتمالات إنهائه مع نيابة الاحتلال العسكرية. وافقت وقمت
بتحديد موعد للزيارة وذهبت إليها بمشاعر مضطربة؛ فأنا أعرف خضرا جيّدا،
وسوف يكون صعبا عليّ إقناعه بأن يتنازل عن موقفه بسبب اختلاف الظروف
وملابسات قضيته.
«أريد أن أعيش طبعا، فأنا أحب الحياة وأحب عائلتي، لكنني مستعد أن أموت
حرا كي أنال تلك الحياة الحرّة وينال شعبي حياته الحرة الكريمة؛ فإما
الحرية وإما الحرية»
كنت جالسا خلف الزجاج في غرفة زيارة المحامين، حين أدخلوه من الجهة
الثانية، على كرسيه. رآني فتبسم من بعيد، كما في كل مرة، بابتسامة
هادئة يخجل منها الفل، وفوقها كان جبينه يفيض حنينا أسمر، وفي وسطه ضوء
خافت حزين وقلق. كان محتجزا في غرفة لوحده، يقومون بتفتيشها حتى في
ساعات الليل بهدف التشويش عليه وقلقلة راحته. كان يشرب الماء فقط ويرفض
إجراء أية فحوصات طبية. كانت تبدو عليه علامات الضعف وكلامه كان بالكاد
مسموعا ويخرج من فيه ببطء واضح. بدأت حديثي معه حول صعوبة الظروف
العامة لانتقل بعدها للحديث في الخاص وعن مواد لائحة الاتهام الموجهة
ضده. أوقفني وطلب، بأدب مطبوع فيه، أن يقول لي جملتين. أخذ نفسا عميقا
وقال بحزم: «مطلبي هو الحرية ولا شيء دونها، أفهِمهم أنني لن أرضى بأقل
منها، فأنا معتقل سياسي ومكاني بين أهلي وبين شعبي». ثم أضاف بعض
الكلمات عن الشهادة وعن استعداده لنيلها وأكّد حبه للحياة واشتياقه
لعائلته وللبلد. في لحظة ما أوقفته وطلبت أن يسمعني. ذكّرته ببدايات
معرفتنا عام 2012 عندما كان معتقلا إداريا ويخوض اضرابه الشهير عن
الطعام. وقتها، في لقائي الأول معه، تفاهمنا واتفقنا على المبادئ
والشروط التي يجب أن تتوفر كي ينجح الإضراب وكي أنجح في تحقيق ما يطلبه
وهو نيل حريّته. كان أول تلك الشروط قناعة المضرب بحقه وبقدرته على
الصمود، حتى لو وقف على حافة الدنيا؛ والشرط الثاني هو نجاحه بإقناع
الغريم الإسرائيلي بأنه، كأسير مضرب لا يناور، بل هو مؤمن بخطوته
ومستعد لأن يدفع حياته مقابلها. واتفقنا أيضا على أن المطلب الذي من
أجله يعلن الإضراب يجب أن يكون قابلا للتنفيذ وليس مطلبا تعجيزيا.
والأهم من جميع ذلك اتفقنا على أن تكون رسالة المضرب موجهة لكل شرائح
الشعب الفلسطيني ولأحرار العالم، وغير محصورة لصالح الفصيل أو التنظيم
الذي ينتمي إليه الأسير، وأن يتصرف المضرب موجها رصيد نضاله وريع نصره
عندما يتحقق، في حساب النضال الفلسطيني العام ضد الاحتلال وليس في
«خزينة» أي فصيل أو تنظيم أو حزب معين. ناقشت معه، على مدار أكثر من
ساعتين، هذه القضايا، وراجعت معه ما سميته في حينه «فرضية العمل
الأساسية»، التي بمقتضاها افترضت أن خضرا أو أي أسير مضرب عن الطعام،
يدخل إضرابه لأنه يريد أن يعيش، ولأنه يحب الحياة؛ بيد أنه، في الوقت
نفسه، يأخذ في حسبانه إمكانية استشهاده؛ ومن الجهة الأخرى، كانت فرضيتي
تعتمد على أن الجانب الإسرائيلي لا يريد بدوره أن يموت المضرب عن
الطعام، ولكن إذا حصل هذا الأمر في النهاية فسوف يكونون مستعدين
لمواجهة الحدث بسيناريو معدّ من قبل، وكي نضمن ألا يحدث هذا، علينا أن
نجد المعادلة الصحيحة والدقيقة لتحقيق النصر الذي تستطيع عنجهية
الاحتلال هضمه، أو ترغَم على هضمه. تساءلنا فيما إذا حدث خلل على هذه
المعادلة في شقها الإسرائيلي.
لم يكن صعبا علينا أن نستعيد جميع تلك التفاصيل ونتذكر مضامينها، فهي
كانت أسسا رافقت تجارب خضر في جميع إضراباته السابقة عن الطعام، وهي
التي ضمنت انتصاره ونيله حريته بكرامة وبعزة في جميعها، خاصة في إضرابه
الكبير عام 2012، الذي اضطرت فيه إسرائيل إلى الموافقه على الإفراج عنه
في اليوم السابع والستين عندما كان على وشك أن يفقد وعيه ويدخل في
غيبوبة الرحيل، وهو على السرير في مستشفى صفد. لم تكن «المشكلة»، كما
برزت في الزيارة، في اقتناع خضر بضرورة تحقق هذه المبادئ وتوفرها في
إضرابه الحالي، بل كانت في فهمه لمعنى النضال ضد الاحتلال وقناعته
الصارمة بواجب المواطن الفلسطيني رفض الذل والمهانة. فهو يرى أن
الفلسطيني الذي لا يقتنع بذلك لن يكون له مبرر إنساني للاستمرار في
ممارسة حياته بخنوع روتيني كالعبد، وهو فاقد لحريته الطبيعية ومسلوب
الكرامة ذليل. وبلغة أخرى، كما قالها هو: «أريد أن أعيش طبعا، فأنا أحب
الحياة وأحب عائلتي، لكنني مستعد أن أموت حرا كي أنال تلك الحياة
الحرّة وينال شعبي حياته الحرة الكريمة؛ فإما الحرية وإما الحرية». إنه
باختصار الاستعداد للتضحية بالجسد ليذهب حامله محتضنا حريته وكرامته
المطلقتين. لقد آمن خضر أنه يقوم بالفعل الصحيح والضروري ضد اعتقاله
هذه المرة أيضا؛ فتوجيه لائحة اتهام له لا يغير قناعته، لأنها لائحة
سياسية تستهدف إبعاده عن مجتمعه وتحييد دوره السياسي الذي بات يزعجهم.
لقد رفض التعاطي مع المحكمة كأنها منصة شرعية، ولأنها غير قادرة على أن
تكفل له حق الدفاع النزيه والموضوعي، لاسيما وأنه متهم بالتحريض ضد
الاحتلال وبكونه عضوا في الجهاد الإسلامي، وهي اتهامات سياسية وممجوجة،
ليس لأنه لم يعترف بها أصلا أثناء التحقيق معه، بل لأنه اعتقل في
الماضي على أساس أنه ناشط في تنظيم الجهاد الإسلامي ويحرّض باسمه ضد
الاحتلال وضد المحتلين. فهو كما قال، كان قد دفع ثمن هذه الاتهامات
قرابة الثمانية أعوام من عمره قضى معظمها في الاعتقال الإداري، مواجها
شبهة كونه ناشطا كبيرا في حركة الجهاد الإسلامي؛ فلهذا السبب يصرّ هذه
المرة أيضا على كونه صاحب حق وقضية، ويعلن أنه سيستمر في إضرابه حتى
يضمن حقه في محاكمة عادلة ونزيهة -والمحكمة العسكرية لا تضمن له ذلك –
أو حتى ينال حريته.
قد تكون لغة خضر حيال مفهومَي الحرية والكرامة من جهة والتضحية
والشهادة من الجهة الأخرى مستفزة لكثيرين، أو عصية على فهم أكثرية
الناس الطبيعيين غير القادرين على تذويتها وتحويلها من ممارسة فكرية
وعقلية إلى حالة فعل تقضي بضرورة مقاومة الاحتلال بجوعك، حتى يصبح
الجسد هو الأداة الوحيدة في المعركة والقادرة على تحقيق نصرك في
الحالتين، والكفيلة بتأمين حريتك في الحالتين أيضا. إنها لغة قد تخيف
البعض، وقد تكون غريبة عن قاموس الكفاح الفلسطيني الحديث، الذي خضع عند
معظم الفصائل والحركات والأحزاب الفلسطينية في السنوات الأخيرة إلى
عمليات تعقيم واستئصال عدة مفاهيم نضالية.
غادرته واعدا إياه أن أطرق باب النيابة العسكرية العامة لأنقل لهم
رسالته، والتأكيد على أنه يطلب الإفراج عنه ولا يريد أن يموت، لكنه
مستعد أن يمضي نحو ذاك البعيد المطلق إذا لم يترك له إلا هذا الخيار.
كان في قلبي وجع، فمعركته/معركتنا هذا المرة مختلفة من الوريد إلى
الوريد. لم تبدأ رحلة خضر نحو ذلك البعيد مع أسره هذه المرة؛ فمن يتابع
مسيرته في العقد الأخير، لن يجد صعوبة في تشخيص العوامل التي ساعدت على
محاصرة تجربته النضالية، خارج السجن وداخله، ومساءلة نهج الإضراب عن
الطعام، وزجّه في خانة ملتبسة. ولن يكون الوقوف على الظروف التي أدّت
إلى تقويض احتمالات ترسيخها كنهج نضالي من شأنه أن يحرج الاحتلال،
صعبا. فهذه مسألة بحاجة إلى مراجعة وتحقيق وتقييم والكتابة عنها وفيها،
وإلى أن يتم ذلك أخشى أن مع رحيل خضر عدنان المأساوي والسرعة الغريبة
التي «هضمته» فيها فلسطين، على جميع أطيافها السياسية وحركتها الأسيرة،
سينتهي فصل آخر من فصول نضالات الحركة الأسيرة الفلسطينية، وهو نضال
المِعَد الخاوية.
كان يوم الثلاثاء الفائت قاسيا، ورغم الحسرة لن أقول خسارة على رحيل
مناضل مختلف وخلافي بالنسبة للبعض؛ ورجل بادلني الحب بالحب والاحترام
بالاحترام، صديق حذرته في الماضي ألا يقبل أن يصير أسطورة أو بطلا في
إحداها «فلطالما بقيت كعاب الأبطال عارية وعرضة لإصابة سهام الحقد
المسمومة» وتمنيت عليه أن يبقى «نقيا كالنبع، عاديا كالنار، حرا
كالريح، وضعيفا كالندى.. وأن يبقى إنسانا لا أقل ولا أكثر». هكذا تمنيت
عليه بعد إنهاء إضرابه عام 2015، ولكن كان للنبع حنينه وطباعه، وللنار
ذراها وللريح خيالها، وأما الندى فهو كأنفاس الطبيعة باق على خواصر
الشرفات وأهداب الفجر ليس في عرابة جنين وحسب، إنما في كل أرض طيبة.
فسلام عليك صديقا وإنسانا مميزا ستدوم ذكراه لديّ وستبقى، وفي
الأساطير، ربما.
كاتب فلسطيني
بين «استقلال»
ونكبة أولى وثانية
جواد بولس
قد تكون الاحتفالات بما يسمى يوم «استقلال» إسرائيل، كما أقيمت قبل
يومين في مواقع ومدن إسرائيلية عديدة، حدثا مفصليا لن يتكرر في السنوات
المقبلة بالصيغ نفسها التي شاهدناه عليها، ولا وفق البروتوكولات
والمفاهيم التي كانت متّبعة منذ سنوات طويلة، وكانت محطّ إجماع ارتضته
جميع شرائح المجتمعات اليهودية وتيّاراتها الاجتماعية والسياسية
المحلية وفي أرجاء العالم.
لقد عملت، خلال العقود الماضية، جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة،
ومعها معظم قيادات المؤسسات والهيئات في الدولة، على تحويل جميع مراسم
الاحتفالات بيوم «الاستقلال»، وما تسبقه من فعاليات متعلقة بهذه
الذكرى، إلى حدث رسمي «ودولاتي»، أي حدث يخص الدولة كونها كيانا تعلو
مكانته على مكانة الأحزاب وسائر المؤسسات والهيئات السيادية. لقد كان
القصد من وراء تلك السياسة هو تحييد مكانة الجيش الإسرائيلي وأجهزة
الدولة الأمنية، ومعهم جميع رموز الدولة، كالعلَم والنشيد الوطني ورئيس
الدولة ورؤساء السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمقابر
العسكرية والجنود الذين سقطوا أثناء مشاركتهم في العمليات العسكرية أو
الحربية، وعائلاتهم، بتحييدهم عن الصراعات القائمة داخل المجتمع وعدم
الزج بهم كطرف في أية مناكفات دائرة بين القيادات السياسية، مهما كان
منشؤها أو مرجعياتها.
لقد حافظت إسرائيل، الرسمية والشعبية، على هذه القاعدة بصرامة فاقت كل
التوقعات، حتى تحوّلت الاحتفالات بمثل هذه المناسبات/ الأيام، الذكرى
والبطولة والاستقلال والغفران وغيرها، إلى أحداث تتوحّد فيها مشاعر
معظم يهود العالم، وإلى محطات يقفون عندها كجسد واحد متماسك ويمارسون
فيها كشعب عملية تذكّر جماعية للهمّ نفسه وللوجع ذاته، ويستشرفون معا
الأمل نفسه والمستقبل نفسه.
هكذا كانت الحال إلى أن نشبت في الآونة الأخيرة المعركة بين معسكر
بنيامين نتنياهو وحكومته، ومعارضيهم من مواطنين وأحزاب، والعديد من
مراكز القوى الإسرائيلية والعالمية، فبعد الإعلان عن إقامة حكومة
نتنياهو وتسمية وزرائها، وبعد أن كشّروا عن أنيابهم الحقيقية وشرعوا
بتنفيذ انقلابهم على نظام الحكم في الدولة، تحت ما سموه، كذبا وتمويها،
بعملية إصلاح الجهاز القضائي، قررت قطاعات وشرائح واسعة من المواطنين
اليهود، من داخل إسرائيل ومن خارجها، التصدّي للمخطط المعلن ومواجهته
بإصرار، تعكسه سلسلة المظاهرات الجبارة المقامة أسبوعيا، بمشاركة مئات
آلاف المواطنين في ساحات وشوارع المدن الإسرائيلية، بهدف إفشال مخططات
الحكومة الفاشية، والعودة إلى نظام حكم ديمقراطي حقيقي. لن أعود
للكتابة، في هذه العجالة، حول هذه المظاهرات ولا عن موقع المواطنين
العرب فيها، وعن مواقفهم حيالها، فما يهمني اليوم هو تداعيات المشهد
الذي أفضت اليه ممارسات حركة المعارضة الواسعة، التي ما زالت تنشط
وتتفاعل داخل المجتمعات اليهودية؛ وأدّت، كما شاهدنا في الأيام
الماضية، إلى المسّ «بحرمة» مراسم الاحتفالات بهذه «الأيام» التي كانت
تحظى بمكانة حصينة؛ خاصة، كما تقدّم، يومي «الاستقلال والذكرى». لقد
شاهدنا وسمعنا، ربما للمرة الأولى منذ عشرات السنين، أصواتا كثيرة
تستنكر حق هذه الحكومة وتعترض حق وزرائها أو مؤيديها من أعضاء الكنيست
المشاركة في إحياء مراسم هذه الاحتفالات الرسمية باسم الحكومة/الدولة
ووقوفهم على المنصات كممثلين رسميين لكل المواطنين والشعب. ما رأيناه
وسمعناه من أصوات تدّعي عدم شرعية هذه الحكومة وعدم أهلية وزرائها
للوقوف على المنصات الرسمية، يعكس عمق التصدّع القائم داخل المجتمع
الصهيوني- اليهودي؛ ويعكس، في الوقت ذاته، بروز بدايات تفكك صحة مفاهيم
«المقدس»، التي حاول، كما أشرنا سابقا، قادة الحركة الصهيونية على
مختلف تياراتها، ترسيخها كأصماغ واقية ومعززة لسياساتهم بشكل عام، خاصة
في خدمة ممارساتهم العسكرية والتوسعية. فالإصرار على مقاطعة العديد من
الشخصيات اليمينية واعتراض مشاركتهم في الاحتفالات يدلّ على أن
المسلّمات التي كانت قائمة حيال قدسية هذه الأيام وما تحمله من رموز
ورسائل ومشاعر، لم تعد مقبولة بمعطياتها وبمضامينها السابقة، ولا
بكونها مسلّمات تحظى بمكانة منزّهة فوق جميع الاعتبارات وإفرازات
الواقع؛ وتفيد كذلك بأن معظم القيم والمفاهيم التي أراد زعماء الحركة
الصهيونية حمايتها وحفظها من الانتقاد والاعتراض والمناقشة، ستخضع من
الآن فصاعدا للمناقشة وللتحدّي وللرفض أيضا، فالدولة التي تسعى لبنائها
حكومة نتنياهو الحالية ليست هي دولة أولئك الذين يتظاهرون ضد الحكومة،
وكذلك هو حال العلَم والجهاز القضائي والجيش والأجهزة الأمنية، فكل هذه
«الرموز» لم تعد تعكس عند جميع اليهود المعاني نفسها، ولا تؤدّي
الوظائف نفسها، ولا تحمل الرسائل الجامعة والموحّدة نفسها.
استمرار حركة المعارضة لحكومة نتنياهو الحالية، مؤشر إيجابي ومهم، لكنه
غير كاف لتحديد معالم المستقبل القريب
لا أعرف كيف ستتطور هذه الصراعات التي شهدنا بداياتها مؤخرا؛ فقد تكون
الخلافات حول تلك «المفاهيم والقيم المقدسة» بداية لمراجعات معمقة،
داخل بعض النخب اليهودية، حول معنى عسكرة المجتمع وتقديس الجيش
والموافقة على رفعه فوق كل الاعتبارات مهما فعل جنوده وقادته؛ وبداية
لطرح التساؤلات الجدية حول عنجهية المستوطنين وغطرستهم في اضطهاد
الفلسطينيين وقمعهم بوحشية سافرة، برضا المجتمع وغضّ بصره، وبدعم واضح
من فرق ووحدات جيش الاحتلال، وقد تكون الطريق، مع اتساع رقعة الخلافات،
أقصر كي يفهم المتظاهرون ضد ديكتاتورية نتنياهو ومخططات وزرائه، عبثية
الاكتفاء بشعار الديمقراطية، وعلى أن المطالبة به لوحده لن تنقذ دولتهم
من الدمار، ولذا فلن يستعيدوا حكمها كما يأملون. أقول قد تكون هذه
الصراعات بدايات لتغييرات أكثر جذرية ومصيرية من باب التمني، وأعرف أنه
من دون استيعاب الذين يحاربون الفاشية ويقفون ويهتفون ضدها، على ان
الاحتفالات بيوم «الاستقلال» وتقديس مفاهيمه ومكتسباته على الطريقة
القديمة، هو ما أدى في الواقع، عبر السنين، إلى نشوء تلك التيارات
السياسية اليمينية والفاشية، ومن دون استيعابهم أن الإصرار فقط على
إبعاد رموز الحركات اليمينية المتطرفة والفاشيين عن الاحتفالات لن يحدث
التغيير في مسار التاريخ، الذي أوصل إسرائيل الى وضعها الحالي، ومن دون
استيعابهم، كذلك، بأن الاحتفال بيوم «استقلالهم» والإصرار على أنه ولد
من رحم البطولات وتضحيات من حاربوا في سبيل إقامة إسرائيل، والإمعان في
التنكر لحقيقة أن ذلك اليوم هو عمليا يوم نكبة الشعب الذي كان يعيش في
وطنه وعلى أرضه، لن يفضي إلى استرجاع إسرائيلهم كدولة ديمقراطية لا
تحتل ولا تضطهد شعبا آخر، ولا تحرم خُمس مواطنيها من حق العيش بمساواة
وبكرامة وبأمان. نحن نعيش مخاضات حركة تاريخية مقلقة ومخيفة، لا نستطيع
اليوم تحديد مصيرها؛ فاستمرار حركة المعارضة لحكومة نتنياهو الحالية،
هو مؤشر إيجابي ومهم، لكنه غير كاف لتحديد معالم المستقبل القريب، ليس
لأن أكثرية المتظاهرين يطالبون بالديمقراطية كشعار فضفاض وحسب، بل لأنه
على الرغم من مرور الوقت، لم تنجح هذه الحركة الشعبية في تطوير قيادات
جديدة تؤمن بفلسفة سياسية مغايرة، وتسعى إلى تغيير جذري في مفاهيم
الدولة كدولة احتلال تضطهد شعبا آخر، ودولة عنصرية تمارس سياسة التمييز
والقمع ضد مواطنيها الفلسطينيين.
يراهن بنيامين نتنياهو وحلفاؤه الحاليون على هزيمة المعارضين لهم؛
ويسعون، بشتى الأساليب والأحابيل والوسائل، من أجل تحقيق هذه النتيجة.
وأنا، مثل كثيرين غيري، أتمنى ألا ينجحوا، لكنني أعرف أن من أجل
إفشالهم يجب أن يكون لنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، دور
فعال في حركة المعارضة ومواجهة هذه الحكومة، لاسيما على خلفية الصراعات
التي واكبت الاحتفالات بيومي الذكرى و«الاستقلال». فرفع شعار «يوم
استقلالهم هو يوم نكبتنا» وإطلاق مسيرة العودة هما فعلان مهمان من أجل
تذكير العالم وقادة وشعب إسرائيل بأن الاحتفاء بتجسيد «استقلالهم» يأتي
دوما على حساب نكبة شعبنا؛ ومن جهة ثانية من أجل تعزيز هوية الأجيال
الناشئة بيننا وتمتين انتمائها لفلسطينيّتها في هذا الزمن العربي
الرديء والفلسطيني الملتبس. وعلى الرغم من أهمية التأكيد على رفع هذا
الشعار والقيام بهذه الأنشطة، علينا أن نوقن بأنه من دون المشاركة
الحقيقية في مواجهة الحكومة، سنجد أنفسنا قريبا جدا، أمام نظام من طراز
جديد سيسعى من أجل «تذويقنا» مرارة نكبة ثانية، كما صرح بعض رموزه
المتنفذين.
«يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا» شعار صحيح ولكن ماذا نعمل وسنعمل كيلا
يكون يوم انتصار الفاشيين هو يوم نكبتنا المقبلة؟
كاتب فلسطيني
في البال قضايا فلسطينية:
سبت النور ويوم الأسير
جواد بولس
احتفل الفلسطينيون في السابع عشر من نيسان/أبريل، كما في كل عام، بذكرى
«يوم الأسير الفلسطيني»، الذي حلّ هذا العام والشعب الفلسطيني يواجه
حالة من تصاعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي عليه، وتنفيذ المزيد من
الجرائم والانتهاكات الممنهجة، تحت إشراف حكومة بنيامين نتنياهو
ووزرائه الجدد.
ووفقا لمصادر مؤسسة «نادي الأسير الفلسطيني» فإنّ عدد الأسرى
الفلسطينيين في سجون الاحتلال بلغ أربعة آلاف وتسعمئة أسير/ة، من بينهم
(160) طفلا، تقلّ أعمارهم عن (18) عاما و(31) أسيرة، إضافة إلى ما يزيد
عن (1000) أسير إداريّ ، بينهم ستة أطفال وأسيرتان هما رغد الفني وروضة
أبو عجمية. ويبلغ عدد الأسرى القدامى المعتقلين قبل توقيع اتفاقية
أوسلو (23) أسيرا، أقدمهم هو الأسير محمد الطوس المعتقل منذ عام 1985،
بالإضافة إلى ذلك فقد أعاد الاحتلال عام 2014 (11) أسيرا من المحررين
عام 2011 في صفقة «وفاء الأحرار»، أبرزهم الأسير نائل البرغوثي، الذي
يقضي في سجون الاحتلال الاسرائيلي أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة
الأسيرة، بواقع ثلاثة وأربعين عاما، قضى منها (34) عاما بشكل متواصل.
ومن المعطيات الواردة في التقرير يتضح أن عدد الأسرى الذين صدرت بحقهم
أحكام بالسجن المؤبد (مدى الحياة) بلغ (554) أسيرا بينما بلغ عدد شهداء
الحركة الأسيرة منذ عام 1967 (236) شهيدا، علما أن سلطات الاحتلال ما
زالت تحتجز جثامين (12) منهم وهم: الأسير الشهيد أنيس دولة، الذي
استشهد في سجن عسقلان عام 1980، والأسرى الشهداء عزيز عويسات الذي
استشهد عام 2018 وفارس بارود ونصار طقاطقة وبسام السايح، الذين
استشهدوا عام 2019 وسعدي الغرابلي وكمال أبو وعر اللذان استشهدا عام
2020، والأسير سامي العمور الذي استشهد عام 2021 والأسير داود الزبيدي
الذي استشهد عام 2022 ومحمد ماهر تركمان الذي استشهد في مستشفيات
الاحتلال، بالإضافة إلى الأسير ناصر أبو حميد، الذي استشهد في كانون
الأول/ديسمبر عام 2022، والمعتقل وديع أبو رموز الذي استشهد في
مستشفيات الاحتلال في 28 كانون الثاني/يناير 2023.
مخططات الاحتلال الإسرائيلي تهويد مدينة القدس كلّها، وهو لا يحاول
إخفاء شهيته على ابتلاعها وتفتيت مجتمعها وضرب هويتها الفلسطينية
من الواضح أنني أتقصّد كتابة هذه التفاصيل محاولا تقريب القارئ إلى
واقع وهواجس ومعاناة ما نسميه «الحركة الفلسطينية الأسيرة» وإشعاره بمن
وراء هذه التسمية؛ فهذه الحركة هي من «لحم ودم» وهي أرواح تقاوم عتمة
الزنازين وقمع السجان، وهي إرادات تصرّ على تجسيد أحلامها وأحلام شعبها
بالانعتاق من نير الاحتلال ونيل الحرية وإقامة الدولة. إنها حركة
«أسيرة « لإيمانها بأن لا ظلم يدوم، وهي أسيرة بقيود من أمل ومن فرح
وعنفوان، تشبه ما حكت عنه العواصف وما سكبته الغيوم. والاحتفال بهذه
الذكرى، كما جاء على لسان «لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الوطنية
الأسيرة»، ليس مجرد «صور صمّاء وشعارات رنانة، بل يوم لدقّ ناقوس الخطر
بأنّ نزْفَ أعمارنا لم يتوقف، فلسنا مجرد أرقام وكشوفات في أدراج
المكاتب؛ وخيارنا الوحيد هو الحرية، فعلى من يصله صوتنا أن يسعى من أجل
أن ننال حريتنا». قرأت بيان «لجنة الطوارئ» المشار إليه وما جاء فيه من
مواقف مهمة ووعود صارمة ونداءات أعلنها الأسرى، بعد يومين من انتشار
مشاهد اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلية الوحشية على الكهنة العرب
والمؤمنين المسيحيين، الذين ملأوا أزقة القدس ومُنعوا من المشاركة في
مراسم فيض نورها على سائر الأمم في يوم سبت النور.
قرأت البيان باهتمام وتعاطف بالغين، وكنت أتمنى ألا ينتهي قبل أن تقوم
اللجنة بتضمينه التفاتة أو موقفا من هذه الاعتداءات، التي طالت أفواجا
من المواطنين الفلسطينيين العرب المسيحيين وغيرهم، واعتبارها، من قبل
قيادات الحركة الأسيرة، جزءا من الاعتداء على فلسطينية القدس، بالضبط
كالاعتداء على المصلّين في المسجد الأقصى. قد يكون إغفال البيان
لممارسات الاحتلال المدانة مجرد سهوة! وقد يكون عاكسا أو نتاجا لحالة
عربية/ إسلامية سائدة، لا في فلسطين وحدها، لا تقبل شراكة مسيحية في
القدس، لأن المسيحية عندهم هي «الفرنجة» والمسيحيين هم الصليبيون؛ أو
هي الغرب وحكّامه الذين يتآمرون على فلسطين وعلى الإسلام والمسلمين.
كنت أتمنى لو التفتت الحركة الأسيرة وهي ـ كما أقول دائما ـ بوصلة
وطنية ثابتة، ومنارة هادية لشواطئ الوطن لا يخبو نورها، وضابط لايقاعات
النبض الوطني الفلسطيني الجامع – إلى هذا المشهد، ولو من باب تأكيدها
على أن رسالة الأسرى مرسلة إلى «أطياف شعبنا كافة»، كما كتبوا، وحيث أن
قضيتهم «قضية جامعة ووحدتهم التي سطروها داخل السجون في مواجهة السجان
تتطلب من الكل الفلسطيني إنهاء الانقسام ومواجهة العدو موحدين في كل
الساحات، فلا خطوط حمر سوى وصايا الشهداء، ولا صوت يعلو فوق صوت
الاشتباك مع الاحتلال، ولا ضرورة تتقدم على حتمية الوحدة الوطنية».
أوَلم يكن من باب الصواب اعتبار هذه الاعتداءات على المصلّين المسيحيين
ممارسة عدوانية على جزء حي من ابناء الشعب الفلسطيني، وعلى مكانة القدس
الفلسطينية، وضرورة تعبيرهم عن رفضها يأتي من باب الحرص على الوحدة
الوطنية وتعزيز مشاعر الانتماء لدى المسيحيين الفلسطينيين المستضعفين
من الاحتلال تارة، ومن رؤساء كنائسهم الاجانب تارة أخرى؟ وهل لا تعتبر،
لدى قادة الحركة الوطنية الأسيرة، الاعتداءات على الأماكن المقدسة
المسيحية في القدس وحرمان المواطنين العرب من ممارسة حقهم في الحركة
وفي العبادة، شأنا وطنيا فلسطينيا ورافدا من روافد النضال الوطني
الفلسطيني وعنصرا في وحدة أطياف الوطن؟
ومنعا لأي التباس أو تدافع المتسائلين حيال الرابط بين القضيتين، سبت
النور ويوم الأسير، أؤكد أن الرابط يفرضه نص بيان الأسرى ذاته، لاسيما
في بنده الخامس، حيث جاء فيه ما يلي: «سعى عدونا، وما زال يسعى،
للاعتداء الغاشم الدائم وبرابط لافت على الأسرى والمسرى، وبفضل الله
تعالى نجح الأسرى بصمودهم وصبرهم ومساندة شعبنا في رد العدوان، وتمكنت
مقاومتنا الباسلة وقيادة شعبنا من لجم عدوان الاحتلال على الأسرى وعلى
مسرى رسول الله».
لا يستطيع عاقل أن يتجاهل مخططات الاحتلال الإسرائيلي تجاه مدينة القدس
كلّها وإصراره على تهويدها؛ وهو لا يحاول إخفاء شهيته على ابتلاعها
وتفتيت مجتمعها وضرب هويتها الفلسطينية. وقد نجح، في العقدين الأخيرين،
في الإجهاز وابتلاع عدة مرافق وقطاعات كانت فلسطينية الانتماء والوشم
تماما، ولم تعد. وكمن رافق مراحل انفلات العربدة الإسرائيلية في القدس
الشرقية أعرف، مثل كثيرين غيري، أن جهات إسرائيلية عديدة سعت من أجل
تغيير عناصر الصراع في وعلى القدس، من خلال تغليبها للبعد الديني
وتكريسه كجبهة صدام شبه وحيدة، وحصره في منطقة المسجد الأقصى وما سموه
منطقة «الحوض المقدس». لست في معرض تقييم مقاسات النجاح الإسرائيلي، أو
فشله على جبهة القدس، لكنهم فعلوا ما فعلوه بعد قيامهم بضبط مدروس
وخبيث لعلاقاتهم مع الجهات المسيحية في العالم الغربي، كنسية كانت أو
شعبية، وتركيزهم في الوقت نفسه، كجزء من تلك السياسات، على تحييد أهمية
المجتمعات الفلسطينية المسيحية المحلية، وإبقائها في حالة اغتراب
وجودية مع كنائسها، المرؤوسة، في الغالب، من إكليروسات أجنبية؛ وفي
حالة خوف أو تشكك مع أكثرية أبناء المجتمعات نفسها، المسلمين. وهنا في
هذه الخانة بالذات يتوجب على من كان في مواقع التأثير والقيادة توخي
الحذر، وإبداء الحساسية بدرجات من اليقظة المميزة والمسؤولة. لا أعرف
اذا كان عدم التطرق من قبل الحركة الأسيرة لوحشية قمع المواطنين
والكهنة، كما شاهدناه في يوم سبت النور، في بيان ربط، في أكثر من موقع،
بين مكانة الحركة الأسيرة والمسرى، سهوا أو طبيعيا وعاديا؛ لكنه سيضاف،
دون شك، إما بشكل تلقائي وإما من قبل بعض المغرضين، إلى قائمة الشواهد
والعوامل التي من شأنها أن تؤثر في مشاعر العداء الطائفي أو اغتراب
المواطنين الفلسطينيين المسيحيين عن مجتمعاتهم ، خاصة في عالم عربي لا
يعرف معظم مواطنيه أن هناك عربا مسيحيين، وفي فلسطين على وجه الخصوص.
أقوم منذ أكثر من أربعة عقود بالدفاع عن مقاتلي الحرية الفلسطينيين،
وقد رافقت الحركة الأسيرة في معظم محطاتها، في مجدها وفي ضعفها، في
نجاحاتها وفي إخفاقاتها. ولأنني أعرف واقعها عن قرب، كتبت ما كتبت في
هذه العجالة؛ لأني أدرك أن فلسطين بحاجة إلى وحدة هذه الحركة، وأعرف،
كذلك، أن فلسطين اليوم بحاجة إلى ريادتها وإلى اضطلاعها بدور المنقذ
الأمين والقيادة الصحيحة الواعية. مثل هذه القيادة وغيرها يجب أن تعرف
أننا إذا قلنا الفلسطينيين قلنا جميع أبنائها مسلمين ومسيحيين؛ وإن
قلنا مقدسات القدس قلنا القيامة والأقصى وأخواتهما.
نور ذلك السبت في الإيمان المسيحي هو نور الخلاص والانعتاق والحياة؛
وذكرى يوم الأسير هي فرصة لبعث الأمل والتمسك بالحرية والانعتاق
الفلسطيني.
وسيبقى الرابط فلسطين، أسراها ونورها المرتجى.
كاتب فلسطيني
وتبقى القدس في
الفصح صرخة المدى
جواد بولس
أصدرت ما تسمى «لجنة الستاتيكو الكنسية – القدس» يوم الأربعاء الفائت
بيانا تحت عنوان «الاحتفال بسبت النور، أحد أهم الطقوس الدينية في
المسيحية»، في أعقاب قيام الشرطة الإسرائيلية بفرض تقييدات تمنع
المصلّين المسيحيين، لاسيما أبناء الكنائس المحلية، أي الفلسطينيين
المسيحيين، من مشاركتهم في هذا الطقس الديني المهم بالنسبة لهم.
وكما جاء في البيان المذكور، «فإن الاحتفال بطقوس سبت النور، لهي لحظة
تربط المؤمنين بنور السيد المسيح.. حيث تجذب هذه الشعائرُ المسيحيين من
جميع أنحاء العالم». وكما يتضح من البيان، فإن رؤساء الكنائس المشاركة
في إصداره كانوا ينسّقون مع «السلطات القائمة» تنظيم إجراءات هذه
الطقوس، إلا أنهم لاحظوا في العام المنصرم إقدام السلطات الإسرائيلية
على فرض حواجز مشددة في جميع أنحاء البلدة القديمة، ما جعل من المستحيل
على الحجّاج المسيحيين وعلى أبناء الكنائس المحلية الدخول الى باحة
كنيسة القيامة، وممارسة حقهم في العبادة. أما هذه السنة، حسبما ورد،
فإن محاولة التنسيق باءت بالفشل، حيث «أن السلطات الإسرائيلية تريد أن
تفرض قيودا غير مبررة وغير مسبوقة على وصول المؤمنين الى كنيسة
القيامة، أكثر بكثير من العام الماضي»؛ وبسبب هذا الموقف الإسرائيلي
يؤكد لنا رؤساء بطريركية الروم الأرثوذكس، وحراسة الأراضي المقدسة،
وبطريركية الأرمن، أنهم سيواصلون: «الالتزام بالعرف القائم
«الستاتيكو»، وستتم إقامة الطقوس كالمعتاد منذ ألفي عام»، ويدعون «كل
من يرغب في العبادة معنا للحضور»، ويعلنون بكلمات تدعو للدهشة أنهم
يتركون «للسلطات لتتصرف كما تراه وسوف تقوم الكنائس من جانبها بالعبادة
بحرية وبسلام».
لا يمكن لعاقل أن يستوعب هذا الكلام «بحرية وبسلام» وبهدوء، خاصة بسبب
ما أوحت به نهايته، التي لا يمكن أن تفهم إلا بتخلي رؤساء تلك الكنائس،
وفي طليعتهم رؤساء البطريركية الأرثوذكسية، صاحبة الحصة الكبرى في
مراسم هذا العيد، عن رعايا كنائسهم من المواطنين الفلسطينيين العرب،
وتركهم كضحايا «للسلطات لتتصرف كما تراه». لقد رأينا تلك السلطات كيف
تصرفت في السنوات الماضية مع المؤمنين العزّل، عندما كانوا من جانبهم
يقومون «بالعبادة بحرية وبسلام»، باسم المحافظة على الوضع القائم،
«الستاتيكو». لم يبدأ قمع حرية العبادة في هذا العام، ولا في العام
الذي سبقه ولم تتوقف حدوده على عتبات الشرطة الإسرائيلية وحسب؛ فأنا
على قناعة، كما كتبت في الماضي وفي المناسبة نفسها، بأن مشكلة
المواطنين الفلسطينيين المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه
الكنيسة اليونانيون، الذين يتسيّدون على كنيسة القيامة، وعلى أهم
الكنائس المسيحية الأخرى في «الأرض المقدسة»، ويبسطون على جميعها
سلطتهم المطلقة؛ وتنتهي في مواجهة قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ،
مستغلة مواقف تلك الكنائس المهادنة، سياسات الحكومات الإسرائيلية
المتعاقبة تجاه المؤمنين من أحفاد الغساسنة والمناذرة وغيرهم، بذريعة
المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.
عيد الفصح عند مسيحيي الشرق، هوعيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى
رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يُعتبر القبلة المشتهاة عند جميع
المؤمنين من مسيحيي العالم
لن أستعيد، في هذه العجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل
البلاد العرب المسيحيين، ومن استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة
السياسيين وتعاون رجال إكليروس عاجزين وتواطؤ حفنة من أبناء هذه
الكنيسة المنتفعين؛ لكنني أؤكد مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة
أحيانا، التي تنتاب كل عربي مسيحي حرّ، حين يدخل هذه الكنائس التي
يتحكّم فيها كهنة يونانيون، خاصة في كنيستي القيامة (أم الكنائس)
والمهد؛ وهذا هو بيت القصيد في هذه الحكاية.
فالقضية في رأيي، أكبر من كونها معركة على ضمان حرية العبادة والحركة
للمؤمنين الذين ينتظرون فيض هذا النور، عسى أن يجدوا في تكرار حدوث
المعجزة موطئا لآمالهم الضائعة؛ إنها وجه لمعركة بقاء المسيحيين العرب
في وطنهم وحفاظهم على «صليب» هويتهم، وحقهم في ممارسة حياتهم الإيمانية
بكرامة وبانتماء حر. فعيد الفصح، عند مسيحيي الشرق، يُعدّ من أهم
الأعياد، لا بل هو عيد الأعياد الكبير، وموسم التهاليل والفرح العظيم؛
وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى
رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يُعتبر القبلة المشتهاة عند جميع
المؤمنين من مسيحيي العالم. ليالي شرقنا طويلة، «فكليني لهمٍّ يا أميمة
ناصبٍ»، هكذا كتبت في الماضي، وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني،
وأمانينا كالنجميات تراقص أهداب الغيم. لم نحب النابغة أكثر من أترابه
من فحول ذلك الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه «أشعر الناس إذا
رهب»، وأنه «لا يرمي إلا صائبا « فأجاد حين وصف «ليلنا البطيء
الكواكب». عدت إلى ما كتبت لأنني أحسست بالخيبة والوجع نفسيهما؛
فالخلاصات في أرضنا السليبة تبقى مثل «بنات الجبال»؛ و»جمعة القدس»
تأتينا منذ ألفي عام بفرحها الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في
زمن توقف منذ دقّت المسامير في راحتيّ «ابن الإنسان» بعد أن علّقه
الرومان، أباطرة ذلك العصر، على خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا
بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا فنالوا. لقد كانت أيام الخلّ وما زالت؛
ففتشوا عن الحكمة في هذه الرواية لتجدوا أن أبناء فلسطين يتجرعون اليوم
خلّ الطغاة، كما تجرّعه ابنها بعد أن اتهموه بالكفر وبالتمرد، وسجنوه
وعذبوه وحاكموه، فمات مصلوبا لتروي دماؤه قحل الزمن ولتبقى كلماته نورا
في الأرض وغرسا في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء ..لم يعترف الاسير،
ابن الناصرة، بتهمة التجديف، ورفض يسوع التلحمي رغم تعذيبه، شرعية
الوالي الروماني والتعاطي مع «المحكمة». لن أسترسل في تفاصيل «أسبوع
الآلام» ونهايته بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة
اليهود، وكان يعرف بأن الإجراءات بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة
كهنة خافوا على سلطتهم ومواقعهم فلفقوا ضده قضية. لقد قضّت تعاليمه
مضاجع الكهنة اليهود وأخافهم مشهد الجموع، «رقاق النعال»، التي خرجت
لاستقباله، حتى مشارف أورشليم، بالريحان وبالأهازيج وبالسباسب، وهي سعف
النخيل في لغة النابغة الذبياني وأهل عصره .لقد آمنّا صغارا بدافع
الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه المجهول والمطلق؛ فأخذنا من السالفين
ما ورثوا ورددوا فصار «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل
به». ثم كبرنا ولم يبقَ في صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني
البسيط، فأسكنا «القيامة» في بيضة وأعطيناها للأطفال كي يلهوا
ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك فحوّلناه كعكا من قمح هذه الأرض
فطحنّاه وعجنّاه وحشوناه بالتمور وبالجوز والسكر. وإسفنجة الخل
استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها، بأجواء كلها إلفة عائلية،
معمولا ليؤكل وتمحو حلاوته، ولو ليوم واحد، طعم الخل والعلقم. إنها
تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم المنقول كوسائل
إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم القيامة عليها عسيرا
أو عصيا.
عيد القدس اليوم كعيد الذبياني؛ فاليوم، في هذه الجمعة الحزينة، تبكي
عذارى أورشليم على دروب الآلام، كما بكت قبل ألفي عام، وكما بكت معهن
مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتمتمون «دستور الإيمان»،
كما حفظوه، عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض والكعك
والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم .لقد ذهبت روما وبقيت «قوس بيلاطس
البنطي» في القدس البهية شاهدة على محاكم الظلم وعلى معاني الفداء؛
وبقيت فلسطين وحفنة أبنائها الصابرين، المحتفلين في الفصح، كما كانت:
بحة المدى وصاحبة فجره الدامي، وفي سماء الشرق هي قطرة الندى؛ وإن غفا
على جفونها الوعد،، هكذا يؤمنون، فإنها حتما ستصحو ذات نيسان ليحتضن
أبناؤها «قاف» القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.
فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.
كاتب فلسطيني
تى لم
تعد القدس
قلب
وعصب القضية؟
جواد بولس
أفاقت مدينة القدس صباح يوم
الأربعاء الفائت على أخبار الاعتداءات الهمجية التي نفذتها قوات شرطة
الاحتلال الإسرائيلي، ووحدات مما يسمى «بحرس الحدود»، ضد حشود المصلين
في رحاب المسجد الأقصى. كانت صور تلك الاعتداءات، التي وصلتنا عبر
شاشات الهواتف، مستفزة حتى التعب؛ تنذر بما تضمره وتخطط له قيادات جهاز
الشرطة والمسؤولون عنهم في الحكومة الإسرائيلية.
من المتوقع أن تشهد الأيام المتبقية من شهر رمضان إجراءات إسرائيلية
تصعيدية جديدة، تتساوق من جهة، مع مصالح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو
الشخصية، ومن جهة أخرى مع مخططات التيارات الدينية المتزمتة، التي
يمثلها حزب الصهيونية الدينية وشركاؤه بالرؤى والعقائد؛ فإشعال نقاط
التماس في محيط البلدة القديمة، وداخل منطقة المسجد الأقصى تحديدا،
سيستخدم من قبل نتنياهو ككاتم صوت موجه نحو المواطنين اليهود المعارضين
له داخل إسرائيل وخارجها، خاصة إذا تدهورت الأوضاع على الجبهتين
الجنوبية والشمالية في الأيام المقبلة، وكذلك داخل مناطق الضفة الغربية
المحتلة.
أما بالنسبة للتيارات الدينية المتزمتة التي تحظى بتمثيل وزاري وازن
داخل حكومة نتنياهو، فتأجيج الصراع وحصره بعوامله الدينية وحسب، ودفعه
إلى حد المواجهة الساخنة، حتى إن كانت دموية، سيتيح لهم فرصة إبطال ما
يسمى «الوضع القائم» (الستاتوس كوو) في القدس، خاصة داخل ما يسمونه
منطقة «الحوض المقدس» وتغيير الإجراءات العملية القائمة على أرض الواقع
في هذه المواقع، وحصولهم على امتيازات جديدة فيها عن طريق إحياء
الأساطير وسعيهم من أجل بناء هيكلهم «الموعود»؛ وهذا ما يصرح به
حاخاماتهم المؤثرون وقادتهم السياسيون أمثال سموتريتش وابن غفير
وغيرهم. كم كنت أتمنى أن يتفكر أولو الأمر بيننا وتقف قيادتنا عند
مسؤولياتها، قبل أن تفلت الأعنّة وتنتقل النيران من القدس إلى وسط
مواقعنا. هنالك أسباب عديدة وراء التحوّلات التي جرت، وما زالت جارية
على طبيعة الصراع المحتدم في القدس وعليها؛ فهذا الصراع بدأ يتخذ في
العقدين الأخيرين صبغة وصيغة الصراع الديني، ويتمحور فيما إذا ستكون
القدس عاصمة الخلافة الإسلامية المقبلة لا محالة، أم مهد هيكل إسرائيل
الثالث الموعود، لا محالة أيضا. لن تكفي هذه المقاله للحديث عن أسباب
ما جرى خلال خمسة عقود مقدسية، ولكن يبقى غياب دور القيادات السياسية
الوطنية أهم أسباب سقم الحالة المقدسية، لاسيما بعد رحيل فيصل الحسيني؛
فحين يختلف البشر على تعاليم السماء تضيع الأوطان، فما بالك إذا كان
الاختلاف داخل أبناء الشعب الواحد. لم يغب البعد الديني عن واقع الصراع
الفلسطيني/ العربي – الإسرائيلي منذ بداياته الأولى؛ بيد أن معظم
القيادات الفلسطينية التاريخية، خاصة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية
وقياداتها، منذ تأسيسها، حرصوا على أن يبقى الصراع مع الحركة الصهيونية
صراعا فلسطينيا وطنيا قائما على فكرة التحرر القومي وحق تقرير المصير
للشعب الفلسطيني على أرضه وفي وطنه. وقد يكون الراحل فيصل الحسيني أكثر
من حافظ على ميراث من سبقوه، وحرص على إبقاء مركّبات هذه المعادلة
الوطنية الجامعة، رافضا إيقافها عند عمقها الديني، أو زجها داخل أسوار
الحرم المقدسي. لقد طوّر فيصل موقفه الوطني الشامل والحازم والصارم،
دون أن يتخلى طبعا عن واجبه، ومعه جميع أهل القدس وجميع الفلسطينيين،
بالدفاع عن المسجد الأقصى وعن سائر المواقع الدينية الإسلامية
والمسيحية على حد سواء. لقد أحب فيصل القدس التي كانت في قلبه وفي
ذهنه، وصانها بعزيمته وبكل جوارحه ولم يرهنها قربانا على أي مذبح، أو
عند عتبات الغيب. أحبها قدسا لا تقبل التأويل ولا الشعوذة، تماما كما
كنا نحبها قبل أن نأتيها، نحن الجليليين الصغار، ونزور شوارعها القديمة
في الخيال.
غياب دور القيادات السياسية
الوطنية أهم أسباب سقم الحالة المقدسية، لاسيما بعد رحيل فيصل الحسيني؛
فحين يختلف البشر على تعاليم السماء تضيع الأوطان
جئت إلى القدس نحو منتصف سبعينيات
القرن الماضي لأتعلم في كلية القانون في الجامعة العبرية، سكنت في
مساكن الطلبة المعروفة لغاية هذه الأيام بمساكن «ريزنك»، المبنية على
أراضي قرية العيساوية المجاورة، المطلة جنوباً على حي وادي الجوز، كانت
القدس الشرقية حصاننا الأبيض وبيدر شبابنا. كنا ننزل إليها خفافًا من
مساكننا التي على جبل «المشارف» ونغوص في أزقتها التي كانت تألفنا وكنا
نحن نربي في أفيائها أحلامنا. كنا نوقف تحت قناطرها الزمن، ونشرب
نخوبها بكاسات من عود وبخور. كان ياسمين حاراتها يعلمنا تراتيل آلهة
كنا نعرف أنها تحب القدس وتحميها وكانت هي تعيد إلينا أبجديات هوياتنا
التائهة في المثلث وفي النقب وفي الجليل. كانت القدس عروسنا نحن لا
«عروس عروبتكم». لقد كانت منجلنا ومطرقتنا؛ وأحببناها دفعة واحدة
«وبالجملة». قدسنا لم تكن بالنسبة لنا ذات يوم معبدا أو كنيسة أو
هيكلا، بل كانت مرفأ الروح ومنبت لفكرة سرمدية. لم أنتبه، ومثلي اتراب
ذلك الزمن، أن بعض الناس يحسبون أن للقدس ديناً، وأن لها أكثر من رب
وشفيع، إلا وأنا في سنتي الثانية في الجامعة. أذكر أننا نزلنا، مجموعة
من الطلاب العرب، في أحد أيام الجمعة من شهر فبراير عام 1976 إلى
القدس. دخلنا من باب العامود لنفعل ما كنا نفعله دائما؛ مشينا حتى
وصلنا مطعم العم «أبو شكري» الذي كان مطعمه الصغير يعد من أهم معالم
السوق وأشهرها، فتناولنا عنده وجبة الحمص الشهية. في طريق عودتنا وقبل
وصولنا إلى باب العامود سمعنا خليطًا من أصوات تشبه «الطوشة». كان
الشباب يشتمون الجنود بصوت مرتفع ويتوعدون، وكان الجنود يكرون وراءهم
ويحاولون اعتقالهم. وعلى مداخل البيوت القديمة وقفَت بعض النسوة يرشدن
الشباب على طرق «الهريبة» والنجاة، وكنّ يمطرن الجنود بدعواتهن. ما زلت
أذكر إحدى تلك الدعوات التي صوبتها امرأة من على رأس سبابتها نحو أحد
الجنود الذي كان يحاول الإمساك بأحد الفتية المشاركين بإلقاء الحجارة،
وصرخت عليه بكل أنفاسها: «بجاه النبي يصيبك شي حجر من إيد فدائي بخطيش
ويعميلك عينك يا رب». بعد دقائق معدودات وجدنا أنفسنا في منتصف
المعركة؛ نكرّ مع المكرّين، ونلقي مثلهم الحجارة ونفرّ مع المختبئين.
نجح الجنود في اعتقال سبعة من رفاقي بعد مطاردة ساخنة، ونجحتُ مع
آخرين، بفضل إرشادات أولئك النسوة، بالهرب. وصلت مساكن الطلبة سالما
ومتعبا. لم تدم فرحتي طويلا، فبعد ليلة واحدة تم اعتقالي من الغرفة.
أخذوني إلى معتقل المسكوبية وحققوا معي بتهمة الإخلال بالنظام العام
والتظاهر من أجل الأقصى، وإلقاء الحجارة صوب جنود الاحتلال، لكنني
أنكرت التهم.
قضينا في المعتقل بضعة أيام. وجهت لنا النيابة لائحة اتهام وأحضرنا
أمام قاض في محكمة صلح القدس. توصل محامونا إلى صفقة مع النيابة وافقت
النيابة بموجبها على الاكتفاء بالايام التي قضيناها في المعتقل، على أن
يدفع كل واحد منا مبلغ ألف ليرة. لقد كان هذا المبلغ بالنسبة لعائلاتنا
ولطلبة مثلنا مبلغا كبيرا. وقفنا أمام القاضي فبدأ يطلب من كل واحد منا
التقدم نحوه ليقرأ له قرار الحكم، وفق الصفقة التي عرضت عليه. كنت
المتهم الرابع حسب مكاني في لائحة الاتهام، فتقدمت وإذ بالقاضي يدفع
بوجهه نحوي ويعلمني بأنه لن يقبل الصفقة بخصوصي. كان يخاطبني بالعربية
المقدسية الأصلية، فهو يهودي مقدسي، وكانت سبابته مرفوعة في الهواء.
حاولت أن أقاطعه لأبلغه انني سأتراجع عن موافقتي على الصفقة، لكن عيون
والديّ اللذين كانا يحضران الجلسة كانت ترجوني ألا أفعل؛ فقد أراداني
حرا. فسكتّ وأكمل القاضي تعليل موقفه فقال: «أما أنت، يا سيد بولس،
فأولا، أنت طالب في كلية القانون وعليك أن تعرف حدودك، وثانيا، وهذا
الأهم، أنت مواطن مسيحي فما لك وللأقصى؟ زملاؤك مسلمون وقد نفهم رغبتهم
بالدفاع عن مسجدهم، أما أنت المسيحي فمشاغب ومحرض». قال كلامه وقرر أن
يحكم عليّ بضعف الغرامة التي فرضها على رفاقي، أي بدفع ألفي ليره. أفرج
عن جميعنا في اليوم نفسه بعد أن دفع كل واحد منا غرامته. في الطريق، في
ساحة المسكوبية، كانت يد والدي ملقاة على كتفي بهدوء جميل، وكان
يطمئنني ألا أقلق بخصوص الغرامة، «فالمصاري بتدبّر وبتضل وسخ إيدين يا
يابا»، وراح يوصيني بضرورة الانتباه لنفسي في المرّات المقبلة. شعرت
براحة كبرى عندما أشعرني على طريقته، برضاه، وبأنه مثلي يحب القدس
«بالجملة»، بكل عتباتها وأزقتها، أو ربما أنا كنت مثله أحبها، لأنها
كانت وسادة أحلامنا ولأن جرحها كان غصتنا وكان ليلها صلاتنا، وخاصرتها
كخواصرنا نازفة حبا، وقبابها كانت عيون التاريخ الساهرة.
ما زال موقف القاضي حكاية نحكيها بيننا وعلامة فارقة على ذاك المدى؛
نستذكره في كل مرة نلتقي، نحن رفاق ذلك الزمن النظيف، فنضحك بفرح
ونقول: ما أهبله من قاض كان ينبش في سراب ويطحن الظلال، وما أجهله من
إنسان، كان لا يعرف أن قدسنا هي فكرة جامحة وقطعة من روح لا لعنة أو
بركة من سماء؛ إنها الصفحة الاولى في الهوية وكل باقي الكلام باطل
وهباء. هكذا كنا وهكذا كان القاضي غريمنا، فدافع عن قدسه اليهودية،
بينما كنا نحن عشاقا للحرية، فدافعنا، لا كمسلمين ولا كمسيحيين، عن
قدسنا، التي لم تكن مجرد وعد منقوش على حجر ولا عاصمة لخلافة ولا
لخلاف، بل كانت هي قلب وعصب القضية، وكانت كالقدر.
كاتب فلسطيني
متى لم تعد القدس
قلب وعصب القضية؟
جواد بولس
أفاقت مدينة القدس صباح يوم الأربعاء الفائت على أخبار الاعتداءات
الهمجية التي نفذتها قوات شرطة الاحتلال الإسرائيلي، ووحدات مما يسمى
«بحرس الحدود»، ضد حشود المصلين في رحاب المسجد الأقصى. كانت صور تلك
الاعتداءات، التي وصلتنا عبر شاشات الهواتف، مستفزة حتى التعب؛ تنذر
بما تضمره وتخطط له قيادات جهاز الشرطة والمسؤولون عنهم في الحكومة
الإسرائيلية.
من المتوقع أن تشهد الأيام المتبقية من شهر رمضان إجراءات إسرائيلية
تصعيدية جديدة، تتساوق من جهة، مع مصالح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو
الشخصية، ومن جهة أخرى مع مخططات التيارات الدينية المتزمتة، التي
يمثلها حزب الصهيونية الدينية وشركاؤه بالرؤى والعقائد؛ فإشعال نقاط
التماس في محيط البلدة القديمة، وداخل منطقة المسجد الأقصى تحديدا،
سيستخدم من قبل نتنياهو ككاتم صوت موجه نحو المواطنين اليهود المعارضين
له داخل إسرائيل وخارجها، خاصة إذا تدهورت الأوضاع على الجبهتين
الجنوبية والشمالية في الأيام المقبلة، وكذلك داخل مناطق الضفة الغربية
المحتلة.
أما بالنسبة للتيارات الدينية المتزمتة التي تحظى بتمثيل وزاري وازن
داخل حكومة نتنياهو، فتأجيج الصراع وحصره بعوامله الدينية وحسب، ودفعه
إلى حد المواجهة الساخنة، حتى إن كانت دموية، سيتيح لهم فرصة إبطال ما
يسمى «الوضع القائم» (الستاتوس كوو) في القدس، خاصة داخل ما يسمونه
منطقة «الحوض المقدس» وتغيير الإجراءات العملية القائمة على أرض الواقع
في هذه المواقع، وحصولهم على امتيازات جديدة فيها عن طريق إحياء
الأساطير وسعيهم من أجل بناء هيكلهم «الموعود»؛ وهذا ما يصرح به
حاخاماتهم المؤثرون وقادتهم السياسيون أمثال سموتريتش وابن غفير
وغيرهم. كم كنت أتمنى أن يتفكر أولو الأمر بيننا وتقف قيادتنا عند
مسؤولياتها، قبل أن تفلت الأعنّة وتنتقل النيران من القدس إلى وسط
مواقعنا. هنالك أسباب عديدة وراء التحوّلات التي جرت، وما زالت جارية
على طبيعة الصراع المحتدم في القدس وعليها؛ فهذا الصراع بدأ يتخذ في
العقدين الأخيرين صبغة وصيغة الصراع الديني، ويتمحور فيما إذا ستكون
القدس عاصمة الخلافة الإسلامية المقبلة لا محالة، أم مهد هيكل إسرائيل
الثالث الموعود، لا محالة أيضا. لن تكفي هذه المقاله للحديث عن أسباب
ما جرى خلال خمسة عقود مقدسية، ولكن يبقى غياب دور القيادات السياسية
الوطنية أهم أسباب سقم الحالة المقدسية، لاسيما بعد رحيل فيصل الحسيني؛
فحين يختلف البشر على تعاليم السماء تضيع الأوطان، فما بالك إذا كان
الاختلاف داخل أبناء الشعب الواحد. لم يغب البعد الديني عن واقع الصراع
الفلسطيني/ العربي – الإسرائيلي منذ بداياته الأولى؛ بيد أن معظم
القيادات الفلسطينية التاريخية، خاصة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية
وقياداتها، منذ تأسيسها، حرصوا على أن يبقى الصراع مع الحركة الصهيونية
صراعا فلسطينيا وطنيا قائما على فكرة التحرر القومي وحق تقرير المصير
للشعب الفلسطيني على أرضه وفي وطنه. وقد يكون الراحل فيصل الحسيني أكثر
من حافظ على ميراث من سبقوه، وحرص على إبقاء مركّبات هذه المعادلة
الوطنية الجامعة، رافضا إيقافها عند عمقها الديني، أو زجها داخل أسوار
الحرم المقدسي. لقد طوّر فيصل موقفه الوطني الشامل والحازم والصارم،
دون أن يتخلى طبعا عن واجبه، ومعه جميع أهل القدس وجميع الفلسطينيين،
بالدفاع عن المسجد الأقصى وعن سائر المواقع الدينية الإسلامية
والمسيحية على حد سواء. لقد أحب فيصل القدس التي كانت في قلبه وفي
ذهنه، وصانها بعزيمته وبكل جوارحه ولم يرهنها قربانا على أي مذبح، أو
عند عتبات الغيب. أحبها قدسا لا تقبل التأويل ولا الشعوذة، تماما كما
كنا نحبها قبل أن نأتيها، نحن الجليليين الصغار، ونزور شوارعها القديمة
في الخيال.
غياب دور القيادات السياسية الوطنية أهم أسباب سقم الحالة المقدسية،
لاسيما بعد رحيل فيصل الحسيني؛ فحين يختلف البشر على تعاليم السماء
تضيع الأوطان
جئت إلى القدس نحو منتصف سبعينيات القرن الماضي لأتعلم في كلية القانون
في الجامعة العبرية، سكنت في مساكن الطلبة المعروفة لغاية هذه الأيام
بمساكن «ريزنك»، المبنية على أراضي قرية العيساوية المجاورة، المطلة
جنوباً على حي وادي الجوز، كانت القدس الشرقية حصاننا الأبيض وبيدر
شبابنا. كنا ننزل إليها خفافًا من مساكننا التي على جبل «المشارف»
ونغوص في أزقتها التي كانت تألفنا وكنا نحن نربي في أفيائها أحلامنا.
كنا نوقف تحت قناطرها الزمن، ونشرب نخوبها بكاسات من عود وبخور. كان
ياسمين حاراتها يعلمنا تراتيل آلهة كنا نعرف أنها تحب القدس وتحميها
وكانت هي تعيد إلينا أبجديات هوياتنا التائهة في المثلث وفي النقب وفي
الجليل. كانت القدس عروسنا نحن لا «عروس عروبتكم». لقد كانت منجلنا
ومطرقتنا؛ وأحببناها دفعة واحدة «وبالجملة». قدسنا لم تكن بالنسبة لنا
ذات يوم معبدا أو كنيسة أو هيكلا، بل كانت مرفأ الروح ومنبت لفكرة
سرمدية. لم أنتبه، ومثلي اتراب ذلك الزمن، أن بعض الناس يحسبون أن
للقدس ديناً، وأن لها أكثر من رب وشفيع، إلا وأنا في سنتي الثانية في
الجامعة. أذكر أننا نزلنا، مجموعة من الطلاب العرب، في أحد أيام الجمعة
من شهر فبراير عام 1976 إلى القدس. دخلنا من باب العامود لنفعل ما كنا
نفعله دائما؛ مشينا حتى وصلنا مطعم العم «أبو شكري» الذي كان مطعمه
الصغير يعد من أهم معالم السوق وأشهرها، فتناولنا عنده وجبة الحمص
الشهية. في طريق عودتنا وقبل وصولنا إلى باب العامود سمعنا خليطًا من
أصوات تشبه «الطوشة». كان الشباب يشتمون الجنود بصوت مرتفع ويتوعدون،
وكان الجنود يكرون وراءهم ويحاولون اعتقالهم. وعلى مداخل البيوت
القديمة وقفَت بعض النسوة يرشدن الشباب على طرق «الهريبة» والنجاة،
وكنّ يمطرن الجنود بدعواتهن. ما زلت أذكر إحدى تلك الدعوات التي صوبتها
امرأة من على رأس سبابتها نحو أحد الجنود الذي كان يحاول الإمساك بأحد
الفتية المشاركين بإلقاء الحجارة، وصرخت عليه بكل أنفاسها: «بجاه النبي
يصيبك شي حجر من إيد فدائي بخطيش ويعميلك عينك يا رب». بعد دقائق
معدودات وجدنا أنفسنا في منتصف المعركة؛ نكرّ مع المكرّين، ونلقي مثلهم
الحجارة ونفرّ مع المختبئين. نجح الجنود في اعتقال سبعة من رفاقي بعد
مطاردة ساخنة، ونجحتُ مع آخرين، بفضل إرشادات أولئك النسوة، بالهرب.
وصلت مساكن الطلبة سالما ومتعبا. لم تدم فرحتي طويلا، فبعد ليلة واحدة
تم اعتقالي من الغرفة. أخذوني إلى معتقل المسكوبية وحققوا معي بتهمة
الإخلال بالنظام العام والتظاهر من أجل الأقصى، وإلقاء الحجارة صوب
جنود الاحتلال، لكنني أنكرت التهم.
قضينا في المعتقل بضعة أيام. وجهت لنا النيابة لائحة اتهام وأحضرنا
أمام قاض في محكمة صلح القدس. توصل محامونا إلى صفقة مع النيابة وافقت
النيابة بموجبها على الاكتفاء بالايام التي قضيناها في المعتقل، على أن
يدفع كل واحد منا مبلغ ألف ليرة. لقد كان هذا المبلغ بالنسبة لعائلاتنا
ولطلبة مثلنا مبلغا كبيرا. وقفنا أمام القاضي فبدأ يطلب من كل واحد منا
التقدم نحوه ليقرأ له قرار الحكم، وفق الصفقة التي عرضت عليه. كنت
المتهم الرابع حسب مكاني في لائحة الاتهام، فتقدمت وإذ بالقاضي يدفع
بوجهه نحوي ويعلمني بأنه لن يقبل الصفقة بخصوصي. كان يخاطبني بالعربية
المقدسية الأصلية، فهو يهودي مقدسي، وكانت سبابته مرفوعة في الهواء.
حاولت أن أقاطعه لأبلغه انني سأتراجع عن موافقتي على الصفقة، لكن عيون
والديّ اللذين كانا يحضران الجلسة كانت ترجوني ألا أفعل؛ فقد أراداني
حرا. فسكتّ وأكمل القاضي تعليل موقفه فقال: «أما أنت، يا سيد بولس،
فأولا، أنت طالب في كلية القانون وعليك أن تعرف حدودك، وثانيا، وهذا
الأهم، أنت مواطن مسيحي فما لك وللأقصى؟ زملاؤك مسلمون وقد نفهم رغبتهم
بالدفاع عن مسجدهم، أما أنت المسيحي فمشاغب ومحرض». قال كلامه وقرر أن
يحكم عليّ بضعف الغرامة التي فرضها على رفاقي، أي بدفع ألفي ليره. أفرج
عن جميعنا في اليوم نفسه بعد أن دفع كل واحد منا غرامته. في الطريق، في
ساحة المسكوبية، كانت يد والدي ملقاة على كتفي بهدوء جميل، وكان
يطمئنني ألا أقلق بخصوص الغرامة، «فالمصاري بتدبّر وبتضل وسخ إيدين يا
يابا»، وراح يوصيني بضرورة الانتباه لنفسي في المرّات المقبلة. شعرت
براحة كبرى عندما أشعرني على طريقته، برضاه، وبأنه مثلي يحب القدس
«بالجملة»، بكل عتباتها وأزقتها، أو ربما أنا كنت مثله أحبها، لأنها
كانت وسادة أحلامنا ولأن جرحها كان غصتنا وكان ليلها صلاتنا، وخاصرتها
كخواصرنا نازفة حبا، وقبابها كانت عيون التاريخ الساهرة.
ما زال موقف القاضي حكاية نحكيها بيننا وعلامة فارقة على ذاك المدى؛
نستذكره في كل مرة نلتقي، نحن رفاق ذلك الزمن النظيف، فنضحك بفرح
ونقول: ما أهبله من قاض كان ينبش في سراب ويطحن الظلال، وما أجهله من
إنسان، كان لا يعرف أن قدسنا هي فكرة جامحة وقطعة من روح لا لعنة أو
بركة من سماء؛ إنها الصفحة الاولى في الهوية وكل باقي الكلام باطل
وهباء. هكذا كنا وهكذا كان القاضي غريمنا، فدافع عن قدسه اليهودية،
بينما كنا نحن عشاقا للحرية، فدافعنا، لا كمسلمين ولا كمسيحيين، عن
قدسنا، التي لم تكن مجرد وعد منقوش على حجر ولا عاصمة لخلافة ولا
لخلاف، بل كانت هي قلب وعصب القضية، وكانت كالقدر.
كاتب فلسطيني
كي لا ننسى
أسرى الحرية الفلسطينيين
جواد بولس
علّق الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الاسرائيلي ، مساء يوم
الاربعاء الفائت، اضرابهم عن الطعام، وذلك إثر وقف الاجراءات العقابية
والتعسفية التي كان قد بدأ المسؤولون في "سلطة مصلحة السجون
الاسرائيلية" باتخاذها في حقهم، وتطبيقها وفق أوامر وزير ألأمن القومي
في حكومة بنيامين نتنياهو الوزير ايتمار بن جفير.
لقد كانت مسألة الصدام بين الحركة الفلسطينية الأسيرة وادارة مصلحة
السجون أمرًا متوقعًا؛ لا سيما بعد أن أعلن الوزير بن جفير ، منذ اليوم
الأول لتوليه منصب وزير الأمن القومي، وهي الوزارة المسؤولة قانونيًا
عن سلطة مصلحة السجون في اسرائيل، أنه سيعمل فورًا على تغيير ظروف
معيشة الأسرى الفلسطينيين داخل المعتقلات، وأنه لن يتركهم يعيشون بنفس
الظروف والشروط التي "ينعمون" بها على حساب الدولة. ووفقًا لأوامر بن
جفير، بدأت سجون الاحتلال بتنفيذ سياسة قمع استفزازية جديدة تمثلت
باتخاذ مجموعة من الخطوات القمعية مثل تحكم ادارات السجون بكمية المياه
التي يستخدمها الأسرى وتقليص مدة الاستحمام بحيث يسمح لجميع الأسرى
الاستحمام في ساعة محددة من ساعات النهار؛ حتى انهم وضعوا الاقفال على
الحمامات المخصصة للاستحمام في بعض اقسام بعض السجون. ومن ضمن
الاجراءات القمعية لوحظت عملية تزويد الأسرى بخبز وبطعام رديئين،
ومضاعفة عمليات الاقتحام والتفتيش التي كانت تنفذ أحيانًا بمصاحبة
الكلاب البوليسية وبالقاء القنابل الصوتية.
والى جانب الخطوات القمعية بحق الأسرى، شرعت الحكومة الاسرائيلية بسن
مجموعة من القوانين التي تستهدف المساس بحقوق الاسرى الاساسية، مثل
قانون حرمانهم من تلقي العلاج الطبي واجراء العمليات الطبية داخل
السجون، وكذلك مصادقة اللجنة الوزارية التشريعية داخل الحكومة على
مقترح قانون يقضي باعدام الأسرى الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات مقاومة
ضد الاحتلال خاصة تلك العمليات التي انتهت بالقتل.
ولّدت سياسة القمع الاسرائيلية الجديدة لدى الأسرى قناعة بأن حكومة
اسرائيل الحالية، وعلى خلاف السياسات في الماضي، عازمة على شن حرب
شاملة ضد الحركة الفلسطينية الاسيرة، وهي مدفوعة، هذه المرّة، برؤية
أيديولوجية عنصرية واضحة ومغايرة عن جميع تجارب الحركة السابقة؛ فاليوم
تستهدف هذه الحكومة العنصرية القضاء على جميع منجزات الاسرى
الفلسطينيين وتقويض قواعد الصراع بين الأسير وسجّانه والتي كانت تحكمها
ضرورات محافظة جميع الأطراف على حالة "الوضع القائم" . فما اعلن عنه بن
جفير لا يمكن فهمه الا كقرار بهدم جميع التفاهمات السائدة داخل السجون
منذ سنوات طويلة، وتغيير مكانة أسير الحرية الفلسطيني، من مقاوم ضد
الاحتلال يتوجب على اسرائيل، كدولة احتلال، ان تكفل وتؤمن له جميع
الحقوق الاساسية وفي طليعتها حقه بالعيش بكرامة وفي ظروف انسانية
كاملة، الى مجرد سجين/عدو يحق لسلطات السجن قمعه وحرمانه من العيش في
ظروف انسانية. لقد استوعبت الحركة الاسيرة حقيقة ما يستهدفه بن جفير
وحكومته، فهو لا يستهدف المس بحقوق الأسرى الحياتية المكتسبة خلال
معارك نضالية طويلة خاضتها أفواج المناضلين الفلسطينيين الأوائل ولغاية
أيامنا هذه، وحسب، بل إن قصده الاساسي يتمثل بضرب كيانية الحركة
الاسيرة الفلسطينية والغاء شخصيتها الجامعة وما يعنيه هذا الوجود داخل
السجون وخارجها؛ فهي عمليًا الجسم الفلسطيني الأبرز الذي حافظ دائمًا
على عوامل معادلة الصراع الواضحة التي أبقت الاحتلال دائمًا كعنوان
للتناقض الأساسي وللصراع الوجودي الفلسطيني، وقد حافظت على ذلك حتى
عندما التبست المعادلات خارج السجون وداخل أقاليم الوطن.
اكتب مقالتي قبل نشر جميع تفاصيل آخر اللقاءات التي تمت بين قيادات
الاضراب والمسؤولين في مصلحة سجون الاحتلال؛ فوفقًا لبيان مقتضب صدر في
ساعة متأخرة من ليلة الاربعاء اعلن عن تعليق الاضراب الذي كان مقررا أن
تخوضه الحركة الاسيرة مع بداية حلول شهر رمضان. تبقى للتفاصيل أهميتها
طبعًا، لكنني أستطيع اليوم أن أهنئ قيادات الحركة الأسيرة على ما حققته
لغاية الآن ؛ ففي وحدتهم التي عبروا عنها بجدية وبصرامة واضحتين سجّلوا
نصرًا على سجانهم، مع انني أعرف طبعًا أن الأمور تبقى دائمًا محكومة
بخواتيمها؛ اذ لا يمكن فهم تراجع ادارة مصلحة سجون الاحتلال عن مواقفها
العدائية المعلنة،حتى لو كان ذلك تراجعًا جزئيا أو مؤقتًا، بعيدًا عن
موقف الحركة الاسيرة التي تصرف قادتها، هذا المرة، بحكمة نضالية وحدوية
صارمة. فالطرف الاسرائيلي قرأ من دون شك مضمون "ميثاق وعهد قيادة اضراب
الحرية والشهادة " الذي وقعة، في الحادي والعشرين من هذا الشهر، كل من
الأسير عمار مرضي ممثلا عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني، والاسير
سلامة قطاوي ممثلا عن حركة المقاومة الاسلامية، والاسير زيد بسيسي
ممثلا عن حركة الجهاد الاسلامي، والاسير وليد حناتشة ممثلا عن الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين، والاسير وجدي جودة ممثلا عن الجبهة الديمقراطية
لتحرير فلسطين؛ والأسير باسم خندقجي عن حزب الشعب الفلسطيني، وفيه
يعلون باسم جميع الأسرى "نحن الموقعين أدناه ممثلي الحركة الاسيرة،
والمستأمنين على قيادة اضراب الحرية او الشهادة، نعلن أمام الله
وضمائرنا وشعبنا والتاريخ اننا نخوض هذه المعركة على قلب رجل واحد ،
وسنكون فيها صفاً واحداً وجسماً موحّداً ، وأن يكون وقف هذه المعركة أو
تعليقها بقرار جماعي دون تفرد أو انسحاب، وألا يصدر خلال هذه المعركة
أي تصرف أو اجراء فردي أو فئوي دون قرار جماعي حسب الأصول، وأن نبذل
غاية الجهد لانجاح هذه المعركة بوقف الاجراءات المستهدفة لنا، وتحقيق
مطالبنا المتفق عليها من قيادة الاضراب. وعلى هذا نعطي عهدنا وغليظ
ميثاقنا ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ويتحمل جزاء نكثه". فمن يقرأ
هذا الاصرار، ويسمع عن شروع هؤلاء القادة، ومعهم القادة أحمد سعدات
ومروان البرغوثي وغيرهم، يعرف أن الحركة الأسيرة تعالت عن انقساماتها
الداخلية وقررت ان تستعيد مجدها ومكانتها كبوصلة في زمن التيه وكضابطة
لايقاعات النبض الفلسطيني الوطني خاصة عندما يمرض الجسد وتضعف مجساته
الأخرى. لقد كان أول من قرأ أهمية هذا الاعلان ومآلاته المحتملة
المسؤلون في ادارة مصلحة سجون الاحتلال.
وكيلا يكون كلامي مجرد أمنيات عابرة، أؤكد على أن أبناء الحركة الأسيرة
القابعين اليوم وراء قضبان القمع والقهر، هم أولاد وأحفاد لمناضلين
سبقوهم في بناء صروح العزة والكرامة، وقد فعلوا ذلك بالنضال والتضحيات
والاضرابات التي حصدت الأرواح والأسى. ففي العام 1970 استشهد الأسير
عبدالقادر أبو الفحم في أضراب سجن "عسقلان" وهو أول شهداء الاضراب عن
الطعام في سجون الاحتلال. وتلاه اضراب عام 1976 في عسقلان ايضًا حيث
استمر لمدة 45 يومًا. ثم كان اضراب سجن نفحة في عام 1980 وفيه استشهد
الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري والتحق بهما الأسيران أنيس دولة
واسحق مراغة. ثم عرف سجن "جنيد" اضرابين في عامي 1984 وعام 1987 حيث
شارك فيه ثلاثة آلاف اسير ودام لمدة عشرين يومًا. أما في العام 1992
فقد نفذ الأسرى اضرابًا عرف باسم "ام المعارك"، شارك فيه نحو سبعة آلاف
أسير واستمر لمدة 19 يوما واستشهد خلاله الأسير حسين عبيدات. لن استرسل
برصد سلسلة الاضرابات التي خاضها الأسرى الفلسطينيون، وهي حقًا كثيرة،
وشكّلت علامات فارقة سجلها هؤلاء المناضلون على صفحات التاريخ وخلال
مسيرة كفاحهم في سبيل الذود عن الكرامة الفلسطينية وعن مكانة الحركة
الأسيرة بكونها رأس حربة مغروزة في صدر سياسات القمع والقهر
الاسرائيلية، وراية متقدمة في ميادين الاشتباك اليومي مع مصلحة سجون
الاحتلال بصفتها ابرز وكالاته الناشطة.
لا أعرف كيف سيمضي الأسرى بعد هذه المحطة وكيف سيديرون مواجهاتهم
القادمة مع سياسات الحكومة الاسرائيلية التي على الأرجح ألا تتراجع عن
محاولاتها للنيل من مكانة الحركة الاسيرة وتحييد دورها وقوتها في
التأثير على الحالة الفلسطينية العامة خاصة في هذه الأزمان العصيبة
التي تعيش فيها فلسطين حالات من التشظي السياسي والأزمتين الاجتماعية
والاقتصادية. والى ان نقف على عتبة المعركة القادمة أتوقع أن أفراد
قيادات الحركة الاسيرة، الذين أعرفهم حق معرفة، ادركوا مجددا معنى
توحدهم وراء الموقف الواحد وفي خندق كفاحي واحد ؛ فهم في النهاية من
سلالة قوم كانوا حتى اذا اختلفوا حول الرؤية والرؤيا، يبقوا موحدين في
وجه عدوّهم المؤكد وهو الاحتلال الاسرائيلي وجميع افرازاته البغيضة؛
فليس كالسجون ميادين حقيقية تستصرخ فرسانها، وتصرخ: هذا أوان الشدّ
فهيا يا همم ، وليس أولى بمن ضحوا بأغلى ما عندهم أن يعيدوا عربات
المجد الفلسطيني الى حلباتها الصحيحة.
حاضرنا هو
تاريخنا فمن يصنعه؟
جواد بولس
ما زال الرأي السائد في أوساط المواطنين العرب في إسرائيل، يجزم بأن
الصراع الدائر داخل المجتمع اليهودي لا يعنينا، نحن المواطنين
الفلسطينيين، إلا كونه احترابا بين معسكرين يهوديين عدوّين لنا؛ ولذا،
فمن المفضّل أن نبقى خارج حلباته وننتظر نهاياته التي ستكون حتما في
صالحنا. هكذا تفترض وتتصرف أكثرية الجماهير العربية، وتمضي في ممارسة
شؤون حياتها اليومية بروتينية ساذجة، وكأننا نعيش عل كوكب آخر، لا في
إسرائيل.
من السهل، كما قلنا سابقا، أن نعدد الأسباب والدوافع التي يوظفها دعاة
مقاطعة المشاركة في الاحتجاجات المستمرة في العديد من المدن والمواقع
الإسرائيلية؛ وإن كان بعضها صحيحا، من حيث المنطق والحجة، يبقى واجب
علينا أن نرى الصورة بكامل عناصرها، وأن نضع جميع المعطيات والعوامل في
كفتي ميزان السياسة، لنقرر ماذا يتوجب علينا عمله كضحايا مباشرين
للحكومة الحالية؛ فالتذرع، على سبيل المثال، بمواقف رؤساء أحزاب
المعارضة العنصريين وعدم رغبتهم، المستفزة والمقيتة، في مشاركة
المواطنين العرب وقياداتهم معهم في الاحتجاجات، يندرج تحت باب الذريعة
الناقصة، وهي تقول في حالتنا «أجت منهم لا منا «. فهذه المواقف لا تفيد
في مثل هذه الظروف الاستثنائية، خاصة أن الذين يرفعون هذه الرايات
بيننا لا يقترحون علينا برامج سياسية جدية بديلة، ولا يبادرون إلى
خطوات نضالية مدروسة ومبرمجة تضمن تحشيدا شعبيا رضائيا وقادرا على
التأثير الفعّال وعلى المثابرة التي هي من أهم عناصر المرحلة. وكما
قلنا ونكرر: لا يصحّ ألا نشارك في تل أبيب، بينما نعجز عن إقناع
الجماهير بضرورة انخراطها المستديم والخروج إلى شوارع الطيرة والناصرة
وكفرياسيف ورهط.
من المحزن ومن المؤسف أن تكتفي معظم القيادات السياسية العربية
والدينية ومعظم النخب المنتجة للفكر والضالعة في صناعة الرأي العام،
بتشخيص مخاطر نظام الحكم في إسرائيل، ومواجهة تلك المخاطر باللاعمل، أو
بالتنظير وبالشعارات العامة الفضفاضة، التي ما فتئنا نسمع بعضها منذ
كنّا أولادا نحب الغبار والريح ودردبات الطبول وهي تدق على أبواب
العواصم العربية، وحين كنا لا نفرّق بين الحِلم والحُلم، ولا بين
الهُوية والهَوية. ومن الغريب ألا يذوّت جميع من ذكرتهم أعلاه مغازي
التداعيات الحاصلة داخل المشهد الإسرائيلي، ولا كيف تولد أمام أعيننا
لحظة تاريخية لا يمكن أن نهملها، أو نستخف بها، وألا نتفاعل معها. ولا
يجوز لنا ألا ننتبه إلى جملة التصدعات الجارية داخل المجتمع اليهودي،
التي لم نشهد لها مثيلا، من حيث سعتها أفقيا وعمقها عاموديا، ولا في أي
محطة منذ قيام إسرائيل. لقد عرف المجتمع اليهودي صدامات كانت في بعض
تجلياتها عنيفة؛ حرّكت بعضها أحيانا صراعات طبقية، أو في أحيان أخرى،
صدامات ثقافية بين اليهود الأشكناز والسفارديم، وهم اليهود الشرقيون،
أو خضعت أحيانا لتجاذبات بين العلمانيين والمتدينين؛ بيد أنه في جميع
تلك الحالات بقيت الصراعات داخل حضن الدولة، لا صراعا عليها، كما هو
وضعنا اليوم؛ ودارت رحى جميعها تحت عقد الحركة الصهيونية والإجماع حول
ما تعنيه لكل اليهود الصهاينة، وليس كما هو الحال عليه اليوم؛ وجرت
جميعها ضمن إقرار بعدم التعرض لجملة من المحرّمات/التابوهات مثل:
الجيش، ومكانة القانون، والمنظومة القضائية، ومفهوم الأمن الوطني
الإسرائيلي، وما هي العناصر التي ترسم حدوده وتعرّفه؛ هكذا كان طيلة
سبعة عقود كاملة، بينما تحولت اليوم جميع هذه المحرّمات، هي بذاتها،
إلى عناوين مستهدفة من قبل أحزاب حكومة إسرائيل الجديدة، التي لا تخفي
مآربها وخططها تجاهنا نحن المواطنين الفلسطينيين وعموم الفلسطينيين، في
حالة نسفها لتلك التابوهات.
أمور كثيرة تحصل، وليس داخل إسرائيل وحسب، وعلينا الانتباه إليها؛ فمتى
قاطع النظام الأمريكي ومعه كبريات المنظمات الصهيونية اليهودية زيارة
وزير المالية الإسرائيلية، كما حصل، قبل أيام، خلال زيارة الوزير
بتسلئيل سيموتريتش لأمريكا؟ وسيموتريتش ليس الوزير الوحيد الذي أعلنت
عدة دول غربية أنها ستقاطعهم، ولن تتعامل معهم بسبب إمعانهم بالقضاء
على أسس نظام الحكم القائم، وبسبب مواقفهم تجاهنا كأقلية مواطنة داخل
إسرائيل، وأيضا بسبب مواقفهم الدموية وسياساتهم العنصرية والقمعية تجاه
ابناء الشعب الفلسطيني. فجهات عديدة في دول العالم بدأت تعارض مضامين
السياسة الحكومية الإسرائيلية ومخططاتها تجاه الأرض الفلسطينية
وممارساتها بحق الفلسطينيين؛ وقد شكل الاعتداء الفاشي الدموي على حوارة
محطة مهمة توقّف عندها قادة العالم، لما حملته من نذائر حول «قدرات»
هذه الحكومة. وقد تعكس زيارة الممثل الأمريكي الخاص للشؤون الفلسطينية
هادي عمرو، إلى حوارة في يوم 28/2/2023 وجها من إمكانيات التغيير
المرغوب والمحتمل في الرأي العام الرسمي والشعبي، وفي بعض المحافل
الدولية، خاصة إذا تنبهنا لما قاله هادي عمرو وهو على أرض حوارة؛ فبعد
تأكيده «إدانة أعمال العنف العشوائية واسعة النطاق من جانب
المستوطنين»، أعلن أنهم في أمريكا يريدون «أن يروا محاسبة كاملة
ومقاضاة من خلال القانون للمسؤولين عن هذه الهجمات الشنيعة، وتعويضات
لأولئك الذين فقدوا ممتلكاتهم أو تتضرروا بطريقة أخرى». قد يشكك البعض
بجدوى هذه التصريحات وبجديتها وبفاعليتها، خاصة أن جميعنا يعرف تاريخ
الدعم الأسطوري الذي أمّنته وتؤمّنه أمريكا لإسرائيل على جميع الجبهات،
واستمرار دعم احتلالها للأراضي الفلسطينية وتغطيتها المثابرة لجميع
موبقاتها بحق الفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك يجب أن تحسب مثل هذه
المواقف وفق القواعد التراكمية، وهذه تأتي أكلها مع مرور الزمن، شريطة
ملاحقتها؛ والأهم انها تتطلب بذل مجهود كبير من الضحية وعدم الاكتفاء
بالبكاء أو الاستجداء أو الدعاء وانتظار الفرج من حيث لا ندري. لا أعرف
كم من بيننا تابعوا قوائم المجموعات التي أطلقت نداءاتها المعارضة
لمخططات حكومة نتنياهو الجديدة. ومن اللافت أن يكون بين هذه الجماعات
جهات أجنبية عديدة. من الضروري أن نتمعن في تلك القوائم وفي أسماء
أصحابها، ليس لأنها أعربت عن معارضتها وخشيتها من تقويض أسس
الديمقراطية داخل إسرائيل، وتأكيدها على أن مخططات هذه الحكومة ستفضي
إلى إنشاء نظام ديكتاتوري مرفوض، وحسب، بل كي نتعرف على كمية التأييد
والدعم الذين كانت إسرائيل تحظى بهما في الماضي؛ ونعرف كذلك ما هي
الجهات التي كانت تؤمّن لها أحزمة النجاة وأغطية الشرعية، رغم ما كانت
حكوماتها السابقة تمارسه.
علينا أن نكون جزءا من صنع التاريخ؛ فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم
رموز النظام القديم والتصفيق لديمقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على
الحياد وانتظار نهاية حربهم
لقد قام موقع «واي نت» الإسرائيلي في تاريخ 17/2/2023 بنشر تقرير تضمن
أسماء مجموعة من الجهات التي وجهت نداءاتها لنتنياهو ولحكومته
وطالبتهما بالعدول عن تنفيذ مخططهما، وحذرتهما من مغبة استمرارهما
بهما، وما سيلحقه ذلك بمكانة إسرائيل في العالم، وإمكانية رفع غطاء
الشرعية عن سياساتها، وسحب أبسطة الدعم الممدودة لها منذ سنوات ولغاية
هذه الأيام. وأورد التقرير قائمة جزئية باسماء الجهات المعترضة على
المخطط ومنها: عريضة موقعة من (400) عنصر قيادي رفيع المستوى عملوا في
أجهزة الأمن على فروعها؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء «مجلس الأمن
القومي» الإسرائيلي السابقين؛ عريضة تضمنت تواقيع أكبر سبعة عشر مكتب
محامين في إسرائيل يعمل فيها (3500) محام؛ عريضة موقعة من (300) عالم
اقتصاد من بينهم الفائز بجائزة نوبل دانييل كهنمان؛ عريضة موقعة من قبل
(50) مديرا عاما في عدة وزارات، خاصة ذات الطابع المالي والاقتصادي؛
عريضة موقعة من قبل (100) من رؤساء ومسؤولين كبار في شركات الهايتك؛
عريضة موقعة من جميع رؤساء الجامعات الإسرائيلية؛ عريضة موقعة من (185)
محاضرا كبيرا في كليات القانون؛ عريضة موقعة من قبل (50) بروفيسورا
أمريكيا في القانون، بينهم أحد أهم المنافحين الكبار عن إسرائيل هناك
وصديق لنتنياهو، ألان درشوفيتس؛ عريضة موقعة من (240) محاضرا في مادة
العلوم السياسية في الجامعات؛ عريضة من (13) فائزا بجائزة نوبل في
الاقتصاد؛ عريضة موقعة من (200) عالم يُعدون من بين أشهر العلماء
اليهود في العالم، من بينهم تسعة علماء حائزون على جائزة نوبل في
العلوم؛ عريضة موقعة من (18) قاضيا ورئيسا سابقين في المحكمة العليا
الإسرائيلية وعريضة موقعة من (70) قاضيا في المحكمة العليا
الكندية، وغيرهم كثر. قد يقول قائل ما شأننا وهذه القوائم؟ فموقعوها في
النهاية يعبرون عن خشيتهم من سقوط نظام حكم دولة مارست العنصرية بحقنا،
نحن المواطنين في الدولة، ومارست الاحتلال وبشائعه ضد أبناء شعبنا
الفلسطينيين، وهذا طبعا صحيح، ولكن لهؤلاء أقول: إذا كان كل هؤلاء
يخافون من طبيعة النظام الجديد ويؤكدون أنهم أن يسندوه لأنه سيكون ذا
طابع ديكتاتوري وفاشي، فهل من الصعب أن نتصور حالنا وكيف سيعاملنا هذا
النظام نحن في إسرائيل وكيف سيعامل إخواننا الفلسطينيين. قد يكون خوفهم
على دولتهم، بينما يجب أن يكون خوفنا من «دولتنا» واستعدادنا لمواجهة
سياساتها المقبلة.
نحن أمام لحظة تاريخية، وعلينا أن نكون جزءا من صنع هذا التاريخ؛
فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم رموز النظام القديم والتصفيق
لديمقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على الحياد وانتظار نهاية حرب
اليهود. إنها لحظة علينا أن نحاول فيها، ونحن قادرون على ذلك، أن نرفع،
إلى جانب مطلب تحقيق الديمقراطية، شعاري إنهاء الاحتلال والمساواة
التامة لنا، وعلينا أن نقنع هؤلاء اليهود بضرورة تبنيهم لهذه المطالب ـ
لقد خصصت جريدة «هآرتس» العبرية افتتاحيتها اللافتة قبل ثلاثة أيام
لهذا الموضوع- فمن دون ذلك سيخسرون دولتهم التي لم تكن يوما ديمقراطية،
وستقوم هنا دولة فاشية سنكون نحن طبعا أولى ضحاياها، وسيلحقنا جميع من
صرخ باسم الديمقراطية.
كاتب فلسطيني
آذار في فلسطين…
أسيرات وأحلام ودماء
جواد بولس
يواصل الاحتلال الإسرائيلي اعتقال (29) أسيرة في سجن «الدامون» الواقع
على جبال الكرمل قرب حيفا، أقدمهن هي الأسيرة ميسون موسى من مدينة بيت
لحم، المعتقلة منذ عام 2015 والمحكومة بالسجن الفعلي لمدة (15) عاما؛
ومن بينهن فتاتان، نفوذ حماد من القدس وزمزم القواسمة من الخليل التي
أتمت عامها الثامن عشر قبل عدة آيام فقط. يبلغ عدد الأسيرات المحكومات
(15) أسيرة. وحسب المعطيات الواردة من مؤسسة «نادي الأسير
الفلسطيني» فإن أعلى الأحكام صدرت بحق الأسيرات شروق دويات وشاتيلا أبو
عيادة المحكومتين بالسجن لمدة ستة عشر عاما، وعائشة الأفغاني المحكومة
بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاما. ويوجد من بين الأسيرات أسيرة واحدة معتقلة
إداريا وهي رغد الفني من طولكرم، وكذلك يوجد بينهن سبع جريحات تعد حالة
الأسيرة إسراء الجعابيص أصعبها، كما يوجد بينهن ست أمهات.
لهؤلاء الأسيرات ولمن سبقهن على دروب النضال، ولجميع الأمهات المضحيات،
ولسيّدات العطاء والوفاء ولجميع الأسيرات في عقول مجتمعاتهن أقول: قد
يكون آذار/مارس أجمل الشهور في فلسطين، ففيه تطلق الأرض جدائلها وعلى
صدورها ينهد اللوز ويسبح في عيونها القمر؛ وفيه تشهر فلسطين أنوثتها:
جبالا حبلى بالغضب وبالنرجس وبالأمل، ونساء يجدلن على زنودهن أحلامهن
ومن خواصرهن تندلق الزغاريد وينطفئ الوجع.
فلسطين، في آذار، تحتفي بنسائها بطقوس وبعقول ملتبسة حتى العبث؛
فالبطولة في هذا الشهر تستعيد تاءها المربوطة وتصير أنثى
فلسطين، في آذار، تحتفي بنسائها بطقوس وبعقول ملتبسة حتى العبث؛
فالبطولة في هذا الشهر تستعيد تاءها المربوطة وتصير أنثى، والدمع ينحسر
في أحضان الحسرة، والجميع يردد أن الوطن أم وزوجة وأخت وشهيدة ومناضلة،
بيد أن الواقع يبقى في عقول الناس مذكرا والعيب لا أب له، فلسطين، كل
فلسطين، تبقى ولّادة للرياحين ولحاملات بيارق الرأفة والحنان، لكنْها
تنام، منذ طلوع الدم من «بئره المقدسة»، وهي أسيرة لأحكام «سيّافي
الشرف، ومطوّعي الحشمة»، الذين كلما استلوا خنجرا ودقوه في عنق زنبقة،
فقط لأنها «طلعت على الريح، طلعت على الشمس» وصلّت في قلبها «يا حريّة
يا زهرة نارية يا طفلة وحشية، يا حرية»، يذكروننا من أين أتينا وكيف
يصر الرمل، جدنا القديم، أن يثأر لجيناته وأن ينتقم ممن يخرجن من
«هيبة» عباءات أسيادهن، وعن طهارة النسب والحسب. لا أتجنى على أحد حين
أكتب عن واقع مجتمعاتنا العبثي؛ فلن تخلو قرية أو مدينة في هذا الوطن،
من قصص الضحايا اللائي دفعن حيواتهن قرابين على مذابح الجهل والتخلف،
أو إن شئتم، دفعنها كفارات باسم قيم سائدة ومسلّمات اجتماعية تجيز هدر
دمائهن «دفاعا» عما يسمى شرف العائلة، وثمنا لأحلامهن المحظورة؛ فحتى
أحلام البنات في مجتمعاتنا أعباء عليهن أو قاتلة أحيانا. لن ينفعنا
إنكار الحقيقة الدامغة، فمهما كان آذارنا في فلسطين أخضر بنكهة
الطبيعة، سيّدة البدايات والنهايات، تبقى حكمة الشرف الدموية هي الحكمة
السائدة. فآذار ما زال كما كتب ذلك الفتى، الذي حدثتكم عنه قبل عشرة
أعوام، حين جلس على شرفته وأخبرنا أنه يحب «من الشهور آذار ولا أبحث عن
سبب». فصاحبي هذا كان يحلم، إلى أن جاءته أمه بخبر مقتل بنت جيرانهم
«صبرة»، يومها، هكذا أخبرتكم، «لم ينم كما تعوّد. دخل فراشه مبكّرا.
تمتم صلاته بسرعة ككاهن قرية «معجوق»، يأكل نصف حروف الكلمات وكأنه
يقوم «بتهريبة خطيرة». كان يتحرك في البيت بخفة دوري، وكانت سعادته
تتدحرج أمامه كحجلة، تملأ زوايا البيت حيرة وفضولا. حاولت أمّه أن تفهم
دواعي هذا الفرح الراقص، لكنّها نالت، في كل مرّة سألته، قبلة شقيّة
منه ومداعبة طفولية. شعرت براحة خفيفة وفكرت بصمت وتمتمت «هذا الولد
كِبِر»، وكأنها تراه للمرة الأولى وقد شارف على إنهاء تعليمه الثانوي
في آذار ذلك العام. أفاق قبل جميع إخوته. أنهى حمّامه وحاول أن يختار
ملابس يومه، كانت، في العادة، لا تستغرقه هذه العملية إلّا بضع دقائق،
أمّا اليوم فكانت «ورطته» ظاهرة. اختار طقما ووقف أمام المرآة دون أن
ينتبه إلى أن عينيه كانتا تضجان بالقلق. اقترب من المرآة وقام برفع
كفّه اليمنى بعياقة ومسّد شعره ببطء وتبسّم للرجل الذي قبالته. بدت على
وجهه علامات الرضا أو حتى الاعتزاز. رش ما وجده في قارورة عطر كانت في
الخزانة ورفع إبطه وحاول أن يشمها، ليتأكد أنه ذلك العاشق الجدير بشمس
آذار ذلك النهار، كانت أمه تراقبه من بعيد فتنهدت وتأكدّت أن في بيتها
رجلا. أنزلته سيّارة الأجرة في مركز المدينة القريبة من قريته، مشى
مسافة قصيرة ووصل إلى المقهى الذي اتفق وحبيبته أن يلتقيها فيه. اختار
مقعدا جانبيا وتأكّد أن عطره ما زال فوّاحا وأن قميصه مفتوح من الأعلى
ويكشف جزءا من ربيعه. شعر بغربة طفيفة في المكان. كانت معظم الطاولات
خالية، إلا من طاولة في الزاوية المقابلة لطاولته كان يجلس إليها رجلان
يتهامسان، كانت ملامحهما شرقية، لكنهما كانا يتحدثان بالعبرية. نظر إلى
ساعته فاشتد خفقان صدره. رفع عينيه ونظر من خلال الزجاج فرآها تمشي على
الرصيف المقابل، واثقة كغزالة. كانت تلبس بنطالا أسود وفوقه يتدلى طرف
قميص بلون السماء مفتوح وتحته سترة بيضاء بلون الفل. كان وجهها قمريا
على طبيعته. قطعت الشارع فوقعت عيناها مباشرة على عينيه. تبسّمت بحذر
فكاد، لولا قحة أحد الجالسين، أن يفقد وعيه. دخلت كفراشة. حيّته ومدّت
كفّها نحوه، فأخذها برفق كأنه يكمش حفنة من قوس قزح. تحدثا عن أحلامهما
في الليلتين الأخيرتين، وعن كيف لم يناما. ضحكا عندما وصف كل واحد
منهما كيف «أكلا» نصف الصلاة قبل النوم. لكنّهما كانا مقتنعين بأن الرب
سيغفر لهما لأن «الله محبّة»، ويحب الحب والمحبين والحياة. لم يحاول أن
يمسك كفها مرّة أخرى، لكنه كان يستنشق أنفاسها ولا يخرجها. قال لها كم
يحبّها ويحب لون عينيها، كان كلامه مقطعا وغير مباشر، لكنّها، في لحظة
ما، أغمضت عينيها، لم تطبقهما تماما، ورفعت رأسها برضا وقامت بحركة
جعلته يشعر بفقدان توازنه. قضيا في المقصف ساعتين كاملتين. تواعدا على
لقاء آخر عندما ستسمح بذلك الظروف.
كانا على باب المقهى عندما اعترض رجل طريق الفتاة طالبا هويّتها. كان
ذلك هو الرجل الذي جلس في الزاوية. أفهمها أنه رجل مخابرات إسرائيلي.
وأنه يريد أن يتعرّف على هويتيهما. حاول أن يهدئ من روع الفتاة والشاب
واعدا إيّاهما بالكتمان، وعدم إخبار عائلتيهما؛ فهو يعرف أن مثل هذه
الحادثة، خاصة إذا دعّمت بالصور، من شأنها أن تحدث كارثة وتودي
بحياتيهما. «كل ما نريده اليوم»، هكذا «طمأن» هذا المتطفل تينك
الزهرتين «أن نسجّل تفاصيلكما وأن نتفق متى ستعودان إلينا لنسوي أمورنا
المشتركة، فمكاتبنا قريبة من هنا، وكل شيء سيكون على ما يرام».
لم يتفوّها بأية كلمة، أبرزا بطاقتي الهوّية وحاولا أن يتملّصا من
الموقف. لكنه كان وقحا ومتمرّسا في صيد ضحاياه. أصرَّ على تسجيل
التفاصيل وبدأ يصعّد من لهجته فشعرا بأنه يحاول تهديدهما. حاولت الفتاة
أن تفهمه أنها ليست خائفة وأنها جاءت إلى لقائها برفقة أخيها الذي
يحترم علاقتها مع هذا الشاب. حاولت أن تشرح له دناءة ما يقوم به فصار
شريرا وهدد باحتجازهما في مقره. في هذه اللحظة، في الوقت المحدد، ظهر
أخو الفتاة فتوجّه مباشرة إليهم واحتضن أخته وطرح السلام على رفيقها.
عرّف على نفسه وخيّب ظن تلك الشياطين اللعينة. كانوا يسيرون في الشارع،
والفتى يشعر بأنه يطير بأجنحة من ورد وأن حبيبته تطير إلى جانبه وتحتهم
أبسطة من بساتين خضراء وأسراب فراش. كان يسمع دقات قلبها ويداري خصلات
شعرها الذي كان يتطاير على وجهه، ثم.. ضربة، ضربتان فهزة عنيفة على
كتفه، فتح عينيه وكان وجه أمّه فوق أنفه، كانت غاضبة كما لم يألفها من
قبل. «ماذا بكِ؟ اليوم عطلتي ولا توجد مدرسة فلماذا أفيق مبكّرا؟»
سألها محاولا العودة إلى حلمه. بغصّة واضحة في حلقها قالت: «لقد وجدوا
«صبره» مقتولة بطعنات خنجر. نعم هي ابنة صاحب الفرن، وقالوا إنها قتلت
بسبب «شرف العائلة»، لم أفهم يا أمي من القاتل وليش ولكنها مصيبة..
الله ينجينا وينجيكم يا حبايبي». صحا الفتى مذعورا وجلس على شرفته
وكتب: «أحب من الشهور آذار ولا أبحث عن سبب، فأجمل الحب ذلك الذي يكون
من غير سبب. آذار شهر التردد والتقلّب؛ ففيه الصفاء كما يحب شجر اللوز،
وفيه الغبار كما يعشق السرو». أغمض عينيه عساه يعود إلى الطاولة مع
حبيبته، ثم فتحها وكتب: «يصله الشتاء متعبا كثور الحلبات وقد أنهكته
سهام «المتادور». آذار في بلادنا كالوعد الغافي وراء جبال الغيم، يصحو
ليعلن أن البقاء للحياة وليقهر الظلّام ودعاة الموت؛ ففي آذار، يولد
الأمل وتزهر الرياحين». كتب وبدأ ينتظر لقاءهما المقبل.
فلكنّ، في آذار وفي كل يوم، الفرج والسلامة والفرح والحب، والحرية
فخذوها و»صَرّْخوا عالعالي، على العالي، اركضوا بالحقالي، على العالي،
قولوا للحرية نحنا جينا وافْرحوا، افرحوا، يا ليل يا حب يا دروب يا
حجار الحقونا عالشجرة البرية..»
كاتب فلسطيني
قانون الإعدام الإسرائيلي
وأحكام معادلة الردع المتبادل
جواد بولس
صادقت الكنيست بالقراءة التمهيدية، يوم الأربعاء الفائت، على قانون
يقضي بفرض عقوبة الإعدام على من يرتكب مخالفة القتل «بدافع عنصري وبهدف
المسّ بدولة إسرائيل، وببعث الشعب اليهودي في أرضه»؛ وحظي مشروع
القانون بأغلبية واضحة وبدعم رئيس الحكومة نتنياهو طبعا.
لقد أشغلت عقوبة الإعدام، كخيار عقابي يجب المحافظة عليه ضمن منظومة
التشريعات الإسرائيلية، حكومات إسرائيل منذ تأسيسها؛ وقد خضعت هذه
المسألة، قبل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967 وبعد
الاحتلال أيضا، إلى عدّة تعديلات تمّت على مراحل عديدة، أفضت في
النهاية إلى إبقاء هذه العقوبة في بعض التشريعات الخاصة بالمجرمين
النازيين، وضمن القوانين العسكرية، وفي بعض مخالفات خيانة الدولة
وأمنها.
الذين صوّتوا لصالح قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، لم يسمعوا بأسماء
قوافل من أقسموا ألا يرضوا بحياة الذل والقهر تحت نير الاحتلال
سأكتفي بهذه المقدمة مؤكدا أن عقوبة «إعدام الإرهابيين»، كما تطالب بها
الحكومة الإسرائيلية الحالية، متاحة ضمن القوانين النافذة، إلا أنها لم
تستنفد ضد المقاومين الفلسطينيين، بسبب قرار إسرائيلي قديم جديد، عبّرت
عنه مؤخرا المستشارة القانونية للحكومة غالي بهاراف ميارا، حين عارضت
القانون مشدّدة على أن عقوبة الإعدام ليست رادعة في حالة الصراع
الفلسطيني – الإسرائيلي.
في الواقع، يتسلّح معارضو عقوبة الإعدام بعدة حجج وذرائع، مثل قدسية
الحياة، واحتمالات وقوع الخطأ، ومكانة الإنسان وحقه المطلق في الحياة،
ومعارضة المجتمع الدولي، خاصة أن تنفيذ العقوبة سيتم بحق الفلسطينيين
ولن يشمل الجناة اليهود قتلة الفلسطينيين طبعا، وكون هذه العقوبة أداة
لإشاعة أجواء القسوة داخل المجتمعات المحلية. وعلى الرغم من أهمية جميع
الذرائع التي تساق ضد عقوبة الإعدام، قد تكون، في السياق الفلسطيني،
مسألة الردع التي أشارت إليها المستشارة، من أهمّ وأبرز حجج المعارضين
لها. وإذا راجعنا تاريخ الموقف الإسرائيلي المعارض لإعدام المقاومين
الفلسطينيين، سنجد أنهم على الأغلب كانوا رؤساء الأجهزة الأمنية
والمستشارين القانونيين والسياسيّين المطّلعين على تقارير تلك الأجهزة،
ودراساتهم وخلاصاتهم المهنية حيال قضية الردع المتوخى من جهة، وعكسه
المحتمل من جهة أخرى، فحسب ما نشر تباعا من مواقف صادرة عن الأجهزة
الأمنية الإسرائيلية، يستفاد من أن المسؤولين في تلك الأجهزة مقتنعون
بأنّ تفعيل عقوبة الإعدام بحق مقاومي الاحتلال الفلسطينيين، لن تردعهم
بل ستزيد أولئك المقاومين عندا وقساوة واستعدادا للمقاومة حتى آخر
الأنفاس؛ علاوة على تحويلهم إلى قدوات تحتذى من قبل أبناء مجتمعاتهم،
وأبطال معلقين كتمائم في صدور الناس، لا مجرد جثث تتهادى على أعواد
المشانق، كما يريد مشرّعو القانون المذكور. لقد أصابت المستشارة
القانونية كبد الحقيقة؛ فهي، ربما من دون أن تقصد، أشارت إلى ما يعرفه
الكثيرون في جميع أرجاء العالم وهو، أن الفلسطينيين صمدوا كل هذه
العقود، رغم المؤامرات عليهم، وقبضوا على جمر المقاومة، رغم دموية
الاحتلال وقمعه وممارساته التي لم تعرف حدودا، بسبب إدراكهم للسر في
بناء معادلات «الردع المتبادل» مع المحتل، التي تولد، بداية، داخل
الصدور وتنمو داخلها على شكل إرادات سرمدية، لا يفلّها خوف ولا يثني
عزائمها رصاص ولا موت، فتكوّن، حين تكبر، جداول الحياة، وتصبح ما يمكن
أن نسميها أنهر الردع الفلسطيني، وتصب في بحور النضال؛ أو بكلمات أخرى
مختصرة: إرادة الإنسان الحر صاحب الحق الواقف على ناصية المدى ولا يخشى
الردى.
كنت متجها إلى رام الله لحضور اجتماع في نادي الأسير الفلسطيني، ولسماع
آخر أخبار الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال. وفي الطريق كان
أصحاب قانون الإعدام يتسابقون، عبر موجات الأثير، بالتأكيد على فرحتهم،
وعلى قناعتهم بأنهم أحرزوا فوزا ساحقا على الفلسطينيين، وأنّ قانونهم
سيمحي أسطورة المناضل الفلسطيني، الذي لا يخشى أعواد المشانق. كنت
أسمعهم وأتذكر مئات الأسرى الذين دافعت عنهم في مسيرة بدأت قبل أربعين
عاما. كنت أتخيل وجوه أولئك الأسرى الهازئة وهم يستمعون لتلك
التصريحات؛ وتذكرت كيف دخل هلال قاعة المحكمة المركزية في الناصرة وجلس
على مقعد المتّهمين. وعندما دخل القضاة لم يقف احتراما لهم، كما هو
متبع في المحاكم. طلب منه رئيس المحكمة أن يقف، فأجابه بإنه لا يحترمهم
ويعتبرهم ممثلين للاحتلال، مجرمين وقتلة. حاول القاضي أن يُسكته كي
يقرأ له لائحة الاتهام الخطيرة الموجهة إليه، وفيها أنه قتل جنديين
إسرائيليين بالقرب من أحد المفارق القريبة من مدينة جنين. ثم سأله بعد
أن انتهى من قراءة اللائحة عن ردّه عليها. قمت كي أقدّم ردّي كمحام
للدفاع، فوقف هلال واعتذر مني قائلا: دع عنك أستاذي، فأنا لا أعترف
بهذه المحكمة وليحكموا عليّ بما أرادوا. حاول القاضي أن يردعه ويدجّنه
فنبّهه إلى أنّ عقوبته قد تصل إلى حكم الإعدام؛ ضحك هلال وردّ على
القاضي من دون أن ينتظر رأيا أو نصيحة وقال: ما أغباكم وما أصلفكم!
أوتحسبون أنني أخشى حكمكم؟ فنحن في بلادي نموت على طريقتكم كل يوم ألف
مرة، واليوم جئتكم كي أموت على طريقتي أنا؛ هي ميتة واحدة، بعدها
سأحيا»؛ قال وجلس. عن هلال وصحبه سأحدثكم لاحقا.
لقد دافعت عن آلاف الأسرى الفلسطينيين وكنت شاهدا على مواقف «أهلّة»
ملأوا السجون وسماء فلسطين بالعزة وبالكرامة. لا أظن أن أعضاء الكنيست،
الذين صوّتوا لصالح قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، قد سمعوا بأسماء
قوافل من أقسموا ألا يرضوا بحياة الذل والقهر تحت نير الاحتلال؛ فبعضهم
ناضلوا ورحلوا على طريق الملائكة، وآخرون ولدوا وما زالوا يتعاقبون
كالصدى وهو ينثال من «لام» الأملللل. أغلب الظن أن من يحلم بالإعدامات
كحلّ لمشاكله لم ولا يريد أن يعرف وأن يسمع عن هلال ورفاقه، فلهم مثل
ما لجميع الطغاة: شهية النار وذاكرة الرصاص.
وصلت رام الله وكلّي غضب وقلق. انضممت إلى مجموعة من الأسرى المحرّرين
كانوا يتحلقون حول طاولة، وأمامهم على الحائط جهاز تلفزيون، راحوا
يتنقلون بين فضائياته التي انشغل معظمها بنقل الأخبار حول ما يجري في
الكنيست وفي شوارع المدن الإسرائيلية وبمشاهد من غزوة المستوطنين على
بلدة «حوّارة». نظرت في وجوههم ولم أجد عليها علامات الدهشة، كانت
وجوههم صامتة، مستفَزة وغاضبة، وكانت تعليقاتهم تنطلق من أفواههم مع
دفعات دخان السجائر، مقتضبة وساخرة. لقد تباينت آراؤهم حول ما يجري في
إسرائيل، فبعضهم أبدى سرورا بأن اليهود يتحاربون مع بعضهم وتمنوا أن
يكون فرجنا، بسبب تلك الحرب، قريبا؛ بينما أعادنا صوت إلى ليل «حوارة»
وحرائقها وتساءل: من أين تأتي النجاة وما العمل؟ تحدثوا في كل شيء؛ عن
غزة الهاربة وعن أحكام الإعدام فيها، وعن سماوات شرقنا حين تفتح فوق
عُمان وتغلق فوق رام الله، وعن اجتماع العقبة؛ فعلّق أحدهم قائلا: بعد
كل «عقبة» فرج، وما أجملها مفارقة! تحدثوا عن الحواجز وعن القلق، ثم
عادوا إلى ما يخصهم كأسرى، فأجمعوا على ما قاله آخر المعقبين، على أن
جلاوزة المحتلين: «لا يشبعون وحشية ولا دماء؛ فهذا القانون لن يفيدهم
بشيء، بل على العكس تماما. بالموت لن يردعونا. إنهم واهمون، فقد حوّلت
وحشيتهم حياتنا إلى جهنم يومي وأباحوا دماءنا بشكل غير مسبوق، فلماذا
نهاب مشانقهم وقد ذهبنا نحوها مرارا بصدورنا وبجبهاتنا العالية وعُدنا
من دون أن نحظى بفرصة ولادة حقيقية/أبدية». سكت المتحدث ليأخذ نفَسا من
سيجارته، فأردف رفيقه بنوع من التهكم الأسود وقال: «وكأنهم بحاجة إلى
قانون كي يعدموا أبناء شعبنا.. إن جنودهم وقطعان مستوطنيهم يقتلوننا كل
يوم ولا يرحمون أحدا؛ لقد قتلوا الشيخ وأعدموا المرأة ونكّلوا بالشاب
وقضوا على الطفل وحرقوا الشجرة.. إنهم بحاجة إلى مثل هذا القانون كي
يُشبعوا غرائزهم النهمة، وكي يسكتوا حناجر رعاعهم». لقد كان واضحا
لجميع الحاضرين أن سنّ هذا القانون يندرج كخطوة ضمن «مخطط الحسم» الذي
تنوي هذه الحكومة تحقيقه، والذي يستهدف تركيع الفلسطينيين وجعلهم
يقبلون بالاحتلال كسيادة عليا عليهم. وكان واضحا كذلك أن خطة الحسم لن
تتقدم إلى الأمام، إلا إذا هُزمت إرادة المقاومين والأسرى الفلسطينيين؛
فمن لن يرتدع من إمكانية إعدامه، سيعدم أو سيعتقل وسيعيش داخل الأسر
الإسرائيلي في ظروف جهنمية مختلفة عمّا هو قائم اليوم. هذا فعليا ما
بدأت إدارة «مصلحة السجون الإسرائيلية» بتنفيذه داخل السجون انصياعا
لأوامر وزارة الأمن الداخلي وبدعم هذه الحكومة التام. كانت التقارير
الواردة من معظم السجون واضحة ومقلقة ومستفزة، فالأزمة مع إدارات
السجون تتعقد والمخاطر تزداد. واستشعارا لما هو آت، أعلن قادة الحركة
الأسيرة الفلسطينية عن البدء بتنفيذ خطوات نضالية ستنتهي بإعلان
العصيان التام. إنه الدفاع عن كرامة الأسير وعن حقه بالعيش في ظروف
إنسانية، وحسب الشروط التي حققتها الحركة في مسيرة نضالية طويلة ومكلفة
وقاسية. إنها، مرة اخرى، حرب الإرادات والبقاء وفق شروط معادلة «الردع
المتبادل».
كاتب فلسطيني
خطة الحسم… مفتاح الحرب
بأيادي اليمين الإسرائيلي
جواد بولس
يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة عازمة، في أقرب أجل منظور، على
إنجاز سن جميع التشريعات التي أعلنت عنها ضمن خطة وزير القضاء يريف
ليفين، أو ضمن ما اشتملته الخطوط الأساسية للائتلاف الحكومي. وعلى
الأرجح، ألّا تفلح الاحتجاجات الشعبية، رغم زخمها، كما شاهدناها في
الأسابيع الأخيرة، في ردع رئيس ووزراء هذه الحكومة، فهم ممعنون بالتقدم
نحو «إسقاط القلعة» وإحكام سيطرتهم عليها بالكامل، رغم كل التحذيرات
الموجهة لبنيامين نتنياهو من عشرات الجهات السياسية والمؤسسات
الأكاديمية والمرافق الاقتصادية والأجهزة الأمنية من داخل إسرائيل ومن
عدة دول صديقة لها.
لقد كتبت كثيرا عن الواقع السياسي الجديد الذي سنواجهه، نحن المواطنين
الفلسطينيين، وعن الفوارق بين نظام حكم اعتمد قواعد فصل السلطات وسيادة
القانون والاعتراف بحريات الفرد الأساسية، وأتاح لنا، رغم سياسات
حكوماته المتعاقبة العنصرية والقمعية بحقنا، قلة من هوامش الديمقراطية
وممارسة حرياتنا الأساسية، وبين نظام سيهدم جميع تلك القواعد
والمسلّمات، وما ترتب عليها من واجبات ومن حقوق، واستبدالها بأنظمة قمع
عرقية خالصة.
يعتبر سموتريتش السلام مع الفلسطينيين، مستحيلاً، لأنهم غير مستعدين
ولن يكونوا مستعدين لأن يجسّد اليهود حقهم في تقرير مصيرهم على أي قطعة
أرض بين النهر والبحر
لن أعدد لوائح الاختلاف بين النظامين السالف والحالي، خاصة في كل ما
يتعلق بممارسة حياتنا اليومية كأفراد وكمجتمع؛ ومن المؤسف ألا نستوعب
ما ستفضي إليه مجموعة القوانين التي بدأت الكنيست بالتصويت عليها، وكيف
ستغيّر تبعاتها مفهوم علاقاتنا مع أجهزة الدولة، كما مارسناها كمواطنين
من درجة ثانية، منذ البدايات حتى يومنا هذا، إلى «أغيار» تسري عليهم
أحكام التوراة، أو عبيد في دولة هم أسيادها. لا يمكننا أن نقرأ فصول
خطة قلب نظام الحكم، التي تسعى الحكومة الجديدة لإنجازها بصورة مجزأة؛
فالسيطرة على منظومة القضاء وفي طليعتها المحكمة العليا، وتحكم الحكومة
بتعيين القضاة، مثلا، لا يعني فقط استبدال قضاتها بقضاة موالين للحكومة
ووزرائها. ولو وقفت القضية عند هذا الفارق فسيكون الحق ساعتها مع من
يدعي أنه لطالما ظُلمنا نحن المواطنين العرب من قرارات قضاة المحكمة
العليا خلال العقود الخالية، إذ لطالما وقف هؤلاء، أصحاب النظريات
الليبرالية، مع سياسات حكوماتهم العنصرية وبيّضوا صفحاتها وسوّغوا
موبقات الاحتلال للأرض الفلسطينية وقمع حقوق الفلسطينيين. علينا أن
نقرأ هذه التغييرات معا مع سائر فصول المخطط المرسوم؛ فعلى سبيل المثال
إصرارهم على إضافة «فقرة التغلب» من شأنه تزويد الكنيست، التي يتمتعون
فيها بأغلبية مطلقة، بقوة فائقة ستمكنهم من تحييد دور المحكمة العليا
في مراقبة القوانين وإلغاء إمكانية تدخلها في حالة عدم توافق تلك
القوانين مع قيم الحريات الأساسية والمساواة. وكذلك يتوجب علينا أن
نفهم لماذا يطالبون بإلغاء «حجة المعقولية» التي تلجأ إليها المحكمة
العليا أحيانا خلال تعرضها لقانونية قرارات الحكومة، أو الكنيست، مثلما
حصل مؤخرا عندما أبطلت المحكمة العليا قرار تعيين اريه درعي كوزير في
حكومة نتنياهو بحجة «عدم معقولية» ذلك التعيين، بعد أن كان قد أدين
بتهم فساد، وبكونه تعيينا لا يتماشى مع أحكام العقل السليم. لسنا بحاجة
للمرور على جميع فصول خطتهم المعلنة، وما خفي منها وما بان؛ فهدفهم،
بالمختصر، هو الاستيلاء على الحكم وهدم جميع أركانه القديمة، وتخويلهم
كحكومة «منتخبة من الشعب» أن يحموا الدولة من جميع أعدائها، الخارجيين،
ومن في داخلها، وبكل الوسائل التي يرونها كافية وملائمة، وأن ينشروا
الأمن في شوارعها، حتى لو اقتضى الأمر بناء وحدات من «الحرس الوطني»
الخاص، وإعفاء عناصره من تعقيدات الأنظمة الوضعية ومحاذير القوانين
المقيّدة. في سبيل ذلك لن تقف في طريقهم معارضة تتكلم باسم
الديمقراطية، ولا ما يسمى «سيادة القانون» أو القيم الإنسانية؛ ولن
يعيقهم مستشارون قانونيون حياديون ولا نظام قضائي مهني قوي ومستقل، ولا
قضاة يرون، إذا أرادوا أن يعدلوا، ضرورة لتفعيل العقل السليم، أو قضاة
قد يعيقون تنفيذ ما يخططون له في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنهم
جاؤوا كي يحسموا قضية فلسطين والفلسطينيين، مرة وكما شاء ربهم.
لقد نشر الصحافي المعروف رون بن يشاي يوم الاثنين الفائت مقالا لافتا
في موقع «واينت» العبري تحت عنوان «للانقلاب القضائي هدف إضافي:
الأبرتهايد». من الجدير قراءة المقال كاملا، لأنه يتحدث عن وثيقة كان
قد نشرها الوزير بتسلئيل سموتريتش عام 2017 تحت عنوان «خطة الحسم،
مفتاح السلام موجود بأيادي اليمين»، وقصده طبعا حسم الصراع معنا
كفلسطينيين، كل الفلسطينيين. واليوم، هكذا يكتب الصحافي بن يشاي: «في
هذه الحكومة حاز سموتريتش الوسائل كي يبدأ بتنفيذ خطته، وكي لا تعيقه
المحكمة العليا، أراد تحييدها». ثم يضيف: «من الجدير أن يعلم الجمهور
أن هدف الانقلاب القضائي، علاوة على ما أعلن، هو وضع الأسس القانونية
لخدمة عمليتين سياسيتين من شأنهما تغيير وجه الدولة وتغيير أساليب
حياتنا بشكل لا عودة منه. ستضمن العملية الأولى ضمّ كل المناطق الواقعة
بين نهر الأردن والبحر، من دون إعطاء حق المواطنة للفلسطينيين؛
والعملية الثانية ستعتمد على سن قانون أساس يتطرق إلى مكانة المواطنين
داخل دولة إسرائيل، وتوزيعهم لثلاث فئات حسب معايير تعتمد على المشاركة
في المجهود الأمني الاسرائيلي، والمشاركة في سوق الإنتاج والعمل، ودفع
الضرائب، حيث سيكون، كما هو متوقع، المواطنون العرب في أسفل
السلم. يعتبر سموتريتش أن السلام مع الفلسطينيين، أمر مستحيل، لأن
الفلسطينيين غير مستعدين ولن يكونوا مستعدين أن يجسّد اليهود حقهم في
تقرير مصيرهم على أي قطعة ارض بين النهر والبحر؛ ولذلك، برأيه، فشلت كل
محاولات إحقاق السلام في الماضي. لا يؤمن سموتريتش بحل الدولتين، بل
يؤمن بضرورة تغيير الوقائع على الأرض وإتمام ضم المناطق الفلسطينية
وتخيير الفلسطينيين بين البقاء في «يهودا والسامرة» ليعيشوا في جيوب
سكانية تخضع للسيادة والحكم الإسرائيليين، أو هجرة من لا يرغب منهم
بهذا، وعندها ستساعدهم إسرائيل وتسهل عملية هجرتهم؛ أما الخيار الثالث،
فسيواجهه من لا يقبل بالخيارين المذكورين، وحينها على الجيش «أن يعرف
كيف يهزم الإرهابيين في زمن قصير؛ وقتل من يجب قتله وجمع السلاح حتى
الرصاصة الأخيرة وإعادة الأمن لمواطني دولة إسرائيل». فهل لنا بماذا
يجري في شوارع جنين ونابلس والقدس حكمة؟
من الضروري أن نتوقف عند هذا الكلام لأهميته ولتأثيره في مستقبلنا وفي
مصير الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ فما نحن بصدده ليس كما يحاول
البعض تبسيطه وإفهامنا أن الحرب بين المعسكرين اليهوديين ما هي إلا حرب
بين جسمين وفكرين متشابهين حتى التطابق.. فلندعهم ينزفون وننتظر حتى
يأتينا «خراجهم».
إشاعة هذه المقولات من قبل شخصيات سياسية قيادية ومؤسسات بحثية عمل
بعضهم أو يعمل في كنف الديمقراطية الإسرائيلية العرجاء، وبعضهم كان قد
استنجد، من أجل بقائه في الحلبة السياسية، بهوامش هذه الديمقراطية
«وبعدل «محكمتها العليا، وتجنّد بعض مراكز الدراسات والأبحاث خدمة
لوصايا أو لأجندات سياسية حزبية فئوية، ونشرهم ما يسمى «دراسات
تحليلية»، أو «أوراق تقدير موقف» موجهة، وتغييب النقاشات الحرة
والمسؤولة بين النخب وشرائح المثقفين والأكاديميين – جميع هذه العوامل
أدى إلى انتشار حالة العزوف عن المشاركة في الفعل السياسي الاحتجاجي،
لا كمشاركين في مظاهرات اليهود الضخمة التي تشهدها المدن الإسرائيلية
وحسب، إنما داخل المدن والقرى العربية نفسها؛ فمن أراد إبعاد العرب عن
شوارع تل أبيب، لم يسع لإخراجهم إلى شوارع الطيرة والناصرة ورهط.
نحن، الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، نعاني من أزمة هوياتية حادة،
ومن فراغ في أداء دور القيادة المسؤولة؛ بينما يعاني بعض مفكرينا
ومثقفينا من كسل فكري شجعته مواطنتهم الإسرائيلية القلقة لكنها
المرغوبة، وبعضهم يؤثر الاسترخاء في ظل ترف التهرب من مواجهة معضلاتنا
الوجودية. نحن، في الحقيقة، لم نختر بإرادتنا المفاضلة بين نظام حكم
يهودي عنصري ونظام حكم يهودي ديني وفاشي عرقي، كما يحاول بعض كتّابنا
ومثقفينا التحذير منه، ويطالبوننا بعدم التعاطي مع هذه «العملة» ثنائية
الوجهين؛ فنحن لم نختر ذلك. ولكن إذا كان هذا هو واقع الحالة
الاسرائيلية اليوم، أيصح أن نقف بلا أي حراك مجدٍ أو فعل سياسي معارض،
وأن نكتفي بإعداد التحاليل وإطلاق الأمنيات، كما يفعل كثيرون من أصحاب
نظرية الانتظار والتمني أن تطول حرب المعسكرين حتى تنتصر في النهاية
قهوتنا وتضحك شرفات منازلنا المحاصرة ؟
كاتب فلسطيني
غصات: الموت تحت الركام…
والقتل تحت جسر يبرود
جواد بولس
ترددت قبل مغادرة بيتي صباحا، لم تسعفني حبة المنوّم التي بدأت ألجأ
إليها كلّما شعرت باضطرابات أو بتعب؛ فالليل والقلق كانا صاحبيّ، وصوت
المطر يتسلل إلى حجرتي بعناد، كأنفاس غاضبة من السماء، ويجرح السكون.
كانت أخبار ومشاهد الزلزال الذي ضرب مناطق مأهولة في سوريا وتركيا تغزو
معظم نشرات أخبار الفضائيات في العالم، وشاشة تلفوني تتلقى، كمحطة
إنقاذ، أخبارا وأفلاما صوّرها شهود عيان من مواقع الخراب.
لم أستطع مشاهدة بعض تلك المقاطع حتى النهاية، فصور الدمار ومشاهد
القتلى، خاصة الأطفال، كانت مخيفة حتى الشلل. أبكاني مشهد لأب كان
يقرفص فوق بقايا رصيف شارع وأمامه صف من جثث أطفال صغار، يبدون من بعيد
كملائكة صغار نائمين. بينهم كانت طفلته وكان يكلمها، بصوت مخنوق، هوى
كنصل على كبدي، ويسألها: لماذا أنتم.. لماذا أنت يا روحي.. كان عجزه
يسيح مع دموعه ودهشته والحيرة تفتشان عن الحكمة بين الخرائب والركام،
وعن العدل الذبيح على عتبات المعابد والبيوت، وعن المنطق في حصد هذه
الأرواح وهي نائمة مطمئنة في بيوتها وبين يديّ الدعاء والصلاة. كان
الأب يجهش بحرقة مكتومة حتى نهاه صوت لرجل وقف هناك وطالبه بأن يشكر
فطنة وكرم السماء ويحمد حكمتها.
بلع الأب صوته ومدّ من بعيد، ذراعه نحو جسد طفلته وتمتم بضع كلمات سمعت
صداها، وكان كله حسرة ووجع.
الانقسام الفلسطيني هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر
الأمل الفلسطيني.. متى سنعود لنصير شعبا واحدا مستعدا لمواجهة الزلازل
والبراكين
لم أعد اتحمل متابعة تلك المشاهد والأخبار، كان ليل القدس ساحرا وفي
الفضاء تتطاير «عباءات» من رذاذ رمادي، لم ينضج ثلجه، وتسبح بخفة أطفال
يلحقون سرب فراشات تائهة. اتكأت على حافة اليأس وتخيّلت أنني أسمع همس
نايات بعيدة تبكي. حاولت، وأنا في طريقي إلى رام الله، إزالة شوائب
التشاؤم التي علقت بأهدابي المتعبة؛ وتذكرت ما كان يقوله أبي: «لا
تسبوا الطبيعة، ولا تكفروا بها وبجبروتها. إنها أم «بأقنومين»، فهي أم
الزلازل والجوائح والبراكين والنهايات، وهي أيضا أم الخير والبركات
والبدايات. لا تشتموها»، هكذا كان يقول والدنا، «فلربما تبعث للبشر، عن
طريق تلك الكوارث والموت والخرائب تذكارات وإنذارات عساهم يتذكرون
أصلهم ويعون جهلهم ويتعظون ويهتدون ولا يتغطرسون ويتعنجهون». كنت وأنا
أتذكر أحاديث أبي وأحاول تهدئة غضبي من ليلة كانت كلها عبثا وبؤسا،
ابتسم؛ فأبي بعد حصول كل كارثة كان يحاول مداواة خوفنا واستيعاب غضبنا،
وكان يربّي في نفوسنا بذور السعادة والفضيلة والأمل. كنا وقتها صغارا
فكنا نسمع كلامه ونهدأ ونسكت؛ ولكن عندما كبرنا صرنا نتذكر كلامه
فنتبسم ولا نهدأ، ونقرّ بجهلنا الذي كلما عرفنا صار أكبر، وبعجزنا،
ونسهر ولا نحلم. كنت قريبا من حاجز «الجيب»، وهي قرية فلسطينية صغيرة
كانت القدس تمسك بخاصرتيها، فنصب الاحتلال بينهما سورا عاليا ومدى؛
وكان أمامي طابور من السيارات الداخلة إلى محافظة رام الله. وقف بجانب
الحاجز جندي وبيده حاسوب كان يدخل إليه اسماء بعض السائقين عن طريق ما
يسمونه بلغة التفتيش والحواجز «الفحص العارض». كنا نتقدم ببطء وعندما
صرت قريبا منه أوقف السيارة التي أمامي وتبادل مع سائقها ومن جلس
بجانبه، بعض الكلمات. فهمت أنه كان يأمرهما بالعودة والدخول إلى رام
الله عن طريق حاجز «قلنديا». حاولا الاستفهام منه عن سبب قراره المفاجئ
وإقناعه بتغيير رأيه، لكنه أصر وأمرهما بصرامة حاقدة، وإصبع يده على
زناد بندقيته، بالعودة؛ ففعلا. ثم أشار نحوي بيده، بحركة غير المكترث،
فتقدمت حتى صرت بمحاذاته. من قريب بدا مثل كل جنود الحواجز، أجسادا
كساها الغبار وحشية وشرا، ورؤوسا محشوة كراهية وبنادق. لم يوقفني، كان
يضحك، أو هكذا خيّل لي بعد أن مارس سلطانه على فلسطينيين عاديين
ومنعهما من عبور حاجزه؛ فأشار لي أن أستمر فقطعت الحاجز ومثلي فعل من
كانوا ورائي. وصلت مقرّ نادي الأسير الفلسطيني قبل وصول عائلة الشهيد
أحمد الكحلة، التي تسكن قرية «رمون» شرقي مدينة رام الله. قرأت في
وسائل الإعلام كيف قتل جندي إسرائيلي أحمد الكحلة وهو في طريقه إلى
ورشة عمله في قرية دير سويدان. في صباح الخامس عشر من الشهر الماضي
نصبت تحت «جسر قرية يبرود» قوة من جيش الاحتلال حاجزا فجائيا، أو ما
يسمّى بلغة الشقاء «حاجزا طيّارا». أمر الجنود جميع سائقي السيارات
القادمين من اتجاهيّ الشارع بالتوقف وعدم التحرك. كان معظم السائقين
وركاب السيارات في طريقهم إلى أماكن أعمالهم ووظائفهم؛ فانتظروا،
مرغمين، طويلا حتى بدأ بعضهم بإطلاق صافرات سياراتهم كخطوة احتجاج
ومطالبة بفتح الطريق.
«كنت إلى جانب والدي في السيارة ونحن في طريقنا إلى ورشة عملنا في قرية
دير سويدان» هكذا بدأ قصيّ ابن الشهيد يروي لي تفاصيل استشهاد أبيه
أمامه. كان يحدثني بصوت خفيت وبهدوء خال من علامات الأسى والألم. كنت
أسمع تفاصيل عملية إعدام والده وأمتلئ غضبا. في بدايات عملي في فلسطين
المحتلة كان هدوء أهل الشهداء وتقبلهم حقيقة موت أعزائهم بنوع من الرضا
والتسليم يغيظني ويدهشني؛ ولكنني بمرور السنين فهمت أن هذه المسألة
ليست بتلك البساطة، وهي، في الواقع، حالة أعقد وأعمق مما تظهر عليه،
وصرت أستوعب أن أسى وأوجاع هؤلاء الأقرباء على فراق غواليهم تبقى
مدفونة عميقا في دمائهم وفي أرواحهم مهما تعمّدوا إخفاءها، إما باسم ما
تمليه صفات الرجولة الشرقية، فلا يجوز للرجل عند العرب أن يبكي وأن
يحزن بالعلن، وإما بهدي العقيدة الدينية وموروثها في مجتمعاتنا. «علت
أصوات صافرات السيارات فبدأ الجنود بالقاء قنابل صوت. واحدة من هذه
القنابل وقعت على سقف سيارتنا فاحتج والدي أمام الجندي على إلقاء
القنبلة. كنا في السيارة فاقترب منا أحد الجنود وبدأ برش غاز الفلفل
علينا، فاصبت بما يشبه العمى. سحبني الجندي بالقوة من داخل السيارة
وألقاني إلى جانب الطريق، وقاموا بإخراج أبي وبدأوا بالاعتداء عليه
بعنف، بينما كان يدفعهم عن نفسه، إلى أن سمعنا صوت الرصاص. كان هذا
الرصاص الذي أعدموا فيه أبي من مسافة الصفر. أوقفني الجندي وأمرني أن
أعود إلى بيتي فسألته عن أبي فقال: لقد قتلته». هكذا حكى لي قصي قصة
إعدام والده أمامه، وسكت. حاولت إسرائيل أن تتهم الشهيد أحمد بأنه كان
يحمل سكينا وقام بالاعتداء على الجنود، لكنها سرعان ما غيّرت روايتها
إلى أن أحمد الكحلة حاول أن يخطف سلاح أحد الجنود، الذي «اضطر» إلى
إطلاق النار عليه. وبعد أن انفضح كذب الجنود اضطرت إسرائيل إلى أن
تعترف بأن احمد الكحلة قتل من دون أن يكون هناك سبب لقتله، وتبين كذلك
أن الجنود الذين أقاموا الحاجز يتبعون لكتيبة كان جنود منها قد تورطوا
في عمليات اعتداءات دموية وإطلاق النار على الفلسطينيين وممتلكاتهم.
حاولت أن استدرج قصيّ إلى خانة أخرى على سلم الصوت، لكنه بقي في سكينته
وصلابته مصمما على ضرورة ملاحقة الجنود قانونيا حتى محاكمتهم؛ فوعدته
بأنني معه حتى نهاية النفس.
كنا في مقر نادي الأسير الفلسطيني وكانت مشاهد دمار الزلزال في سوريا
وتركيا تعرض على شاشة التلفزيون امامنا. كنا ننظر إليها ونتابع حديثنا
عن شؤون فلسطين والموت على الحواجز أو داخل السجون وفي الميادين، وماذا
يمكن أن نعمل. لم تكن لأحد من الحاضرين أجوبة وحلول؛ فمعظمنا يشعر بسوء
الحالة الفلسطينية وبانسداد فرص مواجهة الاحتلال الصحيحة والموجعة.
بعضنا تطرق إلى موقف دول العالم وكيف تصرفوا حيال سوريا وعاقبوا شعبها
المنكوب، بينما ذهبوا لتقديم المساعدات لتركيا؛ وبعضنا دلف بسرعة نحو
الحرب الروسية الأوكرانية وكونها فعليا حربا عالمية ثالثة محدودة
الانتشار. ومن روسيا وصلنا السودان عاصمة اللاءات الثلاث الشهيرة التي
أطلقها العرب من الخرطوم عام 1967 وأعلنوا: «لا صلح، لا اعتراف ولا
تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحقّ لأصحابه». ضحكنا مثل
المجانين، واتفقنا على أن معظم الدول العربية إنما هي مثل الكوارث
الطبيعية، يجب ألا نتوقع منها غير الشقاء. هدأنا وعدنا إلى واقعنا
الفلسطيني وإلى قضايا الموت والحياة فاتفقنا على أن الانقسام الفلسطيني
هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر الأمل الفلسطيني. كنا
محبطين على حافة الرجاء ونتساءل متى سنعود لنصير شعبا واحدا لا يخشى
أفراده الردى، مستعدا لمواجهة «الزلازل والبراكين»، شعبا يقدس الحياة
ويعرف أن يذرف الدمع وقت الفرح، وأن يذرفه بلا خجل رجولي، إذا غضبت
الطبيعة وخطف «ملائكته» الغضة زلزالٌ لم يمهلها أن تضحك والصبح؛ أو
يبكي عندما يسمع قصة كقصة الإعدام على الحاجز. قصة أحمد، رجل فلسطيني
عادي كادح صادَق الفجر والازميل والكحلة ومضى وراء لقمة عيش أولاده
بعزة وبكرامة؛ أحمد الإنسان البسيط الذي أعدم بوحشية لأنه كان «يموت»
على الحياة ويحب تراب بلاده.
كاتب فلسطيني
المظاهرات في تل أبيب حرام…
والمظاهرات عند العرب «يوك» فما العمل؟
جواد بولس
كما كان متوقعا، فقد بدأ وزراء الحكومة الإسرائيلية الجديدة بتطبيق
تدريجي لمخططاتهم المعلنة؛ ومن المتوقع أن يشعر قريبا الكثيرون من
المواطنين، خاصة العرب، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى القطاعات
المهنية والشرائح الاجتماعية، بتبعات السياسات الجديدة وبأوزارها.
وعلى الرغم من أن بعض الأفراد بدأوا بدفع ثمن الممارسات الإسرائيلية
القمعية الجديدة، سيبقى خطر هذه الحكومة الأكبر كامنا في إصرارها على
تقويض المنظومة القضائية، تحت مسمى الإصلاحات الإدارية، وتعزيز قوة
وصلاحيات الحكومة وأدوات سيطرتها على نظام الحكم وتزودها بقوانين جديدة
سيخضع معظمها لسلطة الشريعة اليهودية، كمصدر أعلى لفصل المقال. هكذا
قرأنا وسمعنا في الأيام الأخيرة.
لا شيء يخيف ويقهر أكثر من صمت الضحايا، أو تفاؤلها الموهوم، وهذا حال
مجتمعنا العربي، ويبقى غياب دور الهيئات القيادية داخل مجتمعاتنا
الأكثر إحباطا
لقد بدأت شرائح واسعة من داخل المجتمع اليهودي بتشخيص رغبات أحزاب
الائتلاف الحكومي، وما ستفضي إليه في ما إذا تحققت مخططاتهم، وكيف
سيكون وقعها عليهم مباشرة وعلى صورة ومكانة وأمن دولتهم، التي دافعوا
عنها وخدموها في العقود الماضية؛ لقد أرادوها دولة «يهودية
وديمقراطية»، وآمنوا بضرورة التمسك بصيغة هذا التزاوج، معتقدين أنه
قران جائز وصالح ونزيه؛ واليوم نرى أن بعضهم بدأ يعيد النظر بهذه
«المسلَّمة» ويقتنع باستحالة تطبيقها، وبأن الديمقراطية الحقيقية لا
يمكن أن تتنفس في فضاء تحتله ديانة سُيّست وحُزّبت وجُيّشت وطغت، ولا
ديمقراطية تتخثر في خوذات جنود تحتل دولتهم شعبا آخر وأرضه، ويزرعون
فيها، جيشا وميليشيات سائبة، القتل والخراب والرعب صباح مساء. لا
يستطيع أحد التكهن كيف ستتطور حراكات الاحتجاج الإسرائيلية التي ما
زالت تبحث عن طريق سياسي واضح، وقيادات حازمة وقادرة على وضع الحروف
الصحيحة واللازمة على يافطات المواجهات المقبلة؛ «فنعم للديمقراطية» هو
شعار مهم وضروري، لكنه لا يكفي لترشيد المسار ودفعه نحو الهدف المرتجى،
لاسيما إذا استعدنا تاريخ العوامل والظروف التي أدّت إلى تنصيب هذه
القوى الخطيرة على سدة الحكم؛ فالانهيار السياسي الذي نشهده داخل
المجتمع اليهودي لم يحصل بشكل فجائي؛ وعملية الانزياح تجاه هذا اليمين
المتحوّر بنزعتيه الخطيرتين: قوى دينية متزمتة، إلى جانب مجموعات تحمل
الفكر الفاشي الواضح، هو نتاج سيرورة طويلة، نامت خلالها هذه الجموع
التي نراها اليوم تملأ شوارع تل أبيب وغيرها، أو آمنت بأن إسرائيلهم
حصينة من أن تصاب بداء فقدان الإنسانية، وأنه يجوز لجيشها أن يكون «جيش
الاحتلال الإسرائيلي» ويدّعي قادته أنهم أبرياء ويخدمون دولتهم
الديمقراطية. تدور داخل المجتمعات اليهودية، في إسرائيل وخارجها،
نقاشات حادة حول أهمية المشاركة في النشاطات الاحتجاجية ضد الحكومة
الجديدة، وحول الشعارات التي يجب أن يتبناها منظمو تلك
الاحتجاجات. يتوجب علينا أن نتابع ونصغي لهذه النقاشات، وكيف بدأت تخرج
من بينها أصوات عديدة تنبه إلى ضرورة ربط المطالبة بالحفاظ على
الديمقراطية، بإنهاء الاحتلال وبتأمين المساواة التامة للمواطنين العرب
في إسرائيل؛ فهكذا فقط، راح يفكر البعض، من خلال هذه المعادلة
المتكاملة يمكن أن تكون إسرائيل دولة طبيعية وديمقراطية دون زيادات ولا
نقصان. ليس كل من يشارك في الاحتجاجات ضد حكومة بنيامين نتنياهو
الحالية يعي ضرورة الربط بين تلك المسائل الثلاثة: الديمقراطية، وإنهاء
الاحتلال، ومساواة المواطنين العرب؛ بيد أن في مثل هذه التفاعلات
الاستثنائية تتحكم قوانين داخلية تبقى احتمالات تحوّلاتها على جميع
الاتجاهات واردة، شريطة أن يبقى التمسك بمبدأ الاحتجاج على سياسات
الحكومة المعلنة والمضمرة ومعارضتها بحركة شعبية متنامية، هو العنصر
الأهم واللاحم في هذا المشهد، حتى لو اختلفت دوافع المشاركين؛ فمنهم من
يشارك دفاعا عن دولته كما كان يريدها، ومنهم من لا يريد تشويه صورتها
بين الأمم، ومنهم من يخشى على هزيمتها في حرب دينية قريبة، ومنهم من
يجزم أن مخططات الحكومة المزمعة، لاسيما حيال مكانة الجهاز القضائي، من
شأنها «أن تمس الأمن القومي الإسرائيلي، سواء على المستوى الداخلي، أو
على المستوى الخارجي، هذا علاوة على مسها بهوية الدولة الديمقراطية»،
كما جاء في مقال مهم بعنوان «استقلال المحاكم والأمن القومي لإسرائيل»
نشر مؤخرا في نشرة خاصة تصدر عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل
أبيب.
لن أعدد قائمة الأشخاص والمعاهد التي كتبت حول ضرورة الربط بين ما
يجري، وكون إسرائيل دولة محتلة وعنصرية تجاه مواطنيها العرب؛ لكنني
سأشير إلى مقال كتبته قبل أسبوع، في جريدة «هآرتس» العبرية البروفيسورة
إيفا ايلوز، وهي اسم لامع في الأكاديمية الإسرائيلية وفي جامعات أخرى،
متخصصة في علم الاجتماع. فتحت عنوان «خلاصات من الانتخابات: فقط
التسامح غير الصبور ينقذنا»، كتبت عن مفهوم وعلاقة القوة بالممارسة
الصهيونية، وعن مكانة الديانة اليهودية في إسرائيل وكيف تعامل معها
العلمانيون اليهود، وعن تغييب الاحتلال الإسرائيلي كموضوع مركزي يهدّد
صورة إسرائيل كديمقراطية، وعزت ذلك بالأساس لقادة حزب العمل؛ حتى إنها
اعتبرت سياستهم سببا في اندثار حزب العمل.
لا شيء يخيف ويقهر في مثل هذه الأوقات مثل صمت الضحايا، أو تفاؤلها
الموهوم، وهذا واقع حال مجتمعنا العربي، حيث نجد أن أكثريته تحترف
السكوت والكسل، وقلّته تنعم بتفاؤل غيبي أو ساذج. ويبقى غياب دور
الهيئات القيادية داخل مجتمعاتنا الأكثر إحباطا واستهجانا. لقد كتب، في
هذا الصدد، محمد بركة رئيس «اللجنة العليا لمتابعة قضايا الجماهير
العربية» على صفحته مؤخر بأننا «لسنا عبثيين كي لا نرى أهمية هذا
الحراك في إسرائيل لضعضعة حكومة الفاشيين بقيادة بنيامين نتنياهو، لكن
هذا الحراك ليس كافيا، ويبقى خارج الملعب الأساسي». فهل يفسّر هذا
الكلام غياب دعوة الجماهير العربية للمشاركة في احتجاجات تل أبيب؟ ربما
جزئيا، ولكن من سيدلّنا إذن، كيف وأين سيكون النضال كافيا؟ كنت أرغب
بأن يشارك المواطنون العرب في مظاهرات الاحتجاج إلى جانب عشرات الآلاف
من المواطنين اليهود، وأن يؤثّروا في مضامينها وحركتها؛ أو بالتبادل،
كنت أرغب بأن نرى مثل هذه المظاهرات في الناصرة وفي سائر مدننا وقرانا
وبمشاركة عربية يهودية واسعة ومؤثرة. هذا هو واجب قياداتنا ومؤسساتنا
ودورها في مواجهة خطر الحكومة الإسرائيلية، فهل هم قادرون أو راغبون في
القيام بمثل هذه المهمة وتحمّل المسؤولية، في حين لم ينجحوا بالتصدي
لزحف الفاشية حين كان يجب أن يواجهوها، حتى وصلنا إلى نقطة الحسم التي
نقف عندها اليوم. حاول ويحاول الكثيرون بيننا التعاطي مع أسباب هذا
القصور والفشل مفترضين أننا كمجتمع نملك مؤسّسات ومفاعيل سياسية
واجتماعية ومدنية راغبة وقادرة على أن تقود مجتمعنا، وأن تحافظ على
هويته ومناعته وتحميه؛ هكذا كان الافتراض والأمل، لكنّ واقعنا كان أكثر
تعقيدا وعجزا عن أداء تلك المهمة؛ فأساس مشكلتنا كان، واليوم صار أوضح،
بأننا كمجتمع مارسنا حالة انزلاق خطير ولم نشعر، أو لم نعترف بأننا
نفتقد لتلك المؤسسات الواقية الحقيقية، ومضينا نمارس حياتنا بين وهمين:
الأول، قبولنا بما هو قائم من أحزاب وحركات سياسية ودينية تقليدية،
أدخلتنا إلى دوائر مفرغة، هي بذاتها كانت تولد أسباب فقداننا لمناعاتنا
الاجتماعية والسياسية وقدراتنا على التصدي لجميع التحديات الناشئة في
علاقاتنا الداخلية، وفي الوقت نفسه، التحديات في علاقاتنا مع المجتمع
اليهودي المتغيّر ومؤسسات وقوانين الدولة التي يفرزها ذلك المجتمع.
والثاني ما نتج عن تفاقم الحالة الأولى، وهو اقتناع قطاعات واسعة من
المواطنين العرب، لأسباب مختلفة، بأن أحضان الدولة أضمن وأربح لهم،
فابتعدوا عن مواجع مجتمعاتهم ودخلوا «فقاعة» سرعان ما وجدوها هشة
زائلة.
لقد راهن البعض على أن الفرصة أمام هيئاتنا القيادية: «اللجنة العليا»
والأحزاب السياسية والحركات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني ومجالسنا
المحلية، ما زالت متاحة، وكل ما ينقصها هو بعض الإجراءات التصحيحية
داخل هياكلها التنظيمية، إضافة إلى إعادة نظر بعضهم في برامجهم
السياسية ومعتقداتهم الناظمة لعلاقاتهم مع الدولة اليهودية. أما أنا
فكنت قد وصلت إلى قناعة مفادها بأننا أمام حالة مستعصية تستوجب منا
وقفة جديدة لنقرر كيف يمكننا مواجهة خطر الفاشية، واقترحت في حينه
التفكير في صياغة عدة بدائل كان من أهمها، العمل الفوري على بناء
الجبهة العريضة ضد الفاشية لتضمّ كل القوى العربية واليهودية المستعدة
لخوض هذا النضال، حتى لو كان بعضهم يعرّفون أنفسهم كصهيونيين. لم أكن
واهما عندما أطلقت ندائي بضرورة الشروع لبناء «الجبهة ضد الفاشية» بأن
جميع الأطر السياسية والاجتماعية المهيمنة داخل مجتمعاتنا – رغم شعور
الجميع بأننا سنكون أول ضحايا النظام السياسي المتشكل داخل إسرائيل –
ستسارع للانضمام إليها، وذلك لمعرفتي أن مجتمعنا العربي يفتقد عمليا
إلى مثل تلك الأطر المؤمنة بضرورة ممارسة الديمقراطية كأساس لنظام
سياسي يريدون تطبيقه، لو هم حكموا في دولتهم، ولأن بعضهم لا يرون ولا
يشعرون بالفاشية خطرا مطلقا تتوجب مواجهته دون قيد أو شرط، لأن بعضهم
ببساطة يحمل أفكارا وعقائد لو أطلقت لها الأعنّة، في دولة يحكمونها هم،
كانت ستتطابق والفكر الفاشي بتعريفاته العلمية. وبلغة أخرى أقول، وأعرف
أنني سأستفز الكثيرين، نحن مجتمع لا نمارس الديمقراطية، مهما تحاورنا
على صورها وأشكالها، فهي هجينة على ثقافتنا وموروثنا؛ وبعض تياراتنا
المؤثرة يتبنى قيما فاشية، حتى لو لا يسمونها كذلك. إذن ما العمل؟ فإذا
كانت المشاركة في حراك تل أبيب غير مرغوبة أو محظورة، أو غير كافية،
وإذا استمرت حالة السكون والسكوت على حالتها في مواقعنا، فمن سيحمي
معلّمة عربية طردوها بسبب «بوست» كتبته كي تمجد فيه حلمها بالوطن؟ أو
من سيحمي طبيبا ابتسم وحيا مريضه الفلسطيني؟ وكيف سيحمي نفسه سائق
سيارة من الرصاص إذا لم يقف عند خط من غبار رسمته ثلة قناصة عند مفرق
تائه في الرملة أو في ام الحيران؟ وماذا وكيف ومن؟
كاتب فلسطيني
(صفقة رحافيا) نبكي خاسرين
أملاكا لم نصنها مؤمنين
جواد بولس
كشف الإعلام العبري في الأيام الماضية تفاصيل مستفيضة حول صفقتين
عقاريتين لافتتين، تشملان مساحات شاسعة من أراضي مدينة القدس ومحيطها،
كانت تملكها البطريركية الأرثوذكسية المقدسية. الصفقة الأولى تعرف باسم
«صفقة رحافيا» والثانية يسمونها صفقة «تلبيوت هحدشاه» ونحن نسميها
أراضي «مار الياس»، وعن هذه الاخيرة سأكتب لاحقا في فرصة أخرى.
من المؤسف حقا أن نضطر للكتابة مجددا حول ممارسات المسؤولين عن هذه
الصفقات، من أكليروس يوناني متنفذ قابض على رقبة هذه الكنيسة المشرقية
العريقة، ومستشاريهم ومساعديهم من عرب متعاونين ومستفيدين ومتواطئين.
ومن الموجع فعلا أن نذكّر بأننا كنا قد حذرنا خلال السنوات الماضية من
مغبة السكوت عمّا يجري في أروقة هذه البطريركية، وعن إمعان رؤسائها،
البطريرك ورجالاته وأعوانهم، في نهج التفريط و»التخلص» من أملاكها
الشاسعة بأساليب مفجعة، وبذرائع واهية لا يمكن قبولها.
لن تكفي هذه المقالة لسرد قائمة الصفقات التي نفّذها، خلال السنين
الأخيرة، المسؤولون في البطريركية، وشملت عقارات في مواقع مهمة في مدن
طبريا ويافا وقيساريا والقدس، وفي مناطق التماس مع «الخط الأخضر»
وغيرها من المواقع، علما بأن معظم تفاصيل صفقات البيع أو الإحكار،
التأجير طويل الأمد، التي نفّذت، نشرت بعد إتمام عمليات تسجيلها في
الدوائر الإسرائيلية المختصة. تعرف الصفقة التي تصدرت عناوين الأخبار
العقارية في الصحافة الإسرائيلية باسم «صفقة رحافيا» وهو اسم منطقة
تعدّ من أرقى المناطق السكنية في القدس الغربية، وتقدر مساحتها بحوالي
(530) دونما، أقيم عليها ما يقارب الألف مبنى سكني وفنادق ومرافق عامة
كثيرة أخرى. قامت البطريركية الأرثوذكسية في مطلع خمسينيات القرن
الماضي، بتأجير هذه الأراضي لصندوق أراضي إسرائيل «الكيرن كييمت» لمدة
تسعة وتسعين عاما. من المفترض أن تنتهي مدة هذا الإحكار/التأجير عام
2050، وعلى الرغم من ذلك قام البطريرك ثيوفيلوس وأعوانه في عام 2011
بنقل حقوق الكنيسة بتأجير الأراضي مستقبلا لشركة إسرائيلية اسمها «نيوت
كومميوت»، ثم قام بعد خمسة أعوام، ببيع جميع تلك الأراضي لشركة «نايوت
كومميوت» مقابل مبلغ إجمالي ذكرت الصحف أنه ناهز المئة وخمسين مليون
شاقل فقط لا غير، لا نعرف كيف صرف وعلى ماذا؟ قام العديد من الغيورين
على مصير عقارات البطريركية وأوقافها المتوزعة على مساحات شاسعة في
البلاد، وفي مواقع استراتيجية مهمة وثمينة في القدس، بالكشف عن نوايا
البطريركية بإنجاز عدة صفقات بيع جديدة، وأشاروا من خلال كتابة
المقالات أو التواصل مع ذوي الشأن والمصلحة، إلى خطورة تنفيذ هذه
الصفقات، كونها حلقة في مسلسل التفريط المستمر، ورغم ذلك تم للبطريركية
ما أرادت! لقد كان واضحا لنا ولجميع الجهات أن ثمن أراضي رحافيا أعلى
أضعافا مضاعفة مما قبل به مفوضو البطريركية، (تحدثت بعض التخمينات أن
قيمة الأراضي وما بني عليها خلال السنوات الماضية قد تقترب من الملياري
شاقل)، وأشرنا إلى أنه لا يوجد أي مبرر مقنع وسليم لإتمام الصفقة بهذه
الطريقة المستفزة ومن دون حد أدنى من الشفافية، أو لإنجازها ليس وفق
شروط السوق والمنطق ومصلحة الكنيسة ورعاياها العرب؛ هذا طبعا مع
التأكيد على ضرورة المحافظة على العقارات كجزء من سياسة عدم التفريط
بها وبأوقافنا، خاصة في مدينة القدس. مضت ستة أعوام فقط حتى قامت شركة
«نيوت كومميوت» بعقد صفقة بيع «أراضي رحافيا» لرجل أعمال يهودي أمريكي
يدعى جاري برانط مقابل مبلغ 750 مليون شاقل؛ إضافة لأجزاء من الأرض
كانت الشركة قد باعتها بشكل منفرد مقابل مبلغ 95 مليون شاقل، ليصبح
مجموع ما قبضته «شركة نايوت» أكبر بخمسة أضعاف على الأقل مما دفعته هي،
مقابل صفقة البيع للبطريركية. ويبقى السؤال لماذا باعت البطريركية
أصلا؟ وما هي الدوافع لإتمام الصفقة كما تمت ومن هو المستفيد؟
ممارسة
المسؤولين
في
البطريركية
وأعوانهم
مكشوفة
للكثيرين
الذين
يعرفون
الحقائق،
لكنهم
يؤثرون
إغفال
نتائجها
الكارثية
لم نكن بحاجة إلى قراءة هذه الأرقام كي نتأكد من صحة ما قلناه قبل أكثر
من عشرة أعوام، فممارسة المسؤولين في البطريركية وأعوانهم مكشوفة
للكثيرين الذين يعرفون الحقائق، لكنهم يؤثرون إغفال نتائجها الكارثية،
بينما لا يريد البعض أن يروا الحقائق، إما عن جهل راسخ، أو عن يأس مبرر
أو من مصلحة شخصية معروفة للناس؛ وهناك، للأسف، بيننا عرب مسيحيون
وغيرهم، معنيون بطمس الحقائق وتشويهها، وبعضهم يفعل ذلك مقابل خمسة من
فضة! في البداية عندما نشرت الصحف عن الصفقة بين البطريركية وشركة
«نايوت كومميوت»، لم يصدّق البعض أن البطريركية شرعت بعقد صفقات بيع،
ولم تعد تكتفي بتوقيع عقود إحكار وإيجارات، فنصحنا هؤلاء أن يتوجهوا
إلى دوائر الطابو الإسرائيلية ويستخرجوا مثلنا قيود التسجيل فعساهم
عندها يضعون أياديهم داخل الجرح ويؤمنوا كما «آمن توما». يحزنني أن
استعيد بعض ما كتبت لهؤلاء حينها وقلت: «من سينقذ القدس وأملاك
الكنيسة؟ كل من يرغب في استجماع المعلومات الدقيقة عن هذه الصفقات
وعمّا سبقها من صفقات أبرمها هؤلاء في السنوات الأخيرة، لن يجد صعوبة
في الحصول عليها، وعلى براهين دامغة بشأنها، فكثير منها كشفته الصحف
الإسرائيلية بالمعطيات الوافية، ومعظمه نقل إلى عناية من يجب أن يعرفوا
عنه، أمّا نصيحتنا لأحفاد «توما» أولئك الذين يرفضون تصديق أخبار
الصفقات، رغم ما يقرأونه ويسمعونه، فسنوجزها بأن يحكّموا عقولهم
والمنطق، فليس صعبا التحقق من فداحة الخسائر ورائحة الهزيمة تنبعث من
تراب القدس المغتصب، أو من بين المستندات والوثائق الموجودة عند أقلام
المحاكم الإسرائيلية، أو في مكاتب تسجيل الأراضي، لأن معظم ملفات تلك
الصفقات أودعها المستفيدون هناك لضمان حقوقهم، حسب الأصول والقانون.
فكيف نجح وينجح المتورطون بإبرام مزيد من الصفقات ويراكمون الأطيان من
جرائها في خزائنهم؟ ستبقى الإجابات حبيسة الحسرة والوجع وآتية من بطن
التاريخ أصداء تردد تساؤلها باستهجان: «من فرعنك يا فرعون». سوف ينتظر
البعض «توضيحات» رجالات البطريركية بخصوص ما نشر وقرأناه، وسوف يسهب
رجالات بلاط البطريركية في شرح ادعاءات أسيادهم وسيلجأون إلى سحر
البيان و»المحاسن والاضداد»، أما نحن فسنبقى نهذي ونقول: ما ضر لو
أمّنوا الصالحين العرب من رعايا هذه الكنيسة على هذه الأمانات، أكان
ساعتها كهاننا العرب بحاجة لفتات موائدهم الشحيحة، أو مدارسنا الأهلية
«لبركاتهم»؟ تصوروا لو نجحنا ككمشة عرب مسيحيين بالتحكم أو بالمشاركة
بما ملكته هذه الكنيسة من مقدرات.. تصوروا أكان أحدكم يشعر بالاغتراب
كما هو الحال اليوم، أو أكان البعض يهاجر أو يفكر بالهجرة من الوطن؟
لا تصدقوهم مهما برروا ولا تصغوا لأبواقهم «ولا تقعوا في الفخ مرة
اخرى. «توماكم» آمن بعد أن وضع يده في الخاصرة، فضعوها أنتم أيضا؛
ومسيحكم المطعون في خاصرته وصاكم وهو على الصليب: «طوبى لمن آمنوا ولم
يروا»، فكيف لا تؤمنوا وأنتم ترون بأعينكم، يوما بعد يوم، ضياع كنائسكم
ونفاد أوقافكم وتيه سفنكم! نبكي على «أم الكنائس» ونسأل من ينقذها من
هذه العتمة؟ ومن يحاسب الجناة على أفعالهم؟ وننسى كيف كانت النسوة
يلطمن وينُحن على يسوع الحامل صليبه في شوارع القدس، فالتفت إليهن
وقال: «لا تبكين عليّ يا بنات أورشليم، بل ابكين على أنفسكن وعلى
أولادكن». فمتى يا «أهل أورشليم» ويا عرب ستصحون ومتى ستكونون شركاء في
مسيرة درب الآلام؟ تأكدوا أن العرب المسيحيين الأرثوذوكس لن ينجحوا
وحدهم في مواجهة «روما» فهل نحمي معا ما تبقى من حلم شرقي؟
كاتب فلسطيني
همسات في ليل رام الله
جواد بولس
فرحاً كطفل قطعت الطريق من بيتي في القدس إلى مدينة رام الله. هناك في
أحد مطاعمها تواعدنا، أنا وثلاثة أصدقاء قدامى، أن نلتقي بعد فراق دام
طويلا. أصدقائي محامون فلسطينيون عمل اثنان منهم، عدنان الشعيبي وشاهر
العاروري، في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين أمام محاكم الاحتلال
الإسرائيلي العسكرية لعدة سنوات، حتى سنة التوقيع على «اتفاقية أوسلو».
رافقت عملية توقيع الاتفاقية تساؤلات فلسطينية عديدة؛ كما حملت
المبادرة بذور تحقيق الحلم الفلسطيني بإنهاء الاحتلال وبإقامة الدولة
الفلسطينية المستقلة.
شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد توقيع الاتفاقية كثيرا من
التغييرات كان من بينها هجرة العديد من المحامين العاملين في ميدان
القضاء العسكري، وعودتهم إلى مزاولة مهنتهم كمحامين داخل المناطق
الفلسطينية المحررة/ المحتلة؛ وكان صديقاي، عدنان وشاهر، من بين هؤلاء
المحامين، بينما بقيت أنا في موقعي برفقة زملاء جدد آخرين. أما صديقنا
الرابع، المحامي شكري النشاشيبي، فلم يستهوه، منذ البداية، النضال تحت
«بنديرة» القضاء العسكري الإسرائيلي، ولم يؤمن بجدواه أصلا، فقرر
الابتعاد عن مباذل هذه المحاكم والاكتفاء بالعمل، رجل قانون، في ساحة
العدل الفلسطيني ومنظوماته القضائية.
لم نعرف، عندما التقينا، متى ولماذا كانت «القطيعة» بيننا، خاصة منذ
لحظة لقائنا الأول وقعنا على أعناق بعضنا بعضا بدفء حميمي مألوف وكأننا
لم نفترق طيلة تلك السنين. لقد أجمعنا على أن الظروف التي مرّت على
فلسطين كانت هي السبب الذي أبعدنا عن بعضنا؛ هكذا قبلنا الحجة بتعميم
مقصود مكّننا، عمليا، ألا نتعاطى بصراحة وبدقة متناهيتين، مع تشخيص
الانهيارات التي أصابت فلسطين وأعطبت منظومات قيمها، الوطنية
والاجتماعية، كما سادت فيها عندما كنا نركض شبابا على أدراجها بلهفة
الصبح وهو يطرد، بعناد الماس، العتمة نحو العدم. تدافعت حكاياتنا كسيل
كان حبيسا في صدور الزمن: فضحكنا تارة حتى الدمع، وغصصنا تارات
بالدموع. تذكرنا كيف كنا محامين شبابا ندقّ أبواب المحاكم العسكرية
بقبضاتنا وبإيماننا بقدسية ما نقوم به، وكيف كنا نزور أسرى الحرية في
سجون الاحتلال، كي نقف معهم في وجه الطغيان، ونستمد منهم معنوياتنا
ونعود إلى بيوتنا ومكاتبنا طائرين بجناحين من أحلام، حسبنا أنها لن
تشيخ، ومن أمل سرمدي حسبنا أنه لن يزول. لم يشغلنا، خلال الجلسة، وجع
الفراق إلا من باب الحنين والعودة إلى الفرح الذي سبقه؛ أو للدقة حين
استحضرنا فلسطين التي كانت تسكننا وتسكن قلوب أبنائها. فلسطين التي إن
كنا ننطق باسمها، كنا ننطق بكل معاني الحرية والنضال والعدالة والأمل
والتضحية. فلسطين التي على أرضها خلق «قوس قزح» وزرع، قبل أن تتبدد
ألوانه وفصائلها هباء، في حضنها وعاش وادعا آمنا. فلسطين التي وحّدت
الفكرة والهمّ والنشيد والعلم. هي تلك الأم التي لم يختلف عليها ومعها
أولادها، فكانت بالنسبة لجميعهم، خاصة عند ساعات الحسم والخطر، الصلاة
والحلم والمهد واللحد والفردوس والوطن. ليل رام الله يضج بالأضواء
وبالسمّار وبالأساطير، وسماؤها ناعسة تغض طرفها عمّن يمارسون أكل
«خبزهم الحافي» في الأزقة والمقاهي والميادين؛ فهي، مذ حاصر الاحتلال
الإسرائيلي القدس وخنقها كليا، ووهب سائر المدن الفلسطينية الكبيرة
«استقلالها الكانتوني»، صارت مدينة الأصداف الهامسة والنبيذ، ومتنفسا
لرئات شبابها وللحالمين. لقد انتقلنا فيها، مثل قطيع غزلان جائعة، من
حاكورة منسية إلى بستان أخضر يانع، ولم نشعر بأن الوقت يمضي. كان
ضروريا أن «أطمئنهم» إنهم لم يخسروا شيئا بابتعادهم عن العمل في
المحاكم العسكرية، فهذه المحاكم وصلت في السنوات الأخيرة إلى حضيض لا
قاع له ولا مثيل؛ وهي أسوأ بأضعاف المرات عما كانوا يعرفون من قبل.
كذلك أوجزت لهم تفاصيل حال الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية، وكيف
تحوّلت عمليا هذه القلعة الرمز، منذ تجذر الانقسام بين غزة والضفة
الغربية، إلى كائن غير الذي كانوا يعرفونه ويتعاملون معه ويضحّون من
أجله. لقد أفهمتهم أن ما كان يوما ناقوس فجر الأحرار، وضابط إيقاع
النبض الوطني في شوارع فلسطين ومواقع كثيرة في العالم، صار مرآة محطمة،
تعكس وجه الحالة الفلسطينية المتشظية في الخارج وتحمل كل أمراضها
وأنّاتها. توقفت عند حافة الليل، وعدت معهم إلى «شراع يرعى ظلنا
وحلمنا»، فلملمنا كثيرا من نتف قصصنا التي عشناها في قاعات المحاكم، أو
خلال سفرنا لزيارات السجون، مثل رحلاتنا لزيارة خيام سجن «كتسيعوت»
(أنصار) المقام على رمال صحراء النقب، أو زياراتنا لسجني «الفارعة»
«والظاهرية» سيئي الصيت. كنا كأربعة جنود يلتقون بعد سنوات ويستذكرون
أيام كتيبتهم وتفاصيل معاركهم وملذاتهم. كانت قصصنا مليئة بالحسرات
وبالألم، لكنها كانت تفيض أيضا بمشاعر الغبطة والفخر. لقد كنا حينها
نعي أننا نناضل بحزم ضد احتلال غاشم وواضح، ونقف في وجه ممارساته حتى
آخر الأنفاس؛ لكننا كنا نعي كذلك، أن الذي كنا نقوم به بقناعة كاملة
ورضا قدسي وبسعادة، هو واجبنا تجاه من يناضلون من أجل حرية شعبهم/نا.
هكذا كان يوم كانت فلسطين «قبلة المشرقين» وحين كانت «الأمة ترد الضلال
وتحيي الهدى»؛ فأين اليوم منا كل هذا وتلك؟ وعندما جاء دورهم ليطلعوني
على ما غاب عني من حياة فلسطين المحررة في عرف «اتفاقية أوسلو»، لم
يجدوا إلا الحقيقة يطرحونها أمامي؛ وكانت مرّة. كنت أعرف كثيرا مما
وصفوه، فحاولنا، معا، أن نجد بين الضلوع ملاذات آمنة لمستقبل أولادنا،
فأخفقنا. لقد نجح الاحتلال باغتصاب اتفاقية أوسلو وطوّعها لمآربه، بعد
أن دق خناجره في خواصر منظمة التحرير، من كانت الممثل الشرعي والوحيد
للشعب الفلسطيني، ويريدونها جسدا ممزقا لا سيقان له ولا سواعد. لقد
نجحت إسرائيل بتواطؤ شركائها، ومن بينهم «أشقاؤنا» وأعداؤنا، من الداخل
ومن الخارج، بتثبيت الانقسام الفلسطيني الذي بدأ عام 2006 حتى اختلف
أبناء فلسطين على مفهوم الفكرة، وعلى معنى الدولة، وأين سيكون الوطن،
واختلفوا كذلك على كلمات الدعاء وعلى نبض النشيد وعلى لون العلم. كنا
واقعيين مثل «بنات العنب»، فكانت النتيجة التي خلصنا إليها صعبة علينا
حتى حدود المتاهة؛ حاولنا أن نجد فلسطيننا الفتية والأبية، التي كنا
نمد لمناضليها وأحرارها ، كمحامين وأكثر، أضلعنا كي يعبروا «الجسر في
الصبح خفافا» ويحيون؛ فلم نجد منها، في تلك الليلة، إلا بعض أصداء
لتناهيد بعيدة ونثار آمال منهكة. فلسطيننا اليوم عابسة كعاصفة، وتائهة
كزغاريد أمهات الشهداء، «وتحترف الحزن» كقبر. فمن أبله يراهن على صمت
صارخ!
لقد كان الانتقال إلى وصف حالتنا، نحن الفلسطينيين المواطنين داخل
اسرائيل، تلقائيا وسهلا؛ فسياسة الاضطهاد والقمع الحكومية في حقنا
تتفاقم من يوم إلى يوم، وما يخطط ضدنا، في ظل الحكومة الإسرائيلية
الجديدة، ينذر بخواتيم كارثية، قد تكون متشابهة من حيث النتائج
المحتملة مع ما يخطط لمستقبل الأراضي والمواطنين في المناطق الفلسطينية
المحتلة. وعندنا، كما في المناطق المحتلة، نعاني من أزمة على مستوى
القيادات بشكل عام وتشتت في وحدة الموقف السياسي، ونعاني كذلك من خلخلة
في دور الهيئات التمثيلية، السياسية والمدنية، خاصة داخل الأحزاب
والحركات السياسية والدينية التقليدية، وداخل «لجنة المتابعة العليا»
المتعبة والضعيفة والمفككة، علما بأنها من المفترض أن تكون عنوان
الجماهير العربية السياسي في إسرائيل.ل قد أخافنا هذا التشابه بالبؤس
واليأس وبفكرة عدم وجود، في المستقبل المنظور، مخارج وحلول لأزماتنا
الوجودية الخطيرة التي وصلنا إليها، سواء داخل الأراضي الفلسطينية
المحتلة أو داخل إسرائيل. ولكن.. لم يكن كلامنا كله يأسا. كنا نُسمع
ليل رام الله همساتنا/أناتنا، ونتذكر كيف كنا أربعة أصدقاء جمعهم حلم
وأرض وعاصفة ونبيذ، فافترقوا على محطة قطار، لكنهم بقوا على رصيف الوعد
وفي عهدة الصداقة النقية، وبقي محفورا في قلوبهم وشم الوفاء لفلسطين،
الذي لا يقدر عليه لا احتلال ولا برق ولا رعد. أربعة عادوا إلى «وطنهم»
الذي من حب ومن ذكريات ومن حنين، فالتقوا وكأنهم على وجع الذي هو من
«نوع صحي»، كما قال درويشنا «لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل»..
وعاطفيون».
كاتب فلسطيني
من يتابع قضايا المواطنين
العرب في إسرائيل؟
جواد بولس
لقد مرت ثلاثة أسابيع على مصادقة الكنيست الإسرائيلية على حكومة
بنيامين نتنياهو، وعلى شروع وزرائها الثلاثين بالعمل، كل وفق حجم
حقيبته الوزارية، التي خاطها «الزعيم» بحرفية بهلوانية، محاولا إرضاء
أكبر عدد من أتباعه وحلفائه الطامعين في المناصب، وفي مشاركته في صنع
التاريخ.
لم تدعنا الحكومة الجديدة ننتظر طويلا، ولا أن نشقى في تكهناتنا حيال
وجهتها السياسية العامة، وأهداف برامج عمل وزاراتها الفورية
والمستقبلية؛ فمنذ لحظة استلام الوزراء لمناصبهم، شرعوا، كل من موقع
سلطته، باستعراض وفائهم لناخبيهم ولكونهم، كما صرحّوا قبيل الانتخابات،
حكومة يمينية خالصة، ستسعى إلى تغيير جذري في وضع مؤسسات الدولة، خاصة
ما يتعلق بمبنى وصلاحيات المنظومة القضائية على تفرعاتها، وفي مكانة
المواطنين العرب، «الذين يجب أن يفهموا من هم أصحاب البيت هنا»، وإن لم
يفهموا طوعا فسوف تكون كل الوسائل متاحة في سبيل إقناعهم بهذه الخلاصة.
أما على صعيد المناطق المحتلة فجميع الوزراء ملتزمون، كما جاء في
الخطوط الأساسية للحكومة، بأن «للشعب اليهودي الحق الحصري، غير القابل
للطعن، على جميع أنحاء فلسطين.. وأنه سيتم فرض السيادة على «يهودا
والسامرة « مع اختيار الوقت المناسب، ووفقا للحسابات القومية
والدبلوماسية المتعلقة بدولة إسرائيل». هكذا سيبقى، كما يبدو، ليل
فلسطين طويلا.
ليس من الضروري تحليل ما جاء في وثيقة «الخطوط الاساسية» كي نستشرف
مآرب الحكومة الاسرائيلية ومهامها وما تخططه لنا تحديدا؛ إذ يكفي
للتيقن من خطورتها أن نتابع قرارات الوزراء المعلنة في الأسابيع
الثلاثة الأولى من جهة، ورزمة مشاريع القوانين التي باشرت الكنيست فورا
في سنها، من جهة ثانية؛ فجميعها يؤكد أننا نقف على عتبات نظام حكم
سياسي جديد لا نعرف كيف وإلى أين ستأخذنا عواصفه، تماما كما أشرنا إليه
في الماضي.
نقف! أو ربما معظمنا نائمون
من اللافت أنه على الرغم من مرور هذه الأسابيع، لم نلحظ أي نشاط
احتجاجي يذكر داخل مجتمعنا العربي، سواء على المستوى الحزبي، أو
الجماهيري، أو من قبل منظمات المجتمع المدني، وهي كثيرة بيننا. والأكثر
غرابة هو عجز القيادات السياسية والدينية والاجتماعية البادي للملأ،
وصمت التجمعات النخبوية؛ فسوى انتشار بيانات الوعيد وتحذير الحكومة من
مغبة سياساتها المتوقعة في حقنا، لم تشهد مياديننا أية مبادرة شعبية
جدية، ولا منصاتنا محاولة حقيقية لتناول تداعيات هذه المرحلة السياسية
علينا، أو تقييم مخاطرها الوشيكة، وطرح سبل ملموسة لمواجهتها؛ ما عدا
قيام البعض بتشخيصها أكاديميا، أو تقريريا على الطريقة النخبوية
الحذقة.
لم نلحظ أي نشاط احتجاجي يذكر داخل مجتمعنا العربي، ضد حكومة نتنياهو
اليمينية، سواء على المستوى الحزبي، أو الجماهيري، أو منظمات المجتمع
المدني
قد يكون هذا الغياب المقلق عارضا لما تعاني منه معظم تلك العناوين، على
اختلاف أهداف أنشطتها ومسؤولياتها تجاه مجتمعها وبشكل عام. فمنظمات
المجتمع المدني مثلا، تعرف أنها أهداف مباشرة لسياسة الحكومة المقبلة،
ويخشى بعضها، بسبب ذلك، القيام بأي «تحرش متسرع» فيها، ويلجأون، بدافع
غريزة البقاء، إلى اعتماد سياسة التباطؤ والتحفظ «والتعقل». أما
المسؤولية الكبرى عن حالة النكوص والعجز المستحكمين في مجتمعاتنا،
فتبقى ملقاة على كاهل المؤسسات القيادية السياسية التمثيلية الأساسية،
التي بناها القادة المؤسسون في سبيل أن تقود الجماهير العربية في
إسرائيل عند ساعات الحسم لمواجهة سياسات القمع والاضطهاد الفاشيين،
التي نتوقع أن تمارسها الحكومة المقبلة. وقفت على رأس هذا الهرم
المؤسساتي تاريخيا كل من: «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في
إسرائيل» و»اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في
إسرائيل»، ومن خلالهما وإلى جانبهما نشطت الأحزاب والحركات السياسية
والدينية العربية الفاعلة في مواقعنا، حيث كان لبعضها دور ريادي مميز
حفظته دفاتر الأيام وذاكراتنا التي لا تنسى. سوف أعود لاحقا إلى قدرة
الأحزاب الأساسية في مواجهة هذه المرحلة، ما لديها وما ليس لديها؛
فضعفها الواضح لا ينعكس في عدم نجاحها بتحريك «الشارع» العربي، كما كان
متوقعا في ظل المستجدات السياسية الحالية، وكما كان يحصل في الماضي،
وحسب، بل سنجده في ضعف أداء المؤسستين القياديتين الأخريين: «لجنة
المتابعة، واللجنة القطرية للرؤساء». فضعف الأحزاب الكبيرة الأساسية
أدى، بشكل طبيعي، إلى ضعف باقي المؤسسات، وحتى إلى شلل بعضها شبه
التام، كما حصل مع «لجنة المتابعة العليا» التي نلمس اليوم أكثر من أي
وقت مضى، غيابها الكامل عن الفعل السياسي المؤثر لصالح المواطنين
العرب، وعدم متابعتها وتأثيرها الإيجابي، المتوقع والمنشود، على الرأي
العام المحلي والإسرائيلي. أقول هذا مشيرا إلى كونها «لجنة المتابعة
العليا للجماهير العربية في إسرائيل»، كما يؤكد اسمها الظاهر في رأس
الصفحة الأولى من دستورها. من الضروري أن يكتب بموضوعية عن «لجنة
المتابعة» أكثر وأكثر؛ فبقاء أدائها على الشكل الحالي ليس من مصلحة
المجتمع، وضرورة التفكير في إعادة هيكلتها، وليس عن طريق إجراء
انتخابات عامة بين المواطنين العرب، كما يطالب البعض، وإعادة تأهيلها
يقع في باب المصلحة المجتمعية العليا.
لست بصدد تعداد الأسباب التي أدخلت هذه المؤسسة القيادية المهمة إلى
أزمتها الحرجة؛ فبعض تلك الأسباب يتعلق بتمسك القيّمين على اللجنة
وقبولهم تمثيل بعض الأجسام والأحزاب والحركات السياسية المندثرة أو
الوهمية غير الموجودة فعليا في الواقع، حيث لا يزيد عدد أعضائها
الفعليين عن عدد ممثليها في هيئات اللجنة. وبعض الأسباب الأخرى
تستوردها اللجنة من الصراعات بين كوادر الأحزاب مع بعضها، أو الصراعات
داخل هيئات الحزب ذاته؛ فجميع تلك الصراعات تتفاعل في أروقة اللجنة
وتصيبها بالوهن وتتسبب بإبعاد الناس عنها وبالتوقف عن إيمانهم بدورها
وبمصداقيتها. لقد غابت أخبار عمل معظم اللجان المدنية المهنية
الاختصاصية المنبثقة عن لجنة المتابعة، وبقيت أخبار «لجنة الحريات
المنبثقة عن لجنة المتابعة» الناشطة في متابعة «قضايا الحركة الأسيرة
في الداخل» هي أبرز الأخبار التي تكاد تذكر بوجود «لجنة المتابعة
العليا»؛ وهذه اللجنة، على الرغم من أهمية نشاطها بالنسبة لشرائح معينة
في المجتمع، ليست من أهم أولويات شرائح أخرى واسعة من المواطنين.
أعتقد أن قادة المؤسسة السياسية الأهم بين المواطنين العرب في إسرائيل
يشعرون بالتآكل الحاصل في مكانتها وبفقدان كثير من مصداقيتها بين
المواطنين؛ فهل سيعيدون النظر في أولويات عملهم والتركيز على قضايا
وحقوق الجماهير الفلسطينية داخل البلاد، كما جاء في دستور اللجنة، يعني
داخل إسرائيل؟ هل فعلا هم قادرون على ذلك؟
لا يغيب عن ذهني أن بعضا من هذا الصمت الرائج بين المواطنين العرب في
إسرائيل، وحتى داخل كوادر الأحزاب والحركات الإسلامية، مرده إيمان
هؤلاء بأن الحرب الأهلية بين اليهود باتت وشيكة؛ فدعوهم يقتتلون
ويسجنون ويقتلون بعضهم بعضا. أنا لست من هذه الفرق، لأنني تعلمت من
دروس التاريخ أن نيران مثل تلك الحروب كانت بحاجة إلى حطب خاص ومختلف؛
ونحن، في هذه البلاد، سنكون ذلك الحطب. فحي على العمل وحي على الفلاح.
في المقابل، فرحت لأن كثيرين مثلي لا يؤمنون بنظرية الحرب الاهلية
اليهودية الوشيكة، كخيار لخلاصنا من القريب الآتي؛ وكان من بين هؤلاء
النائب أيمن عودة الذي شارك كخطيب، في مطلع الأسبوع الجاري، من على
منصة مظاهرة الألوف في تل أبيب؛ فعساها تكون الخطوة الجبهوية الأولى في
مسيرة الألف خطوة على طريق النضال الضروري. كذلك كانت مبادرة «اللجنة
القطرية لرؤساء المجالس العربية» التي بعثت باسم جميع الرؤساء العرب
برسالة غاضبة لرئيس الحكومة نتنياهو تحذره فيها من سياسات القمع المخطط
لها؛ ودعته، وهذا المهم، إلى عقد جلسة عمل شاملة وتفصيلية، في أقرب وقت
ممكن بينه وبين ممثلي اللجنة القطرية كهيئة وحدوية جماعية تمثيلية
لجميع رؤساء السلطات العربية في البلاد. فهذه مبادرة لافتة ومهمة
وبحاجة إلى متابعة وإصرار. كم قلنا مرارا إن مياديننا يجب أن تبقى هنا
في الداخل، على طول البلاد وعرضها؛ وكم أكدنا لهم ولنا: أنهم لوحدهم لا
يستطيعون، ونحن لوحدنا غير قادرين.. مهما صرخنا في رام الله أو نابلس
أو القدس أو في أحلامنا: «وين وين وين الملايين»…
كاتب فلسطيني
كريم يونس
كان حرا… صار حرا
جواد بولس
بعد أربعين عاما كاملات تحرر أمس الأسير كريم يونس من سجون الاحتلال
الإسرائيلي. من المستحيل أن يتخيّل أي إنسان، لم يعش هذه التجربة، مهما
اتسع إدراكه، أو اتقد فكره، كيف يشعر كريم في هذه الساعات والأيام؛
وأعتقد أنه حتى هو لا يعرف كيف سيواجه «عالمنا» الذي لا يشبه عالمه، أو
كما باح بنفسه، من خلال رسالته الأخيرة التي نشرها مطلع هذا الاسبوع
تحت عنوان «سأغادر زنزانتي» قائلا: «سأترك زنزانتي، والرهبة تجتاحني
باقتراب عالم لا يشبه عالمي، وها أنا أقترب من لحظة لا بد لي فيها، إلا
أن أمرّ على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في
وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم، أو الخذلان، ودون أن أضطر لأن
أبرهن البديهيّ الذي عشته وعايشته على مدار أربعين عاما، علّني أستطيع
أن أتأقلم مع مرآتي الجديدة، وأنا عائد لأنشد مع أبناء شعبي في كل مكان
نشيد بلادي».
لا أجد مكانا، في لحظات ولادة الأمل الفلسطيني الحاضرة، لاستحضار هواجس
المستقبل ولا إثقالاته المحتملة، ولا حاجة لتذكير كريم، وهو يراقص
القمر فوق سماء قريته، بقوائم المآسي والأزمات التي تعصف بمجتمعنا،
وتهدد هويته ووحدته وآماله؛ فكريم في تحرره، بعد أربعين عاما من الأسر،
يرسم على صفحة البشرية، مشهدا ملحميا فريدا تطل من ثناياه كل معاني
التضحية والإصرار والفداء والوفاء والأمل، الفلسطينية. قد لا يقدّر
البعيدون عن فلسطين المحتلة حقيقة ما أقوله، لكن الفلسطينيين العاديين،
الذين أعرف كثيرين منهم، يعيشون منذ شهور فأسابيع فأيام فساعات على نبض
الفرح، ويحسبون الوقت، كما يفعل كل الأحرار، وفق ساعات الموت والأمل.
بعد أربعين عاما من الأسر، يرسم كريم على صفحة البشرية، مشهدا ملحميا
فريدا تطل من ثناياه معاني التضحية والإصرار والفداء والوفاء والأمل
أربعون عاما عاشها كريم في زنزانته حرا في أعماقه، لا تشغله إلا قضايا
البقاء والحرية الكبرى: كيف يحافظ، هو ورفاق الأسر، على أحلامهم من
الموت، وكيف لا يتحوّلون، كما يريدهم السجان، إلى مسوخ بشرية بائسة أو
إلى مجرد طفيليات سائبة. أربعون عاما عاشها ذاتا ذائبة في جسد منيع،
سمّاه التاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية، وعرف مثل رفاقه أنهم فقط
«عندما تصير الحياة طبيعية سوف يحزنون كالآخرين، لأشياء شخصية». واليوم
وقد مضت الأربعون ووقف كريم على عتبة «حياته الطبيعية» مثقلا بشوق
سرمدي سمح لنفسه أن يتساءل، على غير عادته ويقول: «سأترك زنزانتي،
والأفكار تتزاحم وتتراقص على عتبة ذهني وتشوش عقلي، فأتساءل محتارا على
غير عادتي إلى متى يستطيع الأسير أن يحمل جثته على ظهره ويتابع حياته
والموت يمشي معه، وكيف لهذه المعاناة والموت البطيء أن يبقيا قدره إلى
أمد لا ينتهي، في ظل مستقبل مجهول وأفق مفقود وقلق يزداد مما نشاهد
ونرى من تخاذل». هكذا يتساءل المناضلون الأنقياء ولا ينتظرون الجواب من
أحد. قبل سبعة أعوام كتبت في أعقاب زيارتي لكريم في سجن «هداريم» مقالا
نقلت من خلاله خلاصات زيارتي لمناضل لا يشيخ كالغيم. واليوم وأنا
أستذكر تلك الزيارة أعرف أن كريما سوف يجتاز عاصفة الحب الشديدة التي
ستحاصره في أيام حريته الأولى بفرح وبصبر وباتزان، وسوف يعرف كيف
يتعامل مع مرايا مجتمعه، المحطمة منها والسوية، كذلك بوجع وبحكمة
وبإصرار، وسوف يداري جراح قلبه بمصاحبة الندى وشدو العنادل. وسيتعرف
بعد حين على حقيقة واقع مجتمعاتنا وأزماته، وعلى ورطاتنا مع سياسات
الحكومة الإسرائيلية؛ وأتمنى بعد كل ذلك، ألا يقنط وألا يخذل وألا
يشيخ؛ فهو الكريم الحر، كما كتبت في حينه: زيارة للحر كريم يونس: في
الصباح كان مزاجي متعكّرا؛ لا أعرف ما السبب، فبعض الأيام، في شرقنا،
تولد خالية من شهيّتها للضوء، وتُبقي روحك ثقيلة كظلمة. تركت البيت
متجها إلى سجن «هداريم» لأزور الأسير كريم يونس. بعد ساعة وصلت إلى
باحة سجن «هداريم»، الذي صار، مع السجون الأخرى الملاصقه له، يشبه قرية
صغيرة تذكرنا بمنشأة في أفلام الخيال، حيث يتحرك السجانون في جمع
مرافقها وساحاتها كروبوتات استنسخت في المختبر نفسه. لم تكن تلك زيارتي
الأولى لسجن «هداريم»، ولكن في كل مرة كنت أقرر فيها زيارة السجن، كنت
أكتشف أنني لم أشفَ من رعشة اللقاء الأول، وأن سنين عملي الطويلة لم
تساعدني على ترويض قلبي الذي كان يستعيد، في هذه «الرياض»، صباه،
سألته، بعد أن تبادلنا ما يقتضيه الحال من أسئلة روتينية وتقارير
لازمة، كيف يقضي ساعات يومه، وهو ينهي عامه الثالث والثلاثين في الأسر؟
توقعت كل الأجوبة، إلّا ما أجابني به، فتحوّل سؤالي إلى حوار لم أتمن
أجمل وأثرى منه، خاصة بعدما بدأت صباحي برمادية ناعسة وفكر شريد. «إنني
أشكو من ضيق الوقت»، قالها بهدوء، ودون أن يشعر بأنه يوقظ مسامات جلدي!
ثم أردف وقال: «أتمنى لو كان النهار أطول، فعلاوة على ما أقوم به من
تمارين رياضية ضرورية، ودراسة منهجية حثيثة للقب الجامعي الثاني، ألتزم
مسؤوليتي، كأمين لمكتبة السجن التي تزود زملائي الأسرى بالكتب وغيرها».
توقف حين لاحظ أنني سرحت وغبت عنه. كنت، في الواقع، أحدّث نفسي وأتساءل
كيف يمكن للسجان، مهما كان عربيدا وقاهرا، أن يكسر روح هذا الكريم؟ بعد
برهة قصيرة عدت إليه مستفسرا، «من أين تأتي يا كريم بهذا الأمل؟». كان
لدينا كل الوقت والشهية على الكلام، فمضى يشرح لي عن بداياته، حين
اعتقل وهو طالب في السنة الدراسية الثالثة في جامعة بن غوريون، وحكم
عليه في مطلع عام 1983 بالسجن المؤبد. وقتها، هكذا فهمت من حديثه
الموزون والمتأني، كان فتى يقف على الريح، ويريد أن يطير كنورس نحو
جزيرته البعيدة. كان يفتش عن حلم في ما وراء المدى، ويخشى اليوم على
ضياع البيت والوسائد. «هل ظل في قلبك مكان للحب؟» سألته، وتابعت: «وما
هو أكثر شيء تشتاقه وسيكون أول ما أو من تريد أن تراه أو من تلقاه؟».
لم يصبر ولم يتردد. استل جوابه بتلقائية وبدفء عاشق، فقال: «لا أعرف
كيف يبدو العالم الخارجي اليوم. سيكون التأقلم صعبا عليّ، ولكنني أشتاق
للحرية، لحريتي، وشوقي إليها ورغبتي بالحصول عليها يمداني بكل أسباب
رغبتي بالحياة وبالصمود وبقدرة الانتظار»، ثم أضاف، بعذرية قلب مناضل
عتيق: «لم أجرّب ذلك الحب، إن كنت تقصده، وللحقيقة لا أعرف إن كان
موجودا وكيف يكون؛ لكنني أعرف الحب بمفهومه الأعمق والأشمل وهو ذلك
الشيء الذي يملؤني اليوم أكثر من الماضي بالأمل وبالأحلام وبالإصرار».
كنت أنظر مباشرة إلى وسط وجهه، وأطابق حركات شفتيه مع كلامه الذي
يتساقط في أذني كوشوشات فجر. لاحظت على خديه توردا أنيقا، وفوقهما عند
حافة المقلتين كانت كرات بلورية صغيرة تحاول أن تفرّ. لم يتركها تسقط
فسألته: «هل تحاول أن تحجب ماء العزة عن خدك؟». كان صريحا؛ فأفهمني أن
السجن قد غيّره كثيرا، وأن العالم، من موقعه يبدو مختلفا وقد تغير
كثيرا، وأضاف أن الزمن علمه أن يكبت عواطفه، ويحكّم عقله، ثم حكى لي
كيف، بعد هذه السنين، صار يفهم معنى «الواقعية» ومعنى «المصلحة
الوطنية»، وما الفارق بين النضال المأمول.. النضال الممكن، والنضال
الخاسر. وشرح لي بروية لماذا صوّت للقائمة المشتركة في انتخابات
الكنيست (عام 2015). تحدثنا حتى نسينا الدنيا.
في طريقي إلى خارج السجن سألني السجان المرافق عن لقائي، وكان يعرف من
يكون كريم يونس، فأجبته: «دعني أوجز لك القصة بحكمة تعلمتها اليوم من
هذا الحر؛ فهو يؤمن، أنه ما دام الموت ليس خيارا عندك، فإما أن تعيش
الحياة بحفاوة وبكرامة، وإما أن تمضي أيامك ذليلا ولاهثا وراء السراب
في عالم من عدم ويباب». أصغى السجان لما قلته لكنني شعرت، هكذ بدا
عليه، بأنه لم يفهمني مع أنه كان عربيا. حاولت أن أبسّطها له فأوضحت أن
كريما أكد لي على ما تعلّمه من حكمة أحرار كبار سبقوه، على أن: «لا أحد
يستطيع أن يمتطي ظهرك إلا إذا وجدك منحنيا». قلتها وكنت أسبقه بخطوتين.
سمعت غضبه يصرخ في صمت، وأحسست بسهام عينيه تناوش صفحة ظهري. تركته
والسجن وكنت مبتسما.
كاتب فلسطيني
رسالة مفتوحة
لقوم لم ولا يقرأون
جواد بولس
كما كان متوقعا وبناء على نتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل، لم يجد
بنيامين نتنياهو صعوبات عسيرة حقيقية في تشكيل حكومته التي، من دون شك،
سوف تسعى إلى تنفيذ ما جاء في خطوطها العريضة ووفق جميع الالتزامات
التي اشتملت عليها الاتفاقات الثنائية الموقعة بين كل حزب على حدة،
ورئيس الحكومة القادم. لن أكتب عن ممارسات الحكومة المقبلة المتوقعة
على جميع الجبهات والأصعدة، لكنني أذكّر بأننا نقف على عتبة عهد ظلامي
إسرائيلي جديد لا يشبه ما ألفناه طيلة العقود الماضية.
لقد امتلأت الصحافة العبرية ومنصات الإعلام بآراء أعداد كبيرة من
المعقبين والمحللين، الذين أبدى معظمهم تخوفا مما ستنتهي إليه العملية
السياسية الجارية التي يقودها بنيامين نتنياهو، وإسقاطاتها شبه المؤكدة
على تقويض أسس الدولة كما بناها وأرادها مؤسسوها الأوائل.
لن أتطرق إلى مواقف المئات ممن أبدوا مخاوفهم ومواقفهم جهارا ضد
الحكومة المقبلة، لكنني سأشير إلى موقف رئيسة المحكمة العليا
الإسرائيلية السابقة دوريت بينيش، التي صرّحت به مؤخرا في الصحافة
العبرية. سأفعل ذلك لسببين، أوّلهما شخصي، وثانيهما، لأنها تنطق عمليا
باسم آخر المعاقل المطلوب «رأسها» والإجهاز عليها من قبل الحكومة
المقبلة، وأعني المنظومة القضائية بكل فروعها، وفي مقدمتها المحكمة
العليا الإسرائيلية.
وهذا، في الواقع، ما أشارت إليه القاضية بينيش، في مقابلة أجرتها معها
يوم الأربعاء المنصرم جريدة «كلكليست» الإسرائيلية، وأعلنت فيها:
«إننا، من دون شك، نواجه واقعا مغايرا؛ والمهم ألا نصاب بالذعر، لكن
علينا ألا نستسلم». ثم أردفت مؤكدة أن «نظام الحكم الذي كان سائدا بفخر
طيلة 75 عاما، يواجه الخطر هذه الأيام. فنحن لسنا إزاء عملية إصلاحات
قضائية، كما يقال في تعابير مغرضة، بل نحن أمام تغييرات جذرية في مبنى
السلطة والحكم، وفي المفاهيم السياسية والاجتماعية الخاصة بإسرائيل.
أنا قلقة جدا. لقد تخطوا الخطوط. إنهم يحطّمون الأطر الأساسية التي
بنيت عليها، خلال سنوات طويلة، السلطة ونظام الحكم في إسرائيل. يتوجب
علينا أن نستفيق».
يقف الفلسطينيون على عتبة عهد ظلامي إسرائيلي جديد لا يشبه ما ألفوه
طيلة العقود الماضية
أتمنى سيدتي أن تستفيقوا، لكنني أخشى من حكاية «الثور الأبيض»
أتتذكرينها؟
لست متأكدا من أن أقوال القاضية بينيش ستلفت عناية المواطنين العرب في
إسرائيل، على الرغم من كونها تصريحات مقلقة جدا، وتشكّل عيّنة من فيض
مخاوف مشابهة، كانت قد أبدتها مئات من الشخصيات الاعتبارية المرموقة
اليهودية، التي تمثل شرائح واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي، والمنتمين
إلى مجالات مهنية مختلفة: سياسية وأكاديمية واقتصادية وعسكرية وأمنية
وحقوقية وغيرها، أرى أن عربات النار تسير نحو أهلنا وناسنا وهم
يحسبونها طيورا من الجنة، أو أنهم نيام. أمّا بالنسبة لي فهذه الأقوال
تذكّرني بقصتي الطويلة والمؤسفة مع الرئيسة السابقة للمحكمة العليا
دوريت بينيش وزملائها القضاة. أتذكّرهم اليوم وأشعر مستفَزا وحزينا.
لقد تعودّت منذ سنوات أن أكتب مقالي الأخير في نهاية كل عام ميلادي على
شكل رسالة مفتوحة معنونة لشخصية كنت اختارها حسب الظروف ولأهمية
مضمونها في ذلك الوقت. كانت رسالتي المفتوحة في نهاية عام 2010 معنونة
لرئيسة المحكمة العليا، في حينه، القاضية دوريت بينيش. لقد خاطبتها أثر
قيام مكتب الإدارة العامة للمحاكم في إسرائيل بنشر بيان بخصوص قرار حكم
أصدرته المحكمة العليا بحق شرطي يهودي كان قد أدين في المحكمة المركزية
بقتل شاب عربي. كان إصدار بيان إدارة المحاكم فعلا غير مسبوق ومفاجئا
للجميع، وقد جاء كردة فعل تبريرية ودفاعية من قبل جهاز المحاكم ضد حملة
تهجمات شعبوية واسعة قادتها منظمات وشخصيات يمينية، واستهدفت قضاة
المحكمة العليا بسبب قرار حكمهم في قضية الشرطي، الذي قام بقتل العربي،
من دون أن يكون لذلك أي مبرر أو مسوغ، كما جاء في قرار المحكمة. لقد
حكمت المحكمة المركزية على الشرطي اليهودي بالسجن الفعلي لمدة خمسة عشر
شهرا؛ فقامت نيابة الدولة بتقديم استئناف على الحكم المخفف بشكل غير
منطقي، وطالبت بحكم أقسى. قبلت المحكمة العليا استئناف نيابة الدولة،
وحكمت على الجاني بالسجن الفعلي لمدة ثلاثين شهرا فقط، كما أوضحت أن
الجاني لم يتقيّد بتعليمات إطلاق النار وقام بإطلاق رصاصه من مسافة
قريبة جدا، بينما لم يكن في حالة خطر، ولا في حالة تستوجب استعمال
السلاح أصلا.. أي أن الحادثة، هكذا يفهم، كانت أقرب إلى كونها جريمة
قتل مكتملة؛ وعلى الرغم من ذلك وجدت المحكمة العليا ضرورة لتدافع عن
موقفها ولتبرره عن طريق بيان شكّل سابقة وعلامة فارقة في مسيرة تراجعها
أمام قوى اليمين وغاراته عليها. استهجنتُ وقتها في رسالتي المفتوحة
خطوة المحكمة وقلت: «إن تضطروا لإصدار بيان في مثل هذه القضية هو أمر
يشير إلى اهتزاز مكانة المحاكم والقضاء بشكل عام في هذه الدولة. إنها
إشارة على ضعفكم ودليل لفهمكم الخاطئ لما يجري منذ أعوام طويلة داخل
المجتمع الإسرائيلي وداخل منظومة الحكم. لقد انهارت أسس هذه المنظومة
القيمية وتراجعت فيها سلطة القانون لصالح ما نشهده من مظاهر الفساد
والعنف، واستقواء قوى الشر التي استوطنت في كثير من مواقع القول والفصل
والحكم، وباتت أقرب مما تتصورون للإجهاز عليكم، ولإحكام سيطرتها
الكاملة على مقاليد الحكم، بعد أن تمكّنت من السلطتين التنفيذية
والتشريعية». وأضفت مخاطبا إياها: «هل تذكرين كم مرة صرخت في آذانكم،
وأكدت أني اخاف عليكم لأني أريدكم، أنت وزملاءك القضاة، أقوياء وسدنة
لسيادة القانون.. وكم مرة صرخت وأكدت على أنني كمواطن أريدكم أقوياء كي
يحتمي المواطن المظلوم بقوة عدلكم؛ وكم مرة أكدت أمامكم أنني، كابن
لأقلية قومية، أريدكم أقوياء عساكم تحموننا، ولو مرّة، من ظلم سياف
ظالم. هل تذكرين كم مرة عنّفت منكم لأنني تجرأت أن أسمّي ما تفعلونه
بحق أبناء شعبي وبنا نحن، المواطنين العرب في إسرائيل، عنصرية وقهرا
وظلما؟ إن تبريراتكم، كما نص عليها بيانكم، غير صحيحة وغير موفقة وغير
لازمة، فالحقيقة هي أنكم ضعفاء وتخافون؛ وأن بيانكم ما هو إلّا حلقة في
مسلسل «قطف رؤوسكم» وفي مسيرة هرولتكم إلى الخلف أمام ذلك «الدب»
الكاسر الذي لن يكف عن اللحاق بكم. والحقيقة، سيدتي، هي أن جهازا
قضائيا يحتمي بحراس يرافقونه حتى أبواب غرف النوم لن يقوى على مقاومة
ظالم أو محاكمة قاتل؛ والحقيقة أيضا أن محكمة لا يميّز قضاتها بين
الضحية، وجلادها لن تستطيع في النهاية حماية جلدها، مهما انحنى قضاتها
وتراجعوا وبرروا، كما تفعلون في هذه القضية. فإما مواجهة من يهاجمكم أو
سوف تهزمون.
سيدتي! «أُكِلت يوم أكل الثور الأبيض» كانت قصة من القصص الشعبية
المتوارثة في ثقافتنا، التي كنت أرددها، أحيانا، في مرافعاتي القانونية
أمامكم. لم ترغبوا بسماعها ولا بتذويت حكمتها؛ لكنها كانت وستبقى هي
حكمتنا، نحن الضحية الحالية، لضحية المستقبل».
هذه مقتطفات من رسالتي في عام 2010؛ ولم تكن رسالتي المفتوحة الوحيدة
لقضاة في المحكمة العليا، فمثلها كتبت كثيرا.. ولكن من دون جدوى. لقد
مضت اثنتا عشرة سنة على ما كتبت، وعلى حديثنا صدفة حول مضمونها، وبقيت
أنا في موقعي، مدافعا عن الحق والعدل والأمل، وبقيتم أنتم في مواقعكم،
جنودا عند نظام يقدس العنصرية ويمارسها علينا، وخدما لدولة تحتل شعبا
آخر؛ وكقضاة في المحكمة العليا، تسوّغون موبقاته وتفرخون، صغار
المحتلين، الذين تكاثروا وكبروا ويطالبون، باسم السماء والقوة والسيف،
برؤوسكم وبجلودنا.
لقد قرات نصيحتك بضرورة «ألا نصاب بالذعر وألا نستكين وأن نستفيق»،
فكيف ستصحون وعتمة الاحتلال تملأ قلوبكم؟ ولماذا لم تسمعوا حين نبهتكم،
قبل دهور، إنهم قريبون أكثر مما تتصورون للإجهاز عليكم، وماذا سيحصل
بعد أن يؤكل الثور الأبيض؟
كاتب فلسطيني
ليلة الميلاد…
ذكريات من طفولة كهل
جواد بولس
سيحتفل المسيحيون في منتصف ليلة السبت، على عاداتهم منذ قرابة ألفي
عام، بميلاد السيد المسيح في مدينة بيت لحم الفلسطينية؛ وستبدأ وتنتهي
الاحتفالات بهذا العيد وفق بروتوكولات «الستاتوس كوو»، وهو بالحقيقة
اسم آخر لخدعة سياسية تاريخيه تضمن «حقوق» مجموعة دول أجنبية كانت قد
اغتصبت «مسيح فلسطين» وسرقته وفرضت وجودها على حساب حقوق العرب
المسيحيين وكنائسهم المشرقية المحلية. لن يختلف مذاق هذا الميلاد عن
سالفه إلا بطعم المرارة المتزايدة من عام إلى عام، وبتغييب عذابات أهل
البلاد الفلسطينيين المضطهدين والفقراء، الذين ما زالوا ينتظرون خلاصهم
من سطوة جنود «قيصر» وزبانيته. من المؤكد أننا لن نسمع في قداس كنيسة
المهد صلاة لروح شيرين أبو عاقله ولا تعزية لقلب «الأمعرية» أم الشهيد
ناصر أبو حميد، وسائر الأمهات الفلسطينيات.
أعرف أن أيام الميلاد، وأيضا في فلسطين، معدة للفرح الخالص ولاستحضار
المحبة وممارسة العطاء والسمو بالتسامح؛ ولذا سأترك مراسيم الوجع،
وأعود إلى عالم شجرة الميلاد وذكريات طفل شارف على بلوغ السبعين، شاهد
كيف سرقوا منه ميلاده وشجرته، خازنة الفرح وكاتمة أسرار طفولته.
المسيح لا يسكن شجرة
كانت قريتي، ويسوع فيها، عالما من نور وطمأنينة، فصار العالم أرضا كلها
شر، وعمّ الظمأ.. لقد سرقوا منا يسوع
في بيتنا، هكذا أتذكّر، كان الحديث عن شجرة الميلاد يبدأ في منتصف
كانون الأول/ديسمبر، عندها كان هَمّ أبينا الحصول على سروة رشيقة
ممشوقة، يرتاح رأسها على عنق متشاوف كي يليق بحمل نجمة بيت لحم.
كنا نتحلق حول الشجرة، ويبدأ الكبار بتعليق ما تستوعبه من مجسّمات
لنجوم خماسية وكرات زجاجية تطغى عليها ألوان الأحمر القاني والأزرق
والأخضر البحريين. كنا، نحن الأولاد، ندور حولهم كصغار النمل ونساعدهم
بتثبيت مغارة صغيرة في أسفل الشجرة مصنوعة من خشب أو من جبص ونملؤها،
بمذود وبتماثيل فخارية لطفل جميل ووديع، ولبعض المواشي وللمجوس. لقد
كنّا صغارا وفي حلّ من إلحاح الأسئلة والتفتيش على ما وراء الشجرة. في
المدارس شرحوا لنا ما تعنيه المناسبة، وما ترمز إليه من قيمة وتاريخ.
لُقنوا فلَقنوا وغفل معلمونا أن الزمن مُرضع الحكمة والتجارب مِسَنّ.
وقتها كنا لا نعرف إلا الفرح المطلق. وعندما كان ينتصف ديسمبر ولا يأتي
والداي على ذكر الشجرة كنا نتوجّس ونخشى أننا لن ننصبها، كرمز للعيد
وللفرح، فربما نحن في حالة حداد على موت قريب، أو صديق عزيز أو جار.
كانت خضرة الشجرة طبيعية كلون الأمل، وعندما كانت تجهز بكل حليها تصير
كغابة صغيرة، فيها كنا نودع أحلامنا وأسرارنا. كان نصب شجرة الميلاد في
البيوت حدثا عائليا حميميا مجبولا بدفء مختلف نحسّ به مرة في العام، لم
تكن شجرتنا قطعة للفرجة ولا نصبا لمزايدات من يروّجون أن الأغلى هو
الأحلى. كانت شجرة الميلاد جزءا من ذاكرة طفولتي الباسمة، مع أنها لم
تزدني تديّنا ولا إيمانا، بل، هكذا اكتشفت لاحقا، علمتني كيف أترك
خيالي يندفع كالأيائل في مراع خضر لا تنتهي، وكيف أفهم لغة الشعراء؛
فعندما كبرت فهمت ما قالته السروة «للدرويش»، ولي حين وقفت أمامها مرة
أبكي ضياع فراشة: «انتبه ممّا يقوله لي الغبار». لا أتذكّر متى بدأت
أطلب من يسوع أن يحبّني، وأن يبعد عني المرض، وأن يجعل من أحبهم يضحكون
في وجهي! كنت طفلا وأتمتم دعائي ثلاث مرّات، وحتى عندما كنت أحسّ
بالتعب لم أتنازل عن اداء صلاتي، لكنني، كنت أتلوها بتثاؤب واضح،
متأكدا أن يسوع سيفهمها، وهي «مجعلكة» وسيقبلها؛ فمطالبي كانت أبسط من
شفاء أبرص. كنّا نفيق في الصباح على صوت الندى؛ في البيت تنبعث أبخرة
بنكهة الدجاج المحشي من طناجر أمي، وتملأ فضاء الحارة برائحة شهية.
كانت شوارع القرية، رغم ضيقها، تعج بأسراب مزركشة من عائلات القرية
يدلفون لأداء طقوس المعايدة والتزاور. كان يسوع يحب كل القرية. كنا
نطمئن له. ننام وعلى جفوننا طيفه يضيء عتمتنا ويحرس قريتنا. أحسسناه
موجودا معنا، في بيتنا وفي حاراتنا. لم يسرقه أحد ولم يحجبه شيء عنا.
كنا على يقين من أنه إلى جانبنا ويساعدنا وجميع الناس المحتاجين، وأنه
يحب أطفال العالم. كان يسوعنا عادلا ومنصفا للمظلومين؛ لم نقلق عليه
ولا منه، ولم نخف منه؛ فقد كنّا صغارا وأنقياء. لم ندرك حينها أن
يسوعنا، الذي ولد في المذود، سيصير أكثر من مسيح وسيصاحبه «الكبار»
ويدّعيه المنافقون والدجالون ويرافقه صيارفة الهياكل الحديثة – كلٌّ
وفقا لعملته وفضّته. عندما هجرتنا الطفولة استوطن الشك عقولنا،
وعندما تبدلت البراءة بالوعي، غاب عنا الإيمان الفج؛ في الواقع أنا لا
أتذكر متى أضعت يسوعي وتوقفت عن استجدائه. ربما كان ذلك عندما اكتشفت
أنه لا يرقّ لعاشق أدمَته سهام الحاقدين والعواذل، أو ربما عندما زرت
بيت – لحم ورأيت «مهده» محاصرا وسليبا ومهانا من قبل جند «قيصر»، وسمعت
شعبه يصلي من أجل خلاصه دون جدوى، فالغلبة ما زالت من نصيب «الشرير
والبرير». لقد كبرنا وضاع يسوعنا. أفتش عنه ولا أجده إلا طفلا ذارعا
معي شوارع تلك القرية الوادعة التي كانت قريتي وقريته. أعود وأفتش عنه
فأسمع عنه في صلوات حكّام يستعينون به في الصباحات، وفي الليالي تسلخ
سياطهم جلود المؤمنين الوادعين. أستجير به مجدّدا، من أجل أبنائه
المشردين والفقراء والمظلومين، فأجده يصب بركاته في خوابي أصحاب الفضة
والذهب والملايين. كانت قريتي، ويسوع فيها، عالما من نور وطمأنينة،
فصار العالم أرضا كلها شر، وعمّ الظمأ. لقد سرقوا منا يسوع؛ فهل يا ترى
هي «روما التي سرقت ديننا، مثلما سرقت حنطة الروح، من كل أهرائنا، لم
تزل تستبيح الذُرى، هل ترى يا أبتي هل ترى؟». ولروح الشاعر الراحل في
زمن كورونا جريس سماوي السلاما.
كنا ننتظر الميلاد بفرح عظيم. ولم يكن عيدا للأولاد فحسب، بل كان عيد
الوداعة والأمل والسلام، بحلوله كانت آمال الناس تنطلق كقطعان أحصنة
وحشية أفلتت لتعانق المدى. كانت رائحة الشتاء في الهواء بشائر خير
وبركة، كنا نأوي لننام على وسائد من شوق وتحتها ملابس العيد وأحذيتنا
الجديدة. كانت ليالي الميلاد رحلة من نبيذ وصلاة وحنين، تصير فيها بيوت
القرية المتواضعة قصورا تفيض رضا؛ وكأن الملائكة كانت تسجن شياطين
الأرض والسماء، وترش على الناس سحُبا من ورد ومسك وعنبر.
كبرنا، لا أذكر تماما متى توقفت عن ممارسة طقوس الصلاة التي كنت
أَسيرها وأنا طفل لا يعرف من المشاعر إلّا أطرافها الحادة. كنت كأترابي
أمارس الصلاة مثل الفرح العاري، من دون حرج النضوج وإغواءات التبرّج.
كنا نفرح ونحزن من غير مراسم، كجداول تبكي شحا بصمت وتدمع على فراق
ضفافها. «كانت أنانا» هشّة كجناحي أمنية، تمارس ارتباكات الطفولة وحبها
بعفوية قصوى. لقد كان كل ذلك قبل أن يصبح الطفل كهلا ويشهد على سطوة
تراتيل الظلام وينام ويصحو على تعاليم الرصاص وعلى مزامير الطغاة. كان
ذلك قبل أن تغتال رصاصات الغدر شيرين أبو عاقله وتبعثها إلى العدم
«عروسا لا عريس لها»، وكذلك قبل أن ينفطر قلب «الأمعرية» مرة تلو المرة
على فقدان فلذات أكبادها وإبعادهم عنها.
غدا ستحل ليلة الميلاد، فيا ليتني أعود طفلا ولو لليلة واحدة، ساعتها
قد أجده.. ربما.
كاتب فلسطيني
ما بين حزب «كل مواطنيها» وشعار
«دولة كل مواطنيها» يكون حلم القائد
جواد بولس
نشرت بعض المواقع الإسرائيلية ووسائل التواصل الاجتماعي دعوة لحضور
المؤتمر التأسيسي الأول لحزب سيحمل اسم «كل مواطنيها». برز في نص
الدعوة الشعار المركزي للحزب الجديد ويقول «شراكة الآن»، ثم تبعته
قائمة أسماء بعض المشاركين المركزيين في الاحتفال، حيث ورد اسم رئيس
حزب التجمع الوطني الديمقراطي سامي أبو شحادة بينهم، إلى جانب شخصيات
يهودية صهيونية معروفة أمثال أبراهم بورغ (رئيس سابق للكنيست
الإسرائيلي والوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية) وموسي راز
وجابي لاسكي (نائبين سابقين عن حزب ميرتس في الكنيست الاسرائيلي)
والجنرال احتياط في الجيش الإسرائيلي عميرام ليفين، ومعهم أيضا شخصيات
عامة عربية ومعروفة مثل البروفيسور فيصل عزايزة والصحافي والكاتب عودة
بشارات والسيدة أميمة حامد (ميرتس).
من الواضح أن المضامين السياسية التي يعتمدها المبادرون كأسس لإقامة
حزب «كل مواطنيها» ستمثل من يختار أن ينضم إلى صفوفه فقط.
من المفترض أن تستدرج مشاركة النائب التجمعي السابق سامي أبو شحادة في
هذا المؤتمر، المنعقد اليوم في مدينة تل أبيب، اهتمام العاملين في
الشؤون السياسية بين المواطنين العرب والمحزّبين، وشرائح المثقفين
وقادة منظمات المجتمع المدني، لاسيما تلك التي تعمل في مجالات الدراسات
والأبحاث وإنتاج المعرفة السياسية والاجتماعية على أنواعها. ولكن يبدو
أن جميع هؤلاء ليسوا «معنيين» بالتطرق إلى هذه المسألة ولا حتى
لملامستها بشكل مهني وموضوعي؛ وإن سألناهم عن عزوفهم هذا سنجد أن لكل
فصيل منهم ذرائعه وعند كل شريحة دواعيها.
ما نشاهده اليوم يؤكد أننا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، نعاني من
تفشي ظاهرة مزمنة يصح أن نطلق عليها آفة «خرس القيادات السياسية والنخب
الاجتماعية». تنتشر هذه الظاهرة بيننا منذ زمن طويل، ومن الجدير أن
نتناولها في المستقبل بشكل أعمق؛ فمخاطرها علينا كانت جسيمة لأنها، في
بعض تحوّراتها اللافتة، دفعت المصابين بها إلى ممارسة أدوار من الرياء
الاجتماعي المعدي، أو التأتأة أمام ظواهر العنف المستشري، أو النكوص
أمام ممارسات الإكراه الديني وسطوة التقاليد المستبدة في حق النساء
والفئات المستضعفة، بينما جعلتهم في محطات سياسية مفصلية يكيلون بأكثر
من مكيال، ويتصرفون بمداهنة مؤسفة وصلت أحيانا حدّ التواطؤ مع أحداث
غير عادية جرت داخل عدة مؤسسات وأحزاب، وبضمنها كانت محطات في تاريخ
حزب التجمع نفسه.
كمواطنين عزّل سندفع من جهة، ثمن مواقف قادة آمنوا بالسياسة ولم يتقنوا
فنونها، ومن جهة أخرى، مواقف قادة آمنوا بطهارة العدالة والعقيدة ولم
يستوعبوا عقمها
وعلى الرغم من حالة التغاضي الشائعة الموصوفة أعلاه، وجدنا أن فئة
صغيرة، خرجت عن مألوف الساعة وكتبت عن الحدث وعن ارتداداته المحتملة
على حزب التجمع تحديدا، وداخل الفضاءات السياسية بشكل عام؛ لقد كان
معظم من كتبوا حول هذه الدعوة من مؤيّدي وناشطي حزب التجمع الديمقراطي
ومناصرين، من الوريد إلى الوريد، لزعامة رئيسهم سامي ابو شحادة،
فواجهوه بانتقاداتهم، بعد أن فوجئوا بإدراج اسمه، من دون سابق إنذار،
في الدعوة المذكورة، وطالبوه بعدم المشاركة في المؤتمر، وبضرورة
إعطائهم المبررات التي دعته للإقدام على خطوة تتعارض بشكل قاطع مع
معتقداتهم السياسية وموقف حزبهم التاريخي، القاضي بتحريم اللقاءات
والتحالف مع أجسام سياسية وشخصيات معروفة بتاريخها وحاضرها الصهيونيين
والعسكريين؛ وقد طالبه بعضهم بالاعتذار عن فعلته وأشاروا، من باب
الاستنكار طبعا، في حالة انعقاد المؤتمر بحضوره، إلى ضرورة تقديم
الاعتذار من الجبهة الديمقراطية للسلام وغيرها من الحركات والأحزاب
السياسية التي نادت بضرورة العمل مع جهات يهودية تقدمية، وإذا اقتضت
الحاجة في بعض المواقع مع جهات صهيونية يسارية. قرأت ما أتيح لي من
تعقيبات نشرت، أثر انتشار صيغة الدعوة، واتفهم غضب قلة من أنصار الحزب،
الذين بعد مقاطعتهم للانتخابات في الجولات السابقة عادوا، على شكل فزعة
قبلية، للتصويت لحزب التجمع لأنهم آمنوا بتميّز شخصية سامي أبو شحادة
الوطنية، وأمانته السياسية وصدقه الحزبي ودفئه الاجتماعي ونجوميته
الطبيعية؛ فصدمة هذه الفئة مبررة ودهشتهم من خطوة أبو شحادة مستوعبة،
خاصة أنهم لا يرون أي موجب سياسي جديد يستدعي مشاركة قائد حزبهم الوطني
نشاطا سياسيا حزبيا إسرائيليا بارزا، حتى لو دعي إليه تحت يافطة كبار
الضيوف وحسب.
لست من مصوتي حزب التجمع، وقد اعترضت دوما على مزايدات بعض من ناشطيه
بخصوص مسألة الوطنية واحتكارهم لها؛ لقد كان ذلك قبل الإعلان عن مشاركة
سامي أبو شحادة في مؤتمر حزب «كل مواطنيها»، وسيبقى كذلك بعد انتهاء
ذلك المؤتمر، سواء شارك فيه أبو شحادة أو قاطعه في النهاية. فأنا لا
أعرف كيف ستتفاعل مؤسسات حزب التجمع مع هذه المحطة المحرجة، التي
أوقفهم عندها قائدهم، خاصة بعد أن قرأنا في المواقع بيانا مقتضبا عن
مصادر في حزب التجمع يفيد «بأن المشاركة في هذا المؤتمر تمثل سامي أبو
شحادة ولا تمثل حزب التجمع الوطني الديمقراطي». لا يمكننا إلا أن
نستهجن هذا الموقف، إذا كان هذا فعلا هو موقف الحزب الرسمي، ونعدّه
واحداً من تلك البيانات الزئبقية المتّسمة بديماغوجية واضحة وبتهرّب من
الواقع والحقيقة؛ عدا عن كونه، طبعا، إهانة صارخة بحق قائد حزبهم
ونجمه، وباعث الروح في عظامه، كما رأينا في معركة الانتخابات الأخيرة.
من الواضح أن خطوة سامي أبو شحادة اللافتة، أثارت على جبهات مختلفة،
أسئلة كثيرة، وأحرجت لا مؤسسات حزبه وناشطيه وصمت مثقفيه وحسب، بل
نجحت، حتى عن غير قصد، في إظهار هشاشة موقف الجبهة الديمقراطية وضعفها
وغيابها عن ساحة النضال المشترك مع قوى يهودية. فرغم مرور الوقت منذ
انتهاء المعركة الانتخابية، لم تبادر الجبهة لأي فعل سياسي جبهوي جامع
جدي، يستهدف مواجهة الواقع السياسي الإسرائيلي الخطير المتشكل أمام
أعيننا وفي مواقعنا. سوف نسمع منهم عن ضرورة الانتظار إلى أن تلتئم
مؤسسات الجبهة، كي تجري تقييمها ولتتخذ القرارات المناسبة بشأن
المستقبل؛ إنه الادعاء ذاته الذي نسمعه منذ أكثر من عشرين عاما. ما
زالت تفاصيل غامضة كثيرة حيال ما سبق اتخاذ سامي أبو شحادة قراره
بالمشاركة في مؤتمر سيعلن فيه عن تأسيس حزب يهودي صهيوني عربي جديد؛
فهل يعقل أن يكون قد أقدم على خطوته، من دون أن يستأنس برأي بعض من
رفاقه، وأن يتسلح بموافقة بعضهم على الأقل؟ وإن كان لديه شركاء في هذا
القرار، فهل يمكننا أن نفترض أن حزب التجمع مقبل على إمكانية الانقسام؟
أو هل من الجائز أن يكون البعض قد دعم قرار سامي بالمشاركة كي «يحرقه»
ويخسر مكانته كالقائد الوطني المجمع عليه والنجم الساطع في سماء مظلمة.
لقد تمنى بعض أصدقاء سامي أبو شحادة عليه التريث قبل أن يستمر في خطوته
المعلنة، فليس هكذا، حسب رأيهم، يقفز القائد الحكيم في فضاءات السياسة
الملتبسة؛ وبعض آخر من رفاقه أعلنوا دعمهم القاطع لقراره. لقد تحدث
الفريقان باسم السياسة وسبل ممارستها، واقرّا بأن لها الغلبة في
واقعنا، لأننا نقف على فوهة بركان. وضدهما وقف رهط يؤمن بأن الغلبة يجب
أن تكون للمبادئ الأيديولوجية، فهي أمّ جميع النهايات وسيدة كل
السياسات. أما أنا فأقف حيث وقفت دوما وأسأل أين كان بعض هؤلاء حين
امتهنوا الصمت حرفة والمزايدات دروب راحة وهدأة بال وطنية. لا أكتب كي
أسائل سامي ابو شحادة بخصوص قراره المذكور، ولا كي امتدحه؛ فنحن بصدد
خطوة لا يمكن تحميلها أكثر مما تحمله، والأمور تقاس دوما بخواتيمها،
ولكن، على الرغم من كل ذلك، علينا أن نشعر بجرأة القائد المختلف الذي
يستبطنها قرار سامي أبو شحادة. أتمنى أن أكون صائبا، وأنه مع قادة
آخرين، من التجمع وغيره، يعيدون ويدققون حساباتهم بعد انتهاء معركة
فاصلة؛ ويقيّمون تداعياتها الواضحة عساهم يهتدون إلى طريق آمن لإنقاذ
ناسهم وأهلهم من بطش بات في مرمى النظر وأقرب إلى صدورهم من زفرة
قدر. فنحن كمواطنين عزّل سوف ندفع، من جهة، ثمن مواقف قادة آمنوا
بالسياسة ولم يتقنوا فنونها، ومن جهة اخرى، مواقف قادة آمنوا بطهارة
العدالة والعقيدة ولم يستوعبوا عقمها؛ واليوم نقف جميعا على باب جهنم
ونسمع هسيس الجن.
كاتب فلسطيني
الفاشية لن تمر…
هل حقا لن تمر؟
جواد بولس
كان هذا عنوان مقال كتبته عام 2009؛ واليوم، لم أعد متأكدا من أنه ما
زال يصلح كعنوان لمقال، خاصة وأننا نقف على عتبة دولة ستتسيد القوى
الفاشية سدة الحكم فيها لتشرع في تطبيق عهد جديد من إضطهادنا العنصري،
نحن مواطني إسرائيل العرب، والتنكيل بأشقائنا الفلسطينيين في الأراضي
المحتلة.
أقرأ ما يكتبه عدد من القادة والمثقفين والمحللين العرب، وأعجب من
تأكيدهم على اقتراب موعد المواجهة الدموية مع القوى الفاشية، ويعتبرون
أن تلك المواجهة هي شأن مكتوب علينا كالقدر؛ فنحن في حالة حرب وصدام
محتوم، هكذا يقول هؤلاء، ولزاما علينا أن نكون حطبا لنيرانها. في
المقابل، يكتفي البعض بتوصيف واقعنا وخطورته، لكنهم يعترفون، من باب
النزاهة، أنهم يعدمون الرأي إزاء الحلول الممكنة أو الاجابة على سؤال
الأسئلة جميعها: ما العمل؟
يعمل نتنياهو، في هذه الأيام، على رفو آخر خيوط عباءة حكومته المقبلة،
التي لن يشبه قمعها ممارسات حكومات إسرائيل السابقة. هو يعمل ونحن
نترقب ونحلل وننتظر!
لن أتطرق مجددا للفوارق الأساسية بين الحالتين السياسيتين
الإسرائيليتين، الحاضرة والغابرة؛ علما بأن بيننا ما زال من يصر على
إنكار وجود الاختلاف، فاليهود برأي هؤلاء، كل اليهود، صهاينة وأعداء
للعرب وهم واثقون من قوتنا، نحن الفلسطينيين، ومن قدرتنا على الصمود
ومن حتمية انتصارنا على كهنة المعابد الجدد وعلى جيوشهم المسعورة.
لا أمانع بتزود ناسنا وأهلنا بجرعات من الأمل، لكنني مؤمن بأن الأمل
إذا مصصته حتى منتهى الأماني يتعب أو ينفد ويصاب حامله باليأس.
لقد عكفتُ منذ أكثر من عقدين على الكتابة حول عملية التدهور السياسي
الفاشي الحاصل داخل المجتمع اليهودي، وفي الوقت ذاته أشرت إلى
التغييرات السلبية الخطيرة الحاصلة داخل مجتمعنا العربي. لقد أسميت تلك
العملية، ذات الرأسين، «بالمنزلق الخطر»؛ وهي المرحلة التي وصلنا اليها
ونقف اليوم على شفيرها.
يشعر قادة الأحزاب والحركات اليمينية الفاشية والدينية الصهيونية
المتزمتة بعد فوزهم الساحق في الانتخابات الاسرائيلية، بضرورة إنجاز
عدد من المَهمات الأخيرة كيما يتمكنوا من إحكام سلطتهم المطلقة على
جميع عروق الدولة وشرايينها.
الجبهويون والشيوعيون تخلوا عن شعاراتهم التاريخية الملهمة وأهملوا
القيام بواجبهم الضروري والمميز في مثل ظروفنا وهو العمل على بناء
«الجبهة ضد الفاشية»
لقد كان احتلال مواقع منظومة القضاء الإسرائيلي على جميع تفرعاتها،
واحدا من عناوينهم الرئيسية المستهدفة؛ فعملوا خلال سنوات طويلة على
اختراقها والمس بحياديتها (النسبية) التي كانت تمارسها خاصة في ما يخص
شؤون مواطني الدولة اليهود وفي بعض القضايا الهامشية التي تخص
المواطنين العرب.
لقد نجحوا في مهمتهم وصاروا «قاب قوس وأدنى» من ابتلاع هذه المنظومة
بالتمام بعد أن وطنوا عناصرهم في معظم أرجائها وزرعوا رؤاهم ومفاهيمهم
العقائدية داخل أروقتها، وطوعوها، فصارت تدين بدينهم في كل ما يتعلق
بتعريف الجريمة والمجرمين ومساطر الولاء والجزاء. لقد كنا نحن، ومعنا
جميع الفلسطينيين، ضحايا لتلك «الإنجازات» الفاشية التي ستحصد مزيدا من
الضحايا، كما تشير تداعيات الأحداث الأخيرة كما رأيناها في ميادين
المواجهات ووفق تصرفات الشرطة ومواقف النيابات العامة وأحكام القضاة في
المحاكم.
كانت المحكمة العليا هدفا مباشرا لهجمات معظم الجهات اليمينية وبقيت
كذلك ولن يهدأ بالهم حتى يخضعوها لمآربهم بشكل نهائي. وكل الدلائل تشير
الى أن نصرهم على هذه الجبهة بات وشيكا، خاصة بعد أن أحرزوا تقدما
ملموسا بعد عدة معارك خاضوها مع قضاة المحكمة في السنوات الماضية.
سيسيطرون على هذه «القلعة» إما عن طريق ملئها بقضاة موالين لهم ومجندين
لصالح تنفيذ سياساتهم، وإما عن طريق تطويقها بجرافات الـ
d9)
) وتحييدها عن مراكز التأثير، كما أعلن بعضهم على الملأ، وإما بتقزيم
دورها بشكل مذل ومعيب. لن يفضي اخضاع المنظومة القضائية لتثبيت شكل
الحكم الجديد، فبدون التحكم بعدد من المفاصل الرئيسية في صفوف وحدات
الجيش والاندماج في بُناه التراتبية، وبدون السيطرة على جهاز المخابرات
العامة، الشاباك، فلسوف يتعثر اكتمال مشروعهم القاضي في نهايته الى
إقامة مملكة إسرائيل الجديدة.
لم تبدأ مناكفات الجهات اليمينية الدينية الاستيطانية مع قيادة الجيش
قبل أيام، ولا بسبب سجن الجندي الذي اعتدى بالضرب المبرح على ناشط
يهودي يساري جاء الى الخليل متضامنا مع أهلها ضد موبقات المستوطنين
بحقهم، فصراع حاخامات الاستيطان المتزمتين وأتباعهم مع المؤسسة
العسكرية نشأ منذ سنوات طوال، وقد أحرزوا فيه انتصارات لافتة؛ حتى أنهم
باتوا يسيطرون على وحدات عسكرية ميدانية كاملة ووازنة، يتحكم جنودها في
السيطرة على معظم الأراضي الفلسطينية ويقمعون سكانها ويؤازرون سوائب
المستوطنين في اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم.
وكما أداروا صراعهم على مراكز القوة داخل مواقع الجيش، يديرون بالتوازي
صراعا ليس أقل احتداما مع قادة جهاز المخابرات العامة، «الشاباك»،
وخاصة ضد ما يسمى «الوحدة الخاصة بالمواطنين اليهود». لقد برز هذا
الصراع منذ بداية نشاطات ميليشيا المستوطنين الإرهابية المنظمة
واتساعها ضد أهدافها الفلسطينية، واستمر في تجاذبات متقطعة وصلت لإحدى
ذراها في الصدام الذي حصل بينهم بعد اعتقال أفراد خلية إرهابية يهودية
نفذ أفرادها جريمة حرق وقتل أفراد من عائلة دوابشه في قرية دوما. لم
تنقطع المناكفات بين الجهتين حتى صارت أشرس أخيرا، كما برز ذلك قبيل
المعركة الانتخابية حين استُهدف جهاز «الشاباك» بكثافة في دعاية بعض
تلك الاحزاب، وعلى ألسنة قادتها ومناشيرهم.
لن تستمر تلك المعارك لزمن طويل؛ ولن يكون فيها إلا منتصر واحد، هو
الفاشية والفاشيون. فالفاشية تقدمت وتتقدم وتتعملق، وفق ما تعلمناه من
دروس التاريخ، إذا لم تجد، في الوقت المناسب، من يصدها أو يعرقل
مسيرتها. وهذا تماما ما حصل معنا، نحن المواطنين العرب، خلال العقود
الثلاثة المنصرمة، على الاقل منذ أن رفعت « الكاهانية» قبضاتها
الفولاذية نحو وجوهنا وشعارها الأهم كان: الموت للعرب أو تهجيرهم.
سأستعيد في هذا الصدد ما كتبته في الماضي للتذكير مجددا بعجزنا كمجتمع،
تدمن أكثريته وتعشق وتكتفي بممارسة دور الضحية. فكما قلت وقتها أؤكد
اليوم على أن «مواجهة أوضاعنا الخطيرة، التي ستتأزم أكثر في المستقبل،
هي مسؤولية كبرى تقع على عاتق الجماهير العربية، وعلينا جميعا» هكذا
كتبت في العام 2009 وأضفت: «وكي لا تضيع فرصنا في الحياة الطبيعية
والآمنة، يتوجب على جميع القيادات صياغة رؤى مستحدثة تأخذ بعين
الاعتبار مستجدات واقعنا ومخاطر المستقبل القاتم، وهذا يستوجب إعداد
دراسات جدية ومراجعات لجميع الخطابات السياسية التقليدية وضروراتها
الراهنة ومدى نجاعتها وعلاقتها وإمكانية تأثيرها على مجتمع الأكثرية
اليهودية». لقد بحت حناجرنا في سبعينيات القرن الماضي، أثناء سنوات
دراستنا الجامعية، هاتفين في وجه زمر يمين ذلك الزمن بأن «الفاشية لن
تمر»، لكن السنين مرت وصار من هتفنا في وجوههم حكام البلاد، واليوم هم
يورثونها لتلاميذ تفوقوا عليهم في العنصرية وفي كراهيتهم المرَضية
العرقية للعربي.
فالفاشية لن تمر، أحقا؟ ومن سيتصدى لها وكيف ومتى؟
الجبهويون والشيوعيون تخلوا عن شعاراتهم التاريخية الملهمة وأهملوا
القيام بواجبهم الضروري والمميز في مثل ظروفنا، وهو العمل على بناء
«الجبهة ضد الفاشية»، وتنازلوا عن دورهم في التواصل مع كل مؤسسة أو
حركة أو حزب أو جهة تعلن وقوفها ضد الفاشية والفاشيين. لقد آثرَت بعض
قياداتهم المتنفذة اللهاث في دهاليز القوميين أحيانا أو الانزواء داخل
هياكل حزبية بالية لم تعد صالحة لإسعاف أحوال مجتمعنا. أما أصحاب
الطريق/ المشروع الوطني فيعدوننا بالمواجهات وبالنضال، وهي لن تكون إلا
كما كانت، مجرد ردات فعل لما ستُقدم عليه الدولة والفاشيون، فسوى اسم
الطريق لا نعرف شيئا عن البوصلة ولا عن تضاريسها ولا عن برامجهم
الفعلية. وبعيدا عن الشيوعية والوطنية يبقينا انشطار أصحاب المشروع
الإسلامي في دوامة كبرى والتباس بين حركة إسلامية جنوبية اختار شيوخها
طريقا سياسيا مختلَفا عليه أوصلهم حتى التحالف مع «أعداء الأمة»، وبين
حركة إسلامية شمالية يبشرنا شيوخها بالفرج القريب، من دون أن نعلم من
أين وكيف سيحصل «بعيرنا» على «قطرانه» كي يبرأ قبل أن يأكله الذئب.
الفاشية لن تمر … يجب أن نُبقي الشعار مرفوعا، ولكن من سيوقفها ومتى
وكيف، فإنني لا أرى في المدى خيال فارس قادر على تحقيق هذه المعجزة. لا
أزايد على أحد لكنني أكتب وكأنني أسمع عواء الذئاب وهي تدوي في
شوارعنا، وأتخيل كيف ستهب حشود الشباب والفقراء المظلومين كي يتصدوا
لتلك القطعان؛ وأقدر، بوجع، كم هي الأثمان التي سيدفعونها، وأعرف أن
أثمان مواجهات الماضي (أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2000 وأحداث مايو/
ايار 2021) ستظهر كأنها عينات صغيرة مقابل ما سيكون. فهل حقا الفاشية
لن تمر؟
كاتب فلسطيني
في الحروب الكروية…
ننسى كأننا لم نكن!
جواد بولس
تطغى أخبار ألعاب كأس العالم لكرة القدم المقامة في إمارة قطر على سائر
الأخبار المحلية والدولية؛ ونعيش، نحن الناس، كما في كل دورة مشابهة،
تداعيات مشهدية غريبة، تعيدنا إلى حيرة الفيلسوف وسؤاله الأول حيال ذاك
السحر المكنون في لعبة تكتنز كرتها جميع المجازات المتناقضة، وتتيح
للمتابعين عوالم من التأويلات البسيطة والمركبة. ليست اللعبة ما يعنيني
في هذه العجالة، بل هو النسيان الذي نسكنه بفرح عظيم ونحن في حضرتها،
ونحلّق على أهدابه نحو البعيد البعيد، فنصير أبطالا غاضبين نلهث وراء
هدف لا وراء سراب وطين، ونقاتل ببسالة أعداءنا ونسحقهم من دون أن نصير
إرهابيين.
النسيان دائما نعمة إلا في فلسطين، فهو إما أمنية مستحيلة أو لعنة،
هكذا فكرت صباح يوم الأربعاء الفائت عندما غادرت بيتي، الكائن في حي
بيت حنينا شمالي مدينة القدس، قاصدا مدينة رام الله. كانت صافرات
السيارات في الشارع عالية ومتواصلة وكأنها عزيف الجان. زحفت بين
سيارتين ولم نتحرك. فتحت الراديو فكانت مذيعة إحدى القنوات الإسرائيلية
تنقل بلهجة حربية أخبارا عن تنفيذ عمليتين تفجيريتين في محطتين للباصات
في القدس الغربية، وتفيد كذلك عن سقوط قتلى وجرحى.
كان طابورنا يتقدم ببطء سلحفاة، بينما ابتلعت زرقة الأفق وراءنا آخره.
أجريت بضعة اتصالات مع زملاء كنت أعلم أنهم في الطريق إلى أعمالهم
ففهمت أنهم عالقون مثلي، وأن الجيش والشرطة أغلقوا معظم الطرقات
الرئيسية في القدس ويقومون بتفتيش جميع المركبات في الحواجز العسكرية
المؤدية إلى رام الله وغيرها.
لم امتلك خيارا سوى الانتظار. كنت أطفئ الراديو من حين إلى آخر كيلا
أسمع تعليقات المذيعين الإسرائيليين وضيوفهم وتحريضهم على جميع
الفلسطينيين؛ فكل من تحدث منهم وعنهم هدد وتوعد، وبعضهم أكدوا أن
الحكومة الجديدة ستستعيد سياسة الاغتيالات الفردية، والاجتياحات
العسكرية وملاحقة «المخربين» وفرض منع التجوال وسياسة الإغلاقات وغيرها
من الوسائل العقابية المجربة والمستحدثة بحق المواطنين الفلسطينيين.
طال وقوفنا ولم يكن أمامنا مخرج بديل. اتصل بي صديق وأخبرني أنه عالق
منذ الساعة السابعة والنصف صباحا في منطقة «بسجات زئيف» القريبة من
المحكمة العسكرية في «عوفر»، ثم استطرد قائلا: «دعنا من هذا القرف
ولنتكلم عن انتصار السعودية»، وأضاف مازحا إنه سمع مسؤولا سعوديا يعلن
بعد هزيمة الأرجنتين أن فتح الاندلس أصبح مسألة وقت وحسب، ثم تلى عليّ
مجموعة من النكات والنهفات التي تفتقت عنها قريحة الناس في أعقاب تلك
اللعبة، ومنها خطبة لشيخ يجزم أن اللعبة وحدت جميع مسلمي العالم
وانتصار الفريق السعودي ما هو إلا انتصار المؤمنين في مشارق الأرض
ومغاربها على جميع الكفار. قالها وحاولنا أن نستحضر مشاعر مدرب منتخب
الفريق السعودي الكافر هيرفي رينار الفرنسي الجنسية والمنبت. لست من
مدمني مشاهدة لعبة كرة القدم؛ وللحقيقة تعمدت أن أفطم من عشقي لها
وتعلقي المرضي بتشجيع فريق معين، وبدأت اتبع سياسة الانحياز للفريق
الذي يؤدي عرضا أفضل.. لم يكن ذلك سهلا، لكنني صممت على أن أتخلص من
ذلك الدنف، بعد أن أحسست أن مستويات التعصب داخل مجتمعاتنا العربية
وصلت حدودا خطيرة، وانقسامات نووية كان أشدها الصراع بين قبيلتي
«البارشا والريال». حاولت أن أكون قدوة أمام أبنائي وأقاربي، ولكنني
اكتشفت أنني لم أشفَ من ذلك السحر الكروي بشكل تام؛ فمباريات المنتخبات
الدولية احتفظت بعناصر تشويقها المنيعة أمام محاولات الفطام أو
الابتعاد عن مشاهدتها، لاسيما خلال مباريات كأس العالم، وكأنها استبدال
ممسرح لحرب عالمية متخيلة. كنت وحدي عندما شاهدت لعبة المنتخب السعودي.
لم أعرف من قبل أية تفاصيل ذات قيمة عن لاعبيه أو تاريخه وإنجازاتهم؛
بينما كانت الأسماء الأرجنتينية نجوما تحيط بقمرها الواحد والوحيد ليو
ميسي. هيأت نفسي لتشجيع الأرجنتين من دون أن أبحث عن أسباب عقلانية أو
موضوعية لذلك، فعلى ما يبدو كان شيء ما بداخلي مقتنعا باختياري من باب
الإنصاف والاستحقاق. بدأت اللعبة وكانت سجالا بين قوتين متكافئتين
والسعوديون يحاربون كأبطال الملاحم والمعلقات. لم انتبه متى ولماذا
خلال مجريات اللعبة بدأت أنحاز لصالح المنتخب السعودي، ولم أجد لغاية
اليوم سببا واضحا جعلني مع نهاية المبارة أداري الدمع المتدحرج من عيني
ككرات من فرح حذر. كل الأجوبة على هذه الأحجية ممكنة، وكلها، في الوقت
ذاته، غير كافية أو ملتبسة. كانت للأرجنتين مكانة وردية باسمة في
مخيلتي، فلم أفتش على ثأري في الملعب منها؛ والانتصار عليها لم يعد، في
قاموس الحماسات الوطنية الشعبوية، هزيمة لرمز إمبريالي تقليدي أو
رأسمالي خنازيري، كما لو هزم منتخب فلسطين منتخب بريطانيا مثلا. فلماذا
إذن فرحت لهذا الانتصار، وأنا، مثل عرب وفقراء كثيرين، برازيلي الهوى؟
كانت أخبار التفجيرين تتوالى تباعا بتقارير مكرورة ومستفزة، ومصحوبة
بخبر عن قيام شبان من مدينة جنين باختطاف جثمان شاب عربي من سكان مدينة
دالية الكرمل، كان قد أصيب بحادث سير بالقرب من مدينة جنين، فنقل على
أثره للمستشفى حيث فارق الحياة هناك، فاختطفه الشبان، حسبما جاء في
الأخبار، بحجة أن إسرائيل تتحفظ على جثامين عشرات الشهداء الفلسطينيين
بينهم حوالي العشرين جثمانا من منطقة جنين. بدأت السيارات تتقدم ببطء
والأخبار تنقل نداءات قيادات الأحزاب والحركات العربية في إسرائيل
الموجهة للجهة التي تتحفظ على جثمان الشاب بإعادة الجثمان كي يتمكن
أهله من دفنه، حسب الأصول. بعد أكثر من ساعتين وصلت إلى اجتماعي في رام
الله. لاحظت أن أحاديث الحضور، ومعظمهم كانوا من الأسرى المحررين، كانت
تتناول أخبار الطرقات وجلطاتها المرورية من باب التفاكه الروتيني على
المشهد، ثم كان لحادث التفجيرين قسط في حديثهم، ففهمت منهم أن الأمر
كان متوقعا بعد التمادي الذي مارسته قطعان المستوطنين في الاعتداءات
الدموية اليومية على المواطنين في القدس وجميع الأراضي المحتلة وعلى
ممتلكاتهم، وبدعم من جيش الاحتلال المباشر، وكان متوقعا كذلك بعد
انسداد جميع أفاق السياسة وطاقات الأمل، وأن المقبل سيكون أخطر، هكذا
توقع وأجمع معظم المتحدثين. وأجمعوا كذلك على أن عملية اختطاف جثمان
الشاب العربي تيران فرو، وإن لفتت أنظار العالم إلى جريمة احتجاز
إسرائيل لجثامين الفلسطينيين، كانت عملية خاطئة منذ البداية وارتجالية
بشكل مسيء وغير محسوبة بشكل سليم. كاد النقاش في هذه القضية يتشعب حتى
تدخل أحدهم وقال حاسما: «انسونا يا شباب من وجع الراس، بكفينا اللي
جاي، خلونا نحكي شوي عن انتصار المنتخب السعودي».
فجأة تغيّرت أجواء القعدة واكتسى الكلام بألوان زاهية، مثل لون الفرح
والرضا واحترام الذات. بعضهم اعترف بانهم من مشجعي الأرجنتين
التاريخيين، ويعتبرون ميسي بطلهم الفريد، لكنهم شعروا بطمأنينة بعد
انتهاء اللعبة من دون أن يتخلوا عن رغبتهم في انتصار المنتخب
الارجنتيني في اللعبة المقبلة. تحدثوا وكأنهم خاضوا حربا حقيقية أعادت
لهم بعضا من كرامة سليبة، وتحدثوا كأنهم كانوا مسافرين في دهاليز
الزمن، حيث صارت أحلامهم نقوشا على وطن. جميعهم يعرفون أنها مجرد لعبة
بين فريقين، لكنهم أكدوا أيضا انها تثبت ما آمن به المناضلون بأن
الهزائم ليست قدرك إذا امتلكت فريقا مستعدا للنزال. كنت أسمعهم فرحين
بعد هزيمة الأرجنتينيين، وأدرك لماذا تدحرج دمعي بعد انتهاء المباراة.
فلساعتين فضيّتين في هذا الزمن الرديء، صار الملعب مسرحا واقعيا تقفز
فيه لهفة المحاصرين فتصير سحابات هائمة؛ ولساعتين، من وقت الوجع، لم
نكن مجرد متفرجين على صراع الأقدام وانسكاب العرق من الأجساد، بل كنا
كأبناء الهزائم جوعى لقطعة شمس خريفية وحلم خفيف كنرجسة نركض وراءه
فنركله ونضحك، ونركض وراءه، مرة أخرى فنركله مرة وأخرى
ونستريح. لساعتين من عمر الرمل عشنا في عالم النسيان الكروي، فلم نكن
واهمين ولا واقعيين، ولا لاعبين ولا متفرجين، ولم نكن منتصرين ولا
مهزومين؛ لقد كنا مجرد منسيين وناسين. لقد بكيت، اسألوا دمعي، وأنا في
عالم النسيان، ربما من فرح على نصر لم يكن، أو ربما من وجع على هزيمة
لم تكن؛ فمن قال إن النسيان في فلسطين لا يكون أحيانا نعمة؟
كاتب فلسطيني
يث
حروب اليهود الجديدة…
الساخنة والباردة
جواد بولس
لا يبدو على بنيامين نتنياهو أنه ملهوف على إنجاز مهمة تركيب حكومته
اليمينية الجديدة؛ وقد افترض الجميع، بناءً على فوز معسكره الكبير في
الانتخابات الأخيرة، أنها ستكون مسألة سهلة ومحسومة. من الواضح أنه
تلكؤ محسوب من طرفه يستهدف، بدايةً، ترويض «الطواويس» المنتفضة داخل
حزبه ومن مثلهم في سائر الأحزاب الحليفة، التي انبرى بعض قادتها
«بالتطاوس» عليه وبفرض شروط مغالية، لن تبقي، لرفاقه في الحزب إذا ما
استجاب لها، غنائم وزارية مرضية تذكر.
سيختار بنيامين نتنياهو لحظة الحسم، وسيعلن عن نجاحه بإقامة حكومة بعد
أن يكون قد انهك جميع محاوريه وأظهر، في الوقت ذاته، لحلفاء إسرائيل،
خاصة للإدارة الأمريكية، أنه وصل إلى خط النهاية بعد أن بذل كل الجهد
من أجل تبديد مخاوفهم، كما أُعلن عنها هنا وهناك؛ هذا إذا ما افترضنا
أن اعتراض البيت الأبيض حيال إمكانية توزير النائبين سموتريتش وبن
غفير، في منصبي وزيري الدفاع والأمن الداخلي، هو اعتراض حقيقي وجادّ،
وليس مجرد مساهمة تكتيكية تسهّل على نتنياهو إنجاز مهمته كما يريد.
لن تكون أمام الفلسطينيين مخارج إلا الاستعداد لمواجهة «الكائن الجديد»
فهو عدو من فصيل متحوّر أشرس من الذي سبقه وأكثر فتكا وإصرارا منه
سيكون الفلسطينيون في الأراضي المحتلة هدف الحكومة الإسرائيلية الجديدة
المباشر، التي من المتوقع أن تضاعف وتعزز دعمها لإرهاب المستوطنين
ولاعتداءاتهم على المواطنين العزل، وعلى الأرض الفلسطينية. يحسب البعض
أنه لا جديد في هذه الرواية؛ فهذه القطعان السائبة تمارس، منذ سنوات
طويلة، هذا الإرهاب بحق المواطنين الفلسطينيين وتعتدي على ممتلكاتهم
وتغتصب أراضيهم؛ لكنني، على الرغم من صعوبة الوضع القائم حاليا، أتوقع
أن التصعيد الاستيطاني الآتي، المدعوم من جيش الاحتلال، سيكون بأنماط
ووسائل مغايرة على صعيدي الكم والكيف، وسيتّسم بممارسات دموية عنيفة،
سيتقلد فيها منفذوها ميراث أنبيائهم التوراتي ويتبعون أثر «أبطالهم»
كما نقلتها الأخبار الدارسة وأساطيرها ؛ فعشرات نواب الكنيست القوميين
الشعبويين، وجميع الأحزاب الصهيونية المتدينة الشريكة في الحكومة
المقبلة، يؤمنون بحق الشعب اليهودي على أرض فلسطين كلها، ويزعمون أن
«جنودهم» موكلون من السماء بتجسيد هذا الحق على أرض الواقع، وبمواجهة
كل من سيعرقل إنجاز مهمتهم بالطرق التي أجازتها تعاليم دينهم: فإما
خنوع الأعداء والاستسلام، وإما تهجيرهم وإما القضاء عليهم. من الصعب أن
نتنبأ كيف ستتداعى الأمور داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيد أن
الشرارات الأولى للحرائق التي قد تندلع بدأت تتطاير، في القدس وفي
غيرها من المناطق المحتلة، وهي كما نعلم رسائل الغضب الفلسطيني،
وصراخات ناس لن يقبلوا العيش في حضن الضيم القائم ولا برسم المذلة
المتزايدة. تتنامى في فلسطين مشاعر القلق من الغد الآتي، ومع القلق
يكبر الاستعداد لمواجهته والتصدي للمرحلة المقبلة؛ ولئن يظهر من بعيد
أن كل شيء باق على ما هو عليه في الأراضي الفلسطينية، فذلك شعور غير
دقيق وغير صحيح. تحاول مكنة الدعاية الاسرائيلية بث مشاعر اليأس
والإحباط في صفوف الفلسطينيين، ونزع الشرعية عن القيادات الفلسطينية،
ودور ومكانة منظمة التحرير، ويساعدها على ذلك بعض المنابر والمنصات
العربية والمحلية التي تؤدي دورا مشابها، مع اختلاف النوايا طبعا؛ وفي
المقابل يحاول العديدون من أصحاب الرأي والقياديين ومعاهد الأبحاث
والدراسات معالجة الواقع بمسؤولية وبروية، ويجرون التقييمات ويسدون
النصائح الدؤوبة من أجل مستقبل فلسطين وحماية أهلها وحقوقهم، آخذين
بعين الاعتبار مستجدات المرحلة الراهنة محليا ودوليا، عربيا واسلاميا،
خاصة بعد أن أثبتت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عن أن إسرائيل
قد «تغيّرت ويبدو إلى الأبد»، وذلك كما جاء في ورقة تقدير موقف صدرت
مؤخرا عن «المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية» في رام
الله. ولهذا لا بد من أن تتأهب القيادة الفلسطينية لمواجهة ما ستقدم
عليه الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وتبادر لاتخاذ خطوات جدية وكفيلة
لاستعادة المناعة الوطنية والقدرة على الصمود أمام جميع الضغوطات
المحتملة، وقد تكون أولى هذه الخطوات، كما جاء في ورقة المركز
المذكورة، العودة إلى «منظمة التحرير» وتعظيم دورها وإبراز قيادتها
للمرحلة الحالية، والعمل، بشكل فوري، على تحقيق المصالحة الوطنية، ومنح
المقاومة الشعبية منحى آخر، ودعم أطراف عديدة للمشاركة فيه، وتفعيل دور
المخيم الفلسطيني وتنظيمه والمساهمة في تطوير الخدمات المقدمة
للمخيمات، كونها حصونا للوطن، وتوثيق التنسيق مع الدول العربية
وشعوبها. لن يكون أمام الفلسطينيين مخارج إلا الاستعداد لمواجهة
«الكائن الجديد» فهو عدو من فصيل متحوّر أشرس من الذي سبقه وأكثر فتكا
وإصرارا منه.
إننا مقبلون على عهد دموي وعنيف، لا في الأراضي الفلسطينية المحتلة
وحسب، بل عندنا أيضا داخل إسرائيل. فعلى الرغم من خطورة الأوضاع التي
ستزجنا فيها الحكومة الجديدة، ما زالت فئات واسعة بيننا تعتبر أن لا
فرق بين القوى السياسية الجديدة، التي ستتسنم مقاليد الحكم ومن حكموا
إسرائيل في العقود الماضية؛ فقد كنا نعامل كمواطنين عرب بعنصرية
وباضطهاد، وهكذا سنعامل أيضا تحت حكم الحكومة الجديدة. حتى إن بعض
الفرق بيننا راحت تقول باستخفاف: «خلوها تكبر، فإذا ما كبرت ما بتصغر»،
وهو شعار مأخوذ من عالم الحرائق والنار طبعا، ويغفل أو يتغافل قائلوه
أن النار لن تصغر إلا بعد أن تأكلنا، نحن حطبها.
أعرف أنه لا يروق للبعض أنني مصمم على قرع أجراس الخطر، قبل الانتخابات
وبعدها؛ فمن لا يستوعب الفرق بين النظامين السياسيين، إسرائيل العنصرية
كدولة احتلال، وإسرائيل الفاشية كدولة مستعمرة، سيواجه قريبا في
الشوارع نيران مسدسات هذه الميليشيات وسياط قادتها الذين سيصبحون
الآمرين الناهين في شؤون أمن الدولة وشرعها وشريعتها. القضية ليست
محصورة بشخص أو بشخصين، بل هي قضية نظام شامل صار قريبا من حالة
الاكتمال؛ فعلاوة على شرائحه السياسية الفوقيه التي ستؤلف الحكومة،
تساعده مجموعات من النخب الاقتصادية والعسكرية والأكاديمية ومنظومة من
البنى التحتية التي تسهم في بناء هذه المؤسسة العنصرية الفاشية. إنها
سيرورات بدأت تتقدم وتتطور بمنهجية مُحكمة منذ سنوات، حيث برزت من
دعائمها المؤثرة شبكة من الجمعيات المدنية التي تختص كل واحدة منها
بتغطية قطاع من قطاعات معيشة أبناء المجتمع العربي، ولاحقت وستلاحق
العاملين فيه وفق مجموعة من القوانين القائمة والجديدة، بينما تعززها
ميدانيا الدوريات المدنية المسلحة المرخصة المدعومة من قبل الدولة،
التي انشئت في بعض المدن المختلطة على غرار كتائب المستوطنين، أو من
كانوا يسمون «شباب الهضاب». سوف تعيش البلاد حالتين من الحرب: ففي
الأراضي الفلسطينية المحتلة ستسود لغة البارود والدم؛ بينما سنواجه
نحن، المواطنين العرب، في جميع أماكن عملنا وتحركنا ووجودنا، حربّا
باردة، وسيكون عمادها ما ستنتجه الكنيست من قوانين عنصرية وفاشية في
مسعى خبيث منها لمحاصرتنا في جميع مناحي حياتنا، بهدف إجبارنا على أن
نختار طريقنا وفق إيقاعات طبول الفاشية: استسلموا كي تسلموا، أو هاجروا
كي تغنموا، أو قاوموا كي.. لا اعرف من سينظم الجماهير ويضبطها عندما
سيكتب على مجتمعنا، لاسيما الشباب فيه، خيار المقاومة؛ فالأحزاب
والحركات العربية الناشطة بيننا، تلك التي دخلت الكنيست وتلك التي
خارجها، أثبتت أنها غير قادرة على إنجاز هذه المهمة، ومثلها كانت سائر
المؤسسات القيادية التقليدية، التي باتت عاجزه عن احتواء الأزمة
ومواجهة المأساة؛ فمن سيقود الدفة ومن سيكون في قلب النار عندما ستستعر
الحرب بيننا، لا أعرف! «فالحق الحق أقول لكم أنه ستأتي ساعة وهي الآن
حاضرة» حين ينام النخباء والنجباء ويصمت العقلاء والظرفاء وتتدفق
الحماسة ويتمادى التنظير ويستقوي التفهاء. فالساعة الآن حاضرة.
كاتب فلسطيني
إسرائيل بعد الانتخابات…
وصلنا
إلى حافة المنزلق الخطر
جواد بولس
أكتب مقالي هذا قبل نشر نتائج
الانتخابات الإسرائيلية الرسمية؛ فالصورة العامة التي كشفت عنها صناديق
الاقتراع واضحة وهي تؤكّد أننا سنواجه في الحقبة القريبة المقبلة
اكتمال تشكيل نمط حكم سياسي جديد مختلف عمّا واجهناه منذ إقامة دولة
إسرائيل وحتى أيام الحكومة السابقة.
أعرف أن الكثيرين من أبناء مجتمعي العربي سيعترضون على هذا التوصيف،
لأنهم يساوون بين سياسات الحكومات الإسرائيلية السابقة، منذ عهد دافيد
بن غوريون حتى عهد حكومة يئير لبيد، تجاه المواطنين العرب وما ستفعله
حكومة نتنياهو سموطريتش بن غفير وحلفائهم من الأحزاب الصهيونية
والمتدينة. لقد عاملت جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة مواطني الدولة
العرب بعنصرية ممنهجة سافرة، وأحيانا بقمع دموي أسقط، في بعض محطات
المواجهة الساخنة، الضحايا العرب مثل ما حصل في مواجهات يوم الأرض عام
1976 ومواجهات أكتوبر عام 2000 وفي حالات اعتداء فردية كثيرة.
من الصعب طبعا إقناع العديدين من شرائح المجتمع العربي بوجود فوارق
خطيرة بين نظام الحكم العنصري الذي أقرت «ديمقراطية» قادته العرجاء،
بعد فشلهم بتهجير آبائنا إبان النكبة، بضرورة معاملة المواطنين العرب
بمساواة منقوصة، في حين كانوا يمارسون ضدنا سياساتهم العنصرية بشتى
الأساليب والذرائع، ونظام «كامل الفاشية» سوف يتعاطى ويتصرف معنا حتما
وفق مفاهيم تقضي بضرورة تلقيننا، نحن المخربين، حسب قاموسهم، خلاصات
قناعاتهم، «القومودينية»، ومفادها انهم «أصحاب هذا البيت وسادة هذه
الأرض»، ولن يقبلوا معهم في هذه المساحة شريكا ولا نزيلا. لقد أخفق
جميع قادة الأحزاب العربية، ومؤسساتنا القيادية الأساسية، اللجنة
العليا لمتابعة شؤون المواطنين العرب، واللجنة القطرية للرؤساء، ومعهما
معظم مؤسسات المجتمع المدني، بتذويب الفوارق بين الحالتين وبتعبئة
المواطنين وبتنظيمهم استعدادا لمواجهة لحظة الحسم، وذلك كما تجلّت
مواقف الجميع إزاءها قبل وخلال المعركة الانتخابية. لقد آثرت أن أكتب
مجددا عن مخاطر ما أفضت إليه نتائج الانتخابات، وأبتعد متعمّدا، على
الأقل في هذه المرحلة، عن معالجة تداعياتها وتحليل نتائجها المقلقة؛
فكثيرون سيشرعون باستلال أقلامهم وإغراقنا بهذه التحاليل ولا حاجة
لمزيد، ولقناعتي بعدم وجود جدوى من أي انتقاد لأصحاب المواقف وكيف
مارسوها قبل وفي يوم الانتخابات، ولأن ما يهمني اليوم هو كيف سنواجه ما
ستفضي اليه هذه النتيجة في اليوم التالي لإقامة حكومة نتنياهو
المتوقعة. قد يراهن البعض على أن الحكومة المقبلة، مهما كانت يمينية
قومية متدينة ومتطرفة، لن تجرؤ على القيام بما لم تجرؤ عليه سابقاتها.
لا أعرف من أين يجيء هؤلاء بهذه القناعة، خاصة بعد أن سمعنا وعود عشرات
النواب، من معظم أحزاب الإئتلاف المرتقب، لناخبيهم وتعهداتهم بتطبيق
مواقفهم الفاشية تجاه الفلسطينيين بشكل عام وتجاهنا، نحن المواطنين
العرب، على وجه التحديد؛ وسمعناهم أيضا يجاهرون بمخططاتهم لاستكمال
عناصر إحكام سلطتهم على جميع مرافق الدولة، وتمكينهم كحكومة ووزراء، من
تجسيد عقائدهم «القومودينية» لتأكيد فوقية الشعب اليهودي وتسيّده على
أرض إسرائيل ومن يسكنها من الأغيار، من دون منازع وكما وعدهم ربّهم.
الأمل مهما دثّرناه بالعواطف
الصادقة، لن يكفي لصد قطعان الفاشيين الذين تتأهب كتائبهم لاختلاق
الذريعة والانقضاض على مواقعنا
سيكون «قانون القومية» مجرد متكأ
لما يخططون له، فمنه سينطلقون للاستيلاء الكامل على المحكمة العليا
الإسرائيلية، وذلك من خلال تغيير قانون انتخاب قضاتها وتفويض الحكومة
بتعيينهم، أو على الأقل، بضمان أكثرية حكومية في لجنة التعيينات؛ كما
سيبادرون مباشرة إلى سن قانون يخول الكنيست سلطة إلغاء قرارات المحكمة
العليا، عندما تتدخل هذه المحكمة وتلغي قانونا لا يتماشى مع مبادئ
الديمقراطية والمساواة وغيرها. هكذا صرّح قبل يومين، عضو الكنيست عن
الليكود ميكي زوهر، عندما سئل عن نشاطه الأول في الحكومة المقبلة،
وأضاف أنهم سيشرّعون في اليوم الأول قانونا «يحظر على العرب في إسرائيل
رفع العلم الفلسطيني، وسحب جنسية كل مواطن يرفعه». لن يكفي مقال لجرد
قائمة ما ينوون تنفيذه بعد استلام الحكومة؛ فالنائبة ميري ريغف مثلا،
ستبدأ بتنظيف الوزارات من طبقة الموظفين المهنيين، التكنوقراط، لأن
هؤلاء الموظفين يعرقلون تنفيذ قرارات الحكومة في أحيان كثيرة، ويتوجب
التخلص منهم. بينما أعلن سموطريتش أنه إذا أصبح وزيرا للجيش فسيدفع
بوحداته النظامية إلى شوارع المدن المختلطة لتضمن تلك القوات إحقاق
النظام والأمن هناك. وفي المقابل صرح زميله في القائمة إيتمار بن غفير
الذي يطالب بحقيبة الأمن الداخلي، على أنه سيبدأ مباشرة بتغيير تعليمات
إطلاق النار «فلن تلقى، بعد اليوم، الحجارة والصخور على عناصر الشرطة
دون أن نأذن لهم بإطلاق النار. سنمنح حصانة شخصية لكل شرطي، وفي كل حدث
وحادث يحصل على خلفية قومية ستمنح الجنود وللشرطة حرية العمل». لن أسهب
حول كيف يفكر هؤلاء تجاه العرب/المخربين وممثليهم في الكنيست ففكرة
تهجيرنا/ الترانسفير لم تعد مجرد هواجس صهيونية كما كانت في السنوات
الخوالي، بل أصبحت خطة ناجزة تنتظر فرصة مؤاتية لتنفيذها في ظل الحكومة
المقبلة.
من الواضح أن عناصر النظام المقبل تعمل على تطوير منظومة أدوات متكاملة
لإدارة الحكم ولتثبيته وفقا لمفاهيمها ولأهدافها، ولملاحقة جميع «اعداء
الدولة والنظام» ومعاقبتهم، بدءا من عامة الناس، مرورا بطلاب الجامعات
والموظفين، وحتى الأطباء والمحامين والمحاضرين في الجامعات. فهناك من
سيراقب سلوك الجميع اليومي ونشاطاتهم المرئية والفيسبوكية وغيرها؛ وما
مارسته حكومات نتنياهو سابقا سيظهر كتدريبات تمهيدية على ملاحقات عرقية
ستطال جميع شرائح مجتمعنا من دون تمييز وحساب. نقلت مواقع الأخبار قبل
أيام معدودة عن رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست النائب عن حزب يش
عتيد، بن براك تصريحا مفاده إنه على قناعة «أن عودة رئيس المعارضة
(يقصد نتنياهو) للسلطة مع حزب «الصهيونية المتدينة» ستكون بداية
النهاية فهذا تحالف خطير» ؛ وبعد تأكيده على وجود الاختلاف والفارق بين
الحالتين، أضاف مؤكدا أن «هتلر اعتلى سدة الحكم بصورة ديمقراطية، فبناء
الديمقراطية يتم خلال سنوات ولكن من السهل هدمها». ورغم تأكيده على
وجود اختلاف، فقد أثارت أقواله عاصفة داخل إسرائيل على جميع الصعد.
ألنا في هذا التصريح عبرة؟
يؤسفني أن الصراعات والملاسنات بين قادة وناشطين داخل الأحزاب العربية
ما زالت مستعرة؛ بدل أن يقوموا بمراجعة تبعات الهزيمة التي تحققت، وهي
هزيمة حتى لو اعتبرها البعض نصرا، وإعلامنا ماذا سيفعل كل «تيار» منهم
في مواجهة خطر الفاشية الداهمة. فأنا لا أعتقد، كما كتبت في الماضي،
أنهم يملكون رؤية واضحة من الممكن تحويلها إلى خطة عمل مؤثرة وناجعة
وتتعدى شعاراتهم الهوياتية الحزبية وحسب. أعرف أن زرع الأمل في نفوس
الناس هو المقدمة الأولى لصمودهم ولثباتهم، وأنا طبعا أوافق على ذلك؛
بيد أن الأمل مهما دثّرناه بالعواطف الصادقة، لن يكفي لصد قطعان
الفاشيين الذين تتأهب كتائبهم لاختلاق الذريعة والانقضاض على مواقعنا.
قد تكون المدن المختلطة، كما صرّحوا، هي أول المعاقل المهاجمة في
المستقبل القريب، وإذا حصل ذلك سيتصدى لهم أهل المدن وسيدافعون عن
«البيت والعرض» ببسالة طبعا. ولكن لن يضير القادة إذا تذكروا اليوم ما
قاله «لاعب النرد» وفكّروا بالجنود الذين سيدفعون أرواحهم أثمانا من
دون أن يعرفوا من المهزوم ومن انتصر .
كاتب فلسطيني
عندما تصير أرحام
أمهاتنا أعداء لإسرائيل
جواد بولس
سنصحو، بعد أربعة أيام، على واقع جديد في إسرائيل؛ حيث سيتبيّن لنا،
نحن المواطنين العرب، أن أكثرية المواطنين اليهود ماضية في انجرافها
نحو حالة دينية عصبية عمياء، ممزوجة بعقيدة يمينية فاشية لن تقبل وجود
«العربي» بين ظهرانيها كما قبلته، مغلوبة على أمرها، مؤسسات الدولة
وحكامها خلال العقود المنصرمة؛ فالعنصرية المقسطة وقمع المواطنين العرب
المبرمجين وفق ما تجيزه قوانين «ديمقراطية» الدولة اليهودية، لن تعودا
مساطر مناسبة للتعايش في إسرائيل المتحوّرة إلى كيان متوحش وخطير.
من المؤسف أن تنتهي الحملات الحزبية الانتخابية كما بدأت؛ معارك طاحنة
بين معسكرات «شقيقة» مجيّشة ومشحونة بذخائر مسمومة، ستترك آثارها بيننا
بعد انقضاء المعركة، وجنود يرددون الشعارات المستهلكة التي أهملت
مواجهة القضايا الحارقة، وتعاملت مع واقعنا البائس بخفة مستفزة وبتضليل
يستسخف بعقول الناس. لقد بات من انتقد وقاطع حزب القائد الفرد النجم،
يهلل ويهتف لحزب النجم القائد الفرد.
قد يكون المواطن العادي معذورا إذا انساق وراء وعود برق الخطباء
الخلّب، أو إذا غرر به سرابهم، فلولاه «لما واصلوا السير في البيد».
بسطاء الناس، أو من كنّا يوما نطلق عليهم اسم الكادحين، طيّبون
ويصدّقون النبوءات وأهازيج المطر، ويفرحون لأنين الربابة حين يسري في
عروقهم المتعبة، ولا يتأففون عندما يصغون لبحة الناي وهي تناغي «قصب»
جدودهم الذي غمره غبار الزمن. هؤلا الكادحون، هكذا افترض، لم يسمعوا
تصريح رئيس قسم جراحة القلب والصدر في مستشفى سوروكا، في مدينة بئر
السبع، أمام جمهرة من الأكاديميين اليهود، وهو يعبر عن دهشته من عدم
مواجهة حكومات إسرائيل لأحد أهمّ المخاطر الموجوده في داخلها، وهو
المرأة العربية الولّادة؛ فمن جهة، هكذا صرّح «البروفيسور» في ندوة
منزلية أقيمت بحضور الوزيرة أييلت شكيد في بلدة «عومر» بالنقب: «نحن
نفهم أن التكاثر هو الذي سيهزمنا، أي الرحم العربي. ومن الجهة الأخرى
نقوم بتشجيع ذلك من خلال دفعنا لهم عن أولادهم مخصصات التأمين الوطني».
وطالب «جنابه» الوزيرة محاربة هذه الظاهرة الخطيرة من خلال فحص إمكانية
تدفيع العائلة العربية غرامة مالية عن ولادة الابن الخامس ومن يليه!
أعرف أن الكثيرين بيننا سوف يستخفون بهذا الحدث؛ فهو ليس الأول من
نوعه، ولا الأخطر من حيث وقعه الآني؛ لكنني أختلف مع هؤلاء ولا
أوافقهم. فنحن لا نستطيع سلخ هذا المشهد المقيت المستفز عن مجمل ما
يحصل في شوارع الدولة وميادينها، ولا عن مسلسل الاعتداءات الهمجية شبه
اليومية التي يقوم بها أوباش اليمين المنفلتون؛ فضلًا عن كون المتحدث
في هذه المداخلة أكاديميا موثرا، وطبيبا يرأس وحدة جراحية مهمة تعالج
عشرات المرضى العرب ويعمل معه فيها وفي المستشفى عدد كبير من الأطباء
والموظفين/ات العرب. لقد استنكرت رابطة الأطباء العرب في النقب تصريحات
العنصري ساهار، وطالبت بفصله من العمل؛ ولكن مدير المستشفى اكتفى
بإصدار بيان أوضح فيه أن: «تصريح أحد رؤساء الأقسام في المستشفى، الذي
قيل في مناسبة خاصة، لا يمثل مستشفى سوروكا ولا عمّاله. لقد اوضحت
الإدارة ذلك لمدير القسم وهو اعتذر عن موقفه». لم نقرأ، للأسف، في
بيانهم أي اعتذار واضح عمّا قيل، ولا نفياً لنظرية «الأرحام العربية
العدوة». لم تر النخب العربية، من مواقعها الأكاديمية والتشغيلية
الوثيرة، خطورة تصريح البروفيسور ساهار، ولم تتطرق إلى كيفية معالجته
من قبل إدارة المستشفى وسائر مؤسسات الدولة ذات العلاقة. لقد حافظت تلك
الشرائح على صمتها الذي أدمنت عليه منذ سنوات طويلة، حيث ساهم صمتهم
منذ سنين في تمادي الزخم الفاشي من جهة، وفي تعزيز مشاعر اليأس بين
المواطنين، وهروب الأفواج نحو الهوامش؛ فإما التدين والركون إلى مشيئة
الله، وإما «التوحد» وتطليق السياسة ومتاعبها، من جهة اخرى.
نعيش وسط مجتمع عنصري ومتطرف دينياً، تهرول قياداته الفاشية نحو سدة
الحكم، ويتوجب علينا إفشالهم، والمشاركة في الانتخابات
توقعت أن يوظف قادة الأحزاب هذه الحادثة في استثارة همم الناس، خاصة
همم الأكاديميين العرب واليهود على حد سواء؛ ورغم إصدار بعضهم بيانات
شجب واحتجاج، رأينا كيف التصق معظمهم بحملاتهم الدعائية المبرمجة
والمعدة من قبل مستشاريهم الإعلاميين، وهؤلاء، كما نعلم، يعملون في
التجارة لا في السياسة؛ فدعونا نتصور للحظات أن هذا البروفيسور سيصبح
وزير الصحة القادم في حكومة يؤمن جميع وزرائها مثله وأخطر! عندها كيف
ستأمن نساء العرب مباضع من يعتبر أرحامهن خطرا على مستقبل إسرائيل
وشعبها اليهودي؟ أو من سيحمي ملاكات عمل الأطباء والمحاضرين والمهندسين
والمعلمين العرب وغيرهم من انتقامهم الأكيد وكيدهم المعلن؟ ومختصر
السؤال نكرره، من سيحمينا من هؤلاء وكيف؟ أمواطنة، أرادوا، هم، أن
يحرمونا منها، وجعلناها نحن عرجاء ستكفي؟ أو عدل قضائهم الذي سيقف على
رأسه قضاة يمارسون الاستيطان فكراً وسكناً؟ أو ربما هي فزعة أشقائنا
العرب الذين سيفتحون أمام مفكرينا وأكاديميينا وطلابنا أبواب جامعاتهم
ويضعون ميزانيات مراكز دراساتهم العليا تحت تصرف باحثينا وعلمائنا؟ لقد
سألت هذه الأسئلة لمن يدعون إلى مقاطعة الانتخابات، ولا أعني الأفراد
منهم، ولم أقرأ رداً صريحاً يتعدى بابي التمني والدعاء، أو عتبة
الشعارات المقاتلة التقليدية التي تقال من دون أرصدة عملية. فنحن نعيش
وسط مجتمع عنصري ومتطرف دينياً، تهرول قياداته الفاشية نحو سدة الحكم،
ويتوجب علينا إفشالهم، والمشاركة في الانتخابات هي وسيلة مهمة في سبيل
هذا الجهد، وهي أفضل طبعا من الاستخفاف والمقامرات والمزايدات
والمغامرات التي مهما مورست بنيات حسنة ستوصلنا حتما إلى جهنم.
سأصوّت كما صوّتُّ دائما، لصالح قائمة «الجبهة الديمقراطية»، وحليفتها
اليوم «الحركة العربية للتغيير»، وأدعو الناس للتصويت لهذه القائمة،
كونها عنواناً مجرباً وأصيلاً للنضال الكفاحي الواقعي المشترك، العربي
اليهودي، وللوقوف في وجه الاحتلال والعنصريين والفاشيين؛ ومن لا يرغب
بها فليصوت لمن سيقف في وجه الفاشية والاحتلال، فمواجهتهم، بجبهة
نضالية موحّدة، هي مهمتنا الأولى بعد معركة الانتخابات. ويبقى التصويت،
في جميع الأحوال، للأحزاب اليمينية الصهيونية محرّماً طبعا.
كاتب فلسطيني
صوّت تحمي حقّك:
همسات قبل معركة حاسمة
جواد بولس
«الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر إلى صورته في الماء ويقول: لا أنا
إلا أنا. والثاني ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد. وفي
الليل، يضيق الفارق، ويتسع التاويل» – محمود درويش.
على الرغم من وجود بعض الدلائل، والأماني طبعا، على أن نسبة التصويت في
الانتخابات المقبلة للكنيست الإسرائيلي قد تتعدى الخمسين في المئة من
المواطنين العرب أصحاب حق الاقتراع، ما زالت المخاوف على مصير قائمتي
حزب التجمع الديمقراطي وقائمة الجبهة الديمقراطية والحركة العربية
للتغير، حقيقية؛ بخلاف وضع القائمة الإسلامية الموحّدة التي، في ما
يبدو، ستكون حظوظها بعبور نسبة الحسم أوفر.
لن أعود إلى تفاصيل ليلة فك الارتباط بين حزب التجمع وشريكيه في
القائمة المشتركة؛ فالنبش فيها لن يسعف أحدا، بل قد يعيد البعض إلى
حالة الامتعاض التي تفشت، في أعقابها، بين المواطنين الذين كانوا
يؤمنون بضرورة استمرار الشراكة، لاسيما بسبب ظروف واقعنا السياسي
المأزوم ومعاناة مجتمعاتنا من حالات تذرر خطيرة، ومظاهر العنف المتعاظم
من يوم إلى يوم. وكم كنت أتمنى أن يطوي الجميع هذه الصفحة وينتقلوا،
بالقول وبالفعل، إلى مواجهة مهمّتهم الأصعب وهي، إقناع الناخبين بضرورة
مشاركتهم في العملية الانتخابية، حيث من البديهي أن يكون شرط نجاحهم
الأول في هذه المهمة هو النأي عن المناكفات بينهم، والتوقف عن تهجمات
بعضهم على بعض، والامتناع عن المزايدات؛ فالناس تعرف تاريخ جميعهم
السياسي، منذ أن بدأت التحالفات الانتخابية بينهم، على مداوراتها، في
عام 1999، وكانت حينها بين حزب التجمع، برئاسة مؤسسه الدكتور عزمي
بشارة، والحركة العربية للتغيير برئاسة الدكتور أحمد الطيبي، وحتى
أيامنا هذه. فمن كان منكم بلا تلك الخطيئة له سبق الطهارة. يدّعي البعض
أن تفكيك القائمة المشتركة وخوض حزب التجمع الانتخابات في قائمة
منفصلة، سيزيد من فرص التنافس السياسي بين الأحزاب الثلاثة، وهذا بحد
ذاته سيشكل حافزاً، داخل جميع المعسكرات، لدى مجموعات من مقاطعي
التصويت، ودافعا لعودتهم إلى طريق الصواب، مستنهَضين بعصبية حزبية
جاهزة، ودفاعا عن كرامة وطنية كانت معطّلة، بسبب ظروف أملَتها ضرورات
مرحلة آفلة! لن نعرف صحة هذا الادعاء ولا نتائج فك الشراكة الثلاثية
على مصير القوائم العربية، إلا بعد الانتهاء من فرز الأصوات وإعلان
نتيجة الانتخابات. ومع أننا قرأنا فعلا عن نوايا مشاركة فئات محدودة من
المقاطعين في الانتخابات المقبلة، كل ومبرراته، قرأنا أيضاً أن معظم
استطلاعات الرأي المعلنة حتى يوم كتابة هذا المقال، ما زالت تؤكد عدم
حدوث انقلاب جاد وملموس على نسبة المصوتين؛ بل يخبرنا المحللون أن مثل
ذلك الانقلاب لن يحدث إذا لم تنجح قيادات قائمة «حزب التجمع»، وقائمة
«الجبهة والتغيير»، بنكش وعزق رواسب الماضي، وباجتراح برامج نضالية
سياسية جديدة وواقعية وواضحة ومقنعة، تتعدى الخطابات المكرورة والتشديد
على الفوارق بين شعاري القائمتين «الكرامة» و»التأثير بكرامة»، رغم
أهمية تلك الفوارق وما سيترتب عليها في المستقبل، سياسيا وعمليا، حيال
أداء كل حزب من الحزبين ودوريهما في خدمة المواطنين والدفاع عن مصالحهم
وحقوقهم. كانت وستبقى قضية مقاطعة المواطنين العرب للانتخابات
البرلمانية الإسرائيلية من أهم العوائق في وجه الأحزاب العربية، التي
تختار العمل البرلماني كأحد الروافد النضالية في خدمة الجماهير ودفاعاً
عن حقوقها، من خلال تمثيلها أمام مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من وضوح
تأثير هذه القضية في مصائر الأحزاب كلها، وتبعاتها على شكل العلاقات
المستقبلية بين مجتمعاتنا ومؤسسات الدولة، لم ينشغل فيها قادة تلك
الأحزاب ومؤسساتها التنظيمية، ولم يحاولوا معالجتها وتفكيكها إلا في
أوقات وقوع المعركة الانتخابية.
مقاطعة المواطنين العرب للانتخابات البرلمانية الإسرائيلية من أهم
العوائق في وجه الأحزاب العربية، التي تختار العمل البرلماني كأحد
الروافد النضالية في خدمة الجماهير ودفاعاً عن حقوقها
ليس من الصعب أن نعدد قائمة المسببات التي تدفع المواطنين العرب إلى
حالة العزوف التام والنأي عن الانخراط في الحياة السياسية الإسرائيلية؛
فبعض تلك العوامل يتوالد بيننا ويتكاثر في واقعنا ومواقعنا، بينما
تصدّر الدولة ووكلاؤها ما ينقصنا منها، ليكتمل ويتكامل مشهد المقاطعة،
مع استراتيجية الإقصاء المتعمدة من قبل من يتأهبون للانقضاض على مقاليد
الحكم بعد الانتخابات مباشرة. وفي غياب ما يحيّد جميع هذه «المحفّزات»
تصبح مقاطعة الانتخابات هي الخيار الطبيعي عند نصف المجتمع، على الأقل،
ما يضع جميع الأحزاب في خانة خطر السقوط والفشل.
لقد سمعنا مؤخرا النائب سامي أبو شحادة رئيس حزب التجمع الديمقراطي،
يعلن بثقة على الملأ أن قائمة «الجبهة والتغيير» والقائمة «الموحدة
الإسلامية» قد ضمنتا عبور نسبة الحسم، لا أعرف ما هي المصادر التي
اعتمدها النائب أبو شحادة عندما أعلن تصريحه بثقة واضحة، وطلب من
الناخبين، بناء عليه، التصويت لحزبه كي يضمن نجاحه أيضا. من الواضح أن
إعلانه المذكور لا يعتمد على معطيات حقيقية وموثوقة، هي ليست ولن تكون
موجودة أصلاً، وقد يندرج تحت باب التكتيك الانتخابي فقط؛ فهو يعلم، مثل
الكثيرين، أن نجاح الأحزاب الثلاثة في جولة الانتخابات المقبلة لن
يتحقق إذا لم تتزايد نسبة المصوتين العرب بشكل حقيقي؛ وهو يعلم أيضا أن
عدد الناخبين العرب المسجلين في سجل الناخبين يناهز المليون ناخب،
علينا أن نخصم منهم، مئة وخمسين ألف ناخب، على الأقل، لا يصوتون
للأحزاب العربية؛ وهو يعرف كذلك أن كل قائمة ستكون بحاجة إلى ما يقارب
المئة وخمسين ألف مصوت كي تعبر نسبة الحسم، وهذا لن يتحقق لقائمتين في
المعطيات الحالية. إننا أمام مشهد سياسي خطير وجديد لا نستطيع تحديد
مآلاته المستقبلية اليوم. يحاول البعض التهجم على من يحذرون من خطورة
اعتلاء اليمين الفاشي إلى سدة الحكم، وهو الاحتمال الأقرب إلى الواقع،
لا أعرف كيف يبرر هؤلاء استخفافهم بمخاطر ميليشيات الفاشيين القادمين
وبمخططاتهم؛ رغم أننا نواجه كل يوم عينات من ممارسات هذه الميليشيات،
التي سبقتها تصريحات قيادييهم المعلنة؛ علاوة على ما علّمنا تاريخ
الحركات الفاشية التي قيّض لها أن تحكم في دولها، وتضطهد وتقمع وتريق
دماء كل من وضعتهم في خانات الأعداء.
وكما قلنا في مرات سابقة، من حق كل مواطن أن يقاطع الانتخابات، ومن حق
الحركات السياسية المعارضة للتصويت أن تدعو مؤيديها وتحثهم على مقاطعة
الانتخابات، ولكن من حق شعبهم عليهم أن يعرف ما هي برامجهم في مواجهة
الخطر الفاشي الداهم، وكيف سيذودون عن مجتمعاتهم في حال شرعت زمر
الفاشيين يتطبيق قوانينها وشرائعها الدموية؟ وإن كان شعار بعضهم مرة
«قاطع لتحمي شعبك» نقول لهم كيف؟ والاصح أن نقول: «صوت تحمي حقوقك».
يعيب علينا بعض المفكرين والمحللين أن نحذر أهلنا من الآتي، وأن نخاف
على مصائر أولادنا واحفادنا في وطن لم يعرف من النصر إلا «نونه» وهي
مجرورة بهاءات الهزائم. فللأنقياء من أولئك، بخلاف المزايدين
والمفسدين، أقول: لا تقسوا على من لا يجيد السفر مثلكم على جوانح
الغمام، ومن يخشى النوم على أنوف السيوف. فلكَم تمنيت أن تكون هذه
الذئاب مجرد مخلوقات كابوسية، لكنني في كل مرة التفت أتذكر كيف كانوا
قبل حفنة عقود مجرد كمشة «أعشاب ضارة» فصاروا غابات ضارية؛ وتذكرت
ايضًا بئر «الدرويش» الراقدة في حضن طليلة البروة، وهي تبكي حصانا قضى
وحيدًا على حفافها، عندما كان الحالمون يمضون شرقا ويحملون في صدورهم
تناهيد وطنية، وقربهم ملآنة دموعا ووعودا وحسرات. فاحلموا يا اخوتي كما
تشاؤون ودعونا واقفين على محطة القطار قبل أن يسقط مجددا عن الخريطة.
فأنا أتابع الأخبار مثلما يفعل السجناء، وأسمع كيف تتساقط الأماني عند
عتبات الأمل، وفي ساحات البلد، وأسمع قهقهات الشياطين صارت قريبة من
مخادع أولادنا، واسمع أيضا كيف ينقضّ عَمرنا على زيدنا، وجيوشهم نائمة
على كتف السماء تترقب رعد الأساطير الباردة. كم أريد أن أحلم أنا أيضا،
ربما مثلكم أو ربما أكثر؛ فمن قال إني لا أريد أن يتمسك الناس، كل
الناس بأحلامهم ؛ فللقوميين أن يحلموا «بوطنهم حبيبهم، الوطن الأكبر»
وبتحرير القمر وجزره؛ وللإسلاميين أن يحلّقوا كي يستعيدوا الأستانة
ونيسابور وقرطبة، وللأوفياء أن يستحضروا في صلواتهم وفي أعيادهم بيسان
وأم الرشراش والبصة ويمطروها أيام عودات. ولي أن أحلم بأنّ دوريّ صغير
ينقر شباك بيتي لينبئني بولادة قلبي من جديد، وأن ينام حفيدي على زندي
المتعبة وفراشة عسلية تقبل جبينه كمسحة ملاك.
صوّتوا كي تحموا حقوقكم؛ واحلموا كما شئتم. فمن يجرؤ على وأد أحلامنا،
وهي حليب الجائعين الخائفين من مواضينا الخائبة؛ وهي سعاداتنا المؤجلة
وطريقنا الآمن نحو غدنا المرتجى. وإن اختلفنا فلنختلف في الليل حيث
«يضيق الفارق ويتسع التأويل».
كاتب فلسطيني
عدل إسرائيلي مغشوش
وذاكرة فلسطينية شعبية قصيرة
جواد بولس
أجازت المحكمة العليا الإسرائيلية في قرارها الصادر في السادس من الشهر
الجاري لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، خوض المعركة الانتخابية المقبلة
للكنيست؛ وبهذا تكون عمليا قد نقضت قرار لجنة الانتخابات المركزية
القاضي بشطب قائمة الحزب.
لا أعرف كم من المواطنين، لاسيما أولئك الذين تابعوا تداعيات تلك
القضية وعقّبوا عليها، قد قرأ جميع مضامين الوثائق القضائية الخاصة
بها، وأهمها نص الاستئناف الذي قدمه «مركز عدالة»، باسم حزب التجمع،
مرفقا بتصريح النائب سامي أبو شحادة، المشفوع بالقسم، وكذلك قرار
المحكمة الذي كتبته في الأساس رئيستها القاضية إستر حيوت، وتعقيبات
زملائها الثمانية على المسوّغات التي أوصلتها للنتيجة المذكورة.
لا شك بأن لجوء أي حزب عربي إلى المحكمة الإسرائيلية العليان متظلماً
من غبن مؤسسات الدولة، واستخارتها في طلب تحقيق العدل، يتضمن إقرارا،
لا التباس حوله، بأن هذه المؤسسة هي الوسيلة النضالية القانونية
المقبولة على قادة ذلك الحزب؛ وارتضائهم طوعيا بأن يكون سقف القانون
الإسرائيلي النافذ هو فصل المقال بين موقف حزبهم وموقف غريمه، وهو في
هذه الحالة لجنة الانتخابات المركزية. وقبل أن أنتقل إلى المحور الآخر
في هذا المقال، لا بد من التأكيد على أن حق جميع الأحزاب، أو المرشحين
ضمن قوائمها الانتخابية، بالتوجه إلى المحكمة العليا، مكفول وفق
القانون؛ بيد أن اللافت في مثل هذه الحالات هو التناقض الصارخ بين
حاجتنا وتوجهنا إلى المحكمة العليا، واتهامنا، نحن المواطنين العرب،
الصحيح والمبرر، لها ولجهاز القضاء الإسرائيلي بشكل عام، بأنها مؤسسات
غير نزيهة تجاهنا، وتعمل بمنهجية واضحة على ترسيخ عنصرية الدولة ضدنا.
ولئن كان هذا السلوك العبثي صحيا ومنتشرًا في حالتنا السياسية العامة،
فهو أشد عبثية في حالة حزب التجمع الديمقراطي، الذي يعتبر نفسه ممثلا
وحيدا للوطنية الفلسطينية في الداخل، وجزءا من حركتها الكفاحية؛ فعنده
يشكّل التماس عدل هذه المؤسسة العنصرية «ورطةً»؛ ويكشف، في الوقت ذاته،
عن إحدى معاضل واقعنا المتعلقة بممارسة هويتنا القومية داخل إسرائيل
العنصرية. وقد يكون هذا الإشكال هو ما دفع النائب سامي أبو شحادة، لأن
يعلن في تعقيبه الأول بعد صدور قرار المحكمة، أن حزبه فاز بنتيجة تسعة
لصالحهم مقابل صفر لصالح غانتس وليبرمان والمتآمرين معهما! ووصفه، غير
الموفق، لموقف القضاة التسعة كإجماع من طرفهم «على دعم فكرة دولة جميع
مواطنيها». من الغريب أن يتبرع النائب أبو شحادة بإكرام أولئك القضاة
بمثل هذا التقدير، وهم من ذلك براء طبعا؛ علاوة على كون كلامه بحقهم
غير دقيق ومنافياً لما ورد في حيثيات قرارهم، الذي لو قرأه الناس لتسنى
لهم تقييم إسقاطاته على واقعنا، وعلى ما يقوله حزب التجمع علنا
للناخبين.
الوطنية موجودة ولم يخترعها قائد واحد، مهما علا شأنه أو توقّد فكره،
والوطنية انتماء، لم يكتشفها حزب مهما صخب صوت قادته وبُحّت حناجر
ناشطيه
يحظر البند (السابع أ) من قانون أساس الكنيست، على أية قائمة انتخابية،
أو مرشح في قائمة انتخابية، التنافس في الانتخابات إذا كان من بين
أهدافهم أو أعمالهم أو تصريحاتهم، المعلنة أو الضمنية، واحد من هذه
الاهداف: نفي وجود الدولة كدولة يهودية وديمقراطية، أو التحريض على
العنصرية، أو دعم النضال المسلح لأية دولة عدوة أو تنظيم ارهابي ضد
دولة إسرائيل. ويكفي أن نُعمل قليلا من المنطق كي نستنج أن أمام القضاة
عرضت موادّ كافية لإقناعهم بأن البرنامج السياسي الرسمي لحزب التجمع لا
يتضمن موقفا صريحا وعمليا ضد يهودية الدولة، وهي العلة التي اعتمدتها
لجنة الانتخابات، كأساس لقرار شطبها لقائمة التجمع. وكي نكون منصفين
للحقيقة يجب أن نشير إلى أن القضاة أكدوا أن قصة شطب حزب التجمع وشطب
الشطب لم تبدأ في أيام رئيسه الحالي، بل بدأت في زمن مؤسس الحزب،
وبعده، مرورا في محاولة شطب النائبة حنين زعبي، وبعدها محاولة شطب
النائبة هبة يزبك، وعليه، كانت قرارت المحاكم السابقة في تلك الحالات
سببا مساندا لعدم شطب الحزب في هذه المرة.
لقد تمنينا ورغبنا بأن يلغى قرار لجنة الانتخابات التي تعمل بدوافع
سياسية حزبية عنصرية ضيقة، وهذا ما تم فعلا؛ بيد أن قرار المحكمة
العليا لا يحولها إلى جهاز عادل ومنصف تجاه قضايانا، كأقلية مضطهدة
داخل الدولة، وسيظل عدلها أحيانا بمثابة الورطة المحرجة حتى لو تحممنا
بشموس وطنية. يعلن قادة حزب التجمع، إلى جانب تأكيدهم على شعار «دولة
كل مواطنيها»عن كونهم القوة الوطنية الوحيدة الفاعلة بين المواطنين
العرب داخل إسرائيل، ويؤكدون أنهم جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية،
وعلى انسجامهم مع اهداف شعبنا الفلسطيني ومشروعه التحرري.
وما داموا ودمنا نتكلم عن الوطنية والمساواة التامة في دولة جميع
مواطنيها، ساستذكر إحدى المحطات النضالية التي وقفت قيادات تلك الأزمنة
على ناصيتها، ولا تعرفها أجيال اليوم، للأسف؛ خاصة بعد أن طويت أخبارها
في بطن التاريخ، وغُيّب وأهمل دور هؤلاء القادة الذين ناضلوا من أجل
حقوقنا وبقائنا بكرامة وطنية وبحكمة وبإخلاص.
في السادس من يونيو عام 1980 صدرت جريدة «الاتحاد» الحيفاوية وعلى
صفحتها الأولى عنوان عريض صارخ يعلن بتحدّ واضح موجه لحكام اسرائيل أنه
«حتى لو جوبهنا بالموت نفسه لن ننكر أصلنا العريق؛ إننا جزء حي وواع
ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني». كان نداء جريدة «الاتحاد» موجها إلى
ممثلي أوساط الرأي العام العربي في إسرائيل، يهيب بهم إلى عقد مؤتمر
يعبّر عن إرادة شعبنا في التصدي الحازم، جنبا إلى جنب مع القوى
الديمقراطية اليهودية، لتصاعد خطر العنصريين والفاشيين في إسرائيل.
جذبت العريضة المنشورة في الجريدة مئات التواقيع؛ فبادر أصحابها إلى
اقامة لجنة تحضيرية، ترأسها ووجه أعمالها القائد الشيوعي الدكتور اميل
توما. التأم اجتماع اللجنة الاول في مدينة شفاعمرو، في السادس من
سبتمبر عام 1980، وفيه وضع الدكتور إميل توما ملامح المشروع المرتقب،
وحدد المفاصل الأساسية لمفهوم وأهمية المؤتمر ومهامه الكفاحية في بناء
وحدة الجماهير العربية، كأقلية قومية. ووضع تصوراته بخصوص برامج النضال
وبالمشاركة التي خطط أن تستهدف ايضا القوى الديمقراطية اليهودية
الحقيقة، وضرورة طرحها بديلا للإجماع القومي الصهيوني السائد. لم يسمع
معظمكم بتداعيات تلك الحقبة، أو بما كان يعرف عندئذ «بوثيقة السادس من
حزيران/يونيو 1980» التي قضّت مضاجع حكام إسرائيل بشكل غير مسبوق،
ودفعت رئيس الحكومة مناحيم بيغن، بصفته وزير الأمن أيضا، لإصدار أمر
عسكري، يعتمد على أنظمة الطوارئ الانتدابية، يحظر بموجبه عقد المؤتمر
والتعامل مع وثيقة السادس من يونيو، بعد أن أعلنه كنشاط خارج عن
القانون، ويحظر كذلك استمرار عمل اللجنة التحضيرية للمؤتمر.
لقد أخافتهم فكرة انعقاد المؤتمر، الذي كان كفيلا، لو قيّض للقائمين
على فكرته النجاح، أن ينقل قضايا المواطنين العرب في إسرائيل من كونها
هواجس حزبية أو فئوية ضيقة إلى قضية وجودية كبيرة، أو كما كتب في حينه:
«أن يجسّد المؤتمر أوسع وحدة شعبية عرفتها الجماهير العربية في هذه
البلاد، بغضّ النظر عن معتقداتها السياسية، الاجتماعية المتباينة، وعن
انتماءاتها الحزبية؛ فبهذه الوحدة تستطيع الجماهير التي تؤلف قوة
سياسية اجتماعية ذات وزن كبير، أن تمارس دورها في الكفاح من أجل حقوق
الشعب العربي الفلسطيني المشروعة، من أجل السلام العادل والدائم، ومن
أجل العيش باحترام متبادل في هذه البلاد، ومن أجل المساواة ولا أقل من
المساواة للجماهير العربية».
لقد اخافتهم وطنية إميل توما ورفاقه وسائر القياديين الميامين حين
أعلنوا «نحن أهل هذه البلاد ولا وطن لنا غير هذا الوطن» وأضافوا، «من
العمى أن يتصور القائمون على هذه الدولة أنهم يستطيعون اقتلاعنا من
جذورنا الضاربة عميقا في تربة وطننا. لقد صمدت الجماهير العربية وهي
أقلية ضئيلة وهي تعاني صاعقة نكبة الشعب الفلسطيني، واستطاعت حتى في
تلك الفترة العصيبة أن تتغلب على شعور التمزق والضياع، فخاضت معركة
البقاء بصلابة وحزم فما بالكم اليوم». ولكن إسرائيل صحت على ما
استهدفته الفكرة، واستوعبت خطورتها، فحاربتها وبدأت بهجومها المضاد من
أجل تدمير ما كان منجزا، سيان على المستوى الوطني والقومي أو على
المستوى المواطني الحقوقي. وهذه روايات اخرى. هكذا إذن، الوطنية موجودة
منذ نطق التراب؛ ولم يخترعها قائد واحد، مهما علا شأنه أو توقّد فكره.
والوطنية انتماء، لم يكتشفها حزب مهما صخب صوت قادته وبُحّت حناجر
ناشطيه. وهي، كما قلت ذات يوم لأولادي: جوّاكم، تولد الوطنية في صدوركم
وترضعونها مع حليب الأمهات الحرّات، وتكبر فيكم مع كل طلة فجر، حيث
خمائل الطفولة وحيث يتكاثر الحنان.. الوطنية ربة تنام على شرفات بيوتكم
كيما تحرس النور في عيونكم والأمل، وهي هكذا حرّة ترفض التعليب
والتصدير.
كاتب فلسطيني
أسرى الأمل في فلسطين:
جوع وموت في سبيل الحرية والكرامة
جواد بولس
قد تكون المآسي اليومية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية المحتلة، أكبر
شاهد على حقيقة غياب ما يسمى «الضمير العالمي»، وتسامح أصحابه مع
تجاوزات الاحتلال الإسرائيلي اليومية، واعتداءات جنوده على المواطنين
الفلسطينيين وممتلكاتهم.
لم تعد عناصر جيش الاحتلال هي القوة الوحيدة التي تقتحم المدن والقرى
الفلسطينية وتعيث فيها الفساد وتزرع الخوف بين سكانها، وتعتدي عليهم
بأساليب قمعية وترهيبية غير مسبوقة، بل صارت تنافسها وتسبقها كتائب
قطعان المستوطنين المسلحة، التي بتنا نتابع جرائمها بقلق، ونشاطاتها
الدموية المكثفة في مناطق فلسطينية متفرقة من جنوب الأراضي المحتلة حتى
شمالها.
يتشبث الفلسطينيون بحقهم في الحياة فوق أراضيهم وفي وطنهم، ويصرّون على
انتزاعه بكل وسائل النضال المقدّرة لهم، والتي تكلّفهم أحيانا التضحية
بأرواحهم أو حرّياتهم حين يزجّ بهم في سجون الاحتلال. ومن حق أولئك
المناضلين علينا، وعلى كل صاحب ضمير ونخوة وكرامة، أن نتذكرهم وهم
يواجهون زمن المحنة، وأن نقف إلى جانبهم، فالحر أخ الحرّ.. بالنطق
وبالاسناد طبعا، إذا «لم يسعف الحال».
يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي حاليا ما يقارب (4700) أسير من بينهم
(31) أسيرة و(190) قاصرا، لم تبلغ أعمارهم الثمانية عشر عاما، وحوالي
(800) سجين إداري. يحمل كل أسير من هؤلاء قصة تستحق التوثيق والكتابة
عنها؛ فتاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية هو في الواقع سجّل نابض وثّق
وما زال يوثّق تفاصيل كفاح الشعب الفلسطيني، من أجل نيل حريته والعيش
في دولته المستقلة بسلام، أسوة بشعوب الأرض؛ ومن جهة أخرى، يفضح، هذا
السجل، جرائم الاحتلال وتواطؤ معظم دول العالم معه وسكوتهم المستفز عن
موبقاته وتمكينه ليصبح أطول وأشرس الاحتلالات في العصر الحديث.
لن تكفي مقالة واحدة للتعريف بما قاساه ويقاسيه الأسرى الفلسطينيون
وراء قضبان قمع الاحتلال الإسرائيلي، لكنني سأسلط الضوء في هذه العجالة
على حالتين استثنائيتين، تتداعى فصولهما المأساوية، هذه الأيام، وراء
قضبان القهر، من دون أن تحظيا بما تستحقانه من رعاية واهتمام محلي
وعالمي.. الأولى هي حالة الأسرى المرضى الذين لا ينالون حقهم في
الرعاية الطبية الملائمة داخل السجون الإسرائيلية؛ فيمرضون ويعانون
ويرحل بعضهم من عالمنا، جراء سياسة الإهمال الطبي من قبل المسؤولين، في
ما يسمى «مصلحة السجون الإسرائيلية»، تاركين وراءهم عائلات تتأسى
ورفاقا ينتظر بعضهم نهاياتهم المرّة بكبرياء وبمقاومة، كما يليق بمن
يحسبون أنفسهم مشاريع شهداء وهم أحياء. والحالة الثانية، هي فئة الأسرى
الإداريين، حيث أعلن ثلاثون منهم في الخامس والعشرين من الشهر الفائت
اضرابا مفتوحا مستمرا عن الطعام. لقد خبّرتكم قبل عام عن حالة الأسير
ناصر أبو حميد، الذي زرته، حينها، في سجن عسقلان بعد أن أجرى له أطباء
مستشفى «برزلاي» عملية جراحية استأصلوا فيها من رئتيه ورما خبيثا. لم
تشفه العملية، فخلال هذا العام تدهورت حالة ناصر بشكل ملحوظ، إذ تبين
أن مجرورات المرض الخبيث منتشرة في جسده، ولا يوجد ما يستطيع الأطباء
فعله، أو كما كتبت مؤخرا إحدى طبيبات مستشفى «أساف هروفيه» بعد أن أجرت
فحوصاتها الطبية لناصر: «لا أرى وجود أي إمكانية وحاجة لإخضاعه لعلاج
كيماوي، فهذا لن يساعده؛ أوصي بتأمين علاج حاضن وإسنادي له». ثم أضافت،
بلفتة إنسانية استثنائية، لا يحظى بها الأسرى الفلسطينيون عادة من جهة
معظم الأطباء الإسرائيليين، فكتبت: «أوصي بالأخذ بعين الاعتبار إمكانية
الإفراج عنه، كي يمكث مع أهل بيته في أيامه الأخيرة». كتبت.. وماذا
يعني لو كتبت؟ ممثلو نيابة إسرائيل الرسمية أعلنوا رفضهم الإفراج عنه
متذرعين بوجود مواد قانونية لا تجيز لهم ذلك.
منسوب الغضب واليأس في فلسطين مرتفع حتى درجة الغليان والانفجار، بينما
تزداد موبقات سوائب المستوطنين المنفلتين بوحشية دموية، محاولين إشعال
الحرائق
قد تكون قصة عائلة ناصر أبو حميد عيّنة موجعة لمعاناة الفلسطينيين تحت
الاحتلال، ومثالا بارزا لحدود التضحيات التي يختار دفعها فلسطينيون
كثيرون في سبيل تحرير أرضهم والذود عن كرامتهم؛ فالأسير ناصر أبو حميد
هو من سكان مخيم الأمعري، الذي يتوسط، كنغزة في خاصرة التاريخ، مدينتي
البيرة ورام الله، وهو واحد من بين خمسة أشقاء يقضون في سجون الاحتلال
أحكاما مؤبدة، أي لمدى الحياة، بعد إدانة كل من نصر وناصر وشريف ومحمد
بتهم أمنية، ثم ادانة شقيقهم، إسلام، في عام 2018، مثلهم بالحكم
المؤبد. كما يذكر أن شقيقهم، عبدالمنعم أبو حميد كان قد استشهد عام
1994. لقد تمنّت أم ناصر، عندما علمت بمرض ابنها، أن ينتصر عليه ويقهره
«كما قهر الاحتلال». هكذا قالت في حينه؛ لكنّها تعرف اليوم ما يعرفه
الجميع، وتتمنى، وهي المرابطة بعزة وبصمود على ضفاف المستحيل «أن يخرج
ناصر محرّرا ولو ليوم واحد» وأن يموت في حضنها «في بيته، وأن يدفن
بكرامة في تراب الوطن». كم من الشر يجب أن يختزن «السجان» كي يرفض
تحقيق مثل هذه الأمنية؟ وماذا يمكن أن يقال ويكتب بعد سماع أمنية أمّ
لا تحلم إلا بأن تحتضن جسد ابنها للحظة قبل أن يصير نجمة فلسطينية تضيء
سماء الملائكة والأحرار في العالمين؟ يوجد في سجون الاحتلال زهاء
ثمانمئة أسير إداري. تعتقلهم إسرائيل بناء على ما تسميه «معلومات سرية»
ومن دون مواجهتهم بتهم عينية؛ ويتم تقديمهم إلى محاكم صورية لا تكفل
لهم أدنى شروط المحاكمة النزيهة وحق الأسير بالدفاع القضائي السليم عن
نفسه ودحض الاتهامات الموجهة اليه. رفض الأسرى الفلسطينيون في الماضي
قبول سياسة الاحتلال في ممارسة الاعتقالات الإدارية وقاوموها بأساليب
مختلفة، حيث كان الإضراب عن الطعام، سواء الفردي أو الجماعي، أبرز تلك
الأساليب وأكثرها صخبا وإثارة، وربما تاثيرا من حيث نجاحهم في تسليط
الضوء على التجاوز الإسرائيلي، ولفت نظر المجتمع الحقوقي، المحلي
والدولي، لعذابات ضحايا تلك الممارسة الاحتلالية الإسرائيلية المقيتة.
في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر الفائت، أعلن ثلاثون أسيرا اداريا
شروعهم في إضراب مفتوح عن الطعام. وقد يكون دوري، في هذه العجالة، أن
أطلع القراء على ما جاء في بيانهم الأوّل الذي وجّهوه لأبناء شعبهم
الفلسطيني ولجميع الأحرار والمناصرين في العالم، فقالوا: «على هذه
الأرض ما يستحق الحياة. ولأعداء الانسانية نقول: على هذه الأرض ما
يستحق النضال كي نتمكن من الحياة.. مطالبنا: هواء نقيّ، وسماء بلا
قضبان، ومساحة للحرية، ولقاء عائلي على مائدة. بينما يطلب الاحتلال
سلخنا عن واقعنا الاجتماعي، وعن دورنا الوطني والإنساني، وتحويلنا إلى
ركام». ثم يتوجهّون إلى أبناء شعبهم وضمائر العالم ويخاطبونهم معلنين:
«نحن أبناء الأرض، ورثة أبو عمار، والحكيم، والياسين، والشقاقي
والقاسم، ورثة الشهداء. نحن رفاق ناصر أبو حميد الذي فضح مجددا، بوجعه
وبمرضه، حقيقة الاحتلال الفاشي، نقول بثقة وبغضب: واهمٌ كل من يعتقد أن
اعتقالنا سيحوّلنا إلى حطام.. فرغم القتل البطيء نعلنها صرخة رفض
للظلم، ونعلن أن النضال ضده هو غذاء أرواحنا المحلّقة في سماء الوطن.
وعبر هذا النضال، وبإسناد شعبنا المقاوم، سنصنع غدا مشرقا. أيها
الأحرار في كل مكان، نحن نخوض هذه المعركة ضد سياسة الاعتقال الإداري
آملين أن تتدحرج بانضمام كل المعتقلين الإداريين لها، فهي حلقة مهمة في
سلسلة النضال لإنهاء هذه الجريمة البشعة، وما يميّزها أنها تحمل على
أكتاف مجموعة مناضلين ارتضوا خوضها، لإعلاء الصوت ضد ظلم الاحتلال،
وعلى طريق إنهاء هذه السياسة التعسفية، فالإرادة تصنع المستحيل».
من المبكّر أن نتكهن كيف سيتدحرج وإلى أين هذا الإضراب؛ فمنسوب الغضب
واليأس في فلسطين مرتفع حتى درجة الغليان والانفجار، بينما تزداد
موبقات سوائب المستوطنين المنفلتين بوحشية دموية، محاولين اشعال
الحرائق، ومستغلين أجواء هذه الأسابيع التي تسبق موعد الانتخابات
المقبلة للكنيست؛ فمؤشر ازدياد قوة الفاشيين يتطلب مزيدا من الدماء
الفلسطينية، وكثيرا من الشر الذي، كما قلنا مرارا، لا يعرف إلا أن
يتمظهر بطبيعته العادية، صفراء كالموت وبيضاء كالعدم. بالمقابل، لا
يمكن أن نغفل انه ولأكثر من خمسة عقود يحاول جنرالات الاحتلال القضاء
على حلم الفلسطينيين بكنس الاحتلال، وإجهاض إصرارهم على مقاومته ولم
ينجحوا؛ فها هي السجون وجدرانها تشهد على تلك العزائم التي لم تقهر
وعلى أرواح رفاق ناصر أبو حميد الذين سقطوا قبله بأمراضهم، فبقيت
زفراتهم وعودا حرّة ترفرف في الفضاء، وأنفاسا تتجدد في أحضان أمهات
يعرفن كيف يبكين بصمت وبكبرياء وهن يرددن، ما قالته أم ناصر في إحدى
مقابلاتها الصحافية، على لسان ولدها: «حرّ أنا رغم القيود بمعصمي..
أحيا عزيزا ولا أذلّ لمجرم».
هكذا تختصر لنا من أسميتها مرّة «وردة من الأمعري» حكاية أمهات أسرى
الحرية الفلسطينية، وقصص مئات الأسرى الفلسطينيين، المرضى والإداريين؛
فهي، وإن بكت، تقول وتحيا عزيزة..
وسيبقى القول ما قالت الأمعرية..
كاتب فلسطيني
حين تصبح الكنيست بيتًا
مرغوبًا للحركة الوطنية الفلسطينية
جواد بولس
بعد أن هدأت عاصفة تفكك القائمة المشتركة، بدأت الأحزاب العربية
الثلاثة بمخاطبة أبناء المجتمع العربي واقناعهم بضرورة وأهمية مشاركتهم
في انتخابات الكنيست المقبلة؛ حيث يجمع معظم المتابعين والمحللين،
عربًا ويهودًا، بأن نسبة التصويت بين المواطنين العرب ستكون من أهم
العوامل، إن لم تكن أهمها، في تحديد مستقبل الخارطة السياسية
البرلمانية الاسرائيلية القادمة. ومن دون أن ندخل في صحة هذا التقييم،
يبقى شيوعه داخل مجموعات نخبوية يهودية قليلة، لكنها وازنة، مؤشرًا
هامًا يجب أن نعود إليه بجدية في مرحلة ما بعد الانتخابات، لا سيما اذا
نجحت قوى اليمين الفاشية وتمكنت من إقامة حكومة، اذ لن نستطيع، نحن
المواطنين العرب، أن نواجهها لوحدنا.
اخترت أن أبدأ حديثي عن الفاشية موقنًا أنها التحدي الأكبر القائم
أمامنا والخطر الحقيقي الذي على جميع الأحزاب والحركات السياسية، سواء
تلك المشاركة في الانتخابات أو تلك التي تدعو الى مقاطعتها، أن تتعاطى
معه وتكشف لنا كيف وبأية وسائل نضالية سوف تواجهه وتحمينا منه؛
فالمواجهة الحقيقية سوف تبدأ بعد صدور نتائج الانتخابات.
أقول هذا وآسف عندما أقرأ تصريحًا لسياسي لا يعرف ما تكونه الفاشية وما
خطورتها، رغم اننا بدأنا نلمس نذائرها في حياتنا اليومية؛ أو كيف يحاول
بعض القياديين ومن يكتبون في هموم السياسة، نفي وجود هذا "البعبع"،
خاصة عندما يقرنون تعريف الحالة بهوية شخص مثل نتنياهو أو جانتس أو
لبيد أو بن جڤير وأمثالهم، ويساوون بينهم، من باب طمأنة الناس على أن
جميع الساسة الصهاينة سواسية في الشر "ونحن لم نخف من نتنياهو ولن
نخاف من بن جڤير". لو كانت هذه الشعارات من باب الرغبة في عدم اشاعة
الهلع بين المواطنين فقط لقبلتها، لكنها تقال لغايات سياسية أخرى.
فعلى سبيل المثال، لا تفرق "الحركة الاسلامية الموحّدة" بين طبيعة
الحكومات الاسرائيلية وهوياتها السياسية، ولا بما تؤمن به الأحزاب
المكوّنة لهذه الحكومات خاصة تجاه المسلمين والعرب عمومًا؛ فالحركة
تعلن، وفق نظريتها "النفعية" انها مستعدة لدخول أية حكومة اسرائيلية
تقبل بها شريكًا، وتتذرع بواجبها في خدمة مصالح المواطنين، بالرغم من
ثبوت فشل هذا الادعاء ومضرته المتحققة في تصديع هويتنا الجمعية
الواقية.
ومن الجدير أن يتابع قادة "الحركة الاسلامية" ونحن معهم، آخر التطورات
التي حصلت مع "سريّة بارئيل" وقد كنا قد لفتنا النظر الى الشروع
بتأسيسها قبل تسعة شهور . ولمن نسي نذكّر كيف بادرَت بعد أحداث "هبة
أهل الجنوب" أو ما أسمته الصحافة العبرية "بالتدهور الأمني"، مجموعة من
خريجي الوحدات الخاصة في جيش الاحتلال إلى تأسيس هذه "الميليشيا
اليمينية الشعبية" كوحدة تابعة لجسم عنصري كبير يسمى "اللجنة لانقاذ
النقب". ولقد أطلق عليها اسم "برئيل" تيمنًا بجندي إسرائيلي قتل على
حدود غزة في شهر آب/ أغسطس من العام 2021، فأقسم رفاقه أن "يخلّدوا"
ذكرى دمه! وقد أعربت وزارة الأمن الداخلي عن مباركتها للفكرة وكذلك
فعلت بلدية بئر السبع، معتبرة أن ما يحصل هو بمثابة مبادرة رائدة هدفها
حماية "أمن المواطنين اليهود" ومواجهة "ارهاب العرب". ويبلغ عدد
المجندين المنخرطين في صفوف السريّة داخل مدينة بئر السبع ستين مسلحًا،
بينما يصل عددهم في المناطق المحيطة لمائة وخمسين مسلحًا. وقد باشروا
بعملهم الميداني قبل أيام بعد أن أعلنت البلدية وجمعيات وشركات ومؤسسات
أخرى بدعم أنشطتهم الشرطية، ماديًا ومعلوماتيًا وتقنيًا. من المتوقع،
حسب ما تشير اليه الدلائل، أن تحذو بلدات يهودية أخرى حذو مدينة بئر
السبع، وتقيم داخلها ميليشيات شعبية مسلحة "لحماية أمن" المواطنين
اليهود ولمواجهة "عنف العرب"، خاصة في المدن الساحلية المختلطة: عكا
وحيفا ويافا وفي اللد والرملة. إنها مقدمات للمشهد الفاشي الناجز.
لا يجوز لأي جهة أن تخاطبنا كمصوتين من دون أن تكشف لنا كيف ستحاول
حمايتنا وكيف ستناضل من أجل حقوقنا في الحياة وفي العمل وفي الحركة وفي
التعبير. أكتب كل ذلك محاولًا ألا اصدق أننا نقف على تلك العتبات؛ فمن
يعتقد أن حكومة فاشية مقبلة ستقبل بما لدينا وبما حققناه من دون أن
تفرض علينا شروطها، فهو واهم .
أوجه تساؤلي هذا في الأساس لحزب "التجمع الوطني الديموقراطي" ولتحالف
"الجبهة الديموقراطية والحركة العربية للتغير"؛ ولا أوجهه "للحركة
الاسلامية الموحّدة" ، لأنها، كما قلنا، تؤمن بكونها صوتًا "واقعيًا
ومؤثرًا ومحافظًا" عن طريق الاندماج المدني الكامل داخل المؤسسة
الإسرائيلية الحاكمة.
لقد أعلن حزب التجمع الديمقراطي عن نفسه " كتيّار ثالث"، ويقصد طبعًا
ثالث التيارات المتنافسة في الانتخابات. فاذا كانت "'الحركة الاسلامية
الموحدة" تيار الاندماج التفريطي و"تحالف الجبهة والعربية للتغيير "
يعتبر "تيار التأثير الواهم" فهم يشكٌلون "التيار الوطني الفلسطيني"
داخل الكنيست الاسرائيلي، على حد تعبيرهم.
قلنا ان عاصفة تفكك المشتركة بدأت تهدأ نسبيًا ؛ فقد أعلن قائد حزب
التجمع، سامي أبو شحاده، بعدما جرى في أعقاب حادثة ليلة ذلك الخميس
المشهودة، عن قرارهم بالنأي عن لغة الاختصام المباشر والتحريض والتخوين
خاصة في حديثهم عن تحالف "الجبهة والتغيير للتغيير"؛ ورغم ذلك الاعلان
ما زلنا نرى أن كثيرين من نشطاء وقادة التجمع ما زالوا يحرضون على
شركاء الأمس، ويقسمون عالمهم إلى معسكرين: "المعسكر الوطني", "ومعسكر
لبيد" . كنا في غنى عن هذه المزايدات والمناكفات التي لا تقنع
الناخبين، خاصة وقد أتخمنا بها منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كان
تحرير القدس، عند القوميين الوطنيين، يجب أن يبدأ بتحرير جزيرتي "سبتة،
ومليلة" المغربيتين، وقد تغيّر اليوم ليبدأ تحريرها، عند الاسلاميين،
بتحرير دمشق والقاهرة وعدن أولًا.
نحن بحاجة لسماع نقاشات سياسية واضحة لا تقف عند حلاوة الشعار ولا
تستدر عواطف الناس الوطنيين وحسب؛ فلحزب التجمع حق أن يعلن بأنه
"التيار الوطني" الوحيد داخل مجتمعنا، ويعلن كذلك أن الفارق بينه وبين
ما يمثله "تحالف الجبهة" هو بأن الجبهة تعتبر نفسها حزبًا
عربيًا-يهوديا، وساحة نضالها هي الساحة الاسرائيلية، بينما يرى التجمع
نفسه "جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية"؛ ولكن، إن كان ذلك حق حزب
التجمع، فحقنا أن نسأله لماذا تختارون الكنيست الإسرائيلي ساحة
لنضالاتكم ؟ وماذا وكيف ومع من سيعمل من يعتبر نفسه "جزءًا من الحركة
الوطنية الفلسطينية" داخل الكنيست الصهيوني؟ وكيف ستمثلون "الحركة
الوطنية الفلسطينية" وشرعية وجودكم في الكنيست ستكون مشروطة بأن تقسموا
يمين الولاء لدولة إسرائيل ولقوانينها؟
لا أقول هذا من باب المزايدة على أحد، وقد مررنا قبلكم في هذه التجرية
عندما كنّا طلّابًا جبهويين في الجامعات ؛ فأنتم تعرفون أن هذا النقاش
موجود على ساحتنا منذ قيام إسرائيل، وتشهد عليه مواقف الحركات القومية،
مثل حركة أبناء البلد، التي بسبب رؤية تنظيمها كجزء من "الحركة
الوطنية الفلسطينية" رفضت المشاركة في انتخابات البرلمان الصهيوني.
انها أسئلة مستحقة وواجبكم الاجابة عليها أمام الناس، كي يقتنعوا بكم
وتنجحوا بعبور نسبة الحسم ، كما أتمنى ويتمنى كثيرون مثلي من غير
مصوتيكم. فمن مثلكم يعرف طبيعة العمل في الكنيست وفي لجانها وكيف تتخذ
القرارات اليومية وتحصّل بعض الحقوق والميزانيات وتقايض الأصوات في بعض
الحالات وما الى ذلك من واقع كنتم في خضمّه؛ أما اليوم، وبعد أن
أعلنتم عن لاءاتكم السياسية، فهل لنا كمجتمع يعيش تحت وطأة العنف
والسلاح، أن نعرف ما هي برامجكم لمكافحة الجريمة والقتل؟ وإذا قلتم: لا
للشرطة الصهيونية المتآمرة والمتواطئة، ولا لإسرائيل غريمتكم
ولمؤسساتها، فكيف ومن سيضمن للناس تحقيق شعاركم/نا لا للعنف ولا
للجريمة؟ وهو نفس التساؤل بخصوص القضايا الكبيرة الأخرى مثل هدم
البيوت والميزانيات وغيرها .(هذه الأسئلة وغيرها ستوجه طبعًا لتحالف
الجبهة والتغيير الملزمتين باقناع الناخب كيف يكون التأثير بكرامة،
ولماذ لم يسعفنا ذلك لغاية اليوم.)
في فضاءاتنا التباسات كبيرة وشعارات تتطاير وتقال بسهولة مدهشة وهي وان
قيلت بحسن نية قد تكون عواقبها وخيمة. فمثلًا كيف تفسر لنا المرشحة
الثالثة في قائمة حزب التجمع للكنيست، قصدها حين أعلنت من مدينة باقة
الغربية في الرابع والعشرين من الشهر الجاري: "نحن الوحيدون الذين لم
نفرق بين فاشي وفاشي، ووضعناهم جميعًا في سلة واحدة. إسرائيل هي غريمنا
وليس نتنياهو ..." إسرائيل غريمكم! فليكن؛ ولكن لماذا تتنافسون لدخول
برلمانها الصهيوني؟ وكيف ستناضلون من على منصاته بدون من أسميتموهم
"معسكر لبيد"، وأنتم لا تفرقون بين فاشي وفاشي؟
يتبع ،،
انشطار القائمة
المشتركة وسياسة النجوم
جواد بولس
راهنتُ على أن قادة الأحزاب العربية الثلاثة: الجبهة الديمقراطية
للسلام والمساواة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية
للتغيير، سيتوصلون، مهما راوغوا وناوروا وضَلّلوا وضُلّلوا، إلى
تفاهمات أساسية تفضي في نهايتها لإعادة بناء القائمة المشتركة
وتُمكّنهم، مجتمعين، من العبور، هذه المرة أيضا، نهر السياسة
الإسرائيلية المضطربة، وتنجّيهم من السقوط الكبير.
فشلت رهاناتي؛ فعند اقتراب ساعة الصفر وقبل إغلاق باب تقديم القوائم
إلى لجنة الانتخابات الإسرائيلية بوقت قصير، سمعنا نبأ حدوث «الانفجار
الكبير» الذي نجم عنه تقديم قائمتين منفصلتين، واحدة باسم التجمّع
الديمقراطي، وأخرى تجمَع الجبهة الديمقراطية والحركة العربية للتغيير.
لن أتعاطى في هذا المقال مع سيل التبريرات والادعاءات التي دفع بها كل
طرف لشرح مسببات قرار الانفصال، وتأثيم شركاء اللحظة قبل الأخيرة،
بحدوث ما حدث. لن أفعل ذلك لأن المشهد برمته كان معيبا؛ وهو يشبه خناقة
بدأت بين أطفال في شوارع قرية، ثم ما لبثت أن انتقلت إلى كبارهم ثم إلى
اقتتال دام بين عائلتين كتب عليهما، بسبب تلك الخناقة، أن تمضيا العمر
تحت ظلال الثأر والانتقام والضغينة الدفينة. ما حصل كان مؤسفا، ولعبة
«إنت بديت..لأ، انت بديت» كانت طفولية إلى حد السذاجة، ومستفزة إلى حد
الدهشة؛ لكنها في الواقع أثبتت أن الاقتتال لم يكن بسبب «رمّانة، بل من
قلوب مليانة»، ومن يبحث يستطيع أن يجد كم مرة أشهرت بين الشركاء
الخناجر المخبأة تحت العباءات وفي أنفاس الزمن. ليس من الصعب اليوم،
بعد أن تكشّفت بعض الوثائق والتسجيلات، أن يتعرف مستطلع محايد إلى ماذا
ومن كان وراء القرار الحاسم بالانسلاخ وفض تلك الشراكة؛ ولن أتطرق هنا
إلى الدوافع التي رجّحت وحسمت سلوك كل طرف من الأطراف الثلاثة، خاصة
قادة حزب التجمع، ولماذا اختاروا الطريق الذي اختاروه في النهاية؛
فالخوض في تلك التفاصيل اليوم لن يكون في مصلحة الحملات التي تطالب
المواطنين العرب وتحثهم على التصويت والمشاركة في حسم المعركة
الانتخابية، وهذا ما بدأ ينتبه له قادة وناشطو الأحزاب في اليومين
الأخيرين. توجد ضرورة لطي تلك الصفحة والانتقال إلى الجوهر، كما صرّح
مؤخرا معظم قادة الأحزاب العربية، وبضمنهم النائب سامي ابو شحادة،
فالوضع الذي أوصلونا إليه خطير وبائس، ويتطلب بذل مجهودات استثنائية،
من قبل جميع الأحزاب، لإقناع الناخبين بضرورة المشاركة في التصويت، ثم
إقناعهم بالتصويت لأحزابهم بعد أن يستعرض كل حزب برنامجه السياسي
وتصوره حول الوسائل الممكنة والمتاحة من موقعهم في الكنيست، لتحقيق تلك
البرامج. على الرغم من أهمية هذه المسألة، وكي تكون مساعي طي الصفحة
أنجع، من المفترض أن تُنقّى الفضاءات الاجتماعية و السياسية في قرانا
ومدننا من رواسب الحملة الخطيرة، التي شنها قادة وناشطون في حزب
التجمع، بعد فض الشراكة، ضد شركائهم في القائمة المشتركة، خاصة اتهامهم
الصريح للنائبين أيمن عودة وأحمد الطيبي بالتآمر مع يئير لبيد رئيس
الحكومة، على تفكيك القائمة المشتركة والقضاء على وجود حزب التجمع عن
طريق عرقلة إمكانية تقديم قائمته الانتخابية للجنة الانتخابات؛ وهي
فرية تعادل في عرف السياسة والقوانين الاجتماعية والأخلاقية تهمة
«الخيانة». لم أتوقع أن يتبنى النائب سامي أبو شحادة مثل هذا الادعاء
المختلق، الذي لا يستسيغه عاقل، وغير المسبوق بخطورته؛ ولا أن يردده
بتصميم من على جميع المنصات لبضعة أيام، وهو الذي عرفناه دمثا رزينا
متعقلا، يصون لسانه كما يصون كرامته، ويدافع عنها بصلابة وإصرار. لم
أكن على معرفة شخصية مع النائب سامي أبو شحادة، إلى أن التقيته مؤخرا
خلال وجودنا في عمان للمشاركة في حفل الفنان مرسيل خليفة، الذي أقامه
«نادي الهلال المقدسي». كانت لقاءاتي به في عمان قليلة وقصيرة، لكنها
كانت كافية كي ألمس طيبته وهدوءه واتزانه في علاقاته مع الآخرين. وقد
لفت انتباهي دفء علاقته مع زميله النائب أحمد الطيبي، الذي وجد في عمان
للسبب نفسه، والاحترام الظاهر المتبادل بينهما، في كل اللقاءات التي
حضرتها أو شاهدتها أو عرفت عنها. أقول هذا ليس من باب الصدفة أو
النميمة، بل كي أوكد أن ما حدث ليلة الخميس الماضي لم يكن متوقعا ولا
مبررا؛ والأغرب من ذلك كان الهجوم الشرس على شخصي أيمن عودة والطيبي،
بعد حصول الانفصال، بمشاركة النائب أبو شحادة غير المفهومة لديّ على
الإطلاق والغريبة على أسلوبه السياسي العام الذي يبديه في الحديث حتى
عن ومع الساسة اليمينيين العنصريين.
رغم الاختلافات السياسية في مواقف الأحزاب المشاركة في عملية
الانتخابات وبينهم وبين من يقاطعونها، يجب أن تبقى جسور الاحترام
والحذر ممدودة بين الجميع
جميعنا يعرف أننا على عتبة مرحلة سياسية مصيرية سنشعر بتبعاتها في
الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، أي بعد ظهور نتائج
الانتخابات. وعلى الرغم من الاختلافات السياسية في مواقف الأحزاب
المشاركة في عملية الانتخابات وبينهم وبين من يقاطعونها، يجب أن تبقى
جسور الاحترام والحذر ممدودة بين الجميع، لاسيما عندما نشاهد اليافطات
العملاقة التي يعلّقها ناشطو اليمين الفاشي المحموم في شوارع المدن
اليهودية، وعليها صور النائب أيمن عودة والنائب الطيبي وهما يتلفعان
علم إسرائيل وشعار كبير بينهما يعلن بشكل تحريضي «هكذا ستكون صورة
النصر»، والمقصود طبعا نصر يئير لبيد ومعسكره. لا يمكن أن نستبعد تأثير
هذه الدعاية في بعض المأفونين ودفعهم إلى الاعتداء على النائبين، قد
يصل إلى حد ارتكاب جريمة القتل. ألم يكن على قادة حزب التجمع، وكل من
يستسهل إطلاق تهمة الخيانة ضد غريمه السياسي، أن يحذروا من إشاعة أجواء
التنابز العنيف ومن عواقبها المحتملة، خاصة ونحن نعيش بين نارين: نار
العنصرية الفاشية ودعايتها المحرضة على القتل، ونار العنف والجريمة
التي قد تتمادى وتجيّر، في معطيات مختمرة، لبث الفتنة والفوضى السياسية
داخل مجتمعاتنا. لقد صارت احتمالات الاغتيالات السياسية في مواقعنا
أقرب مما يتخيّلها البعض، ولنا بما يحصل في المجالس البلدية والمحلية
عبَرٌ واضحة.
لسنا في معرض سرد سلبيات وإيجابيات مسيرة القائمة المشتركة بتشكيلاتها
المختلفة، فالبعض ينتقدها ويشدد على أنها أدت إلى غياب المنافسة
الحزبية وإضعاف الأحزاب وهيئاتها، وبالتالي ساعدت على تغييب دور
السياسة من حياة الناس، وساعدت على تنمية شخصية القائد النجم؛ لكننا لا
نستطيع، في المقابل، حتى إن فعلا ساهمت في تأزيم تلك الحالة الموجودة
أصلا، أن نغفل حقيقة كونها عاملا مهما في «ترويض» النفوس المتحزبة
المتزمتة والمتمردة، والحد من تأثيرها في تقويض حالات السلم الأهلي
السياسي داخل مجتمعاتنا، وفي تهذيب لغة الخطابة بين الشركاء، سيان على
مستوى القيادات والكوادر؛ مع أننا كنا نسمع صليل سيوف هؤلاء المردة من
حين لآخر. لم يدم هذا السلام والتفاهم بين الإخوان طويلا؛ فما أن انتشر
نبأ انشطار القائمة المشتركة حتى صحت الجحافل من سباتها، وعادت أفواج
المستقيلين والمقالين والزعلانين والمتمزعلين إلى أحضان قبائلهم،
وطفقوا يطلقون سهامهم القشيبة، هذا إلى صدر ذاك، ورجعنا إلى حالة
التفوير السياسية، حيث لا عقل يسود ولا قلم يفتي، وأبناء «مارك» يملأون
الفضاءات «فكرا» ويبرع منتجو الأخبار بتلفيق أخبارهم وشائعاتهم. كنت
على مسافة قريبة من مجريات الأحداث ولم أصدق كيف حدث هذا الانهيار بهذه
السرعة.
أتمنى أن ينسى الناس تفاصيل ما جرى وأن يكونوا مستعدين لسماع ما لدى
قادة الأحزاب، أن يقولوه وأن يقبلوا بعودتهم لممارسة دورهم الاجتماعي
والسياسي في التأثير في مجريات الأمور في الدولة، مهما كان ذلك التأثير
محدودا؛ أقول أتمنى وأشعر بأننا سوف نخسر «السياسة» بعد أن خسرنا
«وحدتنا» وسوف نبقى، أو ربما لا، مع عالم النجوم، القدماء منهم والجدد،
وأبرز الجدد هما الدكتور منصور عباس، نجم الحركة الإسلامية الموحدة،
وعلى ضفة السماء الأخرى النجم سامي أبو شحادة قائد وزعيم حزب التجمع
الديمقراطي. لقد أنهيت مقالي الأخير قبل أسبوعين، بالتمني أن ينجح قادة
الأحزاب الثلاثة في استعادة بناء القائمة المشتركة؛ وأضفت أنني أشعر
إذا مضى حزب التجمع في «طريقه الثالثة» فقد يشكل قراره خطوة مفصلية في
تشكيل خريطة التيارات السياسية الفاعلة داخل مجتمعنا العربي؛ وقلت،
كذلك، قد نكون بحاجة إلى هذه الخضة السياسية، كي تظهر الصورة على
حقيقتها ونعرف بأي أدوات سياسية علينا مواجهة المشهد السياسي الذي
سيتشكل في إسرائيل، بعد الانتخابات المقبلة. واليوم وقد اختاروا في
التجمع أن يعودوا إلى طريقهم الأولى لم يبق لنا إلا أن ننتظر ونسمع ما
سيقوله لنا كل حزب وكيف سيضمن لنا نجومه السلامة والأمن والكرامة
والوطن بعد الانتخابات المقبلة.
يتبع..
كاتب فلسطيني
الطريق الثالث… كل
الطرق تؤدي إلى الطاحون
جواد بولس
أكتب هذه المقالة قبل أن تعلن مركبات القائمة المشتركة الثلاثة وهي:
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وحزب التجمع الديمقراطي، والحركة
العربية للتغيير، عن نجاحها في التوافق وإعادة تركيب القائمة، أو عن
فشلها في ذلك. وتراقب الجماهير العربية الواسعة سلوك تلك الأحزاب في
أجواء من انتشار الشائعات المتضاربة والأخبار المناوراتية المسربة،
التي تغذي دوافع عزوف المواطنين عن المشاركة في العملية السياسية،
وتراجع أعداد المصوتين حتى باتت استطلاعات الرأي تتوقع تدني نسبة
التصويت إلى حدود 40% فقط.
حاولت قيادات الأحزاب الثلاثة إيهامنا بأن المفاوضات بينهم تدور حول
تحسين أداء القائمة في الدورة النيابية المقبلة، عن طريق تمتين وتطوير
العلاقات المشتركة بينهم وعلى أسس من القواسم السياسية الواضحة، التي
من شأنها أن تقلل فرص المناكفات المضرة وتمنعهم من ممارسة المزايدات،
أو الوقوع في أخطاء قاتلة. لقد صرّحت تلك القيادات، مباشرة بعد الإعلان
عن حل الكنيست، عن نيّتها المحافظة على القائمة المشتركة، إلا أن كل
طرف أكد سعيه من أجل الارتقاء بها كأداة عمل نضالية تكفل الدفاع عن
مصلحة المواطنين العرب العامة، وعن حقوقهم المدنية والقومية. وهكذا برر
بعضهم تمسكه بالمفاوضات بدل المحافظة على تركيبة القائمة، ولم يمض على
تركيبها إلا القليل.
ورغم جميع ما سمعنا من تصريحات وشعارات، حول دوافع كل طرف في إدارة
المفاوضات وحرصه على حماية مصالح الجماهير ومكانتها، تبقى الحقيقة جلية
والواقع قهارا ؛ فحروب الحلفاء مستعرة، في السر وفي العلانية، حول
أعداد المقاعد النيابية التي يقاتل كل طرف لضمانها، خاصة في المقاعد
السبعة الأولى؛ وهي الحرب التي تحكمها، في فقه السياسة السائلة، «قواعد
الدراية الكافية في علوم المحاصصة الرابحة». وبعد أن تعذر، حتى كتابة
هذه المقالة، التوصل إلى توافق نهائي بين جميع الأطراف، وعلى الرغم من
استمرارهم بعقد اللقاءات التفاوضية، أصدرت اللجنة المركزية لحزب التجمع
الديمقراطي بيانًا، أعلنت فيه أنهم يواصلون استعداداتهم لخوض
الانتخابات «كتيار ثالث»، كما كان قد أعلن عنه النائب سامي أبو شحادة
في رسالة مصوّرة بُثّت على الملأ في العشرين من الشهر المنصرم.
لم تتحول القائمة إلى رافعة قادرة على تحقيق ما كان متوقعا منها، ولا
على تشكيل حالة نضالية يطمئن لها المواطنون ويخاف منها النظام العنصري
ويحسب الفاشيّون لها حسابا
لست بصدد مناقشة العناوين السياسية التي أعلنها حزب التجمع ورفعها
كيافطات تبرر مضيّه في بناء «الطريق الثالث» من داخل البرلمان
الصهيوني، وتأكيده على ضرورة استعادة وإحياء «الصوت الوطني»، خاصة وهم
يشعرون بوجود حاجة «لمراجعة جدية لمشروع المشتركة؛ فعدة أخطاء تتطلب
ذلك. وهناك تراجع كبير في نسبة التصويت والخطاب السياسي والمشروع
المطروح للناس»، كما جاء على لسان النائب أبو شحادة. ليس سرا أنني كنت
من مؤيدي القائمة المشتركة منذ بدايات تأسيسها، وحين كانت تتشكل من
أربعة مركبات؛ وبقيت من مؤيديها حتى بعد انسلاخ القائمة الإسلامية
الموحدة عنها بقيادة النائب منصور عباس؛ فهي ما زالت في واقعنا السياسي
الحالي، الخيار السياسي الأنسب لنضالات المواطنين العرب المؤيدين
للمشاركة في الانتخابات للبرلمان الإسرائيلي والمؤمنين بضرورة استغلال
هذا الرافد النضالي المهم. وقد ينفع التذكير بأن تشكيل القائمة
المشتركة جاء في الأساس كمخرج وحيد وكفرصة نادرة أتاحتها لقادة الأحزاب
الأربعة خرائبُ مؤسساتهم الحزبية الهرمة، وقد كانت على حافة الاندثار؛
فجاء تشكيلها كردة فعل طبيعية على مؤامرة الحكومة الإسرائيلية في رفع
نسبة الحسم أمام الأحزاب المشاركة في الانتخابات، وكاستجابة بديهية
لغريزة البقاء التي يتقنها السياسيون بعفوية وبانتهازية فطريتين. من
الجدير أن نقرأ ما يتحدث عنه النائب أبو شحادة في معرض تعليله لعودة
حزب التجمع إلى خيار «الطريق الثالث»، خاصة أنه يشير إلى وجود عيوب
بنيوية أعاقت وتعيق عمل القائمة المشتركة وتمنعها من أن تتحول إلى «جزء
من مشروعنا لتنظيم الأقلية الفلسطينية في الداخل على أساس قومي وهي
ليست كذلك»، كما صرّح في خطابه المذكور، هذا كلام يستوجب المناقشة. فقد
يكون ما قاله، وفقا لمفاهيم حزب التجمع، صحيحا؛ كما قد يكون صحيحا ما
أضافه أبو شحادة حين قال: «نحن لسنا جزءا من اليمين واليسار
الصهيونيين، بل جزء من الحركة الوطنية (يقصد الفلسطينية طبعا) ونمثل
شعبنا أمام حكومات إسرائيل، ولن نكون جزءا منها أو شبكة أمان لها». ومع
جزيل الاحترام لما قاله النائب أبو شحادة، وإن كان الأمر كذلك، فلماذا
راهن حزب التجمع، منذ البدايات وطيلة سبع سنوات، على الشراكة في قائمة
كان من الواضح للجميع، قبل قيامها ومنذ يوم ولادتها الأول، على أنها
مجرد مغامرة لن تتجاوب مع توقعات حزب التجمع القومية، حتى في حدها
الأدنى، وأنها ستكون إناءً سياسياً هشا لا يمكنه، في معطيات العمل
المشترك في البرلمان الصهيوني، أن يسع مبادئ حزب التجمع المعلنة
والمعروفة، وكما يشدد عليها اليوم قادة الحزب ولجنته المركزية. وما
دمنا نكتب من باب التذكير، فلن يضرنا إذا ما عدنا وراجعنا ما قلناه،
خلال معارك الانتخابات المعادة والمتكررة في السنوات الماضية، حين
انتبه الكثيرون إلى الخلل في أداء القائمة المشتركة وإلى بواطن ضعفها
وقصورها، وتمنوا على قادتها، وبضمنهم طبعا قادة حزب التجمع، أن تتصرف
أحزابهم بنضوج وبمسؤولية، عساهم ينجحون في استحداث أداة سياسية عصرية
متماسكة وقادرة على تصميم وهندسة مفاهيم كفاحية جديدة تتلاءم مع جميع
المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي.
لقد مضت السنون وزاد يأس المواطنين، لم تتحول القائمة إلى رافعة قادرة
على تحقيق ما كان متوقعا منها، ولا على تشكيل حالة نضالية يطمئن لها
المواطنون ويخاف منها النظام العنصري ويحسب الفاشيّون لها ألف حساب. لم
يحصل هذا، وأعتقد أنه لن يحصل في هذه المرة أيضا؛ فالقائمة ولدت وبقيت
في غرفة الانعاش. وكي لا نظلم قادتها بما لم يكونوا قادرين عليه أصلا،
يجب أن نعترف بأن اللجوء إلى إقامة القائمة المشتركة كان هو العلامة
على إفلاس الحالة السياسية الحزبية داخل مجتمعاتنا، والدليل على أزمة
غياب القيادة السياسية ونفاد قدرتها على التجاوب المرتجى مع هواجس
ومشاعر المواطنين العرب في إسرائيل. إنها أزمة كبيرة لا تتوقف
تداعياتها على عتبات الكنيست، بل تتخطاها لتشمل كل منظومة المؤسسات
التمثيلية السياسية والمدنية القائمة داخل مجتمعنا وداخل معظم التيارات
السياسية الناشطة بينها.
من المؤسف ألا يشعر، في هذه الأيام، قادة الأحزاب المتنافسة على تركيبة
القائمة أضرار تأخير إعلان نتائج مفاوضاتهم؛ خاصة بعد أن بدأت ترشح
تفاصيل خلافاتهم المتمحورة فقط حول محاصصة مقاعدهم النيابية. ومن
الواضح أن تراجع حزب التجمع عن عزمه في بناء الطريق الثالث من جديد،
إذا حصل ذلك، لن يساعد في ترميم ثقة الناخبين، بل على العكس، قد يكون
عاملا في تراجع نسبة المصوتين، وذلك على الرغم مما يحظى به النائب أبو
شحادة شخصيا من تعاطف واحترام في أوساط شعبيه لافتة. إن غدا لناظره
قريب؛ يساورني شعور أن الفرقاء الثلاثة سيتوصلون إلى حلول بينهم، حيث
لم يعد لديهم متسع من الوقت للمماطلة والمناورات. وإذا لم ينجحوا بذلك
سيكون من شأن قرار حزب التجمع في خوض الانتخابات، كتيار ثالث، التأثير
في الحالة السياسية الحزبية القائمة داخل مجتمعنا العربي، وقد يخرجها
من حالة الالتباس الذي عاشته في السنوات الأخيرة وعززته تجربة القائمة
المشتركة. ومع أنني، كما صرحت سابقا، أتمنى أن ينجحوا في استعادة بناء
القائمة المشتركة، أشعر إذا مضى حزب التجمع في تحديه لإحياء الطريق
الثالث، بأن قراره سيشكل محطة مفصلية في تشكيل خريطة التيارات السياسية
المؤثرة داخل مجتمعنا العربي. وهذا يعني بالضرورة ظهور القوة الحقيقية
لكل تيار من التيارات الأساسية التي ما زالت تدّعي أنها تحظى بمكانة
بين الجماهير، وهي أكثر من ثلاثة تيارات التي عناها حزب التجمع في
إعلانه، اعتقد ساعتها سيضطر حزب التجمع أن يشرح للمواطنين نظريته
السياسية، وتبريره لخوض الانتخابات في ظل إعلان رئيسه النائب أبو شحاده
على أن: «شعبنا مسيّس.. وهم مدركون ولديهم قراءة ويعرفون الحقيقة أنه
لا شريك في الخريطة السياسية في إسرائيل، ولذلك لن نبيع الناس وهما
وسنكون واضحين مع الناس، الهدف هو رفع نسبة التصويت وتصويب الخطاب
السياسي للمجتمع الفلسطيني في الداخل». ما القصد وماذا بعد؟
قد نكون بحاجة إلى هذه الخضة السياسية كي تظهر الصورة على حقيقتها
ونعرف بأي أدوات سياسية علينا مواجهة المشهد السياسي الذي سيتشكل في
إسرائيل بعد الانتخابات المقبلة.
كاتب فلسطيني
مرسيل خليفة ..
في الطريق الى القدس
جواد بولس
كان لقائي الأخير بمرسيل خليفة في مدينة عمّان قبل ثلاثة أعوام. حينها
وقف على مسرح مهرجان جرش الجنوبي وغنّى، بعد أن حيّا محمود درويش،
صديقنا الباقي كالنبض بين ضلوعنا، فأبكى وأفرح وأرقص آلافًا من عشاقه
جاؤوه على صهوة اللهفة والأمل، طوابير تهرول خشية أن تفوتهم تنهيدة
واحدة من صدر حارس الأصالة الأمين. تواصلنا في زمن الكورونا وبعدها،
لكننا لم نلتق.
كنت في بيتي عندما تلقيت مكالمته وفيها أخبرني أن "نادي هلال القدس"
دعاه ليشارك في احياء حفل خيري يقيمونه في عمان بتاريخ 2022/8/26 دعمًا
لأطفال وأيتام المدينة. أحبَّ أن يطمئن مني عن هوية النادي والداعين،
وليؤكد على ضرورة حضوري الى عمان للمشاركة في هذا الحدث.
أحسست بفرحه وكيف كان يشعر في تلك اللحظات؛ فهو عندما سمع بلفظ القدس
وهي تهيب به، صار سيلًا من رعد وكتائب برق تستقدم الأيام بشوق طافح
وتنتظر الساعة كي يمطر فارسها سماء بهية المدائن بالورود ويملأ قلوب
أهلها بالنور والحب والعواصف. تواعدنا على أجمل عهد.
وصلنا عمّان في ساعات الظهيرة. تعانقنا، فعصر صدرانا أنفاسَ الشوق.
تبسمنا. لم أنطق بكلمة. كنت بحاجة لبعض الصمت كي أداري عجقة الندى في
عيوني. لاحظت أن حزنه المخبأ في تقاسيم وجنتيه صار أكبر من قبل، وأن
ضوء عينيه تائه بالبعيد؛ لكنه بقي مرسيلنا، الشامخ بتواضعه والدافيء
ببسمته الخجولة. كنت أود أن أخبره كيف كنا، أنا وابناء جيلي الطلاب في
الجامعات، نتحلق، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حول مسجل صغير وندس
في حلقه شريطًا كان صاحبه يحرسه كطفل ويخاف عليه من التأذي؛ وكيف كنا
نغني مع العاصفة، ونتيه على "زنود ريتا" ونخبىء هوياتنا في حيطان
الذاكرة؛ لم ننم من النشوة لأنه كان معنا وكنا مثله. لقد كان مرسيل في
ذلك الزمن، يوم كان الناس يعبدون رب المقهورين والفقراء والبؤساء
والمحبة والعدالة والسلام، أيقونة زرعها الثائرون على الظلم والودعاء
في صدورهم، وسكروا على بخورها في جميع الميادين. حينها كانت أناشيده
تمائم ومطارق، وأعواده مقاصل ومناجل. أحببناه لأن قبضاته كانت قبسًا
ينير عتمة العشاق.
لوهلة وددت أن أبوح له أن تلك القدس، قدسه وقدسنا، التي كانت تحتضننا
بشغف وبشهوة، رحلت في شرايين الشرق النازفة ودُست سبية في أغماد
الغاصبين؛ لكنني لم أقل شيئًا، إذ تذكرته وهو يمشي في أزقة المدن
وشوارعها حاملا عوده على ظهره ومطرقا في الأرض، أم المقامات، فنظرت في
وجهه وسمعت عينيه تقولان لي: تذكّر .. عوده صليبه، وهذه القدس التي لا
مكان فيها، كما كتب قبل يومين فقط، "للمتعدّد إلا في الخيال الخصب حين
يجمح..في القدس ما يجرح الحقيقة في حقيقتها، ويُدبر عن المقيّد.
للمتعدّد مجازٌ شعري في الحارات، في دروب لا تغلق ألافق على سلّم
لتسلّق الحكاية حتى آخر نوتة مطرزة بحرير يبلله غمام القيامة". إنها ما
زالت قدسه التي من "حجر شحيح الضوء فيها تندلع الحروب"، وتولد في
أفيائها العزيمة أو الهزيمة.
أنهينا طقوس استعادة "العادي" بيننا حتى أوصلنا الحديث، بسرعة متوقعة،
إلى مأساة وفاة صديقنا الشاعر جريس سماوي، ابن مدينة الفحيص، الذي راح
ضحية لجائحة الكورونا بعد أيام من رحيل أخيه سليم لنفس السبب، وفي ظروف
عبثية مؤلمة. اتفقنا، وقد صرنا ثلاثة بمجيء صديقنا طلال قراعين، وهو
عنوان آخر للوفاء والاخلاص، على أن عمّاننا هذه المرة ناقصة صديقًا
نقيًا مخلصًا كريمًا، كان يلقانا، في كل مرة جئناها، بحفاوة وبدفء
وبدماثة غامرة.
قررنا
أن نبدأ نهارنا من طريق الوجع، وأن نتحرّك نحو بيت جريس وسليم سماوي في
الفحيص ونقدم واجب العزاء لزوجة سليم ولابنه فارس. من الصعب أن ننسى ما
سمعناه هناك من منى، زوجة سليم، حول ظروف رحيل الاخوين، وكيف قضيا في
المستشفى من دون أن تودعهما العائلة، ودفنا في المقبرة من غير طقوس أو
مشاركة أحد. كانت تفاصيل الرواية محزنة ومخيفة وقاسية، وذكّرتنا بفصول
رواية "العمى" للروائي العالمي جوزيه ساراماغو، فاصبنا بالخرس. سمعنا
الأسى يسيل من روح زوجة كسيرة وعرفنا ألا عزاء لها إلا في مستقبل ابنها
فارس وفي صدر حنين مؤجل وفي نعمة النسيان. جلسنا أمام قبرين توأمين
تظللهما أشجار السرو. كان الصمت في المقبرة "سماويًا" فلم نبك لأننا،
هكذا يبدو، أدركنا أن الدموع، في مثل هذا الموقف، ترف جنائزي مستهلك،
وأمّا الحكمة، التي فتشنا عنها في اختيار السماء، وجدناها مدفونة في
التراب.
عدنا الى بيت العائلة. وقفنا في شارع سمّي على اسم الشاعر الراحل
"جريس سماوي"، الغائب جسدًا والحاضر في أشعاره التي على الجدران
المحاذية للشارع. فقرأنا من شعره عن إحدى أمنياته تقول: "أعدني إلى
أوّل الكون ، حيث الندى نيّء، والجبال عجين ، وروحي هلامية لا تجف.
أعدني.. أعدني إلى الله روحًا ترِفّ".
كنا محبطين و بحاجة إلى شيء مختلف، فرجعنا إلى طريق القدس، حيث
"الموسيقى هي الوجع الشديد ترفع الروح عن المألوف وتأخذنا إلى القريب
البعيد" ، كما أعلن مرسيل مخاطبًا العالم قبل الاحتفال.
أراد الجميع أن ينجح الحفل ليس لأن ريعه سيكون من نصيب أطفال القدس
وحسب، بل لأن القدس كانت هي عنوانه؛ هكذا كان يردد المحامي ضياء شويكي،
رئيس نادي الهلال المقدسي المبادر لاقامة الحفل، ومثله أيضًا راعي
الحفل النائب خليل عطية، وطاقم مساعديه. كانت الأعصاب مشدودة والقلق
باديًا على وجوه المنظمين إلى أن حان وقت رفع ستائر المسرح، فحينها
تبين أن أكثر من ثلاثة آلاف شخص قد احتلوا مقاعدهم في القاعة ولبوا
نداء "هلال القدس" رغم جميع العوائق والصعوبات والأخطاء التي برزت خلال
العمل على تنظيم الاحتفال .
افتتح الحفل ضيف الشرف الشاعر والاعلامي زاهي وهبي، المصاب، هو أيضًا،
بحب فلسطين، والمعروف بمناصرته العنيدة والدائمة لقضاياها ولحقوق
شعبها، والذي حضر من بيروت خصيصًا ليدعم القدس وأهلها وليشاركهم همهم
وأحلامهم. قرأ زاهي ثلاث قصائد من قصائده الجميلة والمناسبة لاجواء
الاحتفال فاستقبلها الحضور بالتصفيق وبالهتاف، ثم دعا بعدها، صديقه
مرسيل إلى المسرح وقدّمه للحضور كي يبدأ وفرقته برنامج الليلة.
ما أن ضرب مرسيل بريشته على وتر عوده وأغمض عينيه وبدأ بترتيل "بغيبتك
نزل الشتي" ضجت القاعة، وكأنّ سدًا قد خلع ليندفع منه سيل هادر؛ ثم
فجأة ساد السكون. مضت لحظة بعدها أحسست بسخونة طفيفة تسري على خدي ثم
شعرت بها تقف على طرف شفتي.لم يكن ذلك بكاءً، لكنه كان ماء الطرب.
غنّى مرسيل من جوّاه بعاطفة مميزة وكأنه يقف على أسوار القدس. أنا لا
أبالغ بل أقول هذا لأنني سمعته من قبلُ في عشرات المسارح والمدن
والمناسبات حيث كان يعطي أجمل ما عنده ، لكنه في ليلة القدس كان
مختلفًا؛ فالى جانب ايمانه بقدسية فنيّ الابداع الموسيقي والغناء، وهما
في عرفه رسالتان انسانيتان خالدتان، حضرت في وجدانه القدس التي كان
يحلم فيها لتكمل في تلك الساعات جميع المعاني المنسية والمنهكة في
قاموس الكرامة العربية. لقد أخرجها مرسيل من تحت رماد الاحتلال كجمرة
الروح وغنّى لها كيلا تنطفيء مهما قست عليها الأيام وخانها الاخوة
وتمادى على لحمها الاعداء.
لم يكن توظيف مرسيل في المؤتمر الصحفي الذي سبق الاحتفال لاستعارة كونه
"في الطريق إلى القدس"، مجرد استرسال بياني أو تعبير نزق؛ فقد صرح بذلك
متعمدًا وطلب منّا أن "ننظر في مرآة العيون فنرى القدس تختال بين
القصيدة والأغنية". فمرسيل، مثل كل المبدعين الصادقين، يعرف أننا نعيش
في زمن الثرثرة الخاوية والحماقة والتفاهة، ولذلك رأيناه يتوجه إلى
أطفال القدس وشبابها المؤمنين بالعمل وبالابداع وبالعطاء قائلًا :
"ارتفعوا عن الثرثرة السياسية التافهة في الصميم، واظهروها كما هي في
خيانتها"، ثم ربّت على أكتفاهم وقال لهم : "انتم الوطن بلا علم وبلا
نشيد، وجودكم في قلب الموسيقى اعتراف صريح بطقس التحرير..". إنني على
قناعة بأنه قصد ما كان يقول واختار اغانيه خدمة لذلك الهدف، فلما ألهب
القاعة بنشيد "إني اخترتك يا وطني" كان عمليًا يدق على أبواب القدس،
وعندما صلّى لأمه كانت أمهات القدس تزفّ نبضات قلبه، وحينما وقفت
القاعة على ساقيها تردد وراءه "شدّوا الهمة" كاد هو أن يطير إلى هناك
ليصرخ من باب عامودها: "يا أهلنا في غزة، في الضفة، في فلسطين نحبكم !
من يستطيع أن يغني وهو يعيش الموت؟". من يفتش عن جواب لهذا السؤال كان
يجب أن يسمع عازف البيانو الرائع، رامي خليفة، وهو يهدي "القدس" قطعة
من مجد السماء.
كنت أراقبه وأخاف على أضلعي أن تتكسر؛ فأمامي كان ذلك المرسيل الذي
تحلّقنا حول صوته قبل خمسة وأربعين عامًا، وحملناه أيقونة في أحلامنا
وتميمة في ضياعاتنا. كانت ليلة مقدسية بامتياز .
في الغد، لم أجد أجمل مما قاله مرسيل لمن فتشوا عن خلل في المشهد
وحاولوا، كعادة مثبطي العزائم، أن يقللوا من شأن الحدث أو ينتقدوا
القائمين عليه، فجوابه لجميع هؤلاء وغيرهم كان "قليل من الأمل يكفي كي
يمحو جبلًا من الياس". ما أجملك!
ودّعته، كما في المرة السابقة، وأنا لا أعرف إن كنت سأرجع ثانية إلى
عمّان وتساءلت: يا فرحنا هل تدوم ؟
لم أنظر إلى الوراء، لكنني تخيٌلته يدندن هناك في وسط الردهة: "وجدنا
غريبين يومًا .." ومضيت أفتش عن قدسي . فالى لقاء أيها الصديق.
ايلول الفلسطيني،
موحدون في وجه السجان
جواد بولس
من المفترض أن يشرع، في مطلع أيلول / سبتمبر القادم، الأسرى الأمنيون
الفلسطينيون في جميع سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعددهم قرابة 4500
أسيرًا، في خوض إضراب مفتوح عن الطعام، وفق ما جاء في قرار عممته "لجنة
الطواريء العليا للأسرى" من داخل المعتقلات الاسرائيلية.
وحسب ما جاء في بيان نشره "نادي الأسير الفلسطيني" من مدينة رام الله،
فإن البدء في خطوة الاضراب سيكون مرهونًا بموقف ادارة سجون الاحتلال
إزاء مطالب الأسرى، وفي طليعتها العدول عن قرارات هذه الادارة في
التضييق على الأسرى، لاسيما من ذوي الأحكام العالية وتحديدًا المحكومين
بالسجن المؤبد.
وفي استعراض لخلفيات هذه الخطوة أكد "نادي الأسير الفلسطيني" على أن
هذه الخطوة هي امتداد لمعركة الأسرى التي اندلعت في شهر شباط /فبراير
من العام الجاري في اعقاب سلسلة من الاجراءات القمعية والتنكيلية التي
أعلنت عنها، في حينه، ادارة مصلحة سجون الاحتلال، أثر نجاح عملية "نفق
الحرية" وهروب الأسرى الستة من سجن "جلبوع" في شهر أيلول /سبتمبر من
العام المنصرم.
لقد كان جليًا، لكل من يتابع شؤون الحركة الأسيرة الفلسطينية، على أن
معركة قمع الأسرى المصيرية ومحاولة النيل من حقوقهم المكتسبة خلال عقود
من النضالات والاصرار والصمود، بدأت عمليًا قبل عملية "نفق الحرية"
وذلك حين أعلنت "لجنة أردان"، وزير الأمن الداخلي في العام 2018، خطتها
الاستراتيجية لمحاصرة الأسرى وسحب معظم منجزاتهم وخلخلة شروط حياتهم
التنظيمية والمعيشية كما استتبت منذ عقود
.
لقد استشعر الأسرى خطورة ما ترمي اليه إجراءات المسؤولين في مصلحة
السجون ، وتعمدهم استغلال عملية النفق للايغال في خطواتهم القمعية،
فأعلنوا في شهر شباط / فبراير المنصرم عن رفضهم لمخططات مصلحة السجون
وبدأوا في تنفيذ سلسلة خطوات احتجاجية تصعيدية ضدها، حيث كان من
المنتظر أن تتوج بالاعلان، في الخامس والعشرين من شهر أذار / مارس
الماضي عن إضرابهم الشامل عن الطعام
.
لم يخض الأسرى الاضراب عن الطعام كما كان مقررًا، فقبل قدوم ميعاده
بيوم واحد، توصلت "لجنة الطواريء العليا" في السجون، وهي لجنة تضم
ممثلين عن جميع فصائل الأسرى وانتماءاتهم التنظيمية في الأسر، مع ممثلي
مصلحة السجون إلى تفاهمات، قضت في جلّها بالمحافظة على أوضاع الأسرى
كما كانت عليه قبل عملية " نفق الحرية"؛ وعدم المساس بما هو قائم.
إلا أن الأمور لم تسِر حسب ما اتفق عليه؛ حيث استأنفت مصلحة السجون
الاسرائيلية تنفيذ خطواتها القمعية، في حراكات متحدية لارداة الاسرى
ومراهنة على جاهزيتهم للدفاع عن حقوقهم وكراماتهم؛أو كما أكّدوا الأسرى
أنفسهم في بيانهم الأول الذي نشروه في العشرين من الشهر الجاري،
وأعلنوا فيه " كعادتهم التي عهدناها عليهم بالنقض للعهود والمواثيق؛ ها
هي إدارة سجون الاحتلال تتراجع عن التفاهمات التي حصلت معهم في شهر
آذار الماضي، والتي على أثرها أوقفنا حراكنا الاستراتيجي آنذاك وتقرر
العودة لقرارها بالتنكيل بالاسرى عمومًا وبأسرى المؤبدات خصوصًا".
ومن بين ممارسات تنكيل ادارات سجون الاحتلال بالاسرى، برز قرارها بنقل
عدد من قدامى الأسرى، الذين أمضوا عشرين عامًا أو أكثر في الأسر، كل
ستة أشهر من سجن إلى آخر ، في محاولة لمنع استقرار الأسير نفسيًا
وحرمانه من امكانية العيش بانسجام مع محيطه داخل ذات السجن ! لم ولن
تقتصر قرارات ادارة السجون على هذه الخطوة؛ فالواضح انها وغيرها ستكون
البداية لنسف الوضع القائم وتوازناته المتعارف عليها داخل السجون منذ
سنوات طوال.
يمكن
فهم موقف الأسرى في شهر آذار / مارس المنصرم وقرارهم اعطاء فرصة لادارة
السجون لتنفيذ ما اتفق عليه، كمغامرة محسوبة من جهتهم؛ فهم يعرفون، كما
جاء في بيانهم الثاني، الصادر قبل ثلاثة أيام فقط، أن معاركهم مع
السجان "لا يوجد فيها أم المعارك، وستبقى عملية التدافع معهم مستمرة ما
دام هناك احتلال" ؛ وبناء على هذا التقييم الصحيح والثاقب قاموا بتوصيل
رسالتهم الواضحة والحازمة لادارة السجون أولًا، وللجميع من بعدها،
فقالوا : "لم نسمح يومًا للسجان أن يفرض إرادته علينا، ولن نسمح بذلك
اليوم أيضًا، عبر وحدتنا الوطنية وخلف قيادة وطنية موحدة"؛ والتشديد
هنا على أهمية وحدتهم الوطنية ووقوفهم خلف قيادة وطنية موحدة.
لقد قلنا في حينه أن اعلان "لجنة أردان" بشأن أوضاع الأسرى الفلسطينيين
ومنظومة حقوقهم داخل السجون، يعتبر بمثابة قرار اسرائيلي رسمي وقطعي
يستهدف تقويض أواصر وجود الحركة الأسيرة الفلسطينية وهدم منظومة الحقوق
والأسس القيمية والمعيشية التي بنتها تلك الحركة عبر مسيرة كفاح طويلة
وصارمة لامست، في بعض محطاتها، حدود المعجزات. وقلنا كذلك إن حروب
المؤسسة الاسرائيلية مع الحركة الأسيرة الفلسطينية منذ يوم الاحتلال
الأول ومرورًا باعلان "لجنة أردان" ولغاية الآن، لم تتوقف ولن تتوقف
بتاتًا. بيد أن أباء هذه الحركة ومن تلاهم من أجيال متعاقبة، قد افشلوا
ما كان الاحتلال يخطط لنيله ويتمناه؛ ونجحوا، بعد أن خاضوا أشرس
المعارك ضد قمع السجانين، بقلب المعادلة رأسًا على عقب؛ ففي حين حاول
"السجان الإسرائيلي" تدجين المقاوم الفلسطيني ومعاملته كمجرم وكإرهابي
يعيش في ظل القانون الاسرائيلي ومننه، أصر هؤلاء المناضلون على أنهم
أسرى للحرية وجنود يضحون بالاغلى في سببل كنس الاحتلال وحق شعبهم في
الاستقلال وبناء دولتهم أسوة بباقي شعوب الأرض.
لقد استوعبوا منذ البدايات، وبفطرة المقاومين الأنقياء عشاق الحياة
الكريمة، أن بناء الجماعة هو الضمانة الأكيدة لحماية الأفراد من خباثة
أعدائهم، والوسيلة الوحيدة لصد سياسات المحتلين، فأشد ما كان وما زال
المحتل بحاجة إليه، هو ظفره بأرواح المناضلين الفلسطينيين والتحكم فيها
وراء القضبان، كي يحيلها إلى ظلال تائهة وفرائس للخيبة والى أفراد
مهزومة فاقدة للأمل
.
لم يكن قرار الحكومة الاسرائيلية المذكور مجرد نزوة عابرة، ولا يمكن
لأية جهة فلسطينية احتسابه كردة فعل تأديبية ضد أي فصيل أو مجموعة من
الأسرى جراء قيامها أو عدم قيامها بفعل ما ؛ فحكومات اسرائيل تعيش منذ
سنوات حالة من الوهم أو ربما الاقتناع الذاتي بأنها باتت أقرب من مسافة
قدم على الاجهاز على مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، حيث لم يبق أمامها
الا مهمة تفتيت جسد الحركة الاسيرة وهزيمة "الروح الفلسطينية المقاومة"
وتيئيس حامليها من نجاعة نضالاتهم وتضحياتهم.
لم تأت تلك القناعة الاسرائيلية من فراغ، ولن تتوقف محاولات السجان
لتحقيق أهدافه بشكل تلقائي؛ فلقد استشعر القائمون على إعداد خطة سحق
"الحركة الأسيرة الفلسطينية" بروز عدد من المتغيرات السلبية والمحفزات
النامية داخل صفوف المقاومة والمجتمع الفلسطيني، وفي مقدمتها تعدد
الانقسامات الفصائلية الفلسطينية، خارج وداخل السجون، وانتشار حالات
التشرذم والتشظي على طول البلاد وعرضها، فوظفوها واستغلوها كعوامل
مسهلة في تنفيذ مهمتم الاستراتيجية المذكورة.
لقد استغلت الأحزاب اليمينية كلها حادثة "نفق الحرية" في سجن "جلبواع"
وحرضت على جميع الأسرى وعلى تنظيماتهم وعلى القيادة الفلسطينية المتهمة
بدعم هؤلاء "الارهابيين" وبتشجيعهم ؛ وكان متوقعًا أن توظف المؤسستان
السياسية والامنية، هذه الحادثة والمضي بما بدأته حكومة نتنياهو
وأردان، وشن حملات ثأر جديدة، تمامًا كما شاهدنا منذ شهر أيلول العام
المنصرم ونشاهد في هذه الأيام أيضًا.
من الصعب أن نتكهن كيف سيكون مصير الخطوة التي أعلن عنها الاسرى
ومهدّوا لها ببعض الاجراءات التحذيرية الأولية، مثل امتناعهم عن
الخروج إلى يسمى بعمليات "الفحص الأمني" وارجاع بعض وجبات الطعام. ففي
الاول من ايلول/ سبتمبر سيدخلون في مرحلة الاضراب عن الطعام الذي إن
دخلوه فلسوف لن يتراجعوا عنه "إلا بتحقيق مطالبنا ولن تنتهي معانتنا
ألا بتحقيق حريتنا" ، كما جاء في بيانهم المذكور
.
من الصعب التكهن، لأن كل شيء سيكون منوطًا بهم أولًا وبتجسيد وحدتهم
الحقيقية، فبعدها سيحق لهم مطالبة ومحاسبة أبناء شعبهم وجميع أحرار
العالم؛ لأن "قضية الأسرى هي قضية حرية الانسان على طريق حرية الأرض"،
كما ورد في بيانهم
..
كيف نتصدى
«للاڤا» النتنياهوية
جواد بولس
قبل خمسة أعوام، وعندما بدأت وحدات التحقيق الخاصة في شرطة إسرائيل
باستجواب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكثيرين مِن أقربائه والمقربين
إليه ومَن عملوا معه وفي محيطه خلال السنوات الماضية؛ كثرت التكهنات
حول مصيره السياسي ومن سيحل محله.
وكما يعلم الجميع فقد أفضت التحقيقات إلى تقديم أكثر من لائحة اتهام
خطيرة في حقه، ما زال القضاء الإسرائيلي ينظر فيها، ولا أحد يستطيع
اليوم أن يتكهن بنتائجها؛ فكل الاحتمالات حيالها كانت وما زالت مفتوحة.
لقد راهن الكثيرون، وفق ما انكشف في الصحافة من دلائل، على دنو نهاية
بنيامين نتنياهو السياسية، أو على الأقل، على تراجع شعبيته بين
المواطنين؛ بيد أن بنيامين نتنياهو لم يرتدع، كما كان متوقعا وطبيعيا
أن يتصرف رئيس حكومة يواجه عددا من التهم الجنائية، كما لم تتراجع
شعبيته بين المواطنين، على المستويين الشعبي والنخبوي؛ بل على العكس
تماما، فقد واجه ويواجه منافسيه بشراسة لافتة ويحظى، في الوقت نفسه،
بشعبية قد تقوده مع حزبه إلى تشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة.
لم يقتصر المشهد الإسرائيلي في السنوات الخمس الأخيرة على طريقة ازدراء
نتنياهو نفسه لتفاصيل قضيته، بل تجاوزها حين وظفها في حربه من أجل
تقويض أسس منظومة الحكم الإسرائيلية، وفي طليعتها الجهاز القضائي على
تفرعاته؛ فدأب، بأساليبه الجهنمية والشعبوية، وبمساعدة فرقه الضاربة،
على تأجيج الأجواء وتأليب مؤيديه ضد مؤسسات الحكم والقانون، والطعن
بشرعيتها والتشكيك باستقلاليتها وبنزاهتها. لقد تقدم نتنياهو صفوف
معسكره في هذه الحرب، وكانت سياسته، في جميع محطاتها، هي الخميرة التي
ساهمت في تسريع اكتمال عملية الجنوح اليميني الفاشي، وفي تجسير الهوات
داخل شرائح المجتمع الإسرائيلي اليهودي، المتخاصمة والمتنافرة، وصهرها
معا لتندفع معا في شوارع الدولة وميادينها كسيل من اللاڤا الحارقة. لقد
أثارت هذه التطورات استياء عدد من الشخصيات الاعتبارية في صفوف النخب
الإسرائيلية، فأبدى بعضها، إلى جانب الاستياء، تخوفا على شكل الحكم
ومصير دولتهم نفسها، بينما تعاطى آخرون مع ظاهرة بنيامين نتنياهو كحدث
شاذ وعابر، مؤمنين بأن مؤسسات الدولة ما زالت قادرة على معاقبته
وتحجيمه وإنقاذ بُنى الدولة من «الفساد والعفن السلطويين» اللذين تمكنا
واستحكما في معظم أعضاء جسدها. ستسقط جميع رهانات هؤلاء قريبا؛
فالقضية، كما قلت قبل خمسة أعوام، ليست مقصورة على نتنياهو وزمرته، ولا
على مصيره السياسي، بل تتعدى كل ذلك إلى ما هو أعم وأخطر، حتى لو وسم
اسمه، في أوراق التاريخ، هذه الحقبة برمتها.
عرف آباؤنا كيف يكون البقاء في الوطن وكيف يجترحون آيات النضال
والصمود، حين فهموا أن القضية ليست محصورة في شخص من يقف على رأس
الدولة، بل هي في دمائنا
من أين تأتي شعبية نتنياهو العالية؟
في الواقع يقف حزب نتنياهو وراءه وقفة رجل واحد؛ وهذا بحد ذاته يُعد
حصادا متوقعا لما خطط له في العقدين الأخيرين، حين تعمد بمنهجية سافرة
استبعاد جميع القادة التقليديين التاريخيين في حزب الليكود واستقدام
شخصيات مغمورة «التاريخ والنسَب الحزبي»، وتجنيده بهذه الطريقة لفرق من
«الاستشهاديين» السياسيين المستعدين لافتداء «القائد المظفر» بكل ما
يملكون، ومهما فعل أو لم يفعل. وإذا راجعنا كيف تصرف هؤلاء وما صرحوا
به، لتحققنا من كونهم جنودا مخلصين في جيش نتنياهو، ولاكتشفنا عمق
الفوارق بينهم وبين من أسسوا حزب الليكود وقادوه ردحا من الزمن؛
فالنائب ميكي مخلوف زوهر، مثلا، لم يتورع عن تشبيه التحقيقات مع «قائده
المفدى» بعملية قتل رئيس الحكومة السابق إسحق رابين، أو كما صرح هو في
حينه: «لقد قلت في الماضي بشكل واضح إنه وكما أراد يچآل عمير إسقاط
الحكومة بشكل غير ديمقراطي، هكذا يفعلون لرئيس الحكومة نتنياهو من خلال
محاولات «تشويه وتلطيخ سمعته»، ففي حالة نتنياهو تكون «وسائل الإعلام
هي يچآل عمير وهي التي تحاول هدر دم الرجل من خلال ملاحقته، وهذا ما
يشعر به الشعب»، وفق تصريح زوهر مع بدء التحقيقات مع نتنياهو. لم يكن
هذا النائب وحيدا في تقمصه لشخصية الناطق باسم «الشعب»، مثل زعيمه،
وهجومه على «الآخرين»، فغيرُه أيضا تلفظوا بخطابات تحريضية خطيرة،
يمكننا من خلال التمعن فيها سبر ما يعتمد عليه نتنياهو أساسا لقوته
ولثقته. فالشعب هو الهدف الثابت في خطابه السياسي الأساسي، واسترضاؤه
هي المهمة الأسمى عنده؛ هكذا هو وهكذا علّم أتباعه، ويكفي أن ننتبه لرد
النائب زوهر، ولتأكيده الواضح والمستفز، عندما طالبه بعض زملائه في
الكنيست بالاعتذار عن أقواله السابقة، على أن مواقفه «واضحة ولن اعتذر
عن أقوالي، فأنا لست «ساذجا»، بل إنني أعكس ما يشعر به الشعب. أنا أمثل
مليون مصوت دعموا حزب الليكود، ويشعرون بأن البعض يحاول سرقة الحكم
منهم بطرق غير ديمقراطية». إنهم تلاميذ مطيعون يتكلمون كمعلمهم
ويحاولون مثله القفز عن مؤسسات الدولة ويتجاهلونها؛ فباسم «الشعب»
يدافعون عن «ديمقراطيتهم» ويدوسون الديمقراطية الحقيقية بنعالهم، وباسم
الشعب يخترعون «حقا» لهم وباسمه يستبقون النتائج وبقوته يبرئون زعيمهم،
ويلبسون دور «الضحية» وباسمها يهاجمون من ليسوا معهم، ومن لا يمتثلون
لأهوائهم ولرغبات زعيمهم. إنها مدرسة الولاء المطلق للزعيم القوي، التي
تعتمد خطاب «الديماغوجية الخالصة»؛ وطلابها هم البارعون في السعي إلى
بناء نظام يقف على رأسه «المعلم» الساحر القوي القهار الجبار القادر
على كل شيء، والمنزه عن المعاصي، والمغفورة كل زلاته وأخطائه؛ فهو
عندهم هذا «النتنياهو»، منقذ الشعب وحامي مستقبل الدولة من جميع
أعدائها في الخارج وداخلها.
إنها حالة تولد في عقل وحضن «الشخص»، ثم ما تلبث أن تصبح أكبر وأخطر
منه، تماما كما عرفنا التاريخ على مثيلتها؛ فنتنياهو قد يكون اليوم
المشكلة الكأداء، لكنه قد يختفي أو ينتهي دوره بقرار قضائي أو بغيره،
ولكن «الحالة» التي هندسها وأرسى مفاهيمها باقية، وهي مشكلتنا
الحقيقية؛ فهو قد أصبح قائدا «معبودا» داخل شرائح وقطاعات واسعة بين
الشعب، لأنه عرف كيف يزرع مفاهيمه في «جيوبهم» ويصل منها إلى قلوبهم
ومن هناك ليتحكم في قبضات أياديهم. إنه، باختصار، القائد «الملكي»
القادر على استمالة قلوب بسطاء شعبه، أسوة بعقول أصحاب المال وعتاة
العدة والعتاد، وأن يتحدث أمامهم فيشعرهم بأنهم «أسياد الكون» وبأنه
معهم يقفون على «أنف الدنيا» وعلى رأس دولة لا تجارى بقوتها؛ ثم
يأسرهم، بلغة جسد وبخطابية فذة لا يفت من صلابتها سجن مفترض، ولن توقف
مدها قضبانه التي يراها من ورق. فإسرائيله/ اسرائيلهم، كما يردد في
جميع المناسبات، هي أم التقدم والتفوق في جميع مجالات الحياة؛ فهي ربة
القوة والجيش التي لا تتحداها قوة، وهي قلعة الاقتصاد المنيعة التي
تشهد لها مكانة شيكلها في أسواق عملات الأمم، وهي سيدة العلوم
والتكنولوجيا التي أصبحت مكانتها مثالا بين القارات والدول، وأسماء
جامعاتها تدرج إلى جانب أفضل وأعرق جامعات الدول المتحضرة الأخرى. إنه
القائد الذي يعرف ماذا يريد وكيف يحصل على ماذا يريد، ولكن..
سينتهي قريبا النظر في جميع ملفات نتنياهو المنظورة أمام القضاء
الإسرائيلي، وسنعرف ما إذا ما زال يوجد في إسرائيل قضاة يتجرأون على
إدانة هذا «الزعيم»؛ لكنني، وبعيدا عن أية نتيجة سيصل إليها قضاة
المحاكم، أنصح بألا ننتظر مصير نتنياهو الشخص، وألا نركن على عدل لم
ينصف ضحايا نتنياهو ومَن سبقوه من زعماء شاركوا، كل بمفاهيمه، في تعبيد
طرق القهر والقمع والعنصرية التي أوصلتنا حتى الفاشية الناجزة في
أيامنا. فمأساتنا، نحن المواطنين العرب، بدأت بعيدا في الزمن، ولنقل مع
«البنغوريونية» وقبلها، واستفحلت من عصر إلى عصر حتى تفاقمت في عصر
«النتنياهوية». لقد عرف أباؤنا كيف يكون البقاء في الوطن وكيف يجترحون
آيات النضال والصمود، وذلك حين فهموا أن قضيتنا لم تكن محصورة في شخص
من وقف على رأس الدولة، بل هي «أبعد من ذلك في دمائنا»، فليس بن غوريون
كان المشكلة إنما «البنغوريونية»، ولا شارون كان القضية، بل
«الشارونية»، واليوم لن يكون الحل مع أو ضد غانتس أو لبيد أو نتنياهو،
بل في فهمنا وفي جاهزيتنا، عربا ويهودا، لمواجهة «النتنياهوية»
ومتحوراتها القاتلة المقبلة لا محالة.
كاتب فلسطيني
القائمة المشتركة:
سيل نزّاز خير من نبع مقطوع
جواد بولس
تتوقع معظم استطلاعات الرأي محافظة القائمة المشتركة على قوتها الحالية
في البرلمان الإسرائيلي. ويعتبر البعض ذلك إنجازاً، خاصة في ضوء
استمرار حملات التهجم عليها من جهة الأحزاب الصهيونية ومؤسسات دعايتها
المضادة والموكلة بالتشكيك في شرعية القائمة، وفي مصداقية قادتها، وفي
نجاعة مواقفهم لمصلحة ناخبيهم وقضايا المواطنين العرب في إسرائيل.
سيبقى نجاح حملات تلك القوى الصهيونية ضد القائمة المشتركة محدودا
وقابلا للدحض وللتفنيد؛ بيد أن استعداءها من قبل مراكز قوى عربية محلية
والتهجم عليها، تارة من قبل وكلاء سياسات الدولة الداخليين، وتارة أخرى
من قبل جهات لا تؤمن بحاجتنا، كمواطنين في الدولة، للاشتراك في
انتخابات البرلمان الصهيوني – سيبقى هو العامل الأكثر خطرا على قوة
القائمة وعلى إمكانية بقائها في ميدان العمل البرلماني الإسرائيلي.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد من مخطط قادة
أحزاب اليمين الصهيوني بالقضاء على جميع الأحزاب العربية الناشطة بين
المواطنين العرب، عن طريق رفع نسبة الحسم إلى مستوى لا يستطيع أي حزب
عربي تجاوزه لوحده، ورغم سوء نية الحكومة الإسرائيلية فقد تبيّن، من
باب لا تكرهوا شيئا عساه خيرا لكم، إن قرارها المذكور أتاح عمليا فرصة
نادرة لتغيير نمط العمل السياسي القائم، منذ عقود، بين المواطنين العرب
والمعتمد على البنى الحزبية التقليدية؛ إذ بات بمقدور قادة الأحزاب
ومؤسساتها، الانتقال إلى العمل المشترك من خلال بناء جبهة سياسية عريضة
تضم جميع القوى السياسية التي يستطيع قادتها التوافق على برنامج سياسي
واضح يستهدف، أولا وأخيرا، التصدي لسياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه
مواطنيها العرب والوقوف مع شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.
عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل
نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما
لم تستطع الأحزاب والحركات السياسية بناء القائمة على أسس الشراكة
الجبهوية التنظيمية الضرورية؛ فاكتفى قادة مركباتها الأربعة – الجبهة
الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب التجمع الديمقراطي، الحركة العربية
للتغيير والقائمة الإسلامية الموحدة – بالاتفاق على خوض معركة
الانتخابات بقائمة واحدة، لا بسبب خوفهم من عتبة الحسم القانونية وحسب،
بل استجابة «لإرادة الجماهير» التي كانت في شوق إلى العمل الوحدوي ولمّ
الشمل في واقع سياسي خطير ومرير، حسبما صرّح به قادة القائمة قبل
تشكيلها، وتباهوا فيه بعد أن حصدت القائمة خمسة عشر مقعدا في انتخابات
عام 2015. لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين
والمراقبين والناشطين السياسيين، فاتّهم بعضهم قادة الأحزاب بالتصرف
الانتهازي الذي من شأنه أن يؤدي إلى شلّ العمل الحزبي نهائيا، وإغراق
المواطنين في حالة العزوف السياسي المنتشرة بشكل مقلق وواضح بين
المواطنين؛ بينما تمنى الآخرون على قادة تلك الأحزاب أن يتصرّفوا بنضوج
وبمسؤولية أكبر، من أجل بناء إطار تنظيمي جامع ومتين، يكون في هذه
المرحلة، الأداة السياسية العصرية القادرة على تصميم وهندسة مفاهيم
نضالية جديدة تتلاءم مع جميع المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة
الأساسيين، اليهودي والعربي. لم يحصل هذا، واعتقد أنه لن يحصل رغم
انسلاخ القائمة الموحدة الاسلامية عنها؛ فالقائمة المشتركة ولدت وبقيت
في غرفة الإنعاش؛ ولا يعكس تردد أزماتها الداخلية، حقيقة كونها وعاء
سياسيا غير ناضج لمواجهة واقعنا المستجد، ولا وسيلة غير كافية تنظيميا
لمواجهة سياسات الدولة وأمراضنا الاجتماعية الذاتية فحسب، بل هو مؤشر،
جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها
المواطنون العرب في إسرائيل.
قد يدّعي البعض أن تكرار المعارك الانتخابية في السنوات الاخيرة،
بوتائر غير مسبوقة في إسرائيل، شكّل عائقا أمام قادة القائمة المشتركة
ومؤسسات أحزابهم، ومنعهم من دراسة تجربتهم وتقييمها بشكل معمق، ومن
التوصل إلى خلاصات ومخرجات تمكنهم من تطويرها نحو ما أمّل منها. قد
يكون ذلك صحيحا، ولكن واقع تلك الأحزاب البائس وأمراضها المزمنة، تبقى
شواهد على عجزها عن تطوير هياكلها وتحديث برامجها السياسية، وهذا يشمل
جميع تلك الاحزاب – خاصة ما يدور في دهاليز الجبهة الديمقرطية، وهي
أكبر وأعرق هذه الأحزاب – التي لم يشعر قادتها، للأسف، بما سببه ويسببه
قصورهم، من نشر أجواء عدمية الانتماء السياسي، وما خلّفته هذه الحالة
من محفزات خطيرة ومحبطة، ساعدت على تفكيك اللحمة الاجتماعية داخل
مجتمعاتنا، وعلى تنامي مظاهر العنف والتطاول والتحدي، التي بتنا نراها
وهي تعبث في أمن مواقعنا وسلامة «قلاعنا» وتفسد ما كنا نعتبره محرما
سياسيا ومرفوضا اجتماعيا.
أتمنى أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في التوصل إلى بناء قائمة مشتركة
قوية، فأزمة القائمة المشتركة كما عاشها المواطنون في السنوات الأخيرة،
أكّدت بوضوح وعرّت أحد أعراض الأمراض الخبيثة التي تتغلغل في جسد
مجتمعاتنا، وهو غياب «مؤسسة القيادة» الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة
التجربة والأثر، والمستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة
العامة على المصالح الشخصية والفئوية. إنها أخطر ما يؤثر في حياتنا؛
وهي الحالة التي أدت، في نهاية المطاف، إلى تقزيم مكانة «لجنة المتابعة
العليا» وإلى تشويه وتحييد دور «اللجنة القطرية لرؤساء البلديات
والمجالس العربية» وغيرها من التنظيمات التي كانت من المفروض أن تشكل
كيان المجتمع المدني القوي والمتين. لن يختلف اثنان على أن السياسات
العنصرية الإسرائيلية حاربت، منذ البدايات، جميع محاولات إنشاء
المؤسسات القيادية العربية الوطنية، وسعى أصحاب تلك السياسات، بالتالي،
لإفشال تلك المؤسسات الرائدة، أو لنزع الشرعية عنها، أو لخلخلتها من
الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فقد فشلوا
ونجح القادة الآباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بإنشاء
«لجنة المتابعة العليا و»اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس
العربية»، اللتين تحولتا، إلى جانب سائر المؤسسات المدنية التقدمية
والأحزاب والحركات الوطنية، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت
راياتها ويلتزمون بحدودها، لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية
ومطعّمة بمضادات قوية كانت تصد كل جسم غريب وتوقفه عند حده. واليوم،
كما نرى، خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر حتى بتنا نتمنى أن ينجح
الساسة ببناء «قائمة مشتركة» حتى لو كانت عرجاء ومنقوصة. فعقالنا آمنوا
بالحكمة الشعبية «نزازة نازلة ولا نهر مقطوع». ولا يمكننا طبعا أن ننهي
الحديث عن المشهد السياسي الحالي من دون أن نتطرق لنداءات مقاطعة
الانتخابات؛ سيان إن جاءت النداءات على خلفيات عقائدية، قومية أو
إسلامية، أو لأسباب سياسية لم أسبر كنهها ونجاعتها في معظم الحالات.
من الواضح أن الكثيرين ينادون بالمقاطعة عن إيمان بمواقفهم، ويبررونها
أمام أنفسهم والغير، برضا وبقناعة كاملين، ولا ينادون بها بسبب
معارضتهم لمبدأ الاندماج، كما يسمونه، وحسب، ولا من أجل إقصاء
المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة إقصاء يحلم به عتاة اليمينيين
العنصرين؛ ولكن ستبقى ذرائعهم محض مغامرة سياسية أو وهمية أو مجرد
اختيار للأسهل، إلّا اذا زوّدونا بتفاصيل خياراتهم السياسية العملية
المعلنة والواضحة، التي من شأنها أن تكون بديلا للنضال البرلماني، مهما
كانت نتائجه ومنجزاته محدودة، فالمقاطعة لوحدها واعتماد تكتيكات ردود
الفعل الموسمية لن تشكل برامج كفاحات كفيلة بالتصدي لسياسات الحكومة
الفاشية المقبلة بنجاعة أكبر مما نحن عليه اليوم.
على من يتخلى عن خيار النضال البرلماني المتاح له طوعيا، أن يواجه
جماهيره ببدائله العملية؛ فتحويل جميع الناس إلى مؤمنين مسيسين في حركة
دينية سياسية، قد يعدّ إنجازا لقادتها، لكنه لن يفضي إلى القضاء على
سياسات إسرائيل القومية العنصرية أو عليها ككيان متسيّد في المنطقة.
أولم يعلمنا السلف فوائد بعض القطران وضرورته؟ كذلك فإنّ عدم الاعتراف
بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني،
لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما. لقد قلنا ونكرر
إن الشعوب المقهورة عرفت خلال مسيراتها النضالية خيار مقاطعة مؤسسات
الدولة الاستعمارية أو العنصرية، وسلكت طرقا نضالية أخرى منها العنيفة
ومنها السلمية، مثل أساليب العصيانات المدنية. فهل ينادي قادة التيارات
الدينية والقومية إلى جانب مقاطعة الانتخابات بمثل هذه الأساليب؟
لنسمع ونفهم ونناقش..
كاتب فلسطيني
حمّى
البحر المتوسط
جواد بولس
«هزمتك يا موت الفنون جميعها..» هكذا قال محمود درويش
لم تعد أخبار إلغاء النشاطات الفنية على أنواعها في مدننا وقرانا
العربية حدثا يسترعي أي التفات مجتمعي، لا ولا بحدّه الأدنى. وتمرّ هذه
الأخبار، على الأغلب، من دون أن تحدث ضجّة أكبر من ضجة سقوط شجرة عالية
في غابة بعيدة، لا يسكنها بشر.
من المؤسف أننا كمجتمع ناضل وما زال يناضل من أجل نيل حرّياته
الأساسية، ومن ضمنها، تاريخيا، حرية الإبداع والكتابة والإنتاج الفني،
قد استسلمنا لظاهرة القمع الخطيرة؛ فما زال أبناء جيلي يتذكرون كيف
لاحقت المؤسسة الإسرائيلية الأمنية جمهرة المبدعين المحليين في محاولات
لم تنجح، رغم قسوتها، بإخراس أصوات «شعراء الحب والمقاومة»، أو قمع
المسرحيين الأوائل، أو إسكات المغنيين الشعبيين، سواء كانوا حداة
استنفرت حناجرهم أكف الشباب وحميّتهم دفاعا عن الكرامة والعزة وضد
الطغيان، أو كانوا مطربي أفراح يستحضرون الفرح العربي الشقيق ويرقّصون
الليل على أغان كتبت أصلا في مديح الأرض والثورة وحب الوطن. كنا مجتمعا
يحب الحياة ولا يقدّس الموت وثقافته.
قد يحسب البعض أن التطرق لهذا الموضوع ونحن على أعتاب خوض معركة
الانتخابات للكنيست الإسرائيلية هو اجتهاد غير موفق من ناحية التوقيت،
وإن كان يُجزي صاحبه أجرا واحدا؛ وقد يفتي غيرهم بأن التعاطي مع الفنون
وقمعها ليس بالأمر الملحّ وأمامنا مهام جسام، في طليعتها مواجهة مأساة
استشراء العنف في شوارعنا، وتفشي عمليات القتل على خلفياتها المعهودة:
فإمّا ثأر موروث، أو عرض مدّعى، أو إجرام مستحدث ومستجلب إلى حواضرنا
المنكوبة. لا يستطيع عاقل وحريص أن يقبل بمثل هذين الادعاءين أو ما
يشبهما، وأن يترك، بسبب ذلك، قضية قمع الحريات الاجتماعية واضمحلال
مساحات الحيّزات العامة ومكانة «ساحات البلد» في تراثنا المجيد؛ فمن
يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع
الدولة من أجل نيل حرّيته، فالأولى به أن يصونها داخل بيته وفي حاراته
وداخل مجتمعاته، وأن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراها، مهما
كانت المسمّيات والذرائع. لا يمكن أن نجزّئ حالة الفوضى التي تسود
مجتمعاتنا، فهي كلٌّ عضويّ متماسك بمتانة، يغذي طرفُه الواحد طرفَه
الآخر؛ كذلك لا يكفي بأن نتمسك بإلقاء كامل المسؤولية على إسرائيل
ومؤسساتها. فالدولة مسؤولة من بابي البداهة وواجبها تجاه مواطنيها؛ بيد
أنها، كما نعرف وكما نتّهمها بحق، غير معنية بضمان سلامة مجتمعاتنا
وغير قادرة على تأمين تلك السلامة. ورغم أهمية ذلك، سأكتب اليوم عن
الفرح وعن الرجاء، وسأترك «التنغيص» لمقالات مقبلة؛ فتناول تبادلية
العلاقات بين إسرائيل العنصرية وتقصيرها الممنهج بحق مواطنيها العرب،
وواجبات مجتمعنا تجاه نفسه، سيبقى موضوعا حيّا، في الوقت الحاضر وفي
المستقبل، وعلينا معالجته بجرأة وبمسؤولية تستوجبان تفكيك نقاط اشتباك
تلك العلاقة مع عادات وأعراف مجتمعاتنا الاجتماعية المحافظة الموروثة
طوعا وابتهالا. لن ننجح بتناول هذه الإشكالية بجدية مؤثرة، من دون أن
نخوض بموضوعية في مكانة أنظمة الثأر القبلي والعائلي، التي ما زالت
نافذة بيننا منذ تبنتها القبائل العربية قبل «قانون يثرب» وبعده؛ ولا
أقلّ منها وجعا جرائم قتل النساء باسم «شرف العائلة والقبيلة» المنتشرة
في مواقعنا العربية؛ والسؤال ما علاقة الدولة وتأثيرها في هاتين؟
لن أكتب اليوم عن هذه المواجع، بل سأكتب عن الفن ومبدعيه الذين يحاولون
بأدواتهم تحطيم تلك «الشواهد» وحث الناس على الغضب وعلى ألا يستسلموا
لليأس، ودعوتهم للثورة على واقعهم البائس. دعاني مطلع شهر نيسان/إبريل
المنصرم الكاتب والفنان عفيف شليوط مؤسس ومدير «مسرح الأفق» لحضور
مسرحية بعنوان « أنتيغوني تنتفض من جديد»، التي كتبها وأخرجها بنفسه،
وعرضت على خشبة مسرح حيفا. تحاكي فكرة هذه المسرحية الأساسية، حكاية
أنتيغوني، بطلة مسرحية سوفكليس الخالدة، التي رفضت الانصياع لقرار ملك
«كريون» وتحدّته مصرّة على التصدي لشرور الطغاة والمجرمين، من خلال
تسليط الضوء على مكانة القانون والحدّ بين حق الحاكم إزاء حق الشعب.
من يؤمن ويطالب بحريّاته يجب أن
يعرف أنها لا تتجزأ؛ ومن يقاوم سياسات قمع الدولة من أجل نيل حرّيته،
يجب أن يقف في وجه من يحاول سلبها عنوة واكراها
يعتبر لجوء المؤلف عفيف شليوط،
لايحاءات المسرحية الإغريقية و»موتيفاتها» مغامرة جريئة لما تتطلبه من
إلمام وإحاطة بذلك الموروث المهم؛ فالعودة إلى أدب الإغريق العريق
وحبكات مسرحيات كباره، كسوفوكليس، فيها من المخاطرة قسط ومجهود كبيران
لاستعراض ممكن لامتزاج الثقافات، لاسيما فيما تركته القديمة من تجارب
إنسانية وقيم خالدة.
تطرقت المسرحية إلى أكثر من محور، لامست هموم حياة مجتمعنا، وفي
طليعتها قتل «انتيغوني الجليلية»، التي مثلت دورها الممثلة روضة
سليمان، بيد شقيقها «دفاعا» منه عمّا يسمّى «بشرف العائلة». تنتفض
انتيغوني حيفا على عادات المجتمع البالية، وتسعى من أجل نيل حقوقها،
وهي تعرف ما قد يكون الثمن. إنه قتل ككل القتل، فلا شرف فيه، بل انصياع
أعمى لربة الظلام الدامس والعالم السفلي؛ هي «كاوس» عند الإغريق
القدامى. أما في الثلاثين من شهر تموز/يوليو الفائت، فقد دعتني المخرجة
مها الحاج ابنة مدينة الناصرة، لحضور العرض الأول، في البلاد، لفيلمها
الجديد «حمّى البحر المتوسط» الذي عرض مؤخرا في مهرجان «كان»
السينمائي، ونالت عليه، ضمن مسابقة «نظرة ما»، جائزة أفضل سيناريو. لقد
تعرّف العالم على مها الحاج بشكل واسع بعد صدور فيلمها الطويل السابق
«أمور شخصية» عام 2016، حيث لفتت من خلاله نظر النقاد والمتابعين،
ونالت عنه جائزة «آرشي» في مهرجان فيلادلفيا السينمائي، وجوائز أخرى.
لن أفي، في هذه العجالة، حق مها الحاج وإبداعها المتميز، ولا عملها
الحالي الفذ، ويكفي، تعبيرا عن تجربتنا، ما شعرنا به حين خرجنا مع
نهاية الفيلم، قرابة خمسمئة مشاهد. انسللنا إلى خارج القاعة بخشوع،
وكأننا نترك معبدا، معبّئين بمزيج من مشاعر الغبطة والغضب والحزن. لم
نحمل داخلنا يأسا ولا مشاعر بالضياع، رغم مأساوية مواضيع الفيلم. كانت
علاقة وليد الكاتب المصاب بالاكتئاب الشديد، الممثل عامر حليحل، بجاره
جلال، الرجل العابث بالحياة ظاهريا، والمتورط في الخفاء في عالم
الإجرام، الممثل أشرف فرح، معقدة وغريبة؛ وقد مرّت بمحطات عديدة وقفنا
معهما في جميعها لنتعرف إلى دواخل نفسية الفلسطيني حين يصاب بالاكتئاب
وأسبابه، ويبقى محبا لعائلته ولوطنه؛ وانكشفنا، كذلك، على شخصية وقعت
ضحية لعالم إجرامي قاس لا يعرف حدودا، كما تعيشه مجتمعاتنا المحلية.
حاول جلال أن يغرق وليد في شباك متاهاته، والتحايل، من جهة أخرى، على
عبثية واقعه الحقيقي بتتفيهه وامتصاصه، دون أن يعرف، أو ربما عرف، أنه
الفريسة، لكنه كان يؤمن «بأن الموت لا يخيف بل هي الحياة التي تخيف».
أدّى الممثلون أدوارهم بإقناع وقد تميّز بشكل لافت الممثلان عامر حليحل
وأشرف فرح. لقد تعرضت مها الحاج – كاتبة سيناريو الفيلم أيضا – إلى
قضايا مهمة يعيشها ويعاني منها المجتمع في حياته اليومية. ولولا
حذاقتها المهنية بحبك العسير وبالاخراج، لكنا شاهدنا مقاطع متقطعة
مصورة من يوميات مجتمع صغير يمضي أفراده أيامهم بهامشية بائسة عادية،
قد تتكرر في مواقع أخرى؛ لكنها، بمهارة المبدع الخلّاق، أجادت جدل
ضفائر مرايانا بأسلوب «السهل الممتنع»، فتناولت رزمة من عناوين
اجتماعية كبيرة وصهرتها ببوتقة أنيقة حتى تلقيناها، نحن المشاهدين بفرح
عظيم. لم تتركنا نتيه عند مفترق ملتبس، ولا نغفل للحظة؛ فعندما سافرت
داخل التراب الوطني «سيّلته» في نفوس أبطالها بطبيعية غير مقتحمة وغير
مبتذلة، ثم رتقت عليه، ببراعة رسام ملهم، قصصا حقيقية، كعلاقة الرجل
بالمرأة ومكانة الدين في حياة الناس ودور المدارس في تنشئة أطفالنا
وجمالية جغرافيا بلادنا وغيرها من المشاهد التي جمّعتها بانسيابية
ورقّة مرهفة، فظهرت أمامنا كرسم بديع، أجمل من تلك «الجرة اليونانية».
لن استطرد في رواية أحداث الفيلم كيلا أفسد على القراء متعة مشاهدته
عندما سيتاح للجمهور الواسع؛ لكنني سأقفل مقالتي بما كتبته لمها الحاج
مباشرة بعد خروجي من صالة العرض في حيفا، واستميحها عذرا لأنني أفعل.
قلت «أيّتها المها. شكرا على دعوتنا لحضور العرض. ما زلت أحاول استيعاب
روعة ما شاهدناه قبل أن أقول لك ما أرغب أن أقول لك. خرجت من الصالة مع
شعور باعتزاز شخصي ومزهوّا كأنني صاحب هذا الإنجاز المشرّف، فلك الشكر.
حاولت أن أضبط مشاعري أمام الحضور ففضحني قلبي، ووشت عيناي بما حبسته
في صدري، فلك الشكر. فرحنا رغم الغصة، تماما كما يجدر بالإبداع أن يعمل
بالنفس البشرية، فلك الشكر. فدومي للعطاء هبة وسيري على دروب الشمس
والنجوم، وعانقي المدى هناك عند حفاف الورد والندى.. نحبك».
كدت انهي مقالتي عندما وقعت عيناي على خبرين مزعجين متزامنين، الأول
يفيد بأن لجنة الطاعة في جامعة بن غوريون في بئر السبع ستنظر في شكوى
ضد الطالبة العربية «وطن ماضي» بسبب قراءتها قصيدة لمحمود درويش خلال
يوم ذكرى النكبة الفلسطينية الأخيرة؛ والثاني يفيد بأن بلدية مدينة
عربية قررت منع إقامة حفل للفنان تامر نفار، ابن مدينة اللد، بسبب
مضامين أغانيه التي لا تتوافق وذائقة المجتمعات المحافظة، حسبما جاء في
الخبر.
قرأت؛ حزنت وعدت لاحضان «أنتيغوني «و»حمّى البحر المتوسط» وأملي…
كاتب فلسطيني
وقفة
عابرة
على
عتبة الكنيست
جواد بولس
لقد حسمت، على ما يبدو، القائمة
الإسلامية الموحّدة قرارها بخوض الانتخابات المقبلة للكنيست
الإسرائيلية، لوحدها، من دون أن تحاول فحص إمكانية وجود أية فرصة
للانضمام إلى تركيبة القائمة المشتركة؛ وهما القائمتان العربيتان
الوحيدتان اللتان ستخوضان الانتخابات، مع حظوظ واقعية لعبور عتبة الحسم
والفوز بأربعة أعضاء كنيست، في حالة القائمة الموحدة، وبأكثر من ذلك في
حالة القائمة المشتركة. لقد كان هذا القرار متوقعا ومتوافقا مع ما كان
يصرح به رئيس هذه القائمة الدكتور منصور عبّاس، وهو مدعوم من قبل مجلس
شورى الحركة الإسلامية الحاضنة الشرعية للقائمة وراعيتها.
بالمقابل ما زال أقطاب القائمة المشتركة، وهم الجبهة الديمقراطية
للسلام والمساواة، وحزب التجمع، والحركة العربية للتغيير، يتباحثون حول
مصير قائمتهم وشكلها، في أجواء تتجاذبها نزعات المناورة حينا،
والتطمينات حينا آخر، وتأكيدهم على أنهم لا يتعاطون مع قضية محاصصة
المقاعد في هذه المرحلة، بل إنهم يحاولون التوصل إلى أفضل التفاهمات
حول أمور أكثر جوهرية، من شأنها أن ترضي جمهور الناخبين وتقنعهم بضرورة
المشاركة في عملية الانتخابات ودعم قائمتهم.
سيبقى التحدي الكبير في وجه
القائمتين، الاسلامية الموحدة والقائمة المشتركة، هو إقناع المقاطعين
بضرورة اشتراكهم في الانتخابات
على الرغم من أن الصورة التي تتحرك
أمامنا على مسرح السياسة الإسرائيلية تبدو مشابهة لتلك التي كانت
موجودة قبل عام، وفي جميع الجولات الانتخابية التي تكررت منذ ثلاثة
أعوام؛ إلا أنني اعتقد أننا نقف أمام مشهد مغاير، وفي مرحلة مصيرية بكل
ما يتعلق بطبيعة الأحزاب اليهودية وهوياتها وبرامجها السياسية، التي
سيعملون، من داخل الكنيست، على تطبيقها في المستقبل القريب؛ ويكفي، كي
نفهم خطورة ما نحن مقدمون عليه، أن نقرأ عن قوة حزب سيجمع بين النائبين
اليمينيين المتطرفين بن جبير وسموطريتش، وتوقع استطلاعات الرأي بأن
يحصلا على ثلاثة عشر مقعداً. أمّا على ساحات المجتمع العربي فستكون هذه
الانتخابات حاسمة كذلك بالنسبة للقائمتين المشاركتين ولحزب الممتنعين
العازفين عن المشاركة في العملية الانتخابية. فالحركة الإسلامية ستخوض
أهم امتحاناتها وتحدياتها السياسية حين ستطلب مجدداً من المواطنين منح
نهجها الذي اختارته في الكنيست السابقة، الثقة والدعم وتمكينها من عبور
نسبة الحسم؛ وهذا سيعني، كما صرّح قادتها، مضيّها في ترسيخ مفهومها
الخلافي لمعنى المواطنة الإسرائيلية، وانضمامها مرة أخرى للائتلاف
الحكومي، إلا إذا لن يقبلها المؤتلفون في الحكومة الجديدة. وهذا احتمال
وارد في حالة انتصار الأحزاب اليمينية الفاشية، وتوليها مهمة تركيب
الحكومة المقبلة، وهي تعتبر الدكتور منصور عباس عدواً متساوياً مع سائر
زملائه النواب وجميع المواطنين العرب في إسرائيل. ومن جهة أخرى قد تكون
هذه الجولة الانتخابية هي آخر فرص القائمة المشتركة لتطوير مغازي
تجربتها، والتعاطي بمسؤولية مع الثقة التي منحها لها الناخبون، وتحويل
وحدة مركباتها من مجرد وسيلة تكتيكية تضمن نجاح الثلاثة أطراف في
الانتخابات، إلى صيغة عمل سياسي أكثر عمقاً قادر على تأطير المجتمعات
في قرانا ومدننا العربية، وراء حالة «جبهوية» جامعة وقادرة على النمو،
وعلى استنفار رغبات المواطنين السياسية واستعادتها للانخراط الفاعل
بشكل إيجابي وصحيح ومؤثر. وعلى الرغم مما تواجهه القائمة المشتركة من
انتقادات، تكون صحيحة أحياناً، ومن تهجمات مغرضة على الأغلب، نستطيع
تسجيل عدة ملاحظات إيجابية حول نشاط وأداء أعضائها داخل الكنيست
وخارجها؛ فمشاهد تصديهم لنواب اليمين العنصريين بثبات وبإصرار،
ومواجهتهم للتشريعات العنصرية بكرامة وبعنفوان أثبت أن ساحة الكنيست
تشكل أحد ميادين الصراع المهمة وحلبة نضالية يجب استغلالها والبقاء
فيها. لا يختلف عاقلان على أن العمل السياسي الوطني في الظروف السياسية
الهمجية التي تسود شوارع وفضاءات إسرائيل وفي الكنيست تحديداً، أصبح
معقداً وخطيرا وسيزيفياً إلى حد بعيد؛ ومع ذلك رأينا كيف دافع نواب
المشتركة عن معتقداتهم السياسية، من دون مهادنة أو تفريط، وحاولوا
الوجود في معظم نقاط التماس، ومع معظم ضحايا القرارات الرسمية
والقضائية الجائرة. لست ناطقا باسم القائمة المشتركة ولا باسم أعضائها،
لكنني أحاول، ونحن على أعتاب معركة طاحنة، أن أنصف ما فعله نوابها في
ظروف مستحيلة وحرصوا على تمثيل ناخبيهم بأمانة وبإخلاص.
سيبقى التحدي الكبير في وجه القائمتين، الاسلامية الموحدة والقائمة
المشتركة، هو إقناع المقاطعين بضرورة اشتراكهم في الانتخابات؛ مع أنني
اعتقد أن المنافسة بينهما قد تكون عاملا في زيادة نسبة المصوتين، خاصة
إذا استطاعت القائمتان عرض الفوارق المفاهيمية العميقة بينهما، ومعنى
حسم المواطنين بين النهجين، وتأثير ذلك في وجودنا في الدولة مستقبلاً.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اللجوء إلى لغة التشهير الشخصي
والتخوينات المباشرة، بين قادة ومصوتي القائمتين، لا يسعف الحالة، ولا
يساعد على تحقيق هدف القائمتين بإقناع الناس للذهاب إلى الصناديق،
بخلاف المحاججة المطلوبة وانتقاد المواقف الشرعية والواجب. يجب على
مركبات القائمة المشتركة إنهاء مباحثاتهم الداخلية بسرعة قصوى وعرض
قائمتهم وبرنامجها السياسي على الناخبين؛ فضرورة إشاعة أجواء الوحدة
والوضوح السياسي ستشكل عاملا في إقناع مجموعات كبيرة من الناخبين
المترددين أو المستائين، وإن كان هذا هو مطلب الساعة، فالتوصل إلى
حالات رأب الصدع ولم الشمل داخل مؤسسات الأحزاب نفسها لا يقل أهمية عن
ذلك.
نحن أمام خيارات صعبة؛ وقد تكون هذه آخر تشكيلة لكنيست إسرائيل، حيث
يستطيع فيها النائب أحمد الطيبي مثلًا، أو أحد زملائه في القائمة
المشتركة، بصفته رئيس جلسة، أن يأمر حرس الكنيست بطرد وزير عنصري يهودي
من منصة الخطابة وإخراجه بالقوة من القاعة؛ أو أن يصرخ النائب أيمن
عودة أو سامي أبو شحادة في وجه النواب الفاشيين بكل صرامة وحزم وعزة
وكرامة. قد تكون هذه المرة الأخيرة التي سيتسنى فيها للمواطنين العرب
انتخاب ممثلي هذه الأحزاب والحركات السياسية والدينية بشكل حر ومباشر،
وللتحقق مما أقوله أرجو أن يسمع ويدقق الجميع بما يصرح به قادة تلك
المجموعات الفاشية، وما تتوعد أن تفعله، مع أعداء الدولة، من داخل
الكنيست وخارجها. نحن مليونا مواطن عربي في إسرائيل، ونملك خيارات
نضالية قليلة، معظمها صعب ومكلف، خاصة في الظروف التي تواجهنا وتعيشها
مجتمعاتنا المحلية، نتيجة للواقع السياسي الخطير داخل إسرائيل، والذي
يحيطنا داخل الدول الشقيقة أو تلك البعيدة عن أحلامنا وهواجسنا. إنها
فرصتنا الحاضرة، فخيار النضال السياسي البرلماني هو أحد هذه الخيارات
وأكثرها إتاحة فيجب ألا نتنازل عنه وألا نهمله.
كاتب فلسطيني
ملاحظتان عن زيارة بايدن
جواد بولس
سوف ترى هذه المقالة النور أثناء وجود الرئيس الأمريكي على أرض
فلسطينية محتلة وقبل أن ينتقل لمحطة جولته الأخيرة في المملكة العربية
السعودية. لن يتوقف سيل التحليلات والتعقيبات التي يحاول أصحابها فهم
دوافع الإدارة الأمريكية من وراء هذه الزيارة، ولا ماهية أهدافها
المحددة؛ بيد أن معظم الذين تطرّقوا إليها أشاروا إلى أنها تأتي على
خلفية تدهور الحالة الاقتصادية الأمريكية وانعكاساتها على حياة
المواطنين الأمريكيين في مجالات الطاقة والبطالة وتخفيض قيمة الدولار؛
وأن الهدف الرئيسي، أو ربما الوحيد منها، سيعقد حول خصور صهاريج نفط
حكام المملكة السعودية، وفي مدى استعدادهم لمساعدة إدارة بايدن، التي
بمفهوم معين، تأتيهم صاغرة، اذا ما تذكرنا مواقف هذه الادارة تجاه ولي
العهد السعودي في أعقاب مقتل الصحافي جمال خاشقجي. في مثل هذه الحالة
تكون تعريجة الرئيس بايدن على إسرائيل وفلسطين مجرد غطاء دبلوماسي
تكتيكي، من شأنه أن يبرر تراجعه عن موقفه الأخلاقي المعلن بعد اغتيال
خاشقجي، والمتمسك به أمام حزبه وشعبه والعالم طيلة المدة المنصرمة
منذئذ.
أمّا على الساحة الإسرائيلية فسيرصد مردود الزيارة السياسي الفوري
لصالح معسكر رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد، ومن يُسَمّون، في قاموس
السياسة الحزبية الحالي، قوى «المركز واليسار الصهيوني»، علاوة على ما
قد تفضي إليه من اتفاقيات تعاون تجارية وصناعية، ستعزز الوشائج المتينة
القائمة بين النخب الحاكمة والمستفيدة في الدولتين، خاصة في مجالات
الصناعات الحربية والهايتك والسايبر.
التجاذب بين ما مضى وما سوف يكون لن يحسم إلا وفق إرادات الفلسطينيين
وإيمانهم بأن البقاء لصناع الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله
أقوى
لم أكن أنوي التطرق لتفاصيل هذه الزيارة، حيث ما زالت تداعياتها في
أوجها؛ إلا أنني ارتأيت تسجيل ملاحظتين عابرتين لهما علاقة مباشرة
بالقضية الفلسطينية، وبنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل. فعلى الرغم
من إجماع معظم من كتبوا على أن بايدن وإدارته لم يولوا القضية
الفلسطينية أية رعاية جدية، قبل وخلال هذه الزيارة، وأن كل ما فعلوه
وصرّحوا به لا يتعدى كونه ضريبة كلامية وحسب، وحتى لو كان هذا الكلام
صحيحا إلى حد بعيد، فإنني سأختلف، في هذه العجالة، مع هؤلاء، وسألجأ
إلى حكمة المتشائل الفلسطيني، وقناعته بأن التجاذب بين ما مضى وما سوف
يكون لن يحسم إلا وفق إرادات الفلسطينيين وإيمانهم بأن البقاء لصناع
الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله أقوى. أعرف أن الظلمة
حولنا خانقة، لكنني أعرف أيضا أن الناس في بلادنا بحاجة إلى جرعة أمل،
وإلى حزمة نور تفج عتمة أرواحهم؛ فدعوني، من باب التمني، أرى أن زيارة
بايدن لمستشفى المطلع في القدس الشرقية (وبعدها الانتقال لمقابلة
الرئيس محمود عباس في مدينة بيت لحم) قد تعني، في مآلات مستقبلية،
تأكيد الموقف الدولي القاضي بكون القدس الشرقية أرضا محتلة، خاصة إذا
أسقطنا معاني هذه «القفزة» شرقا، على إعلان بايدن حول موقف دولته بشأن
«حل الدولتين»، الذي يبقى حسب قوله «الطريق الأفضل لتحقيق السلام
والحرية والازدهار والديمقراطية للإسرائيليين والفلسطينيين»؛ مع إنني
لن أنسى، بالطبع، ما أضافه في هذا السياق، لافتا انتباهنا كيلا ننسى،
ومؤكدا على أنه يعرف «ان ذلك لن يحصل في المدى القريب»! كم نحن بحاجة
لروح ذلك المتشائل كي لا نهزم.
لقد تعمّد معظم المتحدثين الاسرائيليين الرسميين في خطاباتهم الترحيبية
القصيرة، في يوم الزيارة الأول، العودة إلى «التوراة» بما تؤكده، حسب
جميعهم، من متانة العلاقة بين شعب إسرائيل وأرضه والتزام الأمريكيين
وإداراتهم بأمن وسلامة وقوة إسرائيل وشعبها. وعلى الرغم من وضوح جميع
ما قيل وصحته في الوقت الحاضر، نجد أن بعض المعلّقين والمحللين
الإسرائيليين آثروا، في خضم مشاعر النشوة الإسرائيلية، تذكير متابعيهم
وقرّائهم بتشخيص مغاير يشي بوجود بدايات مأزق في ديمومة هذه «الزيجة
الكاثوليكية» وببروز أصوات معارضة لها، سواء داخل حزب بايدن نفسه، أو
في محافل أمريكية كثيرة أخرى، ومنها رؤساء عدة كنائس أمريكية (كان
آخرها الكنيسة المشيخية المهمة) بدأت تتنصل من «قدسية» تلك العلاقة
التاريخية، وطفقت تتحدث باسم الحق الفلسطيني الإنساني، وضد الاضطهاد
الإسرائيلي للفلسطينيين. إنها قضية طويلة ومعقّدة تستحق العناية الخاصة
والفائقة. وقد أشرت في الماضي إلى ضرورة إقامة جسم فلسطيني مكوّن من
خبراء متخصصين في دراسة ومتابعة علاقات الكنائس بالقضية الفلسطينية،
بدءا من الفاتيكان ومرورا بأمريكا وغيرها من الدول التي سمعنا من كنائس
كثيرة فيها مواقف داعمة ومؤثرة لصالح القضية الفلسطينية وحقوق
الفلسطينيين المسلوبة. أمّا عن علاقتنا، نحن عرب الداخل، بهذه الزيارة
فقد لفت انتباهي خبر أفاد بأنه من المتوقع أن تحرز زيارة بايدن
للسعودية اتفاقا يسمح بموجبه للحجاج المسلمين الإسرائيليين بالسفر إلى
السعودية من مطار بن غوريون إلى جدة مباشرة. وهي خطوة ستؤكد عمليا
سلامة مراسيم التطبيع واكتماله بين المملكة السعودية وإسرائيل، التي
تكون قد اهتمت بتمثيل مصالح ما يقارب المليونين من مواطنيها العرب. لن
نخوض في هذه المسألة قبل حدوثها؛ مع أن البعض كانوا قد أثاروا في
الماضي حساسية قضية اشتباك تحريم «التطبيع» مع تأدية فريضة الحج، في
حالة المواطن الإسرائيلي المسلم؛ خاصة عندما قورب بين هذه الحالة ومنع
الأقباط المصريين، أو غيرهم من مسيحيي الدول العربية، من تأدية مناسك
الحجيج إلى كنائسهم المقدسة: المهد والقيامة والبشارة وغيرها.
قد نكون في عروة قضية جانبية وهامشية؛ ولكن، إن كان التفات مهندسي
السياسة الإسرائيلية إلى جزئية تسهيل مراسم الحج، يدل على أنهم يخططون
عمدا، في حالتنا، كي يصبح المواطنون المسلمون في إسرائيل جزءا من
الرزمة السياسية الشرق أوسطية العامة، ومشاركين في عملية التطبيع التي
يسعون إلى ترسيخها مع النظام في المملكة العربية السعودية، فلماذا لا
نستغل هذه «المكيدة» لإحراج حكام إسرائيل وحلفائها، السعودية وأمريكا
وجميع الأنظمة المشاركة معهم، ونتوجه إلى جميعهم، كأقلية قومية تطالب
بحقوقها، ونحاول توريط الإدارة الأمريكية مع الحكومة الاسرائيلية، في
عرض مطالبنا المواطنية التي تتعدى حق المواطنين المسلمين بقضاء فريضة
الحج، هذا على افتراض أن هذا الحق يعلو على فرض تحريم التطبيع، كما كان
الوضع عليه منذ عام 1948 حتى عام 1978.
أعرف أن موقف بعض الأحزاب السياسية والحركات الدينية تحرّم التواصل مع
الإدارات الأمريكية الكافرة، بالنسبة لبعضها، والمعادية لحقوق الشعوب
ومصالحها؛ وقد تكون التجارب التي شاهدناها وعشناها في العقود الماضية
أفضل برهان على صحة هذا الموقف؛ علما بأنه تاريخيا كانت لتلك الشعوب،
أو الأقليات المضطهدة، وبضمنها الشعب الفلسطيني ومنظمة تحريره، ملاذات
آمنة يلجأون إليها كي يضمنوا قسطًا من توازن القوى ويتجنبوا
الهزائم. لن أستعرض محطات سقوط الأنظمة والمجتمعات منذ نهاية ثمانينيات
القرن المنصرم لغاية أيامنا، والتي تخطت فيها أنظمة كثيرة في العالم،
الموحّد وغير الموحّد، محاذير الحديث عن التطبيع مع إسرائيل، وشرعنوا
بدله بناء التحالفات معها من النخاع للنخاع. في مثل هذا الواقع، الذي
تضمحل فيه خياراتنا النضالية وتزداد أوضاعنا سوءا يوما بعد يوم، أنا
أسأل: لماذا تعجز قياداتنا عن التفكير في وسائل مبتكرة جديدة وخارجة عن
المألوف وعن بعض التابوهات الصدئة؟ ماذا لو أعدّت هذه القيادات ورقة
«عرضحال» وقدمتها لبايدن خلال زيارته وهي شاملة لحقوقنا المسلوبة
ولممارسات حكومات إسرائيل المتعاقبة ولسياسات القمع والاضطهاد العنصري
الذي مورس ويمارس ضدنا، خاصة أننا نتوقع تفاقم هذه الأوضاع بعد
الانتخابات المقبلة، رغم زيارة بايدن وإمكانية تجييرها لصالح معسكر
«المركز واليسار الصهيوني». ماذا لو جرّبنا وحاولنا التأثير في أنظمة
أثبتت انزياحها لصالح إسرائيل، خاصة في وضع صارت فيه معظم أنظمة العالم
قريبة من إسرائيل ومن أمريكا.
إنها مجرد أفكار حضرتني من وحي واقع عبثي ومأزوم. كنت قادرا على لعن
الظلام، لكنني حاولت أن أشعل شمعة في زمن كله ليل وصحراء ورصاص وموت.
كاتب فلسطيني
هواجس أوّلية
قبل معركة ساخنة
جواد بولس
يتأهب المجتمع العربي داخل إسرائيل لخوض معركة الانتخابات العامة
المقبلة، وهو يعيش حالة من الفوضى السياسية المحبطة، ويعاني من عدة
مشاكل اجتماعية مستفحلة، في طليعتها، طبعا، استشراس مظاهر العنف والقتل
في معظم قرانا ومدننا العربية؛ وليس أقل منها خطورةً تلك التصدعات
البارزة في الهوية الجمعية، وتناثر مشاعر انتماء المواطنين العرب بين
مرجعيات متنافرة وولاءات متعددة ومختلفة.
لا أعتقد أن التصويت على حل الكنيست فاجأ المنخرطين في اللعبة السياسية
البرلمانية، أو مَن توقعوا، منذ اليوم الأول لإقامة حكومة الرأسين،
نفتالي بينيت ويائير لبيد، حتمية فشلها، واستحالة صمودها في الواقع
الإسرائيلي المتأزّم.
ورغم ما بدا جليّاً منذ أكثر من عام، لم تسْعَ الأحزاب والحركات
والمؤسسات الناشطة داخل المجتمعات العربية، إلى استشراف ما يتوجب فعله
مباشرة بعد سقوط الحكومة، وكيف سيواجهون المرحلة المقبلة.
قد يبرر البعض أسباب هذا الشلل الفكري والتنظيمي، بعدم حصول أي
متغيّرات على الحالة الإسرائيلية العامة، فما سيكون هو ما كان؛ وليس
مطلوب منا ، نحن العرب، إلا أن نعيد «هندمة» صفوفنا التي كانت، ثم نمضي
بها نحو مستقبلنا المجهول. فعلى أقطاب «القائمة المشتركة» أن يجدوا،
مرّة أخرى، معادلة أرخميدس الساحرة، التي ستسعفهم في تخطي مأزق
المحاصصة المزمن، ويزفّوا ، بعد ذلك، بشراهم لأبناء الشعب، ويهيبون
بهم، باسم الوحدة والمثابرة، للخروج إلى صناديق الاقتراع والتصويت
لقائمتهم. أمّا مجلس شورى الحركة الإسلامية فسيلتئم، مرات ومرات،
وسيعصف أعضاؤه بأفكارهم، حتى ينجحوا بتذليل جميع العقبات الفقهية
ويفكّكوا معظم التساؤلات الشرعية، ويشهروا فتواهم القاضية بضرورة خوض
المعركة المقبلة والدخول، من أجل مصلحة الأمة، إلى الكنيست ومنها إلى
حكومة إسرائيل، داعين السماء ألا يكون الحاخام دروكمان من عرّابي
الحكومة المقبلة، فهو فيما قرأنا، لا يثق بالعرب، سواء كانوا من «
أيمن» أو من «عبّاس»، حتى لو أغرقه العباس بالعسل ووعده «بالقصب». من
المستحيل طبعاً أن يوافق عاقل على مثل هذا التشخيص والتسويغ؛ فحالة
الشلل الفكري والتكلس التنظيمي مستأصلة منذ سنوات، داخل هياكل الأحزاب
والحركات والمؤسسات السياسية الفاعلة بيننا في إسرائيل؛ بينما هي حالة
من الجمود العقائدي الملازم لبعض الحركات الإسلامية السياسية الناشطة
في شرقنا. فشق الحركة الإسلامية الشمالية سيتمسك أكثر وأكثر بموقفه
الداعي لمقاطعة الانتخابات، وسيعزز هذه المرة، حججه التاريخية
المعروفة، بما يصفونه انحرافاً خطيراً مارسته، باسم الانتماء الإسلامي،
الحركة الإسلامية الجنوبية حين كانت ترتمي في حضن أعداء الأمة؛
وبالمقابل ستواجه الحركة الإسلامية الجنوبية هذه الانتقادات والهجوم
بسيولة فكرية إسلاموية معهودة، شاهدنا مثلها في تاريخ الصراعات الحديثة
والقديمة، وسيتسلّح قادة هذا الشق، في سبيل تسويق مفاهيمهم الذرائعية،
وتحليل ححجهم النفعية، بإسنادات فقهية من إنتاج شيوخ هذه الحركة، كما
فعلوا في السنة المنصرمة. ما زال من المبكر تناول خريطة الأحزاب
العربية واليهودية التي ستخوض الجولة الانتخابية المقبلة؛ لكنني رغم
ذلك، أستطيع أن أتوقع صعودا في قوة تيّارين يكملان بعضهما بعضاً، من
حيث التأثير على نسبة التصويت للأحزاب العربية:
سنواجه معركة انتخابات قد تمحق نتائجها كثيرا من الروابط والمفاهيم
القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة علاقاتنا مع الدولة، وستفرض
علينا، تحدّيات لم نشهدها من قبل
الأول هو تيار الداعين إلى مقاطعة الانتخابات. لقد قلنا في الماضي عن
هذا التيار، ونكرر اليوم إنه لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات
الداعية إلى مقاطعة الانتخابات؛ لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر
والتفرس في التجارب السابقة، أن نفترض أن الفئة الأولى والأكبر هي تلك
التي تلتزم بموقف عقائدي، شخصي أو حركي، على اختلاف مظلاته، مثل أتباع
«الحركة الإسلامية الشمالية»، أو أتباع حركات قومية لا تؤمن بشرعية
نضال المواطنين العرب في البرلمان الصهيوني – وقد برز من بينهم
تاريخياً أتباع «حركة أبناء البلد» على تفرعاتها – أو الناشطون في
«الحراكات الشعبية» التي بدأنا مؤخراً نلمس تأثيرها المحدود في بعض
المواقع بين أوساط شبابية، ثم إلى جانبهم سنجد مجموعات من المقاطعين
الآخذة أعدادهم بالتنامي، بعد أن أصابهم السأم من الحالة السياسية
العربية، فقرروا العزوف والابتعاد عن «ساحة البلد»، خاصة أنّ تكرار
جولات الانتخابات لم يفض لأي مخرج حاسم في المشهد السياسي العام، ولا
لأي تغيير جوهري في البنى السياسية والمؤسساتية العربية. وقد لا يضير
إن أضفنا إلى جميع هؤلاء مجموعات صغيرة، لكن مؤثرة، من الحزبيين
«الزعلانين» والمحتجين على تنظيماتهم، أو غيرهم من المدمنين على الرفض
العبثيين والمزايدين.
أما التيار الثاني الذي تتنامى قواه ومكانته في قرانا ومدننا العربية،
فهو ذلك الذي نجحت «قياداته» المحلية وأوصياؤهم في إشاعة أجواء العدمية
القومية، وتتفيه الحاجة لحرص المجتمعات على صيانة هويتهم الجمعية،
ونجحوا كذلك بالتحريض على شرعية القيادات والمؤسسات التاريخية، وعلى
دورها في رسم معادلة التوازن السليم بين المواطنة والوطنية وتصويب
بوصلة المواجهة الرئيسية ضد سياسات الاضطهاد والقمع التي مارستها، وما
زالت تمارسها الحكومات الإسرائيلية؛ وقد يكون في طليعة هذا التيار،
رؤساء بعض البلديات والمجالس المحلية، وبعض كبار رؤوس الأموال، وبعض
الشرائح الاجتماعية المنتعشة بفضل سياسة حكومة إسرائيل المقصودة،
وغيرهم كثيرون.
لن تكفي هذه العجالة كي نعالج دوري هذين التيارين وما قد يحرزانه في
المستقبل القريب، وكيف تتفاعل المؤسسة الإسرائيلية إزاءهما؛ لكن من
الغباء ألا نرى كيف يتغذيان ويستقويان داخل مجتمعاتنا، بسبب ضعف حالة
الأحزاب والحركات السياسية التقليدية، التي، كما قلنا، لم تجر هيئاتها
أي مراجعة جدية ومسؤولة، ولم تتخذ أي خلاصات أو عبر، على الرغم من وضوح
الانزلاق داخل مجتمعاتنا، ورغم سقوط القلاع وخسارة معظم الكوابح
السياسية والهوياتية والقيمية. ليست الأحزاب والأطر السياسية وحدها
المسؤولة عما وصلنا إليه من حضيض؛ فمؤسسات المجتمع المدني وجمعياته
والنخب التي تسيّدت على فضاءاته، كان لها دور مركزي في «تعويم» الحالة
النضالية وزجها في «غرف انعاش» وهمية وفي «عوالم افتراضية» لم يستفد من
معظمها مجتمعنا، بل بقيت عوائدها عليه محدودة، في حين استفادت منها
كوادر تلك المؤسسات. سنواجه معركة انتخابات شرسة قد تمحق نتائجها
كثيراٍ من الروابط والمفاهيم القديمة التي كانت تعرّف وتحدد طبيعة
علاقاتنا مع الدولة، وستفرض علينا، إن تحققت، تحدّيات لم نشهدها من
قبل. لا أعرف كيف سنخرج من هذا المرجل سالمين، خاصة إذا بقينا عالقين
بين فكوك ثلاث معضلات رئيسية ذات علاقات متبادلة، تؤثر جميعها في
مستقبلنا وفي ظروف حياتنا؛ فالعنف والإجرام المنظم المستشريان داخل
مجتمعاتنا، والخوف الذي يسببانه بين المواطنين من جهة، وضعف الأحزاب
السياسية والمؤسسات المدنية وغياب دورها في تأطير وحماية المجتمع من
جهة ثانية، وأهمية المشاركة في العملية الانتخابية بكونها ممارسة لحقنا
الأساسي في المواطنة المتساوية، خاصة بعدم وجود بديل كفاحي أكثر شمولية
وواقعية لها، هي قضايا مرتبطة عضوياً ببعضها بعضا، وعلى من يهمه مصير
وسلامة مجتمعاتنا أن يواجهها بمسؤولية وحزم، ومن دون رياء ولا وجل.
سأتطرق إلى هذه الموضوعات في مقالات مقبلة؛ لكنني أود، من باب الحرص،
أن أؤكد، أن للمواطن حقاً في مقاطعة الانتخابات، مع أنني أرى أن واجب
الفرد المواطني الأساسي ووظيفته الاجتماعية والسياسية الاحتجاجية
يلزمانه بالمشاركة في الانتخابات؛ أقول ذلك وأعرف أن إسرائيل ما زالت،
منذ يومها الأول ولغاية الآن، تحاول إقصاءنا مرّة، وابتلاعنا حيناً،
وتفتيتنا أحياناً، وأعرف أيضا أننا لن ننتصر على هذه السياسة
والممارسات «بنضالنا» في ساحة البرلمان لوحده؛ لكنني، رغم ذلك، أجزم
بأن أوضاعنا ستسوء أضعافًا مضاعفة إذا ما حملنا بأنفسنا «صحيفة
المتلمس» – وفيها حتفنا – ونزحنا عن هذه الساحة، التي هي ساحتنا.
كاتب فلسطيني
غافلون على رصيف
معركة إسرائيلية جديدة
جواد بولس
رغم جميع محاولات المحافظة على استمرار عمل حكومة الرأسين، نفتالي بينت
ويئير لبيد، لم ينجح أقطابها بمنع سقوطها، تماما كما توقع لها الكثيرون
منذ اليوم الأول لولادتها.
لن تكون مهمة البحث عن أسباب فشلها صعبة؛ ويكفي، من أجل ذلك، إلقاء
نظرة خاطفة على التنافرات السياسية الجوهرية والعقائدية القائمة بين
جميع مركباتها الحزبية، مع التأكيد على ضرورة استثناء وجود القائمة
الإسلامية الموحّدة ضمن تلك التناقضات، لأنها، وفق تصريحات قادتها منذ
انضمامهم للحكومة وحتى يومنا هذا، باقية في الإئتلاف الحكومي، رغم كل
التعقيدات والعقبات، ومستعدة لدخول أي إئتلاف حكومي مقبل.
من الصعب أن نتكهن ماذا سيتمخض عن هذه الأزمة المستمرة منذ سنوات وكيف
ستكون الخريطة الحزبية السياسية الإسرائيلية بعد جولة الانتخابات
المقبلة؛ بيد أننا نستطيع أن نجزم بأن جنوح المجتمع اليهودي نحو
اليمينية الأصولية الدينية الصهيونية، سوف يتعزز بشكل واضح، مقابل
تقهقر مكانة ما كان يسمى تاريخيا بأحزاب المركز، واختفاء أحزاب اليسار
الصهيوني التقليدية. ستحاول الأحزاب حاليا استنفاد جميع المناورات من
أجل المحافظة على هذه الحكومة، أو تشكيل واحدة جديدة من دون الذهاب إلى
صناديق الاقتراع؛ لكنني اعتقد بأننا سنواجه المعركة الانتخابية قريبا،
وسنسمع خلالها الأصوات نفسها الداعية إلى مقاطعتها، من جهة وفي مقابلها
سينشط دعاة الانخراط في الأحزاب الصهيونية بحجة ما تؤمّنه هذه الخطوة
من عوائد مادية على «مجتمعاتنا الفقيرة» بعكس الشعارات «الفارغة» التي
تسوّقها الأحزاب العربية وقياداتها. ومن المؤكد أن تخوض القائمة
الموحدة الاسلامية الانتخابات المقبلة بناء على رؤيتها وتبنيها للنهج
الذرائعي الراسخ والنفعي المعلن، وقد تُعزّز صفوفها باستجلاب شخصية
جديدة بدل النائب مازن غنايم، ابن الحركة القومية سابقا، الذي لن يترشح
معها، كما أعلن في الأخبار. لا أعرف إذا كانت القائمة المشتركة ستخوض
المعركة المقبلة بتشكيلتها الحالية نفسها، أو أنها سوف تجري تعديلات
عليها؛ علما بأن ضعف قواعد مركباتها الثلاثة معروفة للجميع، مع الإقرار
بأن الجبهة الديمقراطية للسلام تبقى أقواها من دون منازع.
رغم أننا نشكل خمس عدد سكان الدولة، ستكون المعركة الانتخابية المقبلة
يهودية – يهودية؛ وستحسِم نتائجها شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام
الحكم فيها
على الرغم من أننا نشكل خمس عدد سكان الدولة، ستكون المعركة الانتخابية
المقبلة معركة يهودية – يهودية، وستدور رحاها، بشكل أساسي، داخل
المجتمع الإسرائيلي؛ وستحسِم نتائجها شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام
الحكم فيها. أقول هذا متأسفا على غياب دور المواطنين العرب في التأثير
في شكل نظام الحكم بسبب فقداننا لعناصر قوتنا الطبيعية والتاريخية، يوم
كانت الأغلبية تتصرف كمجتمع توحّده هوية راسخة، وهموم وجدانية متفق
عليها؛ رغم اختلاف الرؤى السياسية والحزبية بين من تصدروا المواجهات مع
سياسات الاضطهاد الحكومية وضد التمييز العنصري، وكافحوا بوسائل أجمعوا
على معظمها، ومن خلال بنى تنظيمية أثبتت حيويتها ونجاعتها بإثارة
جاهزية الجماهير وقيادتهم في معارك الصمود والتحدي. هنالك من يتنكرون
بإمعان مستفز للتغيّرات الجذرية التي عصفت في هياكل مجتمعاتنا؛ ولعل
أهمها هو انحسار، حتى اندثار، مكانة الأحزاب والحركات السياسية
التاريخية، التي لعبت دورا أساسيا في تنمية الوعي العام السليم، وتوجيه
بوصلة الصراع دائما نحو العدو الأول لمصالح المواطنين، وهي سياسات
القمع والاضطهاد العنصري. ويجب ألا ننسى أن من أعظم مآثر قيادات ذلك
الزمن الذهبي، وفي طليعتهم قادة الحزب الشيوعي وعدد من القيادات
الوطنية، كان تصميمهم على بناء المؤسسات والأطر المدنية والنقابية
والسياسية، التي كانت ضالعة في بناء الكيانية الجمعية للأقلية
الفلسطينية الباقية في وطنها، وتطوير مجساتها الوطنية المنيعة. لقد
كانت اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس المحلية، من أهم تلك
المنجزات؛ وهي الإطار الذي كان موكلا، حسبما خطط له، بتوحيد صوت
المجالس والبلديات والارتقاء بمكانتها التمثيلية كي تعمل كحكومات محلية
منتخبة من قبل المواطنين، ولتدافع عن «قلاعها» في وجه السياسات
الحكومية العنصرية. وإن كانت «اللجنة القطرية» ذراع المواطنين المدنية
وحصن حقوقهم المواطنية؛ فإلى جانبها تأسست «لجنة المتابعة العليا لشؤون
المواطنين العرب» التي أقيمت كي تكون الخيمة الكبرى التي تجتمع تحت
سقفها كل الأطر والمؤسسات والأحزاب والحركات الناشطة بين الجماهير، في
سبيل رص صفوفها وتوحيد كلمتها والدفاع عن حقوقها السياسية والقومية.
وطبعا لا يمكن أن نغفل دور «لجنة الدفاع عن الأراضي» وباقي الأطر
النسوية والطلابية والنقابية التي لعبت دورا سياسيا نوعيا موحدا بارزا
في تلك السنوات.
لم يكتف قادة ذلك الزمن الأكفاء ببناء تلك التنظيمات والمؤسسات، بل
رأوا بضرورة جمعها تحت «راية عليا» مهمة كبرى، فدعوا إلى عقد «مؤتمر
الجماهير العربية» الذي كان يفترض أن يتمخض عنه الإطار الأعلى لقيادة
المواطنين العرب، وهو ما يشبه «حكومتهم الأم»، على ما كانت ستفضي إليه
هذه الخاتمة من تبعات على مستوى العلاقة مع الدولة ومكانة الأقلية
العربية فيها. لقد أحس قادة إسرائيل «بالخطر الداهم»، فقرروا حظر
انعقاد المؤتمر وأعلنوه نشاطا خارجا على القانون، ثم وضعوا مخططاتهم
لضرب منجزات القيادة، فشرعوا بضعضعة مكانة اللجنة القطرية وإفراغها من
مضامينها الأساسية، حتى إنهم نجحوا بذلك إلى حد بعيد؛ ثم حاصروا «لجنة
المتابعة العليا» محاولين نزع شرعيتها تارة، وخلخلتها من الداخل تارة
أخرى إلى أن وصلت لحالة ضعفها الحالية. لا أريد أن أسترسل في سرد
محطّات تاريخ هذه الانهيارات، لكنها وصلت اليوم إلى ذروتها، حيث نرى
هياكل أحزاب متكلسة وأجساد حركات ممزقة ومؤسسات ضعيفة لم تعد قادرة على
القيام بما عقد عليها من آمال ومهام.
في مثل هذه الأوضاع سوف نذهب إلى المعركة الانتخابية المقبلة وسنكون
أضعف مما كنا عليه في المعركة السابقة، وسنستمع إلى البيانات الممجوجة
نفسها من جميع الأطراف. حركتان إسلاميتان تحاول كل واحدة منهما إقناع
المصوتين المسلمين بأنها صاحبة الصراط المستقيم والهداية الحسنى؛
فالحركة الجنوبية ستستغيث بالمصوتين مدّعية سعيها ووقوفها إلى جانب
فقراء الأمة وحقوق بسطائها، حتى لو اختار قادتها الوقوف على عتبات
السلاطين كبينيت أو نتنياهو أو بن- جبير. والحركة الإسلامية الشمالية
ستتوعد وتنذر المنحرفين وتدعو إلى مقاطعة الناخبين وتبشر بالفرج القريب
للعالمين. أمّا معظم الشيوعيّين المتنفذين في رسم سياسات الحزب
فسيهتفون بنشوة على الرصيف المقابل، وكأنهم ما زالوا واقفين على «نون»
نجمتهم الحمراء وينكرون أنهم أسقطوا، منذ ضاعت موسكو، مطارقهم،
والمناجل صارت في أيدي بعضهم حصادات تقص أخضر الدولارات وتقطع «رؤوسا
قد أينعت»، ويلاحق مطوّعوهم «الخوارج» والمعارضين لمواقفهم، وسنسمع
القوميّ من على منابر القصب يدعو إلى «أندلس وقد حوصرت حلب» ويبيع
نفطنا في «حارات أسياده السقايين العرب». سوداوي أنا، وأكتب من حبر
واقعنا؛ لكنّها معركة كتبت علينا ويجب أن نخوضها. لماذا وكيف، وما
الفوائد والبدائل؟ سنعود إلى ذلك قريبا.
كاتب فلسطيني
سيصير خليل
عواودة يوما ما يريد
جواد بولس
وصلت إلى مكتب المدعي العسكري في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم
الاثنين الفائت. كنت على ميعاد معه لمناقشة ملف الأسير الإداري خليل
عواودة، المحتجز في عيادة سجن الرملة بحالة صحية خطيرة للغاية.
لم أنتظر طويلا عند مدخل المحكمة العسكرية في معسكر عوفر؛ فما أن وقفت
أمام الباب الخارجي، وقبل أن أصرخ على الحارس، سمعت طنين القفل
الكهربائي المتواصل، الذي يشبه موسيقى المونيتور المزعجة، حين يتوقف
قلب المريض الموصول به، فدفعته وتقدمت نحو الحارس الذي كان ينتظرني وهو
يشق بجسده الكبير الباب الحديدي ويرحب بي بحفاوة وباحترام. تساءل،
مبديا قلقا، حول غيبتي الطويلة عن المحكمة؛ فطمأنته بعجالة، وشرحت له،
ببضع جمل مقتضبة، أنني مررت بأزمة صحية أجبرتني على الابتعاد قليلا،
وأخبرته أنني أحاول أن أجد مرفأ جديدا يكون أكثر هدوءا ووفاء، ويقبلني،
وأنا بكامل بياضي، لألقي على أرصفته معاطفي القديمة، وفي مياهه مرساتي
الثقيلة. كان ينظر وفي عينيه بريق خافت، فقلت له: «ببساطة أريد
الانصراف عن عالمكم الرصاصي الكثيف، حيث يختبئ الموت تحت ألف قناع
وعين، والقهر يمارس عهره بجنون يومي وعادي». لم أشعر بأن الحارس فهم كل
كلامي؛ لكنه بدا مرتاحا وراضيا، فأدخلني وتمنى لي يوما جميلا وناجحا؛
شكرته على كل حال، فهو لا يعلم طبعا أن دعوته، إن أصابت، ستعني عمليا
نجاحي بإبطال أمر الاعتقال الإداري ضد الأسير خليل عواودة المضرب عن
الطعام منذ خمسة وتسعين يوما.
مشيت ببطء وبتثاقل ممتثلا لأوامر رئتي؛ فالشمس، هنا فوق فلسطين
المحتلة، هي أيضا في خدمة الاحتلال، وأشعتها مسلطة على رؤوسنا كمسلات
من نار محفورة عليها رسائل غضب السماء وصور لأشباح هزيلة. كنت أقطع
باحات المحكمة مطرقا في ترابها، وكأنني لا أريد أن أتذكر كيف ريقت على
أديمها دموع الأمهات الباكيات مصائر أكبادها، ولا كيف ديست أرواح
الإنسانية بسهولة فجة ومستفزة. كنت ألهث كفجر خريفي يحاول أن يهرب من
ليل فاحم، وأتهيأ لمواجهة يومي. كان الطريق أطول بكثير مما ألفته خلال
سني عملي في هذه المحكمة، لكن رائحته بقيت كما كانت، حامضة كالقيء. كان
النائب العام شابا نحيفا طويل القامة صارم القسمات، كما يليق بجندي
يمثل احتلالا عاتيا. وقف باسطا يده لتحيّتي، فسلمت عليه. كان يبتسم
بمودة متأنية ومدروسة. عرض عليّ مشاركته بشرب فنجان قهوة مردفا، أنه
تعرّف عليّ أول مرة قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، حين كان جنديا
إداريا يعمل في مكتب المدعي العسكري العام في وزارة الجيش في تل- أبيب،
وكنت أتردد على المكتب لمناقشة بعض الملفات التي كنت موكلا فيها
وأتابعها. كانت مقدمته فاتحة مشجعة وإيجابية. ثم انتقلنا بعدها للأهم،
فسألني ماذا أريد؟ أجبته من دون تردد وبسرعة: «الإفراج عن خليل
عواودة»؛ وأضفت: «إنني على قناعة بعدم وجود سبب حقيقي لاعتقاله إداريا،
خاصة أن قوات الأمن سجنته في البداية وحققت معه حول منشور، كان ألصقه
على صفحته في الفيسبوك حيّى فيه انطلاقة الجبهة الشعبية، رغم أنه لا
ينتمي إليها؛ بعد التحقيق معه أنزلت بحقه لائحة اتهام عزت له تهمة
التحريض، ومعها طلب لتوقيفه. رفض القاضي العسكري توقيفه حسب طلب
النيابة وأمر بإطلاق سراحه.. لم تطلقوا سراحه، بل قمتم، كما في كثير من
هذه الحالات العبثية، بإصدار أمر اعتقال إداري بحقه لمدة ستة شهور،
بذريعة أنه ناشط في حركة الجهاد الإسلامي، من المفروض أن تنتهي مدة هذا
الأمر في السادس والعشرين من الشهر الجاري». سمعني بإصغاء وأجاب
باقتضاب: «أنت تعرف، من تجربتك الغنية والطويلة، أننا، نحن في النيابة
العسكرية، لسنا العنوان الحقيقي لهذه الملفات؛ فأوامر الاعتقالات
الإدارية يوقع عليها قائد الجيش ويصدرها وفق توصيات جهاز المخابرات
العامة، ثم نتولى نحن مهمة الدفاع عنها أمام قضاة المحاكم العسكرية
فقط، لكننا لسنا المخولين بإلغائها أو بتغييرها». لم تفاجئني إجابته،
لكنني اعترضت على طريقة إدلائه بها بصورة روبوتية خالية من أي منطق ومن
أي قدر لاحترام الذات. تركت مكتبه بهدوء خاسرٍ يعرف كيف يحتضن كبرياءه
ويداري ربيعها، ولم أتلُ عليه، كما كنت أفعل مع من سبقوه في ماضي
السنين، دروس الضحايا وماذا بعد عنجهية الطغاة؛ فهو ومثله جميع من
ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني
للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء.
جميع من ولدوا في حضن الخوذات ودفيئات البطش، يحسبون أن التاريخ ينحني
للأقوياء، سادة الزمن ووكلاء عدل السماء
على حاجز صغير قبل مدخل سجن الرملة أوقفني سجّان أسمر بدا عليه النعاس
والملل، سألني، بلغة تشبه العبرية، عن مقصدي وقبل أن يسمع إجابتي رفع
ذراع الحاجز وأشار بيده موجّها إياي إلى موقف السيارات. أدخلوني إلى
ردهة السجن بسرعة نسبية، فاستقبلني، من وراء الزجاج، سجّان تصرّف معي
بلطافة لافتة لأنه يسكن في بلدة جليلية لي فيها أصدقاء كثر. انتظرت بضع
دقائق حتى مرّت سجّانة، فوافقت أن تصطحبني إلى عيادة السجن. أنهيت
الفحص الأمني من دون عثرات، ومشينا فسبقتني برشاقة مقصودة. حاولت أن
أتبعها من دون فائدة. كانت تنظر وراءها، من حين إلى حين، لتطمئن أنني
هناك، وليبتسم شبابها، تبسمت مثلها، فالتبس عليها الأمر وعَبَست. دخلتُ
مبنى العيادة الذي يشبه باقي أقسام السجن. أعطيت تفاصيل بطاقتي الشخصية
واسم موكلي للسجان، فطلب مني أن أدخل إلى غرفة الزيارة لافتا انتباهي
إلى أن حالة خليل الصحيّة متضعضة، فعليّ ألا أرهقه بالكلام. أحضر خليل
وهو جالس على كرسي متحرك.. تركه السجان وراء الزجاج وغادر الغرفة. رفع
رأسه وفتح عينين متعبتين وجفنين منهكين. كان ضعيفا جدا وشعره خفيفا.
كانت ملابسه تفضح خسارته ثلاثين كيلوغراما من وزنه، وصفرة وجهه تنذر
بخطورة المرحلة التي وصل إليها. وضعت كفي على لوح الزجاج الذي كان يفصل
بيننا ففعل مثلي وانفرجت شفتاه عن أسنان بيض كالصباح، ثم قال ضاحكا:
«لقد كبرت الجاكيت عليّ..» وحاول أن يمنع سقوطها عن جسمه. نقلت له سلام
الأهل والأحبة فرأيت نورا يشع من جبينه، ومضينا في رحلة، تمنيت ألّا
تنتهي إلّا وهو معي بالسيارة. لماذا أنت مضرب يا خليل؟ ساأته وأضفت:
لقد وصلتَ إلى مرحلة خطيرة تواجه فيها احتمال الموت المفاجئ في كل
لحظة! أخذ نفسا عميقا، كمن يحاول الإفلات من موجة عالية واستجمع بقايا
روح وقوة وقال: «أريد حريتي؛ فهذا الاعتقال عبثي بامتياز. لقد اعتقلوني
إداريا في الماضي لمدة ستة وعشرين شهرا وأفرجوا عنّي عام 2016. التحقت
بعدها بالجامعة لدراسة الاقتصاد وأقمت عائلة ومضيت نحو المستقبل كأي
إنسان حر يريد أن يعيش بكرامة وبسعادة في كنف عائلته وبلده وأهله. لقد
اعتقلوني وحققوا معي حول منشور عادي نشرته على صفحتي فقرر قاض عسكري أن
يفرج عني، لكنهم قاموا باعتقالي إداريا بصورة كيدية وانتقامية، فقررت
أن أخوض هذه المعركة انتصارا لكرامتي وللحرية وبالنيابة عن كل احرار
العالم». كان صوته يأتيني عبر الهاتف متقطعا وضعيفا، وكان يتوقف عن
الكلام أحيانا ليتقيأ، فهو لا يشرب إلّا الماء منذ زهاء تسعين يوما،
ويشعر بأوجاع شديدة في عضلاته وفي منطقة الصدر، ويشكو من عدم انتظام في
نبضه ومن رؤية ضبابية. تحدثنا كصديقين عتيقين حول مفهوم وصحة النضال من
خلال الإضرابات الفردية عن الطعام، رغم ما تسببه أحيانا من إرباكات، أو
إحراجات للبعض وللحالة الوطنية العامة. وتحدثنا عن خلّة الوفاء الذي
يؤمن بضرورة وجوده كعماد لصيانة الهوية النضالية الفلسطينية، وتطرّقنا
إلى منابت الفرح الذي يحاول هو أن يزرعه كل ليلة في أحلامه وكيف يجرحه
ظلم الإنسان للإنسان.
كان خليل أمامي حرا كالأمل، وكان يحدثني عن هواجسه وأحلامه ورؤاه بكل
صراحة وحب؛ وكنت أمامه حرا حتى حدود الدمع. فهمت أنه كان يقرأ ويحب ما
أكتب، خاصة ما نشرت في شؤون الأسرى والإضرابات الفردية عن الطعام. وإنه
يؤمن بأن هذه المعركة التي يخوضها، وهو على حافة الدنيا، بحاجة إلى
فوارس يجيدون الركوب على حصانين ويمضون بهما في وجه الريح ونحو نهاية
المدى؛ فحصان يعدو في ميادين قضاء الاحتلال العبثي، لكنه غير آبه
للخسارة، وحصان يصهل في وجه العدم وأمام جميع الأمم. كان كلانا يعرف أن
النصر قد يتأخر أو حتى لن يجيء، لكننا نعرف أيضا أن هزيمة الإرادة هي
أقسى الهزائم وأشدها بؤسا.
كان صوته خافتا كالصلاة وكلامه بطيئا وواثقا؛ وكانت بسمته مطبوعة في
الهواء. وحولنا نسمع ترددات صدى وصوت ينشد «سأصير يوما ما أريد/ سأصير
يوما طائرا، وأسلّ من عدمي وجودي.. أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي
وعن نفسي، لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى»… جلست وراء مقود سيّارتي
وهممت بالرجوع إلى القدس، أحسست أنني كطائر حبيس. على المقعد بجانبي ما
زال الكتاب الذي كنت أقرأ فيه مفتوحا على صفحة تنتهي بجملة كتبها بطل
الرواية لأصدقائه تقول: «هناك دائما وقت للرحيل حتى لو لم يكن ثمّة
مكان تذهب إليه». وبدأت رحلتي من جديد.
كاتب فلسطيني
القدس بعد
)عهد
الفيصلية(
جواد بولس
كما في كل عام، منذ واحد وعشرين عاما، يحل شهر أيّار/مايو على القدس
ومعه تذكارات من رائحة الملح المخبأ في شقوق الزمن، وأصوات نايات حزينة
تنساب همسات خافتة في عروق حجارة أسوارها. القدس، مأوى الملائكة ومساكن
الغضب، لا تعرف طعما للحزن ولا كيف يكون الندم؛ إنّها ابنة ذاك الأزل،
تغفو على زنوده السماوية المقدّسة وتصحو كغزالة الأساطير المذعورة بعد
صخب حفلة صيد وحشية.
هي القدس، أعود إليها في أواخر كل ربيع متعبا من غدر الفصول ووداع
الأحبة؛ وأيار ينسلّ، بقهقهاته مختالا، إلى حيث محارق الأمل، تاركا على
أسوارها تناهيد فجرها المذبوح، وتمتمات الأرامل، وعذاباتها. كان
أيارنا، عندما كنا نزوّج المطارق للمناجل، بئرا لعرق الفقراء والبسطاء
والكادحين، وشريانا لدمائهم الطاهرة، فصار، مذ «أكل أهل الشرق أثداءهم»
شهر القهر والردى، يأتي ليذكرنا بجهالتنا وبالحكمة الغائبة، ولينكأ جرح
القدس المفتوح، منذ سافر فيصل الحسيني حامي أحلامها وناطور قلاعها، في
رحلته الأخيرة نحو تلك الصحارى الغادرة.
سيبقى لذكرى رحيل فيصل الحسيني وهو في قمة نشاطه وعطائه، طعم من
المرارة المتجدد؛ وذلك ليس لأننا توقعنا، في حينه، أن خسارته الفادحة
لن تعوّض وحسب، بل لأننا شعرنا بأن تغييبه، في الظروف المعقدة التي
كانت تواجهها مدينة القدس تحديدا، فرض تساؤلا منطقيا حول الذين كانوا
المستفيدين من واقعة رحيله والتخلّص من دوره المفصلي في التصدي الناجح
لمعظم المكائد التي حيكت ضد القدس وضد مكانتها كعاصمة فلسطينية فرضها
فيصل والمقدسيّون معه على وجدان العالم وفي الحياة اليومية. لم يكن ذلك
الأمر ممكنا لولا ما تحلّى به فيصل من خصال مميزة ورؤية ثاقبة ومصممة
على ضرورة بناء الهوية المقدسية الفلسطينية الوطنية الجامعة، وإسباغها
على جميع سكان المدينة، الذين تسربلوها، برضا وبعزة، وتصرفوا بحمايتها
ودافعوا عنها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وأمام جميع أعدائها من
الخارج والمدسوسين. فلماذا فيصل؟ من السهل أن نجيب على ذلك، كما فعل
الكثيرون مرارا؛ لأنه كان إنسانا نقيا بامتياز، ومحاورا سياسيا دمثا
وحذقا وحكيما، ومناضلا شرسا وعنيدا من أجل كرامة المقدسيين وحرّياتهم.
لقد شهدَت لفيصل شوارع القدس كلها وساحاتها؛ وعرفته جميع المنابر
الدولية التي كان يستقبل فيها ببالغ الاحترام وبحفاوة ظاهرة، تماما كما
يجب أن يستقبل القائد الذي يعرف كيف يسخّر جميع جوارحه ومجساته في سبيل
الفوز في المعركة، أو في تفادي الهزيمة المتوقعة. لقد تحلّى فيصل بجميع
تلك الصفات، لكنّه تعمّد تخصيبها بمزايا «فيصلية» إضافية هي التي
أدخلته إلى قلوب الفلسطينيين، وجميع المقدسيين طبعا، ومكّنته حتى أصبح
فارس القدس المحبوب وحامي مظلتها الأمين وضابط مسطرتها الوطنية، التي
«بشفرتها» رسمت الحدود بين الخيانة وعكسها. ومن تلك المزايا كانت
قناعته بأن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين هي ظاهرة طبيعية
ومقبولة، شريطة ألا تتحول هذه الاختلافات إلى خلافات تعبث بالجسد
الفلسطيني الواحد وتهدم أسس نضاله الذي يجب أن يبقى موجها وموحدا ضد
الاحتلال الاسرائيلي. لقد سعى فيصل بحنكته وباستقامته وبنزاهته إلى
تجسيد تلك القناعة في القدس، ونجح بتجميع جميع الفصائل والقوى
السياسية، الوطنية والإسلامية، تحت مظلة واحدة تجلّت أهميتها في رحاب
«بيت الشرق» الذي قضّت مكانته، بين الأمم والفلسطينيين، مضاجع حكّام
إسرائيل. لقد مارس فيصل قيادته بهدي ما يسمى في عالم السياسة العصرية
«كيانية الدولة العليا»، أو الممارسة الفوق فئوية أو حزبية؛ أو ما يعرف
اصطلاحيّا بحالة (statehood)
، وهي من المصطلحات غير المألوفة في حياة الشعوب والأنظمة العربية،
وذلك لأسباب مفهومة طبعا. ولأنه كان يؤمن بحيوية العمل وفق هذا المبدأ
وتقديمه على جميع المحفزات التقليدية، تعمّد، خلال مسيرته السياسية،
ألّا يستغل تأثير نسبه العائلي المرموق، وأن يظهر دوما بشخصه المستقل
كفيصل الحسيني، علما بأنه كان فخورا بأبيه المناضل القائد المعروف
عبدالقادر وبتاريخ عائلة الحسيني، المشهود لها عبر العقود. وحتى
«فتحاويته» كانت عبارة عن هوية سياسية كفاحية مجرّدة من أي مراهقة
فصائلية متشاوفة. لقد اختار فيصل أن يكون ابن كل فلسطين وخادم قدسها
والمسكون بها أبدا، وقائدا شعبيا متصدرا واجهات الميادين، كالترس
وكالرمح معا؛ لأنه كان يؤمن، ببساطة، بأن من يخاف ويتذيل الصفوف
مستجيرا بصدور شباب فلسطين وهي تتحدى عارية غطرسة الاحتلال، غير جدير
بأن يكون قائدا لهم.
فيصل ونظرية الردع ورفع العلم الفلسطيني
لا أعرف كم من أولئك الذين تطرقوا إلى ظاهرة التوحّش الإسرائيلي،
البوليسي والعصاباتي الشعبي، ضد من يرفع العلم الفلسطيني في القدس
وداخل إسرائيل، يعرف تاريخ هذه الظاهرة ومحطاتها الفارقة، لكنني سوف
أستذكر، في هذه العجالة، إحدى تلك المحطات الجميلة، لاسيما ونحن نكتب
عن ميزات عهد «الفيصلية».
كانت قناعة الحسيني أن الاختلافات في وجهات نظر الفلسطينيين ظاهرة
طبيعية ومقبولة، شريطة ألا تتحول إلى خلافات تهدم أسس نضالهم الموجه ضد
الاحتلال الإسرائيلي
لقد واجه فيصل سياسة إسرائيل في القدس الشرقية على عدة جبهات وبعدة
وسائل؛ واعتمد ميدانيا على اتباع ما كان يسميه بمنهج «الردع الإيجابي»،
الذي أدّى إلى إجهاض العديد من مخططات إسرائيل العدائية. قد تكون
المعركة ضد أمر إغلاق «بيت الشرق» في عام 1999 أبرز تلك الحالات التي
أثبتت فيها القدس أهمية جاهزيتها الحقيقية لمقاومة الاحتلال ومعنى
التفاف أهلها حول فيصل الحسيني ورفاقه في القيادة. لن أتطرق، في هذه
العجالة، إلى تلك الحادثة وسأكتفي بالإشارة إلى أن الردع المقصود يتطلب
أحيانا أن تكون مبادرا في التحرش الموزون بعدوك وألّا تكتفي بردات
الفعل وحسب. وهذا يعتمد أيضا على مبدأين أساسيين، كان فيصل يرددهما
أمام الإسرائيليين: الأول يقول: «لا تخطئوا الحساب! فمن يستطيع فرض
الهدوء والأمن والأمان في شوارع القدس الشرقية يستطيع إشعال النيران
وإيقاظ المارد من قمقمه»، وكان يقصد بالطبع أن بيت الشرق وقيادته هي
التي تتحكم في نبض الشارع المقدسي. والثاني يقول: «إن كان عدوّك يجيد
المصارعة أو الملاكمة فلا تنازله بما يجيد، بل حاول أن تستدرجه إلى
رقعة أنت فيها أبرع وأكثر مهارة، فإن أجدت لعبة الشطرنج مثلا، فاستدرجه
إلى رقعتها، فحظوظك فيها ستكون أوفر». وهو ما حاول أن يفعله مرارا. لقد
فشلت حكومة نتنياهو أمام صمود المقدسيين وتراجعت عن قرارها بإغلاق «بيت
الشرق» بعد أن فهمت معنى استعداد فيصل والمقدسيين للدفاع عن قدسهم، أو
إشعال ضفتي المدينة.
وكان أن أعلن الفاتيكان، بعد أشهر من تلك المعركة، عن قرار البابا
يوحنا بولس الثاني زيارة الأردن وإسرائيل وفلسطين وبضمنها القدس. قام
ممثلو الفاتيكان بتنسيق تفاصيل الزيارة مع كل دولة على حدة؛ أما في ما
يخص زيارة البابا للقدس فكان عنوانهم «بيت الشرق» ورئيسه فيصل الحسيني.
لقد عقدت في بيت القاصد الرسولي في حي «الصوانة» عدة اجتماعات لتنسيق
كل كبيرة وصغيرة تتعلق بترتيبات الزيارة، حسب طلب الفاتيكان، ورغم
اعتراض إسرائيل واحتجاجاتها. رفض البابا المبيت في فنادق القدس الغربية
وأصرّ على أن يبقى في بيت القاصد الرسولي، وأن تبدأ زيارته للقدس من
هناك، ثم مباشرة إلى باحات المسجد الأقصى. أعلنت المؤسسات التعليمية
الفلسطينية المقدسية عن إيفاد طلاب المدارس ليقفوا محيّين البابا على
جنبات الطرق من الصوانة وحتى باحات الأقصى. واعترضت إسرائيل على
القرار، لكن فيصل والقدس أصروا على تنفيذه؛ فعبّر البابا عن ارتياحه من
ذلك. قمتُ بالتواصل مع قائد الشرطة الإسرائيلية ونقلت له على لسان
فيصل: «إما أن يصطف المرحبون، وإما لا أمن ولا أمان لأحد». فهمت الشرطة
مغزى الرسالة، وكان قادتها يدركون أن فيصلا قادر على تنفيذ تهديده؛
فوافقوا شريطة أن يحمل الطلاب المرحبون الورود فقط وألا يرفعوا أعلام
فلسطين. رفض فيصل قبول شرطهم وأصر على أن يرفع كل شبل وردة وترفع كل
طفلة علم فلسطين. غضب الجانب الإسرائيلي وارتاح الفاتيكان، مرّة أخرى،
فقمت بنقل رسالة ثانية من فيصل إلى قائد الشرطة ومفادها: «سنحمل العلم
لا محالة، وعليكم أن تختاروا، فإما العلم وإما الحجر». رضخ
الإسرائيليون، تفاديا لفضيحة إلقاء الحجارة على موكب البابا الذي سار،
وفق الاتفاق، على طرقات فلسطينية يحميها أطفال فلسطين المزينة أياديهم
بالورود وبأعلام فلسطين. وكانت زيارة بنكهة فيصيلية وقدسية.
بعد الزيارة بعام سافر فيصل إلى الكويت ولم يعُد، وبقية الحكاية يكتبها
شباب القدس، أبناء فيصل، وترويها صفرة العشب المهمل في ساحات «بيت
الشرق» المغلق بأمر شرطة إسرائيل، صدر بعد أفول حقبة قد يسميها
المؤرخون، ذات يوم، زمن القدس الذهبي، أو «عهد الفيصلية».
كاتب فلسطيني
متلازمة علم فلسطين
وضرورة إسقاط النعش
جواد بولس
شنّت جهات يمينية عديدة هجوما كاسحا على إدارة جامعة «بن غوريون» في
مدينة بئر السبع، لأنها سمحت، يوم الاثنين الفائت، لكتلة «الجبهة
الطلابية» برفع الاعلام الفلسطينية داخل حرم الجامعة، أثناء الاحتفال
بإحياء الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني.
وكان رئيس بلدية بئر السبع روبيك دنيلوفيتش، أوّل من وجه رسالة شديدة
اللهجة إلى رئيس الجامعة البروفيسور دانيئيل حايموفيتش، قال فيها «إن
اعلام فلسطين ترفع بفخر. يوجد لدولة إسرائيل علم واحد فقط. لقد تخطوا
اليوم خطا أحمر إضافيا. يجب علينا إظهار قيادتنا الواضحة من دون تأتأة.
عليّ أن أقول لك: أنا خجلان».
لم يكن تصريح رئيس البلدية مفاجئا لأحد، فقد برز مؤخرا كأحد الشخصيات
العامة اليمينية الناشطة في تأليب الرأي العام اليهودي وشحنه بجرعات
عنصرية تحريضية خطيرة، حتى إنه أعلن دعمه الكامل لإقامة ميليشيات مدنية
مسلحة من أجل إنقاذ النقب من «إرهاب» مواطنيه العرب!
لم يكن رئيس بلدية بئر السبع وحيدا في حملة التحريض على إدارة الجامعة
وعلى الطلاب العرب في جامعات البلاد؛ إذ فعل ذلك الكثيرون، وقد برز من
بينهم، بسبب مكانته السياسية وحدّة لغته، وزير المالية الليكودي الأسبق
يسرائيل كاتس. لا أعرف إذا كانت أجيال هذه الأيام تتذكر تاريخ هذه
الشخصية يوم كان، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قائدا يمينيا شرسا
في الحركة الطلابية الجامعية؛ وهي الحقبة التي أشار إليها في خطاب
الترهيب الأخير الذي توجه من خلاله، من على منصة الكنيست ليل الاثنين
الفائت، إلى طلاب اليوم ليذكرّهم قائلا: «لقد حدث ذلك أيضا في نهاية
السبعينيات في الجامعة العبرية وفي حيفا وتل أبيب، عندما توهّم العرب
في إسرائيل، في أعقاب حرب أكتوبر، أن اليهود أصبحوا ضعفاء، فأقام
الطلاب العرب مظاهرات دعم للعدو وضد دولة إسرائيل» ونصحهم أن يسألوا
أباءهم وأجدادهم عن ذلك. لا جديد في عالمَي كاتس، الشخصي والسياسي، ولا
في حساسيته المفرطة لرفرفة العلم الفلسطيني، ولا في أحلامه بترويض
المواطنين العرب أو بتهجيجهم خارج الدولة؛ ورغم ذلك سيبقى لأقواله في
هذه الأيام وقع مرّ خاص، لأنها وإن كانت مكرورة من جانبه، تعكس في
واقعنا الراهن تعبيرا واضحا ليس عن رأي مجموعات يمينية هامشية وحسب،
كما كان يُدّعى في سنوات السبعين، بل عن موقف إسرائيلي، رسمي وشعبي،
شبه مجمع عليه. من المؤسف أن تاريخ الحركة الطلابية العربية في جامعات
إسرائيل لم ينل حقه من قبل الدارسين، ولم يوثَّق بشكل مهني وكاف؛ على
الرغم مما شكّلته تلك الحركة من مشهدية صاخبة ولافتة، ومن حالة نضالية
استثنائية عكست نضوج الذين أسسوا لمسيرة تلك التجربة وقادوها بمسؤولية
عالية وبتضحيات كبيرة.
لطالما أجّجت الرموز الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وتاريخ هذا
الصراع حافل بالأمثلة؛ ولكن سيبقى العلم، هو «ولي الدم» الحاضر وسيّد
الفوران
يسرائيل كاتس وليل السلاسل
لقد شكّل جيل يسرائيل كاتس ورفاقه في قيادة النشاط الطلابي الجامعي
ومنهم، على وجه الخصوص، الوزير السابق تساحي هنجبي، والوزير الحالي
أفيغدور ليبرمان، نموذجا مؤسسا للتعامل صداميا مع أعدائهم، الطلاب
العرب، حيث تعمّدوا تنفيذ اعتداءاتهم على طريقة الميليشيات الفاشية،
بعنف حتى إراقة الدماء أحيانا، وبطريقة مكشوفة للملأ، ثم ساعدوا، في ما
بعد، من خلال مواقعهم الحزبية على تطوير ذلك النهج ونقله إلى خارج حدود
الجامعات، ليصبح في السنوات الأخيرة سلوكا شائعا ومألوفا تدعمه منظومات
الحكم وتنفذه عناصرها الرسمية أو وكلاؤها. ولعل في تجاعيد الماضي فائدة
وعبرة ترتجى؛ فأنا وأبناء جيلي كنّا الشهود على بدايات تلك المرحلة.
وقصتنا مع ما فعله «أمراء الظلام» طويلة وشائقة، حتى إن استحضار
تفاصيلها، الشاخصة أمامنا، يبعث في نفوسنا، رغم مرور السنين، نبض حنين
أرجواني لا يبهت، وعبق مغامرات تذكرنا، بحسرة، كيف كنا نقف على ذوائب
الريح مصممين أن نُفهم الكاتس وأمثاله، أن الحر لا تأسره السلاسل، وأن
هسيس الجن لا يفت من عزم مسافر نحو الشمس، ولا الترهيب يشفي عاشقا من
الدنف.
بدأت دراستي في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في خريف عام 1974،
وكانت، حينها، أعداد الطلاب العرب في الجامعة محدودة. ورغم قلة أعدادهم
في الجامعة، استوعب الطلاب العرب، منذ البدايات، بحدس وطني وفطري، معنى
بناء وحدتهم وانتظامهم في جسم يمثل مصالحهم ويحمي هوياتهم، فبادروا إلى
تشكيل «لجنة الطلاب العرب» في جامعة القدس، ثم تلتها لجان مشابهة في
سائر الجامعات. لقد بدأت تلك اللجان الطلابية تلعب، في أواسط
السبعينيات، دورا سياسيا محوريا بين الطلاب وعلى المستوى القطري العام؛
وشكلت أنشطتها ومعاركها، إلى جانب «الاتحاد القطري للطلاب العرب»علامة
فارقة على خريطة التنظيمات السياسية الفاعلة بين الجماهير العربية داخل
إسرائيل، وعاملا رياديا في مقارعة الجماعات اليمينية التي عملت داخل
الجامعات الإسرائيلية وكانت معززة بعقائد وبوسائل متّشحة بأردية فاشية
واضحة، فكرا وممارسة. لقد وجدت بين الطلاب العرب في الجامعات حركتان
سياسيتان هما «جبهة الطلاب العرب» وكانت بمثابة التنظيم الابن «للجبهة
الديمقراطية للسلام والمساواة» حديثة الولادة، وحركة «أبناء البلد»
الناشطة كتنظيم قومي يتماثل مع نظرائه من الحركات القومية العربية التي
كانت تتمتع بوجود وازن على ساحة السياسة الكبرى. أما بين الطلاب اليهود
فقد أقامت المجموعات اليمينية تنظيما طلابيا باسم «كاستل» قاده في ذلك
الوقت كل من يسرائيل كاتس وتساحي هنغبي، ومعهما بعض من منفذي الأوامر
الطيّعين، ومن بينهم كان أفيغدور ليبرمان. وبالمقابل أسست مجموعة من
الطلاب اليهود اليساريين، الصهيونيين وغير الصهيونيين، حركة «كامبوس»
التي انضم إليها لاحقا عدد من قادة الطلاب العرب الجبهويين والناشطين،
وهذه التجرية بالذات جديرة بمقالة مستقلة في المستقبل.
لن أثقل عليكم بسرد تفاصيل أحداث تلك السنوات المهمة، التي ملأت
أصداؤها جنبات البلاد والمنطقة قاطبة؛ ولكن لا بد من العودة إلى
تداعيات ما أصبح يعرف في تاريخ النضال الطلابي ضد قطعان الفاشيين «بليل
السلاسل» التي كلّما تذكرت تفاصيلها، أو كتبت عنها أشعر بالغثيان
وأغضب، لأننا لم نعِ وقتها، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، حقيقة
النذر التي صاحبت أحداثها، ولم نفهم كفاية أنها كانت في الواقع مؤشرات
على بدايات «تهجيرنا» الثاني نحو الشمال، في طريق كان كلّه ليلا وجهلا
وتنافسا وخسائر.
تظاهرنا، نحن مجموعة من الطلاب العرب، في مساء يوم مقدسي بارد من شهر
كانون الثاني/يناير عام 1979. وقفنا في إحدى زوايا الحرم الجامعي على
جبل سكوبوس «جبل المشارف» وهتفنا ضد الفاشيين، جازمين بأن «الفاشية لن
تمر» كما كنا نهتف دوما في تلك الأيام. وفجأة هاجمنا عشرات من الطلاب
اليهود، بقيادة كاتس وهنغبي وليبرمان، المعززين بزمر من البلطجيين
المستورَدين والزعران الوافدين من أحياء القدس الغربية، لينهالوا علينا
بالهراوات وبالسلاسل الحديدية، فأصابوا من أصابوا وجرحوا منا العديدين.
كان عدوانهم مطابقا لجميع ما تعلمناه في الكتب عن تاريخ الحركات
الفاشية؛ لكنه، رغم قساوته، لم يثننا عن الاستمرار في الوقوف ضدّهم،
مؤمنين أن «الفاشية لن تمر». لقد اهتزت أركان الجامعة بعد ذلك الهجوم؛
واضطرت رئاستها إلى إقامة لجنة تحقيق أفضت إلى تقديم عدد من الطلاب
لمحكمة تأديبية؛ ولكن، هكذا تبيّن في ما بعد، كانت تلك عبارة عن فقاعة
أكاديمية تناثرت عراها في جوف الزمن ليبقى شعار «الموت للعرب» هو
اللازمة المؤثرة وخريطة إسرائيل الوحيدة الملزمة، لا من على مدرجات
ملاعب الكرة وحسب، بل في دفاتر الحكومة وقوانين الكنيست وقرارات القضاء
وفي رصاص الجيش؛ فهل حقا الفاشية لن تمر؟
متلازمة علم فلسطين
لطالما أجّجت الرموز الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وتاريخ هذا
الصراع حافل بالامثلة؛ ولكن سيبقى العلم، خاصة في هذه الأيام، هو «ولي
الدم» الحاضر وسيّد الفوران. لقد ذكّرنا كاتس بعام النكبة وفعل ذلك
قبله بأسابيع الجنرال عوزي ديان؛ فلا جديد في قاموس «القداسة» على هذه
الأرض سوى أن من يدعونها لأنفسهم وحدهم بدأوا يهدّدون أعداءهم جهارا
ويطلقون عليهم النار من أجلها بلا تردد ولا خوف من العواقب؛ فإسرائيل
الغائبة في الأسفار، هي أم تلك السلاسل والهراوات، وانبياؤها اليوم
كأنبيائها في الأمس، لا يؤمنون بالليل وسترته. إنهم يقفون أمامنا
ويهتفون بلا وجل: إن واجهت عدوّك يا «إسرائيل» اضربه بلا رحمة وبلا خجل
وحتى إذا مات فاضرب نعشه حتى يسقط، ليرى العالم وليعتبر أو ليحبس
أنفاسه على عتبات الجحيم.. وينخرس.
كاتب فلسطيني
شيرين…
هبة فلسطين للسماء
جواد بولس
ما زالت مشاهد قتل شيرين أبو عاقلة وتداعيات جنازتها التي استمرت على
مدى ثلاثة أيام كاملة، تسكن فينا وتستثير الدهشة والدمع، الذي تغلب على
“حياء جرير”، فبكى الرجال أيضا، في فلسطين وأبعد، موتا استثنائيا نزل
عليهم في زمن استوطن فيه القهر حلوقهم وجفف الذل منابع آمالهم.
لن تنتهي محاولات الباحثين والمحللين لسبر حقيقة هذا الحزن المتدافع
نحو أقاصي المدى، بتحدّ وحب خرافيين، وكأن شرايين السماء تقطعت فجأة،
وأمطرت على “بلاد شيرين” غضبا مغموسا بتباشير بعث بطولي، كنا نعتقد أنه
هجر مواقعنا وعاد إلى مأواه في الأساطير.
لم تكفِ تباريح المجازات كلها في وصف هذا الموت؛ ولم تسعف أحابيل
البلاغة في رسم تقاسيم روح أيقونته الباقية. سيذهب الزبد وسيبقى، في
بعض الفداء، صوت دم الحقيقة النازفة، وتردّد صدى القرابين المذبوحة
الراحلة مسموعين. هي كذلك “أرضنا المقدسة”، تنام على حد سيف يوشع وزعيق
أبواق أنبيائه الذين صلوا باسم ربّهم من أجل “أرضهم الموعودة”، وتصحو
على حشرجات الفجر فوق التلال الفلسطينية المحتلة المغتصبة. ليس من
الصعب أن نتصور كم سريعا سوف ينسى حكام العالم مقتل “ابنة الورد”
الفلسطينية الندية؛ فعندهم يحصل كل شيء في عالم افتراضي ومتغيّر، بينما
يبقى عهرهم ثابتا، ولهاثهم، وراء صنّاع الفجور والظلم، دينا ودنيا. قد
تتباعد، بالمقابل، الذكرى عن موطنها وتتسرب أنفاسها الحزينة في أخاديد
الزمن الفلسطيني والعربي؛ ولكن ذاكرات هذه الأجيال، التي تخصّبت من
روعة الحدث، لن تنسى كيف بكى السحاب أنوارا، وشهقت طيور الجنة حائمة
فوق نعش المقدسية، وكيف تمنت كل الحرائر أن يقفن اشبينات لشيرين في
أبهى عرس ذكّر الناس بدموع المجدلية.
شيرين المسيحية، فلسطينية الوشم
إنني على قناعة أن شيرين تنظر إلينا من فوق وهي حزينة مرتين: مرّة لأن
بعض رؤساء الكنائس، وفي طليعتهم قداسة البابا، تنصلوا من معرفة الحق،
فلم يتحرروا، كما جاء في الآيات، بل غابوا عن المشهد وتلعثموا في تأثيم
الجريمة والمجرمين وفي الدفاع عن الضحية؛ ومرّة عندما حرّم من حرّم،
بفتوى مقحمة، الترحم على من افتدت عزة الضعفاء والمقهورين بروحها
الطاهرة، لأن الترحم، بحسب هؤلاء المفتنين، على غير المسلم، حرام. من
الواضح أن معظم الناس اكتشفوا ديانة شيرين بعد عملية قتلها، حيث كان
لكشف هذه الجزئية تأثير صاخب إيجابي أدّى إلى مضاعفة التعاطف والحزن
عليها. لقد مارست شيرين مهنتها لمدة ربع قرن بتفان مطلق وبتماه كامل مع
رسالتها الإنسانية في الذود عن الحقيقة التي بحثت عنها في كل خبر
نقلته، وفي كل تقرير أعدته بمهنية وبصدق؛ وكانت في سبيل الدفاع عن
قضيتها الأولى والأخيرة، عن فلسطين المكلومة الحرة، تتنقل من موقع إلى
آخر، وهي تصرخ من خلال حنجرتها الدافئة وعدسات كاميراتها المتوجّعة،
وتعلن أنّها “فلسطينية العينين والوشم، فلسطينية الاسم/ فلسطينية
الأحلام والهمّ، فلسطينية الكلمات والصمت /فلسطينية الميلاد والموت”.
لا أعرف إذا كانت شيرين تخبئ مسيحها بين أضلاعها وتنتخيه ساعة الخطر،
لكنني عرفت، كما عرف العالم بأسره، أنها عاشت وهي فلسطينية الهواجس
والكلمات والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم. وأعرف
أنها كانت مثال المرأة الصالحة المؤمنة التي قاومت من خلال عملها،
بإصرار وبمثابرة، الظلم والظالمين وساندت شعبها في مواجهة المغتصبين.
عرف العالم بأسره، أن شيرين عاشت وهي فلسطينية الهواجس والكلمات
والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم
من المؤسف ألا نسمع موقف قداسة البابا إزاء هذه الجريمة، وهو الذي ذاع
صيته بالدفاع عن المقهورين والفقراء والضعفاء؛ فبدلا عنه سمعنا ممثل
الفاتيكان في إسرائيل يكتفي بشجب ممارسات قوات الشرطة الإسرائيلية داخل
باحات المستشفى الفرنسي في القدس ومهاجمتهم للمشيعين ولنعش الراحلة
فقال: “إن تصرفات الشرطة كانت غير مبررة ولم تأت بسابق استفزاز”، وأضاف
أن إسرائيل انتهكت حق العبادة بشكل “صارخ ووحشي”!
إن صمتي في وجه هذه المواقف الهلامية أبلغ
وهل يعقل أن يكتفي مثلا بطريرك القدس للاتين، وعلى أثر عملية القتل،
بنشر بيان كنيسته الموجه فقط إلى آل أبو عاقلة، معلنا أنه “ببالغ الأسى
تلقيت نبأ الوفاة القاسية لابنتكم وابنتنا الحبيبة شيرين، بينما كانت
تنجز بأمانة وبشجاعتها المعتادة واجبها كصحافية لتغطية المعاناة
اليومية لأهل هذه الأرض، وإعطاء منظور آخر للنزاع المعقد وأشكال الظلم
كافة، الذي يمزق شعوب هذه الأرض”. أحقا لا يشعر غبطته بأن هذه النصوص
اللولبية تمس إنسانيتنا وتحتقر عقولنا؟ موقف معظم رؤساء الكنائس في
القدس إزاء معاناة الفلسطينيين من قمع قوات الاحتلال والمستوطنين جدير
بالمتابعة والنقاش؛ وقد برز تقصيرهم بشكل واضح خلال الجنازة؛ وما
إصدارهم تلك البيانات التي تعتمد لغة فضفاضة وتعابير دبلوماسية، إلا
برهان على ابتعادهم المتعمد والتاريخي عن هموم المسيحيين العرب، أبناء
هذه الأرض وأصحاب الرسالة الأصيلة، التي كانت من دون شك شيرين أبو
عاقلة حاملتها هنا على الأرض وستكون حاميتها هناك في دنيا الأماني
والوعود.. ألم تكن بالنسبة لكنائسكم شيرين مسيحية صالحة؟
شيرين المسلمة، أخت الفوارس
لقد تصدت فلسطين بمعظم مؤسساتها ومنصاتها ودحضت موقف من أفتى بعدم جواز
الترحم على غير المسلمين. وكانت صور تشييعها، بداية في مخيم جنين وبعده
في نابلس ورام الله وقلنديا والقدس، شهادات فخر لفلسطين ولشعبها.
وستبقى، في الوقت ذاته، مشاهد أوباش الشرطة، أبناء الشر، وهم يهاجمون
النعش وحامليه، براهين على لا إنسانيتهم وشهادات على بطولة أبناء القدس
الذين تحمّلوا ضرب الهراوات وصمدوا وحالوا دون سقوط النعش، وكأنهم
يحملون روح فلسطين ويحموها من كل أذى. انها وقفات فلسطينية لن يمحوها
التاريخ؛ ومع ذلك هنالك ضرورة لتعقب بدايات تلك الفتوى والتحقق من
حقيقة انتشارها في حياتنا اليومية العادية؛ فبعضنا يعلم أن فتوى تحريم
الترحم على من ليسوا مسلمين والمشاركة في جنازاتهم منتشرة في عدة مدن
وقرى فلسطينية، هنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبيننا، داخل
المجتمع العربي في إسرائيل. لقد أتاحت لنا جنازة شيرين فرصة معالجة هذه
الحالة والتصدي لآثارها المهلكة.
شيرين “الجزيرة”
لقد قتلت شيرين رغم أنها كانت تلبس سترة الصحافة المميزة الواقية وخوذة
بارزة. وفجع عالم الصحافة في أرجاء واسعة من العالم بسبب مقتلها، ولكن
فاجعة زملائها في فضائية “الجزيرة” كانت هي الأكبر، خاصة بين من عرفها
منهم شخصيا وعمل معها بشكل يومي وواجه مثلها المخاطر والتحديات
نفسها. لقد كان لافتا حجم الجهد الذي بذلته “الجزيرة” في تأمين تغطية
الجنازة من كل زاوية ممكنة، وعلى جميع المستويات، الميدانية والوجاهية
مع عشرات، إن لم يكن مئات المعقبين والمعلقين والمحللين من عدة دولة في
العالم. وكما فهمت من شهادات بعض الخبراء لم يكن ذلك ممكنا لولا أن
استحضرت “الجزيرة” كما هائلا من المعدّات المتطورة والطواقم المؤهلة
التي عملت بوفاء، على مدار الساعة لمدة ثلاثة ايام وتابعت تفاصيل مأساة
مقتل واحدة من أبرز مراسيلها التاريخيين. كانت شيرين مراسلة مخلصة
لفضائية الجزيرة ولم تغادرها حتى بعد أن تراجعت شعبية المحطة داخل
فلسطين وغيرها من الدول العربية بشكل ملحوظ وواسع، وكما شاهدنا، فلقد
أوفت “الجزيرة” أمانتها لابنتها الفقيدة، فردّت شيرين وهي في رحلتها
نحو أجمل الفراديس، على الوفاء بوفاء، وكان أن استعادت “الجزيرة”
شعبيتها بين الناس الذين واصلوا البكاء وانتظار تحقيق وعد الجزيرة بألا
يذهب دم نجمتهم هباء.
شيرين البلاغة
سيكون صعبا على أجناس البلاغة رسم صورة للأمل وهو يقتل على حافة العدم؛
فلنلجأ إلى “طباق” محمودنا، سيد البلاغة، الذي قال “قناصة بارعون
يصيبون أهدافهم بامتياز. دما دما ودما، هذه الأرض أصغر من دم أبنائها
الواقفين على عتبات القيامة مثل القرابين. هل هذه الأرض حقا مباركة، أم
معمّدة بدم ودم ودم لا تجففه الصلوات، ولا الرمل. لا عدل في صفحات
الكتاب المقدس يكفي لكي يفرح الشهداء بحرية المشي فوق الغمام. دم في
النهار. دم في الظلام. دم في النهار. دم في الكلام”.
فوداعا يا “عروسا لا عريس لها”، يا من وقفت على عتبات القيامة، ويا من
أشعلت بموتك بوارق الأمل في أرض اليباب.
*كاتب فلسطيني
فلسطين تنجب أيقوناتها
جواد بولس
قُتلت شيرين أبو عاقلة، صباح يوم الأربعاء الفائت، على أرض مدينة جنين
الفلسطينية؛ وكانت قد وصلتها كي تغطي، لصالح فضائية «الجزيرة» عملية
اجتياح أحد أحياء المدينة من قبل قوة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
لقد سقطت بعد أن اخترقت خوذتَها رصاصةٌ أطلقها قناص إسرائيلي، تعمّد
وفقاً لجميع البراهين والقرائن والأدلة، قتلها. ومنذ انتشار نبأ
الفاجعة تحاول إسرائيل التهرب من مسؤوليتها عن عملية اغتيالها، بيد أن
شهادات العديدين من شهود العيان الذين كانوا على مقربة منها وفي مكان
الجريمة، تؤكد أن عناصر جيش الاحتلال هم من أطلقوا النيران باتجاهها
وتسببوا بقتلها.
من الواضح أن إسرائيل ستحاول، بشتى الوسائل والادعاءات، التملص من
تبعات هذه الجريمة؛ لاسيما بعد أن شاهد زعماؤها ردات الفعل الجماهيرية
الغاضبة التي اجتاحت، لا ساحات فلسطين وحسب، بل الكثير من مدن وعواصم
العالم؛ وسمعت سيل شجوبات المسؤولين السياسيين في العديد من الدول
العربية والغربية، على حد سواء، واستنكارات رؤساء معظم المؤسسات
الحقوقية والمدنية في المجتمع الدولي.
من السابق لأوانه أن نتكهن كيف ستتداعى فصول هذه المأساة، بعد أن تجف
الدموع في المآقي، وعند وقوع الفاجعة المقبلة؛ ولكننا، رغم رجوح
التوقعات بأن «ضمير العالم» الغائب عن فلسطين المحتلة منذ عقود لن يصحو
بسبب ولادة أيقونة فلسطينية جديدة، سوف تبقى مشاهد آلاف المواطنين، وهم
يجتاحون شوارع وميادين المدن الفلسطينية، مدعاة للدهشة، ووقودا يتخزّن
في مراجل شعب انتفض باكيا على ما كانت شيرين أبو عاقلة تعنيه في حياتها
بالنسبة لهم.
لم يكن سهلا عليّ أن أستوعب حجم ردّات فعل الناس وحزنهم المتهاوي
بعفوية صادقة منذ شيوع نبأ الوفاة؛ خاصة أن فلسطين متمرسة بتوديع
شهدائها، ومنهم من سقطوا وهم يؤدون واجبهم الإعلامي. في البداية عزوت
حالة الكآبة الشديدة التي أصابتني وأقعدتني، طيلة ذلك النهار، في
البيت، إلى كوني أعرف شيرين شخصيا، منذ بداية عملها الصحافي، وقيامها
بتغطية العشرات من القضايا التي تابعتها في مسيرتي، وإلى تراجيدية
موتها؛ لكنني سرعان ما تنبهت إلى أن القصة ليست أنا ولا هم، بل هي
شيرين: تلك الفتاة المقدسية الوادعة التي كبرت على طريق الآلام، وكيف
أسكنها الناس في عيونهم، وكيف عاشت بهدوء في قلوبهم. لم تكن مشاهد
العزاء ووداع الجثمان في جنين ونابلس ورام الله والقدس وغيرها من
المواقع، هنا وفي الخارج، متوقعة ولا مسبوقة أو مفهومة ضمنيا، خاصة إذا
تذكّرنا أن الضحية هي صحافية وأنثى ومسيحية. قد يحسب، في عرف العادة،
جميع الشهداء سواسية في الرحيل وفي القصيدة والدعاء، ولكن ليس في
فلسطين، فحين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات في أزقة
مخيم جنين على فراق «حفيدة المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين
الفلسطينية خنجرا من نور مغروس في خاصرة القهر. وكذلك عندما يسير
الرجال وراء رايات وصور «أخت انطون» هاتفين لروحها الطاهرة، ترقص
النجوم في سماء الشرق وينخرس الجهل؛ وعندما يحكي الشيخ الثقة كيف بكت
اخته رحيل شيرين الأيقونة، تخاف الشياطين ويصحو في فلسطين شعب
الجبارين.
حين ينهمل الدمع من عيون الأمهات الماجدات الصابرات على فراق «حفيدة
المريمات» تمّحى كل المسافات وتصبح شيرين الفلسطينية خنجرا من نور
مغروس في خاصرة القهر
إنّهم، في إسرائيل، يخافون هذا العرس؛ بينما يحسب حلفاء إسرائيل، من
عرب ومسلمين وغرب، حساباتهم، ويخشون أن تنفجر الحناجر وتصير مناجل،
والأكف أبسطة من ريح. تتحدث الأخبار عن أن جهات دولية عديدة توجهت إلى
حكومة إسرائيل وطالبتها بضرورة إجراء تحقيق في حادث مقتل شيرين أبو
عاقلة ونشر نتائجه علنا. وقد ذكرت المواقع موقف الخارجية الأمريكية
التي قال متحدثها الرسمي في تغريدة له: «نشعر بالحزن الشديد، وندين
بشدة مقتل الصحافية الأمريكية شيرين ابو عاقلة، في الضفة الغربية. يجب
أن يكون التحقيق فوريا وشاملا ويجب محاسبة المسؤولين». لا أثق بجميع
هذه البيانات التي تمليها قواعد البروتوكولات الدبلوماسية وحاجة بعض
الزعماء لتخدير شعوبها، لاسيما أولئك الذين يتشدقون بدفاعهم عن الحريات
الأساسية، وبضمنها حرية الصحافة وسلامة الصحافيين. وكي لا نطيل الحديث
في هذه الجزئية، يكفينا أن نستحضر موقف الإدارة الأمريكية إزاء مقتل
المسن المواطن الفلسطيني عمر أسعد، قبل أربعة شهور بالتحديد، ومطالبتها
إسرائيل بالتحقيق في الحادث ومحاسبة المسؤولين عنه. فحينها، وعلى أثر
افتضاح وقوع تلك الجريمة، أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية،
أن «الوزارة على دراية بموت الفلسطيني الأمريكي عمر أسعد، الذي يبلغ من
العمر ثمانين عاما، بعد اعتقاله وتكبيل يديه، على أيدي سلطات الاحتلال
الاسرائيلي.. لقد وجهت استفسارا إلى الحكومة الإسرائيلية بشأن ملابسات
وفاة عمر أسعد ونحن بانتظار الرد».
هل تتذكرون تفاصيل تلك المأساة؟ لقد مرّت أربعة أشهر عليها ولم تتخذ
أمريكا أية خطوة باسم الحقيقة، أو دفاعا عن حقوق مواطنيها، فهل هناك من
يعتقد أن هذه الأمريكا سوف تغيّر جلدها وتتحرك بسبب اغتيال أيقونة
فلسطينية اسمها شيرين، فقط لأنها تحمل الجنسية الأمريكية أيضا؟ لو سئلت
لنصحت أصحاب المصلحة والشأن بأن يرفضوا كل محاولات إقامة أية لجنة
تحقيق، ولنصحت في الوقت نفسه بإعداد ملف فلسطيني يوثّق لعملية الاغتيال
بصورة مهنية ومتكاملة، والذهاب فيه إلى المحاكم الدولية والأمريكية؛
فمجرد القبول بفكرة إقامة أية لجنة تحقيق سيثير الشك في هوية القاتل،
وهم عناصر جيش الاحتلال، ويضعضع صحة الرواية الفلسطينية، وهي واضحة
وضوح الدم الذي سال من رأس شيرين.
أصغيت لعشرات المواطنين والمواطنات الذين شرقوا بدموعهم وهم يحاولون أن
يصفوا مزايا شيرين التي عرفوها؛ وسمعت شعراء حوّلوا حزنهم عليها شعرا
يبكي «العكاز والحجرا» حتى جاءت ابنة مخيم جنين السيّدة أم أحمد
فريحات، ولخصت لنا أهم فصول هذه الحكاية؛ فشيرين، كما حكت دموع الناس،
كانت واحدة من أهل هذه الأرض، إلى جانبهم ساعة يخوضون معاركهم، وتنبش،
مثلهم، بأظافرها، الأنقاض لتخرج ضحاياهم من تحتها. وكانت تعطش مثل أفقر
وأصلب البسطاء ولا تجد نقطة ماء لتشربها، وتلتحف ترابهم برضا وتحتضن
أوجاعهم وتنام، جنبا إلى جنب، على شوكهم. كنت أسمع أم أحمد بصمت باك،
وبجانبي تجلس ابنتي وصديقاتها، وقد «تولى الدمع عنهن الجوابا» فلما
هتفت أم أحمد «من جنين الأبية طلعت شمعة مضوية/ يا شباب الله الله، هاي
شيرين مش حيا لله» نظرت نحوهن وسألت ابنتي، لماذا هي بالذات؟ ماذا كانت
تعني لكنَّ؟ حبست أنفاسها برهة؛ ثم انطلقت وكأنها تستعيد ماضيا يسكنها
بين الجفون، فقالت: «إنها أيقونة جيلنا؛ لقد وعينا على طلّاتها كفرس
أصيلة تتنقل من موقع إلى آخر وهي محملة بهم فلسطيني صادق. كانت صحافية
مهنية من دون ابتذال، وكان الحزن في عينيها رسائل وفاء تنقلها باسم كل
حر ومقاوم لظلم الاحتلال. فلسطينية من دون نواقص ولا زوائد، حتى أننا
لم نكن، قبل استشهادها، نعرف أنها قد ولدت في عائلة مسيحية». قالت هذه
الجملة بصوت خافت وكدليل على أصالة شيرين، وصمتت ثم أكملت: «كما أنها
كامرأة كانت لنا قدوة في الشجاعة وفي كبريائها الواثقة.. لقد كنا مرارا
نقف أمام مرايانا ونقلدها ممسكين ميكروفونا وهميا ومرددين: «معكم شيرين
أبو عاقلة، الجزيرة، من القدس المحتلة»؛ ثم أنهت وقالت: «كنا، أنا
وأبناء جيلي، إناثا وذكورا، نحلم أن نصير مثلها». وتمنت، بصوت مخنوق،
ألا يذهب موتها سدى وتمتمت من قصيدة الشاعر درويش: «تُنسى كأنك لم تكن/
تُنسى كمصرع طائر/ ككنيسة مهجورة تُنسى/ كحُب عابر، وكوردة في الليل…
تُنسى». وبكت.
للحقيقة، أنا أيضا أخاف من الآتي، وأشك في ما إذا سيؤدّي موت شيرين إلى
تغيير في سياسات الدول تجاه الاحتلال الإسرائيلي وموبقاته، أو إلى هزة
في وسائل الإعلام العربية والعالمية، أو حتى إلى الكشف عن القاتل؛
لكنني على ثقة أن ما شاهدناه، بعد موتها في فلسطين وغيرها، سيبقى نذورا
مدفونة في الصدور وفي الأرض ولسوف يصير ذات فجر وعودا وعواصف مهما طال
ظلم وظلام الاحتلال وطفَح بطشه.
كاتب فلسطيني
لغزة من
قلوبنا سلام ورجاء
جواد بولس
استحوذ خطاب القيادي يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة، الذي ألقاه
يوم السبت الفائت، أمام جمهرة من الشخصيات الإسلامية والوطنية وممثلي
المؤسسات والأطر السياسية والاجتماعية، على انتباه معظم سياسيي الدول،
الذين يتابعون تداعيات الأوضاع الراهنة في فلسطين والمنطقة. لا يكثر
القيادي السنوار في طلّاته الإعلامية، ولا في إلقاء خطاباته أمام
الحشود؛ وعندما يختار أن يفعل ذلك تكون الرسالة الأولى في توقيت خطبته
والإشارة إلى استشعاره بأن خطبا جللا قد يقع في كل لحظة؛ ويبقى المخفي،
كما تعرف القدس، أوجع وأعظم.
لقد تعمّد السنوار توجيه رسائله وتحذيراته، إما بشكل مباشر أو مضمر،
إلى عدة عناوين محلية، وقطرية وعالمية، وبرز في مقدّمتها، بطبيعة
الحال، قادة إسرائيل، من سياسيين وعسكريين، وقادة الدول العربية
والإسلامية، وفي طليعتهم دولة مصر، كما خصّ جميع الفلسطينيين، بمن فيهم
نحن، المواطنين العرب في إسرائيل.
لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى جميع محاور خطابه، رغم أهميتها، وسأكتفي
بمعالجة أقربها الينا؛ فرسالة السنوار إلى المواطنين العرب، خاصة تلك
التي وجّهها إلى أعضاء القائمة الإسلامية الموحّدة، وتحديدا إلى رئيسها
منصور عباس، تعدّ أكثر من عتاب معقول بين المؤمنين الأخوة؛ وتقترب إلى
كونها انذارا ساخنا وتدخلا لافتا يستدعي المناقشة بهدوء وبمسؤولية؛ فهو
حين يصرّح بأن «شبكة الأمان التي تمنحها القائمة الموحّدة للحكومة
الإسرائيلية، تشكّل جريمة لا تغفر، وبأن عضوية القائمة الموحّدة في
الائتلاف الحكومي تعدّ تنكّرا لدين أعضائها ولعروبتهم» يعلن بوضوح عن
طبيعة فهم حركة حماس لاشتباك علاقتها مع العرب المسلمين في إسرائيل،
ويفترض ضرورة أن تتوافق هذه العلاقة بشكل جوهري مع العقيدة الدينية،
كما تترجمها وتؤمن بها حركة حماس وقادتها، وأن تتكامل معها على مستوى
النهج وفي جميع وسائل تمكينها النضالية. وإذا ما أضفنا لهذه الجزئية
العامة نعته للدكتور منصور عباس «بابي رِغال» (وهو اسم الشخصية التي
صارت رمزا عربيا موروثا ينعت به مَن يخون قضية قومه من أجل مصالحه
الضيّقة والشخصية، كما تعاون هذا الرجل مع أبرهة الأشرم، ملك الحبشة،
في حملته على الكعبة بغرض تدميرها في السنة التي ولد فيها الرسول محمد
وعرفت تاريخيا «بعام الفيل») نتحقق من ضعضعة مكانة ما كان معروفا بيننا
مجازا بعهدة «الستاتوس كوو»؛ وهي مجموعة قواعد سلوكية سياسية وقيم
وطنية واجتماعية، درجت فئات شعبنا الفلسطيني، بينها وبين بعضها، على
احترامها ومناقشتها محليا، لاسيّما إذا تعلّق الأمر بقضايا وجودية تخص
علاقتنا كمواطنين فلسطينيين مع الدولة. وللنزاهة أقول: لم تكن حركة
حماس متفرّدة في نقض تلك العهدة، أو ربما ليست هي أول من اخترقها جهارة
وبشكل عملي وتنظيمي متعمّد؛ فقد سبقتها فصائل فلسطينية أخرى وقيادات
دول عربية مختلفة عملت جميعها، منذ سنوات طويلة، على استمالة معظم
قيادات مجتمعنا العربي، السياسية والاجتماعية والدينية والمدنية، ونجحت
باحتضان بعضها من خلال عمليات تدجين أفضت إلى خلق حالات من «الانتماءات
الرخوة» وجزر بشرية مرتبطة بمن يسمّنها ويحافظ عليها ويشتري ولاءاتها
بآهاتها وفق أنظمة «دكننة» متستر عليها. لقد برّر البعض، في حينه،
الشروع ببناء تلك العلاقات بالتماهي الأيديولوجي، أو لاحقا، تحت ذريعة
«التواصل الإنساني» وهي قضية محقّة وحارقة؛ لكنّ تجنيدها، كما حصل في
تلك الأعوام، بحجة اختراق جدارات شام الأسد، كان، كما تبيّن فيما بعد،
مجرّد بدعة أدّت إلى زعزعة قلاع حصانتنا، ثم إلى تصدّعها بعد اعتماد
تقليعات جديدة من التواصل، التي سرعان ما صارت تصرف على شكل مكرمات
سلطانية أو أميرية أو ملكية، والتهافت عليها، مرّة باسم دعم طلّابنا،
ومرة إنقاذا لمرافقنا الحيوية، ومرة لتنمية مؤسساتنا المدنية، أو باسم
التصدي لزحف اليمين الإسرائيلي الفاشي؛ وهكذا حتى وصلنا عمليا إلى
ترسيخ وتمتين ظاهرة تشابك مصالح الحركات الإسلامية، على اختلاف رؤاها
ومشاريعها التفصيلية، مع أخواتها العربية والإسلامية ومع الأنظمة
العربية والإسلامية والغربية الراضية عنها، التي شكّلت لتلك الحركات
مظلات ودفيئات في بلاط آل سعود، أو تحت أجنحة السلطان أردوغان، أو داخل
قصور أمراء الخليج، أو كما سمعنا في خطاب القيادي السنوار، في حضن
الجمهورية الإسلامية الايرانية.
نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة
ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا
هنالك حاجة لدراسة هذه المسألة ولاستخلاص النتائج والعبر منها؛ فاليوم
لسنا في معرض وضع الإصبع متى وكيف حصل الاختراق الأول في منظومة
الكوابح التي حمتنا من هذا التشرذم أو الاحتضان، وحافظت على هويتنا
الواحدة الجامعة؛ لكن قد يكون الاعتراف بالواقع أولى الخطى نحو الخلاص،
ومراجعة ما فعلته كل حركة أو مؤسسة وما رضي به كل حزب في هذه القضية،
ستكون الشرط الذي قد يعيد لهذه الهيئات والأحزاب رشدها وشرعية حقها في
مناقشة مواقف بعض الحركات الإسلامية كما عبّر عنها القيادي السنوار،
بكل حزم ووضوح ومباشرة، وجميعنا يعرف أن هناك من يصغي إليه ويؤيده
بيننا.
من يراجع موقف حركة حماس من «القائمة الإسلامية الموحدة» سيجد في
الخطاب الأخير لهجة تصعيد بارزة، تجاه قيادات الحركة الإسلامية
الجنوبية خاصة تجاه الدكتور منصور عباس. لا أعرف باليقين ما هي مسببات
هذا التغيير، وما جعل حماس تختار خطاب التخوين المباشر بدل المناقشة
السياسية أو المحاورة الدعوية؛ خاصة إذا انتبهنا إلى أن «الخيانة» في
كثير من تجلّياتها، لم تعُد موضع إجماع بين أفراد الأمة أو بين مللها
ونحلها. لكنني أشعر بأن حركة حماس، ونظيراتها في الحركات الاسلامية
السياسية المتآخية، بدأت تشعر بخطورة نهج الحركة الاسلامية الجنوبية
عليها؛ لاسيما في الظروف الخاصة التي يعيشها مجتمعنا العربي في الداخل،
الذي من أجل رغده، كما تدّعي القائمة الموحدة، تصرّ على المضي مع حكومة
بينيت – لبيد، وهي معززة بفتاوى مشايخها وبتبريرها الذرائعي بأنها تفعل
ذلك لمصلحة المؤمنين والفقراء وأبناء الشعب. لقد ووجهت الحركة
الإسلامية الجنوبية بانتقادات لاذعة أطلقها شيوخ وقادة في الحركة
الإسلامية الشمالية المحظورة من قبل حكومة إسرائيل، وعلى الرغم من
صراحة ما قيل وقساوته، نجحت قائمتها في الانتخابات الإسرائيلية
الأخيرة، وهناك من يدّعي بأن شعبيتها تزداد رغم الهجوم عليها وتخوين
طريقها بسبب مواقفها النفعية. قد تخشى حركة حماس أن يصيب داء الالتباس
«معادلة الهدنة» بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، التي يتم الحديث عنها
في الأخبار من حين لآخر؛ وتخشى أن يُستغل ذلك الالتباس، بشكل مقصود، في
تسويغ علاقات بعض المفاعيل والجهات السياسية العربية والفلسطينية مع
إسرائيل، خاصة بعد أن نجحت الحركة الإسلامية الجنوبية، من خلال
اعتمادها على نصوص ملتبسة، بتحوير وتشويه مفهوم المواطنة، و»تحريره» من
ضرورة تحقيق حقوقنا الوطنية، كرديف لتحقيق حقوقنا المواطنية. لقد وضع
هذا الالتباس المواطن المسلم العادي في إسرائيل وفي غيرها من المواقع،
أمام معضلة جديدة لا يبدو أن الحسم فيها سيكون قريبا أو سهلا، حتى إذا
اتهمت حماس ومن يؤيدها منصور عباس بكونه «أبو رغال» هذه المرحلة؛
فللحركة الإسلامية الجنوبية مكانة ولها امتداد شعبي محسوس وتدعمها
زعامات وقيادات محلية بضمنها رؤساء مجالس وبلديات معروفين.
لغزة بحرها وسنوارها وحلمها، ولنا، نحن العرب في إسرائيل، ما لنا وما
علينا؛ وكم ناقشت وناقش غيري مواقف «القائمة الموحدة الإسلامية»
واعتبرناها مضرة بمصالح مجتمعنا؛ لأنها علاوة على ترسيخها لسابقة
سياسية خطيرة، ستفضي مع نهاية التجربة، إلى تقوية القوى اليمينية
الفاشية. وعلى الرغم من انتقادنا الشديد لمواقفها لم ألجأ إلى تخوين
أعضائها وقياداتها، لأننا ببساطة، كما قلت سابقا، نعيش في زمن لم تعد
فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة
نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا. للخيانة مقاسات ومساطر،
وجميع هذه كانت، يوم كنا نصحو على صوت الندى، واضحة وضوح الجرح في جبين
الفجر؛ واليوم صار كل شيء زائغا، حتى الربيع في شرقنا صار يخشى ضوء
القمر. لقد بدأت مأساتنا حين اختلّت معاني التحرّر ومزّق الوطن، قبل
وقوع منصور عباس عن حردبة الأمل. وكبر جرحنا حين رضينا بأن يبقى من
سقطوا عن صهوات العزة والكرامة قادة أحزاب وطنية وأصحاب رأي وقلم، وحين
صار لكل معبد دين وجيش وفقهاء ودولة وعلم. للخيانات رائحة الملح والعرق
وصوت يشبه هسيس الجن لن تخطئه حين تسمعه حتى لو كنت ساكنا في بلاد
العسل. والخيانات تتكاثر بيننا كالنمش على صدور السحاب، وتختبئ كحبات
الرمل تحت الأظافر، وفي عرى معاطف «الخواجات» وعميقا في جيوب الطغاة
وتحت وسائد السهر. سيحمل منصور عباس وحركته وزر ما فعلوا، وسيحاسبهم
مجتمعهم إن كانوا مخطئين أو جناة بحقه؛ وإلى أن يتم ذلك، أو عكسه،
دعونا من إغواء الاستعارات ووقعها المؤذي. أولم نكن وحدنا، نحن أبناء
الشمس، حين رفونا للتاريخ ملاءات من ورد حكاياتنا وسقينا الينابيع دموع
الأمل؟
كاتب فلسطيني
جمعة القدس الحزينة
جواد بولس
لن يسمع العالم، بأغلب الظن، بتفاصيل القضية التي رفعَتها يوم الثلاثاء
الفائت مجموعة صغيرة من المواطنين العرب المسيحيين المقدسيين، بالنيابة
عن بعض المؤسسات الأرثوذكسية المقدسية، وبالأصالة عن أنفسهم، ضد قرار
شرطة إسرائيل القاضي بتحديد أعداد المشاركين في احتفالات عيد الفصح
التي ستجري في رحاب وداخل كنيسة القيامة، وأهمها صلاة «الجمعة العظيمة»
وصلاة سبت «فيض النور» وقداس «أحد القيامة».
أكتب مقالتي قبل صدور قرار المحكمة العليا، التي لجأ إليها الملتمسون
باسم الدفاع عن حرية العبادة والحركة في مدينة محتلةٌ كل أركانها؛
لأنني أفترض أن هذه المحكمة ستبقى، كما كانت، بعيدة عن إحقاق العدل مع
الفلسطينيين، ولأنني على قناعة بأن مشكلة المواطنين الفلسطينيين
المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه الكنيسة اليونانيون – الذين
يتسيّدون على كنيسة القيامة وعلى أهم الكنائس المسيحية الأخرى في
«الأرض المقدسة» ويبسطون على جميعها سلطتهم المطلقة – وتنتهي في مواجهة
قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ سياسات الحكومات الإسرائيلية
المتعاقبة، بذريعة المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.
لن أستعيد، في عجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل البلاد
العرب المسيحيين ومن استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة السياسيين
وتعاون رجال إكليروس عاجزين، وتواطؤ حفنة من أبناء هذه الكنيسة
المنتفعين؛ لكنني أؤكد مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة أحيانا، التي
تنتاب كل مسيحي حر حين يدخل هذه الكنائس التي يتحكّم فيها كاهن أو كهنة
يونانيون، خاصة في كنيستَي القيامة (أم الكنائس) والمهد. وهذا هو بيت
القصيد في هذه الحكاية. فالقضية، إذن، أكبر من كونها معركة على ضمان
حرية العبادة والحركة لسكان حارة النصارى أو للوافدين إلى البلدة
القديمة في هذه الأيام، ورغم أهمية هذه المعركة القضائية التي يخوضها
بعض الغيورين على القدس، يجب أن نتذكّر أن الفصح، عند مسيحيي الشرق
يُعدّ من أهم الأعياد، لا بل هو العيد الكبير، عيد الأعياد وموسم
التهاليل والفرح العظيم؛ وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس
التي كان ترابها مأوى رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يعتبر
القبلة المشتهاة عند جميع المؤمنين من مسيحيي العالم. لقد دافع
الكثيرون من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم
الإنسانية وعن هويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وحاولوا،
رغم جميع العراقيل التي واجهوها، تحرير كنائسهم وحماية عقاراتها
وأوقافها؛ لكنهم فشلوا لأسباب عديدة، فبقيت معظم تلك الكنائس
وممتلكاتها، الروحية والمادية، تحت حكم أغراب مستعمرين جاؤوها في حقب
تاريخية رمادية، وفي ظل أزمات عانت منها مجتمعاتنا المحلية، فأسروا
صليبها واستحوذوا على مسيحها؛ على مهده وعلى قبره، وتنمّروا على
رعاياها العرب من أهل البلد.
دافع الكثير من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم
الإنسانية وهويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وعن كنائسهم
وعقاراتها وأوقافها؛ لكنهم فشلوا
ليالي شرقنا طويلة «فكليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصب»؛ هكذا كتبت قبل أكثر
من عقد وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني، وأمانينا كالنجمات
معلقة على أهداب السحاب. لم نحب النابغة أكثر من أترابه من فحول ذلك
الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه «أشعر الناس إذا رهب» وأنه
«لا يرمي إلا صائباً» وهو الذي أجاد ووصف «ليلنا البطيء الكواكب». لقد
كنا في الأمس صغاراً وكانت صباحاتنا كصباحات صغار اليوم، كلّها نزوات؛
وكبرنا فصارت ليالينا، كليالي كبار الأمس، كلّها شهوات، وبقيت جُمعاتنا
كجمعة الذبياني حزينة وعظيمة وأمانينا معلقة على حدبة العمر. لا حاجة
لتغيير ما كتبت حينها، قبل أكثر من عقد؛ فالخلاصات في أرضنا السليبة
تبقى مثل «بنات الجبال»؛ و»جمعة القدس» تأتينا منذ ألفي عام بفرحها
الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في زمن توقف منذ دُقّت المسامير
في راحتي «ابن الإنسان» بعد أن علّقه الرومان، أباطرة ذلك العصر، على
خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا
فنالوا. لقد كانت أيام خَلِّ وما زالت؛ ففتشوا عن الحكمة في هذه
الرواية، ستجدوا أبناء فلسطين يتجرعون اليوم خلّ الطغاة كما تجرّعه
ابنها بعد أن اتهموه بالكفر وبالتمرد وسجنوه وعذبوه وحاكموه، فمات
مصلوباً لتروي دماؤه قحل الزمن، ولتبقى كلماته نوراً في الأرض وغرساً
في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء. لقد وقف أسير فلسطين، ابن ناصرة
الجليل، ولم يعترف بشرعية محكمته وقد اتهموه بجناية «التجديف» فاضطروا
إلى نقله لبلاط الوالي الروماني كي يقاضيه هذا بتهمة التمرد على سلطة
قيصر؛ بعد أن تبين للكهنة اليهود أعضاء «السنهدرين» أن روما لن تقبل
اتهامه بجناية التجديف، لكونها تهمة مبنية على المفاهيم الشرعية لتلك
الطائفة اليهودية.
لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم
تعذيبه، التعاطي مع «المحكمة». لن أسترسل بتفاصيل أسبوع الآلام ونهايته
بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وكان يعرف أن
الإجراءات بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على سلطتهم
ومواقعهم، فلفقوا القضية ضده. لم تكن أحلام صاحب الفصح من شوك ولا
تعاليمه سفسطة، وقد أوجزها بموعظة صارت تعرف «بموعظة الجبل» التي وصل
صيتها حتى أورشليم، فجاء أهلها «رقاق النعال» يستقبلونه بالريحان على
مشارفها وبالأهازيج وبالسباسب، وهي سعف النخيل في لغة النابغة الذبياني
وأهل عصره. لقد سموه عيد الفصح؛ عيد العبور، عيد التجاوز والانعتاق،
عيد «القيامة» فمن يسر على درب الخير وعمل الصالحات ينجو ويعش اسمه إلى
الأبد. هكذا آمنا صغاراً، من باب الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه
المجهول والمطلق. فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددوا فصار «هذا هو
اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به». ثم كبرنا ولم يبقَ في
صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني البسيط، فأسكنا «القيامة» في
بيضة وأعطيناها للأطفال كي يلهوا ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك
فحوّلناه كعكاً من قمح هذه الأرض فطحناه وعجناه وحشونا بالتمور وبالجوز
والسكر. وإسفنجة الخل استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها بأجواء
كلها إلفة عائلية معمولا ليؤكل ويمحو طعمه، ولو ليوم واحد، طعم الخل
والعلقم. إنها تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم
المنقول كوسائل إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم
القيامة عليها عسيراً أو عصياً.
عيدنا اليوم كعيد الذبياني، ولا يختلف عنه عيد «أبي الطيب»: فرح حامض
وبهجة عابرة؛ همٌّ ينام ولا يترك وسادة لنوم حامله. إنه عيد الحياة
والفداء والتضحية؛ عيد الحب والصفح؛ تماماً كما أوصى وهو على ذاك
الجبل: «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا لمبغضيكم». لقد قالها
ومشى إلى أورشليم، والنهاية كانت كما جاء في الكتب. واليوم، في هذه
الجمعة الحزينة، تبكي عذارى أورشليم على دروب الآلام كما بكت قبل ألفي
عام، وكما بكت معهن مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتلون
دستور الإيمان عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض
والكعك والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم. لقد ذهبت روما وبقي «قوس
بيلاطس البنطي» في القدس البهية شاهداً على محاكم الظلم وعلى معاني
الفداء، وبقيت فلسطين، في الفصح، كما كانت: بحة المدى وصاحبة فجره
الدامي، وقطرة الندى؛ وإن غفا على جفونها الوعد حتماً ستصحو ذات نيسان
ليحتضن أبناؤها «قاف» القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.
فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.
كاتب فلسطيني
والقول كما قال أيمن
في باب العامود… ولكن
!
جواد بولس
نشر النائب أيمن عودة يوم الأحد الماضي شريط فيديو قصيرا، بطول دقيقتين
ونصف الدقيقة فقط، كان صوّره وهو يقف أمام أشهر وأكبر المداخل إلى
مدينة القدس القديمة المحتلة، المعروف باسم «باب العامود».
ولم تتوقف حملة التحريض الإسرائيلية ضد النائب عودة رئيس القائمة
المشتركة، منذ لحظة نشر الفيديو حتى يومنا هذا، ولم يشارك فيها أبواق
اليمين الصهيوني المنفلت ووسائل إعلامهم وحسب، بل انضم إليهم أيضا قادة
الأحزاب الصهيونية وإلى جانبهم معظم وسائل الإعلام العبرية ومن يعملون
فيها تحت صفة صحافيين؛ وهم من هذه المهنة براء.
لقد نشر النائب عودة شريطه المصوّر بعد أن التقى مع عدد من المواطنين
الفلسطينيين المقدسيين، الذين اشتكوا أمامه من اعتداءت بعض المواطنين
العرب من حملة الجنسية الإسرائيلية المجنّدين في قوات أمن الاحتلال،
على المصلّين المقدسيين وعلى غيرهم، وعلى المواطنين الذين يسكنون داخل
البلدة القديمة. كان بمقدور النائب عودة ألا يعير الشكوى أي اهتمام،
وأن يقتدي «بحكمة» القادة الوسطيين، أو بما يفعله باعة التنظير أو
الوعّاظ الذرائعيون حين تكون نجاتهم الشخصية دوما بترداد النصائح
«الفارهة» أو الشعارات المجوّفة، وأهمها في هذا الزمن: شعار «حايد عن
ظهري بسيطة»؛ لكنه، وهو الذي تربى في أحضان حزب وجبهة رفع قادتها، منذ
بداية التكوين، شعار: لا للاحتلال وموبقاته ولا للخدمة في قوّاته، قرر
أن يخاطب جميع هؤلاء الشباب وعائلاتهم، على قلة أعدادهم، ويقول لهم:
«من العار أن يقبل أي شاب، أو أهل أي شاب، أن ينخرط ضمن ما تسمى قوات
الأمن.. قوات الاحتلال التي تسيء لشعبنا وأهالينا ولمن يذهب للصلاة في
المسجد الأقصى» ثم أضاف مؤكدا، أن «موقفنا التاريخي هو أن نكون مع
شعبنا المظلوم من أجل إنهاء هذا الاحتلال المجرم، ومن أجل أن تقوم دولة
فلسطين وتعلق أعلامها هنا على أسوار القدس وليحل السلام في أرض
السلام»؛ ثم توجه لمن يحمل سلاح الاحتلال من هؤلاء الشباب وأهاب بهم
قائلا: «ارموا السلاح في وجوههم، وقولوا لهم: مكاننا ألا نكون جزءا من
الجريمة والإساءة لشعبنا.. مكاننا الطبيعي أن نكون مع الحق والعدل،
وجزءا أصيلا من الشعب العربي الفلسطيني..». لم يختلق النائب أيمن عودة
مسألة معارضة الجبهة الديمقراطية للسلام، وقبلها الحزب الشيوعي،
للاحتلال الإسرائيلي، ولا موقفهم التاريخي من قضية التجنيد لما يسمى
قوات الأمن الإسرائيلية، على جميع مصنفاتها؛ وعلى الرغم من كونها مواقف
مدرجة تحت ما تصح تسميته «أمهات المواقف» المجمع عليها وطنيا، نجد أن
بعض الجهات العربية المحلّية، مؤسسات وشخصيات، تجرأت على استهجان
مواقفه، أو حتى على اتهامه باللجوء إليها من باب المزايدة السياسية
والتهوّر غير المحسوب الذي سوف يغيظ ساسة إسرائيل ويؤلبهم علينا، نحن
المواطنين العرب، لاسيما في هذه الأوقات المحمومة. معظم العرب الذين
انتقدوا أو هاجموا النائب عودة كانوا مدفوعين بنوايا سيئة ومن أجل مآرب
سياسية مفضوحة؛ ولكن قلة غيرهم فعلوا ذلك بسبب خلافاتهم السياسية معه
واعتراضهم على طريقه في العمل السياسي وإصراره على إيجاد الشركاء
اليهود والصهاينة من أجل الوقوف معهم ضد الاحتلال وضد الفاشية على حد
سواء. وقد أصاب النائب أيمن عودة في عدم رده على جميع هؤلاء، فالمرحلة
بحاجة إلى رص الصفوف لا إلى تفريقها. ولكن بعيدا عن تلك المشاهد، علينا
أن نعترف بأن تنامي هذه الظاهرة وتعدد الأصوات التي بدأت تدافع عن «حق»
البعض بالتجند للجيش، أو بالانخراط في أذرع الأمن على تنوّعها، تشكّل
برهانا على مقادير التآكل القيمي الذي أصاب مجتمعاتنا وشواهد على
انهيارات واضحة في منظومة الكوابح الوطنية والمحاذير الاجتماعية
السياسية، التي كانت قائمة منذ البدايات، والتي أدّى انهيارها إلى
زعزعة «محرّمات» كثيرة، لم يجرؤ أحد في الماضي على أن «يغمز جنباتها»
أو أن يتحدّاها كإرادة لمجتمع كامل. ولكم في القصص الصغيرة عبرة.
ما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من «الانتماءات السائلة» وتعاني من
تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية
كنت من أبناء الجيل الأول الذين ولدوا بعد النكبة في قرية كفرياسيف
الجليلية؛ وما زلت أذكر كيف كان الالتحاق بقوات الأمن الإسرائيلية، على
جميع فروعها، سواء كان ذلك انصياعا لفرض التجنيد الإجباري، أو الانضمام
الطوعي لقوات الأمن، أو كمصدر رزق وعمل، محظورا كحالة بديهية يحترمها
أهل القرية جميعهم، كما في سائر القرى الشبيهة بقريتي. وعندما أقول
جميع أهل القرية، أتذكر أن أحد أبنائها كان قد انخرط ليعمل سجّانا في
ما يسمى مصلحة السجون الإسرائيلية؛ وكان انضمامه في وقتها استثناء
خارجا عن المألوف. ولأن ذلك المواطن كان يعرف تلك الحقيقة، حرص ألا
يعود، بعد انتهاء ورديات عمله، إلى القرية بزيّه الرسمي، فكان ينزل من
الباص قبل وصوله إلى تخومها ليقوم بتغيير ملابس «العمل» ويدخلها بلباسه
المدني كيلا يستفزّ مشاعر أبناء قريته عامة. هكذا كانت «الدنيا» عندما
كانت هوّياتنا مثل جيناتنا أصيلة، طبعا وتطبّعا، وكانت المحاظير
والمحاذير هواء تتنفسه الأجيال وتحيا بهديه. لقد حصر النائب أيمن عودة
كلامه في «قوات الأمن» بتعميم مقصود؛ وأشار لدور تلك القوات في تكريس
الاحتلال وقمع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لاسيّما في القدس
الشرقية، التي تواجه فائضا من وجبات القمع والاضطهاد اليومي. ومن تابع
تصريحات النائب عودة شعر بأنه كان واعيا لتشعّبات مسألة الخدمة في قوات
الأمن، داخل المجتمع العربي، وللتصدّعات التي ألمّت بها في العقود
الأخيرة، خصوصا، إذا تحققنا من أعداد المواطنين العرب الذين انضموا
خلال السنوات الأخيرة إلى الأجهزة الأمنية على فروعها: الجيش، الشرطة
بكل أقسامها، حرس الحدود، مصلحة السجون، النيابات العامة وغيرها من
المواقع التي كانت بمثابة «مناطق محرّمة» يمنع الاقتراب منها والعمل
فيها، مثل وزارة الخارجية وسلكها الدبلوماسي، وأجهزة القضاء على
درجاتها. فهل نحن إزاء انهيارات جدّيّة، أم أننا نشهد حالة مستمرة من
الانصهار الطبيعي الذي يجب أن يحصل بين أي دولة ومواطنيها؟ لم يتطرق
النائب أيمن عودة إلى هذه القضية، فمن سيجيب على هذه الأسئلة؟
كنت في الماضي قد انتبهت ونبّهت مما تضمره سياسة الدولة التي بدأت
تعتمد أنماطا جديدة من مظاهر الاحتواء السياسي؛ وأشرت، حينها، إلى ما
تولّده بيننا تلك السياسات من «المعاضل السياسية» التي ما لم نواجهها
فسيكون تأثيرها في مستقبل علاقتنا مع الدولة وفي شروط حياتنا في قرانا
ومدننا كارثيا. وذكّر إن تنفع الذكرى؛ فقد تناولت هذه المسألة بعد أن
اشتكت قيادات المجتمع العربي السياسية والمدنية، قبل سنوات عديدة، من
ظلم إسرائيل وعدم استيعابها لمواطنيها العرب في الوظائف والشواغر التي
تتحكم فيها مؤسسات الدولة، وطالبتها بضرورة تحقيق المساواة الفورية
والتامة. حينها قلت إنه لا يختلف اثنان حول عنصرية إسرائيل تجاه
مواطنيها العرب؛ لكنني لم أفهم كنه المطالبة كما أعلنتها القيادات
وقتها. فهل فعلا نحن نريد مساواة كاملة في جميع ميادين العمل المتاحة
في الدولة؟ أنريد، حقا، مساواة وظيفية بكل وزارة ودائرة ومؤسسة عامة
وحكومية؟ وأضفت: هل نريد، مثلا، خمس ما تتيحه «الكنيست» من وظائف في
جميع مواقعها؟ وهل يشمل ذلك حصّة كاملة في حرس الكنيست؟ أو هل يعتبر
عمل المواطن العربي في وزارة الشرطة أمرا مسموحا؟ وهل يجب أن نطالب بأن
يكون قائد الشرطة العام أو نائبه مواطنا عربيا؟ أم علينا أن نكتفي،
مثلا، بالمطالبة بتعيين قائد شرطة عربي للمنطقة الشمالية أو في النقب؟
أو قائد شرطة عربي لمكافحة العنف والمخدرات؟ هل تملك قياداتنا موقفا
إزاء هذه التساؤلات؟ أم سيعتبر كل من يخدم في الشرطة خارجا عن إجماع
مجتمعه أو منحرفا أو ربما خائنا؟ وماذا عن آلاف المواطنين الذين يخدمون
كسجانين وضباط كبار في مصلحة سجون الدولة؟ وتساءلت أيضا، هل يسمح
للمحامين العرب أن يوظّفوا لدى نيابات الدولة وأن يتدرجوا فيها حتى
أعلى المناصب؟ وهل من حقنا أن نطالب، كمواطنين مصرّين على نيل حقوقنا
المدنية كاملة، بأن يكون النائب العام للواء الشمال أو غيره عربيا؟ وهل
نريد حصصنا في جميع المرافق والشركات الحكومية مثل البنوك والموانئ
والجمارك وسلطات الضرائب وغيرها وغيرها؟
لن أستعيد كل ما كتبت في الماضي، فجميع تلك التساؤلات لم تنل أية عناية
من أية جهة أو مؤسسة مدنية أو حزب أو حركة أو قيادة أو مثقف. ومضت
السنون وما زالت مجتمعاتنا تعيش حالة من «الانتماءات السائلة» وتعاني
من تشوّهات قيمية خطيرة وخلل جوهري في معالم الهوية التي أصبح يمثلها
في حياتنا اليومية المواطن العربي «الشاطر» الجديد، الذي لم يعد يعنيه
أن ينزل من الباص قبل دخوله القرية متحاشيا خدش مشاعر أهلها، بل يتعمد
أن يدخلها متبجحا «كرامبو القبضاي» وبارودته ملقاة على كتفه.
كاتب فلسطيني
(حروب اليهود) في
الكنيست – المعركة الأخيرة
جواد بولس
نحن على أبواب إسرائيل أخرى؛ مملكة يهودا والسامرة، التي سيحكمها ما
يشبه «السنهادرين» وكهنته، وقادة عسكريون يؤمنون بأنّ هذه الأرض مخصصة
لليهود، كعرق نبيل، وقد اختارهم الرب ليبنوا له الهيكل العظيم في أقدس
بقع المعمورة، وليقدّموا له ذبائحهم. لن يكون في هذه المملكة مكان
للآخرين ولا لأحزابهم التي أنهكتها الأيام وحوّلت برامجها إلى مراثٍ لم
تعد تنفع في هذا الزمن الرصاصي، لأنّ «توراة الملك» صارت هي أول الكلام
وآخره.
فمنذ اليوم الأول لولادة حكومة بينيت – لبيد كان واضحا أنها ستعيش في
حقل مزروع بالألغام السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما
ستصطدم بلغم «قاتل» سيوقف انفجارُه مسيرتَها وسيؤدّي إلى نهاية «عمرها»
من دون أن يصل يئير لبيد إلى كرسي رئاسة الحكومة؛ وهذا، على ما يبدو،
ما سيفضي إليه قرار عضو الكنيست عيديت سيلمان، التي انسحبت من الإئتلاف
وتركت زميليها في حزب «يميناه» نفتالي بينيت وأييلت شاكيد، داخل حكومة
لا تحظى بأغلبية برلمانية.
وعلى الرغم من أن العمل السياسي يتطلب أحيانا، في سبيل تشكيل الحكومات
في الدول البرلمانية وبينها إسرائيل «السير على الماء» وإجادة فن
البهلوانيات الحزبية، حتى الغريبة منها وغير المتوقعة، إلا أن ما حصل
بعد الانتخابات العامة الأخيرة فاق كل التوقعات، وتخطّى حدود الخيال
السياسي. إنه مشهد مخاتل؛ فالتوافق بين حزب «يميناه» المعروف بعنصريته
المتطرفة، مع أحزاب الوسط الصهيونية واليمين الصهيوني العلماني المدعوم
من حركة إسلامية، وابتعاده عن حلفائه «الطبيعيين» من الأحزاب الصهيونية
القومية المتدينة العنصرية المتطرفة، كان عبارة عن مغامرة سياسية
انتهازية خاضها بينيت وحزبه ضد «الطبيعة» وبعكس جميع المعطيات
الاجتماعية والسياسية الحقيقية التي أنجبتهم وأوصلت معهم إلى الكنيست
جيشا كبيرا من غلاة المتطرفين العنصريين اليمينيين، الذي يناهز عددهم
الثمانين نائبا «ونائبة».
ليس من الحكمة أن نتكهن ماذا سيحصل خلال الشهر المقبل، وكيف سيتصرف
البرلمان الإسرائيلي حال عودته من الإجازة التي ستنتهي في الثامن من
مايو المقبل؟ فهناك ثلاثة احتمالات واردة: فإمّا التصويت على حل
البرلمان والذهاب إلى معركة انتخابية جديدة؛ وإمّا التصويت على حجب
الثقة عن الحكومة الحالية، وإقامة حكومة بديلة لها، شريطة أن يشمل
مقترح حجب الثقة اسم رئيس الحكومة الجديد المقترح؛ وإمّا التصويت على
إبقاء الحكومة الحالية بدعم أكثرية صغيرة أو عارضة، غير ملتزمة بشروط
الإئتلاف الحكومي، ما سيبقيها في حالة ضعف مستديم وخاضعة لاشتراطات من
يدعمها أو لابتزازاتهم، خاصة في جميع المسائل التي يتطلب حسمها تصويتا
عدديا، مثل تشريع القوانين والميزانيات وغيرها. تضع جميع هذه
الاحتمالات المواطنين العرب وقياداتهم السياسية أمام معاضل كأداء
وتقرّبهم نحو فوّهات العبث والهاوية.
كان واضحا أن حكومة بينيت – لبيد ستعيش في حقل مزروع بالألغام
السياسية، وأنها إذا نجت مرّة أو أكثر، فإنها حتما ستصطدم بلغم «قاتل»
سيؤدّي إلى نهاية عمرها
من الجدير أن ننتبه إلى أن انسحاب العضو عيديت سيلمان من الإئتلاف كان
على خلفية موقف وزير الصحة، رئيس حزب ميريتس نيتسان هوروفيتس، في مسألة
دينية، بعد سماحه بإدخال الأطعمة الخامرة إلى مستشفيات إسرائيل خلال
أيام عيد الفصح اليهودي؛ وهو ما تمنعه «الهلاخاه» اليهودية، التي
استماتت عيديت سيلمان بالدفاع عنها، وقطعت، من أجلها، حبل الود مع
حزبها وزعيمه. من الواضح أن هذه القضية كانت الذريعة لتنفيذ خطوة
الانسحاب، التي جاءت لتذكّرنا بهويتها وهوية زملائها في حزب «يميناه»
وشعورهم حيال هذه الحكومة التي يعتبرونها «غير طاهرة» لأسباب عديدة، من
بينها أنها مدعومة من قبل «الحركة الإسلامية» التي تعدّ عندهم، رغم
مهادنتها المنبطحة لسياسات حكومتهم ولقراراتها، خنجرا مغمدا في خاصرة
الدولة اليهودية. أقول هذا مفترضا أن القائمة الموحّدة الاسلامية ستبقى
داعمة لحكومة بينيت-لبيد، أو لأي حكومة غيرها، إذا قبِل بها، طبعا،
قادة الأحزاب التي ستشّكل تلك الحكومة في الأسابيع المقبلة؛ وهذا ما
أشكّ في حصوله. بالمقابل، فإننا لا نعرف كيف سيتصرف نوّاب القائمة
المشتركة وأطرهم الحزبية إزاء هذه الأزمة؛ فعلى الرغم من أننا نلاحظ
بداية وجود تمايزات وفوارق في تصريحاتهم ومواقفهم، نراهم يقرّون بخطورة
المرحلة وبتداعياتها الممكنة علينا، كمواطنين عرب. أخشى أن تخذلهم
الحكمة وأن يختلفوا قبل يوم الامتحان؛ لاسيما مع وجود احتمال بأننا نقف
أمام آخر معركة في «حروب اليهود» التي ستحدد نتائجها، بطريقة مأساوية،
من هي الطغمة التي ستتحكم في الدولة وفي رقابنا؟ وما شكل النظام
السياسي الذي سيتسيّد على المنطقة في العقود المقبلة؟
ربما لم يقرأ بنيامين نتنياهو نبوءات من تكهنوا بزوال إسرائيل حتى
نهاية هذا العام؛ أو ربما قرأ وضحك من ذلك في غيّه، وراح يعبّر عن
غبطته لانسحاب عيديت سيلمان من الإئتلاف، محيّيا باسم الآلاف من شعب
إسرائيل، عودتها إلى «المعسكر القومي» ومؤكدا أن ما أرشدها كان «القلق
على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل والخوف على أرض إسرائيل». وإذا
كانت أقوال نتنياهو غير كافية كدليل للآتيات العاتيات، فلنقرأ ما صرّح
به رئيس حزب «الصهيونية المتدينة» بتصلئيل سموطريتش، وهو لسان حال
المرحلة السياسية المقبلة، واصفا الخطوة «بفجر يوم جديد في دولة
إسرائيل» مضيفا: «إنها نهاية حكومة غير صهيونية، حكومة بينيت والحركة
الإسلامية، وهي اللحظة التي يمكن فيها تغييرها بحكومة يهودية، صهيونية
وقومية» ثم انتقل ليحيّي عضو الكنيست عيديت سيلمان «على خطوتها التي
وضعت من خلالها خطا أحمر أمام المسّ بهوية دولة إسرائيل اليهودية وبقيم
الصهيونية الأساسية». ما أوضح هذا الكلام وما أخطره وهو يقال وأصداء
عمليات إرهاب «الدواعش» ما زالت تملأ الفضاء وتحشو صدور المجتمعات
اليهودية بالكراهية للعرب وتجيّشهم لساعة الانتقام. لقد كان واضحا
للكثيرين أننا نعيش مرحلة انتقالية خطيرة، ضعُف فيها أداء الأحزاب
العربية، بينما برز دور «القائمة الموحدة الاسلامية» التي قرر قادتها،
لأول مرة في تاريخ العمل السياسي بيننا، دعم حكومة إسرائيل في موقف
ساعد على اختمار الظروف للانتقال إلى شكل حكم مستبدّ جديد في الدولة
«اليهودية الصهيونية القومية». لا يجوز أن نفصل ما يجري في أروقة
الكنيست عن الأحداث والظواهر الحاصلة داخل مجتمعاتنا المحلية، وعن
تطوّراتها؛ وقد تكون هبة مايو المنصرم الجماهيرية أبرزها حجما وأخطرها
بما خلّفته من غضب في النفوس وجسور محروقة بين الدولة ومواطنيها العرب،
لكننا يجب ألا ننسى أنها اندلعت ومجتمعنا العربي يعيش في مناخ عام حاضن
للعنف وعاجز أمام عالم الجريمة التي تنفذها نفوس متطرفة ومأجورة وجاهزة
للقيام بجرائم قتل ضد الأبرياء، تارة باسم الدين أو الدفاع عن أمّته،
وتارة من أجل الشرف؛ ودائما باسم البلطجة وسطوتها.
وعلى الرغم من تقصير الدولة وإهمال حكوماتها في مواجهة مظاهر العنف
والجريمة المستفحلة بيننا، نرى أن معظم قادة الأحزاب الصهيونية
اليمينية يرفعون شعار «علينا إعادة الأمن والأمان إلى شوارع مدننا
وبلداتنا» ويستغلون اللحظة السياسية الحاضرة وتداعيات مشاهد عمليات قتل
المواطنين في بئر السبع والخضيرة وبني براك، ويتناسون أن جميع القيادات
السياسية والإسلامية والمؤسسات الفاعلة بين المواطنين العرب، شجبت تلك
العمليات وأكدت رفضها لهذه الوسائل بشكل قاطع. قد يكون من المناسب
اليوم ونحن على أعتاب حقبة سياسية جديدة داخل إسرائيل أن أذكّر بما
أشرت إليه مرارا؛ فالاكتفاء بالشجب وهو مقرون بدور الاحتلال الإسرائيلي
وممارساته كمولّد لتلك الظواهر ومحفز لمن يمارسونها، وإن كان صحيحا
وضروريا من الناحية السياسية، لا يكفي. من الطبيعي أن يمتلئ كل إنسان
يتعرض لمشاهد قمع المحتلين وعناصرهم غضبا على المحتل وقمعه، لكنه لن
يصل إلى تلك المرحلة النفسية والاستعداد الفعلي لقتل نفسه والآخرين، من
دون أن تضاف إلى دور الاحتلال وممارسات جنوده، عوامل مجتمعية داخلية هي
التي تدفعه في النهاية إلى تنفيذ تلك العمليات المدانة. لم تتوقف
قيادات مجتمعنا عند هذه الظاهرة بجدّية، ولم تحاول سبر مكنوناتها بجرأة
وتفكيك بناها بمسؤولية؛ ولو فعلوا ذلك لتوصّلوا إلى مجسات التأثير
السلبية على تلك النفوس، واكتشفوا معامل وعوامل التخمير الفعالة، خاصة
بعد أن وضع بعضهم أطراف أصابعهم على جزء من تلك المؤثرات، حين أشاروا
إلى الفقر والبطالة والجهل وما يجري من على بعض منابر التجييش الدينية،
التي تحترف نشر خطابات متزمّتة عنصرية مكرورة، همّها الدعوة للاقتصاص
من الكفرة والتصدّي «للآخرين» والثأر للدين ورموزه المقدسة وفي طليعتها
المسجد الأقصى على سبيل المثال.
نحن اليوم أقرب إلى نقطة اللاعودة ويجب أن نسقط الذرائع الدموية من
أيادي كتائب الموت، ومن لا يقر بذلك فليقرأ كتاب «توراة الملك» وليتعرف
على فقهه الذي سنكون نحن أول ضحاياه.
كاتب فلسطيني
إسرائيل – من دولة عنصرية لها
مؤسسات وجيش إلى كيان مارق
وكتائب فاشية
جواد بولس
لا ضير من تذكيري مرّة أخرى بقائمة المؤشرات التي يمكن، بالعودة إليها،
تشخيص ما إذا كانت الفاشية قد تملكت من عروق نظام الحكم في دولة ما، أو
إذا كان ذلك النظام يجنح نحوها؛ فعلماء الاجتماع السياسي عدّدوا ما
يلي:
سيادة الجيش وهيمنة «العسكرة» التعامل شبه المرضي في ما يسمى أمن
الدولة، العلاقة الوثيقة بين المؤسسة الحاكمة والمؤسسة الدينية، دفاع
الدولة عن الشركات الكبرى والعلاقة الوطيدة بين السلطة ورأس المال،
إضعاف نقابات العمال، غطرسة المشاعر القومية المتطرفة، الاستهتار بحقوق
الإنسان والاعتداء على الحريات الأساسية، الإجماع على استعداء هدف
وإيجاد «أكباش فداء» على شاكلة أقليات قومية أو فئات اجتماعية مستضعفة،
وسائل إعلام مجندة وغير موضوعية وفاقدة للمهنية الإعلامية الحيادية،
فساد متفشّ في جميع منظومات الإدارة والحكم، محاربة «الحرية
الأكاديمية» والاستخفاف بمكانة الأكاديمي والمثقف.
لقد تمّمت إسرائيل في سنواتها السبعين جميع هذه الخطى ووصلت حدّ
الهاوية؛ ونحن نعيش في وطننا وسط النار، ونحاول أن نختار حكمتنا
الفاصلة بين بقائين: فإمّا الموت على حدود سيوف حقنا والبقاء في ترابه،
أو العيش في أنفاس الزهر والموج والبقاء فوق أرضه.
«لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد عملية الطعن التي نفذها
المواطن محمد أبو القيعان، من سكّان بلدة حورا في النقب، في مركز مدينة
بئر السبع يوم الاربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن؛ فبعض المعلقين يتكهنون
بأن البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدا أمنيا
خطيرا، لا سيّما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع
أولئك «المنجّمين» وألّا تَصْدق توقّعاتهم». هكذا كتبت في مقالتي
السابقة، بعد عملية «عاصفة الصحراء النقباوية» التي نفّذها مواطن عربي
إسرائيلي قيل إنّه ينتمي إلى تنظيم «داعش»؛ فالمسألة لم تكن بحاجة، على
ما يبدو، لاجتهادات «منجّمين» لأننا كما توقعت نقف «داخل إسرائيل على
حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار» وما سوف يأتينا سيكون حتما أعظم.
لقد كانت مدينة الخضيرة الإسرائيلية، الواقعة في مركز البلاد، ساحة
الغزوة التالية التي نفّذها أيضا مواطنان عربيان من مدينة أم الفحم،
قيل إنّهما ينتميان إلى تنظيم «داعش» الإسلامي، من دون أن يدّعي أحد
وجود أي علاقة أو تواصل بين محمد أبو القيعان، منفذ عملية بئر السبع،
وأولاد العم، أيمن وإبراهيم إغبارية، منفذيّ العملية في الخضيرة. لم
ينتظر معظم المحللين الإسرائيليين حتى انتهاء عمليات تقصّي الحقائق، أو
حتى سماع تقييمات المسؤولين ذوي الاختصاص في هذه المسائل، مثل جهاز
المخابرات العامة؛ بل راحوا بعنصرية مفضوحة ومن دون أي مهنية أو حذر،
يطلقون سهام خيالاتهم المغموسة بسموم التحريض على جميع المواطنين
العرب، ويصرّون على تأثيم الإسلام كديانة تربّي أتباعها على معاداة
اليهود، وعلى السعي بعزم إيماني أعمى في سبيل تقويض أسس الدولة
اليهودية والقضاء عليها. لقد جنّد هؤلاء «المحللون» والمعلقون
المستعربون، حقيقة كون منفذي العمليتين الثلاثة عربا من مواطني
إسرائيل، وبنوا عليها جبالا من الافتراءات والتحاليل المغرضة، التي
ساهمت في تأزيم الحالة السياسية بين الدولة ومواطنيها العرب، وهي
المأزومة أصلا، وفي تكثيف مقادير الكراهية العرقية الفاشية المتفشية
داخل المجتمعات اليهودية. ثم جاءت عملية «بني- براك» المدينة القريبة
من تل-أبيب، التي نفّذها الشاب ضياء حمارشة، وهو مواطن فلسطيني يسكن مع
عائلته في قرية يعبد في محافظة جنين، فشوٌشت هذه الحقيقة خلاصات أولئك
المحلّلين، لاسيما حيال ادعائهم التحريضي حول استئثار المواطنين العرب
في إسرائيل بمهمة تنفيذ العمليات الانتحارية، في حين ابتعد عنها أهل
مناطق الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، الذين تم»تدجينهم» وتحييدهم
تحت بنادق الاحتلال.
علينا أن نصحو وأن نجد ما يسعفنا لنخرج أحياء من المستنقع ونبقى فوق
أرضنا وليس أمواتا داخل أغماد حقنا
يجب أن نقرأ ما يكتبه هؤلاء المحرّضون، حتى لو كنا على يقين بعدم صحته،
أو بما يرمون من ورائه ؛ فدور الإعلام العبري العنصري في تجنيد الرأي
العام الإسرائيلي حاسم من دون أدنى شك، وعلاقته مع صنّاع القرار
السياسيين والأمنيين متبادلة، فهم يستغلونه من أجل ترويج عقائدهم
وزيادة شعبيتهم، كما شاهدنا في قضية نتنياهو وأصحاب موقع «واللا»؛ وهو،
أي الإعلام، يتحوّل إلى قوة تأثير هائلة على جنوح هؤلاء القادة نحو
فضاءات الرعاع، وتغذية مواقفهم ونشاطاتهم الوحشية؛ وهو كما أشرنا سابقا
من أهم مؤشرات تعاظم الفاشية. لقد كان الاعلان عن إقامة « كتيبة
بارئيل» قبل مدة قصيرة – وهي عبارة عن مبادرة لتشكيل ميليشيا مختلطة من
العناصر الشرطية والأمنية، على أنواعها، ومن سوائب العنصريين اليمينيين
المتطرفين – مؤشرا على اختمار المجتمعات اليهودية، وانتقالها من مرحلة
«التخصيب العقائدي الذهني» «والشحن الغوغائي العاطفي» الفاشيَّين، إلى
مرحلة الانطلاق الفعلي نحو تحقيق الأهداف. لا يمكن اعتبار هذه المبادرة
مجرد نزوة؛ فكما أسلفنا تعتبر عملية عسكرة المجتمع وإدماجه، بمنهجية
فوقية، في البنى الأمنية والعسكرية الرسمية، من أهم الدلائل على تحوّل
الدولة، وفي حالتنا إسرائيل، من دولة لديها جيش، كان الأقرب إلى
التقديس، ومؤسسات وقوانين، كانت عنصرية، نحو دولة يتحكم فيها نظام فاشي
متكامل ومجتمع متماهٍ مع ذلك النظام، يتغذّى منه ويغذّيه.
فرئيس الحكومة نفتالي بينيت دعا قبل يومين كل من يحمل قطعة سلاح مرخصة
بالتسلح بها، وأوضح على أن «هذه هي الساعة لفعل ذلك» معلنا أن الحكومة
استدعت المزيد من كتائب «حرس الحدود» وأنها شرعت بتشكيل لواء جديد من
قوات هذا الحرس، فيما وصفه «بإجراء استراتيجي يتجاوز موجة الإرهاب
الحالية» وأضاف أنه سيتم نشر (15) كتيبة إضافية من قوات الجيش في الضفة
الغربية، وعلى «خطوط التماس» وأنهم بصدد إصدار تعليمات جديدة سيسمح
بموجبها للجنود النظاميين ولقوات الاحتياط مغادرة قواعدهم العسكرية،
وهم يحملون أسلحتهم. لا أوضح من هذا الكلام؛ فأهداف الحكومة هي
«إجراءات تتجاوز موجة الارهاب الحالية» ومع ذلك فإذا كان هذا كله لا
يكفي كبرهان على ما ستفضي إليه عملية العسكرة الجارية، فلنسمع بينيت
يدعو المواطنين اليهود إلى «الحفاظ على اليقظة والتحلّي بالمسؤولية»
ولنسمع أيضا ما صرّح به وزير الدفاع غانتس، أو لنتمعن في رزمة الخطوات
التي أعلن عنها وزير الأمن الداخلي عومر بار ليف، التي تضمنت تجنيدا
فوريّا لثلاثمئة عنصر جديد في قوات «حرس الحدود» مع دعوته «المواطنين
المعنيين والراغبين في المشاركة في هذا الجهد إلى القدوم والتطوع» ثم
إعلانه عن فتح أبواب قوات «الحرس المدني» في جميع أنحاء الدولة،
وإهابته بسكان كل مدينة وبلدة وكيبوتس للانضمام إليها؛ وتأكيده على
إلحاق مئات الجنود في وحدات الشرطة وتعزيز قدراتها ووسائل العمل في
جميعها بشكل فوري وعاجل.
ولا يمكن ألا نأخذ على محمل الجد تهديد الجنرال احتياط عوزي ديان نائب
رئيس الأركان ورئيس مجلس الأمن القومي الأسبق، لجميع المواطنين العرب
في إسرائيل، وليس فقط لمنفذي العمليات «بنكبة جديدة»؛ وذلك حين صرّح
قبل يومين، بعنجهية واضحة ومستفزة، وقال في لقاء متلفز: «في حالة
وصولنا إلى حرب أهلية، فهذه ستنتهي بحدوث نكبة أخرى.. علينا أن نتصرف
كما وأننا في حالة طوارئ، ما يشبه حرب الاستقلال، حرب التحرير، ويجب أن
ننهيها في الداخل أيضا». لقد بدأ الناس في إسرائيل يذوّتون معنى
«العسكرة» ويتصرفون وفق فهمهم الغريزي لها، كما رأينا في الاعتداءت
الكثيرة على المواطنين العرب في مواقع مختلفة في البلاد، أو داخل
الجامعات مثلما حصل في الأسبوع الماضي داخل حرم الجامعة العبرية في
القدس، عندما اعتَقل طالبان يهوديان، تبين انهما يعملان في سلك الشرطة
خارج ساعات الدراسة في الجامعة، طالبين عربيين بحجة أنهما كانا يغنيان
أغنية تحريضية.. ويبقى هذا غيض من فيض.
لديّ ما أقوله حول «داعشية» منفذي عمليتي بئر السبع والخضيره وكيف ولدت
هذه الهوية وشبيهاتها بيننا، ومن يعمل ماذا، مباشرة أو بغير مباشرة،
ضدها أو معها؟ لكنني لا أكتب حول هذه القضية، فهمّي الأكبر اليوم هو أن
أنبّه مجدّدا، مثلما فعل كثيرون قبلي وأجمعوا على اننا قريبون من «يوم
الدين»؛ فالفاشية تستحكم بيننا والعسكرة تتفشى ويستقوي بلطجيّوها؛ ونحن
نجترّ عجزنا ويكتفي بعضنا بشجب هذه العمليات وآخرون بكتم سعادتهم من
نتائجها داخل صدورهم. ويسألونني ما العمل؟ فأجيب: على نُخبنا الحرّة
وقياداتنا الديمقراطية والمسؤولة الإقرار أولا بوجود هذا الخطر
الوجودي، ومن ثم الشروع بالتفتيش عن وسائل عمل كفاحية مبتكرة ضده؛ وكنت
اقترحت في الماضي إقامة «جبهة العمل ضد الفاشية» و»منتدى الحقوقيين
الديمقراطيين» وذلك بهدف رصد النشاطات الفاشية وملاحقة المتورطين فيها
بمنهجية مهنية ناجعة.
إنها مجرد مقترحات ويوجد غيرها بطبيعة الحال؛ فالقصد أن نصحو وأن نجد
ما يسعفنا لنخرج أحياء من المستنقع ونبقى فوق أرضنا وليس أمواتا داخل
أغماد حقنا.
كاتب فلسطيني
من برلين إلى بئر السبع…
موعظة ودماء
جواد بولس
من كتاب “الفاشية.. مقدمة قصيرة جدا” للكاتب كيفن باسمور.. عظة لجميعنا
ولأعضاء القائمة الإسلامية الموحدة في الكنيست أيضا.
“عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني السابق، الرايخستاغ، في دار
أوبرا “كرول” وسط برلين يوم 23/3/1933. بعد أن دمر حريق مبنى
الرايخستاغ قبل بضعة أسابيع. وداخل القاعة تدلى علم ضخم يحمل رمز
الصليب المعقوف. وكي يتمكن النواب من الدخول إلى القاعة، كان عليهم أن
يتحملوا الإهانة أثناء مرورهم وسط جمع مريع من شباب وقحين يحتشدون في
الساحة المواجهة، ويرتدون شارة الصليب المعقوف، وينادون النواب بأوصاف
مثل “خنازير الوسط” أو “خنزيرات الماركسية”. كان النواب الشيوعيون قد
اعتقلوا إثر مزاعم بتورط حزبهم في إحراق مبنى الرايخستاغ، واحتجز أيضا
عدد قليل من الاشتراكيين.
كان هناك موضوع واحد مطروح على البرلمان وهو تمرير “قانون التمكين”،
الذي يمنح المستشار الألماني سلطة إصدار قوانين دون موافقة البرلمان،
حتى إذا كانت قوانين تخالف الدستور. ولما كان القانون يستلزم تعديلا
دستوريا، كان يتطلب موافقة أغلبية ثلثي النواب، لذلك كان النازيون
بحاجة إلى دعم النواب المحافظين. حوى خطاب هتلر الذي ألقاه لطرح
القانون تطمينات للمحافظين، ما جعلهم يصوتون لصالح القانون. قرأ هتلر
إعلانه في تجهم حاد، ورباطة جأش استثنائية، ولم يتجل انفعاله المعروف
إلا عند دعوته لإعدام مدبر الحريق على رؤوس الأشهاد، ووعيده الشرس
للنواب الاشتراكيين؛ فهدر صوت النواب النازيين بشعارهم المعروف
“ألمانيا فوق الجميع”. وقد احتج نائب اشتراكي ردا على هتلر، لكن صوته
بالكاد سمع؛ فرد عليه هتلر في عصبية محمومة وهسيس أفراد “كتيبة
العاصفة” كان يتردد من ورائهم صارخين: “سوف تعدمون اليوم شنقا”. وافق
البرلمان على “قانون التمكين”، الأمر الذي أطاح بسيادة القانون وأرسى
الأساس لنوع جديد من السلطة القائمة على إرادة الفوهرر. منح هذا
القانون النازيين عمليا حق العمل، وفق ما يرونه مناسبا – ما يحقق
“المصالح العليا للشعب الألماني”، والقضاء على رأي أي شخص يعتبرونه
عدوا للرايخ؛ وكان الاشتراكيون أول الضحايا”.
ومن برلين إلى بئر السبع لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد
عملية الطعن التي نفذها المواطن محمد أبو القيعان، من سكان بلدة حورا
في النقب، وأدت إلى مقتل أربعة مواطنين يهود في مركز مدينة بئر السبع
يوم الأربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن. فبعض المعلقين يتكهنون بأن
البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدا أمنيا
خطيرا، لاسيما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع
أولئك “المنجمين”، وألا تَصْدق توقعاتهم؛ لكنني أعرف أننا نقف، في داخل
إسرائيل، على حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار، ونحن، عرب هذه البلاد،
سنكون لها العيدان والحطب. لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات
الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل
المنظور؛ فلا الدولة اليهودية بقياداتها الراهنة معنية بحدوث هذا
الانفراج، وليس بيننا من هو قادر على فك الاشتباك أو المعني بالتفتيش
عن جسور جديدة حقيقية معها، والمؤهل لحمل هذه المسؤولية. ويكفي أن
نراجع عددا من المشاهد التي حصلت في الأيام القليلة الأخيرة، قبل حدوث
عملية بئر السبع، كي نخشى ما قد يحصل لنا في الأسابيع القريبة. فما
زالت الكنيست تخضع لهيمنة اليمين، وتصوت على قوانينه العنصرية، سواء
دعمتها القائمة الإسلامية الموحدة أم لا. وعلى الرغم من وجود حزبي
العمل وميرتس في الحكومة، تتصرف معظم وزاراتها كمنظومات يمينية
تقليدية. فعلى خزينتها يسيطر حزب “إسرائيل بيتنا” المعروف بمواقفه
العدائية تجاه العرب؛ وفي أمنها الداخلي تتحكم شرطة كبر قادتها على
موروث يقضي بمعاملة المواطنين العرب بقليل من الاحترام وبكثير من
الريبة والتحسس وبالتخوين دائما؛ بينما ما زال العنف يشكل جزءا من واقع
بلداتنا والجريمة مشهدا مستفحلا في معظم مواقعنا.
لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين
نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل المنظور
وإن كان ذلك لا يكفي، فحظنا من سياسات وزيرة الداخلية، أيليت شاكيد، لا
يتوقف عند تبعات قانون منع لم الشمل، ونتائجه الكارثية على آلاف
العائلات الفلسطينية، ولا عند معوقات وزارتها أمام تطوير قرانا ومدننا
وخنقها بعنصرية فاضحة؛ بل يتعداها نحو سيطرة جشعة على جهاز القضاء
وحشوه بقضاة موالين، لاسيما بعد أن أعلنت عن خطتها في الاستيلاء على
هيئة المحكمة العليا من خلال تعيين قضاة “محافظين”، مؤدلجين يمينيين
ومستوطنين. ولتأكيد مخاطر سياستها القضائية يكفينا مراجعة مواقف هؤلاء
القضاة في عشرات القضايا، التي رسخوا فيها أحكاما جائرة بحق العرب،
وكتبوها بهدي عقائدهم المتساوقة مع سياسة حزب شاكيد – بينيت اليمينية
العنصرية. لقد كان آخر هذه الأحكام رفض المحكمة العليا، في الأسبوع
الماضي، لالتماس قدّمه عدد من المواطنين في مدينة طيبة المثلث، ضد قرار
ما يسمى “حارس أملاك الغائبين”. لقد قررت هذه المؤسسة العنصرية، التي
استحدثتها الحركة الصهيونية من أجل سرقة أملاك الفلسطينيين بعد النكبة،
الإعلان، في عام 2017 على أرض تبلغ مساحتها ثلاثين دونما من أراضي
مدينة الطيبة، كأملاك للغائبين ومصادرتها من أصحا |