الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

*محمود حمد فنان تشكيلي عراقي من جيل الرواد صحفي وكاتب صدرت له رواية (ذاكرة التراب)

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الثالث)

(ثريا) مضيئةٌ في ليلةٍ ظلماء!

محمود حمد

رغم هجير الظهيرة في العراء المُقفر عند الركن البعيد لجدار معسكر القوات البريطانية غربي نهر دجلة، كان الأطفال والصبيان الحُفاة يتدافعون للحصول على فُتاتْ الموائد التي يلقيها الطبّاخون الهنود إلى مكب النفايات هناك بعد كل وجبة طعام لجنود الاحتلال!

تتعالى أصواتهم بهجة، يتسابقون لجمع ما تصل إليه أيديهم لملئ قدورهم العتيقة التي استبد بها السخام والصدأ...متجاهلين الشتائم التي يطلقها عليهم العسكري ذو العنق الطويل الأحمر كعنق الديك الرومي... ذلك الجندي الذي لم يُستَبدَلُ منذ سنوات، كغيره من العساكر الذين يُستَبدلون في موقع المراقبة المطل على قطيع الأكواخ البائسة، الذي تَوَرَّمَ في (منطقة الشبانه) إلى جوار المعسكر عقب احتلال المدينة وإنشاء المعسكر في الثاني من حزيران 1915!

لم تمض سوى سنوات قليلة لم يتذكر مداها...تلك التي ابتنى أبيه لهم فيها كوخاً من القصب والبردي بجوار كوخ عمته (نوفه الجنديل) في أطراف (منطقة الشبانة) في ذلك (السَلَف) المبتلى بالوحول والعويل كل ليلة لفقدان عزيز يُختَطفُ عمرَه مرضاً أو جوعاً، بعد ترحيلهم إثر حملة الحكومة لإزالة أكواخ (خرابة سعدة) من جنوب المدينة!

خرج أبيه قبل الفجر ككل يوم بحثاً عن المكان المحكوم بالصدفة...عندما جاءت (الشرطة العسكرية البريطانية) برفقة ضابط مركز شرطة المدينة (عزرا وردة) مُعلناً بلهجة عربية مفككة عبر مكبرات الصوت:

انتهاء مهلة إزالة مئات الأكواخ القريبة من المعسكر!

بعد شهرٍ من اختفاء عسكري بريطاني إثر خروجه من باب المعسكر، وانقطاع أخباره، رغم حملات التفتيش التي لم تستثن حتى منازل خدم المُحتلين...دون أن يغفل (عزرا وردة) تكرار وعيده واختتامه بالتهديد:

سنجرف الأكواخ...صباح بعد غد الجمعة!

جمعوا أسمالهم ووضعوها في عربة يجرها حمار...كانت تنقل العاجزين من الرجال والأطفال والنساء المهزومين، ومعهم محتويات الأكواخ بعد سريان شائعات تقول:

سيحرق الإنجليز الأكواخ بمن فيها عند منتصف الليل!

تشردت العوائل البائسة في الشوارع وفي خرائب المدينة، وداخل المباني المهجورة، وبين أجداث المقبرة... وضعوا صرائرهم إلى جوار نخلة على ضفاف دجلة يترقبون ما يدور في ذهن أبيهم الذي يتحدث همساً منذ أكثر من ساعة مع جارهم (زاير رمضان) بعد عودته من المدينة باحثاً عن موطئ عيش لهم لا تطردهم الحكومة منه!

رافق أباه في بحثه عن جارهم (فجر عبيد) الذي تعرفوا عليه منذ كان من بين (النيسانيين!) الذين ذهبوا معهم في شهر نيسان قبل سنوات للحصاد في حقول الحنطة بـ(قضاء شيخ سعد)!

حال التقائهم به، أرشدهم (فجر عبيد) إلى القلعة الطينية التي آوى إليها مع أسرته وأقام له فيها كوخاً... شاكراً (الحاجة خيرية) صاحبة القلعة ومالكة البساتين المحيطة بها...

الذي وعد أبيه بالحصول على فرصة له كـ(ناطور) في قصر قيد الإنشاء قريبا من القلعة!

لم يشأ (فجر عبيد) المرور بهم أمام القصر الفخم الذي تغطيه أشجار عالية ونخيل باسق، فقطعوا الشارع مباشرة إلى القصر المجاور (قيد الانشاء) الذي يُسمع من داخله صدى مطارق النَجّارين...

وقفوا إلى جوار سيارة جيب زيتونية قديمة توقفت للتو عند الباب...نزل منها رجل سمين أعرج اصفرت شارباه من كثرة دخان السجائر التي لم تفارق شفتيه...يقال له (الجلبي)...كان الرجل يتطلع إلى قصره وهو ينفث دخان سيجارته الغليظة نحو السماء... ما أن رآهم حتى أشار بيده بالموافقة قبل أن يتحدثوا معه، وكأنه أمر متفق عليه بينه وبين (فجر عبيد).

جلسوا على رصيف القصر الأمامي إلى جوار السياج الفاصل بين القصرين...أشار (فجر عبيد) بصمت إلى القصر الفخم العتيق بعيون زائغة من شدة الخوف...متلفتاً يميناً شمالاً...مُحَذراً:

لا تقتربوا من (قصر الباشا)!

أطلق (فجر عبيد) زفرة من قرارة روحه...كأنه يحدث نفسه بصوت مسموع:

لم يرتكب إثماً أو جريمة...أطلق عليه الرصاص بدم بارد وطلب من سائقه (الأعجمي) أن يشحط الجثة إلى خارج القصر، ويرميها على الرصيف كي لا تلوث حديقته!

لم يكن المرحوم (البُستاني موسى المعَرْيَّن) يعرف أن تحت قدميه نبتة صغيرة تلقاها (الباشا) هدية من (متصرف اللواء) ...ذهب (موسى) ضحية سحقه تلك النبتة بقدمه دون أن يدري!

ترك خلفه أربعة أطفال صغار توفي أحدهم من شدة البرد بعد مقتل أبيه بشهرين لأن (الباشا) طردهم من الكوخ الذي كان يأويهم في أطراف بساتين (الباشا)!

أشار (فجر عبيد) بعينيه إلى شجرة داخل (قصر الباشا) تعلو أفانينها السياج:

هذه النبتة التي قُتِلَ (موسى) بسببها...هو مات وهي باقية!

في اليوم التالي أقاموا لهم (كوخاً) من القصب والبردي في قلعة الحاجة (خيرية)...

عندما اشتغل أبيهم كسائق في بلدية المدينة...طلب منه أن يكون بمحله في النهار (ناطوراً) في قصر (الجلبي) بعد أن يعود من المدرسة...صار يأخذ دفاتره وكتبه ويجلس في حديقة القصر...يُبدد وحشته بمراقبته الطيور المتنوعة الألوان والأحجام والأصناف، التي أقام لها (الجلبي) قفصاً كبيراً في زاوية الحديقة الواسعة!

بعد أن توقف العمل في القصر لعجز صاحبه عن الإيفاء بديونه للمقاولين...صار القصر ملعباً لـ “عروة" ولإخوته الصغار...الذين غالبا ما كانوا يلحقون به...يتعالى صدى أصواتهم في حجرات القصر الكثيرة الفارغة المختلطة بزقزقة العصافير بين الأشجار والنخيل...

ذات يوم انتبه إلى نافذة تشرف عليهم من أعلى (قصر الباشا) تُفتَح بحذر، تتحرك الستارة من خلفها...يسمعون من خلفها أصوات كركرات طفولية مكبوتة، لا تغلق النافذة إلاّ عندما يأتي أبيهم إليهم ويعودون إلى (كوخهم) في القلعة!

ذات ظهيرة وقفت سيارة أجرة في باب (قصر الباشا)، نزلت منها امرأة عجوز تبدوا عليها ملامح الخدم، معها حقيبة ثقيلة وصرائر من القماش...هَبَّ إليها "عروة" دون دعوة، وحمل لها أثقالها...دخل لأول مرة إلى فناء (قصر الباشا)، فطلبت منه زاجرة أن يضع أغراضها ويخرج بسرعة قبل أن يراه (الباشا)، ظهرت صبية بعمره من باب القصر الداخلية محتفية بالمرأة العجوز...تعالى صوت فتيات مبتهجات في الداخل، أشارت إليه العجوز بيدها طاردة إياه كأنها تَنُشُّ ذباباً يلحق بها!

عاد إلى مجلسه إزاء قفص الطيور...يقرأ بشغف لامتحان التاريخ عن (زنوبيا ملكة تدمر) التي قادت مع زوجها (أُذينة) المُكَنّى (رئيس المشرق) عصياناً على الإمبراطورية الرومانية...تَمَكَّنا خلاله من السيطرة على معظم سوريا...خلفت زوجها في الحكم بعد وفاته، لأن ابنها (هبة الله بن أذينة) لا يزال حينذاك طفلاً رضيعاً، فتسلمت مقاليد الحكم وقادت جيوش (مملكة تدمر) في غزوها لمصر وآسيا الصغرى لفترة من الزمن قبل أن يتمكن (الإمبراطور أورليان) من هزمها وأسرها ونقلها إلى روما حيث سرعان ما توفيت لأسباب غامضة!

شعر بانقباض في روحه، كاد يبكي لمصيرها!

نسي الامتحان وراح يتخيل (ملكته زنوبيا!) ...يرسمها على هوامش الكتاب بمشاهد مختلفة...

في أوج غيبته مع (الملكة زنوبيا) ...نادت عليه أخته الصغيرة...تسأله إن كان معه كتاب الرياضيات لأن (ثريا ابنة الباشا) طلبته منها من خلف الجدار...لم يكن الكتاب معه لكنه طلب منها الانتظار... ركض كالنمر إلى القلعة التي تقع خلف البستان المجاور للقصر وعاد بالكتاب من كوخهم مسرعاً...في اليوم التالي تلقى عقوبة وضرباً مبرحاً من مدرس الرياضيات لأنه لم يكن معه الكتاب!

تسللت (الصَبِيَّةُ ثريا) من باب قصرهم إلى معتكفه أمام قفص الطيور، شكرته على الكتاب الذي احتضنت أوراقه وردة حمراء نضرة...ظلت واقفة لثواني، دعاها للجلوس على بساط الحديقة الأخضر... يحَّدِّثُها عن الطيور وعوالمها...انتبه إليها وهي تتصفح كتاب التاريخ وتتأمل رسومه على هوامشه!

صارت تأتيه كل يوم عند قيلولة أهلها وغياب أبيها (الباشا) في رحلاته الكثيرة...كانت (ثريا) ذكية في الرياضيات ومصغية حالمة، يحكي لها قصص التاريخ كما يرويها الكتاب المدرسي، ويضيف منه لأحداث التاريخ ما ليس فيه...فيما كانت تَسِّرَّه همساً:

إنها لم تكن تستمتع بكتاب التاريخ من قبل كما هي اليوم!

سمع صراخاً أنثوياً في (قصر الباشا) لم تكترث له (ثريا) لكنه قفز من مكانه بحركة لا إرادية...أمسكت يده وأقعدته قائلة بصوت مخنوق بعبرة:

هذه أختي الكبيرة (نورية)...وِلِدَت مقعدة ومُعاقة عقلياً...تدهورت حالتها بعد وفاة أمي قبل خمس سنوات...منذ ذلك الحين...كلما استيقظت من النوم تتذكر أمي فتصرخ وتنادي عليها!

عقب وفاة أمي تولت رعايتها أختي الكبرى (كريمة) المعلمة في (مدرسة الملك فيصل الثاني النموذجية للبنات) ...تساعدها في ذلك (ستارة) المربية التي حَمَلْتَّ أنْتَّ أغراضَها لها!

عندما ولِدنا وجدنا(ستارة) في القصر واحدة مِنّا...كانت المرحومة أمي تقول إنها جاءت بها من إيران قبل أكثر من عشرين سنة عندما كانت أمي تعالج هناك من مرضها...ثم جاءت بأخيها (غلوم) سائقاً لنا!

تلفتت نحو قصرهم خشية من مجهول، وقالت بصوت هادل:

سيأتي أخي الكبير (غيث) وزوجته وأولادهما يوم الجمعة من بغداد، يمكثون معنا طيلة العطلة الصيفية...ألاّ أنه سيعود إلى عمله طياراً بالخطوط الجوية بعد أسبوع لانتهاء إجازته...أنا فرحة لمجيئهم...عندما يأتون تصير أيامنا أجمل...تُضاءُ جميع مصابيح القصر، نلعب دون أن يزجرنا أحد...نمرح في الحديقة ونلتقي بصديقاتنا!

تزايد عدد الأطفال والصبيان والصبايا العابرين من (قصر الباشا) إلى حدائق قصر الطيور...يمضون معظم الوقت يلعبون مع الطيور ويعبثون بمواد البناء المتناثرة داخل وخارج المبنى...صار مُلزماً أن يدخل معهم في حجرات القصر خشية عليهم ومنهم...بعد أن انضمت إليهم (سعاد) ابنة صاحب (قصر الطيور) ذات العشر سنوات!

ذات نهار استدرجوه إلى اللعب معهم بعد أن كان متردداً خوفاً من غضب (أمه) عليه...التي توصيه كل يوم أن يتجنب الاقتراب من (قصر الباشا) ومن فيه!

ذات يوم شاركهم لعبة الاختباء...

وجد نفسه مع (ثريا) خلف باب مغلق...احتضنها واستسلمت بين يديه...غمره شعور لم يألفه من قبل...أحس كأن روحه تغتسل من الحرمان، قلبه يتنقى من الخوف، وعقله وجسده يرتعش حَدَّ الغيبوبة... فأدمنا على (لعبة الاختباء!) طيلة العطلة الصيفية!

لكن...

عندما سافرت عائلة أخيها...انقطعت (لعبة الاختباء)!

بعد انتهاء الامتحانات للمرحلة المتوسطة... كان يتابع خفق أجنحة الطيور الملونة في فضاء القفص الذي تُكَلْكِلُ عليه شجرة التين اليانعة الفخمة...امتلأت أنفاسه بعطر جسدها...وهي تقف خلفه معقودة الذراعين بحركة مثيرة...أمضيا ساعات يتحدثان عن أحلامهما المراهقة حتى المساء دون حراك...حَذَّرَتهُ من عيون سائقهم (غلوم) المريبة، ووشاياته بأقرب الناس إليه...همست في أذنه وهي تبتسم ابتسامة خجولة:

غداً الجمعة والجميع يتأخرون في اليقظة!

جاء مبكراً إلى القصر، وجد النافذة في الطابق العلوي لـ(قصر الباشا) مفتوحة، والستارة تتأرجح بحركة جسد خلفها...ترك باب الحديقة موارباً وجلس في الركن الذي اعتادا السمر فيه، دخلت مُسرعة وصعدا إلى مخبئهما الذي افترشا فيه بابا خشبياً لم يُرَكَّبْ في مكانه بعد... لم يدركا الوقت الذي مضى حتى الغروب... إذا بصخب يملأ حجرات القصر الفارغة، صوت أجش ينادي عليها، وقع أقدام ثقيلة تصعد السلم الجرانيتي، فتيبس الدم في عروقهما...قالت له وقد انقَضَّت قبضة الخوف على عنقها:

هذا صوت أبي...وخلفه السائق الكلب (غلوم)!

تمتمت بأنفاس فزع متقطعة:

اهرب إلى السطح...سيقتلك!

قفز كالهر إلى السطح...لمح (الباشا) يهرول عبر نافذة لم يُرَكَّبْ زجاجها بعد، وبيده مسدساً... أحس بأن الأقدام المتسارعة تصعد باتجاه السطح وصوت السائق (غلوم) يعلو خلفه:

سأُمسك به لك يا (باشا)!

تفحص "عروة" منافذ الهروب الممكنة من السطح، لم يجد سوى الأنابيب الحديدية لتصريف مياه الأمطار...انزلق بإحداها إلى الحديقة الخلفية ومنها إلى البستان الممتد إلى أطراف المدينة من جهة، وإلى القلعة الطينية حيث يعيش أهله من جهة أخرى.

لكنه ظل مُكَبَّلاً بالحاجة إلى الاطمئنان عليها...تسلل إلى الحديقة العامة المقابلة لـ(قصر الباشا)، يرصد المشهد من كوة في سياج الحديقة...كانت (ثريا) تسير مرتجفة وخلفها (الباشا) مرتعداً، يتبعهم السائق (غلوم)...زعق به (الباشا) وزجره بحركة من يده...لاذ إثرها (غلوم) بالفرار إلى خلف مرآب السيارات داخل القصر!

سمع "عروة" إطلاقة نارية داخل القصر مزقت سكون المكان، انهار على الأرض...ثم استجمع قواه وهرب بعيداً إلى مكان مجهول لـ(الباشا)!

أمضى النهار تحت فيء الجسر الحديدي المحني الظهر، كأم رؤوم فوق نهر دجلة...عندما أسدل الليل ظلمته سار وسط البستان المؤدي إلى القلعة، ونفذ من فتحة في جدارها الطيني الخلفي السميك إلى الباحة...بانت له صريفة أهله مهجورة، وسكان الأكواخ التي تحيط بكوخهم متجمعين حول الكوخ ومعهم الحاجة (خيرية) وقد خَيَّم الحزن على الجميع واكتست وجوههم بالحيرة...عاد إلى البستان وسار هائماً باتجاه أطراف المدينة!

ساقته خطواته لملاذٍ كانت (دوخة) تأخذهم إليه ليستريحوا به بعد عناء التشرد في الطرقات المقفرة، تحت فيء أشجار (مقبرة الإنجليز) التي شيدتها بريطانيا، على ضفاف نهر دجلة، بين أعوام 1914 و1920، واكتملت عام 1923، لتضم رفاة أكثر من 5000 جندي من (المملكة المتحدة) وجنسيات أخرى قتلهم ثوار العشائر!

وقف تحت ضوء المصباح أمام حائط المقبرة الذي دونوا عليه أسماء المدفونين فيها... سمع صوتاً ينادي عليه أن يخرج من المقبرة، عرف أنه صوت حارس المقبرة الذي يُسَلِّمُ عليه كل يوم في ذهابه وإيابه من المدرسة...لأنه والد صديقه (ألْماز المعَرْيَّن) ...

اقترب منه الرجل النحيف الفارع الطول ذو الوجه الأبلق المجدور، مُستغرباً من وجوده بالمقبرة في هذا الوقت المتأخر من الليل...اضطر أن يفصح له عن بعض حكايته...

اندهش لاهتمام حارس المقبرة (داوود) به وعطفه عليه...قائلاً له:

يجب أولاً أن يعرف أهلك مكان اختبائك ليطمئنوا عليك...

فهم يعتقدون أنه قد قتلك كما قتل أخي (موسى) الذي كان بستانياً عنده!

وطلب منه أن يجلس في غرفة حراسة المقبرة، وسيعود إليه بعد بعض الوقت...مضت ساعات طويلة عليه...يتأمل فيها الصلبان المصفوفة بعناية تحت أشجار النخيل...يتهجأ أسماء العسكريين الانجليز المدفونين في أرض غريبة عن مواطنهم!

بعد منتصف الليل عاد (داوود) بملامح خشبية لا تقرأُ فيها علامات الرضا من أخاديد الإحباط...لم يذكر له ما يمنحه الطمأنينة...لكنه أبلغه أنه ككل يوم "عادة" يغلق أبواب المقبرة عند العاشرة مساءً ويعود إلى بيته...

ودعاه للذهاب معه الى البيت!

في البيت أسَرَّ لصاحبه (ألْماز) بـ(حبه!) لها وخشيته من (الباشا) عليها، وقلقه على مصيرها، بعد أن سمع دويّ رصاصة من داخل القصر أثناء هروبه!

في صباح اليوم التالي اتخذ صديقه (ألْماز) من الشارع الذي يجثم فيه (قصر الباشا) ملعباً له، واستقر خلف فجوة جدار الحديقة العامة التي دَلَّهُ عليها "عروة"...عند الظهيرة لمح من بعيد أربع فتيات يصعدن السيارة ومعهن حقائب كبيرة...إحداهن تطابق الأوصاف التي سمعها منه...لكنها ليس كما قال له:

أجمل فتاة في العالم!!!

لأن الفتاة الانجليزية التي تشغل روح (ألْماز) ويلاحقها كل يوم أحد، عند زيارتها للمقبرة التي يحرسها أبيه وهي تجر خلفها كلبها الصغير لزيارة قبر جدها (أجمل منها!).

بعد سنتين انتقل إلى العاصمة للدراسة وانقطع عن المدينة مغموراً بالتساؤلات التي فجرتها في رأسه نوبات المحن وإضاءات الكتب التي انغمر بقراءتها، وحوارات الأصدقاء المشككين ببديهيات ومقدسات مجتمعهم، وانزلق لمنحدرات وسفوح العمل السياسي المعارض للسلطة، وهو ابن السادسة عشر من العمر!

تلاطمت عليه أمواج الأزمات العامة وتواترت نوبات الملاحقات الأمنية له، فتَجلَّت الأيام والسنوات له عن أصدقاء جدد استقروا في النفس، صاروا جزءاً من مكنون الذاكرة، وأفرزت أجواء الخوف له خصوم معروفين وآخرين مجهولين، كَبُرَت سني عمره حتى فاقت مداها الزمني، وشاخت عواطفه الفتية تحت ثقل (العَقْلَنَةِ) التي فرضتها عليه أزمنة التَفَكُّرِ في أقبية العمل السري المعارض...دون أن ينقطع حنينه وبكائياته على أهلة ومدينته وطفولته ومراهقته التي لم تترك (الملاحقات!) في ذاكرته منها سوى الحرمان وعتمة الأيام...إلاّ (ثريا) مضيئة...تخبو تارة وتسطع ابتسامتها بوجهه تارة أخرى كلما تَقَرَّبت إليه فتاة في حلك أزمنته!

بعد ما يقرب من ربع قرن أمضاها في الاختفاء والظهور المؤقت شبه العلني بعيداً عن أعين السلطة وهجير سنوات الغربة، عاد إلى مدينته يسأل عنها...وجد (قصر الباشا) مهجوراً...لكن صديق أبيه (الزاير رمضان) زارع الزهور في شارع دجلة حيث يقع القصر، مازال يواصل غرس الزهور وسط الشارع رغم انحناءة ظهره وبطءِ حركته...الذي أخبره:

غادروا المدينة جميعهم وتفرقت بهم السبل...

منهم من ذهب إلى البصرة وغيرهم إلى بغداد، وآخرين هاجروا إلى خارج البلاد قبل عشرين سنة بعد حادث اغتصاب سائقهم (غلوم) لابنتهم الصغيرة (ثريا)!

شعر بشواظ نار تتأجج في روحه...

سأله عن مصير (غلوم)؟!

أخبره إنه مات قبل عشر سنوات في السجن بعد أن تجاوز السبعين سنة من العمر!

سافر إلى البصرة لزيارة شقيقه...مهموماً بحادث الاعتداء على صِباه، رغم أنه لم يعرف أي شيء عن حياتها، ومآلها، وأين تكون.

عند وصوله إلى المدينة التي عُرف أهلها بانشغالهم بشؤون المعرفة قدر انشغالهم بأسباب الرزق...أمضى يومه الأول يتجول في معالمها المستقرة في ذاكرته...وجوهاً، صوراً، أحداثاً، بحثاً عن:

أزمنة مبدعة هجرها صنّاعها، أماكن خصبة هُجِّرَ عنها بُناتُها، حكايات لم تبرح الذاكرة ارتحل أهلها إلى الغيب! 

في المساء عندما دخل (نادي الميناء) عسى أن يلتقي بمن تبقى من الأصدقاء...قَلَّب نظره في الفضاء الأخضر يُنَقِّبُ في غشاوة الضوء الخافت الذي يَلُفُّ المكان عن وجوه يعرفها...شخصت عيناه إلى الطاولة المستديرة التي يغمرها قَطَرِ الرطوبة...تحت النخلة التي تتوسط الحديقة، حَدَّق إلى الوجوهٌ الذابلة التي غزتها الشيخوخة قبل الأوان...وجد بينها بعض ماضيه...فتقدم نحوهم...

عند انضمامه إليهم طرقَت مسامعه ذات الأحاديث الملتبسة التي كان طرفاً فيها قبل سنوات طويلة وأمست مُخَبَّأة في ذاكرته...كانت الحفاوة صاخبة والقناني فارغة...والوجوه ملونةٌ...انهالوا عليه بذات السؤال الذي يصفعه به كل مَنْ يلقاه من أصدقاء الأمس الذين تناهى إلى مسامعهم خبر اعتقاله ومقتله...كان (مقداد) (مفوض الأمن السابق الذي صار صحفياً يسارياً!) أكثرهم إلحاحاً وأشدهم فضولاً في استنطاقه...يكرر عليه بشفاه رخوة من فرط الثمالة:

كيف أنت؟!!

كـكـيكـ...ف. أأانت؟!

ذلك السؤال الذي ينهال عليه...كأنه يُضمر اندهاشا غير محمود:

كيف ما زلت حيّاً؟!

كأن البعض يستكثر عليه بقاءه على قيد الحياة إلى تلك الساعة التي يلتقونه بها، يؤججون في نفسه مجامر اليأس والملل من حياته المُعَفَّرة بالإحباط، المُثقلة بالهزائم، المُكَبلة بالخيبات...يُذَكِرُهُ ذلك بقول (لبيد بن ربيعة العامري):

قُضِيَ الأُمورُ وَأُنجِزَ المَوعودُ

وَاللَهُ رَبّي ماجِدٌ مَحمودُ

وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها

وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ!

أُتْرِعَتْ الكؤوس من جديد...تَقلَّبَت الألسن من أخبار السياسة الصادمة إلى نصوص الثقافة المشاكسة، مروراً بالنواح على أطلال العُشق المُهَمَّشِ المندثر في حياتهم، حَدَّ انفلات أسماء من كانوا يهيمون بِهُنَّ عن ألسِنَتِهم...أو اللواتي يخشون التشبب بِهُنَّ ...ومن بين الحاضرين من ذَكَرَ اسم (ثريا) بفعل عمله معها!

عرف أنها تعمل في فرع بنك رئيسي...

تبددت الثمالة من رأسه وغادرهم متذرعاً بالصداع الذي فاجأه...ساحَ على امتداد ساحل شط العرب، مُستسلماً لذاكرة صِباه، جالساً متفرداً بنفسه على الشريعة المُقابلة لـ(قصر آغا جعفر) ذو الشناشيل الخشبية المزركشة بمهارة فنان مجهول.

مع بدء الدوام في صباح اليوم التالي كان أول الواصلين إلى البنك...دخل الصالة الفسيحة والأنيقة للمبنى الكونكريتية ذو الطابق الواحد...كانت الموظفات منشغلات وراء المكاتب المرصوفة بثلاثة خطوط متراتبة متوازية...امتلأت أنفاسه بعطر أنثوي مثيرٍ حالما دخل إلى الصالة رغم زحام المراجعين...صار يُنَقِّبُ بين الوجوه عن ضالته...يستحي أن يسأل عنها...مستعيراً حِيَّلَ المراهقة في فِكْرِهِ لافتعال سؤال ينتشله من حيرته!

انقبضت روحه فجأة عندما سأل نفسه:

ربما تكون متزوجة فيُحرِجُها؟!

أو تكون فَظَّةً غليظة القلب...فتَزجِرهُ أمام الملأ فتَحرِجُهُ؟!

كان في كل مرة عندما يقترب من حافة المنصة الزجاجية التي تفصل الموظفات عن المراجعين...ويأتيه الدور، يتخلى عن دوره لمن يأتي بعده...غَيَّرَ طابور الانتظار أكثر من مرة، كلما وجد أن الموظفة التي تجلس لتسيير معاملات الواقفين في الطابور لم تكن هي، لأنه لم يجد صورتها في الذاكرة موجودة بين الفتيات الأنيقات خلف الألواح الزجاجية...تَراجَع للمرة الرابعة...وأبصاره تمسح بحذر وجوه الفتيات البعيدة والقريبة.

تقدم إليه أحد حراس البنك وانفرد به، مستجوباً إياه بجفاف...لكنه ما أن شخصت عينا "عروة" إليه وحَدَّق به شزراً...حتى بهتت ملامح(الحارس) ظَنّاً منه أنه من أهل السلطة والسطوة...فقال له بأدب مُتذلل:

أنا في خدمتك...هل تبحث عن شخص ما؟!

أفصح له عن مراده بنبرة آمرة...أخبره (الحارس):

(ابنة الباشا) مجازة اليوم وستحضر صباح الغد! 

ذهب في صباح اليوم التالي بذريعة فتح حساب في البنك، لكن حارس البوابة كان شخصاً آخر...

حال دخوله البوابة احتدم الشوق إليها في روحه، تقدم إلى موظفة الاستعلامات وسألها عنها...أشارت إلى غرفة زجاجية مُحْكَمَة المداخل تتوسطها فتحة صغيرة أنيقة للتواصل مع الآخرين...عُلِّقَتْ عليها لوحة نحاسية (مدير الفرع).

تقدم بخطوات مترددة ووقف أمامها وهي تسند رأسها إلى كفيها...تَفَحَّصَ أصابعها، لم يجد ما يوحي أنها متزوجة...تأملها وهي تُبحِر في ملف يبدو أنه شائك...

دون أن ترفع رأسها سألته بنبرة آلية:

أوراقك وهويتك أخي رجاءً!

قدم لها الهوية المدنية القديمة وفيها صورته يومذاك!

حَملَقَتْ بالصورة للحظات ونظرت إليه مصدومة من شدة الدهشة والاستغراب...

كأن ميتاً يخرج إليها من قبره...

انطفأت يديها على الطاولة...وعلِقَت عيناها المتسائلتين بعينيه التائهتين!

 

 

 

 

 

 

حكاية وَنص:

من أينَ المَهْرَبُ

يـ.......ـا "صويحب"؟

محمود حمد

الى (مظفر النواب) في الذكرى السنوية لرحيل جسده عنا!

 

عندما غيض الماء منذ أزل التكوين الرسوبي وانشطر دجلة عند شرق مدينة العمارة وجد النهر أخدوداً من التاريخ السحيق للأنهر الظامئة، فأعاد له الحياة وجعل الذاكرة حاضراً ممتداً دون انقطاع في بث الروح بكل (شيء حي) ...

يتجمع عند انشراحه عن دجلة (المندائيون) في معبدهم الذي يرتشف من النهر ديمومته ويمنح النهر قدسيته!

نشأت على ضفتيه أساطير عنبر، وحكايات خصب، وأغاني عشق، وروايات موت، وخرافات حلم وتساؤلات عن سر الخلق، وحركات ثائرة سرية تشكك بالمُقَدَسِ في سر الخلق، وانتفاضات جوع تندلع بصمت ويخمدها التخلف والاستبداد!

قبل انطفاء نهر الكحلاء في (هور الطمر)، استوطنت على ضفتيه عوائل الفلاحين المسحوقة والتأمت أخرى حول القلعة التي أقامها شيخ القبيلة عام 1948لإدامة إعاشة الجيش المُستَقدم لتمكين (الشيخ) الذي صار اقطاعياً من الاستقواء على الفلاحين الفقراء من أبناء عمومته، واتسعت في تلك الآونة (أسلاف) أكواخ الفلاحين (اللائذين) بالإقطاعي من بطش السلطة، ليس بعيداً عن ناحية (الكحلاء) لتشكل وحدة سكانية عشوائية حملت اسم التحبيب لإحدى وصيفات شيخ القبيلة (مسيعيده)!

كان نهر الكحلاء ممراً للمراكب الخشبية التي تنقل الرز كل يوم دون انقطاع من تلك البقاع إلى دجلة ومنه إلى كل البلاد...

ذات يوم وقف (حوشية) الشيخ يقطعون النهر على بعد أكثر من كيلو متر عن القلعة لمنع المراكب من المرور، دون أن يفشي أحد السبب لذلك!

ولشدة الفوضى التي سببها ارتباك وصول شحنات العنبر للأسواق في طول البلاد وعرضها...تناقل الفلاحون وتجار الحبوب وموظفو "الحكومة المخصيَّة" في سرهم ما يخفيه منع مرور المراكب قبل الوصول إلى قلعة الشيخ...

كانت الذريعة (حسب الحكاية التي نقلها لي والدي):

غفوة (الشيخ الصغير) ابن الأربعين يوماً الذي وضعوا (كاروكه) على شاطئ نهر الكحلاء أمام القلعة، للانتعاش بالنسيم البارد...وخوفهم من أن تفززه أصوات محركات المراكب أو حفيفها بالماء...فصاروا يمنعون قوافل مراكب التجارة النهرية من المرور في النهر طيلة اليوم لحين يقظة (الشيخ الصغير) العفوية من غفوته!

في ذات الوقت الذي كان يُرَسِخُ فيه الشيخ سلطة (قلعته الاقطاعية) بمساندة استبداد الحكومة...كان نفر من الفلاحين الذين أضاء الوعي عقولهم، شغوفين بسر التساؤلات وواقعية الشعارات القادمة من خارج أسوار الجهل المحصن بسلطة الخوف وبراثن التخلف ودجل رجال الدين في بيئتهم!

فتشكلت بينهم أولى الخلايا السرية للتنظيمات الفلاحية اليسارية المطالبة بحق الفلاحين بالأرض التي يستصلحونها ويزرعونها ويحصدونها!

مع مضي السنوات اتسعت شرارة وعي الفلاحين بحقوقهم، وازدادت نوبات السلطة القمعية عليهم، وشهدت السجون أعداداً متزايدة من الفلاحين المتمردين على سلطة الاقطاع ودولتهم المحمية بالمحتلين الانجليز!

في نهاية ستينيات القرن الماضي كنت منهمكاً في خضم شؤون وشجون أهل (الكحلاء) عندما عدت إلى (مدينة العمارة) والتقيت صديقي (عطشان الكحلاوي) ...

شغلتنا أخبار تفرد السلطة المستبدة وتعسف عسسها بالفلاحين...فكانت تلك فرصة وسبباً لدراسة تاريخ وواقع وتطلعات الفلاحين في تلك الجغرافية المنسية من وطنننا...مثل غيرها...للمساهمة في تغييرها، لكن مسعانا قد أحبط قبل أن نوقد أول شمعه، وانتهى باعتقالي بوشاية من فلاح عهدنا إليه أن يكون (طارش) لنا إلى (أهل الكحلاء!)، واختفى (عطشان الكحلاوي) في (هور الطمر) مع أبناء عمومته إثر ذلك!  

فاجأتني زيارة صديقي القائد الفلاحي (عطشان الكحلاوي) بعد أربعين عاماً من انقطاع الأخبار بيننا، والذي جاء مرافقاً لابنه (فيصل) الذي مزقت جسده شظايا مفخخة وضعت تحت سيارة الاسعاف التي يقودها وسط (مدينة العمارة) عام 2007...

أزلنا غبار النسيان عن بعض ما لم نستكمل من أحاديث قبل أربعين عاماً...لكن (أبو فيصل) لم يكف عن التعبير عن حزنه وهو يتذكر حادث مقتل رفيقه القائد الفلاحي (صاحب الملا خصاف) على يد (أبو ريشه) الذي كمن له بين القصب وأرداه قتيلاً حال مرور (مشحوفه) أمامه نهاية عام 1959، ذلك الاغتيال الذي كان إشارة بدء الردة الاقطاعية على الفلاحين!

يُعَبِرُ (عطشان الكحلاوي) عن يأسه لما آلت إليه الأوضاع في المدينة التي جاء منها...ويردد متحسراً:

قليلون هم الذي يتصدون للطغيان أمثال (صاحب) في أيامنا هذه... بينما يتناسل أمثال (أبو ريشه) ويتكاثرون كالذباب بيننا!

عندما غادر (عطشان الكحلاوي) غرفة المستشفى أحسست بأني مُحاصَرٌ مثل أهلي بألوان الموت الممتد من الغدر بـ(صاحب) إلى الموت الكامن لكل أهل العراق في كل زاوية وكل لحظة...

صرت ابحث عن مهرب ينجيني وأهلي...لكني استفقت من نوبة الإحباط...فكتبت:

من أينَ المَهْرَبُ يـ.......ـا "صويحب"؟

آواني القصبُ الباردُ بينَ ضلوعه...

ألْقَمَني الجوعُ دموعه...

أفْحَمَني الصمتُ!

****

نَوبةُ موتٍ سوداءَ تُمَزِّقُ سِتْرَ "السِرِيِّةِ"... (1)

وقطيعٌ فولاذيٌ مُغْبِرْ يُطْبِقُ كَفَّيْهِ على أنفاسِ "الكحلاءِ"... (2)

من أين المهربُ يــــــــــا... "صويحب"؟!(3)

****

ماكُنْتُ لأمْضيَ بينَ الفلواتِ غريباً لَوْلا الأقدامُ العَرْيانةُ...

والصدرُ المُشْرَعُ للريحِ...

وقبورٌ دَفَنَتْ أهلي في كلِّ المُدُنِ الموبوءةِ بالجَّوْرِ!

عَوَزٌ قارِسٌ...

ونوايا يَقْطُنُها المَوْتُ...

ومواعظُ تَغْشِ الابصارَ...

ودبيبٌ يَنْفُثُ بَلَهاً في شريانِ "مَضايفنا"... (4)

وبلادي تَنْزُفُ خيراً للغرباءِ!

****

بِضْعَةُ صبيانٍ يَلْتَحِفونَ الفُقرَ بأطرافِ المُدنِ الملغومةِ...

نِباحُ شُقاةٍ بينَ الأنفاسِ يُلاحِقُنا...

كي لا نَخْرُجَ من خلفِ القصبِ اليابسِ للطرقاتِ الأسْفَلتيِّةِ!

قَدَمٌ جامحةٌ تَرْكِلُنا خَلْفَ جدارِ الليلِ الأزليِّ...

وعيونٌ زرقٌ تَرْمُقُنا مِن أطلالِ الوطنِ المنهوبِ...

حَفْنَةُ تَمْرٍ مُغْبِرْ في باحِ الحقلِ المُغْتَصًبِ الأهلِ...

تَنْخُرُها الديدانُ...

وبومُ المُحْتَّلِ!

****

رجالٌ...بؤسٌ...يَفْتَرشونَ القَمْراءَ بلا خبزٍ بَعْدَ غروبِ العُمْرِ!

صوتُ المذياعِ يُلاحِقُنا...أن نَحْسِبَ للقبرِ حسابَ الحَرْثِ لِحَقلِ العَنْبَرِ...

وأنا أخْفِقُ في أحصاءِ رفاقي المقبورينَ...

وأهلي المنفيينَ بِكُلِّ بِقاعِ الأرضِ!

فَهزائِمُ جُنْدُ المُحتَّلِ مَصائِبُ تَقْصِلُ رأسَ فَسائِلِنا...

تُقْحِمُنا في مَحْضورِ القَولِ...

وتُقْبِرُنا في لائحةِ المنبوذينَ بقاموسِ:

السُلطةِ...

والإرهابِ...

وجيشِ المُحْتَّلِ...

وكُتّابِ الأعمدةِ النفطيةِ!

****

طفلٌ في الستينِ يُكَفْكِفُ عن وجهِ مَدينَتِنا طوفانَ التَفْخيخِ بأجسادِ الرُضَّعِ...

وسَبايا يَصْرُخْنَ بهذا الليلِ الأبديِّ الأعمى...

غُمَّةُ بُغْضٍ تَنشِرُها الريحُ الصفراءُ الـ- خَنَقَتْ- "نوزادَ" قُبَيلَ صلاةِ الفَجْرِ...

وفناءٌ يَسري في أنفاسِ بلادي!

****

أمٌ ظامِئَةٌ للغائبِ تُحْصي قَتلاها المَنثورينَ بِلا أكفانٍ حَوْلَ النهرينِ...

تَجْعَلِهُمْ كُحْلاً...

وبَريقاً بينَ جُفونِ العينِ...

وفتاةٌ...طُهرٌ...تَرمقُ قُرصَ الشَمسِ بعينٍ يُفقِئُها الحزنُ!

شمسٌ تتداعى وَجَعاً...وهشيماً بينَ "جبالِ الكُوردِ" وشطآن "الفاوِ"!

****

جَدلٌ يَقْمَعُني في منعطفاتِ العُمْرِ الصاخبِ...

يَحجِبُني عن رأسي...

يَجْهِضُ أسراري...

يوغِلُني في حبةِ قَمْحٍ مَنْسيَّة...

عِنْدَ تُخومِ الأرضِ المَجْروفةِ بالدباباتِ "البنّاءَةِ"!

****

تَسَمَّرْتُ لِجذعِ النَخْلَةِ كيْ أستريحَ مِنَ الحُلُمِ...

انْطَوَيتُ في الحُلمِ لأسْتَعيرَ أقداماً مُضادةً للمُفَخخاتِ...

للرحلةِ في دروبِ العراقِ!

إنْسَفَيْتُ بالريحِ خِشْيَّةَ التَماهي في صليلِ الوعودِ المُجَنْزَرَةِ...

أرَّقَني الشوق إلى الحُلْمِ...

تَبَدَدَتْ النهاراتُ بِهِزَعِ الدَمِ الدافقِ!

****

تَنْتَهِكُ الأعاصيرُ "المُشِعَّةُ" السنابلَ في قرارةِ العراقِ...

تَفْزَعُ العصافيرُ من البَيْدَرِ المُفَخَخِ...

تَهرُبُ الفِتْنَةُ من أسارِ الأهازيجِ والمواعظِ ...الدُخانِ...

تَحْتَمي بجَريدِ النخلِ، وريحِ الشمالِ!

تَسري الكلماتُ الزُعافُ كالوباءِ في الروحِ...

تُبَعْثِرُ الأزمنةَ الغَضَّةَ في الذاكرةِ...

تَنفَخُ فيها شواظَ القصائدِ الحبيسةِ في الصدورِ...

تَعيثُ الرمادَ في شهيقِ الصباحاتِ الفَتِيَّةِ...

تُكَبِلُ الخطواتَ بالشوكِ الجارحِ...

تَغشو البَصيرةَ بالشكِّ...

واليقينَ بالاستخفاف!

****

في آخرِ الليلِ:

يُلَمْلِمُ السَلاطينُ عَمائِمَهُمْ...

والغُزاةُ سيوفَهُمْ...

والفُقراءُ بُطونَهُمْ...

والشُهداءُ قُبورَهُمْ...

واللصوصُ...غنائمَهُمْ...

والدجّالونَ لُحاهُمْ...

والمنافِقونَ فِخاخَهُمْ!

يَتَدَحرَجُ الغُزاةُ والمُلَثَّمونَ من قِمَّةِ الوَهْمِ إلى قاعِ الغَيظِ...

تَتَفَجَّرُ القبورُ بوجهِ السيوفِ...

والبطونُ بوجهِ اللصوصِ...

والحدائقُ بوجهِ المفخخاتِ...

والطفولةُ بوجهِ البوارجِ!

****

تَستَلقي الشوارعُ على ظهورها من فَرطِ الإعياءِ...

يستريحُ الناسُ في العراءِ بَعْدَ زوالِ (الوحوشِ)...

تَتَدفَقُ الموجةُ من عيونِ الصَخْرِ إلى السهول التَرْفَةِ دونَ حواجِزَ مُسلحةٍ!

يَحمِلُ الشعراءُ قصائدهمْ لغرسِ الزهورِ خَلفَ القطعانِ المهزومةِ!

يَسقطُ المطرُ مِدراراً!!

 

 (1) السِرِيَّة: منطقة في مدينة العمارة بجوار سراي الحكومة.. كنا فتياناً نلتقي حتى الفجر في أحد دورها الفقيرة قبل اربعين عاما، نمزج الحلم بالبؤس والحماس بالخوف نناقش " دور تحرير الرأسمال - في انقاذ محيسن الحمّال - من الأسمال".

واليوم يعاودها الموت مثل بقية أحياء المدن العراقية بعد أن نكّلت بها الحروب والمتحاربون عقوداً من الزمن.

وتفشَّت -أسمال محيسن- عبر تلك العقود حتى صارت زياً رسمياً لمعظم أهلنا.

(2) الكحلاء: أحد أنهار مدينة العمارة، يغذي ناحية الكحلاء التي اشتهر أهلها بالوعي الثوري المبكر، وزراعة الشلب، والضيافة، وصيد الاسماك، ومخاصمة الحكومات الفاسدة، والغناء المحمداوي الاصيل، وجمال فتياتها.

           

(3) صويحب: هو القائد الفلاحي- صاحب الملا خصاف - الذي اغتاله الإقطاع في ستينات القرن الماضي ومجده الفتيان وشاعرنا (مظفر النواب)، ودَثَرَتْهُ الحكومات، وخَلَدَهُ الفلاحون.

(4) مَضايفنا: " المَضايف" هي مجالِس الضيافَةِ في الرِيفِ العراقي، وملتقى التشاور والحوار بين ابناء القرية والعشيرة.

 

 

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الثاني)

حكيم العقارب!

محمود حمد

تَفَرَّقَ (قطيع الأطفال والصبيان) وانقطعت (دوخة) عن المدرسة، ولا أخبار عن أختها (مُزْنَة)... كانت آخر مرة رآها فيها "عروة"، عندما تسللت من كوة في سور المقبرة نهار الجمعة لتوديع أخيها (عباس) عند قبره إثر إزاحة الحكومة لأكواخهم في (الخرابة)، وبدء رحلة تشرد جديدة للعوائل الفقيرة التي ينتهشها الإملاق!

فوجئ بها من بعيد مُنكبَّة على القبر تنوح...وقد قَطَعَتْ جديلتيها الغزيرتين اللتين كانتا تتراقصان على ظهرها كثعبانين فاحمين يتصارعان كلما هرولت أمامهم، ووضعتهما على القبر، واعتَصَبَت شعرها الأشعث بدشداشة أخيها (عباس) التي غرق بها!

عندما رآه (حارس المقبرة) يروم عبور سور المقبرة متوجهاً إليها، زجره ساخطاً وتوعده بإبلاغ أهله إن هو اقترب من المقبرة أو تردد على المستنقع.. قائلاً:

هذه المجنونة...تأتي عند الظهيرة كل يوم تبكي وتُحَدِّثُ أخيها في قبره عن همومها!

كان ينوي الإفصاح لها عن سر غرق اخيها عباس حيث كانا معاً يبحثان في المياه الضحلة عن بيض الطيور المهاجرة في اعشاشها العائمة على المسطح المائي، عندما باغتهم (فرهود) ملوحاً لهم بعصاه ومطارداً إياهم، لأنهم أتلفوا الدوشات (كمائن القصب) التي نصبها لصيد الطيور...حينها تمكن عروة من الهرب إلى اليابسة، لكن عباس من فرط خوفه سبح نحو المياه العميقة وغرق! 

بعد مغادرتها القبر، سار محدودباً بين القبور، فوجد على القبر طابوقة انتزعتها من سور المقبرة وكتبت عليها بخط يدها بلون سعف النخيل، بذات الألوان الشمعية التي أهداها لها (المعلم عيدي) كأفضل رسامة في المدرسة:

هنا يرقد (أخي عباس)!

عاد إلى كوخهم يعصف به الحزن والخوف والندم!

في صباح يوم الخميس من الأسبوع الأول للعام الدراسي الجديد...وبغياب (دوخة) واختها (مزنة)...حملوا "عروة" عاجزاً عن المشي على قدميه المتورمتين بفعل عصا الخيزران التي انهال بها عليه مدير المدرسة البطين (الأستاذ أبو أكرم)...بعدما تطايرت شظاياها على التلاميذ، وهو مُكَتَّف بذراعي (الفراش حلبوص) الرجل الأعور الجثيث ذو الرائحة النتنة، وسط ساحة المدرسة أثناء الاصطفاف الصباحي اليومي بعد مراسم رفع العلم... ألقوه ُعلى الأرض الأسمنتية وسط مناضد طلاب وطالبات الصف الذين أصيبوا بالذعر لحالته ( ليكون عِبْرَةً لغيره!)....كما قال لهم فراش المدرسة حين ألقاه بوحشية على الأرض!

تقدمت إليه (أروى) ابنة (الدكتور بهجت مدير الصحة المدرسية) التي تجلس إلى جواره...حاولت مساعدته على الوقوف لكنها لم تقوً على حمله...أدارت عينيها بوجوه الطالبات والطلاب على مرأى من (معلم الدين!) الذي أغلق الباب بجسده المترهل، فهَبَّ إليها الجميع ووضعوه على الكرسي إلى جوارها.

قَلَبَتْ (أروى)، صفحات دفاترها التي ملأها لها "عروة" بحقول زهور بلون قوس القزح، وزَيَّنَ لها هوامش كتبها بالطيور الملونة...حيث لا أحد في الصف يمتلك علبة ألوان سواها...لم يُفصح عن اسم الشخص الذي زوده بالألوان لرسم قصصه الخرافية على هوامش (كتاب الدين)، رغم قسوة التعذيب الذي تعرض له!

لما عرف المدير فيما بعد أن علبة الألوان تعود لابنة (الدكتور بهجت) ...ابتلع لسانه...خشية من جدها الذي تبرع بقطعة الأرض التي بنيت عليها المدرسة!

وقف (معلم الدين الاستاذ نجيب عبد الرحمن) عند الباب متوعداً إياه وغيره إن (أعادوها!) مرة أخرى...

لم يقوَّ على وضع قدميه الصغيرتين الحافيتين المُزْرَقَّتين على الأرض حتى نهاية الدرس الأخير...أخرجه (الفراش حلبوص) سحلاً من الفصل وألقاه خارج المدرسة...فيما ركض زملاؤه إلى أهله يخبرونهم بحالته!

نهضت (عَمَّتَهُ) العليلة (عوفه الجنديل) من داخل الكوخ مفزوعة وهي التي تولت تربيته منذ ولادته لمرض أُمه بفعل الولادة.

حملته بصعوبة على صدرها وهي متقطعة الأنفاس، حتى أوصلته إلى داخل الكوخ...وضعته بجانب أبيه الممدد منذ أكثر من عامين عاجزاً عن الحركة بسبب سقوطه إلى الأرض من مدخنة معمل الطابوق الطيني الذي يعمل فيه...ذلك الحادث الذي نُقِلَ على إثره إلى (المستشفى الأمريكي) في المدينة ليرقد ثمانية أشهر بلا حراك!

وبعد أن عجزوا من شفائه...طلبوا منهم:

خذوه إلى البيت ليستريح...

لقد قمنا بكل ما يمكن...

لم يبق سوى دعواتكم له بالشفاء!

ذهبت (عَمَّتَهُ) إلى المدرسة لمقابلة المدير، لكن (الفراش حلبوص) واجهها بالزعيق والشتائم ومنعها من الدخول إلى المدرسة...ظَلَّت واقفة أمام الباب والأطفال يدخلون طوابير إلى وسط الساحة... ترقبهم من وراء السياج المُشَبَّك...عندما وصل (معلم الرسم) متأخراً بعد غيبة طويلة قضاها في السجن لاشتراكه بالمظاهرات المستنكرة للعدوان الثلاثي على مصر...سلَّمَ عليها عند الباب وسألها:

ماهي أخبار ولدنا "عروة"؟!

اختنقت العبرة في صدرها دون أن تنطق...شحب وجه المعلم ودخل مسرعاً إلى إدارة المدرسة...لم يتأخر كثيراً حتى عاد إليها وطلب منها الدخول...وقفت عند باب مكتب المدير تتساءل عن:

(الجريمة!) التي ارتكبها هذا الطفل الذي يأتي إلى المدرسة خاوي الأمعاء كل يوم دون انقطاع؟!

بسط مدير المدرسة أمامها كتاباً مُلِئَت حافات أوراقه بالرسوم المتشابكة التي تمتد غالبا لتغطي مساحات من النصوص...صرخ بوجهها:

هل تعرفين أي كتاب هذا؟!

طأطأت رأسها للأرض خوفاً وحياءً...لكنها لمحت صفحات في الكتاب، كالتي تعرفها من (كتاب الله) الذي يتوسده أبيه منذ أن التصق بفراش المرض!

زمجر مرة أخرى مخاطباً إياها:

هذا كتاب الدين...هذا الغبي يعبث به ويشوهه بخرابيشه!

كان (معلم التاريخ) يجلس على كرسي قلق في نهاية المقاعد بمكتب المدير مبتسماً لما يجري أمامه، يتبادل نظرات السخرية مع (معلم الرسم) ...هامساً له:

كبار العلماء بدأوا حياتهم يخربشون على حافات الكتب الثمينة، بل والمقدسة!

أحَسَّتْ (عَمَّتَهُ) بأن ما كانت تخشاه على ابن أخيها قد تبدد عن روحها...فما يقولونه لا يعنيها...تمتمت مع نفسها بثقة:

أعرفه لا يفعل الغلط...لكنه مشاكس عنيد!

لم تمض إلاّ أيام حتى تدهورت حالة (عَمَّتِهِ) الصحية، ورقدت على حصير القصب العاري إلى جوار أبيه!

لم يكف عن مرافقة (أمُّهُ) حين تنقلها إلى المستشفى عند انتهاء الدواء، يخبرها الطبيب الإفرنجي بلكنته العربية الطفولية مبتسماً بوجهه، مُرَحباً به وكأنه يوجه الكلام إليه:

 (الحاجَةُ) ضعيفة...فيها فقر دم قوي...تحتاج تأكل طعام مغذي!

عادت (أمُّهُ) كعادتها عصر كل يوم من بيت (الحاج هاشم المعمار) الذي انخرطت بخدمتهم منذ أن انقطع (أبوه) عن العمل، تحمل معها قدراً صغيراً (فيه مرق) ورغيف خبز حنطة...لتضعه إلى جوار أبيه...يشير إليها بعينيه أن تعطيه للأطفال الثلاثة...لكنها ذلك اليوم وضعته إلى جوار (عَمَّتِهِ)...مدت (العَمَّةُ) يدها إلى قِدْرِ المَرْقَة بكسرة خبز، نادت عليهم ثلاثتهم، فأحاطوا بها كما اعتادوا، راحت تلقمهم الواحد تلو الآخر...حتى مسحت القدر بآخر كسرة خبز وأطعمتها لـ “عروة"!

التفتت الى أُمهِ قائلة:

رائحة الطعام شهية!

مع بدء موسم الأمطار...تتساقط البلوى عليهم مِدراراً، فـ (بواري القصب) المتهتكة التي تغطي سقف كوخ البردي) لم تمنع سيل المطر من إغراق الكوخ، وابتلال أسمالهم وأفرشتهم المُهترئة...لم يجدوا مرتفعاً في الكوخ أو خارجه يلجؤون إليه من بركة ماء المطر التي تغمر الكوخ وما حوله!

استمر المطر لأسابيع حتى امتلأت (دور الحكومة) غير المكتملة بجوار أكواخهم باللاجئين من سكنة أكواخ (الخرابة)، وهم معهم...لم يبق فِراشٌ أو لِباسٌ بمنأى عن ماء المطر...حتى دفاترهم وكتبهم المدرسية نقعت حَدَّ التَهَرُئِ بالماء!

حال سطوع الشمس وضعت أمُهُ كتبهم وأسمالهم على قوصرة جدار المبنى الحكومي بمواجهة أشعة الشمس...عندما جَفَّتْ...وجدوا دفاترهم وكتبهم ملتصقة أوراقها ببعضها!

كانوا يتحلقون حول الموقد الذي أشعلته (أُمُّهُ) تحت سقف مبنى الطابوق غير المكتمل الذي احتموا به...يحدق إلى (عَمَّتِهِ) التي ترتعش من شدة البرد ومن رسيس الحمى في عروق جسدها الواهن... شحب وجهها المُتَجَلِّد وبان الوشم على كفها الصفراء النحيفة أكثر زرقة...فيما كان (أبيه) خامداً تحت غطاء الصوف الذي جاء به إليه صديقه (صويحب) وزوجته...ذلك الرجل الضئيل البدن الخفيف الحركة المفعم بالنخوة...الذي كان يعمل مع أبيه في صناعة الطابوق الطيني بمعمل (الحاج غازي) أقارب (سِعْدة) التي أخذت (الخرابة) كنيتها من اسمها!

أمضى (صويحب) وزوجته ساعات طويلة حتى المغرب يحاول إسماع صوته لأبيه دون جدوى...تحدث مع (أُمهِ) عن (عَرّافٍ ذو كرامات!) يشفي العليل بطبابةٍ مُجربةٍ، فقرروا نقل أبيه في صباح اليوم التالي إلى (حكيم العقارب!) في الطرف الآخر من مجمع الأكواخ الذي أغرقته مياه الأمطار...ذلك (العارِفُ!) الذي يتداول سكان الأكواخ الغارقة الأخبار عن:

عِلْمهِ الغزير!

و(سِرِّ مكانته عند الله!) ...

لهذا:

غرقت كل الأكواخ والصرائف في (الخرابة) حول بيت (حكيم العقارب) دون أن تستقر قطرة ماء واحدة على سقف (كوخه) طيلة أيام المطر!

لم يتحرك "عروة" من فراشه للذهاب إلى المدرسة ذلك اليوم، مُدَّعياً المرض لكي يرافق أبيه إلى (حكيم العقارب)!

كان طابور الباحثين عن الشفاء طويلاً حول أكواخ القصب والبردي الثلاثة المتلاصقة التي يقطنها (حكيم العقارب) ...أنزلوا أبيه من على ظهر الحمار الذي استأجروه لنقله من كوخهم...دام الانتظار طوال ساعات النهار حتى الغروب.

حين أدخلوا (أبيه) إلى (مُعتَكف حكيم العقارب) تسلل معهم مختبأً خلف كدس الأفرشة المعطرة بالبخور... يراقبهم بخوف شديد يعصف بروحه ويرتعد له جسده... يتابع حالة المرضى الخارجين من جوف الكوخ محمولين على الأذرع دون حراك بعد (استطباب!) (حكيم العقارب) لهم!

طلب منهم (حكيم العقارب) أن يخلعوا ملابس (أبيه) كلها... راح يتطلع إلى جسد أبيه الذي لم يره من قبل، وقد نفرت العروق الداكنة من تحت جلده المتغضن الباهت اللون... قال (حكيم العقارب) لـ(صويحب):

اربطوا رجليه بالحبل وكَتِّفوه دون أن تتركوه يتحرك!

كان (أبيه) خامداً كالجثة بين أيديهم ، سوى حركة عليلة تحت أضلاعه المُكَشِّرة ، أحكَموا تقييده... عندها جاء (حكيم العقارب) بقنينة زجاجية مغلقة في داخلها عقرب فاحم يهاجم السطح الزجاجي بجنون داخل القنينة... فتح مغلاقها بعد أن حدد نقطة عند الورك، قلب القنينة على فخذ (أبيه) المتجلد الشاحب ، فنشبت العقرب ذنبتها بجسد (أبيه)... ارتعش من شدة الألم ، تشنجت أوصاله، صار يحرك رأسه ورقبته وعينيه كالمصروع ، سال اللعاب الأبيض من فمه... وغَمَرَ العرق جسده... ثم راح يتقيأ... تكاد ضربات قلبه تُسْمَعُ لمن حوله ، لكنه لم يطلق صوتاً أو آهة... فيما كان (حكيم العقارب) يتلو (سورة الفلق)... إلى نهايتها!

كي يكمل العقرب سُمَّهُ ويموتُ ويُضَمَّد على الورك الذي ازْرَقَّ وتَوَرَّمَ!

في تلك الآونة جاء (سيد جبار اليشَوِّر) صديق "عروة"، ابن (حكيم العقارب) ومعه (قطيع الاطفال والصبيان المُعدَمين) يبحثون عنه... تجمعوا خلف (كوخ النحيب!) ...مفزوعين يستمعون إلى حكايات (سيد جبار) عن مكرمات (أبيه)...قائلاً:

يتجمع (الجِنّ") الذي يخرجه أبي من أجساد المعلولين تحت سقف (الكوخ) على هيئة دخان أزرق، وقبل صلاة الفجر عندما يختم أبي تلاوة سورة البقرة يخرجون هاربين مذعورين إلى جحورهم فوق الغيم على هيئة جرذان بيضاء ذات رأسين ولها أجنحة كأجنحة الطير!

كان الأطفال مذهولين، خائفين من نزول الجرذان المُجَنَّحةِ من السماء لانتهاش وجوههم، إن هم لم يستعيذوا بالله من الشيطان حسبما حذرهم (سيد جبار) ...خرجوا متفرقين باتجاهات مختلفة دون أن يكلم أحدهم الآخر!

لم يترك أبيه... عندما حملوه إلى كوخ (صويحب) القريب من بيت (حكيم العقارب) ليعيدوه إليه قبل صلاة الفجر كي يُكملوا (التطبيب)!

ظلوا تلك الليلة ساهرين مترقبين أي حركة لـ(أبيه)، لكنه لم يَرِفُ له جفن أو تَدُبُّ الحركة بمفصل فيه... قبل طلوع الفجر أعادوه إلى (حكيم العقارب) ... الذي طلب منهم عشر دراهم معدنية... وضعها في موقده المتأجج حتى صارت تتلظى... بدأ يحملها بملقطه الفولاذي الطويل ويَصُفُّها الواحد تلو الآخر على طول ساق (أبيه)... يرفع ما يهفت منها، ليضع المتوهج بعده حتى السادس منها!

عندها صرخ أبيه كالغريق الذي ينتشل نفسه من الأعماق الخانقة، ثم هَمَدَ كالخرقة المبللة بين يدي (حكيم العقارب)!

بعدها أمضوا أشهراً يعالجون التقرحات التي خلفتها الدراهم المتأججة والعقرب السوداء... صار (أبوه) ينظر إليهم باستنجاد واستعطاف... يبادلهم الارتياح بنظراته دون أن يقوى على الكلام... شعروا بالفزع لقول جارتهم لأمهم:

هذه صحوة الموت!

راح (أبوه) يشير إليهم أن يُقَرِّبوا الكفن الذي تبرع به له صاحب معمل الطابوق... بعد أن سحبته عمتهم نحوها وتوسدته... دون أن تكف عن الدعاء:

أن يكون أجلها قبل أجل أخيها!

بدأت الزيارات المريبة تتزايد إلى كوخهم، كان الناس كل ساعة ينتظرون موت أبيه أو عَمَّتِه!

عقب تهديد الحكومة ووعيدها بإزالة الأكواخ المواجهة للسجن التي أتُهِمَت بإيواء السجناء السياسيين الذي هربوا يوم الأمطار العاصفة ، نشب حريق مباغت في الطرف الغربي من (خرابة سعدة) المواجه لدور الحكومة ، مُلتهماً أولاً كوخ (عائلة آدم الضرير) الذي كان ابنه (أحمد) أحد السجناء السياسيين الهاربين، وسرعان ما امتدت ألْسِنَةُ اللهب منه إلى الأكواخ المتهالكة كأكوام هشيم يابس في فضاء مفتوح ، فَرَّ الناس مفزوعين من ظلمة أكواخهم ، يتراكضون عُراةً في دُجنة الليل ، نحو المجهول ، يستغيثون بالسماء أن تُسقط مطرها مدراراً لإنقاذهم من غضب النار!

احتضنت أمهم (أبيهم) وحملته كالذبيح، وأخرجته من جوف الكوخ إلى العراء، فيما تجمعوا حول عَمَّتِهِمْ العليلة ليعينوها على الوقوف والاتكاء عليهم وعلى جارتهم الأرملة (حرية) التي هَبَّتْ لإنقاذهم حال صراخهم... قبل أن تصلهم النار التي راح شواظها يقترب منهم، وشررها يتساقط عليهم... وجدوا أنفسهم وسط صراخ وأنين مئات العوائل النازحة المرتعشة من شدة البرد... مرميين على رصيف (السجن المركزي) في الجانب الشمالي من (الخرابة)!

قبل بزوغ الفجر كانت الأكواخ بما فيها قد تحولت إلى كومة رماد ساخن، وسكانها بلا مأوى أو طعام!

تشبثوا بأمهم وأبيهم وعَمَّتهم متلاصقين مرتعدين من الخوف في نفوسهم وصرير البرد في أجسادهم... كانت أُمُهُم تتحسس بين الفينة والأخرى صدر أبيهم للاطمئنان على أن دفقات الروح مازالت باقية فيه، فيما كان هو في حضن عَمَتِه يغفو على ترانيم أنفاسها المتقطعة!

على امتداد سنوات الفاقة التي يعيشونها لم يسمعوا من قبل أن لهم (أقارب) في تلك المدينة أو خارجها، فلم يزورهم (أقاربٌ) من قبل... لكنهم فوجئوا ذات مساء شديد البرودة والجوع باقتحام ثلاثة رجال متجهمين إلى كوخهم الذي لم يكتمل بناءه بعد... نهضت (أُمُهُم) تعانق أحدهم وتسلم على الآخرين... أمضوا أكثر من ساعة يتكلمون بوجوه عابسة مع (أُمُهِم) فيما كان أبيهم ينظر إليهم بعيون كسيرة!

لم يعهدوا (أُمُهُم) مخذولة مثلما وجدوها ذلك اليوم، هي التي عُرِفَتْ بثباتها وتحملها لشظف العيش وقسوة الحياة عليها بصمت، منذ ولادتها يتيمة الأم، واجتراحها معاناتها مع زوجة أبيها التي أذَلَّتها وأُختيها مما اضطرَهُنَّ للزواج وهُنِّ صبايا!

أحس وإخوته أن أحد الرجال هو (أخيها غير الشقيق)، والآخرين أبناء عمومتها... كانت أحاديثهم تتقطع بنظرات خالية من الود إليه وإلى أخوته... لكن أحد الرجال ذو الجبين المُجَعَّدِ والعينين الشاردتين تحت حاجبين كثعبانين أرقطين متراقصين... صرخ بها ساخطاً:

لماذا لا يتركون المدرسة ويعملون ليساعدوك مثل بقية أولاد العشيرة؟!

ردت عليه والدموع تنهمر من عينيها متهدجة الصوت:

إذا طَرَقتُ باب أحَدِكم استجديكم...

طالبوني بما تريدون!

رحمة الله واسعة... وأولادي لن يتركوا المدرسة!

التفت "عروة" إلى (أبيه) الذي احتقن وجهه بالغيظ، وقد بدأ يحرك ذراعه المرتعشة لأول مرة منذ سنوات وهو يومئ للرجال الثلاثة أن يخرجوا... فيما كانت (عَمَّتُهُ) تحاول أن تنهض لالتقاط حجر كانت تُسَخِنُهُ وتضعه على خاصرتها لتخفيف آلامها... لكنها كانت هذه المرة تنوي قذفهم بها، خرجوا شاتمين (أُمُهَم) و(أبيهم)، لأنهم لم يستجيبوا لهم، ولم يجدوا ما يقدموه لضيافتهم... متوعديها:

سوف لن تجدي أحداً يرحمكِ...

وسَتُكَّسِّر الحياة رأسكِ!

احتضنتهم أمهم وأجهشت بالبكاء... قبل أن يرقدوا جميعاً مستسلمين لسلطان النوم ملتحفين بعضهم بأجساد بعض للاحتماء من البرد الذي ينهش العظام والجوع الذي يمزق الأحشاء!

تذكر إجابة (أُمُهُم) المفحمة لهم عندما كانوا يسألونها:

أليس عندنا أقارب؟!!

كانت تجيبهم بيأس مرير:

عندنا عقارب!!

 عند الفجر أحسوا بحركة غير اعتيادية في ظلمة الكوخ...كان موقع (أبيهم) خالياً، وجدوه يزحف على كوعيه وركبتيه نحو باب الكوخ...هبوا جميعاً إليه مفزوعين، أعادوه إلى مكانه...فيما أمسكت (أمهم) بمعصمه وقالت له بثقة وعيونها تغرورق بالدموع:

لن أُطأطأ رأسي لهؤلاء الأجلاف!

لا تخشى علينا يا (أبا فاخر) ...

كل ما نتمناه هو شفاؤك واستعادتك لصحتك...وبراء عَمَّتِهم من الداء الذي ألَمَّ بها!

جاء الربيع مبكرا ذلك العام...

طلب أبيه منهم أن يخرجوه إلى مشراقه الكوخ تحت رحمة الشمس...صار يُدْمِن التمدد كل يوم من الشروق إلى الغروب متلحفاً بدفء النهار!

ذات يوم تنادوا فرحين عندما وجدوه متكئاً على قوصرة الكوخ دون أن يساعده أحد...بدأت العافية تسري في عروقه...صار يتكلم معهم بضع كلمات...طلب منهم أن يأتوا إليه بصديقه (صويحب)...الذي لم يتأخر عليه.

جلسا طيلة صباح الجمعة يتحدثان ويقلبان وجهيهما للسماء التي ازدادت زرقة...

لما هَمَّ (صويحب) بالمغادرة قال لأبيه:

لا تقلق سأبلغه السلام!

صار (أبوهم) يستند إلى عصا وينهض بنفسه...حتى عندما جاء (صويحب) ومعه رجل ستيني وقور... استقبلهم (أبوه) دون عصاه بعناد...كأنه يريد أن يثبت للزائر إنه بكامل عافيته...جلسا إلى جوار (أبيه) في مشراقه الكوخ...لفترة وجيزة...

بعد أن غادر الرجل الستيني، وضع (صويحب) بضع دنانير تحت وسادة (أبيه) قائلاً له:

سأستعيد لك باقي الدَيْن منه!

بعد سنوات من تآكل جلودهم بالأسمال عادت أمهم من السوق ذلك اليوم بـ(زنبيل خوص) كبير مملوء بـ(دشاديش) جديدة، وراحت تتأكد من تطابق قياسها عليهم...ثم وضعت ثوباً جديداً إلى جوار (عَمَّتِهم)... ودفعت بيده (دشداشة ويشماغ) ليعطيه لأبيهم...نظر (أبوهم) إليها معاتباً وشاكراً واحتقنت عيونه بالدموع لمّا لم يجد في (الزنبيل) ثوباً لها!

في ذلك النهار طلب منهم (أبوهم) أن يبحثوا له عن العلبة المعدنية الصغيرة التي كان يحتفظ بداخلها بأوراق ميلادهم الرسمية الثبوتية...وبـ (رخصة قيادة السيارة) التي حصل عليها قبل مرضه بشهر واحد فقط!

فيما هم يبحثون عما أراد...تَكَوَّرَ “عروة" في حضن أبيه فرحاً...يشاوره وعيونه تُرأرئ نحو أخيه الكبير (فاخر):

اليوم في الاصطفاف الصباحي صفقوا له لأنه متفوق في المدرسة...وفاز بمنافسات شعراء المدارس!

تقدم الولد الكبير لأبيه يُقَبِّلُ يده، وانحنى الأب يقبل رأس ولده البكر باعتزاز فتساقطت دموعه على رأس الصبي...لكن الصبي قرص فخذ أخيه بقوة دون أن ينتبه إليه (أبوه)...مؤنباً ومتوعداً إياه لإفشائه سر تفوقه!

دون أن يكترث بفعلة أخيه به...واصل "عروة" حديثه لـ(أبيه)...لكن أخيه قاطعه مُفشياً سِرَّ" عروة":

يا أبتي هو سيشارك بمعرض المدارس وبمسابقات الرسم!

استعاد (أبوه) بعض عافيته، صار يخرج صباح كل يوم بحثاً عن عمل...

جاءهم يوماً يقود سيارة حوضية اختفى لونها من كثرة الوحل المتيبس عليها...تحمل رقم (دائرة البلدية) ... (سيارة تنظيف مجاري مياه الأمطار ومياه الغسيل والغائط) ...حيث جرى تعيينه سائقاً لها بعد أن توقفت تلك الخدمات لأربعة أشهر في المدينة منذ وفاة سائق السيارة العضب (عبد العال) الذي انزلقت به السيارة إلى قاع (مستنقع تفريغ المياه الثقيلة)، وانقلبت عليه، ولم يستطيعوا إخراج جثته إلاّ بعد أسبوعين من تحريك السيارة من فوقها، فطفت الجثة منتفخة مهترئة على سطح المستنقع الآسن!

هَبوا راكضين إلى (عَمَّتِهم) داخل الكوخ ليبشروها باشتغال أبيهم...

لكنهم وجدوها تغط بنوم أبدي عميق!

 

 

رواية (ذاكرة التراب)

(الفصل الأول)

سور المقبرة!

محمود حمد

 

بعد أكثر من ثلاثين عاماً عاد "عروة" إلى مدينته الريفية بحثاً عن طفولته وصباه...يسأل عن مصير (دوخة) ...الصَبِيَّةُ التي كانوا يركضون خلفها كالجِراء عند حافة المستنقع الآسن في أطراف المدينة...تأخذهم حيث تشاء، وتُعيدهم إلى (الخرابة) متى تشاء...يبحث عن أخبار أختها الصغيرة (مُزْنَة) التي كانت لصيقة به خلال تشردهم على حافات المستنقع وخلف سور المقبرة وعند الاصطفاف في ساحة المدرسة كل صباح!

وقف في مدخل الشارع الأَسْفَلْتي الذي امتدت مباني المدارس على جانبيه، ويُخْتَمُ بمركز صحي صغير...ذلك الشارع الذي كان حينذاك يجثم عن يمينه (السجن المركزي) وعلى يساره (خرابة سعدة) التي تفصل المدينة عن قلعة السجن، وعن مديات الريف والمستنقعات الممتدة حتى (البطائح).

عند موطئ قدمه حيث يقف اليوم، كانت بالأمس مزالق المستنقع التي تعلموا فيه السباحة، وإطفاء الخوف من المجهول إثر اقترابهم من فَكَّي الموت غرقاً أكثر من مرة...ذلك المستنقع المترامي إلى أفق السهل الذي تقبع فيه المدينة الزراعية المنتهكة بالجوع والحرمان!

هناك كانت آثار أقدام (دوخة)، الصَبِيَّةُ الحافية التي علمتهم اللعب والعبث دون خوف...حتى بعد الغروب...كانوا ينبشون حَجَرَ المقبرة ويقلعون طابوق سورها ليعطوه للمنبوذين من أبناء المدينة، الذين سحقهم الفقر فالتجأوا إلى حزام الأكواخ، ليبنوا لهم به حجرات من الطابوق المُعَفَّرِ بأجساد الموتى، ويسقفونها بالقصب الرطب والطين الآسن، ليكون كالورم الهجين في خاصرة الـ(خرابة) المكتظة بالمُعْدَمين!

في تلك الآونة كانت تلوذ بـ(الخرابة) آلاف العوائل التي تشردت من الأرياف الظامئة على أجيال متعاقبة، لتشكل البيئة الأكثر بؤساً في (مدينة الماء والسماء!).

لم تحتمل (الجدة) الضريرة عبث (دوخة) مع الصبيان والأطفال وهي في عامها الثاني عشر، لكن ما يُطمئنها عليها...ثقتها بقوتها البدنية الخشنة، طلاقة لسانها السليط، فطنتها المتيقظة، وتوحشها مع الغرباء...مما جعل صبيان خرابة القصب والبردي يذعنون لها بقدر التئامهم حولها، واحتمائهم بها، لأنها تُخيف صِبْيان زقاق (دور الحكومة) المقابل للخرابة، وتحميهم من تَنَمُّرِهِّم عليهم!

تُرافق (دوخة) جدتها كل يوم منذ الصباح الباكر...تَشْحَذُ معها في السوق على ضفاف دجلة، ولن تعود إلاّ عند الظهيرة...تساعدها في طبخ (ما رزقها الله به من العظام والخضار التي ينبذها القصابون والبقالون!) لإطعام أطفال ابنها البكر الذي فقدته في (حرب الشمال)، وتركتهم أمهم لتتزوج من صديقه الذي أبلغها بمقتله، وانتقلت معه إلى مدينة بعيدة!

ذات يوم جمعت (دوخة) الصِبْيان والأطفال وأفشت لهم سراً:

هناك في شرق (الخرابة) حاوية للأزبال خلف السجن يرمي إليها السجناء الصمون الفائض عندهم من السطح بأكياس لكي يأخذها المحتاجون!

قادتهم إلى (كنز الجياع)، فوجدوا عشرات النسوة الحافيات يَجْلِسْنَّ حول حاوية النفايات بانتظار وقت رمي بقايا الصمون إلَيْهُنَّ...بدأ التسابق والتدافع والصراخ والشتائم بينَهُنَّ، لأن الكمية أقَلَّ من أن تَسُدَ حاجة أطفالَهُنَّ، لكن (دوخة) وخلفها (قطيع الأطفال!) كانت ترقب مشهد النسوة المتدافعات عن بُعْدٍ كالنمرة المتحفزة للانقضاض على صيدها.

لمحت رأس سجين في سطح السجن الشاهق يرمي الأكياس إلى الأرض خارج أسوار السجن، لَوَّحَتْ له بيدها كي يرمي باتجاهها كيساً بعيداً عن حشد النسوة...ما أن وجد السجين تجمع الأطفال مشرئبي الأعناق نحوه كعصافير فاتحة مناقيرها صوب أمها من فرط الجوع ، حتى رمى باتجاههم كيساً تَمَزَق في الهواء، فتناثر الصمون على الأرض...سقط بعض منه عند حافة بركة مياه آسنة...جمعته (دوخة) من الأرض ووزعته على (الأطفال) ولم يبق لها منه سوى صمونة ملوثة...مسحتها بأذيال ثوبها وأعطتها إلى أخيها (عباس) الذي يصغرها بأربعة أعوام، وراح يقضم منها بشهية، سألته بهمس:

هل الصمون الحار لذيذ؟!

أحس بها (قطيع الأطفال) ...فتسابقوا على اقتسام صموناتهم ورموها نحوها...رفضت بنظرتها المتوعدة من عينيها الحوراءين التي يخشون بريقها، وأعادت قطع الصمون إليهم مع لاذع الكلمات!

بعد أن انفرط عقد النسوة...كان سجين عجوز شاحب يتطلع إليهم من سطح السجن، إلى جواره سجّان كهل مسلح بـ(بندقية برنو الإنجليزية) وعلى صدره يتقاطع صفا رصاص بجعب جلدية سوداء لامعة... انحنى السجين العجوز إلى الأسفل ليحمل شيئاً ثقيلاً، ساعده السجان عليه، ورمى كيس كبير من الصمون إليهم!

طلبت (دوخة) من الأطفال مساعدتها على حمل الكيس على ظهرها، ومضت به إلى جدتها فرحة...قدمت إليها صمونة حارة ...قائلة لها بِوِدٍّ:

تذوقي (صمون الحكومة) الحار يا جدتي...إنه لذيذ!

قضمت العجوز الدَرْداء لقمة منها وعلكتها بباقي أسنانها المنخورة متلذذة بطعمها...قالت بغبطة:

اليوم أعطاني (القصاب عمران) قطعة لحم مع العظام، وهناك في السلة بصل وطماطم وبطاطا...نظفيها وأشعلي الموقد بحذر...اعملي لأصحابك، ولأخويك مرقاً مع الصمون الحار!

صاروا يرتادون فيء السجن كل يوم بحيث لم تعد عوائلهم تحسب حسابهم عند تقتير الطعام...صار (قطيعهم) يكبر عندما يحين موعد تساقط الصمون إليهم من السماء!

أشار لهم (سَجّانٌ بَطينٌ) يقف في بوابة السجن الحديدية السوداء الضخمة، أن يستديروا إليه ليعطيهم الصمون الساخن من الفرن مباشرة عند بوابة السجن الرئيسية، فتراكضوا جميعاً فرحين إلا هي...تباطأت حياءً، ولما تجمعوا حوله عند كومة طابوق بناء مهملة إلى جانب البوابة الحديدية السوداء الكبيرة... طلب (السَجّان) أن تدخل (دوخة) وحدها للداخل وتجلب لهم الصمون...ترددت وشحب لون وجهها، قَدَحَتْ نظرتها المتيقظة بعينيه المتورمتين شَهوةً متوحشة، تأملت عيون الأطفال من حولها التي يغشوها الخوف ويوقدها الجوع!

التفتت إلى اخيها (عباس) وطلبت منه أن يدخل معها...كان (أدهم) يقف في نهاية الصف وهو أكبرهم سناً وأعياهم صحة وأقلَّهم كلاماً لتأتأته...أزاح (أدهم) من يقف أمامه من الأطفال وأمسك بكتف (عباس) وأعاده للخلف وتقدم معها...عندها برقت عينيها بسطوع كعيون الصقر، وامتلأ صدرها تحدياً، فدخلا في ظلمة السجن، ودخل السَجّان المنتفخ خلفهما وأغلق باب السجن الفولاذية الثقيلة وراءه!

ما هي إلاّ لحظات حتى سمعوا صراخها الذي لم يسبق لهم أن سمعوه من قبل...تَيَبَّس (قطيع الاطفال) في مكانه أول الأمر...لكنهم فجأة انهالوا على بوابة السجن الحديدية بالحجارة والصراخ، حتى أيقظوا السجناء والسجّانين وقاطني أطراف الخرابة، وهم يتدافعون إلى بوابة السجن...خرجت (دوخة) شعثاء الشعر، وثياب (أدهم) ممزقة وأنفاسه متقطعة...لكنها لم تفلت يدها من كيس الصمون الساخن الثقيل الذي كانت تجره خلفها!

في اليوم التالي عادوا للجدار الخلفي للسجن بعيداً عن حاوية الأزبال...كان السجين العجوز بانتظارهم... يُلقي لهم كيس الصمون بعد انفضاض جمع النسوة...على مدى أشهر...حتى انقطع عنهم السجين العجوز أسابيعاً دون أن ينقطعوا عن الانتظار!

في ظهيرة يوم تموزي تَجمَّرت فيه الأرض من شدة الحرارة، وقفت سيارة إسعاف بباب السجن، أُخرِجَ سجين على نقالة إليها، وانطلقت به إلى المستشفى...عندما عادت (دوخة) في ذلك المساء الى كوخهم روت لجدتها حكاية السجين العجوز والصمون وسيارة الإسعاف.. سألتها جدتها:

هل تكلم معكم؟

ماهي صفاته؟

جلست تصفه لجدتها...مُستَذكرة:

نعم يا جدتي...

كان يحدثنا ويسألنا عن أحوالنا رغم ممانعة حراس السجن...

لكنهم يا جدتي يبدوا أنهم يهابونه...فيصغون إليه!

أجابت العجوز متحسرة:

إن لم تهلك الأيام عقلي وتمسح ذاكرتي...فإنه (الأستاذ حامد البدر) مدير المدرسة الثانوية... أتذكره قبل أن يُطفئ مرض الجدري بصري...(الأستاذ) الذي تعرفه المدينة كلها...الرجل الذي ما أن يخرجوه من السجن حتى يعيدوه إليه مع أية (قلاقل!) في المدينة...رغم اعتلال صحته وكبر سنه!

في ذلك العام اكتمل بناء المدرسة الابتدائية في الساحة الترابية بين السجن و(بُستان الجِدَّة) ...مع بداية شهر تموز كان المعلمون يجولون بين الأكواخ والصرائف يُحَفِّزون ويُحَرِّضون سكان (خرابة سِعْدَه) على أِرسال أطفالهم دون سن العاشرة إلى المدرسة الجديدة، يغوونهم بـ(الكسوة الشتوية وبوجبة الغذاء اليومية التي سَتُعطى لهم في المدرسة مجاناً)!

كان الأطفال من الذكور والإناث يتبعونهم كـ (الجرذان تتبع نافخ البوق!) ...لكن (دوخة) كانت مترددة لأنها تجاوزت الثانية عشرة من العمر...دفعها (أدهم) (الذي تجاوز الرابعة عشر من العمر) إلى وسط طابور الأطفال رغم ممانعتها...التفت إليها (المعلم عبد الواحد) ذو الطول الفارع والنحول المتجلد، ورمقها بنظرة استفهام أبوية، فخاطبه (أدهم) بنبرة متقطعة متوسلة:

أستاذ...هي عمرها عشر سنين لكنها (جثيثة!) مثل أبيها!

رد عليه (المعلم) دون أن يلتفت إليه:

ليأتي بها أبيها غداً للمدرسة!

اغرورقت عيناها بالدموع...وأجابته مخنوقة العبرات:

أنا يتيمة من الأب يا أستاذ!

لَفَّتْ ذراعها حول عنق أخيها وقَبَّلته على رأسه، فيما كانت أختها الصغيرة (مُزْنَة) تمسك بأذيال ثوبها من خلفها!

سارت وإياهما مع الجميع باتجاه المدرسة...أوقفهم (المعلم) تحت فيء جدار قلعة السجن، وصَفَّهُم في طابور، وبدأ ينادي عليهم بقراءة أسمائهم، ويردد خلفه الأطفال بهمس كل اسم مشفوعاً بالكُنيَّة التي يتندرون بها بعضهم على بعض، كما أملتها عليهم (دوخة)، طلب من كل واحد منهم عندما يسمع اسمه الخروج من الطابور والوقوف تحت ظل (شجرة السدر) المكلكلة على حائط السجن...أعاد عليهم قراءة الأسماء... كان كلما يقرأ الاسم الأول يُكْمِلْهُ الأطفال بالكُنيَّة التي اعتادوا عليها بصوت مسموع:

(أدهم) المسلول. (هلال) ابن أبو الطرشي. (ألْماز) المعَرْيَّن. (عروة) الحافي. (دوخة الذئبة). (مُزْنَة) أم قصيبة. (جابر) المشَرْشَبْ. (حمزة) المحَنّا. (عبلة) الشقرة. (سيد جبار) اليشَوِّر. (موزان) ابن العورة. (ذياب) الأحول!

يؤشر المعلم بقلمه على الأسماء المدونة في الورقة التي استخرجها من جيبه، التي كتبها خلال التقاطهم من الطرقات ومن بين الأكواخ والصرائف، وبين لحظة وأخرى يطلب منهم الاحتماء من سهام أشعة شمس الظهيرة بظل (شجرة السدر).

منذ اليوم الأول في المدرسة كانت (دوخة) مثابرة على الدراسة، دون أن تنقطع عن وقت استجداء الصمون من السجن، أو تتخلف عن مرافقة جدتها للشحاذة في السوق بعد الظهر...بدت عليها ملامح الأنوثة المبكرة بثياب المدرسة البيضاء والسوداء وشريط الشعر الأبيض في أطراف ضفائرها الطويلة الفاحمة، توثبت ملامحها السومرية المُتَحَدِيَّة...كانت تبدوا متغطرسة في مشيتها بين أترابها من الفتيات والفتيان في الصفوف الأولى من (مدرسة الأمير).

كل يوم عند ذاهبهم الى المدرسة، يتجمع (الأطفال والصبيان) على حافة الطريق الفاصل بين السجن المركزي و(الخرابة)، يتابعون عشرات السجناء السياسيين المكبلين بالسلاسل، وهم يرصفون الطريق الترابي بالطابوق، دون توقف، من الشفق إلى الغسق، طيلة شهور السنة، وفوق رؤوسهم يشهر السجانون بنادقهم!

لم تنقطع (دوخة) عن الخروج بالأطفال والصبيان إلى حافة المقبرة وشطآن المستنقع، حيث يسبحون ويصطادون صغار السمك النافر إلى الجرف الموحل، رغم وعيد جدتها وتهديدها لها خوفاً عليها وعلى أخيها (عباس) وأختها الصغيرة (مُزنة) من تلك المنطقة:

المعزولة عن الإنس والموبوءة بالجن!

الواقعة خلف سور المقبرة...حيث تعوي الذئاب في الليل، و(يختطف!) الغجر الرُحَّلُ الفتيات الصغيرات الجميلات في غفلة من ذويهُّن في النهار، وتنقطع أخبارَهُنَّ مع هجرة قوافل الغجر القادمة من المجهول والذاهبة إلى المجهول دون عودة!

كان أخيها (عباس) أكثر هدوءً وانتباهاً منها خلال الدرس، وأشد التزاماً بتأدية الواجبات البيتية، فتفوق على أقرانه من البنات والأولاد!

ذات (جمعة نيسانية) ازدحمت فيها شطآن المستنقع بالصيادين وحاصدي حقول الحنطة والشعير القادمين من قرى مختلفة بعيدة...وتمددت مساحات مغامرات (دوخة) ومعها الأطفال والصبيان المنفلتين عن أبصار أهلهم...وتزايد عدد (قطيع الأطفال والصبيان) السائب منهم بانضمام أطفال (المهاجرين النيسانيين!) القادمين إلى المدينة من مدن فقيرة أخرى في موسم الحصاد بشهر نيسان...حتى باتت تسرح بهم عند حافات مسطحات المستنقع، وبين القبور، مع صبيان وبنات لا تعرفهم.

صار من تعرفهم يسيحون في أماكن للهو والعبث والسباحة والصيد بعيداً عن سطوتها...لكنهم اعتادوا التجمع عند الغروب قرب رأس سور المقبرة ليعودوا معاً إلى (الخرابة)!

في ذلك المساء وقفت (دوخة) حائرة وسط (قطيع الأطفال والصبيان) تُقَلِّبُ وجهها بوجوههم... بدأ الليل يرخي سدوله على المدينة ويستوطن السكون والظلمة حافات المستنقع... تسلل الخوف إلى نفسها وانقبضت روحها... تسألهم مفزوعة:

أين (عباس)؟!

من منكم كان مع (عباس)؟!

ماهي إلاّ دقائق حتى انفجر صراخها واستجمعت الكبار والصغار مُستغيثةً، تطلب العون للبحث عن اخيها، احتشد الناس، وأُشْعِلَت حزم البردي والقصب لتبديد الظلمة...وإنارة المسطح المائي الشاسع!

تسمر "عروة" في مكانه عند مزلق الصيادين في حافة المستنقع يعصف به الخوف...لا يقوى على النطق بما رآه!

خاض العشرات من الشباب في المياه الضحلة وعام آخرون في عمق المستنقع، التَفَّتْ النسوة حول العجوز العمياء التي ألقت بنفسها في المستنقع تلطم وجهها بالوحل وتنادي ابنها الفقيد:

غرق ابنك يا(حسن)...

 

 

بمناسبة يوم الاديب العراقي

علي جليل الوردي...

شاعر (القصيدة التنويرية المعارِضة)!

محمود حمد

وأخو اللصوص، وإنْ تعفَّفَ، فهو لصٌّ أخطر

وصديقُ أعداء الشعوب عدوُّها المتنَّمر                                               (1947- الشاعر علي جليل الوردي)

في نهاية آذار 1979 كان لقائي الأول معه...وقد تجاوز حينها العقد السادس من العمر لكنه كان مفعم بالحيوية ووضوح الرؤية وثبات الموقف وشغف الشعر وجهورية الصوت والنقمة على السلطة...اسهب في الحديث عن (الشعر المعارِض للاستبداد) الذي هو احد اصواته البارزين، وعن (حركة انصار السلام) التي هو احد قادتها...وعن (اتحاد الادباء العراقيين) الذي كان أحد مؤسسيه...وعن ديوانه (طلائع الفجر) الذي صدر عام 1960 ورسم صورة الغلاف له الفنان الكبير الراحل خالد الجادر...تلك الصورة التي عبرت عن ذلك التلازم الحتمي بين (السلام والمرأة وطلائع الفجر) في شعر الوردي...الديوان الذي اهداه الى:

الشعل الوهاجة المنورة ظلمات الزمن.

الاحرار المناضلين في سبيل خير الانسان.

عشاق الحق والعدل والسلام.

أُقَدِّم طلائع الفجر!

في حديثه عن نفسه قال:

من أوائل الاربعينات، وحتى أواسط الخمسينات، كنت انشر قصائدي في مجلة (الرسالة) ومجلة(الثقافة) في مصر، و(الالواح) في لبنان)، و(الغد) في فلسطين، و(الهاتف) و(الغري) في النجف الاشرف، و(الفرات) في الحلة الفيحاء...غير ان هذه المغاني الأدبية احتَجَبَتْ عن الظهور، فاحتجَّبْتُ عن القرّاء باحتجابها وطواني النسيان!!!

حتى ان شاعرة كبيرة تحمل شهادة الدكتوراه في الآداب تسألني فيما إذا كُنْتُ شاعراً عمودياً أم شاعراً حراً؟!......طعنة في الصميم!... اليس كذلك؟!

كان شعره (مثل شعراء زمانه الوطنيون) يطبع على العقول في ساحات الانتفاضات وينشر بالألسن بين الناس...

تتلازم في شعره بلاغة القصد وفصاحة الكلم وغزارة المفردات جمال الإيقاع والحس الوطني الوثاب والروح التوّاقة للتحرر من كل اشكال القيود.

كانت (القصيدة المعارضِة) شرارة توقد الانتفاضات، وصوتاً هادراً للجماهير المنتفضة...وفي طليعتها عند انطلاقها، معبرة عن تطلعاتها في احتشادها، وتنبثق عنها شعاراتها العفوية...وعندما تتفرق الجموع تعود (القصيدة المعارِضة) معهم الى بيوتهم...تستوطن عقولهم، وتنطق بألسنتهم في مجالسهم، فتكون جزءاً من حياتهم وتعبيراً عن مواقفهم!

لم يغفل في حديثه معي خلال لقاءاتنا المتكررة التي امتد حتى عام 1998 عندما غادرت العراق مُكْرَهاً...دون ان ينقطع التواصل فيما بيننا حتى وفاته في عام 2009 ...

ذكر باعتزاز أصدقائه في مسيرة الحرية والسلام والديمقراطية منذ اربعينيات القرن الماضي...المسيرة التي ذاق فيها السجون وشهدت وقفاته وهو يلقي شعره الحماسي في الحشود المنتفضة...

وعندما توقف بالحديث عن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958...ذكرني بأول قصيدة له قُرِأَت في الإذاعة العراقية بعد الثورة بيوم واحد... ومطلعها:

كل شيء بعد تموز جديد...السما والأرض والفجر الوليد...

هزج الفلاح والناي البعيد وغناء الطير في الحقل المديد

وإذ يطلق (اتحاد الادباء العراقيين) مبادرة الاحتفال بيوم تأسيس اتحادهم كـ (يوم للأديب العراقي) ... فأني اذكر باعتزاز شاعر الحركة الوطنية (علي جليل الوردي المولود عام 1918 والمتوفى عام 2009 ) عضو الهيئة الإدارية التأسيسية للاتحاد في 7/5/ 1959 ،الذي لم يهادن جميع السلطات المستبدة المتعاقبة...وبقي زاهداً في حياته...اميناً على مواقفه كشاعر ناقد ووطني ثابت الموقف ورجل تقدمي واضح الرؤية...حتى عندما قتلت سلطة البعث اصغر أبنائه في 7/6/1981 لتركيعه وإذلاله...ولم تتوقف عن ملاحقته واستدعائه واستجوابه حتى بعد ان تجاوز الثمانين من العمر...عند سقوط النظام عام 2003.

كانت له الريادة عند نجاح الثورة مثلما في الانتفاضات التي مهدت لها...بان القيت قصيدته (العيد الاكبر) في 18 تموز 1958اي بعد أربعة أيام من الثورة كأول قصيدة تلقى في الإذاعة العراقية بعد نجاح الثورة...

التي جاء فيها:

بالأمسِ كنا، وكان اليأسُ يعصرنا       عصراً فيقضي على الآمالِ بالرَّهب

سلِ المعاقلَ كم ادمى الحديدُ بها                    من الشباب، وكم أودى من الشُيُب

وكم دماءٌ طهوراتٌ بها سُفكَت                       قسراً بأمر (عميلٍ) غامضِ النَّسَب

وفي قصيدته (وترعرع الامل الحبيب) التي القيت من الإذاعة العراقية بتاريخ 20/8/1958 أي بعد أربعين يوماً من انتصار الثورة...قال فيها:

الشعب منك، ومن رجالكَ أكبرُ                      فانزل عن الكرسيّ يا متجبرُ

مَنْ أنتَ حتى تستحلَّ دماءَهُ              قسراً، وتهزأ بالرجال وتسخر.؟

وتروح تعبث في البلاد وحكمها                      وتعيثُ في خير البلاد وتذخر؟

خذها عدوَّ الشعبِ، ضربةَ ثائرٍ                      أقوى من القَدَرِ الرهيب وأقدر

ورغم حماسه لدعم ثورة الرابع عشر من تموز لكنه كان ذو موقف فكري متمايز مستقل عن الانجراف وراء الظاهرة الصوتية الجمعية التي استباحت العقول والشوارع...

حدثني عما جرى خلال الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة الرابع عشر من تموز بقاعة الشعب عام 1959 التي القى فيها الزعيم عبد لكريم قاسم خطبة طويلة عن كيفية تفجير الثورة وكرر فيها كعادته كلمته المعهودة (إنني...إنني...إنني) وكان شاعرنا الوردي حاضراً ...فوقف وسط القاعة مخاطباً الزعيم:

لولا الضلوع الحانيات على اللظى     ما كان تموز ولا من ينصروا!

فاستدرك الزعيم قائلاً:

ان الشاعر يقصد...لولا الخوافي ما كان للقوادم ان تحلق في السماء!

كرس حياته وشعره لقضية السلام و(معارضته للحروب) منذ سنوات عمره المبكرة وهو الصوت المدوي المطالب بالسلام المعارض للحرب العالمية الثانية في قصيدته (اين السلام) التي نشرت في اوج احتدام الحرب في مجلة (الرسالة) المصرية عام 1942 التي مطلعها:

قالتْ وقد لاح عليها السقامْ:

الحربُ طالت أين عهدُ، السلامْ؟

وفي احتفال لحركة انصار السلام في عام 1954 القى الشاعر قصيدته (إنّا نطالب بالسلام) التي جاء في مطلعها:

فيمَ التطاحن والخصامْ         وعلى مَ يقتتل الأنامْ؟

وعلى مَ يُزجى بالألو           فِ من الشباب الى الحمام؟

وتروح قاذفةُ القنا  بلِ تقذف الحمم الجسام

وتبث ممطرة الدَّما ر الرعبَ والموت الزؤام

ولأجل من؟ ألأجلنا؟            إنَّا نطالب بالسَّلام

وكان صوته حاضراً متحدياً الاستعمار والاستبداد في انتفاضة عام 1948 مثلما في تأبين (جعفر الجواهري) في الحفل الذي أقيم في (جامع الحيدر خانة) في نفس العام...التي قال فيها:

أ (جعفر) يا قدوة الطيبين                 وصنوَ الأِباء، وترب الندى

أ أ ابكيك؟ لا، لست ترضى البكا         ويأبى الدموع من استشهدا

ولكن سنمضي، كما قد مضيت           أبياً، حميد الثنا، سيدا

سنمضي، فأَما حياة الرفاه   لهذي البلاد وإما الردى

ولكنما عن طريق النضال     تداس القيود ومن قيَّدا                              

شكلت حرية المرأة العراقية ودورها النضالي ومعاناتها و(معارضته) لكل اشكال اضطهادها وتهميشها واستغلالها...احد ابرز محاور شعره على امتداد حياته...فهو القائل في قصيدته (نضال المرأة العراقية) بمناسبة الثامن من آذار عام 1953:

لا، لستِ (جانداركاً) ولا (أسماءا)      بل أنتِ أسمى رفعةً وعلاءا

أسماء قد صبرتْ ولم تنزلْ الى                      نصرِ ابنها فتحاربُ العداءا

وتقحَّمَتْ (جندركُ) أهوالَ الوغى        بمسلَّحينَ تحمَّلوا الأرزاءا

وحشدتِ انتِ من الشبيبةِ عُزَّلاً                      ولقيتِ أهوالَ اللَّظى عزلاءأ

حتى يقول:

لو كان للتمثال ثغرٌ ناطقٌ                 لتدفَّقَتْ كلماته اطراءا

ولراحَ يملأ مسمعَ الأجيال عن                      (بنت العراق) مناقباً وثناءا              

المخاطب لها عبر رسالته الى زوجته وهو في غياهب السجن...تلك القصيدة المفعمة بالشغف لمحبوبته والثبات على الموقف الوطني والثقة بالمستقبل:

(أم الحسين) وانتِ جذوَةُ همَّتي وضياءُ روحي

ولأنْتِ إنْ نَزَفَتْ جروحي بَلْسَمٌ يشفي جروحي

لا يقعدَنَّ بك القنوطُ عن التطلّعِ والطموح

فاليأسُ قتَّالٌ وكم لليأسِ من شعبٍ جريح

كوني الأشدُّ على الكفاحِ ونصرة الحقّ الصريح

الدربُ محفوفٌ بكلِّ مخوفةٍ صعبٍ جموح!

لكنه، ابداً، الى الآمال والعيش الفسيح

في عام 1948 نشرت جريدة (الأهالي) رسالة من (قرينة معلم بقلم...م. ت) تشكوا عوزها وفقرها...فخاطبها الشاعر بقصيدة جاء فيها:

اختاه! لا حلٌ لما نشكوه من عُقَدِ المشاكل

إلاّ بتحطيم الرؤوس الجامدات من الهياكل

وبعزمةِ المتوثبين الثائرين على السلاسل

وبناء مجتمعٍ جديدٍ فيه صفو العيش شامل

ولا يخلوا شعره من نسمات الحب وترانيمه ومعارضته لقمعه...فحين كان الشاعر طالباً في الصف المنتهي من كلية الحقوق عام 1949، لاحظ اقبال الطالبات الى قاعة المكتبة خروجاً على مألوفهنّه في التزام الغرف المخصصة لَهنَّ، وصادف ان همس بأذن الشاعر احد زملائه قائلاً له:

ألا يهزّك هذا الجمال، مشيراً الى احدى الطالبات فأجابه الشاعر على الفور:

حَسْبُ المحبِّ وحَسبَهنَّه                   أنَّ المحبِّ زميلهنَّهْ

وفي اليوم التالي كانت قد اكتملت قصيدة (حمائم الحرم) ونشرت في مجلة (البيان) النجفية عام 1949م، وفي مجلة (الثقافة) المصرية سنة 1950م.

وجاء في مطلعها:

حَسْبُ المحبِّ وحَسبَهنَّه                   أنَّ المحبِّ زميلهنَّهْ

يا بؤسَ (مكتبة الحقو                      ق) إذا خلت من نورهنّهْ

كم جئتُ ساحتها الكريمـ                   ـة كي أفوزَ بقربهنهْ

وأجيلَ طرفي رائعاً             ما بين زهر خدودهنّهْ

ولكم تحاشَيْتُ الرقيـ                        ـبَ وخشية الرُّقَباء سُنّهْ

فجعلتُ وجهي للكتاب،                     وناظري لوجوههنّهْ

كي لا يُحِسَّ بي الهوى                     فيذيعه ما بينهنَهْ

فيهزهنَّ دَلالُهنَّ                 إلى جَفاءِ مُحَّبهنّهْ

كان يطلق عليه أبناء جيله (شاعر الشباب) ...فهو حاضر حيث يكونون في ساحات الانتفاض او تجمعات الاحتفالات الجماهيرية المعارضة للسلطة المستبدة العميلة للاستعمار...

في شهر مايس 1954 اقام اتحاد الشبيبة الديمقراطية احتفالاً انتخابياً في الكاظمية وطلب من الشاعر ان يلقي بهذا الاحتفال قصيدة بالمناسبة، فما كان منه الا ان يستجيب لهذا الطلب وينزوي جانباً لينظم قصيدة رائية قبل ساعة من موعد الاحتفال ...جاء فيها:

سيري جموع الشعب سيري للنصر للأمل النضير

إنَّ السعادةَ لا تنال                         بغير معرفة الأمور

وبغير سعيٍ حازمٍ               في كلِّ معترك عسير

سيري فانّ سياسة                         (الدولار) في الرمق الأخير

وسياسة التسليح سوف يهدُّها عزمُ (النصير)

سيري اهتفي (عاش السلام) وعاش كلُّ فتىً غيور

شكلت قضية الفقراء وحرمانهم وبؤسهم لوعة في قلب الشاعر وسبباً جوهرياً لمعارضته سلطة التفقير...وعبر عن ذلك في قصائده ومواقفه وسلوكه...

في عام 1946 نشرت مجلة (الفجر الجديد) الفلسطينية قصيدته (الكوخ يسأل) ...مخاطباً (القصر!) ... جاء فيها:

فكلُّ حجارةٍ يا قصر قلبٌ                   لفلاَّحٍ تعضُّ به القيود

لفلاحٍ حباكَ بكلِّ خيرٍ                       ويقضي وهو منكودٌ طريد

فكم شيخٍ قضى جوعاً، وكم من                      فتىً ألوى به الجهْدُ الجهيد

وكم عذراء كالأنداءِ طهراً               تحدّى طهرها السغب الشديد

أضاعوا عمرهم نصباً وكدّاً              بلا ثمنٍ كأنهمُ عبيد

أ يشقى المنتجونَ ضنىً وجهداً                      ليُتْخَمَ فيك سيّدك البليد

كان نصيراً للعمال وواحد منهم...ومعارضاً لاستغلالهم وصوتهم المحرض على كسر قيود الاستعباد...

في احتفال نقابة النسيج في الكاظمية عام 1947 خاطب الشاعر العمال في قصيدته (أيها العامل):

تقدَّمْ أيها العامل واحمل مشعل الفكرِ

وحرر شعبك المنهوك من أصفاده الكثر

ودونك منجل الفلاّح، فاخضد شوكة الغدر

وسر بالشعب نحو النور نحو الأمل النضر

فانت القائد الأعلى، وأنَّك صاحب الأمر

وفي الاحتفال الذي اقامته نقابة عمال النسيج في الكاظمية احتجاجاً على مذبحة عمال النفط في كركوك سنة 1946 القى الشاعر قصيدته (مأساة كاورباغي) التي قال فيها:

أيها العمال، هذا دمكم        ثمن النصر، ومَهْر الظَفَر

لا تخالوه مضاعاً، إنه         خيرُ غرسٍ مسفرٍ عن ثمر

فادأبوا في العمل المجدي ولا            ترتضوا غير النصيب الأوفر

وابعثوها وثبةً جامحةً                     تتشظَّى شرراً في شرر

وامحقوا كلّ أثيمٍ جائرٍ                     حسبَ الحكم ارتشاف المسكر

واكتبوا بالدَّم تاريخ الأِبا                  تتملَّاهُ عيون الأعصر

راية الحرَّيةِ الحمراء، في    الأرض لولا دمكم لم تُنشر

وكأنه بنا اليوم ...

وهو يفضح العملاء اللصوص في قصيدته (دَقّوا الطبول) التي نشرت في الملحق الادبي لجريدة الأهالي عام 1947:

دَقّوا الطبول وزمَّروا          وتآمروا فتأمَّروا   

راموا مواراة الحقيقة،        والحقيقة أظهرُ

وغدوا يبثّونَ الدعا            ية والدعاية تُدحر

إنْ واربوا، أو مالَؤوا         فالشعبُ واعٍ مبصر

من حالفَ المستعمرينَ فانه مستعمر

وأخو اللصوص، وإنْ تعفَّفَ، فهو لصٌّ أخطر

وصديقُ أعداء الشعوب عدوُّها المتنَّمر

وكأن انتفاضة تشرين 2019 حاضرة في قصيدته (طريق النور)...التي القاها في (الحضرة الكيلانية) في الاحتفال التأبيني لشهداء وثبة 27 كانون 1948 التي قال فيها:

 سلي (بغدادُ) مَنْ شهر السلاحا                     بوجه بنيكِ أيَّ دمٍ أباحا.؟

وأيُّ شبيبةٍ قتلوا فداءاً                    لعرضك أن يهان ويستباحا؟

أكانوا يبتغون سوى صلاحٍ   لحال بات يطلب الصلاحا؟

وكانوا ينشدون سوى ضماد لأمتهم، وقد نزفتْ جراحا؟

أ تحصدها مسالمةً جموعاً   بنادق طغمةٍ ركبوا الجماحا؟

وتنثرها مهشمةً رؤوساً                  على الطرقات عسفاً واجتراحا؟

أ ذنباً كان رفضهمُ (بنوداً)    هي الاغلال معنىً واصطلاحا؟

وإجراماً هتافهمُ بشعب                    سعى دَأَباً وما لاقى ارتياحا!

أ تُقْتَل أمَّةٌ ليعيشَ رهطٌ                    على سفكِ الدماء غدا وراحا           

وعن علاقته بالشعر المُنَزَّه عن (الارتزاق!) منه...تلك الظاهرة البغيضة التي سادت (بشكل ممنهج!) سلوك (معظم الشعراء لإرضاء السلاطين) منذ الدولة الاموية الى يومنا هذا...

يقول في قصيدته (صفحة من حياة شاعر) التي نشرت عام 1946:

ولم اتخذ شعري وعلمي بضاعةٌ                    فمن ساعدي عيشي وللساعد الشكر

نهاري نهار الكادحين، وليلتي                       تناهبها الابحاث والكتب والشعر

أُقَضّي نهاري بين جدران معمل                     تساورني فيه الشقاوة والضرُّ

كأنيَ و (السندان) صنوانِ في الأسى   فذا شفَّهُ طرقٌ وذا شفَّهُ الدهر

وفي زمن تفشي (ثقافة التفاهة!) اليوم...

تذكرت كم كان شديد الاحتقار لعلوا صوت المادحين والرداحين من (الشويعرين!) ومعارضاً لتلبدهم كالإسفلت على وجه الثقافة...حيث يقول في قصيدته (كان يا ما كان) التي نشرتها (مجلة الثقافة) المصرية سنة 1942:

ولقد كان في الحضور (حمارٌ)           شامخ الأنف ما له من زمام

غاضه ان يرى الهزار يغني  حائزاً دونه لكلِّ احترام

فانثنى ناهقاً يصيح أنا الشاعر           يا قوم فاسمعوا إلهامي

وتعالى النهيق مدّاً فمدّاً                   وتلاشى صوت الهزار السامي

غير أنَّ الهزار لما رأى الحفل طروباً للناهقِ المتسامي

ورأى نغمة البديعَ سواءً     ونهيق الحمار عند الطغام

عاهد النفس أن يلازمه الصمت دواماً بين الحمير الكرام

رغم المنع السلطوي والقمع الفكري والتهميش الممنهج والإغفال المتعمد...تبقى (القصيدة التنويرية المعارضِة) بكل اجناسها، ومختلف اجيال شعرائها...صوتاً مجلجلاً:

يوقظ العقول، وينعش النفوس، ويثري التفكير والتعبير، ويبدد عتمة التخلف والتجهيل الثقافي، ويفضح (قصيدة الارتزاق!)، ويكشف شعراء الإذعان والتذلل للمتسلطين، ويطرق المسامع الجمعية الصمّاء!

 

في الأول من أيار...

(بشت ئاشان) ... ليلة الغَدْر...

وما ادراك ما ليلة...؟!

محمود حمد

في زيارته لي ليلة أمس طلب مني (ياسين) أن استقبل رجلاً (اعرفه!) جاء من طرف أخيه (غمبار)...سيأتيني تلك الليلة الممطرة طالباً المأوى من (ذئاب السلطة!) ...قائلاً لي:

إنها تطارده من حارة إلى أخرى، منذ نزوله من سفح الجبل الوعر إلى الوادي الممتد إلى أحشاء المدن السهلية!

لم يجرأ أحد أن يفتح باب الدار لغريب يحمل أثقال الرحلة من مدن تبغضها السلطة، لكني المثخن الجراح من أسفار الدنيا...أيقنت أن الرجل اللاجئ من مدن اعشقها...لابد أن يكون رسولاً ينقل أخباراً تُخرجني من كهف العزلة ونياب اليأس!

وقف الرجل (اللابس فروة عنز!) برفقة (ياسين) منهكاً على عتبة المنزل يتأمل وجهي الشاحب المثقل بالهموم وغبار الجدران المنخورة بنزوات الجرذان...لم تكن ملامح الرجل المُخَبأ تحت جلد العنز غريبة عليَّ...ما أن حسر رأسه حتى عانقته بحرارة وصحت بصوت الشوق المخنوق:

(صالح)؟!

دعوته للدخول مع (ياسين) إلى المنزل بشغف المنتظر علاجاً يشفيني من الأوجاع المجنونة التي تنتهك أوصالي، وتستوطن قرارة صدري من فرط الخشية من عيون الرقباء التي تخترق حرمة المنزل ليل نهار طيلة سنوات عسيرة!

سألته عن أخبار صديقنا (مفيد وزوجته) الذين فُقِدا ليلة استباحة مسلحي (الاتحاد الوطني الكردستاني) الذين هاجموا مقرات (الأنصار الشيوعيين) في منطقة (بشت ئاشان) في الأول من آيار عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثمانين...طأطأ رأسه وشحب وجهه ومسح دموعه بظاهر كفه حابساً صفيراً ونشيجاً في الصدر.

اكتفى باستعادة ما قاله كريم احمد (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي) آنذاك:

اوصى "نوشيروان مصطفى" مسلحيه... (خلوا وراكم حصادكم نظيف...لا تتركوا شيء ...اقتلوا كل من يصادفكم)!...

ويضيف كريم احمد:

(كان القتل ضد الرفاق العرب بالأساس...وليس الاكراد...الاكراد كانوا يُعتقلون ما يُقتلون...الرفاق العرب كانوا يُقتلون رأساً...النساء والرجال...حقد شوفيني قومي ضيق)!

وصف لهم (صالح) تلك الساعات:

يومها كنا نتهيأ للاحتفال بعيد العمّال العالمي...

قُتِلَ خلال ذلك الهجوم المباغت علينا ما يقارب من مئة (نصير) معظمهم من أهالي بغداد ومحافظات الجنوب، وتشرد مئات منهم، ضاعوا في تضاريس الجبال ومنزلقات الثلوج، أو عند حدود الوطن الملغومة مع إيران، ووقع غيرهم في أسْرِ مُطارِديهم بعد أن تقطعت بهم السبل، ليتم إعدامهم رميا بالرصاص على الهوية، لكونهم من (العرب!) رغم أنهم كانوا مع قاتليهم في خندق واحد لمحاربة السلطة المستبدة!

سألته عن (أنور) (1) صديق الصبا ورفيق دراسة (المعرفة الممنوعة) ...الذي كان معهم في ذات الخندق لحظة الهجوم عليهم، وفَرَّقَتهم زخات الرصاص...

روى لنا(صالح):

ان (أنور) همس بأذنه في تلك اللحظات الحرجة التي بددتها لعلعة الرصاص... قائلاً له:

أرادوا لقتلنا أن يكون عربونا لبدء مفاوضاتهم مع (نظام البعث) في بغداد!

وأضاف (صالح):

في تلك الليلة الحالكة الظلمة لاح لنا (أنور) من بعيد حاملاً بندقية الكلاشينكوف...متسلقاً الجبل الوعر...مُثقلاً بأمتعته وكتبه واوراقه باتجاه كوة يفضحها ضوء القمر المختبئ في الجانب الآخر من الجبل المعانق للغيم...يباعد بين ساقيه في صعوده بين الصخور متكئاً تارة على كعب بندقيته وتارة أخرى على الأسنان الصخرية التي يتستر بها من عيون مُلاحِقيه خلال انسحابه من الموقع الذي أشعل فيه المسلحون نيران رصاص بنادقهم بعد استباحته!

لَوَّحَ لنا من بعيد بحركته المسرحية الممازحة...مثلما عودنا عند افتراقه عنا في استدارة نفق (محطة مترو بوشكينسكايا) أيام تلقينا (المعرفة الممنوعة) في موسكو معاً!

كنا (أنور) وانا من مدينة فقيرة واحدة، وانحدرنا من طبقة مسحوقة واحدة، وانخرطنا في تنظيم مُلاحَقٍ واحدٍ!

 رغم الجفوة الظاهرية بيننا التي فرضتها بيئة علاقات العمل معاً، الا اننا كنا نكن الود والاحترام لبعضنا ونعبر عن ذلك في خلوتنا...

ذات نهار مُثلجٍ عام سبعة وسبعين وتسعمئة والف تحدث (أنور) بحرارة وحماس واعتزاز عن ("العريف حسن سريع" ورفاقه وانتفاضته...أمام القادمين إلى موسكو والمجتمعين تحت سقف واحد من أكثر من مئة بلد لمناسبة يوم العمال العالمي) ...

يومها وضع لهم (انتفاضة "حسن سريع" في تيار "الثورات العفوية") التي يُفَجِّرُها الفقراء عبر التاريخ في معظم قارات العالم!

سرد لهم قصة ذلك الفلاح المُتَنَوِّر الثائر على سلطة عاتية تقف خلفها قوى الظلام والظلم في كل مكان من العالم... ذلك (البطل الشعبي) الذي استقر في ذاكرة الناس رمزاً لـ(البطل المجرد من السلطة غير سلطة إرادته ووعيه وسخطه على الظلم)!

اعتصر قلبي الحزن عندما تذكرت ذلك اليوم القارس البرودة في نهاية عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين عندما حضر (عضو المكتب السياسي... أبو حازم)، والتقى بعدد من الطلاب والمغتربين العراقيين اليساريين ومنهم (أنور) و(صالح) وانا في موسكو ...كانت دماء تسعة وثلاثين من العسكريين اليساريين الشباب مازلت مضطرمة على منصة الإعدام رمياً برصاص (حكومة البعث في بغداد) ...فيما تحدث (أبو حازم) بإسهاب وحماس للحاضرين المفجوعين بمقتل اصدقائهم... عن:

أهمية اتفاقية الصداقة بين الاتحاد السوفييتي و(حكومة بغداد)!

يومها كان (صالح) أكثر المتحمسين لحديث (أبي حازم) وأشدهم صرامة في الرد على المتسائلين والمنتقدين والمستائين!

خرجت و(أنور) من القاعة متذمرين ساخطين مكممي الافواه من ذلك اللقاء، فصرنا منبوذين من "رفاقنا!"...وكان (صالح) يواجهنا بملامح حادة قاطعة جارحة كلما التقانا!

لم تتغير ملامح وجه (صالح) الفولاذية تلك رغم مضي ما يقرب من عشرين عاماً على ذلك التاريخ، سوى غزو الشيب لشاربيه الكَثَّين واصفرار سحنته المتغضنة...

قبل أن يهم (صالح) بالخروج...تفحص وجهي المُتعب الشاحب... مخاطباً إياي بنبرة مُشفقة، وكأنه يُحَدِّثُ نفسه:

عرفت من صديقك (ياسين) إنك في ضائقة مالية منذ سنوات طويلة وعانيت الكثير في اختفائك من عيون السلطة، وليس لك مورد عيش لأولادك ولزوجتك، ففكرت أن أساعدك بمورد مضمون دون أن تخرج من البيت وتُعَرِّض نفسك وأسرتك للخطر!

لهذا جئت اليك بعرض:

(كتابة اخبار...اية اخبار عن جرائم السلطة في بغداد...لـ"إذاعة المعارضة" مقابل 100 دولار للخبر الواحد!) ...

وكرر اكثر من مرة وهو يبتلع ريقه بصعوبة:

(اية أخبار)!

احتضنته بحرارة وَوِدٍّ...وهمست في أذنه:

أنا أعرفك جيداً...وواثق أنك غير مقتنع بما تفعل يا(صالح)...لا شك أنك مدرك إن مِعول التلفيق لن يخدش النظام أو يهدد ملذات أزلامه...بل يهدم الوطن ويفتح الكهوف المظلمة ليستبيح منها الوحوش حياة شعبنا ووجود وطننا...فـ (دولارات الأخبار المزيفة...وأسعار الكذب المستتر...وخلط الحقائق بالأكاذيب) تخلق دخاناً تستخدمه السلطة لنفي أخبار الجرائم الحقيقية التي ترتكبها... فعندما تنفضح الأخبار المزيفة تلتبس أخبار الأفعال القمعية الملفقة المنسوبة للسلطة بأخبار جرائمها الحقيقية.... وسنخسر ثقة الناس بنا وبمصداقيتنا! 

خرج (صالح) خائباً يجر ساقيه كالكسيح...دون وداع...وتوقف فجأة عند الباب وعاد إليَّ محتضناً إياي بحرارة وصمت وقد اغرورقت عينانا بالدموع!

بعد أسبوع جاءني (غمبار) ووقف عند الباب معتذراً عن الدخول...وقال لي بصوت ناشج:

أُختُطِفَ (صالح) من قبل جهة مجهولة أثناء العودة إلى كوردستان!

****

لم تتوقف (حبيبة أنور) ...على امتداد اربعين سنة عن البحث عنه وانتظاره...لا تريد تصديق ما تسمعه عن موته...عسى أن يعود إليها!

اواسيها بترانيم نازفة من شغاف قلبي دون أن ابوح لها بها:

عسى أن تفشي الثواني المُعتَلَّةِ الآخر للدقائق الخرساء أسرار الناس الغائبين في الأمكنة المجهولة...

يتردد صوتها المثقوب في حنجرة الأرض...

يَخرجُ "أنور" من ثقب في رأسهْ...

دخلت منه رصاصة غَدرٍ قَبْلَهْ!

يتسلق كثبان الذاكرة الصخرية...

يتَشَبَثُ بالغيم العاهر!

يبحث عن نظرتها المحزونة...

بعد غياب العينين إلى مقبرة الوقت!

يُمسك أذيال الأصوات المفزوعة في سبع سماوات الله

تُطلقها أفواه الموتى!

من فرط الضجة يصنعها المحتفلون القَتَلَة بالنصر عليه!

يتعثر في درب الرحلة إلى مملكة الأروح!

(1) (أنور) الشهيد (كاظم طوفان)، الذي استشهد في جريمة الغدر على يد مسلحي الاتحاد الوطني الكردستاني في (بشت ئاشان) بالأول من آيار عام 1983.

 

في مثل هذا اليوم (الأول من آيار)

هَلْ نَشهدُ إطفاءَ الظُلْمَةِ...

وَشيوعَ رَغيدَ العَيشِ؟!

محمود حمد

كلما التقيه يمورُ في ذهني ذات التساؤل:

هل هو منتمي للماضي لأنه مُكَبَّلٌ به؟!

أم أن الماضي منتمي إليه لأنه شريك في صنعه؟!

كنت كل صباح اتأمل خطواته بمهابة، وهو يسير على الرصيف بثبات، منتزعاً أقدامه العارية من تشبث الأرض الترابية بسنوات عمره الثمانين...اتطلع إلى طوله الفارع كنخلة تأبى الانحناء للريح، وإلى وجهه المتجلد المُحْتَدِم الملامح بالعزيمة والصبر، وقبضتيه الفولاذيتين اللتين تحكيان أزمنة من الصراع مع الآلة، وأطواراً من الألم في غرف التعذيب...أُصغي بانتباه شديد إلى حديثه المفعم بالوِدِّ رغم اقتضابه...وهو لم يكف عن سرد تاريخ رفاقه لي دون ذكر دوره في مقارعة عناد الأيام لهم، وبطش السلطات بهم!

إعتاد كل صباح باكرٍ شرب الشاي معي في باحة الدار الترابية الخارجية، قبل ذهابه إلى دكانه الصغير المجاور لبيتي، ليعزف على الحديد بمطرقته الثقيلة، ويُذيب الفولاذ بشواظ لهيب "الكير" الذي يوقده عند الشروق ولا يخمده إلاّ بعد الغروب.

لطالما ردد في أحاديثه:

"إن تفكك التنظيمات العمالية لا يعني انقراض الحركة العمالية!"

في مثل هذا اليوم (الأول من آيار) يستعرض باعتزاز تاريخ الحركة العمالية الملازم لتاريخ حياته...عندما تحرك العمال في شركة (بيت لنج) الانجليزية في البصرة مطالبين بإنصاف حقوقهم عام ستة عشر وتسعمئة وألف، وإضرابهم العفوي الذي قمعته سلطة الاحتلال الانجليزي بقوة السلاح!

مُنَوِّهاً إلى مشاركته في الإضرابات العفوية في العقد الثالث من القرن الماضي، التي تكللت بتأسيس أول جمعية "مُرَخَّصَة" للعمال في تموز عام تسع وعشرين وتسعمئة وألف، باسم (جمعية أصحاب الصنائع) ...التي أصبحت بفعل اتساع وقوة الحركة العمالية (اتحاد عمال العراق) في فبراير عام ثلاثة وثلاثين وتسعمئة وألف!

وبحديث عابرٍ أشارَ إلى مشاركته بعد ثورة تموز بالمؤتمر التأسيسي لـ(الاتحاد العام لنقابات العمال) الذي عُقِدَ في الحادي عشر من تموز سنة تسع وخمسين وتسعمئة وألف، وإلى (المؤتمر الأول للاتحاد العام لنقابات العمال) الذي عُقِدَ في التاسع من فبراير عام ستين وتسعمئة وألف!

دون ان ينسى حكاية (معطف "ما وتسي تونك" الذي اهداه له الزعيم الصيني خلال مشاركته بوفد عمالي زار الصين بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1959) ويحرص عليه كـ (إرث ثوري اممي وشخصي)!

لم يخف إحباطه مما آلت إليه (الحركة العمالية) بعد النكسات التي تعرضت لها بفعل القمع الدموي لقادتها وكوادرها، ونتيجة تجويف (اتحاد العمال) الحكومي من أهدافه النقابية ومضمونه الطبقي، وتحويله إلى جهاز بوليسي لقمع العمال وتكميم أفواههم!

لكنه رغم جفاف الريق، وانفراط عقد رفاق الأمس، وتصحر الوعي الجَمْعي بفعل الخوف، ألاّ أنه لم يكف عن الحلم... والتساؤل:

هَلْ نَشهدُ إطفاءَ الظُلْمَةِ...

وَشيوعَ رَغيدَ العَيشِ؟! 

 

فكتبت:

كُنّا مُنذُ لقائي الأولِ مَعَهُ قَبلَ سنينٍ...

نَتَحاورُ خَلفَ جدارٍ من أحداقٍ قاتلةٍ ومسامعَ سوءٍ...

نَتَفَكَرُ...

نُقَلِّبُ من وَجَعٍ صَفحاتَ عُقودٍ مأسورة...

نَتَذَكَرُ أياماً ما وِلِدَت بَعدُ...

ورفاقاً خَرَجوا عِندَ شروقِ الشمسِ...

وما عادوا...

نَتَساءلُ عن ضيمٍ حازمٍ يَنضحُ مِن بينَ أخاديدِ الوَجهِ المُتَغَضِنِ...

سبعونَ شتاءً مَرَّتْ يَعقِبُها صيفٌ وسنينَ عجافٍ...

وسجونٌ تَعرفُهُ مثلَ أنينِ المُعتقلينَ النازفِ في أقبيةِ التعذيبِ...

يَتساءَلُ دوماً...كُلَّ لقاءٍ:

"هَلْ نَشهدُ إطفاءَ الظُلمةِ...وشيوعَ رغيدِ العَيشِ؟!"

****   

الليلُ ثقيلٌ وطويلٌ...

والشُرطَةُ غائرةٌ خَلْفَ فتاةٍ دونَ العشرين بِـ... حاراتِ الكَرْخِ (1)..

عُمالُ المَخْبزِ في أقصى الشارعِ...يَرتَصفونَ لدفء التنورِ!

أكياسُ طحينٍ مصفوفةٍ كجدارِ الثَلجِ الراسخ وسطِ المَخبزِ...

وفتىً في مُقتَبَلِ العُمرِ يُسابِقُ فِكرَتَهُ...

"إيقادُ الجَذْوةِ في حاجاتِ المِعوَّزينَ"!

****

فتاة...تَمْرِقُ خاطفةً وسطَ الظُلمَةِ بجوارِ الحائطِ...

يَلْمَحُها...

يُدرِكُ إن طَريدَ الشُرطَةِ في هذا الليلِ القارِصِ...لابُدَّ نَبيلٌ!

يَتبَعُها...

يومئُ للمخبزِ...سِتْراً ومَلاذاً من قطعانِ الشُرطةِ!

يَفتحُ عُمالُ المَخبزِ نَخوَتَهُم...

تأتي الشُرطةُ تَسألُ عن امرأةٍ...

من تَحتِ عباءَتِها تَعصِفُ بعروشِ السُلطةِ...

يَكتِمُ عُمالُ المَخبزِ سِرَّ فتاةٍ دونَ العشرين...

تُهَدِدُ أركانَ القَمْعِ الأزليِّ...

تَمضي الشُرطَةُ غاضبةً...

يَخرِجُ صاحبُنا وفتاةٌ لا يعرفُها من خلفِ جدارِ الثَلجِ...

يوصِلُها لطريقٍ آمنٍ...

ويَعودُ!

****

تأتيهُ الشُرطَةُ في غَبَشِ الصُبْحِ...

تَتُّلُّ أباهُ الطاعنُ من شَيْبَتِهِ...

تُلْقِيهِ وأبيهِ وراءَ القُضْبانِ!

يَعرفُ أخبارَ فتاةٍ لا يَعرفُها من نزلاءِ السجنِ...

يَشعِرُ بالزَهو...

يَكْبَرُ في عينِ أبيهِ!

****   

مُذْ وَدَّعَني آخرَ ليلةٍ...

قَبلَ رحيلِ الغُربَةِ قَسْراً...

لَمْ نَتَواصَل..

أوصاني...حَذَراً:

" شَبكاتُ الهاتفِ أعشاشُ تَجَسَسٍ...وفِخاخٌ لا تَقْرَبْ مِنها!"

****

حالَ سُقوطِ السُلطةِ في شاشاتِ التِلفازِ...

طَرَقْتُ البابَ على بغداد...

قالَتْ جارته تَخنِقُها العَبَراتُ:

باتَ "أبو شلالٌ"(2) تُرابٌ تَسْفيهِ الريحُ...

وتَذَكَرنا قَولَتَهُ...

"هَلْ نَشهدُ إطفاءَ الظُلمةِ...وشيوعَ رغيدِ العَيشِ؟!"...

وبَكَيْنا!

السيدة ثمينة عادل زوجة (سلام عادل)!

(أبو شلال) القائد النقابي عبد الأمير عباس:

قبل فراقي لأبي شلال كنا نلتقي وندون (على حافة دفتر مدرسي لطلاب الصف الخامس الابتدائي كان يخفيه تحت طي قميصه!) جوانب من تاريخه الوطني والطبقي الغني، وبينها "حكاية حمايته لفتاة لا يعرفها وتطاردها الشرطة في الثامن من آذار!" التي وقعت في خمسينات القرن الماضي...!

 

 

 

 

حكاية ونَص:

أوراق "مؤيد نعمة".

..أقوى من بشاعة الحكام!

محمود حمد

الحكاية:

في مطلع سبعينيات القرن الماضي، عندما حضرت للعمل في جريدة (طريق الشعب) قبل صدور العدد (صفر)، أبلغني الأصدقاء أن هناك رفيق لي يشاركني طاولة العمل، ويختلف معي في أوقات الحضور... يأتي ويخرج قَبْلي عادة...ولا يترك أثراً منه سوى أحاديث رفاقه عن حدة ذكائه وسرعة بديهته وهدوئه!

ذات مساء اقتضت حاجة العمل أن احضر مبكراً، فالتقيت (مؤيد نعمة) ...شريكي بالطاولة!

كنت اتأمل بإعجاب ما يرسمه (مؤيد) للجريدة كل يوم قبل أن تُرسل تلك الأبجدية النقدية التشكيلية المتحركة بقوة من سطح الورق إلى مِرجَل التَفَكِّر عند من يُصغي إليها ببصيرته، لأن المرء يجد في تلك الرؤى والمواقف الكامنة في الرسوم تعبيراً عن دواخله واحتياجاته ومواقفه، التي يعجز عن صنعها بنفسه، او حتى التفكير بها بهذه الجرأة، أو بهذه اللغة التشكيلية الفائقة الرقة، الشديدة العصف!

عندما عرفت أن (مؤيد) خَزّافاً، رحت استحضر من مخزون معرفتي مديات إبداع كُلٌ من الخَزّافين الكلاسيكيين والمُحَدِثين، بمن فيهم...أكثرهم جرأة على تفكيك المفاهيم والذائقة الشكلية للمنتج الخَزفي، فكانوا يصطفون في مخيلتي على هيئة مجموعتين:

الأولى: أولئك الذين أبدعوا في صنع ما ينفع للاستهلاك بصبغة جمالية فائقة الإتقان...

والثانية: الذين أبدعوا في تقديم لوحات فنية تشكيلية تُعَبِّرُ عن مفاهيم وأشكال جمالية تثير الدهشة، لكنها تبقى مُحَتَجزة في قاعات العرض الفارهة دون أن تنفع المستهلك الثري أو الإنسان البسيط!

لكني وجدت في (خزف مؤيد) مالم اجده عند غيره...

هو ذلك (الفن التحريضي الساخر) المفعم بخصب الجمال وقوة التأثير على بصيرة المتلقي، (خزفٌ) ذو طاقة إبداعية تفرض رؤيتها على فضاء المكان، وتستقيم ثراءً في حركة الزمان، وترسخ في الذاكرة!

****

عندما زلزل الاستبداد حياة العراقيين وأطلقت السلطة (غزوتها!) على المختلفين معها، ووضعتهم في مفترق الاختيار بين جحيمين:

إما الإذعان لاحتلال عقولهم وتجريدهم من مقومات حريتهم، أو قطع رقابهم!

تشتت الجَمْعُ، وتَقَطَّعَت سبل التواصل بين الأصدقاء، وصاروا مُبَعثَرين بين ذَبيحٍ على الرصيف، أو مُختطفٍ من الطرقاتِ، أو مَفقودٍ في مَجاهل أقبية تعذيب السلطة، أو مُشَرَّدٍ في المدن التي يستوطنها العسسُ، أو مُختبئٍ تحت الأرضِ، أو مهاجرٍ يُقتَلُ عند الحدودِ!

في خضم هذا الرعب والشك وانعدام الثقة المتفشي بين الناس وفي النفوس، التقيت بـ(مؤيد) بالصدفة في الطريق، كـ (طريدين تلاحقهما ذئاب السلطة!)، وجلسنا تحت فيء نخلة بعيداً عن عيون الرقباء نستعرض أسماء من فُقِدوا من الأصدقاء ومصائرهم، نتفكر بالبحث عن منافذ للإفلات من (طوق إرهاب السلطة!) التي تَكْمُنُ لنا في كل مكان، أملاً منا في الخلاص وعوائلنا من كُرَةِ نار الاستبداد المتدحرجة!

رغم غبار الإحباط الذي تلبد على ذلك اللقاء، ألاّ أن (مؤيد) لم يفقد روحه المرحة وهدوءه الصوفي المَهيب ومفردات نقده اللاذعة!

****

بعد انقطاع ما يزيد عن عشر سنوات عن ذلك اللقاء...عرفت أن (مؤيد) مازال في بغداد يجترع وأسرته مرارة الحصار ويواجه بروحه الرقيقة توحش السلطة!

فقررت زيارته...

استقبلني (مؤيد) بحفاوة واندهاش، لأنه كان يحسب أني في عداد الموتى!

رغم التحفظ والتردد الذي عادة ما يشوب لقاء صديقين (مطلوبين للسلطة!) بعد انقطاع طويل في مثل تلك الظروف الملوثة بالتسقيط والتخويف والتجويع والوعيد، التي أشاعتها السلطة بين الناس وحتى بين الأسر:

سلوكيات الشك بالآخر، والتواطؤ مع السلطة للغدر بأقرب الناس للمرء، وخيانة العقل لذاته، والإذعان لعبادة (الصنم القائد!)، والضعف أمام وعود الجلادين ووعيدهم!

كان اللقاء حميمياً...تاركين خلفنا أوجاع السنوات المنصرمة وعيون الرقباء خارج جدران المنزل... يحكي لي (مؤيد) بمرارة بعض ما وجده من عسف بحقوقه، وابتزاز لجهوده، وامتهان لكفاءته خلال رحلته اليائسة البائسة إلى الأردن، مما اضطره للانكفاء والعودة إلى رمضاء بغداد، بعد أن أكتشف أنه استجار بالنار!

****

منذ ذلك اللقاء...لم تمضِ أوقات عليَّ لم يكن (مؤيد) حاضراً معي فيها في غربتي، يطرق علي النافذة في ليالي القحط المظلمة، ليضيء لي عتمة النفس برسومه الناقدة النافذة كالسهام مخترقة جدار الزيف الحالك إلى فضاء الحقيقة!

كنت امني النفس أن التقيه مرة أُخرى بعد زوال (الغُمَّةِ)...كما كان (مؤيد) يُكَنّي (السلطة)!

لكن (مؤيد) باغت الجميع ورحل!

وبقيت(أوراقه) تحكي لي فكتبت:

أوراق "مؤيد نعمة"...أقوى من بشاعة الحكام!

العالم يسخرُ مِنّا ...

و(مؤيد) فينا يسخرُ من هذا العالم ...

كنا نتحاور حول صحائف بردي ...

قبل قدوم العصر الدموي!

ننقب عن درب في جوف الليل الغامض ...

يقطعه حقلُ الألغام ...فحيحُ العسس الكامن بين الجدران!

نقطن في عش "العقرب" ... (1)

تحرسنا الأوهام ...

وأحداقُ "أبو شمخي"! (2)

يسأل "سعدون" (3) أنى نعطي وجهتنا ساعة يسري الدفء بأوصال الأفعى؟!

لحظة تلدغنا "العقرب"؟!

****

ويجيب (مؤيد):

نصنع من صوت الريح سفينا تنجينا من هذا الطوفان الدموي الزاحف ...

أو نكتب شعراً في تأبين الأحياء!

****

امرأةٌ من بابل هجرت جدران الألواح الطينية ...

تغوي جلجامش ...

تطلب ثوراً مجنونا من "آنو" ...

ليعيث فساداً في أرض النهرين!

يغمرها الغيم البارد ...

وَخْزاتُ (مؤيد) ...

تنهض خالية من آثام الرحلة ...

تُنشئُ عشقا ...خصبا ...

في (أوراق مؤيد)!

*****

طفلٌ عريانٌ من حارات "الكوفة" ...

يفلت من أكداس الموتى عقب سقوط الحلم الجارف ...

يسأل أرتال الحُفَرِ الصارت وطنا للأهل ...

يتيبس برداً ...

يبحث عن حضن في هذا الكون القارص ...

يلقاه حميماً ...

شمساً ...

في (أوراق مؤيد)!

****

سلطانٌ من قيح... جائر ...

يُفقئُ أحداق التاريخ بنصل الزيف ...

يبقر أحشاء الوطن المقبور بعرشه ...

يكتم أنفاس الأحزاب السرية ...

والقطعان العلنية ...

يسقط مفضوحا ...

في (أوراق مؤيد)!

****

عاشقةٌ من جلمود "كلالة" ...

خُطِفَت من عَبِق الحِنّاء إلى عرض الصحراء ...

تولول ...

تسأل عن جرح يؤويها ...

ترقد آمنة ...

في (أوراق مؤيد)!

****

جريدٌ من نخل البصرة مفجوع ...

يحمله "الزنج" ضلوعا للثورة ...

مهدا للحلم المائر في أكواخ الفقراء ...

يصير رفيفاً ...

نسغاً ...

في (أوراق مؤيد)!

****

شمسٌ يافعةٌ تبزغ ...

في أحداق الصبية ...

شفقاً لزمان ممطر ...

يحجبها ليل المحتلين النازف ...

يُطفئُها غيم البترول الحمضي الحالك ...

تتلألأ ...

تسطع في (أوراق مؤيد)!

****   

دروبٌ للفجر الباسم بين شفاه الأطفال الرضع ...

تسري في أرواح الفقراء ...

يقمعها البارود اللابس لحية ...

وفتاوى الدجالين المكفوفين ...

تمسي سالكة في (أوراق مؤيد)!

****

حقلُ زهورٍ يتضوع من أنفاس صبايا "عنه" ...

يرشف خيراً من ناعور “حديثة" ...

يرسل وِداً للمدن المعلولة جنب النهرين ...

يصبح شعراً فوق حفيف الماء بـ “خور البصرة" ...

يتكاثرُ نخلاً في (أوراق مؤيد)!

****

فلاّحٌ تائه من أبناء الغراف ...

بخوف يسأل عن أحوال العنبر في ذاكرة الجوعانين ...

رغم حفيف الألغام المكفوفة بدبيب خطاه ...

يتعبُ ...

يغفو بعد هجير الرحلة ...

في (أوراق مؤيد)!

****

أقوامٌ تخرجُ في الصبح جهاراً ...

تهتكُ أستار السلطة ...

تفضحُ عورتها ...

توقدُ غيظاً في صدر المدن المفجوعة ...

لتعود إلى (أوراق مؤيد)!

(1) كان مبنى "دار الرواد" حيث تطبع (جريدة طريق الشعب) في سبعينات القرن الماضي ايام كنا نعمل سوية، ملاصقا للغرف السرية في مباني مديرية الأمن العامة، حيث يغيب أصدقاؤنا كل ساعة خلال تلك الأشهر التي امتدت عقودا!

(2) أبو شمخي: الفلاح "المجهول" الأمين والشجاع...الذي تمسك بحراسة "دار الرواد" حتى لحظة غزو الوحوش واستباحة المطبعة. فيما هجرها غيره من اللامعين والمشهورين!

(3) سعدون: ذلك الشاب الموهوب المتقد صمتا، ومهارة، وصراحة، وحزما. الذي كان ملجأنا ومنقذنا حين تخوننا المكائن في المطبعة أثناء الشروع بطبع الجريدة. والذي اختطفه وغيبه عنا وحوش سلطة (الموت المتناسل) و(الشعارات المجوفة)

 

 

في مثل هذا اليوم

نَص وحكاية:

"أميرةُ الحَضَرِ"

تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!

محمود حمد

انقطع الاتصال (وانا في الغربة) مع صديقي المؤرخ واللغوي (أبو بطرس الآشوري) فجأة، منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، وأخفقت في الحصول على معلومات عن مصيره ومصير أسرته رغم محاولاتي الاتصال بمن يعرفونه في الوطن!

بعد تزايد الأخبار عن جرائم حرق الكنائس، وعمليات التصفية الجسدية الوحشية والاختطاف والاغتصاب الواسعة التي يتعرض لها المسيحيون...ازداد قلقي عليهم، خاصة بعد انقطاع وسائل الاتصال بجميع من اعرفهم، ومنهم جيراني وأصدقائي في منطقة (الدورة) جنوب بغداد!

الذين كانوا يشكلون بتنوعهم الثقافي في (مجلسهم) المعرفي المسائي بالباحة الأمامية لمنزلي، ثراءً عقلياً، ومتنفساً روحياً لهم ولي، في أحلك ظروف الحصار الاقتصادي والقمع الفكري والعزلة الاجتماعية التي فُرِضَّتْ علينا خلال السنوات التي أعقبت غزو الكويت!

على امتداد غربتي في داخل الوطن وخارجه كنت احرص على حمل كتاب الأب (انستاس مار الكرملي) الذي أهداه له صديقي الآشوري (أبو شبعاد) بعنوان (نشوء اللغة ونموها واكتهالها) كذكرى له، حيثما ارتحل مغصوبا...

لم تفارق ذاكرتي أحاديث (أبو شبعاد) الثرية والممتعة عن تاريخ العراق في مختلف مراحل نشوئه وارتقائه المدني، وعن التحديات التي هددت هويته الثقافية والحضارية، ومدى شغفه باللغة العربية وفنونها وأصولها وقواعدها...وميله الشديد نحو التثبت مما يقول قبل أن يقول!

اتذكر حديث صديقي (ابو شبعاد) غداة احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو ذات الموقع الاستراتيجي في العشرين من مارس سنة ست وثمانين وتسعمئة وألف...قائلاً لنا بنبرة مفعمة باليقين:

لن يستطيعوا محو العراق وطناً أو حضارة...

عودوا إلى التاريخ...

فمنذ سقوط بابل في أوائل القرن السادس قبل الميلاد كآخر عاصمة لدولة عراقية مستقلة... سيطر الفُرس على بلاد ما بين النهرين، فوجدوا فيه حضارة لا تُمحى وإرث إنساني لا يندثر بسهولة، بل على العكس من ذلك راحوا يتبنون بالتدريج الميراث الحضاري العراقي، ومنه:

تبنيهم لـ(يوم نيروز) الذي كان يومًا مقدسًا عراقيًّا باسم (حاجتو)...أي (يوم الحج) ...، وهو اليوم الأول من السنة العراقية الجديدة التي تبدأ في أول أيام المنقلب الربيعي، وفيه يعود تموز إله الخصب الذكوري إلى الحياة ليخصب عشتار آلهة الخصب الأنثوي وتعود الخضرة والحياة إلى ربوع النهرين!

وهم اليوم...

تطأ أقدامهم أرض (سومر) ذاتها كغزاة...

لكنهم لن يصمدوا على البقاء فوقها لأنها ساخنة ومتحركة!

عندما "غادرت الوطن كانت بنات صديقي الآشوري الثلاث صبايا كبراهن "شبعاد" (1) وصغراهن "شميرام" (2) والوسطى "دوشفري" (3)!

****

قبل يومين... خلال توديعي لأحد أصدقائي في المطار صادفت جارهم القديم الممثل المسرحي الكوميدي العجوز (سرجون) حاملاً حقائب الهجرة وحيداً إلى السويد، فتعانقا وانزوينا في صالة الانتظار...

كنت متعطشاً لسماع أخبار من أحبهم من الأصدقاء الذي اختفت أخبارهم خلف إعصار الخراب و(الفوضى الهدامة!) التي أوقدها المحتلون عام 3003، وأججتها الكراهية الطائفية والدينية والعرقية، فتفشت وباءً دموياً متوحشاً في بيئة التخلف الموروث والمتناسل في المجتمع!

أمسى (سرجون) مختلفاً عما كنت اعرفه، فقد تبددت الكوميديا من روحه واكتست ملامحه بالعبوس المتأبد... كان كلامه عشوائياً وملتبساً، ينتقل من خبر إلى آخر دون اتمامه، يذكر أشخاصاً في لُجَّة المحنة دون الإشارة إلى مصائرهم، مما زاد من ظمأي وقلقي لمعرفة أخبار الأصدقاء ومصائرهم...

صار (سرجون) يتمتم مع نفسه عندما سألته عن عائلته:

لا أدري ...لا أدري...

هربنا في ظلمة الليل مفزوعين عندما استباح الذبّاحون المنطقة، كُلٌ فَرَّ في اتجاه، ولم أعرف مصيرهم منذ ذلك اليوم قبل أكثر من عام!

عندما كنت أحاول الهرب بعكازتي، صادفتني عائلة لا أعرفها وأنقذتني ووضعتني معهم في حوض سيارة (البيك آب) ...

بعد رحلة مضنية، وجدت نفسي في مخيم للهجرة واللجوء في كوردستان...

طوال تلك المدة لم أترك باباً إلا طرقتها ولا نافذه إلاّ فتحتها عسى أن أتعرف على مصيرهم... رغم وعود الصليب الأحمر المتكررة لي بالبحث عنهم في مخيمات اللجوء أو في قوائم ضحايا الإرهاب...

ولأني رجل كبير ومريض ولا أحد لي... منحوني حق الهجرة إلى السويد!

أطرق (سرجون) إلى الأرض ومسح دمعة ترقرقت بعينيه المحتقنتين، وقال كأنما معاتباً نفسه:

لم نكن نتخيل إن (مذبحة سمّيل) سنة ثلاث وثلاثين وتسعمئة وألف، ستتكرر علينا!

ثم صمت وهو يتطلع إلى الأضواء الساطعة التي منحت صالة المطار بهاءً، وأطلق حسرة عميقة من صدره، وهو يتذكر صديقنا (أبو شبعاد) وأسرته...متمتماً:

في أول ليلة للمذبحة التي نفذها الارهابيون بمسيحيي منطقتنا...فَرَّ (أبو شبعاد) بأسرته من بغداد متوجهاً إلى بيت أخيه في سهل نينوى، وعند وصولهم إلى أطراف بغداد أوقفتهم مجموعة مسلحة واختطفت منهم بقوة السلاح أبنته الصغرى (شميرام) "سَبِيَّةً"، وعندما حاول أبوها التشبث بها أطلقوا النار عليه وأردوه قتيلاً، وأعادوا جثته إليهم، ووضعوها في حوض سيارة الركاب التي يستقلونها، وطلبوا منهم المغادرة فوراً أو إطلاق الرصاص عليهم!

في الطريق فارقت أمهم العليلة الحياة بنوبة قلبية من شدة الخوف، وعند وصولهم في منتصف الليل إلى مدخل الموصل ساقتهم مفرزة من الارهابيين لاستجوابهم عن الجثث في السيارة...فاقتيد السائق للاستجواب و(شبعاد) انتزعت من بينهم كـ "سَبِيَّة"!

عندما سمعت(دوشفري) صراخ واستغاثة أختها (شبعاد) التي افترسها المُغْتَصِبون، وهي تطالبها بـ “اللغة السريانية" بالهروب، لبست (دوشفري) ستار الليل، وتعاظمت قوتها بفعل الخوف، وسارت حافية في الدروب الوعرة إلى جهة مجهولة...تبحث عن (ملاذ آمن) ...ربما في بطن الحوت!

غادر (سرجون) باتجاه مدرج المطار للموت في الغربة...

وبَقيتُ مُتسَمِّراً في مكاني لأكتب:

"أميرةُ الحَضَرِ" تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!

نَهضت (دوشفري)..."أترعتا"(4) من أطلالِ “الحَضَر"(5) المُحتلةِ...

تَنفُضُ أكفانَ مدينتِها من أدرانِ السلفِ الطالحِ...

تسألُ عبثاً عن إخوتِها...

أسرى بسجونِ المُحتلينَ...

دَخلت بعد قرونٍ بابَ "الزوراءِ"(6) المُشْرَعِ للشامِ...

قُبَيْلَ مرورِ الدباباتِ بفجرِ الجمعةِ...

سألَتْ ثُلَّةَ "ولدانٍ" سُمرٍ _ دونَ خُلودٍ _ في بَوابةِ قَصرِ "المنصورِ":

مَنْ مِنكُمْ يُرشِدُني لحبيسٍ في "دارِ الحكمةِ"؟ (7)

هَبَّ صَبيٌّ فيهم يَلبسُ قفطاناً أحمر...

أمْسَكَ يَدَها..

وتَقَدَمَ دونَ كلامٍ لـشريعةِ "بيت النواب"(8)!

****   

صَعَدا الزَورَقَ...

جاءَتْ حُوتٌ يَصحبُها شَبَحٌ من لونِ بَريقِ الشَمسِ...

يَحمِلُ في يُمناهُ خطابٌ أخضرَ...

هَمسَ الحوتُ بأذنِ الولدِ الأسمرِ...

جَحَظَتْ عيناهُ...

وتَمْتَمَ في وجلٍ قاطع:

إنّا لا نَعْرِفُهُ...

صَفَقَ المِجذافَ بوجهِ المَوجِ...وأسرى...

أومأ لفتاةِ “الحَضَرِ" المحزونةِ...

أن تَخفي وَجْهاً كطلوعِ البَدرِ!

****   

حَدَّقَ للحوتِ المُتَواري في أعماقِ الموجِ...

وأفصَحَ:

يسألُ عن "يونس" ليعيدوهُ إلى بطنِ الحوتِ...

خِشْيَةَ أن تَقتِلُهُ السياراتُ الملغومةِ...

أو يخطِفُهُ "وكلاءُ الله" المنتشرينَ بأسواقِ الفقراءِ...

دَخلتْ قصرِ "المنصورِ" الباذِخِ وقتَ صلاةِ الظُهرِ...

تشكو أفعالَ المُحتلينَ الـ حرقوا "عَرَبايا". (9)

لَمَحتْ كومَ رؤوسٍ مقطوعة في أرجاءِ المجلسِ!

****   

سَقطَ الولدُ الأسمرُ مفزوعاً بجوارِ الرأسِ الأشْيَبِ...

يَنشجُ:

يـ......ـا أبتي..

فاضَت طوفانُ أمومة...

حَمَلَتْ أحزانَ الولدِ المَهزولِ وآهاتَ الرأسِ المقطوعِ...

وأمْضَت بِضعَ عقودٍ تبحثُ عن قبرٍ تُؤْويهِم...

مَسَّتْ قَدَميها أكوامُ الكُتُبِ المحروقةِ في طُرُقاتِ المُدنِ المنهوبةِ...

وضَعَتْ حِملاً كان ثقيلاً...

رَصَفتْ جَسدَ الولدِ المهزولِ وأكوامَ الكُتبِ المحروقةِ والرأسِ المقطوعِ جوارَ النخلةِ...

حَفَّتْ قِذلَتَها قَدَمٌ تتدلى من تاجِ النَخلةِ!

****

أوصَتْ صاحبَها المُتَدَلي دونَ كفوفٍ من جذعِ النَخلةِ:

إنَّ الكتبَ المحروقةَ والرأسَ المقطوعِ ورفيقَ الدربِ..."وديعة"(10) ...

حتى يأذنَ رَبُّ الموتِ بميعادِ الدَفنِ!

قَطَعَتْ كُلَّ دروبِ الظُلمَةِ تَسالُ عن "بيتِ الحكمةِ"...

أوقَفَها قُطّاعُ الطرقِ المحترفينَ بعُنفٍ في نفقِ (البابِ الشَرقيِّ) ...

خَلَعَتْ نَعْلَيها للتفتيشِ الفائقِ!

****   

قالَتْ لكبيرِ القَتَلةِ:

إنّي من قومٍ نَقطِنُ فوقَ أديمِ الغَيمِ...

لا نَهبِطُ إلاّ ومواسمَ خيرٍ تَغمرُ كُلَّ الآفاقِ!

رُكِلَتْ...

زُجَّتْ في قفصٍ وذئابٍ جَوْعا...

ألقَتْ جَسداً كالشفقِ البازغِ في ليلةِ بَرْدٍ لمخالب مجهولةٍ!

لكِنَّ غنائمَ صيدِ المُحترفينَ تَجاوَزَ أنيابَ المُفتَرسين...

انْسَلَّتْ من بينَ صراخ المُفتَرَسينَ وأنيابِ المُفتَرِسينَ...

وطافَتْ كالريحِ بأحياءِ الفُقَراءِ...

بصمتٍ صوبَ أنينِ النَخلةِ!

طَوَّتْ جَسدَ الولدِ الأسمرِ بين الأضلاعِ...

وعادَتْ لشريعةِ "بيتِ النوّابِ"...

تسألُ عن دربٍ لـ(الحيرةِ) (11) ...عن (هند الصغرى) (12) وأخيها(النعمان)!

تُنَقِبُ عن مأوى "يونس" (13) كَيْ تُقْبَرَ و"وديعتِها" فيهِ!

 

 شبعاد: ملكة أور... زوجة الملك "آبار كي أحد" من سلالة أور الأولى في فترة 2500 ق.م.

شميرام: هي الملكة (سمير اميس) ... ملكة آشورية تاريخية ومعناها (محبوبة العالم) (822-811 ق.م).

دوشفري: ملكة الحضر بنت الملك (سنطروق الثاني) (158-241 م)

أترعتا: آلهة الأنوثة عند سكان مملكة الحضر جنوب الموصل.

مملكة الحضر أو مملكة عربايا: هي من أقدم الممالك العربية في العراق في الجزيرة الفراتية وتحديداً في السهل الشمال الغربي من وادي الرافدين، غرب العراق وشرق سوريا حاليا.

عرفت مملكة الحضر (مملكة عربايا) بهندستها المعمارية وفنونها وأسلحتها وصناعاتها، كانت هذه المدينة تجاري روما من حيث التقدم حيث وجد فيها حمامات ذات نظام تسخين متطور وأبراج مراقبة ومحكمة ونقوش منحوتة وفسيفساء وعملات معدنية وتماثيل كما ضربوا النقود على الطريقة اليونانية والرومانية وجمعوا ثروات عظيمة نتيجة لازدهارهم الاقتصادي.

حاول الفرس والرومان غزوها مرارا حيث فشل الإمبراطور الروماني تراجان وكذلك الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس سنة 199م. وهزمت جيش الإمبراطور الفارسي أردشير الأول الذي سيطر على منطقة الجزيرة كلها حتى سقطت بيد الفرس سنة 241م ودمرت تدميراً شديداً ومنع أهلها من حمل السلاح. وكانت تلك نهاية مملكة عربايا. (ويكيبيديا)!

...واليوم يستبيحها المحتلون الامريكان والوحوش المتأسلمون.

الزوراء: بغداد...في زمن المنصور.

دار الحكمة: ملتقى الفكر الإسلامي والعربي والأجنبي التي ازدهرت في زمن المأمون.

شريعة النواب: مرفأ للزوارق على دجلة سمي باسم أسرة النواب التي ينتمي إليها شاعرنا العزيز مظفر النواب.

عربايا: مملكة الحضر في لغة الحضريين.

الوديعة: هي القبر المؤقت للميت في اي مكان في الظروف الطارئة، قبل توفر الظروف الطبيعية لنقله الى المقبرة الدائمة.

الحيرة: تقع مملكة (الحيرة) العربية وسط العراق بالقرب من النجف (512-554) م

هند الصغرى: أخت الملك النعمان بن المنذر بن ماء السماء!

يونس: النبي يونس الذي ابتلعته الحوت في النص الديني!

 

 

 

حكاية ونَص:

(بغداد) لاجئةٌ تبحث عن وطن يأويها!

محمود حمد

حينما عرفت أن مقامي في المستشفى سيطول، صرت اميل إلى قراءة روايات الأزمنة التي تدون إضاءات الفكر واصطخابه بين المتفكرين والمتحجرين، تلك الأعاصير التي عصفت بذاكرة التاريخ تارة وأخمدت مواقد التَفَكِّرْ الطليق تارة أخرى...

جاءني صديقي (أبو عمار) بالمجلد الثالث من مجلدات كتاب (تاريخ بغداد) الواحد والعشرين، الذي جعل فيه (أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن احمد بن مهدي الخطيب البغدادي) الإطار المكاني رابطاً  لترجمة العلماء الذين عرفتهم بغداد حتى أواسط القرن الخامس الهجري، دون أن يُغرق المكان بتاريخ وسير الخلفاء والسلاطين والوزراء ومكرهم السياسي ، حتى تراءى لي تزاحم قوافل الجِمال تسبقها وتعقبها خيول الفرسان وهي تنقل بيت المال والدواوين من الكوفة إلى المدينة المدورة التي أنشأها بُناتُها الفقراء الحُفاة في (خلافة المنصور)، منتصف القرن الثاني الهجري (762 م) لتكون عاصمة للخلافة العباسية!

وانا استمع إلى صوت فيروز يطرق عليَّ زجاج النافذة في آخر الليل (بغداد والشعراء والصور...) تذكرت ما كتبه ياقوت الحموي:

(ما دخلت بلداً قط إلا عددته سفراً إلاّ بغداد فأني حين دخلتها عددتها وطناً)!

فـ (بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد) كما يقول ابن زريق الكوفي!

حينها دخلتْ عليَّ الممرضة حاملة عُدَّتَها قاطعة علي قراءة ما كتبه الخطيب البغدادي:

(سافرت إلى الآفاق ودخلت البلدان من حد سمرقند إلى القيروان ومن سرنديب إلى بلاد الروم فما وجدت بلداً أفضل ولا أطيب من بغداد.........)!

بعد تلقي جرعة المُسَكِّن من الألم أحسست بخدر لذيذ، وغرقت في نوم عميق، حتى ظهر اليوم التالي...

عندما أيقظتني الممرضة على مشاهد يعرضها التلفاز لسيارات " الهامفي " وهي تقف على بركة من الدم الساخن وإلى جوارها جثث مقطعة في ساحة التحرير وسط بغداد...تراءى لي (نصب الحرية) ينزف دماً والأرصفة تنتحب، والنخيل المُنتَهَك بالشظايا يرفع سعفه للسماء مستغيثاً...

ألقيت وجهي وروحي على صفحات دفتري مناجياً من يعشق (بغداد) ويَخُرُ ساجداً لها:

 

 

 

(بغداد) لاجئةٌ تبحث عن وطن يأويها!

الموتُ يطاردها...

والتصحرُ...

وسفلسُ الغزاة...

والمحاصصةُ...

والملثمونَ...

والازبالُ...

ومغتصبو المقابرَ...

والحواجزُ الأسمنتية...

وأفواجُ الموت...

و"الخطة الأمنيةُ “المضرجة بالدماء...

والوعيدُ...

وأبو سفيانُ بن مَقْتٍ...

والبطاقةُ "التمويهية"...

والعمائمُ المدججة بالكراهية...

والطرقُ المعبدةِ بالإذعان...

ولصوصُ المكاتب الحفاة...

واسطوانات الغاز المعبأة بالبارود...

وبائعو الأوطان...

و" المصالحةُ "بين القاتل والقاتل...

وفضائياتُ البترول...

والطوائفُ الدموية...

وأسلاكُ الكهرباء الذبيحة!

****

بغدادُ ناحبةٌ ...

ينزفُ من ضلوعها الفقراءُ...

يتبادلون الجماجمَ والوجعَ في الأسواق المُكْتَظَّة بالفاقةِ والمُتَربصين!

يُشَيَّعُ عمالَ "المَسْطر" من ساحة الانتظار اليباب...إلى شرفات الليل البغدادي المهجور!

تشكو المدنُ المَسبيَّةُ جَورَ التوحُشِ المُدَرَّعِ...ينهشُ لَحمَ الغرفِ العذراء!

يتناوبُ الغزاةُ والملثمونَ نَحْرَّ الشوارع...تَقطيعَنا في الساحات العامة...

وفي المقابرِ الخاصة!

 

 

 

 

عشية اختطاف الوطن من

افواه الكلاب الى انياب الذئاب!

محمود حمد

 

استدعى (نظام الطاغية) جيوش الغزو الى الوطن بفعل استبداده وقمعه الدموي وحروبه العبثية وحماقاته...وترك خلفه تجويفاً بنيوياً عميقاً قاحلاً ليملأه المحتلون بالنفايات الفاسدة!

وحيثما يستبيح (الغزاة!) بيئة التخلف، تكون "الفتنة جامحةً!"، و"القتل الجماعي شريعةً!" ويعتبر الموت النازل بالأبرياء محض ("خسائر جانبية!" تشترطها "الضرورة!")، ويحل موسم مسخ النفوس اليائسة المستعدة لتقديم الولاء غير المشروط لمن يعدهم بتحقيق صغائر ما يحتاجون اليه، ويمهد العقول الفارغة والألسن السائبة...لاعتبار:

الإذعان للمستبد (تعقلاً!)، والخنوعُ للإذلال (تسامحاً!)، وخيانةُ الوطن (تحضراً!)، وسرقةُ الدولة (استعادة للحقوق!)، وتنصيبُ الإمَّعات حكاماً (تعبيراً عن الديمقراطية!)، وتفشي الفساد في جسد الدولة والمجتمع (عُرفاً متناسلاً سائداً!)، وإخفاءُ الناس (حصانة للحكم!)، وكاتمُ الصوت (لغةً مع الرأي الآخر!)، وقطعُ الرؤوس (حواراً بين الفرقاء!)، والدجلُ (صراطاً مستقيماً)، وتكميمُ الافواه (طاعةً لولي الأمر!)، ووئدُ النساء في البيوت (شرفاً قبلياً!)، وردمُ الثقافة في مستنقع الجهل (حماية لعبادةٍ متوارثة!)، وتأجيجُ التناحر الدموي بين الناس (إنصافاً بين المتخاصمين!)، ونهبُ ثروات الوطن (عدلاً في توزيع "الغنائم" !)، والدعارةُ المغلفة بـ"التقوى!" (شريعةً!)، وترسيخُ التخلف ونشره (تمسكاً بالتراث!)، وتبديدُ سيادة الوطن (انفتاحا!)، وشرعنه اغتصاب الفتيات الصغيرات (سُنَّةً!)، وإباحةُ النفاق (تقيَّةً!)، وإشاعةُ الاغتصاب (جهاداً!)، وتقديسُ الدجالين (ولاءً!)، وتزويرُ التاريخ (حقاً!)، وإقحامُ الحاضر مكبَّلاً في كهوف الماضي (ديناً!)، والغِشُّ (شطارةً!)، ومسخُ العقول (فِقْهاً!)، والتوحشُ المنفلت (موقفاً!)، وغوغاءُ القطيع (رأياً!)، والفقرُ المدقع (قَدراً!)، وشيوعُ الأوبئة (اختباراً ربانياً!)، والقمعُ (وسيلة لاستتباب الأمن!).

وقاد (انتقام الغزاة القبلي التكنولوجي!)، جيوش الفناء لمسخ الانسان ومحو الوطن... واكتظ جوف (الهامفي المظلم) القادم عبر المحيطات بسلع (محلية المادة الأولية... افرنجية الصنع) بائرة مستهلكة، جمعوها من أسواق الخردة "السياسية!”، ونشروها كـ (وباء الجذام) على وجه الوطن، وجعلوا منها حكاماً لاصقين مدججين بالكراهية ومحصنين بالتخلف ومحتقنين بروح الانتقام!

وانتهش (الوباء!) الوجوه السومرية الباذخة الفتنة، وتفشى في بعض العقول والضمائر والسلوك... وعصف الخوف بالشوارع اليائسة...وحل الظلام القادم من كهوف الماضي الانتقامي...

وخلف صرير المجنزرات تلملم الرياح السموم الجثث المقطوعة الرؤوس المنثورة على الأرصفة... يرقب النخيل المكبل باليباب الفتيان المختطفين من الأبواب ومن الساحات... يتمدد الخراب من دخان (الهامفي) الى النفوس والمدن...ينبش الغزاة والبغاة واللصوص (ألواح الرُقُمِ الطينية) كي يمسخوا تاريخ الانسان المبدع!

وخلف دخان (الهامفي) الكثيف الخانق تظهر بجلاء ملامح (عش ثعابين) جشعة مشوهة الضمائر... يعرفها الجميع... ويختلف "الرواة" والمدونون حول مصيرها؟!

 

في مثل هذا اليوم:

حكاية ونَص...

"يوسف" يَصنعُ مَنْجاةً لِبُناةِ الفَجر!

محمود حمد

 

في تلك الليلة البغيضة التي تكالبت فيها على العراق جرائم المحتلين ومفخخات الإرهابين التي باركها الأذلاء "المحليون" القادمون على دبابات غزاة الوطن، الذين جعلوا من (خيانة الوطن مجرد...وجهة نظر!) ... تنحيت جانباً محاولاً إغماض البصر دون البصيرة لبرهة من صور الحاضر المفزعة والمُخجلة، لأتصفح بعض أوراق التاريخ الاسود:

(قبل 71 سنة أعادت حكومة نوري السعيد محاكمة (فهد) ورفاقه، وحكمت عليهم المحكمة بالإعدام وتم تنفيذ حكم الإعدام قبل إعلانه، وذلك في يوم 14/2/1949 حوالي الساعة الرابعة والنصف فجراً!

وأصبح بإعدامه أول سياسي يُعْدَمُ في العراق!

وذلك إثر وثبة كانون1948. وتصاعد التوتر العالمي، حيث جاء الانجليز بـ(نوري السعيد) المعروف بعدائه للشيوعية رئيسا للوزراء في 6-1-1949، الذي أعلن حالة الطوارئ والاحكام العرفية تحت ذريعة حماية مؤخرة الجيش في فلسطين!

وأعلن في مجلس النواب:

(إن هدف حكومته هو تصفيّة الحساب مع الشيوعيين ومكافحة الشيوعية حتى نفسها الأخير في البلاد)!

وأشرف السفير البريطاني بنفسه على تلك المحاكمة وعلى تنفيذ حكم الإعدام وقال:

(سوف لا تقوم قائمة للشيوعيين في العراق لعشر سنوات قادمة)!

وقد ذكر المرحوم (كامل الجادرجي) في مذكّراته:

(كان في حينه قد أخبرني - صبيح ممتاز- عندما كان يشغل مدير العدلية العامة بأن - جمال بابان - وزير العدلية - استدعى ثلاثة حكام ممن حكموا فهد وجماعته بالإعدام ووزع عليهم مبلغ – 800 - دينار من المخصصات السرية كتشجيع...وقال – صبيح- في حينه أنه نفسه الذي وزّع المبلغ المذكور بحضور (جمال بابان) وأضاف صبيح قائلا:

إن -جمال بابان- تدخل تدخلا فعليا في محكمة التمييز لحمل المحكمة على تصديق الحكم)!

وكانت قد عقدت قبل ذلك جلسات مغلقة بتاريخ 24-6-1947 وصدر عليه الحكم بالإعدام، ولكن بسبب حملات الاحتجاج العالمية اضطرت حكومة - صالح جبر- إلى إبدال حُكم الإعدام بالسجن المؤبد في 13-7 -1947 وفي اليوم التالي نُقِل – فهد - إلى سجن بغداد المركزي.

وفي ليلة 14-15 آب 1947 نُقِل إلى سجن الكوت، وهناك حَوّل – فهد- السجن إلى مدرسة أو معهد ثقافي ثوري، وكان يقود الحزب وهو في السجن من خلال الرسائل التي كانت تكتب بماء البصل!

وكان (فهد) قد اصدر أول بيان يحمل شعار المطرقة والمنجل، و(يا عمال العالم اتحدوا)، ويعيش (اتحاد جمهوريات عمال وفلاحي البلاد العربية)، ووقعها باسم (عامل شيوعي) وذلك في مساء 13 كانون الأول عام 1932، وتم تعليق البيان في 18 مكانا في الناصرية.

عندها ضجت الدوائر الحكومية من نشاطه فاشتكوه إلى زعيم الحزب الوطني المرحوم (جعفر أبو التمن) بأن (يوسف سلمان) مساعد رئيس فرع الحزب الوطني في الناصرية (هَدّام) فأجابهم أبو التمن:

(بل إنه بَنّاء يحاول أن يبني مع الفلاحين والضعفاء حياة سعيدة للناس وأنني أعضده بما أملك من طاقة)!

طَويتُ بعض ذاكرة التاريخ، مستذكراً ما تعهد به السفير البريطاني آنذاك...ولأكتب:

(عن اعدام يوسف سلمان "فهد" في يوم الاحتفال بالذكرى التاسعة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي)

"يوسف"(1) يَصنعُ "مَنْجاةً" (2) لِبُناةِ الفَجر!

كانت مدنُ الوطنِ المُكتظَّةِ بالفلاحين...

تبيعُ...

الحنطةَ بالعنبرِ...

ثيابَ العيدِ بأكوامِ البطيخِ...

علومُ الحَرفِ بحفنةِ تَمْرٍ!

****

قَدَحَتْ ثُلَةُ فتيانٍ من مدنِ القَحْطِ...

تَنادوا...

يُصغونَ بِصَمتٍ...

لهديرِ الأنباءِ المجنونةِ من "بحرِ البلطيقِ"...

تُدَويِّ...

توقِدُ فيهم إرثاً للضَيْمِ المُتَوارثِ من "سومر"...

لمسيلِ العَرَقِ القاطرِ فوقَ رمالِ البئرِ الأولِ للبترولِ...

يَتَفاقَمُ فيهم...

يَقطِفهُ (يوسفُ) في لئلاءِ البدرِ الآذاريِّ البازغِ في طَلعْ النَخْلِ...

يجعلُهُ دَرباً...

سفينَ نجاةٍ لبُناةِ الفَجرِ!

****

"كوكس" يَهمُسُ في أذنِ الملكِ المُستوردِ:

هذا رجلٌ يكفرُ جَهْراً بإله السُلطةِ"...

يَعبثُ بالجَورِ الراسخِ في أحداقِ المأجورين...

يُشَكِّكُ بالعرشِ القادمِ من لندن...

يَدعو لإلهٍ حافي القَدمينِ...

يَخرجُ من بينَ الفقراءِ...

لِيَبني...

وطناً دونَ قيودٍ...

وجموعاً يَغمُرُها الخير!

****   

(يوسف) يعرفُ أن المُحْتَلَّ صنوفٌ:

صِنْفٌ...يَكتُمُ أنفاسَ الصُبحِ الكامنِ فينا...

آخرُ...يَخْصينا...

ثالثٌ...يشعلُ نارَ الفِتنَةِ فينا...

ونوايا سود تسفينا!

 

يوسف سلمان يوسف: كادح سومري استدعى المستقبل إلى ديوان الفاقة قبل 89 عاما كي يبني عرشا للفقراء الاحرار!

تأسيس الحزب الشيوعي العراقي.

 

 

 

حكاية ونَص...

" نصبُ الحريةِ"

 يُسْتَعبَدُ بالخوفِ!

محمود حمد

الحكاية:

عندما وصلت إلى بغداد قادماً من مدينتي الجنوبية (العمارة) في ظهر الثالث عشر من تموز عام اثنين وستين وتسعمئة وألف، بعد عام على افتتاح (نصب الحرية)، لم اهتد الى مبتغاي إلا من خلال الاسترشاد بنصب الحرية!

كنت فتىً في الخامسة عشر من العمر...لم يسبق لي أن سافرت خارج حدود كوخنا السومري بمفردي...

وقفت تحت فيء (النصب) بانتظار (عمي) الذي يعمل حارساً ليلياً في حديقة الأمة التي يتصدرها (نصب الحرية) ...عمي الذي كان قد وَعَدَنا:

إنه يمر كل مساء من تحت (نصب الحرية) في طريقه للذهاب إلى عمله عند السادسة مساءً والعودة منه في السادسة صباحاً.... وعلي الانتظار هناك!

بعد خمس وأربعين سنة من ذلك التاريخ، كنت اتابع مشهداً تلفزيونياً تخور فيه دبابة (إبرامز) أمريكية حول (نصب الحرية)، وتسير على مقربة منها مفرزة من المسلحين الملثمين ذوو الرايات السود لتعلق لافتة سوداء على جدار (نصب الحرية) كُتِبَ عليها:

(...وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ...)!

تذكرت الحفل التأبيني السنوي الأول لوفاة (جواد سليم) الذي أُقيم في حدائق معهد الفنون الجميلة...وتلك الأحاديث المثقلة بالحزن والملتبسة عن الراحل، الذي تُوفي إثر إصابته بنوبةٍ قلبيةٍ، نتيجة الإجهاد في عمله للنصب، عن عمر يناهز الأربعين عامًا، في الثالث والعشرين من كانون الثاني سنة إحدى وستين وتسعمئة وألف!

كنا نتحلق حول زميلنا النحات الشاب (ناظم) الذي شارك في رفع قطع النصب إلى اللوح الأبيض... يسرد لنا بأسلوبه الحكواتي الممتع، مُفَخِّماً مخارج كلماته، وكأنها تأتي من الماضي الأليم الذي عاشه في أزقة كرخ بغداد: 

لم يترك الموت المفاجئ (جواد سليم) من إكمال النصب، فما أن رفع القطعة التي تحمل الرقم 9 من النصب حتى انهارت قواه...

وهي الجزء الذي مَثَّلَ فيها الحرية بـ(امرأة فَتِيَّةٍ) تحمل مشعلاً، امرأة مفعمة بروح البهجة التي تحلق بها عالياً...

ذات يوم...

عندما سئل (جواد سليم) لماذا لم يجعل لها قدمين؟!...

قال:

(إن القدمين تلصقانها بالأرض، وأنا أريد لها أن تحلق عالياً)!

أكملت زوجته، النحاتة (لورنا سليم) العمل، لكونها أكثر من لهم إلمام بفكرة النصب... فكانت تحضر يوميا للإشراف على العمل حتى تم اكتمال رفع الأجزاء الأربعة عشر التي ترمز لثورة الرابع عشر من تموز!

بعد إكمال النصب مُنِحَتْ لورنا سليم الجنسية العراقية!

وفي الثالث عشر من تموز من نفس العام تم افتتاح النصب بغياب مُبدعه (جواد سليم) وغياب من أكمل العمل زوجته (لورنا سليم)!

حيث لم توجه لها دعوة لحضور الافتتاح!!

إثر ذلك حزمت (لورنا سليم) حقائبها وغادرت إلى بريطانيا!

كان الحفل في حدائق المعهد متواضعاً!

مازالت التساؤلات عن طلاسم الموت المباغت الذي اختطف (جواد سليم)، عالقة في أذهان محبيه...

ولم تتوقف الاستفهامات عن خفايا قصة نشوء النصب... التي تحدث المعماري الراحل (رفعت الچادرچي) مهندس المشروع عن جانب منها قائلاً:

عندما طلب مني الزعيم (عبد الكريم قاسم) تخليد ثورة الثامن والخمسين وتسعمئة وألف بنصب، لم أعرف ماذا أفعل؟!

حيث كانت شوارع بغداد مليئة باللافتات القبيحة!

ولم أكن مُلمًّا بأمور النحت، ولكني سأصنع جدارية تشبه اللافتة، كالتي يرفعها المتظاهرون، لكنها كبيرة بعرض خمسين مترا...

فتوجهت إلى (جواد سليم) وقلت له: 

عندك لافتة عرضها خمسين متر لازم تصور عليها ثورة 1958...

وعلى أن تكون رموز سطحية وليست ثلاثية الأبعاد لهذا تفاجئ جواد سليم وأجاب:

(حيل هاي مَحَّدْ مسَوّيها من زمن الآشوريين!).

بعد أكثر من نصف قرن كنت اتابع لقاءً تلفزيونيا مع المهندس المعماري المرحوم (رفعت الجادرجي) كشف فيه بعض خفايا الدخان الخانق الذي تصاعد حول (جواد سليم) أثناء تصميمه لمفردات النصب... قائلاً:

راجع (النحات خالد الرحال) - الذي كان آنذاك مازال طالباً في اكاديمية الفنون الجميلة بروما - حاشية الزعيم عبد الكريم قاسم، وأبلغهم:

(إن – النصب - يخلو من صورة الزعيم، وهذا عمل مقصود!

وهو مستعد لنحت الصورة، إذا رفض جواد سليم ذلك، واقترح أن يحل – الزعيم - محل – الجندي - الذي يتوسط النصب)!

ويضيف الجادرجي:

(عندما عرضت على – الزعيم - صورة تصميم النصب أُعْجِبَ بها...لكنه بعد برهة قال:

(ممكن أن يكون هذا النصب روماني أو في أي مكان في العالم...لكن أنا أريده أن يكون نصباً عراقياً)!

وراح – الزعيم - يتحدث عن تفاصيل احتلاله لبغداد صبيحة يوم الرابع عشر من تموز...وكرر الحكاية مرتين، وفي كل مرة كان يسألني:

هل فهمت؟!

فأجيب بالنفي، وفي المرة الأخيرة أشار لي أحد الحاضرين أن أقول فهمت. لأُنهي اللقاء!

وعاد (جواد سليم) إلى بغداد مرتبكاً، ولم أره في أي يوم بمثل هذا الارتباك، وقال لي:

(الزعيم يريد أن أضع صورته في النصب)!

فقلت له:

من أبلغك بذلك؟!...

قال (السفارة)...

فأجبته:

أنا كنت قبل يومين مع الزعيم ولم يبلغني بذلك...

ثم قلت له:

أنا أكلمك ليس كصديق، بل بصفتي الرسمية كعضو في اللجنة الثلاثية، ومعي حسن رفعت...ونحن الأكثرية)!

وأُنجِزَ (نصب الحرية) ...

ومات (جواد سليم) قبل اكتمال رفع جميع قطع النصب...

عندما سمع النحات (خالد الرحال) بخبر موت (جواد سليم) أسرع إلى مكان وفاته، ومعه عُدَّةْ صنع القالب النحتي، وصنع لوجه (جواد سليم) الذي يستوطنه الموت، قالباً جبسياً، وجعله فيما بعد قناعاً برونزياً لوجه (جواد سليم) ...سُمِيَّ منذ ذلك الوقت بـ(قناع الموت)!!!

ذكرتني تلك السيرة والموقف والسلوك بالحكمة الالمانية:

(عندما يعوي الذئب يرفع رأسه نحو السماء)!   

استيقظت مفزوعاً من "رحلتي!" على الصهيل الصاخب للحصان الجامح في (النصب)، وقد تَلَبَّدَت فوقه السماء بغيوم من الدم المُحْتَقِنِ... والرشاشات الاوتوماتيكية مُسَدَدَّةٌ إلى رؤوس أهل (نصب الحرية) ...فصرخت من أعماقي...وتناثرت صيحاتي حروفاً مُدماة على صفحات دفتري:

 

" نصبُ الحريةِ" يُسْتَعبَدُ بالخوفِ!

كانَ الليلُ طويلاً والناسُ نيامٌ...

مَقبرةُ الكرخُ الميسورةِ تَكْتَّظُ بأفواجِ القتلى...

فوجٌ يدفعُ فوجاً من جوفِ الأرضِ إلى طرقاتِ المَقبرةِ الخلفيةِ...

يَسْتَّلُ "جوادٌ"(1) هَيكلَهُ من تحتِ رُفاةِ الأموات...

يَتسلقُ جوفَ الأرضِ إلى أرصفةِ الأحياءِ الموصودَةِ بالجثثِ الملغومةِ...

يَبحثُ عن دربٍ دونَ دماءٍ للبابِ الشرقيِّ...

يَتوقفُ وَسطَ الساحةِ قُدّامَ النُصبِ (2) المخذولِ بأبراجِ الدباباتِ المحتلةِ...

يَسالُ امرأةً عابرةً في الشارعِ أن تَمنَحَ "شيلتها" لفتاةٍ سافرةٍ تَصرخُ وسطَ النصبِ...

خَوفَ فتاوى القَتَلةِ!

****

أُمُ شهيدٍ تَتَرَجلُ من نصبِ الحريةِ لشوارعِ بغداد المسبية...

تَتْركُ مأتَمَها لعشيرٍ ما نَكَثَ العَهْدَ بَتاتاً...مُنذُ عقودٍ...

تَحملُ والنسوةُ جُثمانَ الأبناءِ المجهولةِ لمقابرَ بِكرٍ صارت تَتَفَردُ فيها أرضُ النهرينِ...

تَتَكاتفُ وامرأةٌ تحملُ جثمانَ شهيدٍ من أرصفةِ الكرادةِ...

تُقَلِبُ وجهاً في وجهِ أم شهيدِ الكرادةِ...

تَصرَخُ...

إبنتيِّ الصُغرى "خنساء" صارتْ أماً منكوبةً...

تَزَوَجَتْ الطفلَ الأشولَ...

يَحبو في بابِ ضريحِ نبي الله الصالح" (3) ...

تَمشي تَتَعثرُ وابنَتَها خنساءَ الصارت أُماً بين زحامِ النَدّاباتِ...

يَلِجْنَّ النَفَقَ الَليليَّ القاتِمَ...

في بلدٍ ما عادَتْ فيه دروبٌ سالكةٌ إلاّ الأنفاقِ الملغومةِ بالريبةِ...

ويَصِلْنَّ إلى مدنٍ تَلْتَفُ جِهاراً بعباءةِ حُزنٍ سوداء...

تَتَزاحمُ فيها نسوانٌ تَعرِفُهُنَّ صغاراً رُضَّع...

صِرْنَ كتائبَ حُزْنٍ في جيشِ الثَكلى!

****

جُنديٌّ معروقُ الجبهةِ يَتفاقمُ غَضَباً في قلبِ النُصْبِ..

بَدَدَ جُدرانَ الظُلمَةِ من دربِ الفلاحينَ الفقراء...

كانَ رفيقاً للمحراثِ وكيرِ الحَدادِ...

سَخِياً في مرتفعاتِ "الجولانِ" و"حيفا"!

تَهاوى من بينَ ضلوعِ النُصُبِ...

إلى أرصفةِ الأسمالِ وأكداسِ الخردةِ في البابِ الشَرقيِّ...

صارَ نَزيلاً أبدياً في جبهاتِ (النَصرِ!) المَقبورةِ...

أسيراً في أقفاصِ الغُربَةِ...

شحاذاً في باصاتِ النقلِ المكتظةِ بالأشباهِ...

نَشّالاً لرغيفِ الخُبزِ الجائعِ...

قُرباناً لـ(بريمر) في عيدِ الشُكرِ!

****

فتاةٌ فاتنةٌ تومِئُ في كفٍ لنهوضِ الأمةِ...

وتُلَوِّحُ بالأُخرى نارَ الحُريةِ في وجهِ الأصنامِ الورقيةِ...

خَطواتٌ واثبةٌ دونَ قيودٍ للأرضِ...

صَدرٌ مثلَ طيورٍ تَخفِقُ فَوقَ الغَيمِ...

وصُبحٌ يُشرقُ عند الخَدينِ...

فتاةٌ حالمةٌ...

وَعدٌ يَتَجَذَرُ...

امرأة...

تَتَقَدَمُ فَجْرَ الحُريةِ...

تَعقِبُها أزمنةَ المستقبلِ...

يُمْسِكُها الوِدُّ إلى ألواحِ النُصْبِ الحاني...

وَوعيدٌ تَحتَ جدارِ النُصبِ بعصرٍ دَمويٍ أسود...

يخنقها دون صتيت في وضح الظهر!

****

عُمالُ المَسطَرِ في غبشِ الصُبحِ...

يَلوذونَ بمطرقةِ العاملِ في نُصُبِ الحُريَةِ...

خِشيَةَ قِطعانُ ذئابٍ سارحةٍ في طرقاتِ المُدُنِ المُحتلةِ...

تَنهَشَهم سياراتٌ ذاتَ نقابٍ...ملغومةٍ...

تَفْتِكُ حِقداً بجياعِ الأهلِ...

تُبَعْثِرُ أحلامَ الأطفالِ المنتظرينَ ببابِ الأكواخِ العجفاء...

تُفْشي داءَ الجوعِ بأحشاءِ الوطنِ المنهوكِ الأوصالِ...

تَتَزَحْزَحُ مِطرقةُ العاملِ من مَوطِئِها ...

تَفسحُ مأوىً لطوابيرِ العمالِ المُنَتفضينَ..

تَهطِلُ قَطْرَةَ غَيظٍ من جَبهتهِ لِسنابلَ سبعٍ يابسةٍ...

تَغدو حَقلَ رخاءٍ يَغمُرُ وَجهَ الوطنِ الناصعِ من "سدي كان" (4) إلى "رأس البيشة" (5)!

جواد: هو الفنان (جواد سليم) مبدع نصب الحرية.

نصب الحرية الذي يشكل قلب بغداد الحضاري المُعارِض.

قبر نبي الله (صالح) الموجود في الكرادة الشرقية ببغداد.

سدي كان: أحد أجمل مواقع كوردستان العراق الجبلية في أقصى الشمال بين الحدود الايرانية والتركية.

رأس البيشة: سهل رملي في أقصى جنوب العراق المطل على الخليج العربي وآخر نقطة حدودية جنوب العراق على الخليج العربي.

 

 

 

في مثل هذا اليوم:

حكاية ونَص...

أفولُ الصَنَمِ.. وبزوغُ فَجرِ الأصنامِ!

 

محمود حمد

 

لم انقطع عن الإصغاء لدقات قلب الزمن المضطرم بالآلام، ونبض الأرض المستباحة باليباب، وصراخ الملايين المحاصرة المكبوت خلف كابوس الاستبداد...دون أن اغفل ما يدور في أقبية الطامعين الدوليين وبائعي الوطن المحليين!

لأني ادرك أن استراتيجيو الغزاة...قبل أن تدور محركات آلة الحرب لغزو بلادنا، يعرفون أن وعاء (اللاوعي) الفردي والجمعي المتوارث في بلاد النهرين... (وعاء وحداني!) مجوفٌ ومهيئ لإشغاله بعبادة (الواحد!) الذي يسجدون له خاشعين... سواء كان ذلك إلهً لا يُرى، أم وَثَناً في الغيب، أم صنماً مُجَسَّداً، أم حاكماً مستبدا أم رئيس قبيلة مُستكبراً، أم زعيم "معارضة" متفرداً، أم رئيس عصابة متوحشاً، أم أباً طاغية!

ولان للغزاة أصنامهم التي يقدمون لها ولاء الطاعة في بلادهم، ويسجدون لها...لذلك فهم عندما يستبيحون أرض بلد يفرضون على أهله (أصناماً محلية!) ذليلة لهم ومعدومة الإرادة، ساجدة لأصنامهِم، ويملؤون (وعاء إرادتها) بنوايا ومصالح الغزاة، لتكون (كلباً وفياً مطيعاً لهم!) رهن إشارتهم...و(صنمهم) هو:

الاستحواذ على(النفط) والتبادل السوقي بـ(الدولار)!

وهم دائماً...عندما يستبيحون بلداً يستخرجون من مكب نفايات التاريخ أكثر الشخصيات غموضاً وتناقضاً وتعقيداً لإعادة انتاجها كأصنام محلية (تدار مباشرة، أو يجري التحكم بها عن بُعد) لخدمة مصالحهم!

يقول (جون نيكسون)، مسؤول المخابرات المركزية «سي.آى. إيه» السابق... الذي كان أول مسؤول يقابل «صدام» بعد القبض عليه في ديسمبر2003، واستجوبه طوال أسابيع، والذي سجل شهادته هذه في كتابه بعوان: (استجواب الرئيس):

كان صدام حسين (كتلة من التناقضات) فهو (من أكثر الشخصيات المؤثرة التي قابلتها في حياتي، وكانت لديه القدرة على أن يكون مُبهراً، ولطيفاً، ومضحكاً، ومهذباً عندما يريد ذلك)، و(كان يتحول إلى شخص وقحٍ، ومتغطرسٍ، وبذيءٍ، ووضيعٍ، ومرعبٍ عندما يفقد السيطرة على أعصابه)!

ويقول عميل ألـ CIA في القاهرة Allen Dulles في مقابلة تلفزيونية:

(معظمكم يعلم أن صدام حسين تم تجنيده من زمن بعيد جداً...ربما تتذكرون "عبد الكريم قاسم رئيس العراق في بداية الستينيات...

"قاسم" طرح مشروع متميز قال إن النفط العراقي يجب أن يكون لفائدة الشعب العراقي...كم كان نبيل...

لذلك قررنا أن نطيح بـ “قاسم" فأرسل جهاز المخابرات الامريكية مجموعة اغتيال يترأسها شاب عراقي، وأمطروا سيارة قاسم بالرصاص في بغداد، ولكنهم أخطأوه وتمكن قائد المجموعة الذي أصيب من الهرب إلى سوريا...واسمه "صدام حسين"، وكان عميل للمخابرات الامريكية في عمليات الاغتيال وقد فشل...كان ابننا ومن رجالنا)!

بعد أن استنفذ (صدام) قدرته على الاستمرار بالخدمة...أسقطوه وقتلوه، واستبدلوه بقطيع من (الأصنام!) الهَشَّة والقلقة والفاسدة، الذين وصفهم باحترافية من شارك في صنعهم (بول بريمر) في وصيته إلى خَلَفِهِ (نيغرو بونتي)، وطلب منه أن يدوّن في مفكرته الشخصية كيفية التعاطي مع هؤلاء الذين أوكلت إليهم واشنطن إدارة (العملية السياسية!) في العراق...

جاء في وصية (بول بريمر) لـ(نيغرو بونتي):

"(إياك أن تثق بأيّ من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، نصفهم كذابون، والنصف الآخر لصوص..

مخاتلون لا يفصحون عما يريدون ويختبؤون وراء أقنعة مُضَلِّلة!

يتظاهرون بالطيبة واللياقة والبساطة، والورع والتقوى، وهم في الحقيقة على النقيض من ذلك تماما، فالصفات الغالبة هي:

الوضاعة والوقاحة وانعدام الحياء!

احذر أن تغرك قشرة الوداعة الناعمة، فتَحْتَ جلد هذا الحَمْل الذي يبدو حميميا وأليفا ستكتشف ذئبا مسعوراً، لا يتردد من قضم عظام أمه وأبيه، ووطنه الذي يأويه، وتذكر دائما أن هؤلاء جميعا سواء الذين تهافتوا على الفُتات منهم أو الذين التقطناهم من شوارع وطرقات العالم هم من المرتزقة، ولاؤهم الأول والأوحد لأنفسهم!

حاذقون في فن الاحتيال وماكرون كما هي الثعالب، لأننا أيضا دربناهم على أن يكونوا مهرجين بألف وجه ووجه!

يريدون منا ألا نرحل عن العراق ويتمنون أن يتواجد جنودنا في كل شارع وحي وزقاق وأن نقيم القواعد العسكرية في كل مدينة، وهم مستعدون أن يحولوا قصورهم ومزارعهم التي اغتصبوها إلى ثكنات دائميه لقواتنا، لأنها الضمانة العملية الوحيدة لاستمرارهم على رأس السلطة، وهي الوسيلة المتوفرة لبقائهم على قيد الحياة، لذلك تجد أن هذه الوجوه تمتلئ رعبا ويسكنها الخوف المميت لأنها تعيش هاجسا مرضيا هو (فوبيا انسحاب القوات الامريكية!) الذي لا ينفك عنها ليلاً ونهاراً، وقد أصبح التشبث ببقاء قواتنا أحد أبرز محاور السياسة الخارجية لـ “جمهورية المنطقة الخضراء"!

يجيدون صناعة الكلام المُزَوَّق وضروب الثرثرة الجوفاء مما يجعل المتلقي في حيرة من أمره، وهم في الأحوال كلها بلداء وثقلاء، ليس بوسع أحد منهم أن يحقق حضوراً حتى بين أوساط زملائه وأصحابه المقربين!

فارغون فكرياً وفاشلون سياسياً، لن تجد بين هؤلاء من يمتلك تصوراً مقبولاً عن حل لمشكلة أو بيان رأي يُعتد به، إلا أن يضع مزاجه الشخصي في المقام الأول تعبيراً مَرضياً عن أنانية مفرطة أو حزبية بصرف النظر عن أي اعتبار وطني أو موضوعي!

يعلمون علم اليقين بأنهم معزولون عن الشعب لا يحظون بأي تقدير أو اعتبار من المواطنين لأنهم منذ الأيام الأولى التي تولوا فيها السلطة في مجلس الحكم الانتقالي المؤقت أثبتوا أنهم ليسوا أكثر من مادة استعمالية وضيعة في سوق المراهنات الشخصية الرخيصة!

يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، وأن تسويف الوعود شطارة، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب، لذلك هم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة، وستجد أن كبيرهم كما صغيرهم دجالون ومنافقون، المعمم الصعلوك والعلماني المتبختر سواء بسواء، وشهيتهم مفتوحة على كل شيء:

الأموال العامة والأطيان، واقتناء القصور، والعربدة المجنونة، يتهالكون على الصغائر والفتات بكل دناءة وامتهان، وعلى الرغم من المحاذير والمخاوف كلها فإياك أن تُفَرِّط بأي منهم لأنهم الأقرب إلى مشروعنا فكراً وسلوكاً، وضمانةً مؤكدة، لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة، وإن حاجتنا لخدماتهم طبقا لاستراتيجية الولايات المتحدة، مازالت قائمة وقد تمتد إلى سنوات أخرى قبل أن يحين تاريخ انتهاء صلاحيتهم الافتراضية، بوصفهم "مادة استعمالية مؤقتة" لم يحن وقت رميها أو إهمالها)!!!

حَدَّقت بالسماء منقبض الروح...وكتبت:

أفولُ الصَنَمِ.. وبزوغُ فَجرِ الأصنامِ!

(صَنَمٌ) من قيحٍ يتداعى...

بَعدَ وَعيدٍ بالوَيلِ لـ “ثعبانِ"* المُحْتلِ...

يِطفحُ أوبئةً في أحشاءِ الوطنِ المنخور...

يَتناثرُ موتا في أزمنةِ المنفيينَ...

يتكاثرُ أصناماً آكلةً وصديداً في كُلِ زقاقٍ!

*****

(صَنَمٌ) من هَزْلٍ دامٍ:

يَعبدهُ الفقرُ الباحثُ عن بَيْدَر...

عَلَّ "اللطم" يَصيرُ سبيلاً للجَنَّةِ...

أو يفتحَ بابَ الرِزقِ لأفواهٍ جَفَّتْ من فرطِ الجوعِ المتوارثِ!

****

(صَنَمٌ) من جثثٍ مارقةٍ:

يطفو فوقَ صريرِ الزمنِ الآفلِ...

يَحرِق نَخلَ القريةَ والأرحام...

خوفَ زوالِ النزواتِ الوحشيةِ!

****

(صنَمٌ) من خشبٍ:

يَنسجُ عُشاً لربيعٍ واهمٍ من أشلاءِ المدنِ المحروقةِ...

يبني وطناً للإذعانِ...

عرشَ رفاهٍ فوقَ صتيت المقبورين!

****

(صَنَمٌ) من يأسٍ ظامئٍ:

يُفقِئُ عينَ البدرِ أوانَ الحصدِ...

يَنعقُ دهراً في الحجراتِ المحروسةِ بالدباباتِ...

بديلاً للمدنِ المغمورةِ بالبهجةِ!

****

(صَنَمٌ) من غِلِّ متفاقم:

يَحرقُ أبوابَ الكتُبِ المنشورةِ للفقراءِ...

يُزَمْجِرُ...

يَبتاعُ اللحيةَ جهراً برؤوسِ الفتيانِ المرميينَ على أرصفةِ الطرقاتِ المهجورةِ!

****

(صَنَمٌ) من ذعرٍ عارم:

مُرْتَعِدٌ...

مختبئٌ خلفَ عمودِ العرشِ يوَلْوِلْ...

رُبَّ زمانٍ يأتيهِ من الغيبِ فَيَغْنَمْ!

****

(صَنَمٌ) ذو أنيابٍ صفرٍ:

يُمَزِقُ أستارَ المدنِ المنكوبةِ...

...يَعْوي ويُكَبِّرْ بين النهرين...

...يَشُمُ دماءَ النهرِ الثالثِ!

****

(صَنَمٌ) من أكفانٍ سُحْتٍ:

يَنبُشُ أدرانَ التاريخِ المُتَعَفِنِ في ذاكرةِ الإفناءِ الأزليِّ...

يَعْرِضُ موتانا للبيعِ بأسواقِ الخُردَةِ...

يَجعلُ من (دارِ الحكمةِ) عرشاً للقَتَلَةِ!

****

(صَنَمٌ) من قِشٍ متعفن:

يَزأرُ...

يَشهَرُ سيفا في وجهِ الإعصارِ العارمِ...

يَتِبَخْتَرُ في دائرةِ النارِ!

****

(صَنَمٌ) سكرانٌ راعشٌ:

يَتَقَلَبُ بين المحرابِ وباب الملهى الناسكِ...

عَرياناً كالنزوةِ في ساعاتِ الروحِ الخضراءِ...

يَلبسُ زُهْداً عند قدومِ الأجرِ ببيتِ المالِ المُشْرَعِ للأحبابِ!

****

(صَنَمٌ) من قارٍ ساخنٍ:

يُسْكَبُ فوقَ شفاهِ الأطفالِ المشغوفينَ بِدَرسِ الـ “دارِ"...

يَقطعُ دَربَ المهزومينَ من التفخيخِ إلى الغربةِ...

يَنفُثُ ناراً في أحشاءَ الأدعيةِ الصَمّاءِ!

****

(صَنَمٌ) من وحلٍ لزجٍ:

يُطْبِقُ أجفانَ الفجرِ...

يَكبتُ صوتَ العصفورِ بِقَيحِ السُلطةِ...

يُقْحِمُ أهواءَ الناسِ إلى أغوارِ القَسوةِ!

****

(صَنَمٌ) من دَجَلٍ فاقعٍ:

يَحشو هاماتَ الناسِ بأحجارِ القَبْرِ...

ويمضي...

سِمسارٌ في سوقِ الأوراقِ الماليةِ...

نَصّابٌ في ميدانِ الأسلحةِ الخُنْثى!

****

(صنمٌ) من زيفٍ يَتَبَخْتَرُ بين قطيعِ الأصنامِ:

رَغمَ قيودِ القَفَصِ البارقِ تحت ضجيجِ الاعلامِ...

وجنود الجيش المُحتَّلِ...

تُمَزِّقُ أهلي...

تَمْحَقُ وطني...

وتُعَظِّمُ جُثمانَ الزمن المُختَّلِ الأول والآخر!

*"ثعبان": المصطلح الذي أطلقه "محمد سعيد الصحاف" على جيوش الغزاة للعراق!

 

 

 

 

 

حكاية ونَص...

مَنْ مِنّا لَمْ يَدفِنَ

قَتلاهُ بحَقلِ الحِنْطَةِ؟!

محمود حمد

عندما دخلت (قبائل الغزاة الإفرنج!) أرض العراق عام ثلاثة والفين، بعد أن غلبت (قبائل أهل العراق!) و(اغتنمت) العراق عُنوة بما فيه ومن عليه، وَزَّعَتْ عطاياها من (الفيء) على (أدِلاّئها) الذين لملمتهم وجاءت بهم من هوامش المدن المتناثرة في بقاع المعمورة والمطمورة، وأعطتهم (السلطة) كجزء من (الفيء)، الذي لم تشبع مطامعهم!

ولأنهم احترفوا (النهب)، تنازعوا على الأسلاب لانتزاع ما تبقى من عافية العراق، ولإزهاق أرواح أهله بمفخخاتهم العشوائية، وكواتم الصوتِ الانتقائية، ومغاليق العقلِ الممنهجة، وبـ (فقه الدجل) اللامحدود!

أهل العراق الذين نخر الخوف نفوسهم على امتداد عقود، ولَوَّثَ الاستبداد والتضليل عقولهم عبر كل العهود، وأهلك (الحصار الكوني) ضرعهم وزرعهم!

واجتمع (الأدِلاّء) المتباغضون تحت (سقيفة!) شُدَّت حبالها بدبابة أمريكية جاثمة على صدر العراق... لاختيار (مجلس التَحَكُّم!)، وطلعت الشمس عليهم والملايين منشغلة بنبش المقابر الجماعية، فبانت وجوههم كالحة كسيماء الشياطين!

صرخت (فاطمة) وهي تكفن أبيها المسجى في بيته المهجور من الصحابة بمكة:

من أعاد إلينا (الأصنام)؟!

ولماذا هؤلاء...وحدهم؟ دون غيرهم؟!

صاح (الحباب بن المنذر الأنصاري الخزاعي!) من بين تلال الجثث المنبوشة في قبر ممتد من أرض (الرضوانية) لحدود الموت بأطراف (حلبجه):

(منا أمير ومنهم أمير)!

فجاءته رصاصة من كاتم صوت كان مخبأ في سروال أخيه (المهاجر القريشي!) ...وأخرسه حتى يوم الدين!

أجابها (قائلهم) بصوت قاطع كالسيف اليماني:

نحن (المتضررون!) من دولة (هُبَل)!

(ومن ينازعنا...إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة)؟!

واثر هذا الصتيت الصاخب القادم من أعماق التاريخ...نَهَضْتُ مفزوعاً من فوق سرير المرض مُتَّكِئاً على الجدار الواهن المفضي إلى هاوية التاريخ اقلب أوراق الأزمة المطمورة خلف دخان الحرب وصرخات الأطفال المقبورين حشوداً بمدافن ضاقت فيها الصحراء وجبال الكورد!

يتردد صوت (الصنم!) ...

يؤدي (صدام) القسم رئيساً لعصابة قتل المنكوبين...

قَسَمٌ يتمدد من أفق الزمن اللامحدود لصراخ المغدورين بأقبية التعذيب:  

(بس كل واحد يوكف بوجه الثورة...يصير ألف... يصير ألفين...ثلاثة آلاف...عشرة آلاف... أقص رؤوسهم من دون ما ترجف شعرة واحدة مني أو يرجف قلبي عليه)!

قَرأت عند الباب المرصوفة بالأجداث (المجهولة)...قانوناً دموياً يسري كالنار بهشيم يابس:

(يعاقب بالسجن المؤبد ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة من أهان بإحدى طرق العلانية رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أو مجلس قيادة الثورة أو حزب البعث العربي الاشتراكي أو المجلس الوطني أو الحكومة. وتكون العقوبة الإعدام إذا كانت الإهانة أو التهجم بشكل سافر)!

تهجأت قانوناً في وسط الظلمة صار رديفاً للموت النازل من آلهة الحرب ببغداد:  

منح (صلاحية الحكم بالإعدام الفوري لآمري الفصائل صعودا إلى قادة الفيالق) والتنفيذ (ضد الجبناء والخونة").

و(نقل سلطة العقوبة إلى أسفل هرم الجيش، بما يعني أن آمر الفصيل له حرية التصرف بأن يقرر إجراء تحقيق أو أن يمارس تلك الصلاحية المطلقة للإعدام الفوري)!

يمتد بلاء القتل بـ(رصاصة غدر!)، وباءً يتفشى في كل حروب الاستبداد الممتدة من ليلة إعدام (رفاق القائد!) ...لـ(مشاريع الاستشهاد!) المكتوبة قَسراً في أرحام النسوة!

يَدفن العراقيون نصف مليون من شبابهم في عراء الجبهات المجهولة والمقابر المُستحدثة...في حرب فاقت أيام لظاها كل حروب التاريخ الدولية!

نادتني من قاع الموت رضيعةٌ من (سدي كان) تنبئ:

إن مئة ألف من أهلها المغدورين برصاص (الغالبين!) مازالت تنهشهم جوارح الله وكواسره في وديان زَرْعِهم التي أحالها أهلُ (الغَلَبَةِ) قبوراً جماعية لهم بعد حرق قراهم...في (الأنفال)!

اتصفح أوراق (حلبجه) المُلقاة على قارعة الدرب إلى مقبرة تحتضن النسوة والأطفال المكتومي الأنفاس بغازات (الغَلَبَةِ)...خمسة آلاف عند الله وديعة، وسبعة آلاف يتشبثون بأذيال الله كي ينجيهم من تجار الموت!

اقرأ أنفاساً مقطوعة في أول صورة طفل ترويها الكاميرة المفجوعة...

يكتب صاحبها الصحفي (كاوه جولستان):

(كأن الحياة تجمدت، أو توقفت تماما. مثل أن تشاهد فيلما وفجأة تتوقف الصورة في إطار واحد. كان نوعًا جديداً من الموت بالنسبة لي، تخيل أن تذهب إلى مطبخ ما وترى جثة امرأة تحمل سكيناً حيث كانت تقطع جزرة!

وما حصل عقب الهجوم كان أسوأ. بعض من الناجين استمروا بالقدوم لنقلهم من مكان الهجوم بالمروحية. كان لدينا 15 أو 16 طفلا جميلا توسلوا لنا كي ننقلهم إلى المستشفى. لذا جلسنا كلنا مع كل الصحفيين هناك، وكل منا يحمل طفلا في يده. ما أن أقلعنا حتى بدأ سائل بالخروج من فم الفتاة الصغيرة التي كانت في ذراعي ولفظت أنفاسها الأخيرة وماتت)!

اتعثر بمئات القتلى المرميين بشوارع (كاظمةَ)...جارتنا المسبية بذئاب قبيلة أهل (الغَلَبة!)، في غفلة أبناء العم!

تحتشد جيوش (قبائل الافرنج!) وكتائب (قبائل الاعراب!) للاقتصاص من أهل العراق...ينقطع الدرب عليَّ... تمنعني نيران الآليات المحروقة باليورانيوم...الصارت مقبرة لمئات الآلاف من القتلى من فتيان بلاد النهرين!

ينادي في الأرض منادٍ...

ينتفض الناس المقهورون بيوم زلزل أركان الخوف...وهَزَّ العرش الجاثم فوق جماجم أهل النهرين... فيصحو من غفلتهم مفزوعين جنود الإفرنج...لخوفٍ يُفقِدُهم (ابناً من صلب محافلهم... ضَلَّ عن الدرب لِمَسٍ في عقله!) ...وتطير (أبابيل الافرنج) لتبيد حشود المنتفضين!

وتناخوا:

نصرة (ابن مارق!) طردته الآلهة الإفرنجية من أسوار الجنة...

خيرٌ من (شعب مارق!) يسرق منّا آبار البترول!

تُهيل الجرافات الأرض على أنفاس مئات الآلاف من المنتفضين بمقابر تجمعهم كالأرحام...مازالت قائمة منها، ضائعة دون مكان معلوم رغم وضوح صرير الأزمان! 

ويصير حصاراً...تجويعاً...بؤساً...

صمتاً دولياً...يفْتَح أبواب جهنم...

قرارات يطلقها العالم ذو الأنياب (الإنسانية!)، يتلقفها (الابن الضال) بدهاء يعرفه (الآباء)! فتُغْلَق أفواه الرُضَعِ بالجوعِ... ويؤول الصبحُ ظلاماً في أفق الناس المُستلَبين...ويضيق خناق العيش، وتموت الناس المِعْوَزة على قارعة التاريخ المُثْخِن بالعاهات...ويَفُرُ الناس (العاقل فيهم) و(القادر منهم) بحثاً عن (وطن!) أو (لقمة عيش!) ...

(هاجر أكثر من 23 ألف باحث وطبيب ومهندس عراقي إثر انخفاض معدلات أجر الفرد إلى أكثر من الربع)!

وآخرون فيهم ينفذ عمرهم فَيَفُرون طرائد يبحثون عن قبر يأويهم في (الوطن القبر!) ... ويبقى عرش الجلاد يبيع نعوش الأطفال بأسواق الإعلام العاهر! 

ادركنا أن اغتصاب (العراق) وخنقه وقتل أهله ليس عقوبة على فعل قام به حاكم مستبد، بقدر ما هو انتقام من وجوده كشعب وكوطن لأول مهد للحضارة البشرية، (حيث وجدت بصمات بشرية تعود إلى ما قبل 120 ألف سنة) حسب تقرير لجنة حقوق الانسان العربية!

تقول السيدة (فيوليت داغر) الأمينة العامة للجنة العربية لحقوق الإنسان:

(أسقطت قوات التحالف ما بين 16 كانون الثاني و27 شباط 1991 م ما زنته أكثر من مئة ألف طن من القنابل العنقودية والنابالم ومتفجرات الوقود/الهواء وقذائف اليورانيوم الناضب. أي ما يعادل القوة التفجيرية لسبع قنابل ذرية من نوع هيروشيما، وزّعت على العراق برمته قاصفة مواقع كثيرة مرات عدة. فأجهزت العمليات العسكرية على البنى التحتية والهياكل الارتكازية للبلد من جسور وطرقات ومستشفيات وجامعات ومدارس وجوامع وكنائس وأماكن أثرية ومنشآت بريدية وهاتفية ومحطات توليد كهرباء وضخ وتصفية المياه ومصافي وآبار نفط وخطوط وعربات سكك الحديد ومحطات إذاعة وتلفزيون ومنشآت صناعية ومصانع أسمدة ومراكز تجارية ووحدات سكنية وغيره قُدّرت كلفتها بزهاء 190 مليار دولار حسب صندوق النقد العربي.

وقد ظهر فيما بعد أن النية من قصف بعض هذه الأهداف وخصوصا في مرحلة متأخرة من الحرب ليس التأثير في سير الصراع، بل إحداث أضرار تضطر بغداد لتعميرها بمساعدة أجنبية. كذلك كان أحد الأهداف هو نفط العراق وتحويل البلد إلى حالة ما قبل الصناعة كما أعلن وزير الخارجية الأمريكية "بيكر" في اجتماعه بنائب رئيس الوزراء العراقي "في النظام السابق " طارق عزيز في 9 كانون الثاني 1991 م: “سنعيدكم إلى العصر قبل الصناعي”)!

(ذكرت مجلة غالوي الأسكتلندية في 8/7/1998:

إن الإصابة بأمراض السرطان المختلفة وبخاصة سرطان الدم "اللوكيميا" لدى الأطفال في العراق قد تضاعفت بنسبة 600 بالمائة منذ عام 1991 م نتيجة استخدام أمريكا وبريطانيا اليورانيوم الناضب. وأشارت إلى أن معظم الإصابات بالسرطان وقعت لأطفال ولدوا بعد انتهاء العمليات العسكرية حيث إن غبار اليورانيوم الناضب قد لوث المياه والحقول والمزارع في العراق. كذلك لوحظ وجود تغيير في الخط الوبائي للإصابة بالأورام السرطانية كما تبين أن هناك تغيّر في الفئات العمرية المتوقعة للإصابة به وشملت فئات عمرية مبكرة منها الفئة ما بين 45 و50 سنة)!

و(الجدير بالملاحظة أن مكتب السكان الأمريكي كان قد قدر في 1992 م أن معدل عمر العراقيين قد هبط 20 سنة للرجال و11 سنة للنساء، والتلوث الإشعاعي أسهم في هذا الوضع)!

و(أبلغ العراق رسميا لجنة "العقوبات" التابعة لمجلس الأمن الدولي بإحصائيات الخسائر البشرية جراء استمرار الحصار المفروض على شعب العراق منذ أكثر من أحد عشر عاما. إن مليونا و614 ألف و303 مواطنا قد توفوا نتيجة استمرار الحصار الجائر منذ عام 1990م وحتى شهر تشرين الثاني 2001 م)!

وأوضحت الاحصائية أن من بين تلك الخسائر البشرية هنالك 667 ألف و773 وفاة للأطفال دون سن الخامسة من العمر و946 ألف و530 وفاة لمواطنين فوق سن الخامسة من العمر وجميعهم ضحايا الأمراض والاوبئة التي تعيق لجنة 661 توفير الأدوية والعقاقير الطبية لهم!

وأشارت إلى أن وفيات الأطفال دون سن الخامسة لم تكن قبل الحصار سوى حالات بسيطة سجلت عام 1989 م وفاة ما مجموعه 258 طفلا فقط)!.

خلال حكم صدام حسين) اختفى (أكثر من مائتي ألف عراقي في السجون!

وتدوم الظلمة...

"فاطمة" مازالت تبحث عن كفن لأبيها فوق سحاب الغيب... و"انا انهض من كبوتي...لأكتم نباح (القوّالين! (...لصوص الطوائف...الذين جاء بهم المحتل...الذين يَدّعون حقهم في حكم العراق وامتلاكه كغنيمة و) دِيَّةٍ!) عن (شهدائهم! (، وكأن دماء ملايين الشهداء العراقيين الآخرين لا (دِيَّةَ) لها!!!

فكتبت:

 

مَنْ مِنّا لَمْ يَدفِنَ قَتلاهُ بحَقلِ الحِنْطَةِ؟!

خَطوٌ أهيفٌ يَتوارى بين صليلِ البردِ القارصِ ...

وصريرِ الخَوفِ الغامضِ في أنفاسِ المُدُنِ المسلوبةِ ...

ورفيفٌ راعشٌ يسري ...

من أجسادِ الأطفالِ المَخنوقينَ على قارعةِ الطرقاتِ المَفجوعةِ في أحشاءِ “حلبجة" (1) ...

يُرْعدُ رَفضاً في مَدَياتِ العَدَمِ المُتشَبِّثِ بالأنفاسِ الأزليةِ ...

يَتفاقمُ موتاً في زفراتِ الأرضِ المرعوبةِ ...

****

نايٌ قرويٌ من قصبٍ ...

يَشدو عُشقاً في أحداقِ الصَخْرِ الشامخِ ...

يوقظُ في الأرضِ خصوبة!

وعيوناً دامعةً حرّى ...

ثائرةً...

تَبعثُ في النفسِ عذوبة!

هذا عصرُ الطوفانُ المُرِّ ...

أزيزُ الكلماتِ المَمنوعةِ ...

صعودُ الأصنامِ بأكفانِ الموتى لعروشِ السُلطَةِ!

****

مَنْ مِنّا لَمْ يَدفِنَ قَتلاهُ بحقلِ الحُنطةِ؟!

أو...

يُلْقي شِعراً في أعماقِ التنورِ الخامدِ كَيْ يَتأجَج؟!

****

يا نوحُ انهض باسم الخَشَبِ المُهْمَلِ ...

واصنَعْ للشعبِ سفينة ...

فـ"الثورة" (2) صارت مَسْفاةٌ للريحِ الوحشيةِ ...

هدفاً ...

للدباباتِ المحتلةِ ...

وسياراتِ (الاخوانِ) المتخومةِ بالموتِ ...

بحرَ دماءٍ يُغْرِقُ كُلَّ رضيعٍ ...

أصداءَ حنينٍ تتلاشى خلف صراخ الأبوابِ المنكوبة ...

وعَصْف الأزمنةِ الملغومةِ!

محرقةً لرغيفِ الخُبزِ الجائعِ ...

ودخاناً من (بترولٍ مُؤمِنٍ!) ...

يَكتُمُ أنفاسَ الخُدَّجِ في قَمراءِ بلادي!

حلبجه: مدينة عراقية كوردية تعرضت لهجوم كيمائي في الأيام الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية (من 16-17 مارس 1988)، حيث قصفت القوات العراقية البلدة بالغاز الكيميائي، مما أدى إلى مقتل أكثر من 5500 من سكانها المدنيين. وأصيب 7000-10000 منهم، ومات آلاف آخرون في السنة التي اعقبت الهجوم نتيجة المضاعفات الصحية وبسبب الأمراض والعيوب الخَلْقية!

الثورة: مدينة الفقراء في بغداد، وهدف متكرر لفرق الموت الجوّالة!

 

 

 

 

 

في مثل هذا اليوم:

"فاتِكْ “يفتكُ بالمتنبي مرة أخرى!؟

محمود حمد

ما أن تطأ قدم المرء مدخل (شارع المتنبي) ببغداد إلاّ وتَذَكَّرَ ما قاله المتنبي (وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ)، ونَسيَّ ما غير الشغف بالمعرفة...ولَعَنَ (فاتك بن أبي جهل الأسدي)، قاتل المتنبي مع ابنه محمد، وغلامه مُفلح سنة (354 هـ\965م) بالنعمانية غربيّ بغداد!

كلما مَرَّ يومٌ عليَّ دون (خَيْرُ جَلِيْسٍ) تَذَكَّرت مقولة (كونفوشيوس) التحذيرية:

(مهما كنت تعتقد أنك مشغول، لا بدّ أن تجد وقتًا للقراءة وإلا سَلِّمْ نفسك للجهل الذي قضيت به على نفسك)!

لم اسأل يوماً عن صديق لي صباح كل جمعة، إلاّ وأخبرني أنه في ضيافة المتنبي أو عائد منه أو ذاهب إليه، ذلك الشغف الذي لا ينقطع بالكتاب وقُرّائِهِ ومقتنييه وباعَتِهِ وأرصِفَتِهِ ورفوفِهِ المُعلَّقةِ بالكتب منذ واحد وخمسين وثلاثمئة وألف عام، رئةً معرفيةً لبغداد، وموطناً للورّاقين، وملتقى للشعراء، والروائيين والكتاب والاكاديميين والباحثين عن نصوص الثقافة وهمومها ومبدعيها ومصادرها...من مختلف الأجيال...تلتقي هناك الرؤى الرافضة لنمط الثقافة السائد، مع الأفكار التنويرية المؤسسة للثقافة منذ أيام (سوق الوَرّاقين)!

في أزمنة متعاقبة ماضية كانت (صحافة العمل السري الديمقراطي) تُطْبَعُ في أزقة الشارع... اتذكر تلك الليالي الشديدة البرودة، الحالكة الظلمة التي كنت اقطعها من شارع المتنبي إلى ذلك السكيك المنقطع، حيث تقبع تحت الأرض مطبعة عجوز تطبع الدفاتر المدرسية والمنشورات السرية، اتنفس عَبَقَ الأوراق السمراء ورائحة الحبر المُسْكِرة، اصغي إلى حديث عيون العمال الصامتين ذوي الوجوه الشاحبة المتجلدة، وحركتهم الآلية غير المنقطعة طيلة الليل حتى قبل الفجر، حيث تَغلق المطبعة أبوابها ليفتح (بائع الكُبَّةِ) دكانه عند مدخلها (ريوقاً) لبائعي الكتب والوراقين وعمال المطابع!

لم تنمحِ من أوراق ذاكرتي تلك الأيام العصيبة من شبابي، التي اختلط فيها البحث المعرفي مع السعي الحالم المغامر للإمساك بأذيال ثوب الحرية!

منذ إنشاء (شارع المتنبي) سوقاً للوَرّاقين، ورئة للثقافة، نشأت إزاءه مداخنُ خنق للثقافة، وجحورُ كراهية للكتاب، ومنابرُ تحريم للقراءة، في مفاصل السلطات القمعية وأذرعها، وفي حويصلات المجتمعات المتخلفة ومخالبها الإرهابية!

بين هوى النفس للعودة إلى (المتنبي) وإلحاح الأصدقاء عليَّ باللقاء في حضرة (المتنبي)...جاءني الخبر في الخامس من مارس 2007 فكتبت:

"فاتِكْ" يفتكُ بالمتنبي مرة أخرى!؟

استيقظ "فاتك" ذات ظلام من قبر مدروس في أكناف تخوم الأمة...

يبحث عن سيف مازالت تسري فيه دماء "المتنبي" ...

لم يبقَ السيف حديداً في قلب الصحراء...

بل صار وجيبا يخفق في أكفان "المتنبي" ...

ينبش "فاتك" كل قبور السلف الطالح ...

يبحث عن موت يعصف في أرجاء "المتنبي" ...

يأتيه المَدَدُ فِخاخاً من آبار البترول الدموية ...

خلفَ صريرِ الدبابات المحتلة!

****

"فاتك" يفتك بالكتب العُزَّل ...

و"أمير الذبّاحين" يُقَصِّلُ أعناقَ "حروف العلة" ...

في ألْسِنَةِ الأطفال المعلولة ...

فوق رصيف "المتنبي"!

حشدُ كلام مُلتَبِسٍ يتنافر من بين صفوف الكتب المحروقة ...

"هولاكو" يجلس منتفخا من فرط البهجة ...

يُسعفُهُ العونُ من الأقبية "الفقهية":

خذ غيثك من فرضِ زكاة القتل الجَمْعي لأبناءِ النهرين ...

يأتيك "الوِلْدان" سرايا ...

جُثثاً ملغومة ...

ازرعها في صدر "المتنبي"!!

****

يتساءل حرف مذبوح فوق رصيف "المتنبي":

ما سر الحقد المتوارث للكلماتِ الضوئية؟

****

(قاسم) طفل في العقد الأول...

يعرض إرث أبيه الـ.... كان رفيقا للكتب الممنوعة ...

فوق رصيف المتنبي ...

مازال الابن كسيراً تهطل عيناه هموما ...

يَنحبُ مخذولاً ...

يتوشحُ بالليل على فقدان أبيه!

****

توصيه الأم المكلومةُ ...

أن يَحذَر "أبناءَ السوءِ" ...

تُقَبِّلُ جبهتَه ...

تمسحُ هامتَه ...

وتوشوشُ ...

تَخنقُها العبراتُ:

أختك تحتاج قميصاً للمدرسة "المهجومة"!

لا تبكي يا ولدي.. لضياع الكتب المحروزة في عمر أبيك ...

أعرِفُ فيها سِرَّ أبيكَ... شواظاً َيلهبُ روحي ...

لكن يا (قاسم) هذي حكمةَ ربّ السفّاحين... وربّ المُحتلين ...

وأنت حبيبي... غَدُنا الـ يُنْسينا ضَيمَ قرونٍ!

****

وضعت أجساد الكتب الموشومة باسم الله ...

على هامات الكتب المرصوفة تحت ظلال المسجد ...

كي تحرس (قاسم) ...

تتمتم بعض دعاء المحرومين ...

وترحل ...

(قاسم) يحلم أن تأتي "العطلة" مُبْكِرَة كي "يشبع نوماً"!

وأخيه الأصغر يومئ لكتاب ...

يسأله أن يحرز كل "نصوص" الفتح العربي لسيقان النسوة ...

كي يقرأه في (يوم الجيش)!

جارتهم (سلاّمة) ابتاعت صفحاتٍ من "تفسير الأحلام!" ...

وأخبار الجِنِّ الأزرق ...

تبحثُ عن غوث يُنجيها من كابوس لِثام الليل المارق بـ "درابين الحرية"!

****

تتشظى من "فاتك" أوهام العدم الـ يطفئ لئلاء الحرف الغاضب ...

يتسلل وسط زحام المفتونين بِنَصٍ مرفوع الهامة ...

يتدافع...

يبحث عن حشد يغويه حَطيباً للنار الأزلية في صدر المُفتَرسين ...

يتقدم ...

يصطف بعنف جنب الطفل المشغول بأمه ...

يتناثر(قاسم) لحماً...أوراقاً...ودماءً!

تصرخ جدرانُ "المُتنبي" ...

تَتَطايرُ اشلاءُ الكتب المغدورة ...

تتساقطُ فيض دماءٍ ساخن ...

وعويل!

****   

نكتب عن طفل كان عظيما مثل أبيه ...

قتيلا مثل أبيه ...

نبيلا مثل أبيه ...

شجاعا مثل شمائل أمه!

فوداعا يا (قاسم)...حيث تُزارُ بقبرٍ في أطرافِ "الكوت" ...

قتيلا بقنابل "فاتك" ...

وتحت ظلال سيوف المحتلين!؟

 

 

 

حكاية ونَص...

"سومرُ" تَصْطَّفُ إلى طابورِ الأيتامِ!

محمود حمد

 

الحكاية:

في ليلة شتوية قارسة البرودة، شديدة الظلمة وجدت لي مُتَّكأً فوق عرقوب متململ من رمال الخوف عند حدود الوطن المُستباح فاتخذته ملاذاً آمناً لي من رصاص وحوش (القبائل الطائفية السياسية!) القادمين بأذيال الغزاة والباحثين عن الرؤوس المتسائلة لـ(اصطيادها)!

تتردد في ذهني مقولة عالم الآثار التاريخية (صموئيل نوح كريمر):

(التاريخ يبدأ من سومر)!

(سومر):

أرض (سيد القصب)!

في المدونات التاريخية مسميات عديدة لبلاد (سومر) ومنها:

(بلاد الملوك المتحضرين)!

تأملت من مخبئي إحدى طبعات الأختام الاسطوانية في العصر الأكدى الذي عثر عليه في مكتبة آشور بانيبال في نينوى والمحفوظ في (متحف بير غامون) في برلين...تلك الاسطورة التي يعود تاريخها إلى سلالة (ابن البستاني!) الذي صار ملكاً (سرجون الأكدى) (2334 -2279 ق.م).

ذلك الرُقُمْ الطيني الذي يحتوي على 396 سطراً، ويظهر فيه الملك (إت أنا) يَعرِجُ إلى السماء على ظهر نسر ضخم في الألف الثالث قبل الميلاد...قاصداً (عشبة) مزروعة في السماء تُشفِيه من العُقْمِ ، ويستجدي عطف الآلهة لتمنحه وريثاً للعرش، فيستجيب الإله (شمس) لدعوته و ينظر إليه بعين العطف، ويرشده إلى مكان نسر حبيس ومعلول، نبذته الآلة لِغَدرِهِ بجارِهِ...فيحرره من مَحبسه، ويشفيه من دائه، ويدربه من جديد على الطيران لقاء أن يطير به إلى السماء(الرابعة )، حيث (عشبة) الإخصاب التي تتعهدها  الآلهة (عشتار) سيدة الحب والولادة، بالرعاية والسقاية، ومنها إلى (أنو) في السماء (السابعة) كي يمنحه من صلبه (بالح) وريث العرش السومري الرابع عشر!

قرأت بإجلال أقدم أبجدية عرفها التاريخ أبدعتها البشرية على أرض سومر منذ حوالي 3200 سنة قبل الميلاد (الكتابة المسمارية) بعد أن أغنى أهل (سومر) أبجديتهم (الصورية) كأول شعب يعبر عن فكره تشكيلياً بتصوير الأشياء كأبجدية للتفكير والتعبير، قبل أن يرتقي بها إلى طور التجريد الرمزي الشبيه بالمسامير... حيث كانوا يكتبون شرائعهم وسيَّرهم وشعرهم وأدعيتهم وانتصاراتهم وأساطيرهم على ألواح طينية بأدوات مدببة كالمسامير!

اراقب وَهْنَ النسر حاملاً الملك (إت أنا) وسقوطه للأسفل من شدة الإعياء نحو اليابسة... تخفق جناحاه بقوة فجأة ممتنعة عن الاستسلام للتعب، حين يسمع النسرُ حلم (إت أنا)، كما جاء في (النص) المحفور على رُقُمٍ طيني من سفر التاريخ:

(رأيت أننا نمضي عبر بوابة "آنوا" و"إنليل" و"إيا"، هناك ركعنا معاً، أنا وأنت، ثم رأيت أننا نمضي معاً، أنا وأنت عبر بوابة "سن" و"شمس" و"أدد" و"عشتار" هناك ركعنا، أنا وأنت رأيت بيتاً فيه نافذة غير موصده دفعتها، فانفتحت وولجت إليها، فرأيت هناك فتاة مليحة الوجه مُزَيَّنَة بتاج، وهناك عرش منصوب، وتحت العرش أُسودٌ رابضةٌ مزمجزةٌ، فلما ظهرتُ لها قفزت نحوي، عند ذلك أفقتُ من نومي مذعوراً)!

اصغيت لحديث النسر السومري مع الملك (إت أنا) يأتيني كهمس من (نص مسماري) بين الرُقُمِ الطينية التي أفلتت من أيدي الهمجية عبر نوبات الخراب التي تعرضت لها بلاد ما بين النهرين!

تتسع مخيلة عقل (السومري) في الألف الرابع قبل الميلاد وهو ينظر من طبقات السماء العليا إلى الأرض...تتسع أحلامه وتتضاءل الأرض...ساعياً للتحرر من قيود المكان والزمان والصعود إلى سماء الآلهة بحثاً عن تحقيق أحلامه لإدامة سخاء الحياة!

في ذلك الزمان السومري "السحيق!" الكامن فينا... كان(السومريون) كما يؤكد المنقبون...أول من:

(اخترع الكتابة، وابتكر الدولاب، واخترع المحراث، وحَوَلوا اللّبْنْ الطيني إلى آجر بِشَيّه بالنار، وخطّطوا الترع والأقنية وحفروها بإتقان لنقل الفائض من مياه الفرات ودجلة إلى المناطق العطشى، وتميز عصرهم بتطور الزراعة وفن المعمار والأدب والأساطير ووضعوا أسس علاقة المَلِكِ بالرعية!

وابتكروا التقويم والمقاييس، فكانت سنتهم من اثني عشر شهرًا، ونظام العدّ عندهم مبنيًا على الوحدة «ستين» وعلى أساس هذه الوحدة جُعلت الساعة ستين دقيقة، والدقيقة ستين ثانية، وقُسّمت الدائرة إلى ثلاثمئة وستين درجة!

وكانت «المينا» وحدة الأوزان عندهم تنقسم كذلك إلى ستين جزءًا يدعى الواحد منها "شاقلاً"...

ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد وضع طبيب سومري لوحة دوّن عليها أكثر من اثنتي عشرة وصفة طبية لمعالجة الأمراض المختلفة، وشرح فيها كيفية استعمال الأدوية، وحدّد ما يؤخذ منها بالفم وما هو للاستعمال الخارجي. كما ذكر المواد التي تتركّب منها تلك الأدوية!

لذلك يعتبر السومريون بُناة أقدم حضارة مدنية متطورة في العالم)!

يقول د. عبد الأمير الحمداني:

(في أوروك كانت المدرسة الأولى، وأول مؤتمر ومجلس مُنتخب، وأول مؤرخ، وأول حالة  ضرائب، وأول سابقة قانونية، وأول وصف للأدوية، وأول جمعية للمزارعين، والتجربة الأولى في حدائق شجر الظل، وأول تجربة لفهم الكون والوجود، والمُثل الأخلاقية الأولى، وأولى الحِكَم والمقولات والأمثال، والأسطورة والملحمة الأولى، والمناظرة الأدبية الأولى، والحكاية الأولى للبَعِث، والحالة الأولى للاقتراض الأدبي، وأولى الأعمال البطولية للإنسان، وأول أغنية حب، وأول فهرس للمكتبة، والعصر الذهبي الأول للإنسان، والمؤثرات الأولى، وأول صور أدبية، وأول رمزية للجنس، وأول تهويدة)!

وبعد سقوط (سومر) على أيدي (القبائل السياسية الطائفية والاثنية المتوحشة عام ثلاثة وألفين وما بعدها) بعد ان اغتصبتها الدكتاتورية واستباحت كينونتها عقود مريرة...لم اجد مفراً إلاّ ان اكتب:

"سومرُ" تَصْطَّفُ إلى طابورِ الأيتامِ!

 

"سومرُ" تَصْطَّفُ إلى طابورِ الأيتامِ!

محمود حمد

حالَ ولادَتِها سألت عن اسمِ أبيها...

قالَتْ جَدّتُها:

يا “سومر" خيطي فَمَكِ المأزومِ بصمتٍ...

فوقَ صريرِ السِرِّ المَكنونِ...

فأبيكِ العاصي خَلْفَ حقولِ العَنْبَرِ...

مَطلوبٌ للسلطةِ. من عصرِ الرومانِ...

إلى "خَيمةِ صفوان" (1)!

شُدّي "الحَبْلَ العَلَنيَّ" بِكَفٍ تَغمُرُهُ الحِنّاءُ...

وامضي...

شَرقاً ومسيلِ النَهرِ...إلى قرصِ الشَمسِ!

****   

نَسَجَتْ ثوباً غَضاً مِن قَصَبِ البَرْدي...

وطَوَتْ تاجَ سنابلَ فوقَ جبينٍ أبلج!

نَزَعَتْ قَبضَةَ طينٍ حُرٍ مِن جَسَدِ الأرضِ بِوِّدٍ...

وطَلَتْ جَبْهَتَها مثلَ نساءِ "الكَحلاءِ" (2) بمقتلِ "صاحب" (3)!

خَرَجَت للنورِ بُعَيْدَ شروقِ الشمسِ...

وأصْغَتْ...

لقطيعِ طيورِ الغرنوقِ...

يَصفِقُ أجنِحَةً بالماءِ الراكدِ عِنْدَ حقولِ العنبرِ!

جَمَعَتْ ريشاً في أعقابِ الطَيْرِ المُتَخافِقِ...

أجنحةً للرِحلَةِ في ذاكرةِ الرُقُمِ الطينيةِ...

تَبحثُ عن رجلٍ يخشاهُ الإعصارُ وجُندُ المحتلِ!

****

هَمَسَتْ جَدّتُها في وجلٍ:

شُدّي للدَربِ مَتاعاً...

وذِراعاً!

****

وضَعَتْ إرثَ أبيها بينَ الأضلاعِ...

وناياً من "جُزُرِ المجنونِ" (4) دليلاً لفيافي المَجهولِ...

وبقايا بَدْرٍ مكسورٍ خَلَّفَهُ الطوفانُ على أكتافِ النَهْرِ...

مَتاعاً للرِحْلَةِ!

****   

صاحَتْ جَدّتُها:

لا تَنسي قنديلَ الأجدادِ سِراجاً لخُطوبِ الظُلمةِ...

وسَرَتْ...

ظامِئَةً تَفصِلُها عن دجلةَ قطعانُ ذئابٍ ذاتَ قرونٍ!

يا جَدّة:

الخَيرُ يُضَمِّخُ خَطواتي...فلماذا يَنْهشُنا الجوعُ ونَسكُتُ؟!

قالَتْ جَدّتُها:

تِلْكَ مَشيئةُ سُلطانُ الأرضِ المَفتونِ بِقَطْعِ الأعناقِ...

وإفتاءُ الوَعّاظينَ المَفطومينَ على قَطْعِ الأرزاقِ!

****

جالَتْ كُلَّ بلادِ النَهرينِ تُنَقِّبُ عن مسرى لأبيها...

خبرٍ يَشفيها مِن وَجَعِ الغُربَةِ!

وَقَفَتْ في ساحِ البَيْدَرِ تُحْصي "أفخاذَ" قَبيلَتِها...

تسألُهٌمْ عَن بَلَدٍ يَطمَعُ فيهِ الغَيْرُ ويَقْبِرُ أبناءَه؟!

****   

وصَلَتْ لتُخومِ الحكمةِ...

أطلالاً تَقطُنُها البومُ...

قطيعُ عناكبَ سودٍ يَنسُجُ أعشاشاً فوقَ بَصيرتِها!

قَرَأت لَوحاً من طينٍ حُرٍ عِنْدَ جِدارِ الحِكمَة المَهجورةِ...

يَروي قِصَّتَها...

قَفَزَتْ بِفُضولٍ من أحداثِ الفَصْلِ الأولِ...

لسطورِ الخاتِمَةِ المَغمورةِ بالماءِ:

مِن نَفَقٍ مُظلمٍ تَخرِجُ قِطعانٌ دونَ وجوهٍ حاملةً كِسرةَ شَمسٍ في تابوتٍ حَجَريٍّ...

تُودِعُهُ في حقلِ العنبرِ...

تُطْلِقُهُ لغيومِ كواسرَ كانت تَجثو فوقَ غيومٍ صُفرٍ...

يَتَمَلْمَلُ جوفُ التابوتِ الحَجَريِّ...

يَغدو رَجُلاً يَخشاهُ الإعصارُ وجندُ المُحتّلِ...

تأتيه حَمامة...

تَحملُ سُنبُلَةً من بستانِ القُدرًةِ...

تُلقيها للأرضِ البِكْرِ...

تكونُ بلاداً داكنةً...

خِصْباً...

وأزيزُ جَحيمٍ في جوفِ الأرضِ..

يَسْفيها القَحْطُ ويَحكُمُها المَوتُ!

تَخْطو بِثَباتٍ نَحو التابوتِ المَنهوشِ الأحشاءِ...

وتَرْنو للقَطْرِ الدَمَويِّ المُتَناثِرِ في كُلِّ الأرجاءِ...

تُمسِكُ جَدَتُها بالكَتِفِ الـ.. مازالَ طَرِياً...

تَرمُقُ ذئباً في جلدِ وزيرٍ يأتيها بصحيفٍ من قَصًبِ البَردي...

تَلمَحُ فيهِ...

وَجْهَ أبيها مَجدوعَ الأنفِ بدهليزِ جماجم...

تَتَراجَعُ "سومرُ “خاويةً في حَلَكِ الخَوفِ إلى بعضِ صَتيتٍ إنْسيٍّ خافِتٍ...

تَلمحُ جَدّتَها تتهاوى...

تَخْمَدُ...

تُطْلِقُ يَدَها...تَصْطَفُّ إلى طابورِ الأيتامِ!

 

خيمة صفوان: الخيمة التي وقع فيها قادة جيش صدام صك الاستسلام للأمريكان عام 1991.

الكحلاء: ناحية في محافظة ميسان.

صاحب: القائد الفلاحي الذي اغتيل في ستينات القرن الماضي.

جزر المجنون: أحد أكبر حقول النفط في العالم.

 

 

 

وحدة المحنة والمصير!

محمود حمد

أتوقف اليوم..

عند ظاهرة (اعلامية!) موجِعَةٍ تطال العقل قبل النفس...

كلما أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي واقترب من (التناحرات!) ولا أقول (التحاورات!) بين المختلفين وحتى بين الأصدقاء...حيث تتفشى (العصبية السياسية القبليَّة البدائية) فتفرز أنماطاً متعددة من الإدمان على (عبادة الشخصية السياسية!) والإذعان لـ(تقديس الفرد القائد!) وتدبيج المناقب الوجدانية له لتعظيمه وفرعنته، ومقابل ذلك تنفث في مشاعر الناس سموم الكراهية والاستخفاف والتحقير للأخ الآخر (الشريك في المصير والوطن والمحنة) ...

والملفت اننا نجد تلك (العصبية القبليَّة) حتى بين أولئك (المتعلمين!) الذين عاصروا (مثلنا) أجيالا من السياسيين الفاشلين (الذين نُفِخوا برياح أجنبية طامعة، أو انتفخوا بزفير التخلف المجتمعي المحلي!) وانتهوا...في خاتمة الأمر (نفاية) في جحر التاريخ المظلم، دون أن يعتبر غيرهم من:

ان هذه النهاية... قانون موضوعي حتمي نافذ على الجميع، وطريق مهلك لكل (القادة!) السياسيين.. إن ركبوا ظهر الملايين (القبليَّة ... اللا واعية سياسياً) لإستغفالهم، واستعبادهم، وسلب ثرواتهم، واستلاب إرادتهم، وتكميم ضمائرهم وعقولهم وأفواههم، والتأبد في حكمهم!!

والمثير للاستغراب...ان بعض أولئك (الأصدقاء المتعلمين!) يعيش في بلدان فرضت نواميسها الوضعية تطبيقات لـ(دور الفرد في التاريخ) وحددت صفة الحاكم في إدارة الدولة كونه محض (مدير مؤسسة خدمية) مؤتمن على مواردها البشرية والمادية والطبيعية، وليس (عبد اللاصق بن عبد المثبت!!) ...

فإن لم تكن تلك المؤسسة (الدولة، او الحزب، او الحركة، او التيار) نافعة لشعبها يُساءَلُ المدير (القائد!) أو يُعْزَلُ مع بيان أسباب عزله، وأمام ناخبيه، لإعادة التوازن لأدائها كـ (مؤسسة خدمية منتجة) وجعلها مجدية الوجود، لتجاوز خسائرها وإخفاقاتها ولكي تحظى بثقة الناخبين، وليس التشبث بالسلطة كغنيمة (ماننطيها) يتوارثها الأبناء عن الآباء ويورثونها للأحفاد، باسم (المُكوِّن)!

أما اذا تسبب ذلك (المسؤول) بسفك قطرة دم واحدة... فيحال للقضاء ليأخذ جزاءه العادل!

فيما نرى أن جماعات تفتقد حس ووعي المواطنة (تتطوع!) بحماس قَبَلِّي لشتم بعضهم بعضاً بألسنتهم، وأحيانا... تصفيتهم بـ(كواتم الصوت!)، لأن واحد فيهم تجرأ على مساءلة أو نقد (القائد التاريخي!) أو (مختار العصر!) أو (الخط الأحمر!) أو (مولانا المجاهد!) أو (حجة الإسلام!) أو (تاج الراس!) ...

مما يؤشر الى أننا نتعرض لطغيان بيئة لا معرفية (عقلية ونفسية وسلوكية بدائية متوحشة) افرزتها مرحلة ما قبل وما بعد الغزو وقيام (دولة المحاصصة) المقيتة التي جاء بها الاحتلال...

تستبد بمصائرنا تلك الجماعات المجوفة العقول التي تسوقها (زعامات!) مغلقة البصائر...موالية وعميلة للأجنبي... تعتبر خيانة الوطن مجرد (وجهة نظر!) ... مُنْتِجة للحروب وللفتن الدموية، ومصدراً لإعادة إنتاج التخلف والتطرف الذي يفرز الإرهاب...ويسفك دماء العراقيين!!

وليس لنا في هذا المقام وفي مثل هذه الايام الملتبسة...التي يحتدم فيها الصراع بين (الولاء للوطن) وبين (التبعية المُذلة للأجنبي) ... حيث طفحت على سطح الاحداث (شخصيات!) تبيع المواطن والوطن للأجنبي دون حياء...لقاء حمايته لهم من غضبة الشعب!

إلاّ ان نتذكر ما قاله المناضل (تشي جيفارا):

(إن الذي باع بلاده وخان وطنه مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه)!!!

وان ندعوا أولئك المنزلقين في هاوية الكراهية الطائفية والشوفينية القومية لقراءة ما قاله الخالدان كوران والجواهري..

يقول الشاعر العراقي الخالد / عبد الله كوران:

آه أخي العربيٍ

كم من عباءة

كم من لبـّاد

مزقـْنا

آنَ كنا نعمل بالسخرة للظالمين

آه كم مسحنا العرق من جباهنا

ونحن مثقلون بالأحمال

أخي العربي

ياذا العينين السوداوين

مـُرّاً كان نصيبك

مُـرّاً كان نصيبي

قد جرعنا المرارة من كأس واحدة

فاضحت أخوتنا عسلاً شهيـّا

......

ويقول الشاعر العراقي الخالد / الجواهري:

قلبي لكردستان يُهدى والـــفم

ولقد يجود بأصـغـريـه الـمـعـُـدم

ودمي وإن لم يـُبـِق في جسمي دمـــا

غـرثى جـراح من دمائي تـطــعـم

يا بن الشمال ولستَ وحــدك إنـَّه

جـسـدٌ بـكلَّ ضــلـوعـه يــتألمُ

عانى وإيـاكَ الشـدائـد لم تــَلِـنْ

منه قـناة كلَّ يـوم تـُعجـَمُ

يا أيها الجبل الأشم تــجـِلـٌة

ومــقــالة هـي والـتجلٌة توأمُ

شعب دعائمه الجمـــاجم والــدمُ

تـتـحـطـم الدنـيا ولا يتحـَطـٌـمُ.

 

 

حكاية ونَص...

محمود حمد

الحكاية:

في منتصف الثمانينات وفي مكتب مجلة (دنيا العرب) بدمشق قال الكاتب والروائي الفلسطيني (محمد ابو عزة) سكرتير تحرير المجلة:

(في ضميري (مشهد) لم يغب عنه، ولابد ان ارويه، ولكن ليس في سورية، لان الامر يتعلق بحقبة من تاريخ البعث، وان كان الامر يتعلق بالبعث العراقي.

المشهد يعود الى العام 1963 وتحديدا في الأيام الاولى بعد انقلاب 8 شباط...

كنت ضمن طاقم الحرس القومي في مديرية الامن العامة، ومن بيننا مجموعة من العرب و

الفلسطينيين تحديدا، ولاسيما بعض ممن اصبح في الخط الاول من قيادات منظمة التحرير ضمن حركة القوميين العرب، كـ “أبي علي مصطفى" الذي قال يوما، بأنه يود لو يقطع يده التي ساهمت في تعذيب الشيوعيين والمناضلين العراقيين في تلك الفترة.

وفي نهار يوم كان لدينا ضيف "دسم" اقمنا له "وليمة دسمة" هي الاخرى من صنوف التعذيب والهتك الجسدي والنفسي على مدى ساعات.

(الضيف) كان "سلام عادل" السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي.

كانت طاقتنا على الابداع في التعذيب والقهر لا توصف، وكانت طاقته هو على الصمود والتماسك لا توصف أيضا...

وحين بدا ان الرجل في طريقه الى النهاية الاكيدة، جاءتنا اوامر بالإبقاء على الرجل، لان شخصية مهمة في الطريق الينا.

ولم تكن تلك الشخصية سوى "علي صالح السعدي" وزير الداخلية والامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي.

وفي "صالون ابداعنا" بدا المشهد طويلا، حين وقف السعدي يحدق في "سلام عادل" الذي لم يبد انه على وشك الإنطفاء بعد.

ثم قال "السعدي" مقربا فمه من “سلام عادل" :

"انت منتهي وليس عليك الا الاعتراف".

ثم كرر طلبه غير مرة، وفجأة رفع "سلام عادل" رأسه وحدق في وجه "السعدي" طويلا، ثم قال بكلمات متقطعة، ولكن واضحة ومفهومة:

انت سكرتير حزب يفترض انه من ضمن احزاب التحرر، وتطلب مني انا سكرتير حزب شيوعي ان اعترف.. انت لست اكثر من شرطي مثل هؤلاء.

ثم سكت "سلام عادل" لحظات، وبدا وكأنه يستجمع قواه مرة اخرى، ثم فجأة بصق في وجه السعدي بصقة يخالطها الدم...

لم يبد من السعدي للحظات اي رد فعل سوى ان يمسح البصقة، وبدت منه حركة واشارات عصبية فهمنا المقصود منها:

اجهزوا على الرجل.

ولا اريد ان اسهب في كيفية اجهازنا عليه، ولكن الامر بدا وكأنه قريب من نهاية واستشهاد الكثير من الرموز التاريخية العظيمة).

وبين اعتقال (سلام عادل) في 19 شباط واستشهاده في 23 شباط... يقول (أمين هويدي) أول سفير لمصر بعد الانقلاب:

(إن وفداً "من الانقلابيين" برئاسة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية علي صالح السعدي سافر يوم 21 شباط للقاء جمال عبد الناصر، وضم الوفد عبد الستار الدوري "مدير عام الإذاعة والتلفزيون"، وطالب شبيب "وزير الخارجية" وصالح مهدي عمّاش "وزير الدفاع" وفؤاد عارف "وزير الدولة" وحردان التكريتي "آمر القوة الجوية" وخالد مكي الهاشمي "آمر الدبابات"، ومعهم وفد شعبي ضم "حسين جميل" و"جلال الطالباني" و"أديب الجادر" و"عبدالله سلّوم السامرائي")!

وجاء في كتاب (سلام عادل.. سيرة مناضل) بقلم "ثمينة ناجي يوسف “و"نزار خالد":

(إنه بعد تعذيبه " تغَيَّرَ جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه. فقد فُقِئَت عيناه، وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنه، ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين، ورش الملح والفلفل فوق جسده المدمى لزيادة آلامه، وبقي على هذه الحالة في سرداب تغطي أرضه المياه القذرة والحشرات، ويعلو فيه أنين المعتقلين وهذيانهم وحشرجات الموت، حتى لفظ انفاسه")!

ونحن لن ننسى الثالث والعشرون من شباط 1963...كي لا نسمح لـ(البغاة من كل لون!) ان يعيدوا الكرة مع أي (انسان) بسبب فكره او معتقده او انتمائه السياسي...

وبعد مرور 60 عاماً على تلك الجريمة...كان لابد لي ان استذكر تلك الأيام العصيبة لأكتب:

بركة الدم... 23 شباط 1963؟!

في تلكَ الليلة كُنّا جوقةُ فتيانٍ مرصوفين إلى جدرانِ الرملِ الباردِ...

جاءت غيمةُ أشباحٍ دون رؤوسٍ في أعقابِ كثيب الدخان الأسود...

دارَتْ موتاً حول الآثار المسفية للأقدام العريانة...

قطعوا عَنّا مَديات الرؤية...

قبرونا في جوف الليل الأخرس...

وقفوا في طابور يمتد من الأنفاس المقموعة...

حتى الفوهات "العربية"(1)!

****   

سألونا عن أسماء الحفّارين لقبر السلطة...فأجبنا:

"منشورٌ" يتلألأُ في أعمدة الظُلمة...

رجلٍ فارعٍ من حارات النجف المأسورةِ (2)...

استفهاماتٌ تتشظى في الطرقات...

حشودٌ للرفض الصاخبِ...

لهيبُ دموعٍ يحرق أصنام السلطة التبنية!

قالو دون صتيت:

(جئنا كي نبقى) عَدَماً...في أرض النهرين!!!

صَدقوا ما قالوا...

للساعةِ تَدوي مَطحنةُ الموتِ العَبَثي المتفاقمِ...

في ارجاء الوطن المسلوب!

_______________________________

(1) العربية: إشارة إلى رشاشات "بور سعيد" التي استخدمها الانقلابيون في ذبح الوطن وأبنائه.

(2) الشهيد سلام عادل.

 

 

 

 

لا يُنقذ (الدينار)

ما يُفسده (الاطار)!!

 

محمود حمد

 

في محاولة (المتحاصصين المتناحرين) التشبث بالسلطة ...ومن اجل الإبقاء على حكومتهم العرجاء...للحفاظ على امتيازاتهم ومغانمهم، والتستر على مفاسدهم... يتسابقون لتقديم تنازلات للجانب الأمريكي تفوق ما تم الإذعان له في (اتفاقية الاطار الاستراتيجي) التي وقعها (نوري المالكي) مع الجانب الأمريكي عام 2011 ...

بعد ان رفضت وزارة الخزانة الامريكية اعطاءهم (عطوة!)، لعدة اشهر لكي يتمكنوا من سرقة ما بقي في خزانة الدولة العراقية من مليارات الدولارات!

وان الوفد العراقي المفاوض (رغم ذلك!) تم تخويله من قبل (الاطار التنسيقي!) للموافقة على تلك الشروط الامريكية التي تستهدف (من بين شروط أخرى) الاستغناء عن شراء الغاز الإيراني والربط الكهربائي معها، واستبداله بـ:

الاستثمار بالغاز العراقي المصاحب من قبل شركة جنرال الكتريك وحلفائها...

والربط الكهربائي بدول مجلس التعاون العربي...

إضافة الى ابعاد قواعد الميليشيات ونشاطاتها عن التواجد الأمريكي في العراق (دون حلها ونزع سلاحها!).

في ظل تفاعلات رسالة أعضاء الكونغرس (الجمهورين) الى الرئيس بايدن ذات الأسئلة الثلاثة عشر بشأن العلاقة بين (قيادات الاطار التنسيقي) والحكومة العراقية من جهة، والنظام الإيراني من جهة أخرى، التي تضمنت توجيه اتهامات بالفساد والإرهاب لاهم قيادات (الاطار)، وحدد يوم 24 من هذا الشهر كحد اقصى لرد الرئيس بايدن عليها!

والملفت ان المفاوضات مع الجانب العراقي جرت بحضور فاعل للسفيـــرة (آلينـــا رومانوسكي)... بحيث وصلت بأحد كتاب (الاطار) القول منفعلاً:

سيسجل التاريخ:

(ان المرأة الحديدية رومانوسكي هي التي انهت خرافة المقاومة)!

وان من بين ما تم التوقيع عليه بين الوفدين في واشنطن:

(الاتفاق مع بنك موركان لإدارة التحويلات العراقية الى الصين)!

و(الاتفاق مع شركة جنرال الكتريك لـ “إدارة" ملف الطاقة في العراق)، الذي رعته السفيرة رومانوسكي في احتفال ببغداد... حتى قبل ان يعود كامل الوفد من واشنطن!

و(غردت!) خلاله:

(بناء على زخم العمل للوفد العراقي احضر انا ورئيس وزراء العراق لتوقيع اتفاقية ستساعد على تحقيق نتائج مرجوة لنظام كهربائي على مستوى عالمي يستحقه العراقيون!)

علماً ان هذه الاتفاقية مع شركة جنرال الكتريك هي الاتفاقية السادسة وبمليارات الدولارات التي يوقعها رؤساء الحكومات في العراق مع هذه الشركة الامريكية، ابتداءً من الاتفاقية التي وقعها نوري المالكي عام 2008 / ومن ثم الاتفاقية التي وقعها في نفس العام 2008/ واتفاقية في عام 2016/واتفاقية في عام2017/واتفاقية في عام 2018...

وجاء هذا التوقيع بعد اقل من أسبوعين من توقيع رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني على مذكرة تفاهم مع شركة سيمنس الألمانية في برلين لذات الغرض!

ان جميع المدركين لازمة النظام العميقة... يعلمون انها لا تكمن في الاتفاقيات التي يتم توقيعها...

بل في:

فساد الحكومات العراقية المتعاقبة التي شكلها المتحاصصون...

وبانعدام الامن للمستثمرين...

وبتفسخ سلطتهم التي لا يكمن الوثوق بالاتفاق معها ...

هذه (السلطة الفاشلة) التي تعجز عن تبرير بقائها!

لان الحتمية التاريخية لزوال اية سلطة تتجلى في:

عجز تلك السلطة عن تبرير بقائها نتيجة إخفاقها في أداء دورها في تأمين سيادة الوطن وحماية حياة وكرامة المواطن.

فشلها في إيجاد الذرائع لإطالة عمرها تحت وطأة أزماتها الداخلية وتخبطها بتداعيات الازمات الخارجية المرتدة اليها.

انفضاح شعاراتها التضليلية بفعل انقضاء زمن وعودها.

اهتراء خرافاتها التجهيلية بعد تنامي الوعي الوطني المدني.

انكسار شوكة دعواتها الطائفية والعرقية إثر انفضاح مفاسدها.

انكفاء أصواتها الاستعلائية الاستفزازية الصلفة بفعل تعالي صوت الحشود الواضح الموحد الصادر عن كل الطبقات والفئات الواعية رغم حرمان تلك الطبقات بسبب مفاسد السلطة.

انفضاض الرُعاة والحُماة الإقليميين والدوليين من حولها إثر تسرب المياه الى داخل سفينتها المنخورة!

تقافز الانتهازيين من تلك السفينة بحثاً عن (جبل شعبي) يعصمهم من الغرق!

تخلي (الزعامات الدينية) في العلن عنهم...وهي الزعامات التي يلتاذون بظلها ويسرقون باسمها ويضللون بسطاء الناس بدعوى الوقوف خلفها!

الفشل في اشغال ملايين الناس بالأزمات الموضوعية او المفتعلة المتعاقبة، كأزمة (الدولار)!

ويبقى السؤال الأهم..

هل يكفي عجز السلطة عن تبرير وجودها سبباً لاختفائها؟

كلا قطعاً..

بل ان (انتهاء دورها) يحتاج الى نضج الظروف الذاتية لـ(التغيير)، وليس (الاصلاح)..

(الاصلاح) هذه المفردة المجوفة الخادعة، التي لم يبقَ نظام فاسد او مستبد في التاريخ والجغرافيا ...إلاّ أن رفعها عندما تضيِّق الجماهير عليه الخناق!

والمواطن البسيط والباحث الاستقصائي على حد سواء يعرفون...ان:

(أزمة نظام المحاصصة الذي جاءت به أمريكا وترعاه وتحميه ايران...هي ازمة عميقة وموضوعية لنظام حكم ـ طائفي عرقي ـ يتناقض مع خصائص الشعب واحتياجاته، وأثبت عجزة عن حماية الانسان والارض) ناهيك عن اخفاقه في ترميم نفسه...خلال عشرين عاماً...

دون ان نغفل دور المحاولات التي يقوم بها التنفيذيون المخلصون في المؤسسات، للإبقاء على استمرارية تردد انفاس الدولة المتقطعة، رغم احباطاتهم بفعل محاصرة عصابات (اللا دولة!) لهم في مواقع عملهم وميادين نشاطاتهم!

 وهذه هي القضية..

وليست (مجموعة خدمات تلكأ الحكام في تلبيتها) ...

كما يريدون ان يوهموا اليائسين من العراقيين!

او انها محض (ازمة طارئة يتعرض لها الدينار العراقي)!

الازمة التي (عالجوها!) بتخفيض قيمة الدولار الى 1300 دينار للدولار الواحد، وهو يباع في سوقهم السوداء بـ(1500) مما زاد من أرباح الفاسدين المستفيدين من فارق سعر العملة بين البيع الحكومي والبيع في سوقهم الموازية!

لأن في ذلك تسطيح لطبيعة الازمة وتجويف لجوهرها...

وفي نفس الوقت تكبيل للإرادة الشعبية المندفعة لإحداث تغيير يعالج جذور الازمة وليس ترقيع إفرازاتها فحسب!

لأن تلك (الافرازات الفاسدة) لا يمكن معالجتها بذات العقول المتخلفة والايدي السَلاّبة التي صنعتها!

 

حكاية ونَص...

محمود حمد

الحكاية:

كلما أمسك قلمي لارتحل بالخطوط ولتأخذني معها، اكون قد لامست مقصدي فيما ارسمه خلاف ما يراه الرائي، إنها ليست تعبيراً عن الأشكال والحركة والمتعارضات والتشابكات فحسب، بل أن ما احمله في روحي ورفقتي للخطوط هو التعبير عن الطاقة الكامنة في الأشياء لا أشكالها الظاهرة على سطح اللوحة، فانا شغوف بأن يشاركني الرائي الإحساس بتلك الطاقة غير المرئية، والتفاعل معها لإدراك بواطن الظواهر المرئية على سطح اللوحة.

فشعوري بأن الخط يأخذني بسحره إلى أسرار ما ابتغيه، يفوق إحساسي بأنه متحكم برحلة الخط على سطح اللوحة الصقيل، فانا اشعر بأن وراء الخط الرشيق نوافذ لا منتهية من التَفَكُّرِ، ومديات واسعة للخيال، وشغف متعاظم بقدرة الحلم الأزلي للعقل على الامتداد إلى الأبدية!

عندما يلامس القلم الورقة لرسم (الشفة) مثلاً، لا استطيع إلاّ أن ابتسم لطاقة البهجة الكامنة في الشفاه المرسومة على اللوحة، وعندما ارسم نخلة شاخصة، لا استطيع إلاّ أن اشعر بالحزن لانطفاء طاقة الأنين عند الحلاج مصلوباً عليها، وعندما ارسم تشابكاً للخطوط اللاّ منتهية المديات، لا يمكن إلاّ أن اسمع طاقة صراخ المكبّلين خلف القضبان!

منذ ان قرأت ما قاله الحسين بن منصور الحلاج:

(النقطة أصل كل خط، والخط كلَّه نقطٌ مجتمعةٌ، فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليلٌ على تجلّي الحق من كل ما يُشاهَد وترائيه عن كل ما يُعايَن)!

عرفت أن ما يشعرون به في زمانهم المرير مثل زماننا، كان قد تحدث به الحسين بن منصور الحلاج قبل صلبه في 26 مارس سنة 922م، وقبل أن يُلقى في السجن تسع سنوات بتهمة الزندقة والكفر!

ثم يُقضى عليه بالقتل من قبل القاضي أبو عمر المالكي، ويأمر الخليفة المقتدر بإنفاذ الحكم!

فأُخرج "الحلاّج" من سجنه، وتم جلده ألف جلدة، ولما لم يمت قُطِعَت يده، ثم رجله، ثم رجله الأُخرى، ثم يده، وضربت عنقه، دون أن يتأوه، وأحرقت جثته، ولما صار رماداً ذري الرماد في نهر دجله!

وعُلِّقت رأسه وبجوارها يداه ورجلاه على سور السجن ليكون عبرة لمن يَتَفَكَّرْ!

سمعت حينها في آخر الليل طرقاً خفيفاً على النافذة وهمساً لم اعهده من قبل، وكأن الحلاج يستدعيني أو أنه يستنهضني لإخراجي من أسْر (النصوص المقدسة!) الملغومة بالإفناء والفناء!

فشعرت بقشعريرة تسري في بدني، وعاودت علي نوبة الحمى، فاستعنت بدفتري عليها وكتبت (النص):

 

قَتلةُ الحلاجِ!

محمود حمد

نحنُ في دولةٍ تَبيضُ غِربانَها جراداً...

يأكلُ الخيرَ والنُشوءَ...

يكبتُ الدفقَ في شرايينِ الرفضِ!

نحنُ من قومٍ يغرسونَ النَخْلَ كي يُصلبَ عليه "الحلاج...

والتِبغَ لفقء العيونِ بالسجائرِ!

والكَرْمَ لِرَجْمِنا خارِجَ الفردوسِ!

والقَمْحَ لاختبار صَبرنا على الجوعِ!

نحن من مدنٍ حافيةٍ يقطنُها السيّافونَ...

والطرقِ الموبوءةِ بالقحطِ...

حتى صارتْ ترسانةَ خوفٍ...

غابةَ موتٍ...

كمائنَ خطفٍ...

أمراءً للظلمةِ...

"مفسدةً" للمحتلينَ!

****

 لكنهم...

كُلَّما أشعلوا فينا ناراً...

أوقدنا فيهم عاراً!

وكُلَّما جعلوا أوطاننا توابيتاً فولاذيةً...

جَعلنا عُروشَهُم شواظاً متأججا!

****

كُلُّ اطوارِ بَطشِهِم عَجَزَتْ عن اقصاءِ:

فِكرِنا عن ضميرٍ يشحذهُ الجوعُ...

وروحِنا عن ارتشاف الشروقِ من حَلَكِ الظلمةِ...

وشفاهِنا عن تقديسِ الطفولةِ...

وعيونِنا عن وجهِ من نُحِبُ!

****

أنْبَثِقُ من رُفاتي. صاريةً...كُلَّما اقترب جُرحُكُم من جُرحي...

نَستحيلُ فَناراً...في حَلَكِ الهزائمِ، وحروب الطغاةِ!

نتبادلُ:

الجروحَ في مواسمِ القَصْلِ المتواترةِ...

والأوطانَ في دهورِ الغربةِ...

والأسماءَ في اللقاءاتِ الممنوعةِ...

والغيظَ في صحوةِ الشوارعِ...

والكلماتَ الخصبةَ في أزمنةِ الخطب المكرورةِ!

***

وطني...

كلماتٌ يألفُها الفقراءُ...

أقدامٌ عاريةٌ تنزفُ من مروحةِ الجلادِ...

أعناقٌ شاخصةٌ تَلْوي نَصْلَ السيفِ الأموي...

جوقةُ صبيانٍ عابرةٍ تَبصِقُ في وجهِ المُحتّلِ...

امرأةٌ ترفعُ هامَتَها في وجهِ الحُجُبِ السوداءَ...

لوحةُ فنانٍ ضاعتْ أخباره...

فلاحٌ يصنعُ من زهرةِ قطن فجراً...كي لا يقحم في وطنٍ من أسفلتٍ!

***

من الشرفاتِ المُطِلَّةِ على روحي...

أرمِقَكُم رفضاً وشروقاً...أنّا كُنتُم يا فقراءَ العالمِ في:

أقبيةِ التعذيبِ "الوطنيةِ"...

ساحاتِ الإذلالِ "الدولية"...

شِراكِ الإحباطِ "الثوريةِ"...

وَحْلِ هزائمنِا "التاريخيةِ"...

قبورِ الحرمانِ "القرويةِ"...

فصولِ الدرسِ "الجوفاء"!

 

لا تنتهي (الاشنات)

الا بتطهير الجسد من التعفن!

محمود حمد

 

في مرحلة تهرئ (دولة المحاصصة) وتعفن حاضنتها الاجتماعية تطفح على قشرتها بالضرورة (أشنات) قذرة، تطلق روائح كريهة و(محتوى هابط!)!

ومعالجة افرازات (الاشنات) لا تتم الا بالقضاء على التعفن في (محتوى) الطبقة السياسية التي افرزتها، وبتفكيك طبقتها الاجتماعية الفاسدة الراعية والمغذية لها...

لان تلك (الاشنات) الطافحة على قشرة النظام السياسي والاجتماعي الفاسد هي نتيجة طبيعية لنهج المتحاصصين على امتداد عشرين سنة...تميز بـ:

احتقار العقل بإشاعة الخرافات...

وازدراء العلم بتعظيم الجهل ...

والخصومة المتوارثة مع الثقافة والفن...

وتهميش التعليم بوضع الاميين على رأس المؤسسات التعليمية...

وامتهان مكانة المرأة واعتبارها محض(أمَة) تشبع شهواتهم...

وإشاعة الغرائزية وشرعنتها في المجتمع وتغذيتها باللصوصية المقننة!

وفوق كل ذلك...

الاستخفاف بمكانة (الانسان)وحقوقه وحرياته وكرامته... في عقائدهم، وسلوكهم، واجراءاتهم، وممارساتهم!

فان يقول (معمم!) على الملأ وفي وسائل الاعلام:

(السافرات عاهرات!)

هذا بمنهجهم ليس بـ(محتوى هابط!) ...

رغم ان طاولة مجلس الوزراء تجلس حولها (وزيرات سافرات) ...

وفي مجلس النواب تأخذ (النساء السافرات) المنتخبات مقاعدهن...

وتدير مؤسسات الدولة العليا والمتوسطة والدنيا (نساء سافرات) يسفرن عن عقولهن للإبقاء على ما تبقى من انفاس الدولة...

وفي مجتمعنا (الملايين من النساء السافرات المبدعات) من امهاتنا وزوجاتنا وبناتنا...

كل ذلك لم يحرك دعوى على صاحب ذلك القول العدواني اللا اخلاقي!

لذلك من الحكمة الانتباه الى ان اثارة هذه (الزوبعة المفتعلة) في هذا الوقت العصيب الذي يمر به شعبنا... تهدف الى اشغال عقول الناس بدخان يبعدهم عن رؤية الازمات الحقيقية الهيكلية والوجودية لنظام المحاصصة!

والحذر كل الحذر...من أن تكون ذريعة (المحتوى الهابط!) سلاحاً مشرعاً لقمع حرية الرأي والتعبير، ينزل على رقاب كل من يفضح الفاسدين من المتحاصصين!

وهي محاولة بائسة لتقزيم أزمات النظام بإثارة الصخب على سلوكيات بعض (الاشخاص) الذين صنعوهم هم بأنفسهم لتلبية نزواتهم البدائية!

ويكفيهم عاراً ان اولئك (الاشخاص) أصحاب (المحتوى الهابط) يعلنون صراحة في وسائل الاعلام مدى رعاية واحتضان المتنفذين في السلطة لهم...

ودون ان نسمع (وسط هذا الضجيج!) عن اعتقال واحد من أولئك الرعاة والحماة الغرائزيين (الميامين!).

مع التأكيد على ازدرائنا لتلك السلوكيات والمظاهر الخادشة لمكانة المرأة ولنقاء الطفولة ولقيم الاسرة والمجتمع!

 

 

إيقاف نزيف المليارات المنهوبة

...وليس النفخ بالقربة المثقوبة...

ايها المتحاصصون!

محمود حمد

يتابع العراقيون بقلق تدهور قيمة العملة المحلية (الدينار) وارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل خانق لملايين العراقيين...

ولصوص (إدارة الدولة) يطرقون الأبواب الامريكية والنوافذ العربية والكهوف الإيرانية بحثاً عن مغيث ينقذهم من انزلاقهم نحو الهاوية وانفضاح امرهم!

بعد ان بدأت (لعبة الدولار العاصفة!) تزيح ورقة التوت اليابسة عن عورتهم...وصاروا يتبادلون في العلن التهم ويلقون اللوم تارة على شركائهم في السرقة وأخرى يلومون انفسهم لذر الرماد في العيون...

بل صاروا يجاهرون بالاحتماء بأمريكا (الشيطان الأكبر!) من غضب الشعب، الذي يعدونه (الشيطان الأصغر) في عقيدتهم، بعد ان استباحوا الدماء والأموال والسيادة باسم (مقاومة الاحتلال الأمريكي)!

واليوم...

يتسابق (الاطاريون) والمتورطون معهم...الى كسب رضا العم سام...

فمنهم من تملق بإذلال للسفيرة (آلينـــا رومانوسكي) لائذاً في ظلها للاستقواء بها على شركائه...

وآخرون هرولوا لاهثين يحجون للخزانة الامريكية لاستباق غيرهم في تقديم ولاء الطاعة لسيد البيت الأبيض...

وآخرون ممن بحت أصواتهم في وسائل الاعلام (الموت لأمريكا!) ابتلعوا السنتهم...

وبعضهم ممن احترف استبدال قناع التزلف طالت السنتهم بسيل الذرائع المفضوحة...مرددين (هذا من مصلحة الشعب!) ...

وفي نفس الوقت يمسك (الرعاة الإيرانيون) بـ(صنائعهم من عراقيي الجنسية!) من حناجرهم، بعد ان مسخوا عقولهم، واستلبوا ارادتهم الوطنية منهم، واحالوهم الى مجرد (حرامية بيت!) ... ينهبون مئات مليارات الدولارات من افواه العراقيين ويهربونها الى ايران، ويشيعون الجوع في بطون العراقيين والخوف في قلوبهم واليأس في نفوسهم!

ويخرج علينا الناطقون باسم لصوص (دولة المحاصصة) في وسائل الاعلام، يبشرون العراقيين بـ(التفاهم!) السري (غير المفهوم!) مع الخزانة الامريكية، خلافاً لما تعلنه الخزانة الامريكية والبنك الفيدرالي الأمريكي والسفيرة (آلينـــا رومانوسكي) وهو:

الزامية تجفيف منابع تمويل الإرهاب وغسيل الأموال التي تصب بمعظمها في خزائن ايران وجيوب حلفائها وصنائعها في المنطقة!

بل ان الأولوية التي اعلنها وزير الخارجية الأمريكي هي:

اولاً: استخدام الطاقة في الصراع الاستراتيجي مع روسيا والصين، وخاصة في قطاع (الغاز المصاحب) بعد ان فُرِض الانسحاب على شركة توتال الفرنسية من هذا القطاع بما فيه صناعة الطاقة المتجددة!

ثانياً: هو خطر (التغير المناخي في العراق) الذي ترافق الحديث عنه مع نشر وثيقة سرية صادرة من (المجلس الأمني الاستخباري الأمريكي) تتحدث عن خطر وجودي (في قطاعات الغذاء والصحة والمياه، مع انخفاض الحاجة للوقود الاحفوري "المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في العراق"!) مما يهدد الامن القومي العراقي نتيجة التغير المناخي بحلول عام 2040!

(حسب الوثيقة التي تلقتها وزارة الخارجية العراقية من السفارة العراقية بواشنطن).

ولم تظهر اية إشارة أمريكية الى تخفيف الضغط على سعر صرف الدولار الذي يدعي بها الناطقون باسم دولة المحاصصة...

ولكن...في هذه الظروف العصيبة:

فان اليأس عندما يكون خانقاً... يكون بعض الناس مستعدون للاستسلام لكل (وَهْمٍ) بانه الخلاص!

لهذا نجد عدد غير قليل ممن يوهمون النفس بان ما تقوم به حكومة (الاطار التنسيقي)، هو انقاذ من الغرق وتصويب للمسار، دون ان يدركوا ان تلك الإجراءات محض (رقعة صغيرة متهتكة لفتق كبير متسع!) ...

ويجب ان يدرك الجميع ان:

في (لعبة إدارة الدولار بالسوق العراقية) ان لا سلطة للحكومة العراقية عليها او دور لها...سوى الإذعان للإرادة الامريكية!

لان الدولار عملة امريكية وهو العمود الفقري للاقتصاد الرأسمالي الأمريكي والعالمي...

وان مئات مليات الدولارات المستحصلة من بيع النفط العراقي تُحْتَجز في البنك الفدرالي الأمريكي، وهو من يقرر كمية الدولارات التي ستُرسل للبنك المركزي العراق ولا سيادة للعراق عليها...وليس الحكومة العراقية!

فلذلك ان جميع (التفاهمات!) التي يروجون لها، لا تمس الإجراءات التي اتخذتها أمريكا في اطار صراعها الاستراتيجي مع روسيا والصين وايران وحلفائهم المشمولين بالعقوبات الاقتصادية الامريكية...

وقرار تخفيض قيمة الدولار من قبل الحكومة العراقية اجراء ينم عن تضليل للشعب، لان الفترة المقبلة ماتزال غامضة بشأن مستقبل سعر صرف الدولار اذا ما أبقى البنك الفيدرالي الأمريكي على نظام سويفت الذي يحد بالضرورة من حجم الدولارات المحولة للبنك المركزي العراقي، لان حجم الدولارات المحولة ستحدده الحاجة الفعلية للسوق العراقية وليس ما يقرره اللصوص الدوليون والمحليون!

وخاصة بعد ان تولى (مصرف جي بي مورغان) الأمريكي إدارة الأموال العراقية مع الصين!

كما جاء في بيان للمكتب الإعلامي للبنك المركزي العراقي:

(تم الاتفاق على قيام مصرف جي بي مورغان بتسهيل المدفوعات من النظام المصرفي العراقي إلى جمهورية الصين الشعبية لتمويل استيرادات القطاع الخاص بشكل مباشر)!

وأشار إلى:

أن (البنك المركزي العراقي ملتزم بتطبيق المعايير الدولية في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب)!

وهو نهج سيتبع مع المتعاملين الأساسيين بالدولار مع العراق...

ولكي نحلل هذه (الكارثة) البنيوية التاريخية يجب تحديدها اولاً... وتحديد (أسبابها) وتحديد (المسؤول) عن نشوئها وتناسلها وتفاقمها...

لهذا يجب منذ البدء ان يكون واضحا لنا وللشعب ولكم (أيها اللصوص المتحاصصون بالغنائم من قوت الشعب) ...إن:

الأزمة من صناعة عقولكم المجوفة وايديكم الجشعة...وليس الشعب مسؤول عنها؟

لأن:

دولتكم (دولة المحاصصة) هي الفاشلة وليست الكفاءات الوطنية العراقية هي الفاشلة؟

ولأنكم:

انتم من شرعتم (ومازلتم) نهب المليارات لعصاباتكم، باقتسام ثروات الشعب وموارده فيما بينكم منذ الغزو سنة 2003، كغنائم بين لصوص متحاصصين (منتصرين...لا على الدكتاتورية، بل على الشعب...تحت ظلال سيوف الغزاة!)

انتم من أفسدتم (الوظيفة العامة) بالامتيازات (السلطانية!) لمواليكم الجهلة والاميين...وليس ملايين الموظفين الكفوئين والمخلصين الذين افنوا اعمارهم كي تتراكم دراهم الراتب الشحيح (في كل الانظمة) لسد إملاق عوائلهم؟

 انتم من كرستم فساد القضاء بتسييسه وجعله ذراعا جائرَ بيد كبار فاسديكم ومفسديكم!

. انتم من أغلق أفق حياة العراقيين ومدنهم بـ(إمبراطوريات امرائكم اللصوص) المعشعشة في عروق ومفاصل الدولة والمجتمع والحياة... التي تستنزف لقمة عيش وموارد العراقيين وكرامتهم ... باسم الدين والإثنية؟

 انتم من عطلتم الحياة وكبلتم العقول بدولتكم المتخلفة الفاسدة (دولة المحاصصة) فاندثرت الموارد وشوهت العلاقات الاجتماعية بادران التخلف ونيران الكراهية...وليس نمط حياة العراقيين المتمدن وعقولهم التي تتألق حيثما تحط في أرض الوطن او ديار الغربة؟

انتم من هدمتم اسوار الوطن لجيوش الإرهابيين من كل بقاع العالم، بذيليتكم للمحتلين من الافرنج والعجم...وليست قوى الشعب الوطنية الواعية التي توارثت مقاومة الاستعباد!  

انتم من ألغى حواجز السوق العراقية كي تستبيحها أردأ البضائع من اسواق اسيادكم ...لتدمير المنتج الوطني العراقي (الصناعي والزراعي والتجاري والخدمي)!  

انتم من رهنتم اقتصاد العراق لاقتصاديات وبنوك الدول الرأسمالية الإستحواذية والاقطاعية الاستلابية...وليست القوى المنتجة الوطنية العراقية التي تريدون استلاب ما إدخرته بعرق جبينها ودموع اطفالها على مدى عقود من الزمن!  

انتم من أعاد هيمنة الشركات النفطية المستغلة على ثرواتنا النفطية في الحاضر ومَكَّنها من المستقبل...وليست أجيالنا التي يعصف بها الحر والقر في مدارس الطين بالعراء...او أجيالنا التي لم تولد بعد وتنتظرها ديون مفاسدكم لتبدد حياتهم بالعوز!

انتم من ابتدعتم مافيات (محصنة من المساءلة القانونية ومدججة بالجشع والتخلف والتسلح والارهاب) ...لخنق الحريات ونهب الموارد العامة!

إضافة الى اختلاقكم (دستورياً!) لهيئات تشريعية وتنفيذية برواتبها الخيالية وامتيازاتها الفلكية واعدادها التي تفوق اعدادها اعداد مثيلاتها في الدول العظمى (مجلس النواب. مجالس المحافظات. المستشارين. وكلاء الوزارات. المدراء العامون. الخبراء. وغيرهم من الكيانات الطفيلية) ...

وليس الناخب الخائب الذي خدعتموه باسم الدين والعرق ...وندم على فعلته بعد فوات الاوان!

انتم من كذبتم على الشعب بشعارات (اصلاحاتكم) الكاذبة المهلهلة، التي لم تطال كبار الفاسدين وناهبي مئات مليارات الدولارات ومغتصبي المباني والمنشآت والموارد الحكومية والخاصة...

والتي (لو صدقت!) واستعادت مئات المليارات لما اضطررتم الى هذه الخطوة الذليلة التي تهدد حياة الناس وتغلق افق مستقبلهم!

لأنكم (أيها الفاسدون المتحاصصون) لا تحسنون سوى نهب الموارد والكذب على الشعب والاذعان لأسيادكم... ومحاولاتكم البائسة للنفخ بالقربة المثقوبة لا تفضي سوى الى سماع أصوات كـ (...........)، لا ينتج عنها سوى الضجيج المخزي والرائحة العفنة!

 

زلزال تركيا يقرع

جرس الإنذار للعراق؟!

 

محمود حمد

مع اقتراب مراكز الزلازل في تركيا وفي ايران من الأراضي العراقية، وارتداداتها الكارثية في سوريا، وفي العراق (وان بدرجات خفيفة)، مما ينذر بكارثة (غير مستبعدة!) تفوق خسائرها عدد ضحايا انهيارات المباني التي خلفت عشرات الالاف من القتلى والمصابين والمحصورين تحت الأنقاض والمشردين في العراء، وتأثر الملايين بالزلزال خلال الساعات الاخيرة!

فالعراق يقع بين بلدين غير مستقرين زلزاليا، ويجاور دولتين تشنان حرباً بيئية عليه منذ عقود طويلة، وتحاصره حكومات تفتقد الشفافية المعلوماتية بشأن المخاطر البيئية المحدقة بشعوبها وبشعب العراق، وهو يعيش احدى اسوء فترات (إدارة الدولة) من قبل مجموعة لصوص وفاسدين ومتخلفين لا يكترثون بمصائر الناس بقدر تناحرهم على المغانم، وترتد عليه تداعيات تلك الأنظمة المجاورة غير المستقرة سياسياً، بل وابتلى بحكومات تستخدم المخاطر البيئية التي تهدد حياة ملايين الأشخاص، كأسلحة سياسية في تنفيذ مشاريعها التسلطية على مصير العراق وأهله!

وتلك الكارثة البيئية التي نعنيها مخبأة في (مدى قدرة السدود المقامة على نهري دجلة والفرات في تركيا وسوريا والعراق!)، لأنها ان انهارت فستغرق مئات المدن وآلاف القرى بمن فيها من ملايين البشر وتدمر الموارد...

خاصة وان مراكز الزلازل صارت تقترب اكثر فاكثر من تلك المواقع، التي تعاني بسبب عوامل مختلفة من تردي بنيتها الهيكلية او تقادمها دون صيانة هندسية فنية معيارية، تضمن سلامتها وقدرتها على مقاومة الزلازل او ارتداداتها (بعيداً عن ادعاءات الجهات الحكومية المطمئنة التي تفتقد للمصداقية!)!

في الوقت الذي يحذر فيه معظم المتخصصين بعلم الزلازل من إمكانية استمرار هذا النشاط الزلزالي في المنطقة لعدة اشهر!

وفي هذا الوقت وردت انباء عن (زلزال خفيف) صباح يوم امس الاثنين في قضاء بيجي جنوب الموصل!

ما يتطلب وضع خطة طوارئ (متكاملة) عاجلة دون اثارة الفزع بين السكان تهدف الى (إخلاء سكان المدن والقرى الشاطئية!) فور اقتراب النشاط الزلزالي من السدود العراقية او في حالة تعرض تلك السدود للتشققات لاي سبب كان!

كل ذلك يدعو جميع المعنيين الحكوميين، والمختصين، والإعلاميين، والرأي العام الى الإسراع بمطالبة الحكومة العراقية بوضع استراتيجية علمية وواقعية استباقية (استراتيجية إدارة الكوارث والأزمات) بدلاً عن (الاجراءات البدائية لمواجهة الكوارث) كرد فعل عشوائي آني بعد وقوع الكارثة، تلك الإجراءات التي لا تعدو ان تكون سوى انتشال للجثث وإخراج للمصابين من تحت الأنقاض (كما نرى الآن في عمليات الإنقاذ في سوريا وتركيا!)، التي تعكس مدى افتقاد البنية الأساسية لمقاومة الزلازل في مباني المدن وخاصة ذات الكثافة الاسكانية العالية.

وهذه (الإجراءات العشوائية المنفعلة!) قد تخلت عنها جميع بلدان العالم الحريصة على حياة مواطنيها منذ زمن بعيد واعتمدت استراتيجية (إدارة الكوارث والأزمات)، بديلاً عنها:

والتي تتكون من ثلاثة محاور متكاملة ومتلازمة (تشريعية وتطبيقية وبشرية ولوجستية ومالية وتوعوية) 

لـ(ما قبل الكارثة) و(خلالها) و(ما بعدها) ...

 وتشكل استراتيجية (ما قبل وقوع الكارثة) الخطوة الأهم في مجمل استراتيجية إدارة الكوارث...لأنها وقائية واستباقية، وتساهم في تقليل حجم الخسائر الى ادنى مستوى ممكن...ومنها ضمان بناء المدن والمشاريع الحديثة وفق المعايير الانشائية للسلامة من الزلازل، المستندة الى نتائج بحوث مراكز الرصد الزلزالي الدولية وليس المحلية والإقليمية فحسب (لان الكوارث الطبيعية لا حدود لها سوى حدود نفاذ طاقتها!).

والزام الشركات والمقاولين المحليين والدوليين بتطبيق المعايير الهندسية الانشائية العالمية الخاصة بالمباني المقاومة للزلازل في المشاريع الاستراتيجية التي تتعلق بسلامة السكان!

وتدريب فرق الإنقاذ على عمليات الإنقاذ في الحالات المختلفة، وتوفير المعدات والآليات الحديثة التي تمكنهم من أداء دورهم بكفاءة ونجاح.

وتأهيل المتطوعين من الشباب والشابات على مهارات إدارة حشود النازحين وتأمين سلامتهم في مواقع آمنة عند وقوع الزلزال.

وتوفير الموارد المادية والمواقع الآمنة الكفيلة برعاية النازحين وحمايتهم الى حين اعادتهم الى أماكن سكنهم، وضمان تعويضهم عما فقدوه من موارد بسبب الزلزال.

اضافة الى تكليف شركات متخصصة بصيانة السدود العراقية لفحصها وصيانتها بشكل دائم للتأكد من سلامة هياكلها وكفاءة أنظمتها.

والضغط على الدول المجاورة عبر المنظمات والمواثيق الدولية، ومن خلال الاتفاقات الثنائية المرتكزة الى تبادل المعلومات البيئية والمصالح الاقتصادية وتكاملها!

وان رفضت تلك الحكومات في تركيا وايران (كما هو الحال الآن) ...

فان حياة ملايين العراقيين تفوق قيمتها ومكانتها جميع المصالح الاقتصادية والمنافع السياسية والولاءات الطائفية والعنصرية...التي اذعنت لها الحكومات العراقية المتعاقبة!

ولابد من تذكير تلك الحكومات ومنها الحكومة العراقية...

ان السيل ان جاء سيجرف في طريقه انظمتهم كجزء من الخسائر المؤكدة!

 

اين النقابات والجمعيات

المهنية مما يحدث في العراق؟!

محمود حمد

 

منذ نشوء الوعي المهني عند الانسان المنتج المبدع في التاريخ، كان الشعور بالانتماء للجماعة مصدر قوة للفرد... وكانت الجماعة تقوى بروح المبادرة التجديدية عند الفرد... وتجلى هذا الشعور بنشوء تكوينات مجتمعية عفوية فرضتها متطلبات الحصول على مصادر العيش بأمان وكرامة.

وسبقت تلك التجمعات كل اشكال التنظيم الاجتماعي بما فيها (نشوء الدولة) و(تشكيل الأحزاب)، وحتى قبل ان تظهر وتتطور (النقابات) بمسمياتها المعاصرة، التي تبلورت كإحدى النتائج الاجتماعية للثورة الصناعية الأولى، للتعبير عن المصالح والاحتياجات المشتركة للجماعات المهنية، بشعاراتها ومحدداتها التنظيمية وأهدافها المهنية!

ونشأت الحركة النقابية والجمعيات المهنية في العراق بوقت مبكر في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي للتعبير عن مصالح القوى الاجتماعية المتصدية لبناء البلد...وكانت رائدة الجماهير في جميع الانتفاضات والاضرابات والحركات الشعبية الداعية للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، في مختلف مراحل تطور النضال الوطني.

وسعت الأنظمة المستبدة على امتداد تاريخ الصراع بين المنتجين المبدعين مع أصحاب سلطة المال والسلاح من (اجل الخبز والكرامة) الى قمع، أو احتواء، أو تشويه، أو تفريغ ...تلك النقابات والجمعيات المهنية من مقومات ومبررات وجودها المهنية الموضوعية المعبرة عن مصالح اعضائها...لتكون أداة بيد السلطة المستبدة لبسط نفوذها على الملايين من أعضاء تلك النقابات والجمعيات!

وافرز هذا الصراع عبر سنوات من القمع والاغواء (فئات من المهنيين الانتهازيين...كخدم للاستبداد ومنتفعين منه او متخاذلين ومتخادمين له) وفرضتهم تلك السلطات الاستبدادية على رأس تلك النقابات او الجمعيات ...لتضليل الناس والتاريخ بان الملايين من أعضاء تلك النقابات او الجمعيات موالين للسلطة المستبدة ومعبرين عن الولاء لها!

وبقدر تعمق الوعي بالحقوق المهنية لدى أعضاء تلك النقابات والجمعيات، يتعاظم دورها في التغيير الاقتصادي والاجتماعي الجذري نحو الدولة المدنية الديمقراطية العاقلة، كون أعضائها هم القوة الاجتماعية التنموية الواسعة المنظمة المتمدنة التي ترتبط مصالحها المهنية بتحقيق المصالح الوطنية.

وبغياب دور (النقابات والجمعيات المهنية) ظهرت أنماط مختلفة من (التيارات والحركات والميليشيات الطائفية والاثنية والعشائرية) الاقصائية المتخلفة المتطرفة، التي فرضت نفسها (وصية!) على الملايين من المهنيين المغلوب على امرهم، وملأت الفراغ الاجتماعي الذي تركته النقابات والجمعيات (عندما تخلت عن دورها!)، وافرزت تلك التيارات المنغلقة ورسخت نهج (اللا دولة) الذي اقصى (الدولة) عن أداء دورها الطبيعي... ولإدامة تسلطها على مصالح ومصائر وعقول الناس، استقوت عصابات واحزاب (اللا دولة) على ملايين الناس:

بممارسة نهج الاقصاء الطائفي والعقائدي والعرقي الانتقامي...

والاستحواذ على مصادر الثروة والسلاح والسلطة...

وسرقة ثروات الشعب وممتلكاته وتقاسمها كغنائم (شرعية!) فيما بينها...

وتضليل العقول بالمواعظ التكفيرية...

ونشر مشاعر الكراهية الموروثة للآخر...

وتفريخ وشرعنة أساليب (الاستبداد المقدس!) بحق الملايين...

وانتهاك حقوق المرأة اجتماعياً واقتصادياً وتشريعياً...

وإشاعة الجهل والامية بين مختلف الأجيال...

ولا شك ان اعداد غفيرة ممن تخلت عنهم النقابات والجمعيات المهنية انزلقوا وسينزلقون الى حشود الباحثين عن الخلاص عبر (الأوهام!)، التي يوعدهم بها اللصوص باسم الدين، او الطائفة، او العرق، او العشيرة!

وفي هذه المرحلة المصيرية من تاريخ شعبنا ووطننا...

لابد من القاء الذرائع جانباً، ومكاشفة ملايين العمال والفلاحين والشباب والنساء والطلبة والمهنيين على اختلاف تخصصاتهم...عن دورهم التاريخي في إعادة تنظيم انفسهم وتطهير نقاباتهم وجمعياتهم من ذيول (اللا دولة) ومن المتخاذلين ومن النفعيين!

وفي الماضي القريب...

عندما دخلت جيوش الغزو وازاحت (قشرة النظام الاستبدادي!) وفككت دولته، بما فيها (قشرة النقابات والجمعيات!) ... كانت هناك فرصة تاريخية لملايين المهنيين المدنيين المتنورين لإعادة هيكلة النقابات والجمعيات وفق رؤية مهنية وطنية بعيدة عن (لا دولة المحاصصة) المقيتة التي جاءت بها امريكا ورعتها ايران!

لكن (النقابات والجمعيات) لم تبادر الى ملء الفراغ الذي تركته السلطة المزاحة!

وعندما انتفضت الجماهير بوجه دولة الفساد منذ عام 2011 وما قبلها وتأججت عام 2019 ...

كان لابد ان تكون النقابات والجمعيات المهنية في طليعة تلك الانتفاضة التي سفكت فيها دماء مئات الشهداء من الشباب وعشرات الالاف من الجرحى... تلك الانتفاضة التي مازال جمر مواقدها يتأجج تحت رماد الإحباط...

لكن (النقابات والجمعيات) لم تشارك بشكل فعال في تلك الانتفاضة!

وعلى مدى اكثر من خمسة عشر عاماً يخرج العاطلون عن العمل من الخريجين وغيرهم للمطابة بحقهم الطبيعي في العمل والعيش الكريم، وهم محسوبون على النقابات والجمعيات ذات الصلة باختصاصاتهم ومهاراتهم...

لكن (النقابات والجمعيات) لم تبادر لدعمهم وتشاركهم احتجاجاتهم ومطالبهم!

ولم يمر يوم الا ونسمع عن انتهاك لحق المرأة في الحياة وهي التي تشكل اكثر من نصف سكان البلاد...

دون ان تكتظ الشوارع بالمحتجين (من الرجال والنساء) نصرة لأمهاتهم واخواتهم وزوجاتهم وبناتهم...

واليوم...

وصل التفسخ بـ(لا دولة المحاصصة الفاسدة) الى مرحلة التناقض والتناحر الموضوعي والحتمي بين مكوناتها، وأصبحت حتمية حل ازمة وجودها كامنة في (تغييرها جذرياً!)!

ولم يعد (التغيير الجذري) مطلباً شعبيا او دوليا فحسب، بل صار يأتي على السنة كبار فاسديها ولصوصها، تحت مسميات (الاصلاحات الهيكلية!) و(التعديلات الدستورية!)، لان دولة (اللا دولة) لم تعد قادرة على انتشال نفسها من المحرقة التي اقامتها بنفسها للشعب، وهي اليوم تقف على حافاتها!

ومن حق وواجب الحريصين على حياة الشعب ومصير الوطن دعوة النقابات والجمعيات المهنية الى نفض غبار الاستكانة والتخلي عن نهج التفرج على جوع الملايين، وانهيار الوطن، وتعفن الدولة...في دوامة الصراع المفتعل بين (حرامية الدولار) و(ناطور الدولار) ...لإشغال واخضاع الشعب بالتجويع...ولتأجيل تفكك نظام المحاصصة اللصوصية!

ومن اجل ذلك لابد من عقد مؤتمر وطني (طارئ) للنقابات والجمعيات المهنية لانتزاع دورها الوطني في حل (مشكلة تفسخ النظام) المستعصية، التي لا حل لها الا بـ(التغيير الشعبي الدستوري الجذري وفق مبادئ دولة الوطن الكامل السيادة والمواطن الحر المُرَفَّه)!

وحذاري من زج النقابات والجمعيات المهنية في مشاريع (إعادة انعاش) النظام الطائفي العنصري الفاسد تحت مسميات:

(إصلاح النظام) بنفس ادواته وشخوصه وتشريعاته الفاسدة...

واطلاق الحوار الوطني "بين الفاسدين واللصوص انفسهم!"...

وبدعوى المحافظة على (السلم المجتمعي!) المبني على اغتصاب الخاسرين للسلطة من 80% من الناخبين الذين قاطعوهم...

وبذريعة ضمان حقوق المكونات " التي يستحوذ عليها لصوص اللا دولة!"!

لان دولة (اللا دولة) لا تحسن سوى نهب مليارات الدولارات من أموال الشعب وتهريبها للخارج، وخلق وافتعال الازمات وادامتها، وتفريخ الفشل المتناسل!

 

 

 

ذباب السلطة!

محمود حمد

 

عرشُ السلطةِ موبوءٌ...دبقٌ...

تخرجُ مِنْ فيهِ الديدانُ...

ويسري "ذبّان" الأرضِ إليهِ غيومٌ!

****

مَنْ مِنْكُم مَنْ لَمْ يَلْسَّعْهُ "ذبّان" السُلْطَةِ؟!

****

قَبلَ نَهاراتٍ...

كُنّا نجلسُ و" فخامتَهُ!" تحتَ النخلةِ نُحصي:

موتانا المخفيينَ بلا عنوانٍ في أرضِ النهرينِ...

أطوارَ العَسْفِ الناهشِ بالمُدنِ المَسبيَّةِ من "برزان" إلى "ميسان"!

أشكالَ التعذيبِ الفاقت "أفران" الـ "SS"...

دروبَ الغربةِ نَعرِفُها من أجداثِ الفتيانِ الفُقِدوا مِنّا في كل البلدان!

ألوانَ الجوعِ الماضي فينا من نبضِ النُطْفَةِ لحفيفِ الكَفَنِ المهتوكِ!

واليومُ..

تَصادَفَ أن دَفَعَتْ موجاتُ "الفوضى الهدامة! " صاحِبَنا لفريقِ السلطةِ...

كنّا صِبياناً...

نَعرِفُهُ هدّافاً في منتخبِ الفصلِ...

وشباباً...

نأكلُ من قُرصِ رغيفٍ واحدٍ في مشراقِ السجنِ...

وكهولاً...

نَعصُبُ جُرحاً بجراحٍ مازالتْ تَنزُفُ منذ "الحجاج الثقفي"! *

ما كانت فيه ندوبٌ تَغوي ذبّانَ المدنِ الجوعانةِ...

أو ديدانَ الإفرنجِ السكرانةِ!

لكن...

ما إن وَطِئَتْ لحيتهُ سجّادَ السلطةِ...

حتى انبَثَقًتْ من كلِّ الأزبالِ غيومُ ذبابٍ لزجٍ نَحْوَه...

أسرابُ دبابيرٍ فتاكةٍ...

قطعانُ ذئابٍ تعوي...

وثعالبُ فاتنةٍ تتلمظ!

أُممٌ...

أطواقٌ حولَ الرجلِ "اللاّ نعرفُهُ"!

أمسى يغشوهُ طنينُ "الذِبّانِ" بديلاً لشعاعِ الشمسِ!

وبثورٌ خُضْرٌ تَملأُ وَجهَه!

****

صارت غيمُ الذبّانِ تفيضُ...

وتنمو...

تزحفُ...

وتبيضُ ملايينَ الآفاتِ...الأوبئةِ الفتّاكَةِ!

تتفاقمُ كالإعصارِ الجارِفِ...

تتدافعُ...

لتزيحَ الديدانَ الما زالتْ تَنْخُرنا مُنذُ عقودٍ!

تَتَفَشى في إيقاعِ قصائِدنا...

ومواعظِ "قادَتِنا!"...

وبرامجِنا المَخْصِيَّةِ!

****

ذبابُ السلطةِ في عصرِ "الروثِ" تَسَبَبَ أمراضاً في الرؤيةِ...

فكيفَ بغيمِ ذبابٍ قاتمٍ يَخرُجُ من جوفِ الدباباتِ المحتلةِ؟!

****

إنَّ لِكُلِّ "مقامٍ " ذباباً...

وذبابُ البترولِ قوياً...ومضيئاً في كُلِّ الاوقاتِ...

يَغوي كتّابُ ذبابِ السلطةِ صاحِبَنا:

ما كان "الذبّان" لَيُخْلَقُ لَوْلا العَسَلُ الصافي!

 

 

 

 

 

هل سيتفكك فريق (إدارة الدولة)؟!

محمود حمد

 

جاء في القول المأثور لسقراط:

الجاهل من عثر بالحجر مرتين!

ولان (المتحاصصين بـ “منتخب!" إدارة الدولة!)، خسروا في بداية الشوط الأول من سباق (إدارة الدولة!) ...

ولأنهم نتاج الدخول المُذْعِن في (بيت الطاعة) للأجنبي...

ولأنهم بصموا مجبرين على (التوافق القسري!) فيما بينهم (بإرادة إيرانية ومباركة أمريكية)!

ولأنهم اضطروا لقبول ذلك (الاغتصاب السياسي!) كـ (زواج مؤقت!) لستر فضائحهم!

ولأنهم لا يفقهون بـ(الإدارة) ولا يؤمنون بـ(الدولة)!

ولأنه لا بديل له في عقائدهم الاقصائية التناحرية...

ولأنه يخدم ويتطابق مع مصالحهم في:

سرقة إرادة الشعب وتقسيم ثرواته كغنائم فيما بينهم!

نجدهم اليوم مجبرين على اجتراع سم (النكث بالعهود!) ...

الذي ذاقوه غير مرة خلال العشرين سنة الماضية على ايدي شركائهم في تقاسم (الغنائم) وفي تسريب (الفيء) الى خزائنهم!

ويكررون التعثر بذات الحجر مرات ومرات...غير مُخَيَّرين!

دون صحوة من ضمير وطني او حياء سياسي اخلاقي...

بل... انهم ينهمكون بسفاهة عقل بلعبة البحث العبثي عن ذات المخارج التي اجَّلَتْ احتدام صراعهم فيما بينهم في الماضي فحسب...واخَّرَتْ سقوطهم بعض الوقت...

بسبب عمي بصائرهم المتوارث، وانعدام ضمائرهم السياسية، وتجويف عقولهم الواهنة...

وكذلك...

نتيجة للتهديد الإيراني والوعيد الأمريكي لهم...من خطورة مأزق التناقض الموضوعي فيما بينهم على وجودهم...

وبفعل تدخلات مدرب "منتخب" ادارة الدولة (قاآني) العاجلة الضاغطة عليهم، وتواطء (الحَكَمْ الأمريكي) معه، لفرض ارادتهم من اجل تغيير نتائج (اللعبة!) لصالحهم...كما فعلوا عقب الانتخابات البائسة التي خسروا فيها بامتياز!

فهم اليوم يعيدون الكَرَّةَ باعتماد ذات الأساليب الترقيعية التي جُرِّبَت واستُهْلِكت واخفَقَت في الماضي...

ويستخدمون ذات الأدوات المخرومة التي عجزت عن النفخ في صورتهم المثقبة على مدى سنوات...

ويهللون لتدوير نفس الأشخاص الفاسدين والفاشلين في المناصب...العديمي الكفاءة والنزاهة والارادة...  الأشخاص الخانعين كبيادق شطرنج بأيدي لصوص اغبياء، يجهلون قواعد اللعبة التي تفرضها قوانين الواقع الموضوعي المحتدم للشعب، وتحكمها حتمية التاريخ!

ويتوهمون بانهم سيحصلون من خلال تلك (اللعبة!) على نتائج مغايرة لتلك التي فضحتهم في السابق، وعمقت التناقضات فيما بينهم، واوصلتهم الى حافة الهاوية التي رفضهم فيها الشعب، عندما قاطع انتخاباتهم بنسبة تقارب 80% من الناخبين!

ويتناسون ان (الفريق الخصم) في هذه (اللعبة!) هو الشعب!

ويخدعون انفسهم ويضللون اتباعهم بان تلك المحاولات العقيمة التي يقومون بها ستنقذهم من مصيرهم الحتمي:

الا وهو التفكك والزوال... ولو بعد حين!

 

صدى...صرخات لا تنسى من آلام الوطن!

تباً لَكُمْ...أوْرَثتُمْ دجلةَ

كُتباً ورؤوساً مقطوعة!

محمود حمد

تباً لَكُمُ...

أوْرَثتُمْ دجلةَ كُتباً ورؤوساً مقطوعة...

أسرابَ نساءٍ ثكلى يَنْحَبْنَ على شطآنٍ مذعورة...

يَرْقِبنَ الجثثَ المَعلومةَ بينَ زحامِ الجثثِ المجهولةِ...

عَلَّ اللوعةَ تُخْرِجُها من قاعِ النهرِ المنكوبِ!

تباً لَكُمُ...

من تحتِ منابِركُم تَخرُجُ قطعانُ الموتِ تُمَزِقُ وطني المتماسك من "سنحاريب"(1) إلى حكم الرعيان القتلة!

***** 

تباً لـ لِحاكُمْ.. طَفَحَت مِثلَ "الدَغْلِ"(2) القاتلِ في حقلِ القمحِ...

غَطَّتْ كُلَّ وجوهِ الأمةِ...حتى النسوةُ صارت تلبسُ لحية!

*******

تباً للجهلِ الراسخِ فيكُم تَرَفاً ونعيماً!

******

تباً لَكُمُ...

وَجَعَلْتُمْ حُكمَ ابن الـ “......".. عصراً ذهبياً!

تباً لَكُمُ...

وَجَعَلْتُمْ أحواض التيزابِ فُراتا مَحمياً!

تباً لَكُمُ...

وَجَعَلْتُمْ وَجَعَ "الأنفالِ" (1) نَسْياً مَنسياً!

تباً لَكُمُ...

وَجَعَلْتُمْ زَمَنَ التَجْويعِ رَغيفاً مَرْوِياً!

تباً لَكُمُ...

وَجَعَلْتُمْ لَونَ الحريةِ طَعماً دَمَوِياً!

تباً لَكُمُ...

وَجَعَلْتُمْ مِحرابِ العلمِ هراءً مَسفياً!

*****

تبا لمواعِظَكُم...

أوبئةً داميةً تتفشى في كُلِّ منازلنا!

*****

تباً لكرامَتِكُم...

أدْمَنْتُمْ طأطأةَ الرأسِ بحضرةِ مُحْتَلٍ مذعورٍ!

*****

تباً لِفعالِكُم...

ونَسينا "الجيش الشعبي" يُهَتِّكُ حرماتِ منازِلنا!

تباً لنواياكُم...

وفَتَحْتُم حِقدَ كُهوفِكُمُ الموبوءةِ بالريبةِ سُمّاً لحليبِ الرُضَّعِ...

لقلوبِ الأسَرِ الموجوعةِ!

تباً لَكُمُ...

جوقةُ فئرانٍ تتناهشُ حولَ فُتاتِ الطفلِ المَيِّتِ!

****

تباً لمروءَتِكُم...

وجعلتُم حُجُراتَ النومِ ملاذاً لـ “صلالٍ" تَخْتَرِمُ الصحراء...

لتلدغ أحداق مدينتنا المغروسة بين الأضلاع!

تباً لرجولَتِكُم...

تَدعونَ الجُثثَ الملغومةَ تَحصِدُ أرواحَ طفولتِنا في وضحِ الظهرِ!

تبّاً لفتاويكم...

تَقطعُ أعناقَ قبائلنا بالشبهاتِ!

******

شُلَّتْ أيديكُم أنّى تَنوونَ المَسَّ بأجملِ معشوقِ في هذا الكونِ...

عِراق!

(1) سنحاريب: ملك عراقي (أشوري) في الألف الثالث قبل الميلاد...

(2) الدغل: نبات سرطاني يتكاثر بسرعة ويقتل السنابل من حوله.

(3) الأنفال: سورةٌ باللوح المحفوظ في السماء ومجزرة على الأرض.

 

 

 

 

(لعبة!) تجويع وترويع الشعب...

بين (حراميَّة الدولار) و(ناطور الدولار)!

محمود حمد

 

هل طفح الكيل؟!

ام لم يعد هناك كيل ليكال؟!

بل سٌرق حتى الميزان!

فبعد (لعبة الحصار الخانق) على مدى ثلاثة عشر عاماً بعد غزو الكويت، ذلك الحصار الذي فقدنا فيه أرواح اكثر من مليون طفل، ودُفن فيه العراقيون بواد سحيق من العوز وافتقاد لقمة العيش وانعدام الحرية في ظل دولة مستبدة...

استكملوا علينا (خطة محو العراق!) بـ(لعبة التجويع الممنهج والترويع المتواصل) بدءاً بالغزو واغتصاب العراق وتنصيب (لصوص حفاة نواطيراً على خزائن العراق) عام 2003، مروراً بصناعة الإرهاب كممارسات وحشية تبرر للرأي العام وجودهم كـ(حماة!) لـ(المستضعفين!) من الناس، في الاعوام التي اعقبت الغزو والاحتلال (الأمريكي – الإيراني)!

وملخص تلك (اللعبة السوداء القذرة!):

دولار دون غطاء!

دينار مزور!

شعب مُجَوَّعْ!

لصوص حفاة استحوذوا على خزائن العراق!

افتقاد سيادة الوطن وتكبيل إرادة شعبه!

الادعاء بمحاربة الفساد من قبل الفاسدين!

وبداية الحكاية:

في عام 1971 وبذريعة عدم إمكانية الولايات المتحدة من توفير النقد الكافي من الدولارات (المغطى بالذهب) لتلبية احتياجات الاقتصاد العالمي الواسع والمتسارع النمو، الغى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 15 اغسطس من ذلك العام (التحويل الدولي المباشر من الدولار الى الذهب) ...بما عرف بـ(صدمة نيكسون!) ...

وبذلك الغى الاتفاق الدولي الذي دعت اليه الولايات المتحدة الامريكية نفسها في تموز عام 1944 وباجتماع ممثلي 44 دولة في مدينة (بريتون وودز) الامريكية...الذي تعهدت فيه أمريكا أمام دول العالم بانها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات ورقية في الأسواق العالمية!

وتنص بعض بنود ذلك الاتفاق على:

ان يستعمل الدولار الامريكي غطاء بدل الذهب لإصدار ما تحتاج اليه الدول من عملات وطنية.

تلتزم الولايات المتحدة الامريكية بتحويل ما يقدم اليها من دولار الى ذهب، عند معدل صرف 35 دولارا للأوقية من الذهب لكل من يطلب ذلك من دول العالم.

تقوم كل دولة من دول العالم بتحديد صرف ثابت لعملتها مقابل الدولار.

ومنذ (صدمة نيكسون) بدأت الولايات المتحدة الامريكية بطباعة مليارات من أوراق الدولارات (بلا غطاء من الذهب)، وأصبحت الواحدة منها لا تساوي اكثر من 9 بنسات (هي قيمة الورق والطباعة لكل ورقة عملة)، واغرقت بها أسواق العالم، مقابل استحواذها على (الموارد والخدمات والمواد ذات القيم الحقيقية)!

واستمراراً لذلك النهج:

في التاسع من مايو عام 2016 قال الرئيس الامريكي" دونالد ترامب" في تصريحات لشبكة "سي إن إن":

(هؤلاء الذين يعتقدون أننا سنتخلف عن سداد ديوننا معتوهون. نحن حكومة الولايات المتحدة لا يمكن أن نتخلف عن سداد ديوننا لأنه بوسعنا طباعة المزيد من الدولارات)!

ولتأكيد ذلك... طبعت الولايات المتحدة قبل جائحة كورونا بعامين عدد من الدولارات يفوق عدد كل ما طبعته من دولارات منذ انشاء الولايات المتحدة الى ذلك التاريخ... (حسب ...الخبير طلال أبو غزالة!)

أي ان العالم الآن يغرق تحت بحر من الدولارات الورقية (العارية...التي لا قيمة لها!) ...

الى جانب ذلك هم يسرقون بتلك (الدولارات الورقية العارية!) مئات ملايين براميل النفط شهرياً من بلادنا!

ثم يختزنون تلك المليارات من الدولارات (التي أصبحت مغطاة بقيمة النفط نتيجة سرقتهم للنفط) في بنكهم الفيدرالي... لتحريك اقتصادهم وتنشيط اسواقهم وتمويل العصابات الإرهابية بما فيها التي تقتل العراقيين وتدمر البلاد (مثل القاعدة، وداعش، والميليشيات، وابواق التضليل!) ... لتتناسل تلك (الدولارات النفطية) ارباحاً وفوائد بنيوية ومالية لخزائنهم...

ولا احد من (حرامية الدولار!) في بلادنا يجرؤ على السؤال عن حركة تلك الأموال هناك، ناهيك عن فوائدها!

لانهم منشغلون بسرقه الفُتات الذي يلقيه لهم اسيادهم ويشترونه به...

ونحن كـ (شعب مُختَطَفٍ) تنقضي علينا العقود من السنين بلا أسواق ولا بنية تحتية او فوقية!

ولتنشيط الذاكرة:

منذ ان تولت شركة "برادبري ويلكينسون وشركاه" البريطانية عام 1932 اصدار اول عملة عراقية، معادلة للجنيه الإسترليني، عصفت بالعملة العراقية الأعاصير السياسية والزلازل الاقتصادية التي هوت بها الى مستويات متدنية غير مسبوقة!

فـ(مثلاً):

بعد ان كانت قيمة الدينار العراقي ابان الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 تعادل ما قيمته 3.3 دولارات للدينار الواحد، انحدرت قيمته بعد الحصار الدولي على العراق عام 1990 الى نحو 3 آلاف دينار مقابل كل دولار واحد!

ونتيجة لذلك لجأت الحكومة العراقية آنذاك الى طباعة الدينار العراقي (غير المغطى) خلال فترة تسعينيات القرن الماضي في مطابع عراقية وصينية رديئة و(على نفس ورق بطاقة الحصة التموينية... حسب قول وزير التجارة الأسبق محمد مهدي صالح!)

ومنذ الغزو عام 2003...

نشطت وتناسلت وانتشرت (الأسواق السرية – المكشوفة للعراقيين!)، المرتبطة بالأحزاب والجماعات المتحكمة بالدولة، لـ(تزوير العملة العراقية) ولتهريب (الدولارات النفطية) الى خارج العراق!

وتولت تلك العصابات طباعة والتستر على طباعة (دنانير عراقية مزورة) متقنة الطباعة، بشكل ممنهج

ومن ثم شراء المليارات من (الدولارات النفطية) التي يطرحها البنك المركزي العراقي في الأسواق المحلية بتلك (الدنانير العراقية المزورة)، وبأسعار مرتفعة عن معدل الأسعار في السوق المحلية!

مما فتح المجال للانهيار المتتالي للعملة العراقية مقابل الدولار الأمريكي!

وتحول نهب المال وتهريبه للخارج من قبل الفاسدين في العراق (حرامية الدولار) الى سياسة حكومية مفضوحة، تنفذها الأحزاب والميليشيات المهيمنة على مفاصل الدولة كغنائم لها ضمن شريعة المحاصصة المقيتة، وتستحوذ بذلك على مليارات الدولارات من موارد الدولة الناجمة عن مبيعات النفط، ومن رسوم المنافذ الحدودية، ومن سرقة الأموال المخصصة للمشاريع، او من نهب الأموال المرصودة لمشاريع وهمية!

وتؤكد الوقائع المثبتة في ملفات الجهات المختصة في العراق:

ان (الدنانير العراقية المزورة) تطبع خارج العراق (في ايران وغيرها)، وكذلك تطبع داخل العراق من قبل ("الحفاة" الذين صنعتهم أمريكا...الخانعين لها، والموالين لإيران)!

وتدار شبكات تهريب العملة على الحدود العراقية مع ايران وسوريا وتركيا، في المنافذ الرسمية التي تهيمن عليها تلك العصابات الاجرامية التي تدار من خارج العراق، وكذلك من منافذ غير ثابتة عبر الحدود المنتهكة بين العراق من جهة وايران وسوريا وتركيا من جهة أخرى!

وتجري تلك عمليات النهب منذ سنوات، لإنقاذ العملات المحلية المنهارة في (ايران ولاية الفقيه) المحاصرة، و(سوريا الدولة الفاشلة)، و(تركيا الاخوانية) المتخبطة...

و(لتمويل ميليشيات "مشروع الإسلام السياسي" في بلدان المنطقة والعالم!) على حساب قوت الشعب العراقي... وبعلم وتستر وحماية الأجهزة الحكومية العراقية والأجهزة الأمنية في تلك الدول!

وادت تلك الممارسات (اللصوصية الدولية) بمساعدة (حرامية البيت!) الى ان وصل مستوى الفقر في العراق إلى نحو 25% من السكان، فيما تُقدر أعداد الفقراء في البلاد بنحو 11 مليونا من بين 42 مليونا هم عدد سكان العراق. (حسب إحصاء وزارة التخطيط العراقية!).

وهو رقم لا يعكس الواقع...اذ ان تقديرات غير حكومية تشير الى نسبة من السكان في العراق تتجاوز 40% دون خط الفقر، اذا اخذنا بنظر الاعتبار إن (الفقر لا يرتبط بالدخل فقط... وإنما بالصحة والتعليم والسكن وتمكين المرأة، وكل هذه الأبعاد تجتمع معا لتضع المواطن تحت خط الفقر)!

ولم يعد كشف فضائح تهريب العملة مقتصراً على معارضي (دولة الاقوام والطوائف التي جاء بها الاحتلال واوكل رعايتها لدولة الولي الفقيه!) ...

بل ان الكيل قد طفح...

وصارت التناقضات الداخلية بين (حرامية الدولار) ... تسرب بعض المعلومات...

فقد كشفت (اللجنة النيابية) ...التي تسيطر عليها ذات القوى المتهمة بالفساد... في مارس 2021 عن:

تهريب نحو 350 مليار دولار من الخزينة العمومية الى خارج العراق، منذ سقوط نظام صدام حسين!

وقال الرئيس العراقي السابق برهم صالح في مايو 2021:

(إنّ حجم الأموال التي تمّ تهريبها إلى خارج العِراق في صفقاتٍ للفساد يُقدَّر بحواليّ 150 مِليار دولار)!

وللعلم... فان الى جانب (حرامية الدولار) المحترفين الكبار في العراق، هناك ما يقرب من (7000 دكان صيرفة!) لبيع العملة، يصول عليها يومياً وعلى مدار الساعة ما يقرب من 300 حرامي من (صغار المهربين) لشراء (الدولار النفطي) بـ(الدنانير المزورة المطبوعة في ايران) وباي سعر، وتهريبها الى ايران، بشكل غير مباشر، وبمعدل 500 مليون دولار شهرياً (حسب التوفيق من الله!)!

وتُقدَّر الأموال التي تمّ سرقتها على مدى السّنوات الـ 18 الماضية بِما يَقرُب من التّرليون دولار!

وفي (لا نظام!) الحكم في العراق الفريد من نوعه في العالم...فان:

الحكومة العراقية تسرق الحكومة العراقية!

حكومة (عراقية المظهر!)، لكنها في المخبر...شلَّة من (حرامية الدولار) متناقضة ومتصارعة فيما بينها، لكنها متفقة على الخنوع لأمريكا وحراسة مصالحها، وعلى التماهي بالتبعية لإيران وحماية بوابتها الغربية المفتوحة على مصاريعها للتهريب باتجاهين عبر المنافذ الرسمية وغير الرسمية (المحروسة بعين الله التي لا تنام!):

تهريب (الدولارات النفطية العراقية) الى (ولي الامر) في طهران...(ذهاباً)

وتمرير (المخدرات الإيرانية) الى عقول العراقيين لمسخهم وقتلهم...(اياباً)

وكل ذلك بعلم (ناطور الدولار) امريكا!

ولهذا... وضعت منظّمة الشفافيّة الدوليّة ضمن مُؤشّرها الرّاصد للفساد في مُختلف دول العالم العِراق ضمن قائمة أكثر خمس دول فسادًا في العالم!

وفي وسط هذه الفوضى الهدامة، تظهر علينا شعارات رنانة ضد (الهيمنة الامريكية على النقد العراقي!)، ووعود واهية، وأفكار ساذجة، وإجراءات ترقيعية مضللة، لـ(محاربة الفساد من قبل الفاسدين انفسهم؟!)

وتتعالى أصوات (حرامية الدولار) بان تراجع قيمة الدولار ناجم عن لعبة باغتهم بها (ناطور الدولار) لإضعاف حكومتهم!

يقول الوزير السابق (محسن الشمري):

ان حكومة حيدر العبادي وقعت مطلع عام 2016 على اتفاقية مع البنك الفيدرالي الأمريكي بشأن مكافحة تهريب وتبييض الأموال! ولم تطبقه.

ولنفي ادعاء (حرامية الدولار) الممسكين بالسلطة، بان أمريكا فاجأتهم بالإجراءات الجديدة الخاصة بالحوكمة الالكترونية لمبيعات الدولار!

أكد البنك المركزي العراقي ان وزارة الخزانة الامريكية نظمت دورات لموظفي البنك المركزي العراقي والبنوك الحكومية والخاصة، على كيفية استخدام المنصة الالكترونية لحوكمة مبيعات الدولار...خلال السنتين الماضيتين!

وللمعلومة... فان البنك الفدرالي الأمريكي كان يحول الى البنك المركزي العراقي 250 مليون دولار يومياً من مبيعات النفط حتى الشهر العاشر 2022 ...

وفي الشهر الأول من هذا العام انحدر هذا المبلغ الى ما يقرب من 50 مليون دولار يومياً.!

لذلك يعاني (حرامية الدولار) واسيادهم من ضيق بالتنفس، وجنون البقر، وشرود ذهني غير مسبوق!

وفي هذه الظروف العصيبة...يقرع الوطنيون جرس الإنذار صدى لصراخ الجوع في بطون العراقيين بـ:

ان المرحلة المقبلة في لعبة السير على الحبل المشدود بين (حرامية الدولار) و(ناطور الدولار) القائم فوق الهاوية التي تنتظر العراقيين... بقدر ماهي ازمة عميقة خانقة تأكل قوت الشعب...

فهي فرصة للمتخصصين الوطنيين وشباب شعبنا لفرض قدر من الحوكمة والشفافية على حركة مبيعات البنك المركزي العراقي للدولار من (نافذة البيع!) ...نافذة النهب الممنهج لمليارات الدولارات!...

ولفضح الفساد المستشري في القطاع النقدي والمصرفي، بشكل خاص والاقتصاد بشكل عام!

قبل ان (تعود حليمة لعادتها القديمة!) وتؤجل (الخصومة الظرفية!) بين (حرامية الدولار) و(ناطور الدولار) التي فرضتها الصراعات الدولية المتفاقمة عليهم!

ومثل هذه الازمة الاقتصادية المشرعة على كل الاحتمالات الكارثية... لا يمكن ان تعالج بعقول وإرادة ونوايا وممارسات أولئك الذين كانوا سبباً في خلقها ونشوئها وتفشيها وترسخها، واعني (صنائع أمريكا... موالي ايران)!... لان وظيفة هؤلاء التي جاء بهم الامريكان، ورعاهم فيها الإيرانيون من اجلها، والتي يتقنونها دون غيرها... هي:

خلق ومفاقمة الازمات وتواترها، وتلبية مطالب أولئك الاسياد فقط، لانعدام الولاء الوطني لديهم!

 

 

سَلِّم البَزّونْ شحمة!

محمود حمد *

 

اعفى رئيس مجلس الوزراء (محمد شياع السوداني) محافظ البنك المركزي العراقي (مصطفى غالب مخيف... من تيار عمار الحكيم) الذي عينه (الكاظمي)، وعين بدلاً عنه (علي محسن إسماعيل العلاق محافظا للبنك المركزي العراقي...من حزب الدعوة).

ولتنشيط الذاكرة:

سبق لـ(العلاق) ان تسلم ذات المنصب للفترة من 2014 لغاية 2020 بعد ان كان امينا عاما لمجلس الوزراء لحكومة نوري المالكي للفترة 2006 لغاية 2014 وهي السنة التي شهدت (عام الميزانية المفقودة الأثر في تاريخ الميزانيات في العراق) والتي تقدر بـ 145) مليار) و(500) مليون دولار!

وبـ (بحسب اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي- فقد كبّد الفساد العراق خسارة قيمتها ثلاثُمئة وستون مليار دولار خلال الفترة بين عاميْ 2006 و2014)، وهذا ما أكدته منظمة الشفافية الدولية في إدراجها العراق ضمن أسوأ ست دول في العالم فساداً!

وهي الفترة التي ترأس فيها (علي محسن العلاق) ما سمي بـ(المجلس المشترك لمكافحة الفساد في العراق) والذي وضع (الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في العراق 2010-2014)، بمساهمة الأمم المتحدة.

وطيلة السنوات الأربع (2010-2014) لم يمارس “المجلس المشترك لمكافحة الفساد في العراق” الذي ترأسه (علي محسن العلاق) أعماله، وأحبطت عملياً (الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد)!

وكان(العلاق) خلال تلك الفترة عملياً (أمين سر نوري المالكي ومعتمده)، وهو الذي عينه محافظاً للبنك المركزي...

وبقي في هذا المنصب في حكومتي العبادي وعادل عبد المهدي!!

ذكر الراحل (الدكتور احمد الجلبي):

ان (سبب الانهيار الاقتصادي هو فترة الحكم من سنة 2006 الى سنة 2014 حيث دخل الى العراق مبلغ 551 مليار دولار والحكومة استوردت ما مجموعه 115 مليار دولار فقط)!

وأكد الرئيس السابق لهيئة النزاهة القاضي رحيم العگيلي:

عن هذه الفترة 2006-2014... (وجود آلاف المشروعات الوهمية والفاشلة التي تقدر قيمتها بنحو 228 مليار دولار، التي خصمت من ميزانية العراق)!

واشار رئيس هيأة النزاهة الأسبق السيد موسى فرج:

 الى تلك الفترة التي كان (علي محسن العلاق) يشغل بها منصب الأمين العام لمجلس الوزراء إلى:

أن أخطر أنواع الفساد هو (فساد البطانة المحيطة برئيس الوزراء السابق نوري المالكي وحمايته لهم) ...

وفي حديث له مع صحيفة الحياة اللندنية حدد بوضوح:

ان الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي بؤرة الفساد في الحكومة العراقية!

وتأتي (اعادة التدوير) هذه... اخذاً بنصيحة نوري المالكي:

(نخشى تدهور الدينار العراقي... ولا حل الا بالتفاهم مع أمريكا)!

ولن يجد (المالكي) افضل خبرة وايسر تفاهما مع الامريكان لإعادة الأمور الى مجاريها (دهن ودبس!) خلال زيارة الوفد الحكومي العراقي المقبلة الى أمريكا، برئاسة (السوداني) خير من (على العلاق) الذي تمكن من تمرير سنوات نوري المالكي (2006- 2014) التي تميزت بـ:

(سقوط الموصل، الفضائيين، فضائح البنك المركزي، ومنافذ بيع الدولار، وتفشي المصارف الخاصة، وتهريب النفط، وصفقات التسلح الفاسدة، أجهزة الكشف عن المتفجرات المغشوشة، والعمليات العسكرية الوحشية ضد الأنبار والفلوجة عام 2011، وقمع مظاهرات 2011 في ساحة التحرير ومناطق أخرى من العراق)!

ومن اجل طلب (عطوة!) من أمريكا (ناطور الدولار) مدة ستة اشهر...

وهي مدة كافية لهم لنهب الـ(90 مليار دولار) التي تراكمت من مبيعات النفط خلال عام 2022 وتهريبها الى أولياء نعمتهم!

ورحم الله من قال:

(سَلِّم البَزّونْ شحمة!)

·         فنان تشكيلي وصحفي عراقي  من جيل الرواد

 

·         (البَزّونْ) هو (القط)  باللهجة العراقية

 

 

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا