الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا
 

*صبحي حديدي كاتب وناقد سوري مقيم في فرنسا يكتب اسبوعيا في جريدة (القدس العربي) لندن

كوارث بلا حدود:

سياسات بامتياز

صبحي حديدي

 

المقاربات الأسهل بصدد الكوارث الطبيعية، الزلازل في المغرب والسيول وإعصار دانيال في ليبيا على سبيل الأمثلة الراهنة، هي تلك التي تبدأ من مشاعر التعاضد الإنساني والتضامن الإغاثي، وتنتقل إلى نمط من التسليم القدري بأنّ الطبيعة غاشمة ولا رادّ لتقلباتها العاتية، وتمرّ بتلك العوامل التي تستفزّ الطبيعة أو تُفسد موازينها وقوانينها جراء سوء استغلال الموارد الطبيعية ومضاعفة الاحتباس الحراري؛ وقد تنتهي، وإنْ على استحياء غالباً، عند مسؤولية الأنظمة الحاكمة في صيانة البنى التحتية واتخاذ الإجراءات الضرورية لاستباق وقوع الكوارث.
وأمّا النادر، المطلوب والضروري والأقلّ تكاسلاً، فإنه خيار تصنيف الكوارث الطبيعية ضمن نسق أوسع نطاقاً وأعمق توجهاً نحو الجذور؛ تعتبر الحرائق والزلازل والسيول والفيضانات، وكلّ وأيّ «غضبة» للطبيعة، بمثابة جزء لا يتجزأ من فشل سيرورات التنمية على اختلاف ميادينها وجغرافياتها ومستوياتها، وبمثابة تكديس (عن سابق إهمال وتقصير، أو فساد واستبداد) لعوامل الأخطار المحدقة. وأصحاب هذا الخيار، وهم غالباً منظمات أهلية وغير حكومية، مستقلة بهذه الدرجة أو تلك، يقود أشغالهم مبدأ بسيط ولكنه ثمين المنهج وهائل النتائج: أنّ الكوارث الطبيعية بلا حدود، من جانب أوّل؛ ولكنها، من جانب ثانٍ، لا تُلحق الأذى بالبشر والعمران على نحو متساوٍ متماثل، بل طبقاً لما يتكفل به البشر أنفسهم من طرائق تحسّبٍ واستعداد واستباق، طبقاً لهذا النظام السياسي أو ذاك، في هذه البيئة أو تلك، وعند مستوى الجوع أو التخمة.
في الوسع إذن، ولكن خارج مقاربات الكسل والتكاسل، عقد مقارنة بين المشاهد المريعة في مدينة درنة الليبية مؤخراً، وبين مشاهد تسونامي أندونيسيا سنة 2004؛ والاستنتاج بأنّ الكوارث الطبيعية بلا حدود من حيث باطن الأرض وأعاصير البحار، ولكن حدودها قائمة وفعلية وقاطعة من حيث طرائق التعامل ومقادير الاهتمام وأشكال التضامن. في الحالة الأولى ثمة الكثير من التصريحات والوعود، محلية وإقليمية ودولية؛ وفي الحالة الثانية كانت المشاهد أكثر انطواء على الخير والسخاء والتضامن من أنّ يصدّقها ناظر بعين واقعية. وكان مشروعاً أن يتساءل المرء: أكان العالم إزاء تسونامي هو نفسه الذي شهد كوارث رواندا والكونغو ودارفور؟ فلسطين المحتلّة والعراق المحتلّ وأفغانستان المحتلّة؟ معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب ومجازر الفلوجة؟ ثمّ، مؤخراً، زلازل الشمال السوري، والمغرب، وسيول ليبيا؟
وبعد ثمانية أيام على وقوع كارثة تسونامي ظهر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في البيت الأبيض، محاطاً بأبيه وبسلفه بيل كلينتون، وأعلن أنّ واشنطن سوف ترفع قيمة تبرعاتها من 35 إلى 350 مليون دولار. أحد الأذكياء، الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، أهدى هواة المقارنات الدراماتيكية هذه الإحصائية، الطريفة والسوداء في آن معاً: نهار الكارثة، كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد دخل يومه الـ 656، وكانت واشنطن قد أنفقت حتى ذلك التاريخ 148 مليار دولار في تغطية الاحتلال، وهذا يعني أنّ المبلغ الذي تبرّعت به واشنطن لإغاثة منكوبي جنوب شرق آسيا يعادل يوماً ونصف يوم من مصروفات أمريكا… على منكوبي العراق!
وإذا صحّ أنّ الكوارث بلا حدود، فإنّ الأصحّ في المقابل هو أنّ ثورات الطبيعة ليست أقلّ من حوادث سياسية، وربما بامتياز أيضاً، لأنها تتكفل بكشف أنماط القصور والخلل وانعدام المسؤولية ساعة وقوع الكارثة، وتستشرف الكثير من جوانب الجرد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي لأداء النخب الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء. وبمعزل عن تشخيص عاتق المسؤولية، أو التحلل منه أو حتى خيانته، للكوارث فضيلة تعريف المواطن المهمّش على تفاصيل ملموسة تشخّص تهميشه، ليس في شروط استثنائية كارثية فقط، بل عموماً على أصعدة الحقوق المضيّعة والوجود المنتقَص.
وتلك دروس يندر أن تكون الذاكرة الشعبية عاجزة عن حفظها، حتى ساعة حساب.

 

 

 

كابلان و«الشرق الأوسط الأكبر»:

مديح الطغيان ورثاء الإمبراطورية

صبحي حديدي

 

مفهوم الشرق الأوسط الراهن، التقليدي أو المتفق عليه أو المكرّس على نحو أو آخر، لم يعد يتسع لتنظيرات الكاتب الجيو ـ سياسي الأمريكي روبرت د. كابلان؛ وبديله اليوم هو «الشرق الأوسط الأكبر» وليس الكبير فقط، كما يقترح كتابه الأخير «حلول الزمن: الإمبراطورية والفوضى، من البحر الأبيض المتوسط وحتى الصين» الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية، في نيويورك ضمن منشورات راندوم. أمّا جغرافية المفهوم الأكبر هذا فلا تبدأ من الدول العربية أو المسلمة في آسيا وشمال أفريقيا، بل تشملها حين تمتدّ من غرب الصين، مروراً بآسيا الوسطى وشرق أوروبا، واشتمالاً على شبه الجزيرة الهندية فالمتوسط وبحرَيْ إيجة والعرب وخليج البنغال، وصولاً إلى المحيط الهندي.
دوافع تسطير الكتاب، وهي أيضاً بعض أبرز موضوعاته: 1) اهتمام كابلان بأبعاد ومآلات الحروب (الأمريكية، أساساً) في أفغانستان والعراق، بين 2001 و2021؛ و2) الفوضى، كما يسميها، التي أعقبت «الربيع العربي» وأعادت تأكيد موقفه المعروف القائل بأنّ الطغيان على علاته خير من الفوضى وانعدام الاستقرار؛ و3) إعادة قراءة الحضارات والإمبراطوريات، ليس على ضوء خلاصات صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات، بل من زوايا ثقافية وأنثروبولوجية لا يجد كابلان حرجاً في تلمّسها اتكاء على منهجيات يمينية أو يسارية أو ليبرالية وسيطة، أو يجتمع في خلائطها أمثال أرنولد توينبي وكليفورد غيرتز وإدوارد غيبون وفرناند بروديل و… إدوارد سعيد!
جدير بإشارة فورية أنّ كابلان في هذا الكتاب يعتذر عن موقفه السابق الذي انطوى على تأييد الغزو الأمريكي للعراق؛ ويعترف بأنّ كراهيته لشخص صدّام حسين أعمته عن رؤية الكثير من المزالق التي كان يتوجب أن تبرز بوضوح أمام عينيه قبيل تسرّعه في الحماس لمشروع جورج بوش الابن ورهط المحافظين الجدد. ولعلّ المبدأ العتيق، القائل بأنّ اعتذاره متأخراً خير من عدم اعتذاره نهائياً، لا ينطبق تماماً أو حتى بما يكفي على تنظير كابلان حول الملفّ ذاك، بالنظر إلى أنّ الحصيلة تجاوزت الحماس إلى شهوة التبشير بسلسلة قوانين راسخة ذات صلة بالتصارع الحضاري بين غرب وشرق، وتنوير وأصولية؛ على نحو لم يبقَ فيه من صدّام حسين واستبداده ونظامه إلا النزر اليسير.
ذلك، أيضاً، سبب وجيه إضافي لوضع أفكار كابلان إجمالاً، وتلك التي تخصّ قضايا الشرق الأوسط تحديداً، على أكثر من محكّ يُخضعها للتدقيق والتمحيص والتشكيك؛ أبعد، بكثير، من مجرد السجال والنقد وتطوير الاختلاف العميق، الذي يمكن أن يبلغ شأو الرفض، شكلاً ومضموناً. وعلى هذا المنوال يتوجب أن تُقرأ الصفحات التي يخصصها للانتفاضة السورية، ضمن فصل لا يلوح أنّ المصادفة العفوية وراء عَنْوَنته بـ«الهلال الخصيب»؛ حيث يتكئ على آراء جوشوا لانديز رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما الأمريكية، الذي لا يُظلم كثيراً حين يُوصف بـ«ناطق باسم النظام السوري». إعجاب كابلان بآراء لانديز ينحصر، أو يكاد، في أنّ الأخير خرج عن إجماع المراقبين الأمريكيين للوضع السوري عند انطلاق الانتفاضة الشعبية سنة 2011، وتكهن بأن بشار الأسد لن يسقط، وأنه لا يوجد «شعب سوري واحد» أساساً، وسوريا «منقسمة على خطوط دينية وإثنية وطبقية»؛ مردداً أصداء فريا ستارك الرحالة البريطانية/ الإيطالية، التي جالت في لبنان وسوريا والعراق أواخر عشرينيات القرن المنصرم.

مديح الإمبراطوريات، أو إبداء الأسف على انحسارها، محور مركزي في غالبية مؤلفات كابلان، وهو هنا يعيد تكرار المعزوفة ذاتها على هذا النحو، الاختزالي بقدر ركونه إلى التبسيط المخلّ: الثورة الفرنسية جلبت الترهيب بدل نظام ملكي فاسد، والثورة الروسية استبدلت طغيان آل رومانوف بحكم البلاشفة الشمولي، والثورة الإيرانية أحلّت استبداد آيات الله محلّ حكم الشاه الأوتوقراطي؛ وهذه مسارات تدفعه إلى الاستنتاج بأنّ واحدة من «مصائب» السياسة الخارجية الأمريكية كانت الإيمان، تبعاً لمخيّلة الرئيس الأسبق وودرو ولسون، بأنّ «التاريخ الإنساني يتدرّج وفق خطوط تقدمية». وجولات كابلان في الشرق الأوسط، تركيا وكردستان وأفغانستان والباكستان وسوريا والسعودية ومصر وليبيا وإثيوبيا، أقنعته بأنّ ما شهده هو «عالم هوبزوي» نسبة إلى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1588 ـ 1679) صاحب الخلاصة الشهيرة القائلة بأنّ الدول والمجتمعات لا يمكن أن تكون مستقرة وآمنة إلا تحت سلطة حاكم مطلق.
ولعلّ كابلان هو الوحيد الذي يتجاسر على تصريح، أخرق وجزافي وأحمق واستفزازي، مثل التالي: «قصارى القول إنّ الشرق الأوسط بعد 100 سنة لم يجد بعدُ حلاً ملائماً لانهيار الإمبراطورية العثمانية»؛ فما بالك بطيّ صفحات الإمبراطوريات الآشورية والرومانية والفارسية والبيزنطية والبريطانية والسوفييتية والأمريكية، والتعداد من عنده بالطبع. ورثاء الإمبراطوريات، بعد مديح أنظمة الطغيان، هو بوّابة أولى تمنح كابلان فرصة القدح بكتاب سعيد «الاستشراق» 1978؛ والتهليل لأعمال برنارد لويس، بطريرك الاستشراق كما تفضّل هذه السطور تسميته. هي، إلى ذلك، نافذة كابلان كي يردّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى جذور استشراقية، تُبعد عن الكيان الصهيوني أيّ عناصر صريحة لاستعمار استيطاني وعنصري، ينزلق اليوم حثيثاً صوب أسوأ منظومات الأبارتيد باعتراف عدد من المراقبين اليهود الإسرائيليين والأمريكيين على حدّ سواء.
وللمرء أن يعود إلى كتابات (يجدر القول: نبوءات) صدرت عن كابلان في الماضي القريب، واعتمدت حتميات مختلفة الطراز، لكنها تخرج من جهاز تفكير واحد، ساكن وسكوني، سطحي وتسطيحي؛ كما في هذا المثال من مقالة بعنوان «تحريك التاريخ»: «البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم تمتلك إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسوريا والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (…) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية».
أو تلك الحتمية العجيبة: أنّ أولى انتفاضات العرب بدأت في تونس، من بلدة سيدي بوزيد تحديداً، لأنها تقع ضمن خطّ هزيمة هانيبعل، القائد العسكري القرطاجي، على يد الجنرال الروماني سكيبيو الأفريقي، في موقعة زامة؛ حين حفر الأخير خندقاً حدودياً يمتد من طبرقة إلى صفاقس؟ في عبارة أخرى، ضمن صياغة كابلان للفكرة ذاتها: لولا أنّ تونس هي النقطة الأفريقية، وبالتالي العربية، الأقرب إلى أوروبا، وإلى «المناطق المتمدنة»؛ هل كانت أولى انتفاضات العرب ستقع فيها؟ يكتب كابلان: «بدأ الربيع العربي من تونس، البلد الأكثر تأورباً بين جميع البلدان العربية، والذي يقع على مسافة ثماني ساعات على ظهر ناقلة بطيئة تبحر نحو صقلية. وبالنسبة إلى كثيرين، كانت تونس متكاملة مع السياسة الإيطالية أسوة بتكامل صقلية معها»!
ورغم إقرار كابلان بأنّ النظرة السلبية إلى الإمبراطوريات ناجمة عن التاريخ الدامي للغزوات الأوروبية (بديله عن تعابير مثل الاستعمار والاستيطان والاحتلال) فإنه لا يتورّع عن صياغة الرسالة الأوضح في كتابه: الزمن الذي خيّم ويحوم وسوف يطلع، هو ذاك الذي سيثبت أنّ الإمبراطورية شكل طبيعي في الحكم، ومظهر للتاريخ في كلّ بقعة من العالم. وذاك قدر جيو ـ سياسي محتوم، ولا رادّ له!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

اعتزال كوندوليزا رايس:

قبائح السياسة وملايين البورصة

صبحي حديدي

 

في ذروة تصدّرها، لسنة سادسة على التوالي، موقع المرأة/ السياسية الأكثر تفضيلاً لدى الأمريكيين، حسب استطلاعات رأي أسبوعية «واشنطن ويكلي»؛ ومن سدّة منصبها الحالي كمديرة لمعهد هوفر الشهير، التابع لجامعة ستانفورد؛ نقلت أوساط كوندوليزا رايس أنها، وهي في الـ68 من العمر، تنوي اعتزال السياسة نهائياً: «إذْ نتقدّم في العمر، هنالك في الحياة أطوار ندخلها، وأن أكون سياسية أمر لم يعد ينطوي على متعة» نُسب إليها القول في مجلة «الناس والمال» الاقتصادية الأمريكية.
ليس خارجاً عن هذه السياقات ما أوردته المجلة ذاتها حول إيرادات رايس المالية خلال ما انقضى حتى الآن من أشهر 2023: 75 مليون دولار، الأعلى بالمقارنة مع 10 نساء/ سياسيات في العالم، وثروة شخصية تُقدّر بـ215 مليون دولار؛ لا تأتي فقط من «أتعاب» محاضرات ومشاركات في مؤتمرات دولية رفيعة المستوى، بل كذلك من أسهم في البورصة، واستثمارات عقارية وتعويضات عن الظهور على أغلفة مجلة «كوفر غيرل» المختصة بأدوات التجميل، فضلاً عن امتلاك مطاعم عديدة في واشنطن، وحصص في نادٍ لكرة القدم، وخدمات لشركة عطور…
للأمريكيين في ما يفضّلون من شخصيات، وطرائق ما يجنون من ملايين، شؤون شتى تتجاوز ما يمكن أن يشمل سواهم، على نطاق العالم الرأسمالي المعاصر عموماً؛ وهذا، غنيّ عن القول، تفصيل ليس هنا مقامه. غير أنّ خبر اعتزال رايس لا يصحّ أن يمرّ من دون أن يستدعي هذا أو ذاك من الفصول الأشنع، السياسية والأخلاقية، في سجل وزيرة خارجية الولايات المتحدة الـ66 بين 2005 وحتى 2009، ومستشارة الأمن القومي الأمريكي الـ19 بين 2001 وحتى 2005.
وفي الوسع البدء من صفة «الأولى» التي اقترنت بمواقع عديدة حساسة شغلتها رايس في الإدارات الأمريكية، بينها أنها كانت أوّل امرأة أفرو ـ أمريكية تشغل منصب وزيرة الخارجية، وأوّل امرأة مستشارة لمجلس الأمن القومي، وأوّل مستشارة شخصية لشؤون الشرق الأوسط لدى حاكم ولاية تكساس، جورج بوش الابن (الذي سيُنتخب رئيساً للولايات المتحدة، مرّتين). وكان كتابها «لا يعلو عليه شرف: مذكرات سنواتي في واشنطن» 2011، سعى إلى تبييض صفحة رايس، وترقيتها إلى مصاف الشرف الأعلى الذي يلمّح إليه العنوان؛ فلم تنته معظم فصوله إلا إلى تثبيت النقائض، أو كشف ما تمّ التستّر عليه من وقائع فاضحة.
حول سوريا، على سبيل المثال، تظلّ رايس مبتكرة نظرية «التغيير من داخل النظام» وليس تغيير النظام؛ عبر الإصلاحات التجميلية تارة، أو ممارسة الضغوط اللفظية طوراً، فضلاً عن الغمز بين حين وآخر إلى طراز منتقى من «معارضة» سورية مستهلَكة، متأمركة سرّاً أو علانية، ومنقطعة الصلة عن الشعب السوري والمعارضة الفعلية في الداخل. ولعل الكثير من تدابير تلك النظرية، وهي في كل حال فقيرة محدودة التفاصيل، ما تزال معتمَدة في واشنطن، حتى إذا كان هذا الناطق الرسمي أو ذاك، باسم البيت الأبيض أو الخارجية، يُدخل عليها تعديلات لفظية بدورها.

بيد أنّ محاضرتها الشهيرة، في جامعة القاهرة صيف 2005، كانت واحدة من أوضح «تجليات» تفكير رايس حول الشرق الأوسط عموماً، والعالم العربي خصوصاً. يومذاك بدأت هكذا: «طيلة 60 سنة بحثت بلادي، الولايات المتحدة، عن الاستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، هنا في الشرق الأوسط، ولم ننجز أيّاً منهما. الآن نحن نتخذ مساراً مختلفاً. نحن ندعم الطموحات الديمقراطية لكلّ الشعوب. وثمة اليوم أنظمة غير ديمقراطية تهدّد الحرّية. البعض يظنّ أنّ هذه واحدة من حقائق التاريخ الثابتة. ولكن هناك مَنْ يعرفون الأفضل. ويمكن العثور على هؤلاء الوطنيين المتعطشين للحرّية في بغداد وبيروت، في الرياض ورام الله، في عمّان وطهران، وهنا في القاهرة تحديداً». ليس في دمشق، طبعاً، رغم أنها جارة بيروت وبغداد وعمّان؛ ورغم أنّ النظام السوري كان نسيج وحده في تدشين الاستبداد الوراثي، وحكم العائلة؛ ورغم أنّ الاجهزة الأمنية السورية أقدمت، في الفترة ذاتها، على إغلاق منتدى الأتاسي واعتقال أبرز قياداته.
أمّا حين غادرت الموقع الرسمي، وصار امتداح «الربيع العربي» مغنماً لكلّ رافع عقيرة في واشنطن؛ فإنّ رايس لم تتردّد في إصدار هذا الحكم الرهيب على النظام السوري: «لقد أتى دوركم. وأياً كان النظام الذي سيخلفكم، فإنه لن يكون أسوأ في نظر شعبكم، وفي نظر العالم، ممّا كنتم عليه أنتم». ثمّ أردفت، خلال واحدة من جولات توقيع كتابها: «الأسد يقود سوريا إلى حافة الحرب الأهلية» وتنكيله بالمعارضين «يخلق وضعاً بالغ الخطورة» وإسقاطه «سوف يكون أمراً عظيماً للشعب السوري، ولمصالح الولايات المتحدة، وكلّ الباحثين عن شرق أوسط أكثر سلاماً»! وقد يصعب أن ينتظر المرء من رايس موقفاً صامتاً إزاء جرائم النظام السوري، إلا أنّ الانقلابات الفاضحة في المواقف، بين ليلة وضحاها، بدت أقرب إلى «الشقلبة» منها إلى التنقّل أو التبدّل.
وفي محاضرة القاهرة مزجت رايس بين الفكر والفلسفة والسياسة والتبشير، وبين نقد الماضي والرجم بالغيب عن المستقبل، وبين الترهيب والترغيب سواء بصدد الحاكم العربي (والحلفاء في القاهرة والرياض تحديداً) أو ما يخصّ شعوب المنطقة إجمالاً. وكانت بعض الفقرات قد انطوت على عبارات من النوع الوردي الزاهي، الباسم المشرق… كهذه مثلاً: «إنّ الخوف من الخيارات الحرّة لا يمكن أن يكون بعد الآن مبرراً لرفض الحرية» أو: «هناك مَن يقولون إنّ الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أنّ العكس هو الصحيح: إنّ الحرية والديمقراطية تشكلان الفكر الوحيد الذي يملك قوّة التغلّب على الكراهية والانقسام والعنف»… كما أوضحت رايس مجموعة معايير محددة للحكم الديمقراطي كما تفهمه الولايات المتحدة، وكما تريد أن تراه في الشرق الأوسط. وإذا كانت قد بدأت بالانتخابات الحرّة النزيهة، فإنها حدّدت شكل الحكومات الديمقراطية المطلوبة: تلك التي «تحمي سلسلة حقوق أساسية لجميع المواطنين، بينها الحق في حرّية الكلام، والاجتماع، والعبادة كما يشاء المرء، وتعليم الأبناء، ذكوراً وإناثاً، والتحرّر من زوّار منتصف الليل التابعين للبوليس السرّي».
حول الملفّ الفلسطيني ذهبت رايس إلى شمعون بيريس في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» 1993، وأعادت العزف على أنغام الحلم باتحاد شرق ـ أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي؛ ولكنها، مثله، لم تكترث بالحقائق الدامية على الأرض قدر اكتراثها بالكيمياء التي تقلب الكابوس الأسود إلى حلم وردي. وإذا كان بيريس قد أبدى استعداده للتضحية بأغلى الصور على قلوب الإسرائيليين الأوائل (صورة المقاتل الذي يحتضن رشاش الـ»عوزي» وسط حقل الشعير أو بيارة البرتقال)؛ فإنّ رايس شاءت عكس الصورة تماماً: مشاهد الغارات الإسرائيلية الهمجية على بيروت وصيدا وصور والنبطية.
سلسلة القبائح قد لا توازي ملايين المصارف والبورصات في سجلّ رايس، غير أنّ الكثير منها (منح المخابرات المركزية الأمريكية الإذن باستخدام طرائق التعذيب الوحشية في العراق وأفغانستان وغوانتانامو، مثلاً)؛ يصعب أن ينقذ رايس، معتزلة السياسة، من الاستقرار الأبدي ضمن لوائح الساسة الأمريكيين، رجالاً ونساء، أصحاب المواقع الأشنع والأبشع. والحال أنه لا تنقضي سنة إلا ويرسل التاريخ المزيد من هؤلاء إلى قيعان العار؛ فيتعظ من يحسن إدراك العظة، ويتابع الغيّ كلّ متعامٍ متلهف على القفز إلى «مزبلة التاريخ» حسب تعبير تروتسكي.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

انقلابات أفريقيا وشركاء «فاغنر»:

أبعد من الارتزاق الكلاسيكي

صبحي حديدي

 

في ورقة بحثية محكمة المعطيات حول الانقلابات بين 1950 و2010، صدرت عن كلية العلوم السياسية في جامعة كنتاكي الأمريكية، يتوصل الباحثان جوناثان بأول وكلايتون ثاين إلى الإحصائية التالية: من أصل 486 انقلابا، ناجح أو منحصر في المحاولة، على مستوى عالمي، تنفرد أفريقيا بالرقم الأعلى مع 214، بينها 106 نجحت بالفعل. يضاف إلى هذا أنه، منذ آب (أغسطس) 2020، شهدت القارّة 8 انقلابات في مالي (انقلابان خلال 9 أشهر) وغينيا، والسودان، وبوركينا فاسو (انقلابان خلال 8 أشهر) والنيجر، والغابون حالياً.
موضوع هذه السطور ليس ملفّ الانقلابات، لجهة أسبابها ومنطق وقوعها والقوى المحرّكة خلفها وإشكاليات العسكر والعسكرتاريا في أفريقيا (أو العوالم النامية والجنوب عموماً)؛ بل مناقشة عنصر بارز فاعل خلف ظواهر الانقلابات، يسبقها أو يتزامن معها أو يعقبها، ويحدث غالباً أن تجري السيرورة على هذا النحو الثلاثي. هذا العنصر هو تشكيلات المرتزقة، الأجنبية وغير الأفريقية غالباً، التي يصحّ أن تتسع ديناميات حضورها في القارّة لتكريس التعريف الأكثر دقة واشتمالاً؛ أي ذاك الذي يصفها هكذا: «الشركات العسكرية والأمنية الخاصة» أو الـ
PMSC في اختصارها الإنكليزي. الأشهر بينها، هذه الأيام، هي شركة ّفاغنر» الأوسع انتشاراً في القارّة (مارست أنشطة عسكرية وأمنية مختلفة المهامّ في مالي وليبيا والسودان وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وغينيا بيساو والموزامبيق وبوركينا فاسو وتشاد وأفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو)؛ ولم تكن وحدها في هذه الساحة أو تلك، بل استضافت شركات روسية أخرى مثل «مجموعة RSB» و«مجموعة موران الأمنية» و«مجموعة باتريوت».
لكنّ أنشطة «فاغنر» وشركائها لا تقتصر على المهامّ الأمنية والعسكرية، بل تتولى أيضاً عمليات النهب غير الشرعي لثروات أساسية مثل الذهب والماس، وتسهّل خطوط تهريبها، وتجني بالتالي قسطاً غير محدود من العوائد المالية لقاء هذه الخدمات؛ الأمر الذي لا يقتصر على أنظمة القارّة الأفريقية، ولعلّ مثاله الأوضح هو العلاقات الاستثمارية بين «فاغنر» ونظام بشار الأسد في سوريا. وعبر اثنتين من الشركات النفطية الروسية، «إيفرو بوليس» و«ستروترانس غاز» أمّنت «فاغنر» عقود نفط ومناجم فوسفات في وسط سوريا ومناطق الساحل؛ في غمرة تنافس خفيّ، أو معلن أحياناً، مع شركات إيرانية تطمع في حصص دسمة من احتياطي الفوسفات (سوريا هي الخامسة عالمياً).
الشركات الأمنية الأخرى، غير الروسية، أكثر عدداً من أن تحصى في هذا المقام، ولكن قد تكفي الإشارة إلى أنّ جنسياتها لا تقتصر على القوى الاستعمارية القديمة (ميراث رجال من أمثال «ماد مايك» البريطاني وبوب دونار الفرنسي)؛ بل ثمة شركات أمريكية وصينية وجنوب أفريقية وحتى نروجية؛ وأخرى عناوين إقامتها في الإمارات مثل الـ»بلاك شيلد» أو في تركيا مثل الـ»سادات» أو في بلغاريا مثل الـ»أجيميرا»… وكمثال على سيرورات تطور هذه الشركات، يُشار إلى نموذج الـ
EO، التي أسسها إيبن بارلو في جنوب أفريقيا سنة 1989 وتولت حماية منشآت الطاقة في أنغولا وتدخلت في حرب سيراليون الأهلية، حتى أقدمت حكومة ما بعد الأبارتيد على حلّها؛ لكنّ شركات أخرى سارعت إلى تمويلها مجدداً، فعادت لحيازة حقوق التعدين في سيراليون. ليس هذا فحسب، بل أسهمت الشركة في إخماد انتفاضات شعبية، ودرّبت جيوشاً انقلابية، وحرست/ نهبت مناجم ماس هنا وهناك، ولعبت دوراً في مجازر رواندا سنة 1994؛ بل بلغ الأمر أنها تقدمت إلى الأمم المتحدة باقتراح إيقاف المجازر مقابل 120 مليون دولار!

العلاقات الاستثمارية بين «فاغنر» ونظام بشار الأسد في سوريا، وعبر اثنتين من الشركات النفطية الروسية، «إيفرو بوليس» و«ستروترانس غاز» أمّنت «فاغنر» عقود نفط ومناجم فوسفات في وسط سوريا ومناطق الساحل

أحد أبرز العوامل وراء إحياء أنشطة الارتزاق الأمني والعسكري، وانقلابها إلى شركات خاصة كونية ذات طابع استثماري وربحي يُحتسب بالمليارات وليس بالملايين، كانت وتظلّ «عقود الحرب» التي أبرمتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان: المرء يفترض أنّ الدول الفاشلة، يساجل جوناثان بأول وكلايتون ثاين، هي التي تحتاج إلى كيانات عسكرية ارتزاقية الطابع؛ ولكن أن تلجأ إلى هذا الخيار قوّة كونية عظمى مثل الولايات المتحدة أمر يعني تكريس «صناعة» وتوفير «قدوة صالحة» لانتشارها كيفما اتفق، ويستوي أن تكون الحاجة ماسّة طويلة الأجل أو موسمية عابرة. ومعادلة التناسب بين المقاتل النظامي والمقاتل المرتزق كانت، في عقود البنتاغون والمخابرات المركزية الأمريكية، لافتة حقاً: 1 مقابل 1 في البدء، ثمّ 50٪ نسبة المرتزقة في العراق، و70٪ نسبتهم في أفغانستان؛ مقابل 10٪ فقط من عقود القتال الخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، مع فارق أنّ غالبية المتعاقدين لم يكونوا مسلحين وعُهد إليهم بوظائف مكتبية وغير قتالية.
الأكثر ابتهاجاً بميل أمريكا نحو التعاقد مع المرتزقة هو إريك برنس مؤسس مجموعة «بلاكووتر الدولية»؛ الذي، في سنة 2017، حثّ الإدارة والكونغرس والبنتاغون على استبدال كامل الجيش الأمريكي في أفغانستان بالمرتزقة من مجموعته وشركائها (ويومذاك، للإنصاف فقط، كان يفغيني بريغوجين مجرّد «طبّاخ بوتين» وليس مؤسس أو قائد «فاغنر»). هي دعوة إلى «خصخصة الحرب» في أفغانستان، مثلما سبقتها دعوة إلى «خصخصة السلام» في القارة الأفريقية؛ ولم يكن مستغرباً أن يحظى هذا التنظير الجديد باهتمام هستيري من وسائل الإعلام الأمريكية وخبراء الجيو ـ سياسات. لا أحد جادل في حينه أنّ القوّة الكونية الأعظم في حاجة إلى «بندقية بالإيجار» في ما تملك من ترسانات أسلحة فتاكة متقدمة ستراتيجية وتكتيكية وتقليدية ونووية، ولكنّ خيار الانتقال إلى الخاصّ بدل العام في إدارة الحروب كان يدغدغ طبقة غير هزيلة من أدمغة دعاة نهاية التاريخ وانتصار إنسان رأس المال الأخير!
مجلس الشيوخ الأمريكي، في تقرير مفصل أعقب تحقيقاً ميدانياً، أقرّ بأنّ «الصناعة» العسكرية والأمنية الأمريكية في أفغانستان والعراق استولدت صناعات محلية؛ وبالتالي فإنّ «ما سبق أن وُصفوا بأمراء الحرب وقادة الميليشيا باتوا الآن شركات أمنية خاصة» بفضل سابقيهم من الشركات الأمريكية والبريطانية. على سبيل المثال، تعاقدت الشركة البريطانية «آرمور غروب» مع شركتين أفغانيتين، أطلقت على الأولى اسم «المستر أبيض» وعلى الثانية «المستر وردي»؛ وكلا الشركتين تورطت في جرائم قتل ونهب وسلب واختطاف وأنشطة جنائية شتى. ليس بعيداً عن هذا الجانب، غير الخالي من عنصرية مبدأ «عبء الرجل الأبيض» القديم، اعتمدت أمريكا الرسمية على «أبناء البلد» من أفغان وعراقيين وجنسيات محلية أخرى؛ حيث الكلفة أرخص بكثير من توظيف عناصر أمريكية أو أوروبية، وطبقاً للبنتاغون فإنّ نحو 20 ألف متعاقد مع الجيش الأمريكي في سنة 2018 كانوا من حملة الجنسية الأمريكية، مقابل 30 ألف متعاقد من غير الأمريكيين.
وهكذا، أبعد من ارتزاق «فاغنر» الكلاسيكي، ومن تجنيد الميليشيات المأجورة في أنساقها الحديثة والمعاصرة، أو حتى سوابقها النظيرة في القرون الوسطى؛ ثمة اليوم قواعد تأسيس واشتباك وإدارة، مدماكية الطابع، بادرت الولايات المتحدة إلى إرساء ركائزها وأعرافها وقوانينها، وأسفرت عن صناعة ثقيلة هائلة العواقب ومليارية المغانم: انقلابات أفريقيا المتعاقبة ليست سوى الوجهة المعلَنة من 160 مليار دولار أنفقتها وزارة الدفاع الأمريكية على التعاقدات الخاصة بين أعوام 2007 وحتى 2012، وهذه (لهواة المقارنات الصاعقة) تعادل أربعة أضعاف ميزانية الدفاع في المملكة المتحدة. لا تُحتسب ضمن هذا الرقم، بالطبع، ما سددته أنظمة الانقلابات والاستبداد والفساد والتوريث، سواء في صيغة مبالغ مالية وودائع في مصارف أوروبا لحساب الشركات العسكرية والأمنية، أو في هيئة عقود استثمار ذهب وماس وفوسفات وثروات.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

من «الـ20» إلى الـ«بريكس»:

قمم كونية تتناهب السفوح

صبحي حديدي

 

آلاف الأميال تفصل بين مدينة بتسبرغ الأمريكية (حيث انعقدت قمة مجموعة الـ20 الثالثة، أواخر أيلول/ سبتمبر، 2009)؛ ومدينة جوهانسبرغ الجنوب أفريقية (التي احتضنت مؤخراً القمّة الـ15 لمجموعة الـ«بريكس» المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). وبمعزل عن مصادفات الحروف المشتركة في اسم المدينتين، ومشاركة في القمتين لدول أخرى ليست عضواً عاملاً في أيّ من المجموعتين (مثل السعودية والأرجنتين وأندونيسا)؛ ثمة فوارق شاسعة واسعة تخصّ انقسامات النظام الدولي، في الميادين الاقتصادية أوّلاً، وما يتفرّع عنها وبسببها من استطالات جيو ـ سياسية، لعلّ أوضح اختصاراتها مفاعيل عودة الحرب الباردة بأشكال جديدة وأنماط عابرة للانشطار التقليدي القديم بين كتلة غربية وأخرى شرقية.
وهذه سطور تولي أهمية عالية، حتى إذا بقيت محدودة التجسيد على أرض الواقع، لكلّ وأيّ جهد يسعى إلى تنويع الاستقطابات الكونية، أو الحدّ من القطبية الواحدة التي تتزعمها الولايات المتحدة وشركاؤها في الغرب. لكنّ توخّي الأهمية لا يصحّ أن يطمس حقائق الانقسامات العميقة، عمودية كانت أم أفقية، بين الدول الخمس المكوّنة لمجموعة الـ»بريكس» مقابل الوئام والتفاهم والتكامل بين الدول الأبرز والأكثر تقدماً ضمن مجموعة الـ20، من جانب أوّل؛ وأمّا من جانب ثانٍ، لا يقلّ تأثيراً على المنطق العامّ لاصطفافات مجموعات كهذه، فهو شهية هذه الدولة أو تلك ضمن الـ»بريكس» للحلول محلّ الولايات المتحدة في ممارسة الهيمنة والتفرّد والقطبية الأحادية.
ليس مفاجئاً، بالتالي، أن يحاول الرئيس الصيني شي جين بينغ تصدّر قمّة جوهانسبرغ حتى قبل انعقادها، والقيام بزيارة رسمية استباقية لجأ فيها إلى خطاب استنهاض الأمم الأفريقية ضدّ «نير الاستعمار» وتراث الحرب الباردة وتنزيه بلاده عن أيّ مطمع سوى الأخذ بيد الدول النامية نحو التطوّر والتقدّم. مدهش، في مقام أوّل شكلي لكنه ليس متجرداً من المغزى، أنّ تلك الخطبة (الإيديولوجية والتنظيرية، بامتياز) لم يُلْقها بينغ بنفسه، بل عهد بالمهمة إلى وزير التجارة في حكومته؛ لأسباب سوف تظلّ غامضة حتى يشاء الرئيس الصيني إماطة اللثام عنها. أم لعلّ عيار المجاز الثقيل في الخطبة (من طراز مناشدة الأمم «ألا تسير في نومها إلى هاوية حرب باردة جديدة»!) أو تصوير الصين كـ«قوّة استقرار» مضادة لـ«مبادرات محشوّة بالكلام المعسول المبهم» تتوجه نحو الدول النامية؛ هو الذي احتوى من المداهنة مقادير شاء بينغ ألا تُلصق بشخصه؟
من جانبه شاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يلقي كلمته بنفسه، عبر تقنية الفيديو، بسبب عدم حضوره جسدياً إلى جوهانسبرغ تفادياً لحرج مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية؛ غير عابئ بعواقب العيارات المجازية الثقيلة التي اتكأ عليها في تنبيه الأمم إلى أخطار حرب باردة جديدة، كانت وراء الحرب في أوكرانيا كما قال.
والرجل الذي تقصف قاذفاته المخابز والأسواق الشعبية والمشافي والمدارس ومخيمات اللجوء في الشمال السوري، والذي اجتاح أوكرانيا وضمّ جزيرة القرم ويلوّح بقضم المزيد في جورجيا، هو نفسه الذي يقول في خطابه: «نحن نتعاون على أساس مبادئ المساواة ودعم الشراكة واحترام مصالح بعضنا بعضاً، وهذا هو جوهر المسار الستراتيجي لمجموعتنا. وهو المسار الذي يلبي تطلعات القسم الأكبر من المجتمع العالمي، ما يسمى الأغلبية العالمية». بل هو، فوق هذا وذاك، زعيم الدولة التي سوف تحتضن قمة الـ«بريكس» المقبلة في قازان، تشرين الأوّل (أكتوبر) 2024، وتلك مفارقة أخرى إضافية إلى مسرح العبث الذي يكتنف غالبية القمم الكونية من هذا الطراز.

بوتين الذي تقصف قاذفاته المخابز والأسواق الشعبية والمشافي والمدارس ومخيمات اللجوء في الشمال السوري، والذي اجتاح أوكرانيا وضمّ جزيرة القرم ويلوّح بقضم المزيد في جورجيا، هو نفسه الذي يقول في خطابه: «نحن نتعاون على أساس مبادئ المساواة ودعم الشراكة واحترام مصالح بعضنا»

فإذا عاد المرء إلى قمّة «مجموعة الـ20» في بتسبرغ، فإنّ سمة المناخات العامة لم تكن إحياء أيّ رميم للحرب الباردة، بل على العكس كانت شيوع حال من الندب ولعق الجراح في أعقاب الأزمة العاصفة التي شهدت ما يشبه الانهيار التامّ للنظام المالي الكوني؛ وبدا جلياً أنّ الولايات المتحدة آخذة في التراجع المنتظم عن سياسات الحماية المتغطرسة التي سعت إلى فرضها على قمم سابقة في واشنطن ولندن. الأسباب كانت عديدة، على رأسها تناقض المصالح بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا، وتعزّز مواقع الدول ذات الاقتصادات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، والصين بصفة خاصة.
ولقد توفّر على هذا دليل بليغ تكفلت بتقديمه صحيفة «وول ستريت جورنال» حين أسدت إلى وزير الخزانة الأمريكي النصائح التالية: 1) لسنا في عقود الهيمنة، وتأزّم الاقتصادات الآسيوية، حين كانت الخزانة الأمريكية تسيّر اقتصاد الكون من خلال صندوق النقد الدولي؛ و2) لا مناص، استطراداً، من مراعاة مصالح اقتصادات الصين والهند والبرازيل، على حساب الحلفاء في أوروبا؛ و3) من الضروري منح هذه الدول قوّة تصويتية أعلى في اجتماعات صندوق النقد الدولي، على حساب حلفاء مثل فرنسا وألمانيا، وهذه المرّة عن سابق قصد، وبما يخدم مصالح الولايات المتحدة.
مصالح تطويق الأزمات البنيوية العميقة اقتضت، يومذاك، ما يشبه التلاؤم مع المعمار الوجودي لنشوء مجموعة (اقتصادية، جوهرياً) تضمّ الصين والبرازيل والهند؛ على نحو لا ينافس «مجموعة الـ20» بقدر ما ينتشل مصارفها العملاقة وبورصاتها المنهارة، ولتذهب الاعتبارات الجيو ـ سياسية إلى الجحيم، مؤقتاً على الأقلّ أو مرحلياً وبالتدريج. وثمة من ساجل، ليس من دون وجاهة منطقية في الواقع، أنّ البيت الأبيض أراد تثبيت قيمة رمزية خاصة حين اختار أن تكون مدينة بتسبرغ، عاصمة صناعة الفولاذ الأمريكية، هي التي تحتضن القمّة؛ بحيث يتذكّر الزعماء المشاركون أنّ اليد العليا ما تزال للصناعات الأمريكية، الثقيلة الكونية، والعملاقة العابرة للقارّات والأمم.
لم يكن مدهشاً، في المقابل، أنّ السحر انقلب على الساحر حين اتضح أنّ اضمحلال موقع المدينة على خريطة الاستثمارات الداخلية، ليس سوى التعبير الجلي عن صورة أخرى أعرض وأخطر هي اضمحلال الصناعات الأمريكية ذاتها على الخريطة الدولية. ليس أقلّ إدهاشاً أنّ الصين (التي تنبّه، اليوم، الأمم النامية إلى عدم المسير نائمة نحو الهاوية) حرصت على المساهمة النشطة في انتشال الاقتصاد الأمريكي من مآزقه، لا لأيّ اعتبار آخر يسبق حقيقة أنّ الدولار هو العملة التي تغطّي صادرات صينية بالمليارات.
وفي الخلاصات الجوهرية ذات الصفة النظرية، يُقال في تعريف الـ»بريكس» إنها مجموعة/ كتلة تستهدف تمثيل مصالح أمم ناهضة ونامية، وإطلاق نظام دولي جديد يُفترض أنه ينأى عن منظومات الحرب الباردة والكتلة الغربية الأمريكية مقابل الكتلة الشرقية السوفييتية. بعيداً عن التنظير، وأقرب إلى الواقع الفعلي، كانت هجمة كوفيد ـ 19 بمثابة الاختبار الأكثر جدية، أو بالأحرى التحدّي الملموس الميداني، لمدى قدرة المجموعة على التوحّد العملي والتكتل الإيجابي؛ خاصة وأنّ ثلاثاً من دولها المؤسِّسة (البرازيل والهند وجنوب أفريقيا) تصدّرت الدول الأكثر إصابة بالوباء. فهل اجتازت المحنة يومذاك، لجهة تصنيع اللقاحات وتأمينها لشعوبها أوّلاً، ثمّ للشعوب النامية الفقيرة تالياً؟ الإجابة ليست مخيبة للآمال فقط، بل هي ببساطة وجهة واقعية صارخة لتلمّس الحدود التي تُلزم الـ»بريكس» وتحجّم الأفعال في حقول اشتغالها المختلفة، في البنى التحتية التي تشمل اقتصاد الحياة اليومية وملفات الصحة والتعليم والتنمية…
وإلى حين فجر آخر يدشّن منطق عمل أكثر حيوية ونجاعة واستقلالاً، فإنّ قمم مجموعة الـ»بريكس» سوف تواصل التلاقي، بهذا المقدار أو ذاك، مع قمم «مجموعة الـ20»؛ على حساب غالبية ساحقة من الشعوب الأرض، التي في السفوح.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

واشنطن وموسكو وطهران:

عجائب الزوايا

صبحي حديدي

 

انفردت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية باقتراح حصّة الطرافة ضمن غابة الأخبار المتشابكة المتلاطمة القاتمة بصدد الحرب الروسية- الأوكرانية، فنشرت تقريراً نُسب إلى «مصادر مطلعة» مفاده أنّ الولايات المتحدة تضغط على إيران كي تتوقف الأخيرة عن بيع طائرات مسيّرة إلى روسيا؛ وأنّ الطلب جاء خلال مباحثات «تفاهم غير مكتوب» أوسع نطاقاً بين البلدين، يستهدف «خفض التوتر».
والمرء لا يُكثر من استخدام أهلّة الاقتباس في الفقرة السابقة إلا لأنّ خلائط العجب والارتياب تطفو على سطوح المعاني والمفردات، من زاوية أولى بسيطة يمكن أن يصنعها تساؤل لا يقلّ بساطة: اشمعنى، كما قد يقول أشقاؤنا في مصر، وأيّ علاقات طيبة كريمة سمحة تجمع بين واشنطن وطهران حتى «تمون» الأولى على الثانية في وقف عقود السلاح، ومع مَنْ: قوّة عظمى نووية مثل روسيا؟ الزاوية الثانية قد لا تتوسل البساطة خلف سؤال آخر: لماذا تتوقف إيران، ومقابل ماذا من جانب واشنطن؟
صحيح، بالطبع، أنّ الأجواء الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران تتنقل من خطوة إيجابية في تبادل السجناء، ثمنها رفع التجميد عن 6 مليارات من الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية، وصولاً إلى «أخذ علم» أمريكي بأنّ طهران بصدد تخفيض جداول العمل في برنامجها النووي. ولكن الصحيح الموازي، ولعله الأصحّ هنا تحديداً، أنّ إيران ليست أقلّ من تركيا أو السعودية في مساعي «التنغيص» على واشنطن و/ أو التناغم مع الكرملين في تشكيل استقطابات موازية أو رديفة أو حتى منافسة.
وحين تطلب واشنطن امتناع طهران عن تزويد موسكو بالمسيّرات، التي استُخدمت وسوف تُستخدم في العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا؛ فإنّ المُطالِب الأمريكي يتناسى أنه، ذات يوم غير بعيد تماماً، تغافل عن تعاون عسكري روسي – إيراني وثيق في سوريا، بل وتواطأ على تحسين شروطه وقطف ثماره. الزمن كان صيف 2016، بعد أقلّ من سنة على التدخل العسكري الروسي المباشر لصالح نظام بشار الأسد، حين بدأ الطيران الحربي الروسي ينطلق من قاعدة همذان العسكرية الإيرانية، لقصف أهداف في سوريا؛ وأُتيح لقاذفة الـ
Tu-22M الروسية الستراتيجية أن تلقي 20 طناً مترياً من القنابل أو الصواريخ، ولا بأس أن تحمل أيضاً رسائل سياسية متعددة العناوين: إلى واشنطن، والحلف الأطلسي، وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي، وسوق النفط، وسوق السلاح…
وأمّا بمعزل عن هذا الاعتبار، وفي أسواق الرمزيات السياسية التي تُباع بسهولة لجمهور «الممانعة» في الشرق الأوسط وجمهور إحياء الإمبراطورية القيصرية في روسيا؛ فإنّ التعاون العسكري بين موسكو وطهران يروّج، عند العاصمة الأولى، لأطروحة القوّة الكونية الجديرة بمجابهة أمريكا والأطلسي خارج حدود جورجيا وأوكرانيا، ثمّ استطراداً خارج حروب أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية. في الترويج للأطروحة ذاتها، تذكّر العاصمة الثانية بأنها قوّة إقليمية عظمى، مستعدة للاتجار بالمصالح الكونية الجيو- سياسية مع قوى كونية أخرى غير أمريكا، وأنّ الاتفاق النووي الذي وقعته مع «المجتمع الدولي» ليس منتهى تلك التجارة، أو ليس ذروتها القصوى.
وهكذا، بين استمرار توكيل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بملفات تزويد سلال العالم الغذائية بالحبوب الأوكرانية، وبين مطالبة إيران بالتوقف عن تغذية الجيش الروسي على جبهات أوكرانيا بمسيّرات «شاهد» المتقدمة تكنولوجياً، وبين شحن القنابل العنقودية الأمريكية عالية الفتك والتدمير إلى الجيش الأوكراني؛ ثمة في الولايات المتحدة، ثمّ الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، تلك القواسم المشتركة العظمى لمبدأ «السياسة الواقعية»، الذي استسهل قاموس العلوم السياسية تنزيهه عن انتهاك القوانين ارتكاب الجرائم مقابل وظائفه الجليلة في خدمة المصالح.
والأرجح أنّ «فايننشال تايمز» فضّلت الإمعان في الطرافة وعدم إفسادها عن طريق تذكير القرّاء بأنّ بوتين كان ذات مرّة ضيف قمّة الأطلسي المدلل، وأن صفقة إيران – كونترا انطوت على شحنات أسلحة أمريكية إلى… طهران!

 

 

العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية:

حكاية )ثورة صامتة(

صبحي حديدي

 

في حينه، تشرين الأول (أكتوبر) 2021، شاءت صحيفة «جيروزاليم بوست» أن تذهب بعيداً في المجاز، وربما في التفكير الرغبوي؛ فأطلقت صفة «الثورة الصامتة» على لقاء جمع وزراء خارجية الهند (سوبرامانيام جايشنكار) ودولة الاحتلال (يائير لابيد) والإمارات (عبد الله بن زايد) والولايات المتحدة (أنتوني بلينكن). والمحرر مبتكر هذا التوصيف لم يكن يبالغ، إلا في حشر مفهوم الثورة، لأنّ النقلات المتعاقبة التي شهدتها العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية (منذ استئنافها في سنة 1992 بقرار من رئيس الوزراء الهندي الأسبق ناراسيما راو، ولكن في سنوات حكم رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي على وجه الخصوص) قفزت من محطة دراماتيكية إلى أخرى؛ ولاح أنّ التعاون في ميادين الصناعات العسكرية والاستخبارات ومشاريع الريّ والطاقة محض واجهة لمطابقات أعمق وأكثر تجذراً في مسائل إيديولوجية أقرب إلى الثوابت في الفلسفة القومية «الهندوتية» من جهة، والصهيونية على اختلاف تياراتها من جهة أخرى.
ولا عجب خلف تفاخر إعلام دولة الاحتلال بما تحقق، ويواصل التحقق، في ميادين تعزيز العلاقات، فهذه هي الهند في نهاية المطاف: أوّل بلد غير عربي يعترف بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، ويدمغ الصهيونية بالصفة العنصرية، ويتكاتف مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر في استبعاد دولة الاحتلال من حركة عدم الانحياز، ويميّز بصلابة (بصوت المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو) بين معاناة اليهود وزرع وطن لهم على أرض شعب آخر… فكيف بلغت الحال أنّ الهند تستلهم في احتلال منطقة كشمير ومصادرة حقوق سكانها، سياسات استيطانية وقمعية مماثلة لتلك التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة؟
الباحث عن إجابات شافية لأسئلة مثل هذه، وسواها أخرى كثيرة، يجد ضالته في كتاب الباحث من جنوب أفريقيا آزاد عيسى، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات بلوتو في لندن، تحت عنوان «أوطان معادية: التحالف الجديد بين الهند وإسرائيل»؛ لأنه، كما يطريه المفكر الأمريكي كورنل وست، «كتاب شجاع ولامع بمثابة معالجة حاسمة للتحالف المسكوت عنه بين جناح أقصى اليمين في الحكومة الهندية، وإسرائيل. هذا النصّ قراءة ضرورية حول القوى النيو ـ فاشية المتصاعدة في أزمنتنا العاصفة». فيض زاخر من التفاصيل والمعلومات والوقائع التي قد يكون الكثير منها طيّ الإغفال المتعمد، خاصة جهود «الوكالة اليهودية» عبر أمثال مارتن بوبر وألبرت أينشتاين لاستمالة غاندي بعد وعد بلفور؛ وغزارة أخرى ثمينة في المقارنات بين فلسطين وكشمير، والمجمّع الصناعي ـ العسكري بين تل أبيب ونيو دلهي، وقصة القرابة بين فلسفة «الهندوتفا» والصهيونية، ومجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة مقابل الشتات الهندي.

الهند، ما قبل مودي و«حزب الشعب الهندي» ظلت صديقة القضية الفلسطينية على نحو يعزّ العثور عليه عند العديد من الأنظمة العربية الحاكمة

لا يصحّ أن تُنسى هنا حقيقة أنّ العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية تعود، كما يبيّن الباحث المصري مدحت أيوب، إلى عقود بعيدة، وقد شملت ميادين السياسة والاقتصاد والأمن والتسليح، فضلاً عن السياحة والثقافة والتعاون التكنولوجي. ففي عام 1962، غداة اشتعال الحرب الهندية ـ الصينية، طلب نهرو مساعدة دافيد بن غوريون، رئيس وزراء دولة الاحتلال آنذاك، للحصول على أسلحة متطورة؛ وبعد ثلاث سنوات، عند اندلاع الحرب الهندية ـ الباكستانية، وصلت شحنات ضخمة من الأسلحة الإسرائيلية إلى الهند. وعلى الصعيد الاقتصادي، يكفي التذكير بأنّ الميزان التجاري بين الهند والدولة العبرية بلغ 202 مليون دولار في العام 1992، ثمّ قفز إلى 1085 مليون دولار في العام 2000، وهو اليوم يعدّ 7,86 مليار دولار.
غير أنّ على المرء، والمراقب العربي بصفة خاصة، أن يتذكّر ثلاث حقائق أساسية في سياق مناقشة العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية، ضمن معطيات أخرى أقلّ شأناً. الحقيقة الأولى تقول إنّ الهند، ما قبل مودي و«حزب الشعب الهندي» ظلت صديقة القضية الفلسطينية على نحو يعزّ العثور عليه عند العديد من الأنظمة العربية الحاكمة. وثمة سجّل حافل يقول إنّ الهند صوّتت إلى جانب الفلسطينيين (وبالتالي ضدّ دولة الاحتلال) في عشرات القرارات التي تخصّ حقوق الفلسطينيين بصفة شاملة، ومسائل انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، وحقّ العودة، والسيادة الفلسطينية. الحقيقة الثانية هي أنّ نقلات كبرى في تطوير العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية تمّت خلال فترات حكم «حزب المؤتمر» وحين كان كبار رجالاته في سدّة الحكم (نهرو وأنديرا وراجيف غاندي)؛ وليس فقط في فترات حكم الأحزاب ذات التوجّه القومي الهندوسي. في عبارة أخرى، وعلى النقيض ممّا يزعم بعض المعلّقين العرب، ليس ثمة الكثير من المغزى في التركيز على العداء الهندوسي للإسلام بغية تفسير تطوّر العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية؛ ومن الخير، في هذا المثال كما في سواه بالطبع، التركيز على طبيعة المصالح المشتركة التي تكيّف سياسات الدول وتتحكم بخياراتها في المشهد العريض والتاريخي ـ التقليدي للعلاقات الدولية. وأمّا الحقيقة الثالثة فهي تلك التي تخصّ تشكّل محور أمريكي ـ إسرائيلي ـ هندي، شُرّعت أمامه أبواب أوسع بعد اتفاقيات أبراهام وتوطيد العلاقات الهندية -الإماراتية على وجه الخصوص.
ولا يجوز أن تُنسى، كذلك، تلك الحقيقة المركزية الكبرى التي تقول إنّ الهند ديمقراطية هائلة، بمعنى ضخامة المعطيات الديمغرافية بادئ ذي بدء: قرابة 900 مليون ناخب، ونحو مليون مركز اقتراع، وزمن التصويت سبع مراحل، على امتداد 39 يوماً؛ والإنفاق المالي على الحملات الانتخابية يصل إلى سبعة مليارات دولار، وكانت الهيئة الانتخابية قد صادرت مليار دولار من المصروفات غير الشرعية. في انتخابات سنة 2014، تحدثت الأرقام عن 551 مليون ناخب، صوّتوا في 930 ألف مركز اقتراع، واستهلكوا من حبر التصويت قرابة 15 ألف لتر!
انتصار مودي وحزبه في انتخابات 2019 شكّل انتكاسة نوعية جديرة بالتأمّل وأخذ الدروس، لدى كلّ حريص على ديمقراطية الهند ونظامها وأمثولاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنولوجية… فالمنهزم هنا لم يكن «حزب المؤتمر» وتراث السلالة الغاندية العلماني والليبرالي؛ والفائز لم يكن «حزب الشعب الهندي» بتوجهاته القومية والهندوسية، رغم صحّة هذه الخلاصة في صناديق الاقتراع؛ وإنما الخاسر المشترك الأعظم هو تلك الأمثولات الكبرى التي صنعتها الهند في التاريخ الحديث للمجتمعات والدول النامية، أو شعوب ما بعد الاستعمار في التوصيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأدقّ، أو حتى البلدان النامية والعالمثالثية حسب تعريفات الماضي وأواسط القرن المنصرم.
والخلاصة المشروعة قد تكون تلك التي تضع «الثورة الصامتة» في العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية الراهنة، على موازين أرباح لحكومة مودي ودولة الاحتلال، مقابل خسائر للديمقراطية الهندية وعلاقتها بالقضية الفلسطينية. وفي تصدير الفصل الأخير من كتابه، المخصص للمقارنة بين احتلالين في فلسطين وكشمير، يحرص آزاد عيسى على اقتباس نوام شومسكي: «إنهما [حكومة مودي ودولة الاحتلال] أشبه بيَدٍ في قفاز»؛ ولم تكن فضيحة الشطر الهندي من استخدام أجهزة تجسس «بيغاسوس» الإسرائيلية (أكثر من 50 ألف هاتف تمّ التجسس عليها، واللائحة تبدأ من زعيم المعارضة راهول غاندي ولا تنتهي عند الروائية أرونداتي روي) سوى فصل واحد إضافي في مسرح التعاون الوثيق. وكما تواصل دولة الاحتلال جهودها المحمومة لتهويد فلسطين، فإن حكومة مودي تسابقها في قسر الهند داخل هوية هندوستانية قومية متشددة.
وفي سنة 2017، خلال زيارة «تاريخية» إلى نيودلهي، توجّه بنيامين نتنياهو بالشكر إلى مضيفه مودي، ليس على تطوير العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية، فقط؛ بل كذلك لأنّ الأخير ساعده، ويساعده، على اختراق أسوار… أفريقيا!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

لبنان القضاء

وشاحنات القدر

 

صبحي حديدي

 

أقدار اللبنانيين أعربت عن بعض عجائبها مؤخراً من خلال واقعة الشاحنة المحمّلة بذخائر «حزب الله»، وتكشفت على نحو دراماتيكي تعجز المصادفات عن اجتراحه: الشاحنة انقلبت في منطقة الكحالة، التي لا تفتقر إلى المخزون الرمزي المسيحي؛ وخلال المناوشات، بين الأهالي ومرافقي الشاحنة، سقط قتيل أوّل مقرّب من «التيار الوطني الحر»، حليف الحزب الوحيد داخل الصفّ المسيحي؛ وسقط قتيل ثانٍ، من أفراد الحزب.
لا حاجة، في صدد كهذا، إلى استعادة أية جزئية رمزية تخصّ الجيش اللبناني أو مخابراته أو مفارز التحقيق الجنائي المرتبطة به، فالسيناريو معروف متكرر كلاسيكي لجهة تجرّد هذا الجيش من أي، وغالباً: كلّ، صلاحية قرينة بأدواره الأمنية والعسكرية؛ ما دام الأمر يتصل بسلاح «حزب الله»، أو حتى بعربدة بعض عناصره في ميادين الاغتيالات الفردية واستهداف النشطاء، والدوس على القانون بالأقدام تارة أو بالأعلام الصفراء/ الخضراء تارة أخرى. وليس هذا لأنّ رمز سيادة لبنان وصلت طلائعه بعد نحو 3 ساعات من وقوع الواقعة، بل أساساً لأنّ مجرّد الركون إلى الرمزية هنا يصبح أقرب إلى اقتراح مشهد لا يُضحك، في مسرح كوميديا السلوك.
طريف إلى هذا أن يجنح كبير كبار التيار، الرئيس السابق ميشيل عون، إلى الحكمة والتهدئة والتعقل، فيُرجع الواقعة إلى قوى عليا فوق إرادة البشر، محذراً من تحويل الشاحنة المنقلبة إلى فتنة: «شاء القضاء والقدر أن تقع حادثة الأمس في الكحالة، وتطوّرت تداعياتها، وكاد التحريض والاستثمار أن يجعلا منها مدخلاً لفتنة نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي». والعاجل المطلوب، في نظره، هو «التهدئة بدل التحريض، ومدّ جسور الثقة بدل بثّ سموم الكراهية». غير أنّ البيان الرسمي الذي أصدره التيار لم يستطع تجاهل احتقان أهالي الكحالة، فاعتبر الواقعة «جرس إنذار للخطر المحدق بدولة تتحلّل ومجتمع يتشنّج»، محملاً حليفه مسؤولية «قصور» تسبب في سقوط ابن الكحالة المسيحي.
ليس أقلّ طرافة أنّ الحزب، عبر بيان أصدرته «كتلة الوفاء للمقاومة» دون سواها، عزف من جانبه الأنغام المعتادة ذاتها بصدد «موتورين ينتمون إلى ميليشيا مسلّحة» ارتكبوا «اعتداء موصوفاً»، هو «نتاج التحريض والتعبئة الغبيّة والحاقدة التي تشكّل مادّة فتنويّة». وهذا نحت جديد نسبياً، يبتعد في كثير أو قليل عن مفردة الفتنة كما استخدمها عون، ولكنه يقترب (كثيراً، هذه المرّة!) من تحميل التيار الحليف مسؤولية ضبط أنصاره بعيداً عن تأثيرات قوى مسيحية أخرى تتقصد الفتنة. وأمّا اللافتة التي احتشد خلفها جمهور الحزب، فإنها قالت «السلاح دفاعاً عن السلاح»؛ وبذلك انتفت الحاجة إلى تبيان سبب توجّه شاحنة السلاح إلى بيروت، وعفّت عن التذكير بغزوة الحزب في العاصمة يوم 7 أيار (مايو) 2008.
«الدولة»، أياً كان المعنى الملموس أو الغائم الذي تبقى من وجودها، تنتقل من شغور إلى آخر، في تعاقب خالٍ حتى من العواقب الإدارية أو البيروقراطية: لا رئيس جمهورية، منذ تسعة أشهر؛ وحكومة تصريف أعمال، عمرها 14 شهراً؛ وحاكم مصرف مركزي يغادر إلى التقاعد، بعد أن أبلى أحسن البلاء في خسران العملة الوطنية أكثر من 90% من قيمتها؛ وقائد للجيش، ينتظر مغادرة مقرّه مطلع السنة المقبلة، وتسمية خَلَفه دونها خرط القتاد. وحين استغرقت «الدولة» ثلاث ساعات قبل الوصول إلى موقع انقلاب الشاحنة، فلأنها لا تصمت عن سلاح «حزب الله» إلا لأنّ الحزب لا يصمت على فساد أركانها فحسب، بل هو شريك مشترك فيه أيضاً.
وتبقى ماثلة سطوةُ البُعد المأساوي في تزامن الأقدار والمصادفات، كأنْ تحلّ ذكرى مرور ثلاث سنوات على جريمة انفجار مرفأ بيروت (أكثر من 220 ضحية وآلاف الجرحى)؛ ولا حياة لمَن تنادي في علاقة «الدولة» العتيدة إياها بأية محاسبة أو قضاء، أو حتى… قدر!

 

عمران خان: أيّ باكستان

في مكاييل واشنطن؟

صبحي حديدي

 

أمر طبيعي، في السياسة على وجه الخصوص، أن يكون ما هو وراء الأكمة أبعد في الدلالات والطبائع والآثار مما هو ظاهر متاح أمامها؛ والحال الراهنة لرئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان ليست نموذجاً كلاسيكياً متكامل العناصر فحسب، بل ثمة في مداخلها ومخارجها ما يشكّل نمطاً أعلى معيارياً لاندماج المحلي بالعالمي ومناهج القوى العظمى الكونية خصوصاً. وكي لا يجهد المرء كثيراً قبل استخلاص تفسير مبدئي للصمت الطبق الذي خيّم على عواصم مثل واشنطن ولندن وباريس وبرلين، إزاء اعتقال خان، الثاني مؤخراً بعد الأوّل في أيار (مايو) الماضي؛ يسير أن تُجرى مقارنة بسيطة مع الثورات الكلامية التي عمّت هذه العواصم، وسواها أخرى عديدة، عند اعتقال المعارض الروسي ألكسي نافالني.
للمرء إياه أن يمنح فضيلة الشك لصالح القضاء، وليس بالضرورة تلك المحكمة التي قضت بسجن خان ثلاث سنوات بتهمة بيع هدايا تلقاها خلال فترة رئاسته للحكومة بين 2018 و2022، وفي ملفات تقارب 150 قضية؛ بل المحكمة العليا التي سوف تنظر في طعن خان ضدّ حكم محكمة أدنى. وللمرء، في الآن ذاته، أن يستذكر عجز القضاء الباكستاني (والبعض لا يستبعد أنساق تواطؤ مبعثها ضغوط الأجهزة الأمنية وكبار الجنرالات) عن البتّ في نحو 10 آلاف حالة اعتقال لأنصار خان وأعضاء «حركة إنصاف» تحديداً؛ مضافة إليها معطيات ملموسة ترجح أن يكون خان السياسي الأقلّ فساداً في تاريخ باكستان المعاصر. وهذا قوس لا يُفتح على سبيل تبييض صفحة الأخير، بقدر ما يعيد التشديد على إشكاليات شتى اكتنفت القضاء في بلد امتهن جنرالاته الانقلاب تلو الآخر، من دون أن يكفوا عن ولاءاتهم المتينة لقوى كبرى خارجية بصفة عامة، والبيت الأبيض عبر البنتاغون والمخابرات المركزية بصفة خاصة.
ثمة، في حياة خان كرئيس حكومة، واقعة ذات مغزى بالغ الخصوصية، مقترنة بخطبة غير مألوفة من مسؤول باكستاني، أُلقيت من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، حول هوّة العدل والمساواة وحُسن تقاسم الثروات بين أثرياء العالم المصابين بالتخمة وفقرائه أسرى المجاعات. هنا فقرة، على سبيل تمثيل النبرة: «بسبب النهب الذي انخرط فيه العالم المتقدم عبر نُخَبه الحاكمة، تتزايد الهوّة بين البلدان الغنية والفقيرة بمعدلات تنذر بالأخطار. والمنتدى الأعلى الذي أطلقه الأمين العام، حول المحاسبة المالية والشفافية والنزاهة (
FACTI) استخلص 7 تريليونات من الثروات المسروقة المخزنة في مواقع «الملاذ» المالية. هذه السرقة المنظمة والتحويلات غير الشرعية للثروات كانت لها عواقب عميقة على الأمم النامية. لقد أنضبت مواردها الشحيحة أصلاً، وضاعفت مستويات الفقر خاصة حين تمارس الأموال المبيّضة ضغطاً على العملات الوطنية وتفضي إلى تخفيض قيمها».
إلى هذا كان خان معارضاً، صريح الخطاب والسلوك معاً، للحملة الشهيرة المسماة «الحرب على الإرهاب» التي دشنتها الولايات المتحدة وانخرطت فيها الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية؛ بمعنى أنه رفض تطبيقاتها في أفغانستان والباكستان، وأدان مختلف العمليات العسكرية المقترنة بها من الاجتياح المباشر إلى القتل عبر الطائرات المسيّرة؛ وصمد في مواقفه المساندة للشعب الفلسطيني وقضاياه (رغم أنّ الضغوطات عليه لمحاباة دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تأت من بعض جنرالات الجيش الباكستاني أو من واشطن وأصدقاء الكيان الصهيوني فقط، بل كذلك من دول خليجية وإسلامية هرولت إلى التطبيع)؛ وكان أوّل مسؤول باكستاني رفيع يطرح قضية كشمير على قاعدة منح الكشميريين حقّ تقرير المصير؛ كذلك نظر إلى علاقات بلده مع كلّ من إيران والصين من زاوية جوهرية مفادها أنّ الباكستان دولة آسيوية أوّلاً، وأنها استطراداً معنية بتوازن العلاقات الدولية على ركائز أخرى غير هيمنة القطب الواحد في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتكنولوجيا.

عجز القضاء الباكستاني (والبعض لا يستبعد أنساق تواطؤ مبعثها ضغوط الأجهزة الأمنية وكبار الجنرالات) عن البتّ في نحو 10 آلاف حالة اعتقال لأنصار خان وأعضاء «حركة إنصاف» تحديداً؛ مضافة إليها معطيات ملموسة ترجح أن يكون خان السياسي الأقلّ فساداً

هذه «آثام» عظمى، لعلها ترقى إلى «الكبائر» في ناظر النُخب التي أشار إليها خان، الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا؛ وأمر طبيعي، بالتالي، ألا تنظر إلى توقيفه وسجنه من أية زاوية حقوقية أو قانونية تتطلب الموازنة مع أمثال نافالني؛ بل قد يجوز الافتراض بأنها سعيدة، على نحو أو آخر، بأنه سوف يُغيّب عن ساحة الانتخابات المقبلة في الباكستان، وعن الساحات الإقليمية والدولية أيضاً. وأية حصيلة لتاريخ العلاقات الأمريكية ــ الباكستانية سوف تسجّل أنّ انفتاح الإدارات الأمريكية المختلفة على ضباط الأمن في الباكستان اقترن على الدوام بإهمال ضبّاط الجيش النظامي؛ وأسفر، بالتالي، عن تغريب قيادة الجيش، ودفعها أكثر فأكثر إلى الحاضنات الأخرى المؤهلة لاستيعاب هواجس العسكر: الحاضنة القومية (حيث ملفات كثيرة تخصّ النزاع مع الهند حول كشمير)؛ والحاضنة الإسلامية (تحت تأثير الثقافة التقليدية غير العلمانية لمؤسسات الجيش، على نحو خاصّ)؛ والحاضنة السياسية والحزبية، التي كانت تجد مرجعية دائمة في وضعية انعدام الاستقرار ولعبة الكراسي الموسيقية بين «حزب الشعب» و«حزب الرابطة الإسلامية».
وفي أواخر التسعينيات، حين اندلعت أزمة التجارب النووية بين الهند والباكستان، كان رئيس الوزراء الباكستاني يومذاك، نواز شريف، قد رضخ لطلب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فصرف النظر عن معاملة الهند بالمثل، وأوقف تنفيذ تجارب نووية باكستانية. لكنّ الجنرال جهانجير كرامات، قائد الجيش الباكستاني في حينه، أبلغ شريف امتعاض الجنرالات من هذا القرار وإلحاح الجيش على تنفيذ تجارب نووية؛ بل وأطلق تصريحات ضدّ مؤسسة رئاسة الوزراء اعتبرها شريف كافية لإقالته واستبداله بجنرال «طيّب» و«منضبط» و«غير مسيّس» هو… برويز مشرّف! ولقد استغلّ الأخير الفوضى السياسية، وضيق الشارع من الفساد، وأزمة التجارب النووية مع الهند، كي يستكمل انقلابه العسكري وينقضّ على الدستور.
كذلك يسجّل التاريخ ذاته، المعاصر منه خصوصاً، أنّ إدارات أمريكية سابقة، جورج بوش الابن وباراك أوباما، لم تكن سعيدة بخيارات باكستان في عدم الضرب بقوّة كافية ضدّ جيوب الطالبان، وحلفائهم، داخل الأراضي الباكستانية؛ ولا بصعود حزب «حركة إنصاف» على حساب الحزبَين التقليديين وتصاعد شعبية/ شعبوية خان، نجم لعبة الكريكت الدولي الأسبق. إلا أنّ أياً منهما لم يقطع الشعرة الحاسمة مع إسلام آباد، خاصة تلك التي تربط جنرالات الأمن الباكستاني بجنرالات البنتاغون والمخابرات المركزية حيث الذكريات عطرة طافحة بالتعاون المثمر ضدّ السوفييت في أفغانستان؛ لكنّ دونالد ترامب شذّ عن القاعدة، وغرّد هكذا: «بحماقة قدّمت الولايات المتحدة إلى الباكستان 33 مليار دولار من المساعدات طيلة 15 سنة، ولكنهم لم يعطونا أي شيء سوى الأكاذيب والخداع، ظانين أنّ قادتنا حمقى. إنهم يوفرون الملجأ الآمن للإرهابيين الذين نطاردهم في أفغانستان، مع قليل من العون. كفى!».
وتلك الـ»كفى» تبدو اليوم سياسة رسمية للبيت الأبيض، خالية من التغريدات ولكنّ وضوحها بليغ تماماً من خلال صمت الإدارة الراهن تجاه الباكستان: ليس في ما يخصّ عدم وضع خان على قدم المساواة مع نافالني، ولكن أيضاً إزاء عبث رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف بالاستحقاقات الدستورية، وحثّ رئيس الباكستان على حلّ مجلس النوّاب، واستكمال إحصاء إشكالي للسكان قد يؤثر في خرائط الانتخابات التشريعية المقبلة، وصولاً إلى دفع إجراء الانتخابات أبعد من موعدها المقرر الخريف المقبل…
كل هذا لا يجعل من خان ضحية أمريكية/ غربية، بالطبع؛ ولكن لا ينفي عنه صبغة ساسة من أمثال ابن بلده ذو الفقار علي بوتو، أو ابن جيرانه الإيراني محمد مصدق، لجهة كيل واشنطن بمكاييل شتى متضاربة متناقضة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

أفريقيا والقوى العظمى:

انقلابات وطرائف سوريالية

صبحي حديدي

 

في وسع امرئ أن يبدأ من إحصائيات بسيطة، لكنّ دلالاتها وافرة ومتعددة الجوانب: القمة الروسية – الأفريقية التي احتضنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بطرسبورغ مؤخراً، اجتذبت 21 رئيساً أفريقياً، مقابل 45 في قمةّ مماثلة انعقدت سنة 2019؛ وفي المقابل، نجح الرئيس الأمريكي جو بايدن في جمع 50 من ضيوفه الأفارقة، خلال قمة التأمت أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي. هذه خارطة تعكس تقاسم النفوذ الراهن بين واشنطن وموسكو، على أصعدة سياسية واقتصادية واستثمارية وعسكرية وأمنية؛ تغيب عنها حصص فرنسا، ذات الماضي الكولونيالي العريق في القارّة، وصاحبة العدد الأكبر من أشكال التدخّل في شؤون البلدان الأفريقية. كذلك تتوارى أنساق النفوذ الصيني، وإنْ كانت تحضر فعلياً على الأرض وفي قلب المنافسات الاستثمارية الضارية، رغم الغياب الشكلي عن الحصص الظاهرة على الخارطة.
في جانب آخر، لم يكن من دون مغزى خاصّ أنّ قمة موسكو لم تكد تختتم جلساتها حتى هبّ جنرالات النيجر وأطاحوا برئاسة المدني المنتخب محمد بازوم، وسجلوا بذلك الانقلاب السابع في القارة خلال أقلّ من 3 سنوات؛ فحذوا في النهج الانقلابي حذو رفاقهم في السلاح، جنرالات مالي وبوركينا فاسو وغينيا وتشاد والسودان؛ وكانوا على نحو أو آخر يقتفون أثر الرئيس التونسي قيس سعيّد، أستاذ القانون الذي بزّ غالبية العسكر الانقلابيين في القارّة.
طريف، في مغزى ثالث، أنّ المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الـ»إيكواس») سارعت إلى إطلاق وساطة بين رئيس البلاد والمجلس العسكري الانقلابي في النيجر، ولكن اختيارها وقع على محمد إدريس ديبي، الرئيس الانتقالي التشادي الذي كان هو نفسه قد انتزع السلطة عبر انقلاب؛ ولم يكن عجيباً بالطبع، بقدر ما كان سوريالياً، أن يدعو الانقلابي إلى… إعادة الحياة الديمقراطية والدستورية في النيجر!
طرفة أخرى، لا تغيب عنها خلائط سوريالية من طراز هو الأشدّ ابتذالاً في علاقات القوى العظمى بالقارة الأفريقية، تمثلت في أنّ يفغيني بريغوجين، قائد ميليشيات «فاغنرّ»، كان أحد نجوم قمة بطرسبورغ الروسية – الأفريقية؛ في غمرة تهليل وترحيب من جانب بعض انقلابيي القارّة، ممّن يتطلعون إلى خدمات مرتزقته، طال الزمان أم قصر. وهكذا لم يفوّت بريغوجين فرصة مديح جنرالات النيجر الانقلابيين، وفي الآن ذاته الإعراب عن مزيد من مظاهر الولاء لعرّابه سيّد الكرملين، وكأنه لم يكن الآمر بالزحف نحو موسكو قبل أسابيع معدودات.
أمّا التواجد الأمريكي في القارّة، العسكري منه على وجه التحديد، فإنه بدأ ويتواصل كإرث مستدام لشراكة واشنطن مع الحلف الأطلسي في تشكيل القيادة الأمريكية الأوروبية، أو الـ
EUCOM؛ وشقيقتها القيادة الأمريكية الأفريقية، أو الـAFRICOMP ولا يغيب هنا المعنى الخاصّ خلف اختيار مدينة شتوتغارت الألمانية مقرّاً لرئاسة أركان هذه القيادة الأخيرة، بالنظر إلى اعتذار 54 دولة أفريقية عن استقبالها، فالتنافس بين القوى العظمى محتدم على قدم وساق! ولا عجب أن تجلي فرنسا رعاياها من النيجر، ولا ترى واشنطن أيّ سبب للقيام بالإجراء ذاته، متكئة على قاعدة عسكرية للطائرات المسيّرة، وإلى عديد من 1000 جندي أمريكي، واطمئنان إلى واردات الأورانيوم من النيجر.
وقد يصحّ هنا استذكار مواقف الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إزاء مفهوم أفريقيا، والتي انطوت على إدراك إشكاليات الموقع والانتماء، وظلت تتأرجح بين القطب الآسيوي (ثم العربي والإسلامي، استطراداً) الذي انخرطت فيه مصر والناصرية؛ والقطب الأفريقي، الذي اكتشفه ابن النيل وربيب الفلاحين والغيطان. المفارقة أنه لا العرب ولا الأفارقة كانوا أوّل مَنْ أدرك طبيعة الترابط الجدلي والوثيق بين الشرق الأوسط وأفريقيا، بل كانت القوى الإمبريالية الأوروبية هي السبّاقة إلى ذلك الإدراك الحاسم؛ فاشتغلت على توظيف دينامياته المختلفة، ولم تجد مشكلة في المزاوجة بين الانقلابات و… الطرائف السوريالية!

 

 

غوانتانامو: عار

أمريكا الشنيع المستدام

صبحي حديدي

 

في لندن تشكلت مؤخراً مجموعة برلمانية باسم «إغلاق منشأة اعتقال غوانتانامو» متعددة الأحزاب لأنها تضمّ أعضاء في مجلس العموم من مختلف الأحزاب البريطانية، بما في ذلك حزب المحافظين الحاكم؛ هدفها، الأوحد تقريباً، هو ما يعلنه اسمها بصدد المعتقل الأمريكي الذي قد يكون الأسوأ سمعة في أيّ نظام يزعم الاستناد على منظومات القضاء الحرّ والمستقل. وقبل أيام عقدت المجموعة اجتماعاً دعت إليه عدداً من المشتغلين بالقانون وحقوق الإنسان، فضلاً عن اثنين من معتقلي غوانتانامو السابقين: معظّم بيك، البريطاني من اصل باكستاني ومؤلف الكتاب الشهير «محارب العدو: اعتقالي في غوانتانامو وباغرام وقندهار» 2006؛ ومحمدو ولد صلاحي، الذي كتب «مذكرات غوانتانامو» وألهم الفيلم الهوليودي «الموريتاني» 2016.
قبلئذ، في في نيسان (أبريل) هذه السنة، كان باتريك هاملتون، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الولايات المتحدة وكندا، قد قام بزيارة إلى معتقل غوانتانامو أصدر بعدها بياناً رسمياً يطالب سلطات المعتقل الأمريكية بسلسلة من الإجراءات التي تحسّن ظروف الاحتجاز في الحدود الدنيا داخل المعتقل؛ وكذلك شروط تواصل المعتقلين من أقربائهم في الخارج، خاصة مدد المكالمات الهاتفية بالنظر إلى استمرار منع الزيارات؛ فضلاً عن ضرورة الإسراع في تجاوز الاستعصاء السياسي والإداري بصدد مسؤولية نقل المعتقلين المستحقين وتقرير مصير جميع المعتقلين الآخرين. وكتب هاملتون، بنبرة لا تغيب عنها روحية التهذيب واللباقة بالطبع: «ندعو الإدارة الأمريكية والكونغرس إلى العمل معاً لإيجاد حلول ملائمة وفعالة لمعالجة هذه المسائل. يتوجب اتخاذ الإجراءات العاجلة وذات الأولوية. وإذا كان وارداً الإبقاء فترة أطول حتى لعدد قليل من السجناء، فإنّ التخطيط لأوضاع كبار السنّ بينهم لا يمكن أن يحتمل الانتظار».
قبل اجتماع لندن وزيارة هاملتون، في آذار (مارس) هذه السنة أيضاً، صدر تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حول «تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب»؛ الذي رفعته إلى المجلس فيونوالا ني أولاين، المقررة الخاصة. وإذْ يذكّر التقرير بتوصيات سابقة تعود إلى سنة 2010، بصدد حالات واضحة لارتكاب جرائم حرب وجرائم بحقّ الإنسانية، فإنه يسجّل المزيد من الإخفاق في تكرار الممارسات ذاتها، وتكريس الإفلات من العقاب، والإمعان في تنويع أشكال التعذيب المنهجي، والحرمان من أبسط الحقوق الأساسية، والتحايل على الحماية القانونية المطلوبة، وتطبيع الاحتجاز الجماعي دون إجراءات قانونية… وكلّ هذه الانتهاكات، وسواها كثير أوسع نطاقاً وتنويعاً، تتمّ تحت ستار مكافحة الإرهاب؛ كما يقول التقرير.
يًذكر هنا أنّ ثلاثة رؤساء أمريكيين، جورج بوش الابن (نفسه مؤسس المعتقل، وسجّانه الأبرز) وباراك أوباما وجو بايدن، تناوبوا على قطع الوعود بإغلاق المعتقل؛ وتذرّع كلّ منهم بهذا المقدار أو ذاك من الأسباب للتملّص من التعهدات، حتى بعد صدور فتوى المحكمة العليا في الولايات المتحدة (بأغلبية 5 إلى 4 فقط، مع ذلك!) حول الحقوق القانونية للمعتقلين بصدد مراجعة المحاكم الفدرالية ونقض قانونية المحاكم العسكرية وإلزام الحكومة الأمريكية بتقديم موجبات التوقيف خارج إطار التذرّع بدواعي الأمن القومي. ولهذا فإنّ المعتقل يواصل البقاء كوصمة عار صريحة وفاضحة، مستدامة ومفتوحة، هي الأشنع حتى إشعار لا يلوح البتة أنّ نهايته وشيكة، من جهة أولى؛ كما لا يتوفر أساس سياسي، مرتكز إلى قانون مُلزم بالتالي، يتيح للكونغرس والبيت الأبيض (مجلس الأمن القومي، وزارة العدل، والبنتاغون…) حلّ سلسلة الاستعصاءات التي تكتنف مشاريع إغلاق غوانتانامو، من جهة ثانية.

معتقل غوانتانامو يواصل البقاء كوصمة عار صريحة وفاضحة، مستدامة ومفتوحة، هي الأشنع حتى إشعار لا يلوح البتة أنّ نهايته وشيكة

ليست أقلّ مدعاة للعجب حقائق العدد الفعلي الراهن للمعتقلين، وتصانيف أوضاعهم «القانونية» وما يترتب على ما تبقى في المعتقل من تدابير ذات صلة بما عُومل به أقرانهم الذين غادروا في السابق. زنازين غوانتانامو تحتجز، اليوم، 30 معتقلاً فقط؛ 16 منهم لم تُوجّه إليهم أيّ تهم بتشكيل أخطار أو تهديدات على الأمن القومي الأمريكي، ومع ذلك يتواصل احتجازهم، وقد يتقرر في أيّ وقت ترحيلهم إلى وجهة ما خارج غوانتانامو والولايات المتحدة، وقد تكون أيّ دولة أخرى بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة، كازاخستان، سلوفاكيا، صربيا… 3 سجناء في حال معلّقة عند فراغ قانوني مطلق: لا اتُهموا بتهمة من أيّ نوع، ولا تمّت تبرئتهم من أية جناية. 10 سجناء ينتظرون المحاكمة، ولا أحد يعرف متى وأين ولماذا؛ وسجين واحد حُوكم وأُدين، ولكنه يبقى قيد الاعتقال إلى مدّة غير محددة. ومجموعة لندن البرلمانية، مثل دعاة المنطق البسيط السليم والحدود الدنيا لأصول المقاضاة وسيادة القانون، تطرح السؤال البسيط: حتام يبقى الـ16 موقوفاً قيد الاعتقال، وماذا ينتظرون؟
بعض الإجابة يمكن أن يُردّ إلى حقيقة أنّ المنطق البسيط شيء، ومنطق الإدارات الأمريكية شيء آخر مختلف تماماً؛ وخذوا، في تفكيك قسط من دلالة هذه المعادلة، ما صرّح به سناتور ديمقراطي في سنة 2005: «أظن أننا يتوجب أن ننتهي إلى إغلاق المعتقل، ونقل السجناء. أولئك الذين لدينا أسباب للإبقاء عليهم، نبقيهم. وأولئك الذين ليسوا في هذه الحال، نطلق سراحهم»؛ ثم انتبهوا إلى أنّ السناتور القائل ذاك لم يكن سوى جو بايدن، الرئيس الحالي للولايات المتحدة! أمّا بعض الإجابات الأخرى فإنها تردّ الأسئلة إلى حيثيات تأسيسية نهضت عليها فكرة إنشاء المعتقل، وانبثقت اصلاً من ركائز كبرى أسست للإمبراطورية الإمبريالية الأمريكية.
بين هذه، على سبيل الأمثلة، أنّ غالبية المعتقلين احتُجزوا أوّلاً في أفغانستان، وبعضهم نُقل إلى المعتقل ضمن «تكنيك» الخطف غير الشرعي الذي مارسته وكالة المخابرات المركزية هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها؛ وجميعهم تعرّضوا لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي (ليس أقلّها قسوة الحرمان من كتابة وتلقي الرسائل…) فضلاً عن الإهانة والتحقير والقهر المتعمد، والتقييد بالسلاسل، وإجبار المعتقل على ارتداء نظارات معتمة. وبالرجوع إلى بعض وقائع اليوميات التي دوّنها المعتقل البحريني جمعة الدوسري ونشرتها منظمة العفو الدولية، أكد الرجل أنّ القوات الباكستانية كانت قد باعته إلى المخابرات الأمريكية لقاء حفنة دولارات، وأنه خضع للاستجواب 600 مرّة، ووُضع في زنزانة منفردة من دون تهمة، وتعرّض لتهديدات بالقتل. كما مورست عليه سلسلة ضغوط نفسية أثناء جلسات التحقيق، بينها إجباره على الاستماع إلى موسيقى صاخبة، وتركه موثوقاً لساعات طويلة في غرفة باردة جداً من دون ماء أو طعام، وتعريضه للإذلال بواسطة جندية لا ترتدي سوى ملابس داخلية، ثمّ إجباره على مشاهدة مجلات بورنوغرافية.
والمعتقل، الذي غصّ منذ افتتاحه في 11/1/2002 بما مجموعه 780 معتقلاً من 35 جنسية، شهد وفاة 9 من المعتقلين قضوا مرضاً أو بسبب التعذيب الوحشي أو الانتحار. السجين الواحد يكلّف دافع الضرائب الأمريكي 12 مليون دولار سنوياً، وأمّا منشأة المعتقل ذاتها فإنها تكلّف 540 مليون سنوياً؛ وعلى صعيد «سمعة» الولايات المتحدة كدولة قانون ورافعة رايات حقوق الإنسان، فإنّ المعتقل فضيحة مفتوحة لا تعكف على تناولها المنظمات الحقوقية الدولية وحدها، بل سبق أن اعترفت بعواقبها الفاضحة مذكّرة وقّعها 24 من كبار أعضاء الكونغرس الديمقراطيين. وإذْ أتمت الولايات المتحدة انسحابها من أفغانستان، على النحو المثقل بعلامات الخزي والاندحار والاستفهام، فإنها تظلّ غير راغبة في، لأنها في الواقع ليست عاجزة، عن إغلاق المعتقل سيئ الصيت؛ بعد انقضاء أكثر من 21 سنة على إنشائه.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

حرسي علي:

 رائجة… وتتمدّد!

 صبحي حديدي

 

ليس هنا المقام المناسب لأيّ مقدار من الإسهاب في شرح «نزعة الإيقاظ»، أو «الصحوة»، أو الـWokeism في الأصل الإنكليزي؛ ذلك المصطلح الذي عاد إلى البروز بقوّة في الولايات المتحدة ابتداء من سنة 2010، وتبلور أكثر على خلفية احتجاجات فيرغسون سنة 2014 وما ترافق معها من صعود تيّار «حياة السود مهمة». تكفي إشارة وجيزة هنا، أنّ التسمية صارت توصيفاً متكامل الأركان في قليل أو كثير، يخصّ الحقوق المدنية والجنسية مقابل ممارسات التمييز العنصري والجندري؛ واتخذت، استطراداً، صبغة يسارية وتقدمية فحُوربت سريعاً من أوساط اليمين، المعتدل والمتطرف على حدّ سواء، في أمريكا وأوروبا والغرب عموماً.
لم يكن غريباً، في فرنسا على سبيل المثال، أن يتكاتف في قدح الـ
Wokeism رجل مثل إريك زيمور، يميني متطرف وعنصري وانعزالي وكاره للإسلام والمهاجرين عموماً، ومرشح رئاسي فاشل؛ مع وزيرة التعليم العالي السابقة، فريديريك فيدال؛ ومعهما ينخرط في المعركة وزير التربية السابق جان – ميشيل بلانكير؛ وتنضمّ إلى الحملة إليزابيت مورينو، وزيرة التنوّع؛ والثلاثة تحت ظلّ الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وأمّا المتوقّع المنتظَر، ولا غرابة فيه البتة، فهو المعارك الطاحنة ضدّ تنويعات اليقظة والإيقاظ والصحوة، التي باتت الشغل الشاغل للهولندية/ الأمريكية/ الصومالية الأصل أعيان حرسي علي… دون سواها!
فهي، ضمن مقالات أقرب إلى كبسولات تنشرها مع ذلك كبريات الصحف الأمريكية والأوروبية، تذكّر أنها حذّرت مراراً من التنازع التناحري بين «قِيَم الإسلام الراديكالي» وبين الحداثة الغربية والنظم الديمقراطية؛ وليس صعود الـ
Wokeism الراهن سوى الطراز الأحدث ضمن أنساق شتى من تحدّي الحضارة الغربية، سواء تقنّع التيار – في نظرها، وطبقاً لتحليلاتها – بالدفاع عن السود أو المرأة أو الحقوق الجنسية، أو حتى سعى إلى فتح ملفات الصدام الحضاري القديم في إطار دراسات ما بعد الاستعمار. ولا عجب أنّ مطارحات حرسي علي تلقى حشود الآذان المصغية في عدد غير قليل من مراكز الأبحاث الغربية، التي تهجس بأخطار أقرب إلى الكوابيس الاستيهامية منها إلى أيّ تجسيد مادّي فعلي، مثل «اليسار الإسلاموي» و»النزعة الإسلاموية» ومخاطر «الاستبدال الديمغرافي».
مفيدة، ربما، استعادة شذرات قليلة من سيرة حرسي علي، دالّة وتكوينية ليس للوقوف على مفاتيح شخصيتها فقط، بل كذلك لاستبصار طبائع ما دلفت إليه من أبواب في السابق، وما تواصل التسلل إليه في الحاضر أو تنوي اقتحامه في المستقبل؛ لأنّ ما تبيعه من بضاعة، حسب مؤشرات متعاقبة منتظمة، رائج مرغوب، يتيح لها أن تتمدد باضطراد. ففي سنة 1992 وصلت إلى هولندا، وحصلت خلال زمن قياسي على اللجوء السياسي بسبب ما تردّد من تعرّضها لاضطهاد على يد الإسلاميين في الصومال؛ وفي 1997، مُنحت الجنسية الهولندية، دون مشكلات تُذكر، وخلال زمن ماراثوني بالقياس إلى الغالبية الساحقة من الحالات المماثلة؛ وفي 2002 ضمّها الحزب الليبرالي إلى لائحة مرشحيه للبرلمان، فاضطرت عندها إلى الإقرار بأنها قدّمت معلومات مضللة في طلب اللجوء والجنسية؛ وفي 2003، فازت في الانتخابات، وبعد سنة فقط ظهرت شبه عارية في شريط ثيو فان غوغ «خضوع»، الذي زعم تناول اضطهاد المرأة في الإسلام، وأسفر عن اغتيال الأخير واختباء حرسي علي بعد وضعها تحت حراسة أمنية مشددة.
الفصول اللاحقة شهدت معركة برلمانية حول سحب جواز سفرها، ثمّ استقالة النائبة العتيدة من البرلمان وإدارة الظهر للبلد بأسره، والهجرة إلى الولايات المتحدة للالتحاق بالمعهد الأمريكي اليميني المحافظ
The American Enterprise، حيث عُيّنت… خبيرة في شؤون الإسلام! ولن يطول الوقت حتى أنعم عليها أحد الناطقين باسم المعهد بلقب «ابنة الإسلام المتمردة على آيات الله»، غير خَجِل من هذا التخابث الرخيص في حشر تعبير «آيات الله» كيفما اتفق. أيّ مسار «مهني» و»أكاديمي» و»ميداني» أهّلها للعمل خبيرة إسلام ومسلمات ومسلمين، في معهد حصين منيع لا يدخله إلا ثقاة المحافظين والمرضيّ عنهم من أهل اليمين؟ أم لعلّ إدارة المعهد وقعت في غرام الدرّة النفيسة التي صاغتها حرسي علي، كتابها «العذراء في القفص: صرخة امرأة مسلمة في سبيل العقل»، الذي عُدّ أحدّ أشدّ الكتب عن الإسلام ركاكة وغثاثة وتلفيقاً واختلاقاً وتنميطاً؛ وحيث مؤسسة الزواج في الإسلام اغتصاب دائم مرخّص له دينياً واجتماعياً، وعنف الرجل ضدّ المرأة جزء لا يتجزأ من واجبه الشرعي وفق أحكام الدين؟
المرء، بالطبع، لا ينكر حقّ حرسي علي في طلب اللجوء السياسي أو الإنساني على خلفية ما تعرّضت له في بلدها، وما يمكن أن تتعرّض له مثيلاتها هنا وهناك في العالم المسلم، وفي كلّ وأيّ عالم آخر، من تنكيل واضطهاد وقهر. وانتهاك حقوق المرأة في الإسلام، أو في أية ديانة أخرى، مسألة اجتماعية وتاريخية وثقافية خاضعة للسجال المشروع في كلّ زمان ومكان، وينبغي أن تكون حكايات نساء مثل حرسي علي عوامل مساعدة على نقاشها في أفق مفتوح، لا على حجرها في تنميطات مسبقة توظفها صناعة يومية تصنّع تأثيم الإسلام ثقافياً وسياسياً… أو متخصصة في استنساخ «خبيرات» لا يخرجن من القفص إلا للتجنّد ضدّ الـ
Wokeism، ومواظبة التمدّد!

 

 

المحكمة العليا الإسرائيلية:

دساتير «الجمهورية العبرانية»

صبحي حديدي

 

آلاف الإسرائيليين، الذين يواصلون التظاهر في تل أبيب والقدس ومدن أخرى، يدركون أغراض حكومة بنيامين نتنياهو من وراء تفكيك الأنظمة القضائية القائمة، وليسوا غافلين عن المخاطر الجسيمة التي تنتظر دولة الاحتلال إذا أقرّ الكنيست تلك التحوّلات؛ في ظلّ غياب دستور إسرائيلي. لكنّ فئة منهم، قليلة ضئيلة بالطبع، هي وحدها التي تستذكر سلسلة الحقائق الأعلى فاعلية واشتغالاً، حول الموقع القانوني والحقوقي للمحكمة ذاتها ضمن «النظام الديمقراطي» الإسرائيلي المزعوم، من جهة أولى؛ وحول الأسباب الجوهرية التي ساقتها التنظيرات الصهيونية المبكرة بصدد الامتناع عن وضع دستور للكيان منذ خطوات إنشائه الأبكر، قبل 1948 وما بعد، من جهة ثانية.
ليس مدهشاً، استطراداً، أن تتوفر أدبيات إسرائيلية كثيرة، في ميادين علوم الاجتماع والسياسة والقانون العام والحقوق المدنية، تثير تساؤلات جدية حول مقادير التطابق (بافتراض أنها موجودة أصلاً!) بين عناصر مثل تغييب الدستور، وهيمنة ما يُسمى بـ«القوانين الأساسية»، وأدوار المحكمة العليا؛ وهذه، وسواها، في العلاقة مع أيّ مفهوم للنظام الديمقراطي، ضمن فلسفاته الغربية التي تزعم دولة الاحتلال الانضواء في خلاصاتها. ثمة مؤلفات تساجل حول المفهوم العجيب المسمى «جمهورية عبرانية»، حيث المرجعية العليا هي التوراة والتاريخ العبراني القديم وبعض تعاليم التلمود وهذا أو ذاك من كبار ممثّلي شخصية الحاخام/ المحكّم. مؤلفات أخرى تميل إلى مصطلح «الديمقراطية الدفاعية»، حيث تخضع القوانين والتشريعات والأنظمة لاعتبارات عسكرية محضة، قد تقررها السلطتان التشريعية والتنفيذية من حيث الشكل ولكنها من حيث المضمون تتأتى من الاشتراطات العسكرية (والدفاع هنا لا يعني عملياً سوى الهجوم، غنيّ عن التذكير).
وإذا كان هذا النقاش، أو بعضه في كثير أو قليل، يخصّ آلاف المتظاهرين الإسرائيليين المصابين بـ«قلق وجودي» حول هذه الأنساق من «الديمقراطية» الإسرائيلية؛ فإنّ تلك الحفنة الضئيلة القليلة، في صفوفهم أو خارجها، لا تملك رفاه إنكار سمة مركزية كبرى مقترنة بالمحكمة العليا الإسرائيلية، وهي كونها أحد أذرع التكوين الاستعماري والاستيطاني والعنصري لدولة الاحتلال، وهي المكمّلة في السلطة القضائية لما يُسنّ ويُطبّق من جانب السلطتَين التشريعية في الكنيست والتنفيذية في الحكومات المتعاقبة أياً كانت طبائع ائتلافاتها.
للمرء أن يبدأ من المدماك الأكبر خلف هذه المعادلة، أي مصادقة المحكمة العليا على مبدأ الاستيطان، القائم أصلاً على مصادرة أراض واقعة تحت الاحتلال، وتهجير سكانها وملاّكها الفلسطينيين، وإسباغ الصفة الشرعية على البؤر الاستيطانية العشوائية. هذه، إذن، محكمة عليا تتولى قَنْوَنة دولة الاحتلال في غياب دستور ناظم، لكنها تنتهك اثنَين على الأقلّ من أبرز بنود اتفاقية جنيف الرابعة، 1949، التي تنظّم حماية الأشخاص المدنيين في أزمنة الحروب: حظر الترحيل القسري للمدنيين في المناطق المحتلة، وتحريم هدم مساكنهم. والمحكمة العليا الإسرائيلية لم تكتفِ بمنح الترخيص القانوني لسلطات الاحتلال في الترحيل والتهجير والطرد ومصادرة الأراضي وهدم البيوت فحسب؛ بل لقد حدث أنها، في مناسبات عديدة (ملفات تجمّع الخان الأحمر البدوي، شرق القدس، على سبيل المثال) لجأت إلى توبيخ الحكومة لأنها تتلكأ في طرد السكان أصحاب الأرض والممتلكات.
المحكمة العليا ذاتها، خلافاً للمنطق الكوني الأبسط في التقاضي والمساواة أمام القانون، تصادق على وجود قضائَين مختلفين للجناية الواحدة ذاتها؛ بمعنى أنّ الإسرائيلي يُحاكم أمام قضاء مدني بكلّ ما يكفله له القانون من حقوق، والفلسطيني يُحال إلى محكمة عسكرية إسرائيلية حيث القضاة وهيئة الاتهام ضباط عسكريون. وهي، أيضاً، محكمة تواصل منح سلطات الاحتلال الحقّ في ارتكاب جريمة حرب موصوفة وشنيعة وهمجية، هي الاحتفاظ بجثامين الشهداء لأغراض لا تكترث تلك السلطات حتى بتبريرها أمام محكمة مدنية أم عسكرية، سواء بسواء.
ولعلّ الأطرف، بين صفوف المتظاهرين الإسرائيليين، ذاك الذي ينتابه القلق على عضو في المحكمة العليا (نوام سولبيرغ، مثلاً)، لا لأيّ اعتبار آخر سوى أنه جار له في… المستوطنة ذاتها!

 

الشمال السوري: معادلات

المطرقة والسندان والبرميل

صبحي حديدي

 

سبع منظمات سورية حقوقية، «رابطة المحامين السوريين الأحرار» «محامون وأطباء من أجل حقوق الإنسان» «البرنامج السوري للتطوير القانوني» «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» «المجلس السوري البريطاني» «المجلس السوري الأمريكي» و«اليوم التالي»؛ أصدرت مؤخراً بياناً مشتركاً بعنوان «الانتهاكات مستمرة في كافة المناطق السورية بما فيها شمال سوريا» يساجل ضدّ السياسة التركية في ترحيل أفواج متعاقبة من اللاجئين السوريين، وهي إجراءات يعفّ البيان عن توصيفها بما هي عليه فعلياً: اعتباطية وتعسفية وعشوائية وفوضوية، غير خالية من العنصرية وكراهية الآخر والعقاب الجماعي.
وأياً كان اتفاق المرء أو اختلافه مع نصّ البيان، خاصة إذا وُضعت لغته الإجمالية في سياق أعرض يخصّ خلفيات الانتماء السياسي والإيديولوجي لكلّ من هذه المنظمات، والأداء الفعلي لها على الأرض؛ فإنّ قسطاً من التعداد الموضوعي للانتهاكات والمخاطر التي تحيق باللاجئين السوريين في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري (من جانب السلطات التركية والفصائل الجهادية والتكوينات العسكرية المختلفة) يمكن أن يسوّغ الركون إلى تثمين إيجابي لروحية البيان، ومطالبه وخلاصاته. هامّ، كذلك، أنّ البيان يحيل إلى القواعد المنصوص عنها في القانون الدولي الراهن، ضمن إطار اتفاقية اللاجئين سنة 1951 وبروتوكولاتها اللاحقة سنة 1967؛ والمبدأ العرفي (الذي يُلزم الدول غير المصادقة على اتفاقية 1951 أيضاً) الذي يحظر طرد طالبي اللجوء واللاجئين أو إعادتهم أو تسليمهم إلى مناطق قـد تتعرض فيها حياتهم أو حريتهم أو سلامتهم للخطر.
فإذا وضع المرء جانباً مسؤولية النظام السوري، وحليفيه الروسي والإيراني والميليشيات المذهبية المختلفة، عن النسبة الأعظم من الانتهاكات وجرائم الحرب، فهذه جلية في التشريد القسري لنحو 14 مليون سورية وسوري، أطفالاً وشيوخاً ويافعين ونساء ورجالاً؛ فإنّ المسؤوليات الرديفة تقع على عاتق الفصائل والتنظيمات والمجموعات السياسية والعسكرية التي تبسط سيطرتها على مناطق الشمال الغربي من سوريا، خارج سيطرة النظام، أي «هيئة تحرير الشام» وقوات ما يُسمى بـ«الجيش الوطني» أساساً، إلى جانب ما تبقى من «جيوش» جوفاء ومسميات طنانة على غرار «جيش البادية والملاحم» و«غرفة عمليات فاثبتوا» و«جيش الأحرار» و«فيلق الشام» و«حراس الدين» و«جيش العزة»… وحين لا تتقاتل هذه التكوينات فيما بينها، استحواذاً على منطقة نفوذ جديدة أو للحفاظ على أخرى قديمة؛ فإنّ شاغلها الأبرز هو ممارسة التسلط على الناس، ضمن ما أصاب المواطنون هناك في تسميته بـ«السلبطة».
وهكذا فإنّ التشخيص الأوضح والأكثر صواباً للجوء السوري في تلك المناطق هو وقوع اللاجئين بين المطرقة التركية وسندان الفصائل الجهادية والتشكيلات المرتبطة أصلاً مع أجهزة أنقرة العسكرية والاستخباراتية؛ وهذه حال ابتدأت وتواصلت وتحوّلت مراراً، لكنّ جوهرها لم يشهد من التبدلات الملموسة سوى تلك التي تتطلبها مصالح المطرقة التركية، ومقتضيات ما يُبرم في خدمتها من صفقات ومساومات تارة، أو عمليات عسكرية واحتلال المزيد من مساحات النفوذ تارة أخرى. ويستوي هنا، لجهة المنعكسات السلبية على المواطن السوري، أن ينجح توافق روسي ـ تركي مرّة، أو يتعثر مرّة أخرى؛ وأن تتخذ المسارات ذاتها تفاهمات أنقرة مع واشنطن هنا، أو تباعدها في قليل أو كثير هناك؛ ولا تُستثنى من النهج تعاملات أنقرة مع النظام السوري أو الولايات المتحدة أو كردستان العراق، بصدد قضايا الكرد وانضواء تنظيماتهم الحزبية والعسكرية في هذا الصفّ أو ذاك، في الشمال أو في محيط مدينة الرقّة أو شرق الفرات…

الانتهاكات، حسب بيان المنظمات السبع، تستهدف اللاجئين السوريين الذين لم يسعفهم الوقت أو الفرصة لاستخراج الأوراق الرسمية المطلوبة لحيازة الإقامة، أو الذين لم يتمكنوا من تجديد إقاماتهم

وبعد أن هدأت الطواحين الدونكيشوتية التي أثارتها المعارضة التركية في وجه رجب طيب أردوغان خلال الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية الأخيرة، آن الأوان كي تتفرغ أجهزة أردوغان نفسه لإتمام ما ألزمت ذاتها به حول ملفات اللجوء السوري. الانتهاكات، حسب بيان المنظمات السبع، تستهدف اللاجئين السوريين الذين لم يسعفهم الوقت أو الفرصة لاستخراج الأوراق الرسمية المطلوبة لحيازة الإقامة، أو الذين لم يتمكنوا من تجديد إقاماتهم. ويجري اصطياد اللاجئين عشوائياً من الشوارع والأماكن العامة، ويُحرم المقتنَص من توكيل محامٍ، ويتمّ اقتياده إلى مراكز الترحيل من دون توديع أسرته، أو إتمام معاملات خروجه واستحصال حقوقه وتعويضاته المادية…
أمّا بعد المطرقة التركية، أي على السندان الذي تتولاه المجموعات المشار إليها في سطور سابقة، من خلائط الفصائل الجهادية والتشكيلات العسكرية المرتبطة بأنقرة وترتيباتها في الشمال السوري؛ فإنّ «السلبطة» إياها لا تبدأ من الممارسات «الفقهية» و«الشرعية» الدينية والتعليمية والإدارية، الأشدّ جاهلية من أردأ تمثيلاتها في الماضي السحيق؛ ولا تنتهي عند الممنوعات والمحظورات والسلب والنهب، بذرائع واهية ومضحكة أو من دون الاكتراث بأيّ تذرّع؛ وليس لها إلا أن تمرّ بالمعارك الجانبية بين «تحرير الشام» وكلّ منازع لسلطاتها، أو بين أيّ تنظيم أو جماعة أو زمرة، تنتحل احتكار الدين أو العزّة أو سواء السبيل والرباط والثبات. هنا بعض الانتهاكات التي رصدها بيان المنظمات السبع، والأرجح أنها غيض من فيض وما خفي خلف الرصد قد يكون أدهى وأفظع:
مقتل 7 مدنيين، بينهم امرأتان، بسلاح «تحرير الشام»؛ و9 مدنيين، بينهم طفل وامرأة، بسلاح «الجيش الوطني»؛ وأمّا قاذفات النظام وروسيا فقد واصلت استكمال المحنة المأساوية المفتوحة، فأجهزت على 98 شخصاً. من جانب «تحرير الشام» نحو 128 حالة احتجاز/ اعتقال، بينهم طفلان و3 نساء، تحوّل 101 بينها إلى اختفاء قسري؛ وما لا يقلّ عن 161 حالة اعتقال، بينهم 5 أطفال و14 امرأة، في مراكز الاحتجاز التابعة لفصائل المعارضة المسلحة/ «الجيش الوطني» تحوّل 118 بينهـم إلـى حالـة اختفـاء قسـري. هذا إلى جانب التجنيد الإجباري، وفقدان الأمن، والتدهور الاقتصادي، وشيوع البنى التحتية الهشة؛ إذا وضع المرء جانباً عواقب الزلزال الأخير، حيث المواطن ضحية البيروقراطية الفصائلية المحلية والتركية والأممية، على حدّ سواء.
لا يصحّ، كذلك، إغفال طراز إضافي من العسف والتعسف، مارسته وتمارسه أنماط أخرى تزعم الانتساب إلى «المعارضة» فترفع راية «المحاكم الشرعية» وتزيّف الشريعة الإسلامية أو تكيّفها على أهواء قادتها؛ وهم فقهاء الظلام ليس أقلّ، وليس أكثر أيضاً. ولقد جُلد رجال من أبناء المنطقة بتُهم سخيفة، جاهلية وعمياء ومنحطة، في شروط مقاضاة تمثّل بدورها إهانة وطنية قصوى للسوريين (كما في التعامي عن ملابسات الاستشهاد، وجلد رجل زوّج ابنته وهي في «عدّة الطلاق»)؛ وفي شروط إنسانية فاضحة تماماً، حتى بأي معنى «شرعي» (كأن يقوم بالجلد رجل ملثّم، بعد تلاوة قصاصة كُتب عليها حكم «المحكمة الشرعية»).
وذات يوم غير بعيد، اختير تاريخه عن سابق عمد وتصميم، قامت مروحيات النظام بإلقاء 23 برميلاً متفجراً على مدينة سراقب، جنوب شرق إدلب؛ ونفّذت القاذفات 14 غارة جوية على الأقلّ، وقعت آخرها لحظة أذان المغرب بالضبط، أي عند موعد إفطار الصائمين (وهذا، بدوره، لم يكن توقيتاً عشوائياً). البرميل المتفجر احتوى خلائط من الموادّ الناسفة، وقضبان حديد البناء المقطّعة إلى أجزاء قصيرة أُريد منها أن تتحوّل إلى طلقات خارقة متقدة، أشدّ فتكاً من الذخائر النارية الكلاسيكية. وأمّا ما ألقته القاذفات، فإنه بدأ من القنابل العنقودية، ولم يقتصر على الانشطارية، فضلاً عن هذا أو ذاك من صنوف الأسلحة الكيمائية.
تلك كانت، وتظلّ، مساهمة النظام في إضافة البرميل إلى أدوار المطرقة والسنديان؛ ولائحة المساهمات من خمسة احتلالات في سوريا لا تكفّ عن التراكم، والمنافسة والمزايدة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

ضمائر الكونغرس الأمريكي:

كاشف العنصرية الإسرائيلية

صبحي حديدي

 

نادرة هي التصريحات التي تصدر عن أعضاء في الكونغرس الأمريكي وتكون مكشوفة واضحة في انتقاد دولة الاحتلال الإسرائيلي، فكيف إذا كانت تذهب إلى صميم قبائح الكيان الصهيوني وتسمه بالعنصرية مثلاً، أو تقتبس توصيفات مماثلة لمنظومات الأبارتيد كما سجلتها منظمات حقوقية دولية ذات شأن؛ مثل «منظمة العفو الدولية» أو «هيومان رايتس ووتش» أو حتى «بتسيليم» الإسرائيلية. إحدى هذه النوادر نطقت بها مؤخراً النائبة عن واشنطن براميلا جايابال، حين قالت في اجتماع عام لتجمّع تقدمي في شيكاغو: «أريدكم أن تعرفوا أننا نقاتل كي نوضح أن إسرائيل دولة عنصرية» وأنّ «الشعب الفلسطيني يستحق تقرير المصير والاستقلال الذاتي» وأنّ «حلم حلّ الدولتين يتلاشى أمامنا».
ولقد توجّب، كما يتوجب عند كلّ نادرة كهذه، أن تقوم قيامة عابرة للحدود بين الحزبَيْن في الكونغرس، فيستغلّ الجمهوريون الواقعة للبناء ضدّ زملائهم أعضاء الحزب الديمقراطي، وتسعى غالبية من الديمقراطيين أنفسهم إلى التنصّل من تبعات تصريح جايابال أو الالتفاف عليها؛ في غمرة هرج ومرج، بالمعنى الحرفي للتعبير وليس المجازي وحده، في أوساط الإعلام الموالي لدولة الاحتلال. وهكذا، في ما يشبه الضربة الاستباقية، سارع 43 من النوّاب الديمقراطيين إلى صياغة مسودة بيان يشير إلى «القلق العميق» من الأقوال «غير المقبولة» التي صدرت عن زميلتهم؛ فسعى زعيم الأقلية، الديمقراطي حكيم جيفريز، إلى إصدار نصّ يقول إنّ «إسرائيل ليست دولة عنصرية» شارك في التوقيع عليه كاثرين كلارك، بيت أغويلار، وتيد ليو. لا عجب، حين يستذكر المرء أنّ مجموعة الضغط «أمريكا المؤيدة لإسرائيل» ساهمت في حملة انتخاب جيفريز بمبلغ 213 ألف دولار، وفي حملة ليو بأكثر من 37 ألف، وتلقى أغويلار 101 ألف من الـ«أيباك» المنظمة الأشهر المؤيدة للاحتلال، وحصلت كلارك على 45 ألف من المنظمة ذاتها.
طريف، إلى هذا، أنّ هؤلاء الأشاوس، في استماتتهم لتنزيه دولة الاحتلال عن العنصرية، اتكأوا على إعلان استقلال الكيان الصهيوني، 1948، الذي يساوي بين جميع «مواطني» الدولة من دون تمييز على أساس العرق أو العقيدة أو الجنس. وهم، عن سابق قصد بالطبع، تناسوا تماماً قانون جنسية الدولة الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي سنة 2018، وأنّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو شخّص الأمر عيانياً في ردّ على الممثلة الإسرائيلية روتيم سيلا، التي اتهمت حكومته بمعاملة الفلسطينيين حملة الجنسية الإسرائيلية كمواطنين من درجة أدنى: «إسرائيل ليست دولة لكلّ مواطنيها» كتب نتنياهو على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، «طبقاً لقانون الجنسية الذي اعتمدناه، إسرائيل هي الدولة الأمّة للشعب اليهودي ــ ولهذا الشعب وحده». تجاهلوا كذلك أنّ إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي في هذه الدولة التي يستبعدون عنها العنصرية، سبق له أن أُدين بالعنصرية والتحريض على الإرهاب، في محكمة إسرائيلية؛ واجهها برفع لافتة كتب عليها: «اطردوا العربيّ العدو».

ضمائر الكونغرس الأمريكي، أو ما تبقى منها بمعنى المصطلح والدلالة على الأقلّ، اشتُريت بأثمان بخسة كما جرت العادة عند صياغة أيّ نصّ لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ فاجتمع الحزبان الديمقراطي والجمهوري على إصدار قرار يعبّر عن دعم الاحتلال، ويستنكر العداء للسامية، في ردّ على نادرة جايابال

ضمائر الكونغرس الأمريكي، أو ما تبقى منها بمعنى المصطلح والدلالة على الأقلّ، اشتُريت بأثمان بخسة كما جرت العادة عند صياغة أيّ نصّ لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ فاجتمع الحزبان الديمقراطي والجمهوري على إصدار قرار يعبّر عن دعم الاحتلال، ويستنكر العداء للسامية، في ردّ على نادرة جايابال، يشدد ضمناً على آلية باتت جامعة مانعة: أيّ انتقاد لدولة الاحتلال هو عداء للسامية، بالتعريف القاطع. القرار صدر بأغلبية 412، مقابل رفض 9 من المجموعة التقدمية تحديداً (ألكساندريا أوكاسيو ـ كورتيز، رشيدة طليب، جمال بومان، سومر لي، إلهان عمر، كوري بوش، أندريه كارسون، ديليا راميريز، وأيان بريسلي)؛ وفي علامة جلية على سطوة مجموعات الضغط المؤيدة للاحتلال، فإنّ بيتي ماكولام (عضوة المجموعة التقدمية) لم تصوّت سلباً أو إيجاباً واكتفت بتسجيل الحضور؛ وأمّا العلامة الأجلى فقد جاءت من جايابال نفسها، التي… دعمت القرار!
مفهوم أنّ جايابال في حاجة ماسة إلى دعم الحزب الديمقراطي على مستوى القيادات صاحبة السلطة في تسمية المرشحين لانتخابات الكونغرس، خاصة وأنها أمريكية من أصول هندية؛ ومفهوم، في المقابل، أنها تترأس المجموعة التقدمية داخل مجلس النوّاب وهي مطالَبة أيضاً بالوفاء لجملة خيارات سياسية، بينها مساندة حقوق الشعب الفلسطيني وفضح ممارسات دولة الاحتلال في انتهاك حقوق الإنسان وإساءة استخدام مليارات المساعدات السنوية التي يصادق عليها الكونغرس. ولم يكن غريباً أن تصدر جايابال توضيحاً مركّب النبرة، سارت الفقرة الأولى فيه هكذا: «لست أؤمن أنها عنصرية فكرةُ إسرائيل كدولة. لكنني مع ذلك أؤمن أنّ حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة انخرطت في سياسات تمييزية وعنصرية صريحة وهنالك عنصريون متطرفون يسيّرون تلك السياسة داخل قيادة الحكومة الراهنة. وأؤمن أنّ من الوجب على كلّ المناضلين لجعل عالمنا مكاناً أكثر عدلاً ومساواة، التصريح بإدانة تلك السياسات ودور حكومة نتنياهو هذه في تطبيقها».
ولأنّ الرئيس في البيت الأبيض اليوم هو جو بايدن، والرئيس في حكومة الاحتلال هو نتنياهو؛ فقد يكون من الأخير ردّ الذاكرة إلى ربيع 2010، حين قام الأدميرال مايكل مولن، رئيس الأركان المشتركة الأمريكية بزيارة إلى فلسطين المحتلة، اجتمع خلالها مع غابي أشكنازي، رئيس أركان جيش الاحتلال، وأبلغه ضرورة وضع النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في «سياق إقليمي أعرض» يخدم أهداف أمريكا. الصدفة ــ يا لمحاسنها أحياناً! ــ شاءت أن يكون بايدن، نائب الرئيس يومذاك، في اجتماع مع نتنياهو؛ حين أبلغ المضيفُ ضيفه أنّ الحكومة لا ترفض تجميد المستوطنات، فحسب؛ ولكنها تستقبل بايدن بالعزم على بناء 1600 مستوطنة جديدة، وفي القدس الشرقية. ولقد تطوّع الصحافي الإسرائيلي شيمون شيفر، في «يديعوت أحرونوت» باطلاع العالم على «قلق» نائب الرئيس الأمريكي، وعلى بعض العتب: «ما تفعلونه هنا ينسف أمن قوّاتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان والباكستان. هذا يُلحق الخطر بنا، وبالسلام في المنطقة»؛ وأيضاً: لهذه القرارات «تأثير مباشر على السلامة الشخصية للقوّات الأمريكية التي تكافح الإرهاب الإسلامي». وأمّا في أمريكا فقد سارعت سارة بيلين، المرشحة الرئاسية السابقة عن الحزب الجمهوري، إلى كتابة مقال في صفحتها الشخصية على الفيسبوك؛ توجّه فيه الملامة الشديدة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، ونائبه بايدن، بسبب «اختلاق» مشكلة مع دولة الاحتلال حول المستوطنات، يستفيد منها الإرهابيون!
وإذْ يستعيض الحزب الديمقراطي الأمريكي، في البيت الأبيض كما في الكونغرس، عن حرج استقبال نتنياهو ببديل يمثله الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، ذي الوظائف الشكلية البروتوكولية الاحتفالية؛ فإنّ أيّ تعويض عن ذاك بهذا لا يجبّ ضرورات الوفاء بالتعاقد العضوي التاريخي مع دولة الاحتلال، ولهذا حرص بايدن على إجراء اتصال هاتفي مع نتنياهو لدعوته إلى زيارة أمريكا، حتى من دون المرور على المكتب البيضاوي؛ والكونغرس، قبل خطبة هرتسوغ العصماء تحديداً، تقصد تمرير قرار بتجريم من تسوّل له نفسه انتقاد الكيان الصهوني المدلل. لا جديد، إذن، تحت شمس شهدت المئات من هذه التمارين في التسابق على اكتساب الودّ الإسرائيلي في عمق المشهد الأمريكي، حكومة ومعارضة، في الكونغرس كما في مجموعات الضغط، وفي الصحف الكبرى وأجهزة الإعلام العملاقة.
الأمر الذي لا يلوح أنه يجبّ، في الضفة المقابلة، يقظة ضمير ديمقراطي هنا، أو صحوة صوت صارخ في برّية هناك؛ خاصة حين تهبط قبائح دولة الاحتلال إلى حضيض عنصري كاشف فاضح، يصعب أن يُشترى للدفاع عنه ضمير.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

من سولجنتسين إلى كونديرا:

الزمّار والمزمار

صبحي حديدي

 

الأرجح، والمنطقيّ افتراضاً، أنّ قسطاً غير قليل من الاهتمام برحيل الروائي التشيكي ميلان كونديرا (1929-2023) يرتدّ في أصوله إلى فورة الحماس التي اكتنفت انشقاقه ومغادرة تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا سنة 1975؛ والأدوار التي لعبتها سلطات الحزب الشيوعي التشيكي في تعظيم ذلك الانشقاق بقرارات (حمقاء بلهاء، كالعادة) تضمنت سحب الجنسية والطرد من الحزب. مرجّح، غالباً، أنّ مناخات الالتفاف حول كونديرا الشخص، ثمّ حول رواياته وتنظيراته النقدية، سمحت بمقدار لم يكن بدوره قليلاً لجهة غضّ النظر عن المعلومات التي كُشف النقاب عنها، خريف 2008، حول وشاية كونديرا، سنة 1950، بالمعارض المنشق ميروسلاف دفوراشيك، وكتابة تقرير إلى الشرطة السرية التشيكية يحدد مكان إقامة الأخير، مما أسفر عن اعتقاله والحكم عليه بالسجن 22 سنة مع الأشغال الشاقة؛ الأمر الذي سوف ينفيه كونديرا على نحو قاطع، بالطبع.
للمنشقين عن «المعسكر الاشتراكي»، كما سارت التسمية خلال عقود الحرب الباردة، أقدار متنوعة من حيث المسارات والمواقف التي تخصّ المنشقّ نفسه، لكنها في العموم متطابقة بدرجات مدهشة من حيث الاستقبال الغربي، في أوروبا والولايات المتحدة خصوصاً، وليس على صعيد المؤسسات والمعاهد الثقافية والإعلامية وحدها بل أساساً، وربما جوهرياً أيضاً، على صعيد أجهزة الاستخبارات؛ بالنظر إلى الأدوار الخاصة التي ربطتها تلك الأجهزة بالثقافة. ولعلّ كتاب فرنسيس ستونر سوندرز «من الذي دفع للزمّار: المخابرات المركزية والحرب الباردة الثقافية»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 1999، ونقله طلعت الشايب إلى العربية، وصدر في القاهرة سنة 2003؛ هو المرجع الأبرز، والأدسم بالمعلومات والمعطيات الوثائق؛ حتى الساعة، أي حتى إشعار آخر يمكن أن يميط اللثام عن المزيد (خاصة في ملفي الاستخبارات الغربية والثقافة العربية، خمسينيات وستينيات القرن المنصرم).
على سبيل الأمثلة، عالية الدلالة مع ذلك، ثمة الكثير من الفوارق بين «الدون الهادئ»، رواية ميخائيل شولوخوف التي كانت العمل الأبرز خلف منحه جائزة نوبل للأدب سنة 1965؛ وبين «دكتور جيفاغو»، رواية بوريس باسترناك التي جلبت له وللاتحاد السوفييتي أوّل نوبل سنة 1958؛ سواء لجهة المناخات الملحمية الشاسعة والبديعة في الأولى، أو الاختراقات الشعورية والشاعرية البديعة في الثانية. أو، استطراداً، من حيث امتناع الأخير عن استلام الجائزة (رفضاً للتسييس، وربما الخشية من اضطهاد الحزب)؛ وقبول الأوّل لها بوصفها التكريم العالمي الأوّل لتيار الواقعية الاشتراكية في الآداب والفنون، طبقاً لتكريسه الرسمي على يد أمثال مكسيم غوركي وأندريه جدانوف سواء بسواء.
كلاهما، باسترناك وشولوخوف، على مسافة نأي ملموسة وجلية، سياسياً وأخلاقياً، عن ألكسندر إيساييفتش سولجنتسين (1918-2008)، الروائي الروسي (السوفييتي، سابقاً)، حامل نوبل الآداب أيضاً لعام 1970، والمنشقّ بعد 4 سنوات؛ الذي تربّع ذات يوم على عرش «الرمز الأعظم» للنضال من أجل حرية التعبير في الاتحاد السوفييتي وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي خاصة، وعلى امتداد العوالم الثانية والثالثة أو كلّ ما هو خارج جغرافية «العالم الحرّ» بصفة عامّة مطلقة. لافت، مع ذلك، أنّ روايته «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، التي جذبت انتباه الأكاديمية السويدية، كانت قد صدرت بالروسية أوّلاً، في موسكو، وبقرار من نيكيتا خروتشوف شخصياً؛ ولم يكن الرجل ممنوعاً من الكتابة والنشر، رغم أنه سجين سابق في «أرخبيل الغولاغ» ذاته؛ الذي سيصوّره في عمل لاحق حمل الاسم ذاته.
الفارق الذي توجّب أن يميّز سولجنتسين عن مواطنَيْه باسترناك وشولوخوف لم يكن الانشقاق وحده، ولا هوية الجهة التي واصلت الدفع للزمّار، بل خصائص المزمار الذي استخدمه هذا أو ذاك من أدباء الانشقاق، من جهة أولى تخصّ حقوق التاريخ وصدقية الوقائع؛ وقبلها، أو بالتوازي معها كما قد تساجل تيارات النقد الأدبي السوسيو- سياسية، سمات معزوفات المزمار ذاتها، من جهة ثانية على صلة وثيقة بالسوية الفنية والإبداعية. ولقد تعيّن على رواية سولجنتسين أن تهزل تباعاً، بل قد يصحّ القول إنها تقزّمت باضطراد، بعد عودته المشهودة إلى روسيا سنة 1994، واتخاذه سلسلة مواقف سياسية قوموية، لا تختلف كثيراً عن مفردات الخطاب الذي يردده فلاديمير بوتين اليوم في تبرير غزو أوكرانيا: الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي تسعى إلى تطويق روسيا وحرمانها من سيادتها، ليس عن طريق الحشد العسكري جنوب البلاد وشرق أوروبا فحسب، بل كذلك بمساندة «الثورات الملوّنة»، في إشارة إلى أوكرانيا البرتقالية وجورجيا الوردية؛ ولم يغفل سولجنتسين التشديد على امتداح بوتين، لأنه يجهد لإحياء «روح روسيا».
وإذْ تمرّ هذه الأيام الذكرى الـ50 لصدور «أرخبيل الغولاغ»، المناسبة التي حرّضت هذه السطور، فإنها تخلو أو تكاد من الضجيج والعجيج الذي اقترن بترجمتها إلى الإنكليزية والفرنسية؛ بل إنّ بعض الذين استذكروا المناسبة من المطبّلين السابقين جنحوا لى صيغة أقرب إلى التباكي والرثاء منها إلى الاحتفاء والتمجيد. صحيح أنّ للنسيان قوانينه المتجبرة، التي قد تكون تكفلت بوضع سولجنتسين على أحد رفوف مهملات التاريخ، إلا أنّ الصحيح المقابل هو أنّ معزوفات المزمار ذاتها بهتت أو انحسرت أو تلاشت؛ وتلك سنّة الحياة، أو بعض المصائر التي يحفظها التاريخ لهذا الطراز تحديداً، من الأدب الزمّار.

 

محكمة الأقواس المعوجّة

صبحي حديدي

 

بمعزل عن مبالغة متعمَدة قد يسوّغها المقام، ثمة ما يشبه المعجزة في أنّ كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وجد أخيراً فسحة من وقته الثمين (المكرّس، بالكامل تقريباً، لملفات أوكرانيا) كي يحيط مجلس الأمن الدولي علماً بـ»الأحداث التي وقعت في إطار الأعمال القتالية الراهنة» في السودان؛ منذ اندلاع المواجهات العسكرية الدامية بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، والجنرال محمد حمدان دقلو قائد الجيش الموازي المسمى «قوّات الدعم السريع». كذلك زفّ خان البشرى بأنّ مكتبه يحقق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم جديدة ضد الإنسانية في إقليم دارفور، مستذكراً بأنّ «التاريخ قد يكرر ذاته» بالمقارنة مع أهوال شهدها الإقليم في سنة 2003.
والسرعة القصوى التي طبعت قرار المحكمة إصدار مذكرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بسبب «مسؤوليته عن جرائم حرب» ارتُكبت في أوكرانيا، ليست سوى الفصل الأحدث في مباذل محكمة لم تكن في أيّ يوم جديرة باسمها؛ في ما يخصّ مفهوم الحدود الدنيا للعدالة، أوّلاً؛ ثمّ المساواة بين مجرمي الحرب أياً كانت جنسياتهم، أو ألوان البشرة في وجوههم تالياً. سجلات المحكمة تقول إنها حتى الساعة لم تعمد إلى طلب توقيف، فكيف بإدانة، بشرة بيضاء واحدة؛ مقابل 44 بشرة سمراء أفريقية؛ كما أنّ 10 من أصل 14 تحقيقاً يعكف عليه محققو المحكمة، تخصّ أفريقيا.
لا أحد في أروقة المحكمة يردّد اسم مجرم حرب كيميائي مثل بشار الأسد، وللمتناسين والمتجاهلين ذريعة ّ»قانونية» بالطبع: في عام 2015 أصدرت فاتو بنسودا، المدعية العامة السابقة للمحكمة، توضيحاً رسمياً قالت فيه إنّ الفظائع المزعومة في سوريا تشكل بالفعل «جرائم خطيرة تثير قلق المجتمع الدولي وتهدد السلم والأمن والرفاه في المنطقة وفي العالم»؛ إلا أنّ سوريا ليست طرفاً في نظام روما، وبالتالي لا تتمتع المحكمة بالاختصاص الإقليمي للتحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي السورية. العجيب أنّ خان، خَلَفها، لم يكترث بهذا العائق حين سطّر مذكرة التوقيف ضدّ بوتين، وضرب صفحاً عن حقيقة أنّ روسيا كانت قد انسحبت من عضوية المحكمة في سنة 2014، احتجاجاً على قرا الجنائية اعتبار ضمّ القرم «عدواناً متواصلاً».
لا أحد، أيضاً، يتجاسر على استذكار ما ارتكبت ديمقراطيات غربية بيضاء من جرائم حرب ومجازر في أفغانستان والعراق، أو ما يرتكب كيان الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني العنصري من فظائع في فلسطين. وليست مفارقة، ولا هي نكتة ثقيلة الظلّ، أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي حثّ خان وقضاته على التحقيق في انتهاكات الجيش الروسي خلال اجتياح أوكرانيا؛ هو خليفة رئيس أمريكي يدعى دونالد ترامب، عمد في خريف 2018 إلى إبلاغ الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنّ المحكمة لا شرعة لها ولا شرعية ولا سلطة في الولايات المتحدة، كما فرض قيوداً وعوائق تأشيرة على موظفي المحكمة لأنهم تجرأوا على مجرّد التفكير في ممارسات أفراد أمريكيين على أرض أفغانستان.
وذات يوم حُقّ لدكتاتور السودان، الفريق عمر البشير، أن يتباهى باستسلام الجنائية الدولية أمامه، برفع الأيدي كما قال؛ وأسبابه في تلك المباهاة لم تقتصر يومئذ على عودته من جنوب أفريقيا إلى السودان، سالماً آمناً مسلّحاً بعصا المارشالية الشهير؛ بل كذلك لأنّ بنسودا قررت حفظ التحقيقات في جرائم دارفور، وأحالت الملفّ إلى مجلس الأمن الدولي (كما فعلت سابقاً، مراراً في الواقع، لأنّ السودان، قبل كينيا وجيبوتي ومالي والكونغو وتشاد، لم تتعاون مع المحكمة في القبض على البشير).
ولعلّ خان يستعيد بعض تفاصيل جولته السودانية مطلع هذا العام، قبل تناطح الجنرالَين، وكيف غلبت اللباقة الدبلوماسية على تصريحاته، وغابت عنها حكاية التاريخ الذي يتكرر؛ خارج أيّ قوس معوجّ لمحكمة لا تُعنى بالعدالة، ولا تشرّف التسمية.

 

 

الحلف الأطلسي: ظهر إلى

روسيا وعين على آسيا؟

صبحي حديدي

 

لزائر الموقع الرسمي لـ«حلف شمال الأطلسي» الناتو، أن يعثر على وثيقة مؤرخة في 7 تموز (يوليو) الجاري، أي قبل أيام قليلة سبقت انعقاد قمّة العاصمة اللتوانية فلنيوس؛ عنوانها «العلاقات مع الشركاء في المنطقة الهندو ـ باسيفيكية» تبدأ فقرتها الأولى هكذا: «يعزز الناتو الحوار والتعاون مع شركائه في المنطقة الهندو ـ باسيفيكية: أستراليا، اليابان، جمهورية كوريا [الجنوبية]، ونيوزيلندا. ففي البيئة الأمنية المعقدة اليوم، فإنّ العلاقات مع شركاء متشابهين في التفكير على امتداد العالم تزداد أهمية على سبيل معالجة المسائل الأمنية الجامعة والتحديات الكونية. والمنطقة الهندو ـ باسيفيكية هامة للحلف، بالنظر إلى أنّ التطورات في تلك المنطقة يمكن أن تؤثر مباشرة على الأمن الأورو ـ أطلسي».
في فلنيوس سوف يتجسد حضور «الشركاء» الأربعة، كما هو معروف، في تكرار لما شهدته قمة الحلف في مدريد صيف 2022 أيضاً؛ مع فارق قد يكون جوهرياً من جهة نظرية الحلف التأسيسية، عكسه إقرار وثيقة «المفهوم الستراتيجي» للحلف، التي ترسم توجهاته خلال السنوات المقبلة، حيث يشدد النصّ (للمرّة الأولى، كما يصحّ التذكير) على أهمية المنطقة الهندو ـ باسيفيكية، ملاحظاً أنّ تطوراتها يمكن أن تؤثر على الأمن الأورو ـ أطلسي، وينصّ حرفياً على أنّ الناتو سوف «يعزّز الحوار والتعاون مع شركاء جدد أو حاليين» في تلك المنطقة، وذلك «لعلاج التحديات العابرة للإقليم والمصالح المشتركة». قبل ذلك، في نيسان (أبريل) 2022، توافق الحلف مع «الشركاء» على وثيقة بعنوان «أجندة من أجل معالجة التحديات الأمنية» هدفها المعلَن هو «تعميق التعاون في ميادين متعددة، بما في ذلك الدفاع السيبراني، والتكنولوجيا الجديدة، والتهديدات مختلطة الأصل».
الضجيج في فلنيوس تعالى من حول قضايا قيل إنها «عالقة» مثل تمنّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول المصادقة على انضمام السويد إلى الحلف، أو آجال «غرفة الانتظار» التي يتوجب أن يمكث فيها طلب عضوية أوكرانيا قبل إقراره، أو حتى النظر بعين العطف إلى تمنيات دول أخرى في أوروبا الشرقية للالتحاق، فضلاً عن إشكالية العثور على بديل للأمين العام الحالي ينس ستولتنبرغ بعد تمديد رابع لولايته. كذلك كانت نوبات «غنج» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، والتي باتت أقرب إلى علامة مسجّلة في خطف الأضواء، قد أجبرت مستشار الأمن القومي الأمريكي على مناشدته إبداء بعض الامتنان، واضطرار وزير الدفاع البريطاني إلى تذكيره بأنّ الحلف ليس شركة أمازون بصدد تزويد كييف بأصناف السلاح.
خلف الضجيج، على نيران ليست هادئة بالضرورة، كانت تُطبخ واحدة من أخطر انعطافات الحلف، التي قد تتكفّل عملياً بنسف حفنة من ركائزه التأسيسية الكبرى، في طليعتها الاسم ذاته، «منظمة معاهدة شمال الأطلسي»؛ على صعيد المعاني الملموسة للمفردات الأربع، وما يتبقى فيها من قوام المنظمة (وليس عصبة القوّة الكونية الأوحد) أو الاتفاق (بعد إدخال ما هبّ ودبّ خارج الحدود الدنيا للتوافق) أو التحديد الجغرافي (حين سيختلط الأطلسي بالباسيفيكي، والهندي بالأوروبي).

إذا كان الحلف مشروعاً أمريكياً/ أطلسياً في الأساس، والتشكيلات العسكرية الأوروبية المنخرطة فيه معظمها أشبه بقِطَع ديكورية تستكمل الصورة الخارجية؛ فإنه اليوم الحلف السياسي ـ العسكري الأوحد على نطاق العالم، والأضخم من حيث العدد والعدّة ومساحة الانتشار

وعلى المدى الراهن المنظور، ثمة اعتراض صريح أوّل على هذا «الانفلاش» في المعنى والمهامّ والنطاق، من دولة كبرى مؤسسة مثل فرنسا، لم يتردد رئيسها الحالي في التذكير بأنّ ركيزة الحلف أمنية وعسكرية، وأنّ توتير العلاقات مع الصين (الهدف الأوّل والأبرز من خلف الطبخة الهندو ـ باسيفيكية) يمسّ الاقتصاد في المقام الأوّل. أحد مستشاري قصر الإليزيه لم يتورع، خلال قمة فلنيوس تحديداً، عن تذكير رهط من الصحافيين بمركزية المادتين 5 و6 من المعاهدة الأمّ للحلف، لجهة تعريف مفهوم الاعتداء على أيّ من أعضائه وتحديد نطاقه الجغرافي.
ولقد رددت كواليس قمّة فلنيوس أشكال همز ولمز متنوعة، تغمز جميعها من قناة ستولتنبرغ الذي لا يكفّ عن تكرار ما يقوله الرئيس الأمريكي جو بايدن، أو حتى ما يلمّح إليه مسؤولون أمريكيون؛ حول الأخطار الداهمة التي يمكن أن تتعرّض لها دول هندو ـ باسيفيكية، وكيف أنّ تايوان يمكن أن تكون لقمة الصين السائغة التالية، على غرار لقمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا. البعض استذكر حقائق صلبة تخصّ الصين، من طراز أنها البلد الذي يشكّل سكانه 20٪ من البشرية، وأنّ اقتصادها هو اليوم الأضخم عالمياً شاء مَن شاء وأبى من أبى، وأنها ــ حتى الساعة، على الأقلّ ــ لم تعمد إلى غزو بلد آخر أو ضمّه أو إلحاقه. آخرون لم يكترثوا حتى باقتباس هذه الحقائق، بل اكتفوا بالحكم على تصريحات ستولتنبرغ (خاصة مطالبته بعدم تكرار خطأ أوكرانيا في آسيا) بأنها محاكاة ببغائية لما يردده مستشار الأمن القومي الأمريكي!
وإذا كان الحلف مشروعاً أمريكياً/ أطلسياً في الأساس، والتشكيلات العسكرية الأوروبية المنخرطة فيه معظمها أشبه بقِطَع ديكورية تستكمل الصورة الخارجية؛ فإنه اليوم الحلف السياسي ـ العسكري الأوحد على نطاق العالم، والأضخم من حيث العدد والعدّة ومساحة الانتشار، والأكثر دموية من حيث المهامّ (من يوغوسلافيا السابقة إلى أفغانستان إلى ليبيا إلى أوكرانيا). لقد بدأ من 12 دولة مؤسسة، ثمّ توسّع إلى 15 في خمسينيات القرن الماضي، وهو اليوم يعدّ 32 دولة مع التحاق فنلندا وقرب انضمام السويد، وبين أعضائه ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وسبع دول أعضاء سابقة في حلف وارسو المنقرض (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا، بولندا)؛ وأمّا لائحة الطامحين إلى العضوية فلا تبدأ من أوكرانيا، وقد لا تتوقف عند البوسنة والهرسك.
لا يصحّ أن تُغفل، مع ذلك، مضامين عقائدية اقترنت بتأسيس الحلف، وليس من المنتظر أن تنحسر في أيّ زمن وشيك؛ مثل أنّ الأبعاد الحضارية، أو حتى الثقافية، ليست البتة غائبة عن ركائزه السياسية والعسكرية والأمنية والجغرافية، وهذا ما شدّد عليه ذات يوم رجل غير منتظَر في هذا الميدان تحديداً: الكاتب المسرحي، ولكن الرئيس التشيكي أيضاً، فاتسلاف هافيل. ففي قمّة الحلف التي احتضنتها براغ خريف 2002، قال هافيل: «على الحلف ألا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات، التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة». لم تكن تركيا هي المقصودة بهذا التعريف «المضماري» لأنّ عضويتها ليست مستجدة كما أنّ جيشها هو الثاني الأضخم في الحلف؛ وبالتالي فالأرجح أنّ هافيل ألمح إلى دول ما تزال تعيش فيها جاليات مسلمة. لافت، مع ذلك، أنّ ذلك التحذير توجّه إلى «قمّة التحوّل» التي ناقشت توسيع الحلف شرق أوروبا وجنوبها، وضمّت سبع دول جديدة إلى النادي (إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا).
ولا عزاء لخلفاء هافيل في أنّ الحلف، بصدد الطبخة الهندو ـ باسيفيكية، لا يميل إلى طيّ بعض تلك الطهارة «المضمارية» كما طوى الكثير قبلها حتى بلغ شأو الإيحاء بإمكان انضمام روسيا بوتين ذاتها إلى الحلف؛ الأمر الذي لا يُبطل مقداراً غير قليل من المخاوف ذات الصلة بالأمن العالمي، إذا تعززت معادلة الحلف الثنائية: ظهر إلى روسيا، في أوكرانيا أو في مسادين اشتباك أخرى مقبلة؛ وعين على آسيا، في الصين أساساً، وعبر أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا. الأرجح، استطراداً، أنّ معمار الحلف الوجودي لا يتآكل بالمعاني الأكثر تحريضاً على مخاطر مواجهات كونية دامية فقط، بل يرتدّ القهقرى إلى ما قبل1949… سنة التأسيس!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

انتفاضات أوروبا:

أبعد من الشرطة وأعمق من الشغب

صبحي حديدي

 

«الانتفاضات الحضرية: تحدّي النيوليبرالية في أوروبا» كتاب بالغ التميّز، وذو صفة مرجعية عالية النفع، صدر سنة 2016 بالإنكليزية، في لندن، ضمن منشورات بالغريف/ مكميلان؛ بتحرير مارغيت ماير وكاثرين ثورن وحقان ثورن. وقد يُفاجأ المرء، هنا، حين يقرأ أنّ الاضطرابات المختلفة، وما تسميه السلطات «أعمال شغب وتخريب» ويصنّفه الكتاب في باب الانتفاضات الاجتماعية بأنساقها المختلفة؛ عمّ، في أزمنة متباعدة ولكنها راهنة، فرنسا وبريطانيا والسويد وألمانيا وبولونيا واليونان وإسبانيا وتركيا؛ أو، في اختصار مشروع: سائر أوروبا المعاصرة، طولاً وعرضاً.
وقد تصحّ العودة إلى هذا الكتاب تحديداً، الآن وقد أخذت شوارع فرنسا (المدينية، وليس الضواحي والأطراف والهوامش وحدها) في الاستقرار على هدوء تدريجي؛ بعد العواصف الهوجاء التي حرّض عليها مقتل المواطن الشاب نائل، برصاص رجل شرطة في ضاحية نانتير، غرب العاصمة الفرنسية باريس. وبمعزل عن التنميطات المعتادة، وهي في غالبيتها أقرب إلى كليشيهات مسبقة الصنع، حول إدانة الشغب والتخريب والنهب وإحراق المنشآت العامة والخاصة (وهذه لا خلاف حول إدانتها من دون تردد، بالطبع)؛ ثمة ما يبدأ من معضلات الاجتماع السياسي والاقتصادي والديمغرافي والحضري، واستطالات هذه في سلوكيات عنصرية أو عصابية أو رهابية؛ وما ينتهي إليها أيضاً، بالنظر إلى أنّ قسطاً غير قليل من مظاهر العصيان المدني لا تغطيه الكليشيهات، وبالتالي لا تفسره بقدر ما تطمس بعض جوهره الأهمّ وتتعامى عن جذوره حين تكتفي بالسطوح الظاهرة وحدها.
قبل شرارة مقتل نائل، ثمة سابقة حظيت بالكثير من الاسترجاع والمقارنة، من دون مقدار مماثل من الاستعبار واستقراء الدروس. ففي تشرين الأوّل (أكتوبر) 2005، اندلعت في ضواحي العاصمة الفرنسية انتفاضة احتجاج عارمة بسبب مطاردة الشرطة مجموعة فتية من أصول مهاجرة، دُفعوا إلى سياج كهربائي فقضى اثنان منهما، وكانت بعض النتائج هكذا: انتشار الاضطرابات إلى 300 مدينة وبلدة، وتخريب مئات الممتلكات العامة والخاصة، وإحراق أكثر من 9000 مركبة، وإعلان الحكومة حالة الطوارئ لثلاثة أشهر. الفارق الأوّل، بالمقارنة مع عام 2023، أنّ أجيال المنخرطين في الانتفاضة، وفي أشكال الشغب المختلفة، تقارب الـ17 سنة، ونسبة غير ضئيلة منها تماثل سنّ نائل حين أجهز عليه الشرطي؛ والفارق الثاني أنّ الهواتف المحمولة الذكية لم تكن في سنة 2005 واسعة الانتشار، وكان جهاز الـ«بلاكبيري» نادر الحيازة وباهظ الثمن، وبالتالي لم يكن تناقل الصورة أو الفيديو أو انتهاج التحشيد والتحريض والتنظيم (عبر الـ«تيك توك» مثلاً) بهذه الكثافة والفاعلية.

فصول كتاب «الانتفاضات الحضرية» تقترح سلسلة قراءات مختلفة، أو بالأحرى مخالفة لـ«الحكمة الشائعة» التي تشترك في الترويج لها الحكومات والدوائر الأوسع في الميديا، بخصوص حركات الاحتجاج والاضطراب في مواقع أخرى من أوروبا؛ كما في انتفاضة العاصمة الدانمركية كوبنهاغن، ربيع 2007، حين انقلب مركز المدينة إلى ساحة معركة بين الشرطة وآلاف المحتجين، على مدار 4 أيام غير مسبوقة في تاريخ البلد الحديث، بعد إقدام وحدات مشتركة من الشرطة والجيش باقتحام «بيت الشباب» الذي لم يكن أكثر من مركز ثقافي مستقل. مظاهر التضامن انتقلت إلى 13 مدينة دانمركية، وإلى 46 مدينة أخرى في الجوار الأوروبي. بعد سنة، أواخر العام 2008، اندلعت انتفاضة في أثينا بعد مقتل طالب برصاص الشرطة، استمرت ثلاثة أسابيع على الأقلّ وانطوت على صدامات عنيفة مع الشرطة وأعمال تخريب وإحراق ممتلكات، فضلاً عن إضراب لنهار واحد في الأسبوع الأوّل من الاضطرابات انخرط فيه 2.5 مليون عامل وكان تدنّي الأجور لافتته الأبرز، ولجوء الطلاب إلى احتلال الجامعات في أثينا وتسالونيكي.
وفي أيار (مايو) 2011 خرجت في إسبانيا تظاهرات واسعة ضدّ سياسات التقشف الحكومية، شملت 57 مدينة في طليعتها برشلونة والعاصمة مدريد؛ وانطوت، كذلك، على أعمال شغب وصدامات مع مفارز شرطة لم يردعها الطابع السلمي الإجمالي للحراك، واستفزّها نصب خيام الاحتجاج في الساحات العامة، وكذلك استلهام أساليب التظاهر والتجمع واحتلال الساحات في إطار ما سيُعرف تحت مسمى «الربيع العربي». ولسوف يكون لافتاً أنّ هذا التوجّه/ التكتيك سيمتدّ إلى 951 مدينة وبلدة، في 82 دولة داخل أوروبا وخارجها! الدور سيأتي على بريطانيا، في آب (أغسطس) ذلك العام أيضاً، رداً على مقتل رجل برصاص الشرطة في توتنهام، فاندلعت أعمال احتجاج لم تشهدها العاصمة لندن منذ 1780، سرعان ما امتدت إلى ليفربول وبريستول ومانشستر وبرمنغهام، وأسفرت عن مقتل 5 أشخاص واعتقال 4.000؛ وليس من دون دلالة أنّ وزيرة الداخلية يومذاك كانت تيريزا ماي، وعمدة لندن كان بوريس جونسون.
الشرطة، في تسعة أعشار الدول الأوروبية، كانت وتظلّ القاسم المشترك الأعظم خلف هذه الانتفاضات، بصرف النظر عن دوافع الاحتجاج وأشكاله، سلمية كانت أم عنيفة، وانزلقت إلى الشغب أم اكتفت بصياغات رمزية لا تعفّ عن الشغب أيضاً (على غرار السترات الصفراء في فرنسا، مثلاً)؛ وأياً كانت الهوية السياسية أو الاقتصادية أو الإيديولوجية للسلطة المدنية في رئاسة الدولة أو الحكومة أو أغلبية البرلمانات. ولا تُغفل، هنا، حقيقة أنّ الشرطي الفرنسي الذي أطلق النار على الفتى نائل كان، في زعمه، يطبق قانون سنة 2017 الذي يوسّع نطاق تمكين الشرطي من استخدام السلاح الناري، والذي سنّته الجمعية الوطنية في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند (وليس اليميني جاك شيرك سنة 2005، أو حتى اليميني الثاني نيكولا ساركوزي المهووس بمفاهيم الأمن). وثمة اليوم علماء سياسة واجتماع وأكاديميون ومنظّرون لا يجدون حرجاً في الحديث عن طراز من الرهبة يعتور الحكومات إزاء مؤسسة الشرطة، بما يكبّل عمل النظام الديمقراطي في كثير أو قليل، ويمسّ مبدأ فصل السلطات ذاته.
وفي العودة إلى فرنسا، وانتفاضة 2005 تحديداً، كان رئيس الوزراء دومنيك دوفيلبان أكثر تواضعاً من حيث الحوار والتفاوض والأخذ والعطاء، شرط أن يتمّ هذا كلّه تحت سقف مشروع القانون، وعلى طريقة حوار الطرشان عملياً، في صيغة مفرغة تحوّلت إلى مادّة تندّر لدى الفرنسيين: إني أسمع أصوات الذين يحتجون، ولكني أيضاً أسمع أصوات الذين لا يحتجون! ذلك لأنّ قواعد اللعبة الديمقراطية صريحة وفصيحة أتاحت له هوامش المناورة تلك، مثلما مكّنت الرئيس الفرنسي الحالي من المناورة مع وزير داخلية مكروه ومتهم بالتحرّش الجنسي. فالأصل أنّ أياً من الثلاثة لم يأتِ إلى السلطة بموجب انقلاب أو ورث الحكم عن أبيه؛ وليس عليه بالتالي أن يذعن للملايين التي انتخبت أغلبيته البرلمانية أو الرئاسية، ثمّ صارت (أو شرائح واسعة منها على الأقل) تعضّ أصابع الندم على التصويت له.
وليست خافية، في انتفاضات فرنسا وأوروبا قاطبة، مسائل القلق حول الهوية، والذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، والحذر من متغيرات عاتية تضع مواطن أوروبا بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية، على حدّ تعبير الراحل بيير بورديو؛ فكيف إذا اقتادته، صاغراً أو حتى راضياً، إلى مستنقعات عنصرية وانعزالية وشعبوية. وفي نحو اللغة الفرنسية ثمة صيغة فعل خاصة هي الزمن الماضي الناقص، وكان عدد من المفكرين قد تتبعوا انتقال هذا الزمن من فقه اللغة إلى فقه الحياة اليومية، ولم يجدوا صعوبة كبيرة في وصف الحاضر الفرنسي هكذا: زمنُ ماضٍ ناقص، بات ينسحب على القارّة العجوز أوروبا، تباعاً وحثيثاً!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

بين أوباما والأسد:

أمثولات «أدريانا» و«تيتان»

صبحي حديدي

 

الأرجح أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما سوف يظلّ، حتى إشعار آخر على الأقلّ، هو صاحب التعليق الأكثر «نجومية» في الربط بين سفينة «أدريانا» التي كانت تحمل 750 لاجئاً، وغرقت وأغرقت غالبية ساحقة من هؤلاء، وفي عدادهم 100 طفل؛ وبين انفجار الغواصة السياحية «تيتان» بركابها المليارديرات الخمسة، في قيعان المحيط الأطلسي على مقربة من موقع الفرجة الذي تاقوا إلى مشاهدته، عند حطام سفينة الركاب العملاقة الأشهر «تيتانيك». ففي العاصمة اليونانية أثينا (وليس في أيّ مكان آخر!) استنكر أوباما الفوارق الهائلة بين التغطية المحدودة لأخبار سفينة اللاجئين مقابل التغطية «دقيقة بدقيقة» لأخبار الغواصة السياحية، فاستحقّ التصفيق الحادّ من قاعة حاشدة. ثمّ، في حوار مع شبكة CNN، ذهب إلى درجة الحديث عن مستويات «بذيئة» من انعدام المساواة في أخبار اليوم، الأمر الذي يدلّ على «التباين» الهائل في النظر إلى فُرَص البشر في الحياة.
ولا يصحّ لعاقل، صاحب ضمير يتحلى بالحدود الدنيا من إنصاف حوليات التاريخ، قبل السجلات الأخلاقية والحقوقية والقانونية؛ أن يتناسى مسؤولية رجال من أمثال أوباما، وقبله فرنكلين روزفلت وهاري ترومان ودوايت أيزنهاور وجون كنيدي ولندن جونسون وريشارد نكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلنتون وجورج بوش الابن، وبعده دونالد ترامب وجو بايدن؛ عن وجود ملايين البشر على متن قوارب لجوء ونزوح قسري تمخر عباب البحار والمحيطات، حاملة بشراً آملين في النجاة من الحروب والاستبداد والمجاعات والأوبئة. كما لا يجوز للعاقل إياه أن يتناسى أنّ أوباما هذا، هو ذاته صاحب «الخطّ الأحمر» الشهير بصدد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية والجرثومية؛ وأنّ مقادير الزيف والمخادعة خلف ذلك الخطّ، والصفقات التالية مع الكرملين، كانت في عداد أبرز الأسباب خلف موجات النزوح القياسية سنة 2015 و2016.
ليس هذا الطراز من النفاق جديداً على أوباما، أو على نظرائه في مواقع القرار على امتداد القوى الكبرى ذات القبضة المحكمة على مقدرات العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي تتسبب في اندلاع الحروب أو تمدّ نيرانها بأسباب إضافية لاشتعال أشدّ وأدهى؛ الأمر الذي يقف خلف القسط الأعظم من عوامل اليأس والبؤس الكامنة في قلب موجات النزوح أو التهجير أو التطهير العرقي أو اللجوء إلى المجهول، ويقف أيضاً خلف سياسات التضييق وإغلاق الحدود التي تعتمدها تلك القوى في وجه اللاجئ أو النازح أو المهجَّر. ولن يكون جديداً، في المقابل، أيّ طراز آخر من نفاق يأمل في أن تتساوى أخبار قارب الصيد «أدريانا» مع أخبار الغواصة السياحية «تيتان»؛ إذْ أنّ المساواة هنا تتجاوز الفارق بين أجناس البشر وأصناف الاضطرار أو الاضطهاد أو المسغبة، في موازاة الرفاه والتخمة والدعة. فإذا كانت المصادفة، وحدها، وراء وجود جنسيات باكستانية على ظهر القارب وداخل الغواصة؛ فإنّ ذلك التصادف لا ينطوي على أيّ نمط من التوازي يفسّر حقيقة أنّ باكستاني «أدريانا» جائع أو مطارَد أو يائس، وسائح «تيتان» مرفّه متخم مبذّر…

لا يصحّ لصاحب ضمير يتحلى بالحدود الدنيا من إنصاف حوليات التاريخ، قبل السجلات الأخلاقية والحقوقية والقانونية؛ أن يتناسى مسؤولية رجال من أمثال أوباما، عن وجود ملايين البشر على متن قوارب لجوء ونزوح قسري تمخر عباب البحار والمحيطات

لا حاجة، بالطبع، إلى أيّ جهد في البحث عن أسباب وجود مواطنين سوريين بين المئات من ضحايا القارب الغارق، فالأرقام التي تعتمدها الأمم المتحدة ذاتها تشير إلى 6.9 مليون لاجئ خارج سوريا، ونحو 7 ملايين داخل البلد ضمن عشرات المخيمات في الشمال الشرقي أو الشمال أو الشمال الغربي. ولا يساجل كثيرون (ما خلا طبول «الممانعة» وتجميل النظام أو القتال معه لتشريد السوريين وتهجيرهم) حول مسؤولية النظام السوري عن هذه الحال، وبالتالي ليست مفاجأة أن تتجاور الجنسية السورية مع الجنسيات الأفغانية والباكستانية والمصرية والفلسطينية. وبين أكثر المفارقات المأساوية المقترنة بحكاية تعدد الجنسيات هذه، أنّ غالبية الضحايا من الفلسطينيين لم يبحروا إلى المجهول فراراً من الكيان الاستيطاني والعنصري الإسرائيلي، وهو اليوم الاحتلال الأبشع والأشدّ وحشية وفاشية؛ بل غامروا بمغادرة مخيماتهم وأماكن إقامتهم في سوريا ذاتها، هرباً من عنف نظام لا يقلّ وحشية وبشاعة، جعل من التنكيل بمخيّم اليرموك في ظاهر العاصمة دمشق درساً «تربوياً» لكلّ فلسطيني يفكّر بالتضامن مع أبناء الشعب السوري، ومشاطرتهم التطلّع إلى الحرية والديمقراطية والمواطنة.
وكان تعبير «سوريا المفيدة» الذي أطلقه بشار الأسد شخصياً منذ العام 2015 وبعد 4 سنوات على انطلاق الانتفاضة الشعبية، بمثابة تكريس مبكّر لنهج النظام في اقتطاع حصّة جغرافية، ولكن ديمغرافية وطائفية كذلك، إزاء آفاق تقسيم البلد كما لاح آنذاك أنها أخذت ترتسم تباعاً وتدريجياً. ولهذا كان النزوح القسري، المعتمد أوّلاً على استهداف المناطق المدنية بالبراميل والأسلحة الكيميائية، تطبيقاً عملياً للمنهج إياه ولكن من زاوية التهجير و/ أو إفراغ المناطق من سكانها الأصليين غير المطابقين لمواصفات تنقية «سوريا المفيدة». وليس غريباً أن يكون اهتمام إعلام النظام السوري بواقعة غرق «أدريانا» وحقيقة وجود مئات السوريين بين الضحايا والمفقودين، محدوداً تماماً أو منعدماً، يقترب كثيراً من سوية التجاهل عن سابق عمد؛ يقتفي في هذا صمت النظام الرسمي، بما يوحي أنّ الغرقى ليسوا أبناء تلك الـ»سوريا المفيدة» الذي يريدها النظام ويديرها. ولا يُستبعد أنّ بعض دوافع التعمية عن النبأ مردّها أنّ غالبية الضحايا السوريين هم من أبناء محافظة درعا، صاحبة السبق في انتفاضة آذار (مارس) 2011؛ وربما لأنّ بعض وجهاء وناشطي حوران دعوا إلى ثلاثة أيام من الحداد، وإقامة صلاة الغائب على أرواح الغرقى.
وفي العودة إلى الرئيس الأسبق للقوّة الكونية الأعظم على الأرض، لم يكن أوباما يجهل ما فعلت سياساته، وأسلافه ومَن خلفوه، في سوريا وفلسطين ومصر والباكستان وأفغانستان، ولم يكن يُنتظر منه أن يقرّ بأيّ مستوى من الذنب؛ لكنّ انتهاجه النقد المنافق إزاء انعدام المساواة في تغطية مصائب تلك السياسات غابت عنه، مع ذلك، صيغة تسمية الأشياء بمسمياتها، كأنْ يتطرق مثلاً إلى مسؤولية القوى العظمى، وهي الديمقراطيات الغربية ذاتها، في تعطيل جهود المنظمات الإنسانية المستقلة التي تولّت عمليات إنقاذ سفن اللاجئين المهددة. وفي تقريرها الرئيسي السنوي الذي صدر بعنوان «الاتجاهات العالمية حول النزوح القسري» وجدت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أنّ عدد الأشخاص المهجرين بسبب الحروب والاضطهاد والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان وصل في نهاية 2022 إلى الرقم القياسي 108.4 مليون شخص، بزيادة تقارب 19.1 مليون شخص عن العام 2021، هي الأكبر على الإطلاق. ولم يكن السبب راجعاً إلى ازدياد أعداد اللاجئين، بل إلى نقصان أو شبه تغييب جهود الإغاثة المستقلة، بسبب لجوء الحكومات إلى تجريم عناصرها وإحالتهم إلى القضاء وحظر أنشطتهم.
هذه، على نحو أو آخر، سياسات تكريس «حدود مفيدة» ليس في أعالي البحار والمحيطات وحدها، بل داخل المياه الإقليمية ذاتها، وأياً كانت معدّلات افتقارها إلى القانون الدولي، أو قوانين حقوق الإنسان وقداسة الحياة والمواثيق الموقّعة حول اللجوء عموماً، والنزوح القسري خصوصاً. وإذا كان الأسد ينتسب إلى أعراف تلك الحدود من منطلقات غير غريبة عن نظام الاستبداد والفساد والكيميائي والبراميل المتفجرة والكبتاغون الذي يترأسه، فإنّ المنتسبين إليها من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان وترفيه العباد وتنمية سياحات اليخوت والغواصات الخاصة؛ ليسوا أقلّ انسجاماً مع الأسد في هذا، بقدر ما هم أكثر معاضدة له… وانخراطاً معه!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

الجولان السوري المحتل:

رياح أسيرة ومقاومة مستدامة

صبحي حديدي

 

«المرصد» التسمية المختصرة لـ«المركز العربي لحقوق الإنسان في مرتفعات الجولان» يحرص على توصيف أكثر إحاطة بعدد من الجوانب الاقتصادية والبيئية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي للهضبة، في أعقاب حرب 1967؛ ويفضح، بانتظام، الانتهاكات الصارخة في استغلال ثروات الجولان ومحيطه الطبيعي، التي لا تُسلّط عليها أضواء كافية بقصد التعتيم عليها أوّلاً، ولأنها أساساً بالغة الحساسية والخطورة في آن معاً. وما شهدته وتشهده قرية مسعدة الجولانية من احتجاجات شعبية ضدّ مشروع زرع «مراوح هوائية» في أراض زراعية يملكها سكان الجولان المحتل، في بلدات مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا، تبدو بمثابة الفصل الأحدث من مسار طويل ومفتوح.
وفي الخلفية الأعرض، يشير «المرصد» إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي صادر أكثر من 96٪ من أراضٍ جولانية أخضعها لسيطرته بقوّة الاحتلال، فضلاً عن قرار ضمّ الهضبة سنة 1981؛ كما يرفض إقرار غالبية الملكيات السورية العامة أو الخاصة. أمّا على النحو التفصيلي، فثمة ثلاثة ميادين على الأقلّ لاستغلال ثروات الجولان الطبيعية، هي الرياح والمياه والنفط؛ وأوضحها اليوم هو الميدان الأوّل الذي يتيح للاحتلال تركيب المراوح وإقامة مشاريع طاقة الرياح، وهو الذي يستحثّ التظاهرات والاعتصامات والإضرابات من جانب أبناء الجولان المحتل، ويقابله الاحتلال بالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع وإغلاق الطرقات. وحسب «المرصد» فإنّ شركة
Energix Renewable Energies Ltd، وهي حكومية تمّ تأسيسها وإطلاقها في البورصة الإسرائيلية، حصلت مطلع العام 2020 على إذن الاحتلال بنصب 25 توربينة رياح على الأراضي الزراعيّة الخاصّة والمجاورة لثلاث من قرى الجولان؛ بارتفاع يمكن أن يصل إلى 220 متر ويجعلها في عداد أطول التوربينات البريّة عالمياً، وبانتشار على مساحة تبلغ حوالي خُمس ما تبقى لأهالي الجولان السوريين من أراض زراعية. ومن جانب أوّل معلَن يسعى المشروع إلى استغلال أوسع للموارد الطبيعية، بما يضمن تضخيماً أشدّ لاعتماد الجولانيين على الاحتلال في مجال الطاقة، ضمن إطار أعرض لترسيخ طراز أسير من اقتصاد الحياة اليومية. وأمّا من جانب ثانٍ، هو الأخطر والأخبث، فإنّ زرع المراوح يعني في نهاية المطاف مصادرة 4500 دونم من الأراضي الزراعية، والكثير منها يضمّ بساتين فواكه التفاح والكرز الأشهر، وضمنها أيضاً نحو 1000 دونم من حقول الألغام؛ وهذه مساحات سوف تتهوّد فعلياً وتلتحق بالأراضي التي أقام عليها الاحتلال 35 مستوطنة حتى الساعة، يقيم فيها نحو 29,000 مستوطن.
السياسة المباشرة ليست غائبة عن عربدة الاحتلال في سماء الجولان، إذْ شرعت الشركة الإسرائيلية في أعمال تركيب «المراوح الهوائية» بتحريض مباشر من وزير الأمن القومي الإسرائيلي، المتطرف إيتمار بن قفير؛ لم تغبِ عنه نوايا إحراج رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، المنشغل بملفات في شمال الضفة الغربية وقاعات الكنيست أكثر إلحاحاً وتفجراً، والمستعدّ لمرونة أكبر في كسب الوقت وتأجيل متاعب الجولان عبر المقايضة مع الشيخ موفق طريف الزعيم الروحي لطائفة الدروز، و«تجميد» أشغال التركيب إلى ما بعد عيد الأضحى.

مشروع خطط زرع التوربينات، يشكل خطراً وجودياً على سكان الجولان السوريين والسوريات، ويهدف إلى ترسيخ الاحتلال الاقتصادي للجولان

وفي القلب من المناخ السياسي الذي يكتنف هذا الحراك، توفّر من بين ظهراني أهل الجولان من يعزف أنغام الاحتلال، فوقّع صالح طريف، رئيس إحدى شركات التنفيذ، بياناً مع المدير العام لـ Energix؛ يزعم فيه بأنّ المشروع سوف «يساهم كثيراً في خير المجتمع عبر إنشاء أماكن عمل كثيرة، تطوير بنى تحتية (كهرباء، مياه، طرق، وغيرها) دفع مبلغ كبير من الضرائب للمجالس المحلية، تعزيز العلاقة بالتقاليد الدرزية». البيان المضادّ لم يتأخر، وصدر بتوقيع «جماهير الجولان العربي السوري المحتل» فأعرب عن «التصدي لكل من يقف وراء هذا المشروع، غير آبهين بشخصه دفاعاً عن حقنا في أملاكنا وحرصاً منا على مستقبل أطفالنا».
مقاومة مستدامة، إذن، في مقابل انتهاك لثروات الجولان تتجلى اليوم في احتلال الرياح، ولكنها لم تتوقف في أنساق أخرى من الانتهاك والاستثمار والعربدة؛ كما في ملفّ المياه، وفي الجولان تحديداً لأنّ الطبيعة شاءت له أن يتمتع بهطولات أعلى مقارنة مع مناطق احتلال إسرائيلي آخر. هنا، حسب «المرصد» دائماً، أنشأت سلطات الاحتلال 16 مجمّعاً مائياً يستنزف المياه السطحية والجداول وسيولات فصل الشتاء، ويستجمعها في قنوات طبيعية أو حُفرت خصيصاً، بما يبلغ نحو 45 مليون متر مكعب. ليس هذا فحسب، لأنّ الاحتلال يعتمد سياسات تمييزية، عنصرية تماماً، تفرض على السكان السوريين أسعار مياه أعلى وحصصاً أقلّ ممّا هو مسموح للمستوطنين باستهلاكه. أمّا أنشطة الحفر واستخراج المياه التي تمارسها الشركات الإسرائيلية فقد تكفلت بتجفيف عدد كبير من الينابيع المحلية، وما تبقى منها قليل محدود.
في ملفّ النفط والغاز تقول معطيات «المرصد» إنّ شركة «آفيك» الإسرائيلية، المرتبطة بشركة
Genie Energy الأمريكية الضخمة (بين ملاّكها ديك شيني وروبرت مردوخ) حفرت 10 آبار حتى العام 2017، وتعلن عن احتياطيات نفط كبيرة تبلغ «مليارات البراميل» في الجولان؛ غير عابئة بأنّ التنقيب عن النفط لتحقيق مكاسب خاصّة في الأراضي المحتلّة يُعدّ انتهاكاً واضحاً للقانون الدوليّ، وغير مكترثة أيضاً بالعواقب البيئة لعمليات التنقيب وخاصة في احتمالات إحداث زلازل صغيرة وتلويث المياه الجوفية. الأدهى، ربما، أنّ أنشطة الاحتلال في هذا الميدان تخضع لتعتيم هائل وتجهيل متعمد، بل يحدث أنّ البعض من أهل الجولان أنفسهم لا يعرفون الكثير عنها بالنظر إلى أنّ أشغال الحفر تجري في جنوب الهضبة والمناطق النائية وغير المأهولة.
جدير بالإشارة، هنا، بيان مشترك سبق أن أصدرته 17 منظمة حقوقية، أدان خطط زرع التوربينات، وأكد أنّ «هذا المشروع الخطير يشكل خطراً وجودياً على سكان الجولان السوريين والسوريات، ويهدف إلى ترسيخ الاحتلال الاقتصادي للجولان على نحو مخالف لحقّ الانتفاع المنصوص عليه في المادة 55 من اتفاقيّة لاهاي الرابعة المتعلّقة بقواعد وأعراف الحرب البريّة لعام 1907».
وبين اقتصاد أسير واقع تحت الاحتلال ومقاومة مستدامة سجّلت صفحات مشرّفة، تواصل الهضبة خضوعها لاحتلال هو الأشنع على مدار التاريخ، يستولي على مياه نهرَي اليرموك وبانياس، ويعتمد على الجولان في تأمين 50٪ من احتياجات المياه المعدنية، و41٪ من احتياجات اللحوم، و21٪ من كروم العنب المخصصة لصناعة الخمور، وقرابة 50٪ من احتياجات الفاكهة. في غضون ذلك كلّه وسواه، يواصل آل الأسد، الأب في الماضي مثل وريثه اليوم، تحويل أرض الجولان إلى بورصة/ مزاد غير علني بين دولة الاحتلال، من جهة أولى؛ والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، من جهة ثانية؛ فضلاً عن توظيف المرتفعات المحتلة في الخطاب الديماغوجي الموجّه للاستهلاك، الداخلي السوري وكذلك العربي والإقليمي، حول «الصمود» و«التصدّي» و«الممانعة».
وإذا استثنى المرء جولان المقاومة في مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قينا، فعن أيّ جولان يتحدث النظام السوري، آخر الأمر؟ أهو جولان حوارات واي بلانتيشن وشبردزتاون؟ أم هو جولان «وديعة رابين» الشهيرة، حيث اختلط الوعد المغدور بالجزرة الذاوية الذابلة؟ أم جولان وساطات اللورد ليفي بين الأسد الأب ورئيس وزراء الاحتلال، نتنياهو نفسه، حين اتضحّ أنّ فتح القناة السورية لم يكن إلا تعمية على إغلاق القناة الفلسطينية؟ أم، أخيراً وليس آخراً، جولان إيهود باراك، حين شاء النظام منح الأولوية القصوى إلى ترتيبات توريث بشار، قبل وعلى حساب أيّ ملفّ آخر؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

النشيد الوطني

 بين الجزائر وفرنسا

صبحي حديدي

 

لعلها دوافع متعددة متشعبة، داخلية وخارجية، تلك التي حدت بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إصدار مرسوم رئاسي يحدّد ظروف وشروط أداء النشيد الوطني الجزائري، ويعدّل بالتالي ما كان يقضي به مرسوم 1986 حول «الأداء الكامل أو الجزئي» للنشيد؛ الأمر الذي بات يُلزم بإدراج الفقرة الثالثة الإشكالية، التي تقول: «يا فرنسا قد مضى وقت العتاب/ وطويناه كما يُطوى الكتاب/ يا فرنسا إن ذا يوم الحساب/ فاستعدّي وخذي منّا الجواب/ إنّ في ثورتنا فصل الخطاب/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر/ فاشهدوا».
معروف، إلى هذا، أنّ ثلاثة من رؤساء الجزائر السابقين، الشاذلي بن جديد واليمين زروال وعبد العزيز بوتفليقة، تناوبوا على حذف هذه الفقرة الثالثة أو الإبقاء عليها أو تضييق المناسبات التي يتوجب أن تؤدّى خلالها، وتبون يصبح اليوم رابعهم؛ في غمرة إصرار من رجالات جبهة التحرير الجزائرية على التمسك بها، ضمن نشيد كتبه الشاعر الجزائري الوطني مفدي زكريا من زنزانته تحت الاستعمار الفرنسي، ولحّنه الموسيقار والمطرب المصري محمد فوزي هدية إلى ثورة الجزائر، واعتُمد رسمياً كنشيد وطني في سنة 1962. ولم يكن غريباً، بل لعله بدا صحياً ومطلوباً، أن يعترض على إدراج الفقرة جزائريون وطنيون لا يُشكّ في إخلاصهم ونضالاتهم، لسبب جوهري أوّل يقول إنّ هذا النشيد هو الأوحد على نطاق العالم الذي يذكر دولة أجنبية في كلماته.
وإذْ يدع المرء دوافع تبون في ذمّة التاريخ، وما سيتكشّف من حقائق وملابسات تخصّ صلات المرسوم الرئاسي بكيمياء الودّ المعلَن/ البغضاء المضمرة التي تجمع الرؤساء الجزائريين بنظرائهم الفرنسيين، والفرنسي الحالي إمانويل ماكرون ليس استثناء بل على رأس اللائحة؛ فإنّ ما يلفت في ردود الأفعال على إعادة إحياء الفقرة الثالثة هو «العتب» الفرنسي الرسمي، والسخط والغضب والإباء والاحتجاج لدى أهل اليمين المتشدد أو حتى بعض ممثّلي ما تبقى من يمين ديغولي في فرنسا. التعليق الألطف، حتى الساعة على الأقلّ، جاء من وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، التي اعتبرت أنّ الفقرة المستعادة تمتّ إلى ماضٍ انقضى، وهي مخالِفة للزمن الذي يشهد تلمّس آفاق أفضل في العلاقات الجزائرية – الفرنسية.
طريف، مع ذلك، أنها أقرّت بما ينطوي عليه النشيد الوطني الفرنسي من معانٍ «حربجية»، وعفّت بالتالي عن إقرارٍ آخر رديف يقول إنّ «المارسييز» الشهير يتضمن عبارات عنيفة ودموية وخشنة تجعل منه أنشودة حرب وتعطّش للدماء والثأر، وليس نشيداً وطنياً لأمّة تزعم أنها بلد الأنوار والتسامح وحقوق الإنسان. تلك، في كلّ حال، كانت دعوة أطلقها الفنان والمغنّي والمؤلف الموسيقي الفرنسي أنطوان كابيلا، الذي حاول انتهاز فرصة حلول الألفية الثالثة لكي يدشّن حملة المطالبة بتعديل تلك الجمل والعبارات التي تخدش حياء الراشدين، ولا يصحّ أن يشدو بها الأطفال في المدارس. وكان الرجل يدرك أنّ اللحن أكثر قداسة (وعراقة، وتجذراً، وجمالاً في الواقع!) من أن يجاهر بتعديله أو اجتثاث بعض أجزائه من ذاكرة الفرنسيين، شيباً وشباباً؛ كما كان يعرف أنّ قلّة قليلة من الفرنسيين هي وحدها التي ما تزال تردّد النشيد كنصّ وقصيدة، وأنّ قوّة «المارسييز» كانت وتظلّ كامنة في اللحن الموسيقي ذاته.
وهكذا طالب كابيلا بتعديل الفقرة التي تحثّ على حمل السلاح ضدّ «الغزاة الأجانب المتوحشين» الساعين إلى «جزّ رقاب أبنائنا ونسائنا»، وتدعو الجنود الفرنسيين الثوريين إلى «إغراق الخنادق» بـ «الدماء النجسة» للغزاة. حجّته أنّ هذه الفقرة لا تحرّض على العنف الأقصى فحسب، بل هي تتضمّن تلميحات عنصرية أيضاً (الأجانب، الدماء النجسة) قد تناسب الحاجات الثورية لعام 1795؛ ولكنها اليوم لم تعد، أو لا يتوجب أن، تتناسب مع القِيَم الجمهورية لفرنسا الحديثة. ولقد أعدّ قرصاً مدمجاً (
CD) يحتوي على كلمات النشيد الوطني البديل، ثمّ وزّعه على أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) وعلى شخصيات ثقافية وفكرية وسياسية هنا وهناك، آملاً بنقل النقاش إلى مستوى عملي.
دون جدوى، غنيّ عن القول، إذْ ظلّ «المارسييز» عميق التجذّر في الذاكرة الجمعية، فأقرّ 40% من الفرنسيين بـ»دموية» النشيد، ولكن 7% فقط منهم وافقوا على تغيير كلماته! الأرجح أنّ نسبة مماثلة سوف تعكسها استطلاعات رأي الجزائريين حول حذف الفقرة الثالثة من «قسماً» أو الإبقاء عليها؛ وليس في المناسبات الرئاسية التي حددها مرسوم تبون نفسه فقط، بل ربما كلما طلعت شمس على بلد «الدماء الزاكيات الطاهرات». ذلك لأنّ النشيد الوطني لأيّة أمّة هو أشبه بعلامة فارقة تميّزها عن سواها، تماماً مثل العلم الوطني أو أكثر قليلاً ربما؛ ويحدث مراراً أن يجهل الآخرون تصميم علم دولة ما، ولكنهم يحفظون موسيقى نشيدها الوطني بسبب عزفه في المناسبات الرسمية والاحتفالات والمباريات الرياضية بصفة خاصة.
ورغم أنّ الفقرة الثالثة قد تكون الأضعف شعرياً في نصّ النشيد، وثمة بعض الوجاهة في دفاع البعض عنها من زاوية تلميحها إلى فرنسا الاستعمارية وليس فرنسا الراهنة؛ فإنّ أية حكمة خلف الاحتفاظ بها أو استبعادها لا تبدأ من اعتبارات كهذه، وهي أشدّ توغلاً في الوجدان الجزائري من أن تحكم حضورها وغيابها سياسات توافق هنا أو نزاع هناك.

 

 

ما بعد تفجير كاخوفكا:

خيارات بوتين النووية

صبحي حديدي

 

سلسلة الكوارث البيئية الناجمة عن تفجير سدّ كاخوفكا الأوكراني، أسوة بجمهرة من العواقب العسكرية المباشرة القريبة أو غير المباشرة والبعيدة، قد تشير في ذاتها إلى تحوّل نوعي يشمل طبيعة العمليات ومساراتها بعد سنة من الغزو الروسي في أوكرانيا. غير أنّ الواقعة، بصرف النظر عن الجهة الروسية أو الأوكرانية المسؤولة عنها (حكاية تفجير أنبوب غاز «نورد ستريم» تُعلّم المرء الكثير من الحذر قبيل توجيه إصبع الاتهام)، تصنع مؤشراً إضافياً بالغ الدلالة والخطورة حول الذروة القصوى التي يمكن أن تبلغها مسارات اللجوء إلى نوعية خاصة من «الأسلحة»؛ الكفيلة، كما يُراد لها مبدئياً، بكسر الجمود الراهن الملحوظ في ترجيح كفّة الصراع.
المفردة الحاسمة هنا، والتي أخذت تتجاوز مستوى المسكوت عنه إلى المنطوق به، هي السلاح النووي وما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوف ينتقل إلى استخدامه على أيّ نحو. المعطيات على الأرض تقول إنّ ضخّ 300,000 جندي روسي إلى القتال في أوكرانيا، وخلال فصل الشتاء تحديداً، لم يبدّل كثيراً في توازنات القتال ميدانياً. معطى آخر، مدهش ولافت، يقول إنّ دبابات روسية (سوفييتية، في الواقع) من إنتاج خمسينيات القرن الماضي شوهدت في بعض المعارك؛ وهذا يعني أنّ ترسانة السلاح الروسي آخذة في النضوب، ولم تعد بحاجة إلى المسيّرات الإيرانية وحدها.
السلاح النووي، إذن، حتى إذا كان «قُنيبلة» نووية تكتيكية وليس القنبلة النووية الأمّ الستراتيجية؟ الحذر يقتضي تفادي الجزم، غنيّ عن القول، وإنْ كان يقتضي في الآن ذاته الاحتكام إلى مقدار مطلوب من الترجيح. فإذا لم تكن ذريعة بوتين في اللجوء إليها هي «التهديد الوجودي» الذي تواجهه روسيا من جانب الولايات المتحدة والحلف الأطلسي والغرب عموماً، فإنها يمكن اليوم أن تدور حول الحفاظ على حياة مئات الآلاف من الجنود الروس المتمركزين في أوكرانيا للدفاع عن «بقاء روسيا الأمّ والوطن» ومقارعة «القطعان النازية» في كييف، كما يردّد إعلام الكرملين.
لا يصحّ أن تُنسى، في المقابل، عادات بوتين في التفاخر العسكري، الصاروخي والنووي معاً، سواء اقتضت المناسبة ذلك أم كان الحشو اللفظي واستعراض العضلات هو الدافع. ففي أواخر العام 2004 اجتمع بوتين مع أركان القيادة العسكرية الروسية وأنذر العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة، متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. كما بشّر بأنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: «أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب»….
لا هذه يجوز أن تُنسى اليوم، ولا تلك المعطيات سالفة الذكر حول الحال الميدانية العسكرية لمغامرة بوتين في أوكرانيا؛ خاصة لجهة الأدوار الآخذة في الانحسار للأسلحة التقليدية والقوّات البرّية، وهذه شكّلت الركيزة الأولى لعقيدة الدفاع السوفييتية/ الروسية الكلاسيكية، وكان خيار الردع النووي هو الركيزة الثانية. ولا يصحّ، أيضاً، إغفال قرار بوتين بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، ليس بقصد تخزينها هناك بل كذلك على سبيل تدريب الجنود البيلاروس على استخدامها. وقبل ذلك بادر بوتين إلى تجميد معاهدة «نيو ستارت» التي تراقب إنتاج الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو.
وعلى نقيض تقديرات الإدارة الأمريكية، من مجلس الأمن القومي إلى الاستخبارات والبنتاغون، يرى كيفن رايان (العميد المتقاعد، والباحث في هارفارد، والملحق العسكري الأمريكي الأسبق في موسكو)، أنّ بوتين سوف يستخدم السلاح النووي في أوكرانيا. وسواء صدقت نبوءته الكارثية أم كذّبتها التطورات المتسارعة، فالأرجح أنّ ما بعد سدّ كاخوفكا لن يشبه ما قبل تفجيره، إذا كان للتشابه هنا أيّ معنى أصلاً.

 

 

مجموعة السبع في هيروشيما:

تأصيل النفاق المستدام

صبحي حديدي

 

لم يكن المشهد سوريالياً تماماً، لأنه أوّلاً سيخون ركيزة كبرى في المذهب السوريالي تحضّ على الذهاب إلى ما وراء الواقع، أو حتى فوقه وأعلى منه إذا شاء المرء التبسيط؛ لكنّ المشهد لم يخلُ تماماً، في جانب آخر هامّ، من درجة انتهاك، معنويّ ثمّ بصري، تشدّ كثيراً نحو تلك الصيغة السوداء من سوريالية العبث بالواقع: رئيس وزراء اليابان، كيشيدا فوميو، ابن مدينة هيروشيما؛ يستقبل رئيس الولايات المتحدة، القائد الأعلى للجيش ذاته الذي ألقى أوّل قنبلة ذرية على المدينة يوم 6 آب (أغسطس) 1945، وألحق الأذى البليغ بمدينة ناغازاكي المجاورة، ولا يعثر التاريخ حتى اليوم على الرقم الفعلي للضحايا وما إذا كان 140.000 ضحية، أم أكثر.
وحتى تتسع دائرة الانتهاك، بما يصفع الضمير الإنساني ويضيف الإهانة إلى الجرح، وقف كيشيدا مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، صحبة أقطاب مجموعة السبع قادة فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا وكندا، لالتقاط صورة تذكارية أمام نصب السلام في هيروشيما. وكان باراك أوباما أوّل رئيس أمريكي يزور هيروشيما ويتفقد «حديقة السلام» هذه، أواخر أيار (مايو) 2016، وقد أبلغ بعض الناجين من القصف النووي بأنّ زيارته «دليل على أن أكثر الانقسامات إيلاماً يمكن تجاوزها». غير أنّ صورة الـ
G-7 الأخيرة ضمّت أيضاً بريطانيا وفرنسا، اللتَين لم تعتذرا قطّ، بل لم تعترفا أصلاً، بالعواقب النووية الكارثية لسلسلة التجارب النووية التي أجرتها باريس ولندن هنا وهناك في المستعمرات.
ألسنة قادة الـ
G ـ 7، التي ابتُلعت في الأفواه إزاء الجريمة النووية الأمريكية، وليس في أيّ مكان آخر سوى هيروشيما ذاتها؛ انطلقت، بل وصالت وجالت ضدّ الصين، لأنّ تعزيز ترسانة بكين النووية يشكّل «مصدر قلق للاستقرار العالمي والإقليمي». وإلى جانب هذه الصفاقة الفاضحة في الكيل بأكثر من مكيال واحد كلما اتصل الأمر بالتسلّح النووي، أضاف القادة ما أسموه «رؤيا هيروشيما حول نزع السلاح النووي» حيث لم تعد صفة النفاق كافية لتوصيف مقادير جسارته في الخداع والكذب؛ وكلّ هذا مع استمرار الفرسان السبعة في رفض إقرار «اتفاقية حظر الأسلحة النووية».
ليس النفاق النووي لمجموعة الفرسان السبعة جديداً، بالطبع، ولكنه صار يتخذ وجهة منهجية متسارعة في تأصيل حال مستدامة، مكشوفة تماماً؛ تعيد التذكير بما كان الصحافي الأمريكي شارلز ريز قد صاغه على هيئة أحجية متكاملة، تكون مفردة دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الإجابة الوحيدة عليها:
ـ من هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟
ـ من هي الدولة التي ترفض التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتحظر على المنظمات الدولية القيام بأي تفتيش على منشآتها النووية؟

الاقتصاد الدولي معتلّ من الرأس حتى أخمص القدمين، في دول مجموعة السبع قبل الصومال والإكوادور والأرجنتين ومصر؛ وأنّ الكبار، هنا تحديداً، يريدون من ضحايا كهذه أن تمرّ في قاطرات التاريخ لأداء وظيفة كبرى، حصرية أو تكاد، هي تزويد الكبار بمزيد من… القرابين

ـ من هي الدولة التي احتلت عسكرياً أراضي الدول المجاورة، وتواصل ذلك الاحتلال متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالبة بإزالة آثار ذلك العدوان؟
ـ من هي الدولة التي استخدمت الجاسوس جوناثان بولارد لسرقة وثائق سرّية أمريكية؟ وهل هي الدولة ذاتها التي أنكرت الواقعة في البدء، ثم اعترفت بها ومنحت بولارد الجنسية الفخرية، بل ونظمت حملات ضغط واسعة لإجبار البيت الأبيض على إطلاق سراح الجاسوس، لأنه في نظرها بطل وطني؟
ـ من هي الدولة التي ترفض تنفيذ عشرات وعشرات من قرارات مجلس الأمن الدولي، بل وتستخفّ بهذه القرارات وتلك الهيئة الدولية؟
ولعلّ ريز يضيف سؤالاً، بديهي الإجابة، حول اسم الدولة التي قصفت مفاعل تموز قيد الإنشاء في العراق، سنة 1981؛ ومشروع مفاعل الكبر قيد الإنشاء في سوريا، سنة 2007؛ ولم يحرّك النوويون في الـ
G ـ 7 ساكناً لتبيان أنها اعتداءات تنتهك القانون الدولي وانطوت على مخاطر بيئية جدية؛ بل الأرجح أنهم فركوا الأكفّ ابتهاجاً، بافتراض أنّ البعض منهم لم ينسّق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولم يزوّدها بمعلومات استخباراتية ولوجستية تجعلها شريكاً مباشراً.
واحدة من ذرى النفاق النووي، وربما إحدى عتبات الطور المستدام منه، كانت قبول دولة الاحتلال (على مضض، وبشروط صارمة) زيارة محمد البرادعي، الذي كان المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، في تموز (يوليو) 2004؛ بعد نداء أطلقته جمهرة من الدول الأعضاء في الوكالة الدولية، ألحّ على ضرورة أن تفتح جميع الدول في الشرق الأوسط منشآتها النووية لتقوم الوكالة بتفتيشها والعمل من أجل منطقة خالية من الأسلحة النووية. الزيارة استغرقت 3 أيام، اجتمع خلالها البرادعي مع أرييل شارون رئيس حكومة الاحتلال يومذاك، لكنه لم يطأ بقدمية سنتمتراً من مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي، واكتفى من الغنيمة بالتحليق في سماء النقب على متن حوّامة عسكرية؛ وبتصريح من شارون (عَدّه البرادعي مكسباً، أغلب الظنّ!) جاء فيه أنّ «سياسة إسرائيل هي إقامة سلام في الشرق الأوسط» وعند «إقرار السلام فإنّ إسرائيل ستنظر في إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية».
يًذكر، أيضاً، أنّ اليابان احتضنت قمة للسبعة الكبار، في أيار (مايو) 2016، وكانت حصّة هيروشيما زيارة تنظير وسفسطة حول الذاكرة انخرط فيها الرئيس الأسبق أوباما؛ الذي حرص أيضاً على زراعة شجرة سيدر في إيسي ــ شيما. يومها لم تكن «الرؤيا» نووية تماماً، رغم أنّ كابوس النووي الكوري الشمالي كان مخيماً على الأجواء؛ بل تبنى القادة ما أطلقوا عليه تسمية «تقرير التقدّم» الذي لم يكن البتة أقلّ نفاقاً ومخادعة وتكاذباً. وفي الملخص جاء أنّ «التنمية وتمكين جميع الشعوب» أولوية متطابقة لقمم المجموعة، و«الحساب والشفافية يظلان مبدأين جوهريين للقمة كي تحافظ على مصداقية قراراتها وفعاليتها»؛ وكان اللغو لا يرشح من كلّ حرف في هذه العبارات فحسب، بل لاح أنّ الهراء يتبارى في النصّ مع الاستغفال العلني للعقول.
وفي عداد النفاق المستدام ذاته جاءت سلسلة اجتماعات وزراء مجموعة السبع، الخارجية والمالية والعلوم والتكنولوجيا والبيئة والتربية والطاقة والزراعة… أشدّ الأجندات مخادعةً كانت تلك التي تسعى إلى «نموّ شامل دائم وقوي» عماده إصلاح النظام الاقتصادي العالمي عن طريق التوازن بين السياسات النقدية والضريبية، والإصلاحات الهيكلية؛ وأمّا أوضحها نفاقا فقد كانت تلك التي تطالب بـ«الحفاظ على الإرث الثقافي إزاء الاعتداءات الإرهابية» خاصة آثار تمبكتو في مالي والموصل في العراق وتدمر في سوريا؛ ومع بقاء أكثرها حرجاً، وإلحاحاً، في آن: «الإقرار بوجود أزمة عالمية» تخصّ الهجرة عموماً، وأعباءها المالية على أوروبا بصفة محددة.
أجندات أخرى حضرت، كما كانت تحضر على الدوام في قمم الـ
G ـ 7 خلال العقود الأخيرة، وسيّان أن تظهر فوق الطاولة أو تحتها؛ حول اقتصاد الصين (المصنّعة الثانية عالمياً، ولكن الغائبة عن القمة) وروسيا فلاديمير بوتين (في أوكرانيا أولاً، ولكن ليس في سوريا بالضرورة) ومفاعيل لا تبدو للعيان خلف الكليشيهات المعتادة بصدد اقتصاد النفط مثلاً، وتبدّل التوازنات مع مجموعة الـ»بريكس» التي أخذت تتوسع أبعد من روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا…
وثمة، بالطبع ودائماً، ذلك المسكوت عنه/ المفضوح الذي يشير إلى أنّ الاقتصاد الدولي معتلّ من الرأس حتى أخمص القدمين، في دول مجموعة السبع قبل الصومال والإكوادور والأرجنتين ومصر؛ وأنّ الكبار، هنا تحديداً، يريدون من ضحايا كهذه أن تمرّ في قاطرات التاريخ لأداء وظيفة كبرى، حصرية أو تكاد، هي تزويد الكبار بمزيد من… القرابين!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

قنّاصو أورويل:

الوقائع كما الطلقات

صبحي حديدي

 

كانت الساعة تشير إلى الخامسة من صباح ربيعي مشمس، يوم 20 أيار (مايو) 1937؛ حين تجاهل جورج تنبيهات رفاقه المقاتلين المتطوعين لنصرة الجمهوريين، خلال الحرب الأهلية التي شهدتها إسبانيا أشهر تموز (يوليو) 1936 وحتى نيسان (أبريل) 1939. ولقد خرج بكامل جسمه من المتراس وأشعل لفافة تبغ، فعاجله قنّاص من أنصار الملكيين كان رابضاً في برج الكنيسة المقابلة، واخترقت الطلقة عنقه وتكفلت بإضافة درجة أعلى من البحّة إلى صوته الخشن أصلاً. ولقد نُقل على الفور إلى المستوصف الأقرب، لكنّ طبوغرافية تمركز القوات الفاشية في تخوم برشلونة يومذاك أعاقت علاجه في التوقيت الطبي المطلوب؛ ورغم أنّه لم يلقَ حتفه جرّاء طلقة القناص تلك، فقد لحق بجسده أذى بالغ أفضى إلى وفاته في سنّ مبكرة نسبياً.
ذلك الرجل، المدخّن المغامر الطائش، كان الروائي والكاتب والصحافي والناقد والناشط السياسي البريطاني جورج أورويل (1903-1950)؛ ذائع الصيت القادم من لندن لمؤازرة الجمهوريين ضمن أفواج تجاوزت 40 ألف متطوّع، جاؤوا من 53 بلداً (بينها مصر والمغرب!)، للمشاركة في حرب لاحَ أنها ذات معنى بالنسبة إلى شعوب تدفع عادة أثمان الحروب، وليس إلى قوى حاكمة اعتادت جني ثمار الحروب. واقعة الطلقة والقناص هي واحدة من عشرات يسوقها ج. د. تايلور، بمعنى إعادة استكشاف دلالاتها وليس تكرار سردها، في كتاب جديد بعنوان «أورويل: الحياة الجديدة»؛ صدر بالإنكيزية قبل أيام في لندن، ضمن منشورات كونستابل.
صفة «الجديدة» في العنوان تشير أوّلاً إلى أنّ الكتاب تكملة لعمل آخر سبق أن نشره المؤلف ذاته، سنة 2003، بعنوان «أورويل: الحياة»؛ غير أنها ترسم، منذ الغلاف في الواقع، السمة المنهجية الأكبر في فصول الكتاب الثاني: أنه ليس سيرة لمحاسن أورويل فضائله، بل كذلك لمساوئه وقبائحه… سواء بسواء. وهذا خيار لا يغمط حقّ تايلور في الانفراد بعدد غير قليل من الوقائع التي تُسرد للمرّة الأولى بتفاصيل واسعة، اعتماداً على مقتنيات من الرسائل والمخطوطات والوثائق استجد اكتشافها أو تطوّرت قراءاتها؛ خاصة في أماكن ومواطن وأرشيفات ليست، أو لم تكن حتى الساعة، ضمن الخزين المعتاد المرتبط بشخص أورويل وأعماله.
والمرء يعجب أنّ قسطاً غير قليل من هذه ما يزال طيّ المجهول في المستوى النصّي وإظهار المضمون، وليس من حيث الضياع أو الاختفاء أو التلف. المثال الأبرز، الصاعق في كثير أو قليل، هو أنّ دفتر مذكرات كاملاً صادرته الاستخبارات الإسبانية التابعة للجنرال فرانكو، من أحد فنادق برشلونة حيث كان أورويل يقيم؛ ثمّ انتهى الدفتر إلى محفوظات الاستخبارات السوفييتية التي تكتمت عليه، ويظلّ اليوم حبيس أحد أدراج الأرشيف الروسي من دون سبب يبرّر عدم الإفراج عنه. وقائع من طراز آخر، يحمل مغزى لافتاً، هو أنّ أورويل اختار الإقامة في ستوديو الروائي الأمريكي هنري ميللر في باريس، كانون الأوّل 1936، قبيل سفره إلى برشلونة؛ وذلك رغم أنّ الأخير كان حينذاك غارقاً في العواقب الفضائحية لـ»مدار السرطان»، ولم يكن منخرطاً سياسياً في دوائر اليسار أو الحماس للجمهوريين الإسبان، وهذه أيضاً كانت حال آرائه الفكرية والجمالية.
وقد لا يبالغ المرء إذا ساجل بأنّ تايلور، في كتابه الثاني هذا تحديداً، يمارس طرازاً من «قنص» الحكايات والأقاصيص والوقائع، متسلحاً في ذلك بطرائق تفكيك وتحليل وتركيب تقتنص ما هو خافٍ أو خبيء أو مستتر أو حتى مستور في سيرة أورويل: الكاتب والناشط السياسي، ثمّ الإذاعي والإعلامي في الـ
BBC أيام عزّ المحطة وذرى سطوتها، أو المعتزل في مزرعة متفرّغاً لتربية الدجاج والماعز وبيع البيض! ولا عجب في كلّ حال، إذْ أياً كان الرأي في حصيلة أورويل متعددة الأجناس والجوانب والمواقف، فإنه يظلّ أحد أخطر شخصيات النصف الأوّل من القرن العشرين.
وقبل سنوات نشر الناقد والأكاديمي البريطاني جون سذرلاند كتابه «أنف أورويل: سيرة مَرَضية»، الذي كان خطير الخلاصات فضلاً عن طرائفه، اعتمد على مركزية الروائح خلال المنعطفات الكبرى، الشخصية والعامة، الأدبية والسياسية، في حياة أورويل. علاقته بالتدخين، الذي وضعه أمام سبطانة القناص الملكي، ولكن أيضاً من زاوية ما يخلّفه التبغ من روائح بغيضة؛ ثمّ سردية الرائحة في «ابنة القسّ»، 1935، الرواية التي تحفل بسلسلة من «الانطباعات الروائحية» التي تضخها الصبية دوروثي أينما حلّت وتنقلت في مشهدية السرد؛ والاستكشافات الأَنْفية في كتابه «الطريق إلى رصيف ويغان»، الذي تضمن تحقيقات سوسيولوجية حول الأوضاع المزرية للطبقة العاملة في يوركشير ولانكشير، شمال إنكلترا ما قبل الحرب العالمية الثانية…
ولا يُنسى، ختاماً، مصير «1984»، رواية أورويل الشهيرة التي عادت إلى الصدارة خلال السنوات الأخيرة فتضاعفت مبيعاتها، في الولايات المتحدة مثلاً، بنسبة 6000%؛ ولم يكن الأدب هو السبب، بل تلك البرهة النادرة حين لا تتطابق المخيّلة الإبداعية مع الواقع الراهن، والصاعق، فحسب؛ بل يحدث أن تكون قد تفوّقت عليه، حين استبصرت الكثير من عناصره ونوائبه. ولا عجب، استطراداً، أن يبقى مالئ الناس هذا محطّ القنص، بالرصاص تارة وبالوقائع طوراً!

 

 

كيسنجر في سنّ الـ100:

مجرم حرب يستشرف سلام القرون

صبحي حديدي

في 27 أيار (مايو) الجاري سوف يبلغ هنري كيسنجر سنّ الـ100 سنة، حفلت بما قد لا يكون رجل دولة أمريكي قد شهده أو شارك في صنعه أو اقترفه من سياسات وتحوّلات وجرائم حرب؛ على حدّ غير سواء، كما يشير السجلّ التاريخي، إذْ تطغى السيئات الكثيرة على المحاسن القليلة، ولا تُقارَن عواقب الخيارات الإجرامية النكراء بأيّ من نوادر المبادرات السلمية الحميدة. وقد شاءت أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية، الناطقة الأمثل بلسان الرأسمالية المعاصرة واقتصاد السوق، أن تحتفي على طريقتها بالدنوّ من الـ100 سنة لمستشار الأمن القومي/ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق؛ الأشهر، أغلب الظنّ، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، وربما سائر عقوده.
ذلك لأنه «ما من أحد على قيد الحياة امتلك خبرة أكثر في الشؤون الدولية، أوّلاً كعالِم في دبلوماسية القرن الـ19، ثمّ بعدئذ كمستشار للأمن القومي وزير خارجية، وكمستشار ومبعوث إلى الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات» يقول تحرير المجلة في التمهيد للحوار الاستثنائي الذي أجرته مع كيسنجر؛ الآن تحديداً إذْ يتخوّف من مواجهة وشيكة بين الولايات المتحدة والصين، هو الذي يُنسب إليه (بهتاناً، في قسط غير قليل) فضل إطلاق ما بات يُعرف باسم «دبلوماسية كرة الطاولة» بين واشنطن وبكين، وفتح العلاقات بين البلدين خلال زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نيكسون صحبة كيسنجر إلى الصين، في حزيران (يونيو) 1971.
خلاصة أقواله، خلال 8 ساعات من الحوار مع تحرير الـ»إيكونوميست» أنّ اشتداد التنافس على علوّ المكانة التكنولوجية والاقتصادية بين الصين وأمريكا يثير المخاوف، حتى في وقت يشهد «تخبّط روسيا داخل المدار الصيني» والحرب التي تخيّم على الخاصرة الشرقية لأوروبا، والذكاء الاصطناعي يشحن التنافس الصيني ـ الأمريكي أكثر فأكثر. يذهب كيسنجر أبعد، إلى نطاق عالمي يشهد تحوّلاً متسارعاً ومتعدد الأشكال في موازين القوّة والأساس التكنولوجي للحرب، بحيث أنّ دولاً عديدة تفتقر إلى أيّ «مبدأ مستقرّ» يمكّنها من إرساء الاستقرار، وبالتالي تلجأ إلى استخدام الإجبار والعنف. «نحن في الوضع الكلاسيكي لما قبل الحرب العالمية الأولى» يتابع بنبرة أستاذ التاريخ الدبلوماسي، «حيث لا يملك كلا الطرفين هامشاً كافياً للتنازل السياسي، وحيث يمكن لأيّ اضطراب في التوازن أن يقود إلى عواقب كارثية».
كلام ينذر بالويل والثبور، غنيّ عن القول، ما خلا أنه ليس جديداً في مستوى النبوءات على الأقلّ؛ إذْ لم تنقضِ، بعدُ، سنة على أقوال مماثلة صدرت عن كيسنجر، في حوار دراماتيكي بدوره مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية هذه المرّة، غير المفترقة كثيراً عن خطوط تحرير الـ»إيكونوميست» في نهاية المطاف. الولايات المتحدة «على حافة حرب مع روسيا والصين حول مسائل أنشأناها نحن جزئياً، خالية من أيّ مفهوم لكيفية الإنهاء أو ما يُفترض أن تسفر عنه» استخلص كيسنجر؛ وبصدد قدرة واشنطن على «التثليث» مع الصين وروسيا، رأى التالي: «يصعب أن تقول الآن أننا سوف نقسم صفوفهم ونقلبها إلى مواجهة فيما بينهم، وكل ما تستطيع القيام به هو وقف تسريع التوترات واستنباط خيارات، ضمن هدف ما واضح ومحدد».

يُنسب إلى كيسنجر فضل إطلاق ما بات يُعرف باسم «دبلوماسية كرة الطاولة» بين واشنطن وبكين، وفتح العلاقات بين البلدين خلال زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نيكسون صحبة كيسنجر إلى الصين

طريف، إلى هذا، أنّ كيسنجر يرى «المنظومة الصينية» أقرب إلى الكونفوشية منها إلى الماركسية، الأمر الذي يدفع القادة الصينيين إلى بلوغ القوّة القصوى التي في وسع بلدهم امتلاكها، وأن يُعترف بهم كقضاة أصحاب قرار أعلى في مصالحهم. وإذْ ينفي عن زعماء الصين أية رغبة في الهيمنة العالمية، فإنّ كيسنجر يُبعدهم عن أية مقارنة (لا أحد عتب عليه في عقدها، أصلاً!) مع أدولف هتلر: في ألمانيا النازية كانت الحرب حتمية لأنّ هتلر احتاج إليها، لكنّ الصين مختلفة كما يستنتج الرجل الذي التقى بالعديد من القادة الصينيين، وعلى رأسهم ماو تسي تونغ نفسه. ومع ذلك، لا يجزم كيسنجر حول نزوع الصين إلى فرض ثقافتها على العالم، مفضّلاً إحالة السؤال إلى علاج قوامه «مزيج الدبلوماسية والقوّة».
ما هو بعيد عن الطرافة، بل أكثر تمثيلاً لنقائضها، أنّ تحرير الـ»إيكونوميست» يلحّ على الخبير المئوي أن يستشرف سلام القرون وصراعات الأمم ومنافسات القوى الكبرى، وفي الآن ذاته يتفادى طرح أيّ سؤال عن مآلات/ عواقب أفعال كيسنجر في عشرات الميادين والساحات والحروب؛ كان فيها مجرم حرب بامتياز، ومهندس انقلابات على أنظمة ديمقراطية أو توشك على الانتقال إلى أنظمة حكم منتخَبة، وناصحاً باحتضان الطغاة ومساندة الطغيان، ومستشاراً (شخصياً أو عبر شركاته ووكلائه) لأنظمة الفساد والاستبداد في طول العالم وعرضه، ومحرّضاً على استخدام القوّة المفرطة خارج أية شرعة قانونية أو إنسانية…
الأمثلة الكلاسيكية في بعض هذا «الاختصاص» لائحة طويلة عابرة للقارّات والجغرافيات والثقافات، لعلّ أبرزها النصائح والمشورات والتوصيات التالية:
ـ نصح دولة الاحتلال الإسرائيلي بسحق الانتفاضة «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف» وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية، وتسربت معها نصيحة أخرى مفادها ضرورة إبعاد الصحافة الغربية والمراسلين الأجانب عن مناطق المواجهة مع الفلسطينيين، «مهما بلغت محاذير ذلك الإجراء»؛
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض، ليس سوى «إوالية»
Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (هذه التي يرفضها كيفما جاءت وأينما قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض «إوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية)؛
ـ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، ودعوة بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛
ـ الدعوة العلنية، المأثورة تماماً بدورها، إلى «نزع أسنان العراق دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك» في مقالة مدوّية بعنوان «جدول أعمال ما بعد الحرب» نشرها كيسنجر مطلع 1991؛
ـ السخرية من بعض الفتية الهواة في البيت الأبيض ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (في مثال الصين)؛ ولا يميّزون في حروب التبادل التجارية بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة…
هذه لائحة ذات نفع كبير في قراءة الخلفيات الفكرية والجيو ـ سياسية والأخلاقية لما يقوله كيسنجر اليوم عن أيّ ملفّ دولي، شرقاً وغرباً؛ ومثلها في النفع الأعمّ أية إطلالة راهنة على تلك «الوصفة» الفريدة لعلاج الكون كما فصّلها في كتابه الضخم «دبلوماسية» 1994. تلك، على الأرجح، تظلّ عصارة فكر «الحكيم الستراتيجي» الذي لا يغيب ظلّه عن ردهات البيت الأبيض أو البنتاغون أو تلة الكابيتول: مقيم ما أقامت البراغماتية والتعاقد السرّي (المفضوح للغاية، مع ذلك) بين توازنات القوّة وانعدام الحدّ الأدنى من الأخلاق، بين العنف والرطانة الليبرالية، وبين الدم والبترول.
ولعلّ الأبلغ تعبيراً عن شخصية كيسنجر ومزاجه هذا المبدأ الذي جاءت به تلك الوصفة: لا مناص من ترجيح التحالفات القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات التي تحوّل مقولات «السلام» و«الحرّية» إلى شعارات مطاطة وجوفاء. والأرجح أنّ تحرير الـ»إيكونوميست» غضّ الطرف، اليوم، عن حصيلة كبرى جلية: هذه الـ 100 سنة لم تبدّل رؤى أستاذ التاريخ، الأسوأ تمثّلاً لدروس التاريخ.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

ديون رئيسي في دمشق:

فاقد الشيء كيف يعطيه؟

صبحي حديدي

 

الأرجح أنّ رأس النظام السوري بشار الأسد اشتاق إلى تلك المناسبات السالفة التي أتاحت له أن يتفلسف على هواه، في السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والثقافة؛ فانتهز فرصة كلمة الترحيب بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، زائر دمشق هذه الأيام، فخاض في بعض هواياته الكلامية الأثيرة. ولقد بدأ بإطراء مواقف نظامه ونظام الملالي في إيران، معاً، التي حالت دون أن يكونا «كقطعة خشب ملقاة في البحر تأخذها الأمواج حيث تشاء»؛ ثمّ سارع إلى ذمّ «تقديم المزيد من التنازلات تحت عنوان الانحناء للعاصفة» بوصفه «السبب في تعزيز السياسات الاستعمارية عبر العالم».
وهذا الذي يتشدق حول أخشاب تتقاذفها البحار أو انحناء أمام العواصف، هو نفسه الذي يغتصب رئاسة بلد واقع تحت خمسة احتلالات إسرائيلية وروسية وإيرانية وتركية وأمريكية، فضلاً عن كتائب «حزب الله» اللبناني وعشرات الميليشيات المذهبية المأمورة من «الحرس الثوري» الإيراني و«الحشد الشعبي» العراقي، إضافة إلى جهاديين إسلاميين من كلّ حدب وصوب. ولا يجلس على يساره، خلال إلقاء موعظته الخرقاء، سوى مغتصب للرئاسة في إيران، أتى إلى المنصب من حقول إعدام الآلاف من طلبة المدارس والشبان والناشطين الإيرانيين، خلال حقبة 1988 الدامية الوحشية، الذين لم يكن لهم من ذنب سوى المطالبة بإصلاحات بالغة البساطة.
وإذا كانت وسائل الإعلام، على اختلاف انحيازاتها، قد التقطت سمة أولى طبعت الزيارة، هي كونها الأولى لرئيس إيراني إلى دمشق منذ 13 سنة؛ فإنّ سمة أخرى كانت وتظلّ جديرة بالاستذكار، هي أنّ الأسد سبق أن زار طهران مرّتين، على نحو معلن، في شباط (فبراير) 2019 وكان حسن روحاني رئيساً لإيران، وفي أيار (مايو) 2022 وكان رئيسي قد تولّى الرئاسة؛ كما استقبله، خلال الزيارتَين، المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. هذا تفصيل أوّل قد يخصّ مؤشر التبعية وأيّ الطرفين يحرص على إرضاء الآخر، بافتراض أنّ نظام آل الأسد «طرف» بأيّ معنى للتناظر مع نظام الملالي؛ لكنّ الشطر الثاني منه، الذي يتصل بزيارة رئيسي إلى دمشق، يكتسب أهمية خاصة من زاوية أولى محددة، لعلها الوحيدة التي تستحق معنى الجديد في ميزان التبعية.
وهذا الشطر هو أنّ رئيسي في مجيئه إلى دمشق، وليس الأسد في هرولته إلى طهران على دفعتين، إنما أتى وجدول أعماله شبه الوحيد هو تحصيل الإيرادات عن سنوات طويلة من الإنفاق المادي على النظام، نفطاً وسلاحاً وعملة صعبة وصيرفة. اللافتة المعلنة، كما نطق بها رئيسي نفسه، هي الحضور الإيراني في صفقات إعادة الإعمار التي قد تكون على وشك الإبرام، على ضوء مقايضات محتملة مع أنظمة مثل الإمارات والسعودية. وأمّا تجسيد ذلك على الأرض فلم يكن خافياً بدوره، ليس على صعيد ما سُمّيت «مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الستراتيجي طويل الأمد» فقط، بل كذلك حول سلسلة اتفاقيات في ميادين الطاقة والزراعة والنقل والاتصالات والثقافة (والمقصود هنا: تسهيلات الحجّ الإيراني إلى الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا)…

رئيسي يأتي، اليوم، حاملاً لائحة ديون إلى أجير مفلس وتابع مرتهن؛ ولن يعود، أغلب الظنّ، بما هو أثقل من خفّيْ حنين!

حساب الإيرادات والأرصدة وسداد بعضها ليس، مع ذلك، باليُسر الذي قد يبدو عليه للوهلة الأولى، اتكاء على عوامل عديدة يصحّ الترجيح في أنّ القرار حول الكثير منها ليس في عهدة النظام أصلاً، سوى تلك التي لا يملك بصددها أيّ تخويل. العامل الأوّل، ولعله الحاسم أكثر من سواه، هو ذاك الذي تقول به القاعدة العتيقة الصارمة، في أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وليس في وسعه أن يعطيه أصلاً مهما ادعى وتشدّق. فالمليارات الموعودة في مظاريف إعادة الإعمار رهن قرارات مراكز دولية مثل مؤتمرات الدول المانحة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وهذه ليست حتى الساعة على وشك الترخيص بدولار واحد يذهب إلى المصرف المركزي السوري شكلاً؛ ولكنه ينتهي سريعاً إلى خزائن آل الأسد وآل الأخرس، ثمّ الشركاء وصغار الكسبة هنا وهناك في منظومة الفساد المافيوزية.
العامل الثاني هو أنّ أيّ اتفاق بين النظامَين، الملالي في طهران وآل الأسد في دمشق، ليس مضمون الإذن أو القبول أو الترخيص من القوى الأخرى التي تحتل مناطق في سوريا، وتمتلك بالتالي أوراق ضغوط ومساومات واستحقاقات؛ على غرار الوجود الروسي مثلاً، حيث يصعب تخيّل موسكو راضية عن تسليم استثمارات ميناء اللاذقية إلى طهران الراغبة في تحويله إلى منفذ بحري إيراني أوّل على المتوسط، كما يتردد. الحال ذاته يمكن أن تنطبق على استثمارات روسية عديدة في سوريا، أبرزها الفوسفات (ثلاثة مليارات طن من الاحتياطي) الذي تسيطر القوات الروسية على مواقعه، ويسيل لعاب طهران على اقتسام موارده مع موسكو. ثمة درجات أخرى من التنافس حول تطوير مطار دمشق واستثماره، أو إنشاء مطار جديد بطاقة استيعاب أعلى، ومثله مطار حلب والقامشلي وميناء طرطوس؛ وفي أواسط آذار (مارس) الماضي كان الأسد نفسه قد أعلن من موسكو عن أكثر من 40 مشروع استثمار روسي في سوريا.
عامل ثالث يتصل من جانبه بقاعدة قديمة بدورها تخصّ انقلاب السحر على الساحر، إذْ أنّ نظام آل الأسد الذي أقام الحكم والتحكم والتسلط على شبكات الولاء والنهب والتكسّب، لن يفلح بسهولة في تذليل مصاعب (وربما استحالة) عقد شراكات بالتراضي بين كبار أمراء الحرب ضمن العائلتَين الأسدية والمخلوفية، وكبار قادة ميليشيات النظام الطائفية، وكبار المستثمرين والفاسدين من ضباط الأجهزة الأمنية والجيش، من جهة؛ وأيّ، وكلّ، استثمار إيراني يمكن أن يقتسم الكعكة مع هؤلاء، في مناطق الساحل السوري بصفة خاصة، من جهة ثانية. هذه مسألة حياة أو موت على الطرفين، رأس النظام وآل بيته الداخلي واستثماراته، ورؤوس النظام الأدنى مرتبة ولكن ليس الأقلّ استثماراً أو استماتة في الحفاظ على النظام. ولقد مضى زمن كان فيه «حزب الله» يلعب في مناطق الساحل السوري دور المبشّر الطائفي الروحي والميسّر المادي التجنيدي بالنيابة عن ملالي طهران، لكنّ قسطاً غير قليل من تلك الأدوار تذهب اليوم إلى «بو علي بوتين» وضباط الجيش الروسي في قاعدة حميميم.
يبقى عامل رابع يخصّ ما تبقى من قوام دولة في سوريا، على أصعدة البنى التحتية والمؤسسات والمنشآت وكلّ ما يتكفل عادة باحتضان استثمارات لها طابع تحصيل الإيرادات؛ وهذا اعتبار لا يقتصر على مستقبل أموال نظام الملالي في سوريا، بل يشمل أيضاً ما سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى انتزاعه من بشار الأسد خلال زيارة مفاجئة إلى دمشق، مطلع 2020، عاد بعدها خالي الوفاض. لقد تكفلت حروب النظام ضدّ سوريا، الدولة والشعب والمؤسسات والتاريخ، بتحويل البلد إلى حال متفاقمة من العطالة والفشل والشلل، فضلاً عن العوز والندرة والتجويع والغلاء الفاحش وهبوط العملة الوطنية إلى أسفل سافلين. وغير مستبعد، إلى هذا، أن يطوّب الأسد آلاف الهكتارات من أراضي سوريا لصالح سلطات الملالي أو شركات استقبال الحجيج الإيراني أو حتى تشييد الحسينيات، وأن تتعالى أكثر فأكثر الهتافات الطائفية «يا علي! يا علي!» التي استقبلت الرئيس الإيراني على دروب مطار دمشق.
وهذا لن يبدّل حقيقة أنّ رئيسي يأتي، اليوم، حاملاً لائحة ديون إلى أجير مفلس وتابع مرتهن؛ ولن يعود، أغلب الظنّ، بما هو أثقل من خفّيْ حنين!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

نتنياهو وآل الأسد:

طراز الانفتاح الآخر

صبحي حديدي

 

في غمرة الهرولة إلى الانفتاح على النظام السوري، والأحرى الحديث بالطبع عن إعادة إدخاله إلى حظيرة نظام عربي متوحّد متماثل من حيث الاستبداد والفساد والتبعية والفشل، تُنسى جهة مشاركة في السيرورة، سبّاقة إليها كما يتوجب القول، وصاحبة الكثير من المصالح السياسية والأمنية والعسكرية؛ على خلاف غالبية المهرولين العرب، حيث أهداف الهرولة قصيرة النظر أو محدودة أو آنية أو وصولية تتوسل اتقاء الشرّ وليس حتى دفعه.
تلك الجهة الثالثة هي دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تُنسى عموماً (عن سابق قصد وتصميم، مضمونه الأوّل هو التجاهل لأغراض التجهيل)؛ رغم أنّ المعطيات الشكلية يمكن أن تفضي إلى عكس هذا الافتراض، لأنّ الطيران الحربي الإسرائيلي لم يتوقف عن قصف الأهداف في عمق الأراضي السورية، وصواريخ الاحتلال تنهمر على الجولان ودمشق كما على مصياف وحلب والبوكمال، جنوب سوريا وغربها وشمالها وشرقها.
ما خلا أنّ هذه المعطيات، ذاتها، تشير إلى أنّ الغالبية الساحقة من «بنك الأهداف» الإسرائيلي تتركز على مواقع إيرانية يديرها «الحرس الثوري» الإيراني، أو ميليشيات تتبع لطهران ابتداء من «حزب الله» وحتى أصغر عصائب عراقية أو آسيوية متشيّعة المذهب؛ ويندر، في المقابل، أن تستهدف الاعتداءات الإسرائيلية ما تبقى من ألوية جيش النظام، أو حتى كتائب الفرقة الرابعة المرتبطة أكثر بالتواجد الإيراني في سوريا.
صحيح أنّ حكومة بنيامين نتنياهو أكثر انشغالاً بالشأن الإسرائيلي الداخلي ومعضلات شروخ المجتمع الإسرائيلي بين مؤيد للائتلاف الحكومي الأكثر يمينية وتطرفاً وفاشية في تاريخ الكيان من جهة، ومناهض لها يتباكى على أطلال «الديمقراطية» الإسرائيلية وأنظمتها القضائية وموقع المحكمة العليا من جهة ثانية. كما أنّ نتنياهو منشغل بآفاق التطبيع مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، واحتمالات المستقبل مع ولي العهد السعودي؛ وبالتالي ليس الانخراط في أي طراز من الانفتاح العلني نحو نظام آل الأسد على جداول أعماله، الحافلة المزدحمة.
ولا يصحّ أن يُغفل، هنا، مغزى التصريحات التي نسبتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة الذي كان حتى عهد قريب صيرفي آل الأسد/ مخلوف، وتمساح الاستثمار والأعمال الأشرس في سوريا؛ بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار دولة الاحتلال، حيث قال بالحرف: إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار هناك. كان ذلك بعد أشهر قليلة أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، ولم يطل الوقت حتى تناغمت مع هذه الأقوال تسريبات على ألسنة جنرالات إسرائيليين في المؤسستين العسكرية والأمنية، تحثّ على الامتناع عن أيّ إسهام في تقويض نظام آل الأسد.
وكان منطق المطالبة الإسرائيلية بالمدّ في عمر النظام يستند على ثلاثة مسوّغات، بين أخرى أقلّ إلحاحاً؛ أوّلها أنّ نظام «الحركة التصحيحية» حافظ على حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، لا كما فعل أيّ نظام سوري سابق، منذ تأسيس الكيان الصهيوني. الثاني يساجل بأنّ أيّ نظام مقبل في سوريا لن يكون أفضل حالاً لدولة الاحتلال؛ بل الأرجح أنه سوف يكون أسوأ لأمنها القريب والبعيد، بالنظر إلى الروابط العميقة التي شدّت، وستظلّ تشدّ، الشعب السوري إلى القضية الفلسطينية. وأمّا المسوّغ الثالث فإنه انطلق من معادلة ذرائعية لوجستية: ما دام جيش النظام استخدم ضدّ المعارضة صنوف الأسلحة جميعها، من الدبابة والمدفعية الثقيلة إلى السلاح الصاروخي والجوّي، بما في ذلك البراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، والألغام البحرية…؛ وما دامت المعارضة ليست مكتوفة الأيدي، فهي تدمّر الدبابة وتُسقط الطائرة وتقتل، مثلما يُقتل منها…؛ فإنّ دولة الاحتلال رابحة في كلّ الأحوال.
طراز انفتاح آخر، إذن، لم يعكر صفوه أيّ تشدّق أمريكي معترض (علانية فقط) على هرولة بعض الأنظمة العربية إلى أخيهم ساكن الحظيرة السابق، الذي تجري إعادته إلى حيث انتمى وينتمي.

 

الغزو الأمريكي للعراق:

لائحة المطامع ودروس الإخفاق

صبحي حديدي

 

صدرت في هذه السنة، 2023، مؤلفات كثيرة تتناول الذكرى الـ20 للاجتياح الأمريكي في العراق، 20/3/2003؛ وما أعقبه من إسقاط نظام صدّام حسين، وسلسلة الإخفاقات السياسية التي ستقود الولايات المتحدة من عثرة إلى أخرى، وصولاً إلى مواجهات عسكرية شرسة مع فصائل جهادية تتبع «القاعدة» أو تنفرد عنها، كان سقوط مدينة الموصل في قبضة تنظيم «داعش» بمثابة ذروة قصوى فارقة توّجت سيرورة الغزو. غالبية تلك الأعمال، خاصة ما صدر منها باللغة الإنكليزية في بريطانيا والولايات المتحدة، خلصت إلى تسجيل أنساق شتى لفشل إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وحكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير؛ في ضمان حدود دنيا من كسب السلام، بعد حسم الحرب.
وتتوقف هذه السطور عند واحد من أفضل المؤلفات في هذا الصدد، كتاب أستاذ التاريخ في جامعة فرجينيا ملفن بول ليفلر، الذي صدر مؤخراً ضمن منشورات جامعة أكسفورد بعنوان «مجابهة صدّام حسين: جورج و. بوش وغزو العراق». اعتبار أوّل حكم هذا الاختيار هو أنّ حجم أبحاث الكتاب، من وثائق وإفادات ومعلومات، ليس هائلة ومتنوعة وشاملة، فحسب؛ بل هي فريدة لجهة الموازنة بين المعطيات الأمريكية ونظائرها العراقية. الاعتبار الثاني هو أنّ ليفلر يتمتع برصانة تأريخية مشهود لها، في حقل دراسي مزروع بكثير من الألغام والعوائق، فضلاً عن المحظورات والمنازعات.
ويبدأ ليفلر من تبيان الفوارق بين برهة الهجمات الإرهابية يوم 11/9/2001، حين حظيت أمريكا بتعاطف عالمي سهّل على إدارة بوش الذهاب مباشرة نحو الغزو؛ وبين عقد واحد فقط، أعقب اجتياح العراق وشهد الكثير من المتغيرات: أمريكا متورطة في العراق، مكانتها العالمية آخذة في التراجع، وهيمنتها الاقتصادية تواصل الانحسار، ومعنويات الشعب الأمريكي تواصل الهبوط في غمرة انقسامات سياسية وحزبية وعنصرية؛ وعلى صعيد الخارج تتزايد مشاعر العداء لأمريكا، وتصعد في المقابل قوى جبارة مثل الصين، ويسجّل الانسحاب المخزي من أفغانستان نكسة متعددة المستويات، ويطرح الغزو الروسي في أوكرانيا مزيداً من التحديات، ويبحث بعض أبرز حلفاء أمريكا التقليديين (على شاكلة السعودية والإمارات) عن أصدقاء بدلاء…
ومنذ السطور الأولى يعلن ليفلر أنّ الهدف من كتابه هو «تفحّص ما جعل الولايات المتحدة تقرّر غزو العراق، ولماذا انحرفت الحرب سريعاً، وآلت إلى مأساة للعراقيين وللأمريكيين». وأيضاً، يتابع ليفلر: «أحاول تصحيح مفاهيم مغلوطة واسعة الاعتناق، كما أثبّت أيضاً بعض الحكمة المترسخة. أضع الرئيس بوش في قلب سيرورة صناعة السياسة حيث يقتضي موقعه. أشدّد على مخاوفه، وحرصه على أمن الوطن الداخلي. أناقش خططه الحربية وستراتيجية دبلوماسيته القسرية. وأشدّد على التمييز بين دوافعه وأهدافه، وأشرح كيف أنّ حرباً من أجل الأمن انقلبت إلى تمرين في بناء الأمّة والترويج للديمقراطية من دون تحضير ملائم».

كسب السلام، السلام بمعناه الأعرض المركّب الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال العسكرية، والذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة، في المستويات الجيو ـ سياسية والاقتصادية في البدء؛ ثمّ في المستويات الأخرى

وللمرء أن يتفق مع العديد من خلاصات ليفلر، خاصة تلك التي تعيد قراءة المشهد في ضوء الانتكاسات الفعلية المتعاقبة وليس الآمال الأولى الكاذبة؛ وللمرء أن يختلف معه أيضاً، في طائفة غير قليلة من تأويلاته لأسباب الاجتياح الأكثر خفاء، والأبعد خدمة لأغراض جيو -سياسية تتجاوز مآلات 11/9 وحوافزها. وبين الاتفاق والاختلاف ثمة هوامش، عديدة بدورها، تنفع حقوق كتابة التاريخ وإنصاف سلسلة الجوانب المأساوية التي كان الشعب العراقي أوّل دافعي أثمانها الباهظة، وما يزال يسدّد المزيد منها حتى الساعة. وثمة، استطراداً، ملفات لا تنحصر داخل العراق وحده، ولا حتى ضمن الخطوط الأعرض لخيارات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة؛ لأنها ببساطة تكشف قسطاً غير قليل من نهج الولايات المتحدة في إدارة العلاقات الدولية، من موقعها كقوّة كونية سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية عظمى، بمعزل هذه المرّة عن هوية سيّد البيت الأبيض وما إذا كان جمهورياً أم ديمقراطياً، بوش الأب أم الابن، بيل كلنتون أم باراك أوباما.
وبين أبرز عناصر الملفّ السياسي خلف قرار الغزو استقرّ ما حلم به رجالات بوش الابن (وخاصة أصحاب «مشروع قرن أمريكي جديد» أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل) حول تحويل العراق إلى «دولة ـ أمثولة» حاملة للقِيَم الأمريكية (في طبعتها الرجعية أو النيو ـ محافظة تحديداً) إلى أربع رياح الشرق الأوسط. والحال أنّ أسابيع قليلة فقط أعقبت الاجتياح كانت كافية لدفع هذا الهوس إلى الكواليس بعض الشيء، ليس لأنّ أصحابه فقدوا الإيمان به (عن حسن نيّة أو سوء طوية)؛ بل لأنّ الأولوية القصوى في أشغال الإدارة كانت ممنوحة لاعتبارات التمهيد العسكري على الأرض، وإنقاذ ماء وجه الحليف الأبرز، رئيس الوزراء البريطاني بلير.
وفي ستراتيجية السيطرة على النفط العراقي، الاحتياطيّ الأوّل في العالم كما كانت التقديرات تشير عشية الغزو، لم تكتفِ الولايات المتحدة بهدف تأمين حاجاتها إلى الطاقة فحسب؛ بل أرادت أيضاً إكمال طوق السيطرة غير المباشرة على نفط السعودية والكويت، والإمساك تالياً بورقة ضغط اقتصادية ـ سياسية كونية حاسمة أطلق عليها جوستن بودر تسمية «الفيتو النفطي». وفي الترجمة العملية لأبجدية تلك السيطرة، كان يتوجب أن يصبح في وسع الولايات المتحدة الضغط على اقتصاديات منافسة (مثل الاتحاد الأوروبي واليابان) أو أخرى مرشحة للمنافسة مستقبلاً (الصين وروسيا والهند).
كذلك لم يكن قرار الغزو خالياً من هاجس ما أمكن تسميته «الاستيطان العسكري» بمعنى حاجة الولايات المتحدة إلى التواجد العسكري، الدائم والكثيف والمستقرّ، في منطقة الشرق الأوسط عموماً، والخليج خصوصاً. لكن خبراء التخطيط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ثمّ في وزارة الدفاع، كانوا على يقين بأنّ استمرار التواجد العسكري المكثف في السعودية والكويت يتحوّل تدريجياً إلى عبء سياسي؛ إذْ بات بمثابة حاضنة خصبة لتفريخ مشاعر العداء للولايات المتحدة، واستيلاد المزيد من نماذج أسامة بن لادن، وتعريض أمن النظامين الحاكمين لمخاطر مباشرة. وهكذا فإنّ قرار غزو العراق واحتلاله كان يعني، أيضاً، الاستيطان فيه عسكرياً إلى أمد طويل، وتخفيف العبء عن دول الخليج، وحراسة دولة الاحتلال الإسرائيلي عن بُعد، وإحكام القبضة على المنطقة بأسرها عملياً.
ويبقى أنّ الدرس الختامي، الأشبه بتأمّل واقعي لمجمل سردية الاجتياح وليس لأية حكمة مستقبلية، هو التالي في يقين ليفلر: «قد يكون من باب العزاء التفكير في أنّ الأمر كان سينتهي على ما يرام لو توفّر لنا صانعو سياسة أكثر نزاهة. أمّا الحقيقة فهي أنه من الصعب حيازة معلومات دقيقة وتقييمها موضوعياً. من الصعب قياس التهديد. من الصعب موازنة الوسيلة مع الغاية. من الصعب ترويض الميول والتعصبات. من الصعب وَزْن ردود أفعال أناس لا يعرف عنهم المرء إلا القليل. من الصعب التحكّم بمخاوفنا، وضبط سلطتنا، ولجم غطرستنا».
وقد تصحّ لائحة الصعوبات هذه، في كثير أو قليل، غير أنها لا تجبّ، وهيهات أن تُبطل، حقيقة كبرى تكررت على مدار الحروب جمعاء، وحروب الولايات المتحدة خصوصاً وتحديداً: أنّ كسب الحرب لا يعني البتة كسب السلام، السلام بمعناه الأعرض المركّب الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال العسكرية، والذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة، في المستويات الجيو ـ سياسية والاقتصادية في البدء؛ ثمّ في المستويات الأخرى التالية، المباشرة وغير المباشرة.
وحال الولايات المتحدة في عراق هذه الأيام ليس في حاجة إلى تمحيص، في ضوء تلك الحقيقة الكبرى.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

العلاقات السعودية ـ الإيرانية:

أبعد من عصا الصين السحرية

صبحي حديدي

 

أيّ عصا سحرية تمتلك الصين الرسمية حتى تمكنت، وتتمكن تباعاً، من كسر جليد لاح أنه سميك قديم متقرّن في العلاقات بين السعودية وإيران؛ فما كاد كثيرون يفلحون في التقاط أنفاسهم بعد مفاجأة اختراق صيني أوّل (مبادرة الرئيس الصيني، مطلع آذار/ مارس الماضي، شي جين بينغ للجمع بين الرياض وطهران) حتى جاء التطور المباغت الثاني في لقاء وزيرَي خارجية البلدين في بكين دائماً وإعلانهما الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين؟ وهل توفير عصا، من نوع خارق وقادر على اجتراح العجائب، ضروري هنا لتأويل المنقلبات التي يمكن أن تطرأ على سياسات دولية أو إقليمية تتصف، من حيث المظهر الخارجي والمعطيات الظاهرة على الأقلّ، بالتعقيد والتشابك وصعوبة الحلحلة؟
العصا استعارة بالطبع، أو هي في تبسيط أوضح مجاز عن أدوات متعددة الوظائف، جيو ـ سياسة واقتصادية ودبلوماسية، قد تتوفر لدى جهة وازنة في وسعها التوسط بين قضيتَين أو أزمتَين أو عاصمتين، لصالح الأطراف الثلاثة في أوّل الجهد وآخره؛ مقترنة، غالباً، بتراكم سلسلة من العوامل المساعدة على تليين هنا أو تنازل هناك، مثلما هي مشروطة بضرورة انحسار قطب رابع كان في الماضي القريب يمتلك عناصر الضغط والتعكير أو حتى تعطيل جهود المصالحة. في صياغة أوضح:
ـ مع وصول العلاقات السعودية ـ الإيرانية إلى ما يشبه درجة الصفر في التحكّم والتحكّم المضاد (اليمن مثلاً بالنسبة إلى الرياض، وملفّ العقوبات الاقتصادية الخانقة ومأزق الاتفاق حول البرنامج النووي بالنسبة إلى طهران)؛
ـ ومع بحث الرياض عن نظائر بديلة (روسية وصينية، أساساً) يمكن أن تحدّ في قليل أو كثير من قيود التبعية السعودية المتأصلة للولايات المتحدة، مقابل دأب طهران على مقارعة الخصم الأمريكي بما ملكت من وسائل وطرائق وساحات؛
ـ فإنّ من المنطقي أن تتقدّم بكين إلى المشهد، وأن تكون مصالحها مع الرياض وطهران، العالقة في الآن ذاته مع واشنطن، هي الحافز والميزان والمحك، خاصة وأنها القوّة الاقتصادية والتكنولوجية والاستثمارية الصاعدة، من جانب أوّل؛ وأنها ليست روسيا، المتورطة في أكثر من جبهة عسكرية خارجية، والأعلى كموناً بما لا يُقاس بصدد استثارة حساسية واشنطن وإغضاب البيت الأبيض والكونغرس معاً، من جانب ثانٍ.
هذه الخلاصة تظلّ حصيلة معطيات حاضرة ومرئية، تحظى أيضاً بمقادير غير قليلة من المنطق السليم الذي يغطي القسط الأعظم من جوانبها؛ الأمر الذي لا ينفي، للوجاهة المنطقية إياها، وعورة الدروب التي يتوجب أن تقتفيها المصالحة، بصرف النظر عن فاعلية الوسيط الصيني أو ما يحمله من أوراق تبدو كفيلة بتعبيد المسير. ثمة، في بُعد أوّل، ما يكتنف الركائز الوجودية ذاتها للبلدَين، في محيط إقليمي مشتعل أو لم يتوقف عن الاحتقان بصدد الاستقطاب العتيق إياه، السنّي الذي تقوده السعودية، والشيعي الذي تتولاه طهران فعلياً وتنغمس فيه منذ انتصار الثورة الإسلامية وعودة الإمام الخميني، سنة 1979.

من المنطقي أن تتقدّم بكين إلى المشهد، وأن تكون مصالحها مع الرياض وطهران، العالقة في الآن ذاته مع واشنطن، هي الحافز والميزان والمحك، خاصة وأنها القوّة الاقتصادية والتكنولوجية والاستثمارية الصاعدة، من جانب أوّل؛ وأنها ليست روسيا، المتورطة في أكثر من جبهة عسكرية خارجية

المسائل هنا ليست فقهية، إلا في حدود سطحية أقرب إلى تمويه الجوهر، لأنّ طبيعتها الوجودية تقتضي من طهران تسعير ما تسمّيه «ثورة المستضعَفين» وتصديرها في أنساق ميليشيات صغرى كثيرة متناثرة وأخرى كبرى متمركزة على شاكلة «حزب الله» في لبنان و«الحشد الشعبي» في العراق و«أنصار الله» في اليمن.
ما تقتضيه من الرياض، في المقابل، ينبسط في التاريخ الحديث والمعاصر على فصول عديدة، تضمنت معظمها قطع العلاقات مع طهران على غرار أحداث مكة 1987، كما ذهبت في مناسبات أخرى شأو إعدام الشيخ السعودي الشيعي نمر باقر النمر، وتأخذ صباح مساء شتى أشكال القلق السعودي الأمني من التحريض الإيراني للمواطنين السعوديين الشيعة في المنطقة الشرقية وفي محافظتَي القطيف والأحساء أو في مختلف أراضي المملكة.
العصا السحرية الصينية تذهب، بالتعريف الذي لا يتعارض مع أصول أخلاقيات الاتجار الصيني المعاصر وخاصة التكنولوجي والمعلوماتي منه، إلى ما يشبه إدارة الموقع والمتجر والمختبر؛ أي إلى المراهنة على علاقات بنيوية وبينية بين مؤسسات الدولة في البلدين، التي تؤاخي بين استيراد كميات هائلة وقصوى من النفط السعودي والإيراني، وبين تصدير تطبيق «تيك توك» على سبيل المثال الراهن الأبرز. والأمر هنا لا يدخل في عداد قوانين العولمة، ذات السطوة والعشوائية في آن معاً، وحدها، وعلى أهميتها؛ بل يشتغل على تطورات آنية لم تكن في المشهد قبل سنوات قليلة فقط، مثل التوتر السعود ـ الأمريكي بصدد قرارات منظمة «أوبك» أو اعتماد الولايات المتحدة نهجاً في تفضيل النفط الصخري على نحو يُسقط الكثير من هيمنة النفط السعودي (إدارة الطاقة الأمريكية توقعت أن يرتفع إنتاج الزيت النفطي إلى أكثر من 9 ملايين برميل يومياً) أو… تيه إدارة جو بايدن بين الوعد بتحديد دور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبين الانتهاء إلى حال معكوسة يكيل فيها بن سلمان طعنات دبلوماسية ونفطية نجلاء إلى الشيخ الأمريكي الرئيس.
ثمة الكثير الذي يتوجب أن يُحتسب أبعد من قدرات العصا السحرية الصينية، وفي الطليعة ما يُنتظر من مفاعيل سلبية داخلية إزاء طيّ عدد من الملفات الحساسة، في السعودية كما في إيران، وعلى مستويات الشوارع الشعبية أو تلك الدينية، العفوية منها أو المنظمة؛ فكيف والتعقيدات الأشدّ سخونة ليست في داخل البلدين بقدر ما هي خارجهما في الإقليم الواسع الشاسع، العراق وسوريا ولبنان مثل اليمن والبحرين والكويت؟ البعض يساجل بأنّ زخم المبادرة الصينية راجع إلى استجابة بن سلمان وحماسه لوضع المزيد من عناصر التكييف السعودي الداخلي على أسرّة العلاج بالصدمة، فضلاً عن شهية شخصية لتصفية حسابات قديمة مع بايدن على صلة بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. فإذا جاز هذا السجال، فإنّ المشهد الداخلي الإيراني، الموازي في أكثر من اعتبار، ليس بعدُ جاهزاً لطرائق علاج مماثلة مع الدولة ذاتها التي أمطر الحوثيون منشآتها النفطية ومطاراتها بوابل من صواريخ «الحرس الثوري» الإسلامي.
ليس مجرداً من مغزى بالغ الخصوصية، وهو بدوره أبعد من اشتغال العصا السحرية الصينية على التوسط بين الرياض وطهران، أن زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية أواخر العام المنصرم وُضعت (من جانب الصين أوّلاً، في الواقع) ضمن إطار إقليمي، أو عربي محدد بالاسم على الأقلّ. فقد تقصد الناطق باسم الخارجية الصينية التشديد على هذا البُعد حين اعتبر الزيارة «حجر أساس صانع لحقبة في تاريخ العلاقات الصينية ـ العربية» و«شراكة ستراتيجية وشاملة». ليس مستغرباً، بالتالي، أن تكون أعين الصين متوجهة إلى مشهد أوسع نطاقاً وأدسم مكاسباً، يشجع على الأمل في اغتنامه ما يعتمل في المنطقة من اختلاط أوراق واحتشاد تدخلات وصراع مصالح وتوافقات وصفقات… في آن معاً.
وإذا كان صحيحاً أنّ الصين، في انفتاحها المتسارع على الشرق الأوسط عموماً ومنطقة الخليج خصوصاً، قد قفزت إلى فراغ خلّفته السياسة الأمريكية خلال سنوات الرئيس الأسبق دونالد ترامب وخَلَفه بايدن على نحو متكامل؛ فالصحيح المقابل هو أنّ تاريخ التبعية السعودية للولايات المتحدة، الطويل والمركّب والعضوي تقريباً، لا يسمح بقفزة إلى الفراغ ذاته. ليس بين ليلة وضحاها بادئ ذي بدء، وليس قبل أن يسود الوئام والسلام في ربوع، وعلى خرائب وأطلال، حروب الوكالة بين الرياض وطهران.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

 

صيد السَحَرة:

من المعجم العربي إلى ترامب

صبحي حديدي

 

يشير التقرير الأحدث، الذي أصدرته «رابطة المكتبة الأمريكية» قبل أيام، إلى تزايد هائل في أعداد الشكاوى المطالبة بسحب هذا الكتاب أو ذاك من مكتبات المدارس، على اختلاف صفوفها، والمكتبات العامة، وكذلك دور العجزة والمشافي والسجون؛ ضمن ظاهرة ليست البتة طارئة، بل مألوفة تماماً وترصدها الرابطة منذ تأسيسها رسمياً قبل 20 سنة. الفارق أنّ الأرقام هذه المرّة صاعقة: من 1858 شكوى (وهي أعداد عناوين، بالطبع) في سنة 2021، إلى 2571 في سنة 2022؛ ومحتويات الكتب الرجيمة لا تدور فقط حول الحريات الجسدية أو إدانة التمييز العنصري أو قضايا الدين والسياسة كما للمرء أن يتخيل، بل تشمل أيضاً روايات ومجموعات شعرية ومعاجم.
هنا، على سبيل الأمثلة الأولى، نماذج من لائحة أعمال مُنعت قراءتها في سجون ولاية كارولاينا الشمالية، بقرار إداري من «إدارة الأمن العام»: «معجم عربي ــ إنكليزي»، «أسس تقنيات الكتابة»، «موسوعة الكلاب»، «موسوعة كرة السلة»، «قاموس ألماني موسّع»، «أطلس العالم الجديد»، «النحت بالطين»، «موسوعة أدب الخيال العلمي»، «موسوعة السينما»، «قاموس وبستر الشامل»… فإذا كان المعجم الأوّل مشبوهاً لأنه يحتوي مفردات عربية، فما المشكلة مع قاموس وبستر الإنكليزي، أو… موسوعة الكلاب؟
هنا أمثلة أخرى من الكتب، مع سرد المسوّغات التي دفعت إلى سحبها: مارك توين، «مغامرات هكلبري فين»، 1884، لأنه اعتُبر «نفاية لا تلائم إلا الأحياء الفقيرة»؛ مالكولم إكس وأليكس هيلي، «السيرة الذاتية لـ مالكولم إكس»، 1965، وقد نُظر إليه كـ»دليل يعلّم ارتكاب الجريمة»، ومعاداة البيض؛ توني مويسون، «محبوبة»، 1987، لأنّ الرواية تكرّس العنف وتحرّض السود على البيض؛ دي براون، «ادفنوا قلبي عند الركبة الجريحة»، 1903، لأنه يثير إشكاليات تاريخ الهنود الحمر، ويعيد سرد تاريخ توسّع الولايات المتحدة في الغرب من وجهة نظر الأقوام الأصلية؛ جاك لندن، «نداء البرّية»، 1903، لأنه يقيم الوجود على أساس من العلاقة بين إنسان وكلب (وهذا، للمناسبة، تفسير اعتمدته النازية أيضاً فأحرقت الرواية)…
حملات المطالبة بسحب هذه الكتب، وسواها كثير متنوع، تقودها جمعيات محافظة مثل «أمهات من أجل الحرية» أو «اتحاد أولياء يوتا»، حيث تنصبّ الجهود على استصدار تشريعات بتضييق اقتناء الكتب ومحاسبة أمناء المكتبات أمام القضاء، أو الضغط المباشر على إدارات المدارس والمشافي والسجون عن طريق التظاهر والاعتصام والإعلانات المدفوعة في الصحف. لافت، على نحو خاصّ، أنّ غالبية هذه الجمعيات محافظة بالمعنى الأشدّ تزمتاً في الثقافة السياسية والاجتماعية والأخلاقية الأمريكية، لكنها أيضاً تنتمي إلى المجموعات المؤيدة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المؤمنة بأنّ الانتخابات الرئاسية الأخيرة سُرقت منه، والمتحمسة لترشحه وعودته مجدداً إلى البيت الأبيض.
طريف إلى هذا أنّ ترامب هو اليوم رافع راية «صيد السَحَرة»، واستهدافه من جانب الديمقراطيين واليسار في القضاء الأمريكي على خلفية شراء سكوت الممثلة الإباحية التي جمعته بها علاقة حميمة قبل أن يقتحم ميدان السياسة ويتصدّر مرشحي الحزب الجمهوري لانتخابات 2016. وأمّا وجه الطرافة فهو أنّ التعبير إنما يحيل إلى الكاتب المسرحي الأمريكي الكبير آرثر ميللر (1915-2005)، الذي كان ضحية الرقابة على مسرحيته الشهيرة «المحنة»، والتي تدور حول المحاكمات الشهيرة لساحرات بلدة سالم الأمريكية، أواخر القرن السابع عشر. إلا أنّ خلفية النصّ كانت تشير إلى أمريكا القرن العشرين، وصيد السحرة الذي مارسته «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا»، التي دشّنت فجر الـ»مكارثية» بوصفها أسوأ استبداد ثقافي وفكري عرفته الولايات المتحدة على امتداد تاريخها. ففي عام 1947 أُضيف ميللر إلى لائحة تضمّ 320 من العاملين في مختلف أعمال المسرح والسينما والغناء والأوبرا وسواها من الفنون، مُنعوا من العمل بقرار من اللجنة تلك.
وإلى جانب ميللر توفّرت أسماء عدد كبير من خيرة كتّاب وفنّاني الولايات المتحدة آنذاك: ريشارد رايت، جوزيف لوزي، بول روبسون، داشيل هاميت، كليفورد أوديتس، لويس أنترمير، وسواهم. وذنب هؤلاء كان مزدوجاً: أنهم ينتمون بهذا الشكل أو ذاك إلى تيّارات اليسار، ويُشتبه تالياً بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي؛ وأنهم رفضوا ممارسة الدسيسة على زملائهم، والإدلاء بمعلومات عنهم إلى اللجنة. وفي كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره سنة 1987 بعنوان «على مرّ الأيام: حياة»، يروي ميللر تفاصيل مثيرة عن تلك الحقبة، لعلّ أشدّها تأثيراً في النفس ليس صموده هو شخصياً أمام اللجنة، بل انهيار صديقه المخرج المسرحي والسينمائي الشهير إيليا كازان.
وقد يعجب امرؤ من أنّ أمريكا هذه، ذاتها التي لا تمارس أيّ طراز ملموس من الرقابة على اقتناء الأسلحة النارية، أو إنتاج مختلف بضائع البورنو المقروءة والمرئية والمصنّعة والترويج لها، تتحفز جمعيات نافذة فيها ضدّ معجم عربي ــ إنكليزي أو آخر إنكليزي – إنكليزي داخل سجن، أو تتجند لسحب روايات إرنست همنغواي، «لمَنْ يقرع الجرس»؛ أو مرغريت ميتشل، «ذهب مع الريح»؛ أو جون شتاينبك، «أعناب الغضب»؛ أو ف. سكوت فتزجيرالد، «غاتسبي العظيم»…
والأرجح أنّ العجب لن يطول، إذا كان المطالِب بمنع هذه الأعمال، هو نفسه المؤمن بأنّ ترامب ضحية صيد السَحَرة؛ سواء بسواء!

 

 

مقالات سابقة

صيد السَحَرة:

من المعجم العربي إلى ترامب

صبحي حديدي

 

يشير التقرير الأحدث، الذي أصدرته «رابطة المكتبة الأمريكية» قبل أيام، إلى تزايد هائل في أعداد الشكاوى المطالبة بسحب هذا الكتاب أو ذاك من مكتبات المدارس، على اختلاف صفوفها، والمكتبات العامة، وكذلك دور العجزة والمشافي والسجون؛ ضمن ظاهرة ليست البتة طارئة، بل مألوفة تماماً وترصدها الرابطة منذ تأسيسها رسمياً قبل 20 سنة. الفارق أنّ الأرقام هذه المرّة صاعقة: من 1858 شكوى (وهي أعداد عناوين، بالطبع) في سنة 2021، إلى 2571 في سنة 2022؛ ومحتويات الكتب الرجيمة لا تدور فقط حول الحريات الجسدية أو إدانة التمييز العنصري أو قضايا الدين والسياسة كما للمرء أن يتخيل، بل تشمل أيضاً روايات ومجموعات شعرية ومعاجم.
هنا، على سبيل الأمثلة الأولى، نماذج من لائحة أعمال مُنعت قراءتها في سجون ولاية كارولاينا الشمالية، بقرار إداري من «إدارة الأمن العام»: «معجم عربي ــ إنكليزي»، «أسس تقنيات الكتابة»، «موسوعة الكلاب»، «موسوعة كرة السلة»، «قاموس ألماني موسّع»، «أطلس العالم الجديد»، «النحت بالطين»، «موسوعة أدب الخيال العلمي»، «موسوعة السينما»، «قاموس وبستر الشامل»… فإذا كان المعجم الأوّل مشبوهاً لأنه يحتوي مفردات عربية، فما المشكلة مع قاموس وبستر الإنكليزي، أو… موسوعة الكلاب؟
هنا أمثلة أخرى من الكتب، مع سرد المسوّغات التي دفعت إلى سحبها: مارك توين، «مغامرات هكلبري فين»، 1884، لأنه اعتُبر «نفاية لا تلائم إلا الأحياء الفقيرة»؛ مالكولم إكس وأليكس هيلي، «السيرة الذاتية لـ مالكولم إكس»، 1965، وقد نُظر إليه كـ»دليل يعلّم ارتكاب الجريمة»، ومعاداة البيض؛ توني مويسون، «محبوبة»، 1987، لأنّ الرواية تكرّس العنف وتحرّض السود على البيض؛ دي براون، «ادفنوا قلبي عند الركبة الجريحة»، 1903، لأنه يثير إشكاليات تاريخ الهنود الحمر، ويعيد سرد تاريخ توسّع الولايات المتحدة في الغرب من وجهة نظر الأقوام الأصلية؛ جاك لندن، «نداء البرّية»، 1903، لأنه يقيم الوجود على أساس من العلاقة بين إنسان وكلب (وهذا، للمناسبة، تفسير اعتمدته النازية أيضاً فأحرقت الرواية)…
حملات المطالبة بسحب هذه الكتب، وسواها كثير متنوع، تقودها جمعيات محافظة مثل «أمهات من أجل الحرية» أو «اتحاد أولياء يوتا»، حيث تنصبّ الجهود على استصدار تشريعات بتضييق اقتناء الكتب ومحاسبة أمناء المكتبات أمام القضاء، أو الضغط المباشر على إدارات المدارس والمشافي والسجون عن طريق التظاهر والاعتصام والإعلانات المدفوعة في الصحف. لافت، على نحو خاصّ، أنّ غالبية هذه الجمعيات محافظة بالمعنى الأشدّ تزمتاً في الثقافة السياسية والاجتماعية والأخلاقية الأمريكية، لكنها أيضاً تنتمي إلى المجموعات المؤيدة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المؤمنة بأنّ الانتخابات الرئاسية الأخيرة سُرقت منه، والمتحمسة لترشحه وعودته مجدداً إلى البيت الأبيض.
طريف إلى هذا أنّ ترامب هو اليوم رافع راية «صيد السَحَرة»، واستهدافه من جانب الديمقراطيين واليسار في القضاء الأمريكي على خلفية شراء سكوت الممثلة الإباحية التي جمعته بها علاقة حميمة قبل أن يقتحم ميدان السياسة ويتصدّر مرشحي الحزب الجمهوري لانتخابات 2016. وأمّا وجه الطرافة فهو أنّ التعبير إنما يحيل إلى الكاتب المسرحي الأمريكي الكبير آرثر ميللر (1915-2005)، الذي كان ضحية الرقابة على مسرحيته الشهيرة «المحنة»، والتي تدور حول المحاكمات الشهيرة لساحرات بلدة سالم الأمريكية، أواخر القرن السابع عشر. إلا أنّ خلفية النصّ كانت تشير إلى أمريكا القرن العشرين، وصيد السحرة الذي مارسته «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا»، التي دشّنت فجر الـ»مكارثية» بوصفها أسوأ استبداد ثقافي وفكري عرفته الولايات المتحدة على امتداد تاريخها. ففي عام 1947 أُضيف ميللر إلى لائحة تضمّ 320 من العاملين في مختلف أعمال المسرح والسينما والغناء والأوبرا وسواها من الفنون، مُنعوا من العمل بقرار من اللجنة تلك.
وإلى جانب ميللر توفّرت أسماء عدد كبير من خيرة كتّاب وفنّاني الولايات المتحدة آنذاك: ريشارد رايت، جوزيف لوزي، بول روبسون، داشيل هاميت، كليفورد أوديتس، لويس أنترمير، وسواهم. وذنب هؤلاء كان مزدوجاً: أنهم ينتمون بهذا الشكل أو ذاك إلى تيّارات اليسار، ويُشتبه تالياً بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي؛ وأنهم رفضوا ممارسة الدسيسة على زملائهم، والإدلاء بمعلومات عنهم إلى اللجنة. وفي كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره سنة 1987 بعنوان «على مرّ الأيام: حياة»، يروي ميللر تفاصيل مثيرة عن تلك الحقبة، لعلّ أشدّها تأثيراً في النفس ليس صموده هو شخصياً أمام اللجنة، بل انهيار صديقه المخرج المسرحي والسينمائي الشهير إيليا كازان.
وقد يعجب امرؤ من أنّ أمريكا هذه، ذاتها التي لا تمارس أيّ طراز ملموس من الرقابة على اقتناء الأسلحة النارية، أو إنتاج مختلف بضائع البورنو المقروءة والمرئية والمصنّعة والترويج لها، تتحفز جمعيات نافذة فيها ضدّ معجم عربي ــ إنكليزي أو آخر إنكليزي – إنكليزي داخل سجن، أو تتجند لسحب روايات إرنست همنغواي، «لمَنْ يقرع الجرس»؛ أو مرغريت ميتشل، «ذهب مع الريح»؛ أو جون شتاينبك، «أعناب الغضب»؛ أو ف. سكوت فتزجيرالد، «غاتسبي العظيم»…
والأرجح أنّ العجب لن يطول، إذا كان المطالِب بمنع هذه الأعمال، هو نفسه المؤمن بأنّ ترامب ضحية صيد السَحَرة؛ سواء بسواء!

 

 

ديمقراطية الامتناع/ احتلال الشارع:

مأزق فرنسا المعاصرة

صبحي حديدي

 

هنالك الكثير الجوانب المطلبية، المشروعة بقدر ما هي إشكالية في قليل أو كثير، تكتنف حركات الاحتجاج المتواصلة منذ أسابيع ضدّ تشريعات إصلاح أنظمة التقاعد في فرنسا، والتي باتت تُختصر في معادلة تمرير القانون الناظم لتلك الإصلاحات أو سحبه على نحو جذري غير جزئي أو تلطيفي. كذلك بات جلياً أنّ جولات الحراك المتعاقبة تحولت إلى صراع تناطحي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومة إليزابيث بورن من جهة أولى، ونقابات العمال والمستخدمين على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والطبقية من جهة ثانية؛ ضمن منطق أقرب إلى حرب مفتوحة مطوّلة، لن تتكفل معركة واحدة بحسمها، حتى إذا بقيت قواعد الاشتباك في جبهاتها مستقرة ومتفقاً عليه.
ثمة، في المقابل، أسئلة تتجاوز الجوانب المطلبية إلى أخرى ذات طابع مختلف أكثر تعقيداً، وأقلّ جلاء أمام الجمهور العريض من حيث الاشتغال والأثر على الأقلّ، يمكن أن تبدأ من العمارة السوسيولوجية للحركات الاحتجاجية، وقد يصحّ ألا تنتهي عند الثقافة السياسية المعيارية في فرنسا الراهنة، فضلاً عن الجوهري بين هذه الأسئلة أو تلك: أين الديمقراطية الفرنسية، كنظام وبنية ومؤسسات، من هذا الحراك الاجتماعي والسياسي والنقابي والحقوقي والدستوري؟ وإذا كان ماكرون قد نصّ في برنامجه الانتخابي على إقرار هذه الإصلاحات، وقد انتُخب بالفعل استناداً إليها، فكيف يُلام إذا اختار الوفاء بوعوده وذهب إلى التنفيذ؟ وأيضاً، كيف يُقرأ تصريحه الاستفزازي بأنّ «الحشد لا يملك شرعية في وجه الشعب الذي عبّر عن نفسه من خلال ممثّليه المنتخبين».
ولعلّ السؤال الأكثر اشتمالاً على المعضلة، أو تشكيل المأزق في واقع الأمر، تختصره هذه المعادلة البسيطة، هائلة الدلالات في المقابل: 6 من أصل كلّ 10 فرنسيين صاروا من فئة الممتنعين عن التصويت في غالبية الانتخابات البلدية والمناطقية والتشريعية والرئاسية، فبأيّ معنى يمكن الحديث عن تمثيل شعبي في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) لا يتجاوز ثلث سكان فرنسا؟ واستطراداً، أيّ فارق في أن يصوّت مجلس الشيوخ (غير المنتخَب) على مشاريع إصلاح التقاعد، وتلجأ الحكومة إلى المادة 3ـ49 من الدستور لتمرير المشاريع إياها رغماً عن المجلس المنتخَب، ومن دون تصويته؟
السؤال التالي، المتفرّع منطقياً وسياقياً عن الأسئلة أعلاه، يخصّ شخصية الرئيس الفرنسي ماكرون، صانع تشريعات التقاعد وموضوع سخط الشارع الغاضب؛ الذي لم يكن، مع ذلك، إلا خيار شرائح واسعة من الساخطين اليوم حين توجهوا إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيساً، مرّتين، لقطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين. هذه المفارقة، وهي واحدة ضمن سلسلة متماثلة تارة أو متناقضة تارة أخرى، كانت تتوّج بصمة ماكرون الأهمّ في الحياة السياسية الفرنسية المعاصرة خصوصاً، وتقاليد قرابة نصف قرن من الجمهورية الخامسة عموماً: أنّه نجح في تحييد اليسار (التقليدي على الأقلّ، وفي طليعته الحزب الاشتراكي والخضر) أسوة باليمين (التقليدي بدوره، إرث شارل دوغول ثمّ فيليب سيغان/ جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي)؛ ولكنه اقتفى، جوهرياً، مسارات يمين ليبرالي سياسي واقتصادي واجتماعي، أتقن لعبة تمويه التوحّش الرأسمالي في فلسفات أخلاقية وإصلاحية غائمة.

6 من أصل كلّ 10 فرنسيين صاروا من فئة الممتنعين عن التصويت في غالبية الانتخابات البلدية والمناطقية والتشريعية والرئاسية، فبأيّ معنى يمكن الحديث عن تمثيل شعبي في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) لا يتجاوز ثلث سكان فرنسا؟

وقد يجهل الكثيرون أنّ أحد أبرز مشاهير الفلسفة في عالمنا المعاصر، يورغن هابرماس، الألماني مع ذلك، كان أيضاً أحد أبكر المرحبين بانتخاب ماكرون للدورة الرئاسية الأولى سنة 2017؛ حيث سار بعض التهليل هكذا: «يندر أنّ صعوداً غير متوقَّع مثل هذه الشخصية الفاتنة، الاستثنائية في كلّ حال، شهد بهذه الدرجة على حالات التاريخ الطارئة. ماكرون يمتلك ثلاث خصال خارجة عن الإطار المعتاد: شجاعته في صياغة السياسة، ثمّ وعيه الدقيق بالحاجة إلى إصلاح المشروع الأوروبي الذي تولّته النُخب حتى الساعة وينقله ماكرون اليوم إلى المواطنين اتكاءً على الشرعية الديمقراطية الذاتية للمواطنين، وأخيراً حقيقة أنه يؤمن بثقل الكلمات، قوّة الإفصاح عن التأمل، وتدبُّر الإقناع».
إطناب من عيار ثقيل، غنيّ عن القول، سوف يتصادى مع تيار آخر فرنسي هذه المرّة، «اكتشف» أنّ ماكرون تلميذ نجيب لفيلسوف الإنسانيات الفرنسي بول ريكور (1913-2005)؛ صاحب أعمال تأسيسية مثل ثلاثية «فلسفة الإرادة» و«التاريخ والحقيقة» و«الذات بوصفها آخر». ولم نعدم كاتباً فرنسياً، فرنسوا دوس، أصدر في مطلع رئاسة ماكرون الأولى كتاباً بعنوان «الفيلسوف والرئيس: ريكور وماكرون»؛ ساجل فيه بأنّ برامج الأخير تتناغم مع فلسفة الأوّل في جوانب أخلاقية عديدة، وتأويل أشغال التاريخ، واستكمال واجبات الذاكرة، والالتزام بطراز من العلمانية مفتوح على حسن النوايا والاستضافة وتفعيل النظام الديمقراطي، وسوى ذلك. ليس مدهشاً أنّ المؤلف ذاته عاد وأصدر كتاباً ثانياً عنوانه «ماكرون أو الأوهام الضائعة ـ دموع بول ريكور» يستخلص فيه (ولكن دون أن يتراجع عن خلاصات كتابه الأوّل!) أنّ الفيلسوف يدمع حزناً على ما آل إليه الرئيس.
وبين مفاعيل هذَين الاستقطابين، خلف حراك الشارع الشعبي اليوم ضدّ تشريعات التقاعد، يتعاظم مأزق ديمقراطية قوامها حشود تمتنع عن التصويت بمعدّل 6 من كلّ عشرة مواطنين، مقابل سلطة تنفيذية يترأسها ليبرالي عتيد أحال اليسار واليمين إلى الصفوف الخلفية. ثمة استقطاب ثالث يخصّ الحاضر الفرنسي تحديداً، ضمن منظور الخروج إلى الشارع كوسيلة كبرى للاحتجاج والسعي إلى التغيير، وفي إطار نقاش كهذا يصعب على المرء إغفال ظاهرة السترات الصفراء التي عمّت فرنسا قبل خمس سنوات، من زوايا عديدة لعل الأكثر التصاقاً منها بسياقات الراهن هي حكاية التأويل: أهي حركة أنذرت بولادة «ائتلاف الريف والمدينة» أو «صحوة الطبقة العاملة» أو «انتفاضة الطبقة الوسطى»؛ أم هي، على الضفة الموازية، كسر لمعادلة ماكرون في تحييد اليمين واليسار، أو مطالبة بطيّ صفحة الجمهورية الخامسة، أو تسجيل عودة الإيديولوجيا؟ الأوضح مع ذلك، والأشدّ واقعية وصواباً، كان الإقرار بأنّ الحركة وليدة حزمة الضرائب ذاتها التي وعد بها المرشح الرئاسي ماكرون في برنامجه الانتخابي؛ بل كانت أقرب إلى «بصمة» شخصية» تحدّد مسارات رئاسته.
وكان فيلسوف آخر غير هابرماس، هو عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي بيير بورديو (1930 ـ 2002) أحد آخر الكبار المحترمين الذين كرّسوا الكثير من الجهد المعمّق المنتظم والمنهجي لدراسة ظواهر السياسة اليومية في فرنسا المعاصرة. ولقد ظلّ بورديو شديد القلق إزاء شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر والخطاب السياسي الشعبوي، أو حتى الشعبوي، وكان بالغ الحصانة ضدّ إغواء الألعاب النظرية ما بعد الحداثية التي تطمس التاريخ كشرط أوّل لافتتاح اللعب. ولم يكن غريباً بالتالي أن بورديو، صحبة نفر قليل من ممثلي هذه الأقلية، شارك في اجتماع شهير مع القيادات النقابية الفرنسية لاتخاذ قرار الإضراب الشامل الواسع الذي شلّ مختلف قطاعات الحياة اليومية الفرنسية أواخر العام 1995. ولم يكن غريباً، أيضاً، أنه آنذاك وضع إصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء، والبربرية الوقحة لنفر من التكنوقراط يرون أنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة أكثر من الأمّة نفسها.
وتلك وجهة أخرى لتشخيص الداء الراهن لديمقراطية فرنسية ترسل إلى الشارع ملايين الرافضين، ولكنها لا تلاقي صندوق الاقتراع إلا بنسبة الثلث التي تسفر عن صعود أمثال ماكرون، وسنّ التشريعات طبقاً للمادة 3ـ49. وللحشود أن تعترض، ما شاء لها السخط…

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

شهر رمضان: من مآزق

العيش إلى بورصة التأجيج

 

صبحي حديدي

 

في لبنان، حيث مآزق العيش اليومي وأزمات الوجود البسيط المستعصية، من ندرة حليب الأطفال إلى التلاعب بأدوية الضرورات الماسة، فانقطاع الماء والكهرباء والوقود؛ لا يُستثنى شهر رمضان من انتهاك سلطات النهب والفساد والتسلط والمحاصصة الطائفية، فيتحوّل الشهر الفضيل إلى مادة إلهاء عن الجوهري، وإشعال لمعارك طائفية ومذهبية.
وهكذا اجتمع رئيس مجلس النواب نبيه البري، مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وتوافقا على تأخير العمل بالتوقيت الصيفي المعتاد، على سبيل التخفيف من أعباء الصائمين كما قيل؛ الأمر الذي سارع بعض أقطاب نهب البلد وإقعاده وتخريبه وتجويعه وتفليسه، ولكن من الجانب الأخر للتقاسم الطائفي، إلى رفع العقيرة احتجاجاً على تدبير «مسلم» يُلحق الضرر بمصالح مواطن «مسيحي»!.
وإلى جانب أقصى الحماقة، عن سابق قصد وتصميم، في قرار لا يمتّ بصلة إلى شروق الشمس ومغيبها (وهو معيار توقيتات الإمساك والإفطار)، فإنّ التسجيل المسرّب للقاء «رأس» السلطة التشريعية بنظيره في السلطة التنفيذية لا يبدو صنيعة الصدفة أو إهمال هذا الهاتف المحمول المسجِّل أو ذاك؛ بقدر ما يثبت السيناريو بأسره، من التسريب إلى الاستنكار، أنّ «بنك» استغفال العقول لدى أمثال برّي وميقاتي، ثمّ جبران باسيل على الضفة الموازية، لا حدود له من جهة أولى، كما أنه في الآن ذاته مصاب بإفلاس فاضح في الطرائق والتقنيات.
طراز آخر من بورصة استغلال شهر الصيام للإيحاء بما قد يبدو في الظاهر نزاعاً مذهبياً بين السنّة والشيعة، ولكنه في العمق أو تحت قشرة السطح مباشرة ليس أكثر من وجهة أخرى مماثلة لإجراء برّي/ ميقاتي؛ هو حكاية الإعلان عن عرض مسلسل «معاوية»، ثمّ تراجع الشركة المنتجة عن بثّه بسبب الجدل حول ما قد يثيره من «نعرات طائفية». وإذْ تبارى ساسة ورجال دين، أو ذلك الطراز المشترك في صفوفهم كما يعكسه الزعيم العراقي الشيعي مقتدى الصدر مثلاً، في إطلاق التصريحات المحذّرة من عواقب عرض المسلسل؛ بادرت قناة «الشعائر» العراقية ذات التوجّه الشيعي إلى اتخاذ ردّ عملي صدامي، فأعلنت إنتاج شريط سينمائي يمتدح شخصية أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
وحتى الساعة، أو إلى أن يثبت العكس عند إشعار آخر، انتهج الفريقان جانب التهدئة (ما دام المرء في قلب خطابات الحرب والاقتتال!)، وكأنّ عشرات المؤلفات، أو المئات منها، لم تفصّل القول في شخصيتَي معاوية أو أبي لؤلؤة، ثمّ الإمام عليّ ومعركة صفين في الخلفية الأعرض والأهمّ والأخطر، أو موقعة الجمل قبلها؛ سواء لجهة التشديد على الرواية السنّية، أو نقضها في قليل أو كثير لصالح إعلاء الرواية الشيعية.
طراز ثالث من استغلال شهر رمضان تولاه رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، الذي تناسى أزمات معيش المصريين وحال العملة الوطنية واستجداء صندوق النقد الدولي والتسوّل لدى هذه وتلك من دول الخليج الداعمة لنظامه؛ واختار أن يفتتح مسجداً في أرجاء ما يسمّيه «العاصمة الإدارية الجديدة»، بكلفة تجاوزت 800 مليون جنيه، رغم أنّ المنطقة ذاتها تضمّ مسجداً ثانياً يُعدّ أحد أكبر مساجد العالم. ولم يكن خافياً عن المصريين مغزى الترويج السياسي خلف اختيار شهر الصيام لافتتاح المسجد الثاني، ثمّ دلالة أن تتولى البناء شركة مقاولة تشرف عليها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
وكان البعض يبدي الأسف لأنّ شهر العبادة والتضامن والتسامي الروحي والجسدي انقلب إلى موسم للإفراط في الأطعمة والإدمان على المسلسلات؛ وجاءت اليوم أحقاب من انتهاك الشهر الفضيل، على أصعدة شتى من الاستغلال والإلهاء والإفساد. وليست هذه التحولات غريبة عن أساليب اشتغال الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية، حيث تستعين طرائقُ الاستبداد والفساد بكلّ ما يمكن أن يخدّر العقل ويستلب الروح.

 

 

مصرف «سيليكون فالي»

والتاريخ الذي لا ينتهي

صبحي حديدي

 

مَن اعتقد أنّ انهيار مصرف «سيليكون فالي» واقعة منطوية على المفاجأة الأدهى في العصر الراهن من أنظمة الصيرفة الرأسمالية، فقد جانب الصواب في الاعتقاد؛ على غرار ذاك الذي يظنّ أنها معزولة أو منفصلة عن سياقات أعرض، أو حتى عابرة سوف يفلح الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، أو أجهزة إدارة جو بايدن المالية ومؤسسات وول ستريت، في تطويق تبعاتها. هما في ذات الظنّ الخاطئ الذي يدفع أنصار الرأسمالية المعاصرة إلى التأكيد/ الطمأنة بأنّ فصول مسرح الإفلاس هذا («سيلفرغيت» و«سغنيشر» بعد «سيليكون فالي») مقتصرة على الأسواق الأمريكية وبورصاتها.
في المثال، الذي يصحّ أن يتوارد سريعاً إلى الذهن، ذلك المشهد الذي تابعته اليابان ذات يوم غير بعيد؛ حين أطلّ المدير التنفيذي لشركة «يامايشي» للسندات والأسهم والمضاربات على شاشات التلفزة، فانخرط في بكاء متقطع مرير، وانحنى على النحو الشعائري الياباني وهو يعلن الإفلاس الوشيك للشركة. واكتملت الدراما القصوى حين توقفت الكومبيوترات، وتجمدت المعاملات المالية، وأُطفئت الأضواء في ناطحة السحاب حيث مقرّ الشركة. نهاية حزينة لا ريب، وكان المشهد، المسرحي بامتياز، جديراً بأكثر تراجيديات وليام شكسبير توتراً ومأساة؛ مع فارق حاسم هو أنّ المشهد كان واقعياً 100٪.
تلك كانت الشركة التي تحتلّ المرتبة الرابعة في لائحة كبريات بيوتات السندات المالية الخاصة في اليابان، وعراقتها تعود إلى عام 1897، ولها فروع في 31 عاصمة رأسمالية، بكادر من المستخدمين يتجاوز السبعة آلاف موظف. ذلك كله لم يحصّنها ضدّ سلسلة من الفضائح المالية، وسلسلة ثانية من تقلبات أسعار الأسهم، وسلسلة ثالثة من صعوبات تأمين التمويل، الأمر الذي أفضى إلى خسارة صافية مقدارها 52 مليار دولار أمريكي، وإلى إعلان الإفلاس والإغلاق.
أوّل الدروس وراء ذلك الانهيار الدراماتيكي للشركة اليابانية هو أنّ العمالقة قد يجدون أنفسهم بغتة في عراء مطلق، بلا سند أو كفيل أو ضامن، قاب قوس واحد من الهاوية. البنوك المركزية في أوروبا وضعت يدها على قلبها، وأبدت مشاعر «التعاطف» ثم التزمت الصمت. الشركاء الأمريكيون ضنّوا حتى بمشاعر التعاطف. وبنك «فوجي» الذي رعى مصالح الشركة المفلسة منذ عقود وربح على ظهرها ومعها مئات الملايين، نفض يده في نهاية الأمر وأعلن مسؤولوه أنهم لا يستطيعون القيام بأيّ شيء لإنقاذ الموقف.
ثاني الدروس أنّ التشدّق الليبرالي حول ضرورة توطيد الاستقلالية المطلقة للمؤسسة الخاصة مقابل الدولة والإدارة المركزية، تلقى لطمة قاسية، لأنّ الجهة الوحيدة التي كانت قادرة على انتشال «يامايشي» من الهاوية هي وزارة المالية اليابانية؛ تماماً كما اتضح أنها الحال اليوم مع مصرف «سيليكون فالي» وقريناته المنهارات. وهنا أيضاً، في المثالين الياباني والأمريكي، اتضحت محدودية هذا الدور لأنّ الخزينة العامة ليست مضخة مليارات لا تنضب؛ بدليل عجز الحكومة اليابانية عن إنقاذ بنك «تاكوشوكو» وشركة سندات «سانيو» من إفلاس مماثل وقع خلال الفترة ذاتها؛ وتنصّل المصرف المركزي الأمريكي، اليوم، من مهمة إنقاذ المصارف المفلسة لقاء ضرورات رفع أسعار الفوائد ومجابهة التضخم.

ظنّ خاطئ يمكن أن يدفع أنصار الرأسمالية المعاصرة إلى التأكيد/ الطمأنة بأنّ فصول مسرح الإفلاس هذا («سيلفرغيت» و«سغنيشر» بعد «سيليكون فالي») مقتصرة على الأسواق الأمريكية وبورصاتها

وأما ثالث الدروس فهو مفارقة مزدوجة وخارج حدود اليابان، إذْ كانت فانكوفر الكندية تشهد انعقاد مؤتمر التعاون الاقتصادي لدول آسيا والباسيفيكي (أبيك)؛ وفي الآن ذاته، أصدر صندوق النقد الدولي وثيقة جديدة حول برنامج التعديل الهيكلي، أي «وصفة» الإصلاحات الإلزامية التي يفرضها الصندوق على الدول النامية كشرط مسبق للإقراض والإعانة، والتي تحثّ على منح المزيد من الاستقلال للشركات الخاصة، والمزيد من إقصاء الدولة بعيداً عن الحياة الاقتصادية!
العالم تابع ردود أفعال غريغ بيكر، المدير التنفيذي لشركة «سيليكون فالي» الأمّ، فلم يتضح أنه ذرف دمعة واحدة على انهيار مصرفه، بل فعل ما لم يكن سيخطر على بال المدير الياباني لشركة «يامايشي»: لقد استبق الانهيار، منذ 27 شباط (فبراير) الماضي، فباع من أسهمه الشخصية ما درّ عليه 3,6 مليون دولار أمريكي من الأرباح الصافية. وقبل سنوات، حين أوصى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب برفع قيود التدقيق على المصارف، أنفق بيكر ما يعادل نصف مليون دولار لشراء الذمم في الكونغرس وتسهيل تمرير التشريعات التي تجعل المصارف حرّة طليقة. وإذا كان المعمار الأخلاقي في قلب الثقافة الرأسمالية اليابانية قد أتاح انهمار دموع المدير التنفيذي لشركة «يامايشي» فإنّ المعمار الأخلاقي النظير في الثقافة الرأسمالية الأمريكية لم يُعفِ غريغ من تلك الانحناءة الشكسبيرية فحسب، بل أعطاه الحقّ في أن يدير ظهره ويغادر المسرح وكأنّ شيئاً لم يكن… ولعلّ براءة الأطفال داعبت عينيه أيضاً!
وكان فريدريك إنجلز، شريك كارل ماركس في رصد ملامح الشبح الشيوعي الذي أخذ يحوم في سماء أوروبا وأرضها منذ أواسط القرن التاسع عشر، قد أطلق عبارة نبوئية مدهشة وثمينة في آخر أيام حياته: «ثمة غرابة خاصة في أطوار البرجوازية، تميّزها عن جميع الطبقات الحاكمة السابقة، هي أنها تبلغ منعطفاً حاسماً في صعودها وتطوّرها تصبح فيه كلّ زيادة في وسائل جبروتها، أيّ كلّ زيادة في رأسمالها أساساً، بمثابة عنصر جديد إضافي يساهم في جعلها أشد عجزاً عن الحكم بالمعنى السياسي». وبصرف النظر عن درجة الصلاحية العامة في تشخيص صدر قبل قرن ونيف (توفي الرجل عام 1895) فإنّ المجموعات الحاكمة في المجتمعات الرأسمالية الغربية المعاصرة تبدي الكثير من هذا الميل؛ فكيف الحال في مجتمعات الاهتداء الهستيري العجول إلى فضائل الرأسمالية العتيقة وآلامها وآمالها.
وكان الأمريكي فرنسيس فوكوياما قد أعلن نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية في معركة ختامية لن تقوم بعدها قائمة لأية إيديولوجية منافسة. بعد خمس سنوات أصدر كتابه الثاني الذي يبشّر بنهاية الاقتصاد الوطني وولادة التعميم العالمي لاقتصاد كوني واحد عماده «الثقة» تدور من حوله أفلاك اقتصادية أصغر أو هي ليست بالاقتصاد إلا لعدم توفّر مصطلح بديل يصف طبيعتها. ولكنّ فوكوياما، في الكتاب الأوّل كما في الثاني، كان قد أساء قراءة هوية «الرجل الأخير» أو الرأسمالي خاتم البشر، الذي سيرث الأرض بعد طيّ صفحة الحرب الباردة. الأشباح التي أخذت تجوس من جديد ليست بالتأكيد في عداد ذلك الرجل، فكيف إذا تسارعت الانهيارات في قلب الولايات المتحدة، وتعاقب انهيار المصارف التي تستقبل ودائع «الرجل الأخير» إياه!
انقضت، اليوم، 34 سنة على مقالة فوكوياما التي ساجلت بأنّ التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (عصر الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ وانتهت اللعبة، لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (سقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة) أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق. ليس في استعارة لعبة الكراسي الموسيقية أيّ إجحاف بحقّ أطروحة فوكوياما، بل لعلها أفضل تلخيص للتمثيلات الكاريكاتورية التي وضعها الرجل لعلاقة البشر بالتواريخ، ولتأثير البنية الفوقية (الإيديولوجيا والنظام الفكري) على البنية التحتية (الاقتصاد والنظام الاجتماعي) وعلى «ولادة إنسان لا حاجة له بالتاريخ لأنه ببساطة خاتم البشر»!
أم لعله في حاجة ماسّة إلى ودائعه المضيّعة في خزائن نهاية التاريخ، خاصة إذا افتقر إلى ما يملكه غريغ بيكر من «بصيرة» تجعله يتنقل بين الكراسي الموسيقية فلا يسحب ودائعه في التوقيت القاتل فحسب؛ بل يتكسب من سحبها، أيضاً وأيضاً!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

من عبيد جيفرسون إلى قصاص ترامب:

أسفار أمريكا المحافظة

صبحي حديدي

 

يزعم أقطاب التيارات المحافظة، في السياسة والاقتصاد كما في الاجتماع والثقافة، أن «مؤتمر العمل السياسي للمحافظين» أو الـ CPAC في مختصراته الإنكليزية، هو ذروة ملتقيات المحافظين على نطاق العالم، ليس لأنه يُعقد في الولايات المتحدة، إحدى أعرق قلاع الفكر المحافظ، وعمره تجاوز الخمسين سنة، فحسب؛ بل كذلك، أو أساساً، لأنه المحفل الذي يخرّج رؤساء الولايات المتحدة الأشدّ تمسكاً بمبادئ الفلسفة المحافظة والأحرص على تحويلها إلى عقائد، على طراز ما خلّف توماس جيفرسون ورونالد ريغان ودونالد ترامب. وعلى امتداد الشطر المحافظ من التاريخ الأمريكي، توفّر رجل مثل جيفرسون ترأس في الفترة بين 1801 إلى 1809، وكان أحد ملاّك العبيد ومبرّري الاستعباد؛ وأمّا أشهرهم، أبرهام لنكولن (لنكن) فهو محرّر العبيد الذي كان، مع ذلك، صاحب التصريح الشهير العاصف: «إذا كنتُ لا أريد لامرأة سوداء أن تكون عبدة، فهل هذا يعني أنني أريدها زوجة».
ورغم أنّ المؤتمر الأخير للـ
CPAC، الذي عُقد قبل أيام في إحدى ضواحي العاصمة الأمريكية واشنطن لم يسجّل إقبالاً ملحوظاً بالمقارنة مع دورات سابقة، فإنّ ظلّ الرئيس الأمريكي السابق ترامب كان هو الأطول، تماماً كما كان لسانه خلال خطبة حفلت بالهجاء على اليسار والوسط واليمين؛ وبالتالي لم يخرج المؤتمر عن سنن سابقة ترسخت في أوساط المحافظين منذ صعود نجم ترامب قبل ثماني سنوات، داخل صفوف الحزب الجمهوري خصوصاً وجماعات المحافظين عموماً. وخلال التصويت المعتاد على مرشح المحافظين الأفضل لرئاسة الولايات المتحدة، وهو إجراء طقسي لكنه لا يخلو من دلالات بعيدة الأثر، حلّ ترامب في المرتبة الأولى بمعدّل 62٪، بينما جاء حاكم فلوريدا رون ديسانتيس (منافس ترامب المرجح) في المرتبة الثانية بنسبة 20٪ رغم غيابه عن المؤتمر؛ أسوة بشخصيات كبرى في الحزب الجمهوري أمثال نائب الرئيس السابق مايك بنس، وزعيم الأقلية الجمهورية في المجلس ميتش ماكونيل، ورئيس لجنة الحزب الجمهوري الوطنية رونان ماكدانيل.
فإذا تمسك محافظو العالم بما اعتادوا عليه من فخار بمؤتمرهم هذا، فلعلّ من حسن السلوك أن يراجعوا خطبة ترامب خلال دورة واشنطن الأخيرة؛ خاصة شتائمه ضدّ حزبه، الحزب الجمهوري ذاته، هذا الذي «يديره وحوش ومحافظون جدد ومدافعون عن العولمة وأنصار متعصبون إلى حدود مفتوحة وأغبياء». وعليهم، كذلك، أن يتنبهوا إلى ما قالته نيكي هيلي، مندوبة واشنطن الدائمة في مجلس الأمن الدولي خلال رئاسة ترامب والمرأة المخلصة المقرّبة منه؛ من أنّ «قضيتنا على حقّ ولكننا فشلنا في كسب ثقة غالبية الأمريكيين» وغمزها من قناة رئيسها السابق نفسه بالقول: «إذا تعبتم من الخسران، ضعوا ثقتكم في جيل جديد». ومن مصلحة المتفاخرين أنفسهم أن يصغوا إلى خطبة مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق في إدارة ترامب وظلّ سيّده التابع، حين يغمز بدوره هكذا: «لا يمكن أن نتبع الزعماء المشاهير بما يشيعونه من سياسات هوية، وما يحملون من أنا ذاتية هشّة ترفض الإقرار بالواقع الفعلي».

هذه الأمّة الأمريكية تحمل التوراة بيد والدستور بيد أخرى، وحين تطبّق حرفياً موادّ القانون الذي وضعه البشر (الدستور) فإنها إنما تفعل ذلك ضمن حال من الخضوع المذهل للنصّ الذي وضعه الربّ (التوراة) وللتأويل الميتافيزيقي لمعظم الظواهر الدنيوية

إحدى الخلاصات الضمنية في خُطَب ترامب وهيلي وبومبيو، وغالبية الخطباء في مؤتمر واشنطن، يمكن بالفعل أن تقود المرء إلى ترجيح الأفول المضطرّد لذلك التيار الذي حمل اسم «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة خلال عهد جورج بوش الابن؛ والذي بنى، أصلاً، على أصحاب «مشروع قرن أمريكي جديد» من أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل خصوصاً. والتيارات المحافظة الراهنة في الولايات المتحدة هي، استطراداً، أشبه بأنفار نافخة لأبواق تفخيم ترامب إلى درجة عبادة الفرد أحياناً، وإلى رفع الشعار الأخرق حول جعل أمريكا عظيمة مجدداً، وكأنها كانت كذلك في أيّ يوم من تاريخها غير المديد في كلّ حال. ذاك، في المقابل، مسار لا يطمس حقيقة تيارات أخرى محافظة، أو «جديدة» هنا وهناك في أوروبا؛ على شاكلة رهط «الفلاسفة الجدد» ألان فنكلكراوت وأندريه غلوكسمان وبرنار ـ هنري ليفي في فرنسا.
والحال أنّ هبوط أسهم «المحافظين الجدد» الذين باتوا قدماء متقادمين في الواقع؛ يتوازى مع علوّ مكانة المحافظين نافخي الأبواق من خلف ترامب، في جلسات الـ
CPAC خصوصاً؛ والوقوف على أسباب كلا الظاهرتين ليس بالأمر العجيب، مثله مثل صعود نظريات التفوّق الأبيض والعقائد المسيحية الأصولية. جملة من الأسئلة تظلّ، مع ذلك، ملحّة وجديرة بالنقاش: كيف يمكن لهذه الأمّة الأمريكية، أو لغالبية غير ضئيلة فيها، أن تكون قوّة كونية عظمى أولى، ديمقراطية دستورية وعصرية مصنّعة ومتقدّمة، وفي الآن ذاته محافظة قَدَرية سلفية متديّنة؟ واستطراداً، أهو تراث جيفرسون وترامب وريغان الذي يسود اليوم، ويوحي بالسيادة في المستقبل أيضاً؛ بما ينطوي عليه، أيضاً، من صياغات لنكولن التي تريد تحرير امرأة سوداء وتأبى عليها أن تكون زوجة لرجل أبيض؟
وهذه السطور خفّفت، في كثير أو قليل، من الاعتماد على علوم النفس أو الاجتماع أو السياسة والاقتصاد والتاريخ بحثاً عن مسوّغات هذا الانشطار بين أقصيَي الحداثة والسلفية في الذهنية المحافظة الأمريكية، على وجه الخصوص. ولعلّ بعض أفضل البدائل، في ناظر هذه السطور دائماً، هو اللجوء إلى أنثروبولوجي أمريكي بارز وبارع وغير تقليدي، هو فنسنت كرابانزانو؛ وتحديداً إلى كتابه الممتاز «خدمة الكلمة: النزعة الحرفية في أمريكا، من منبر الوعظ إلى منصّة القضاء». ومقام كرابانزانو الرفيع في ميدان الدراسات الأنثروبولوجية يجعل المرء يقرأ، بثقة راسخة، خلاصاته عن طرائق ومؤسسات وعواقب التأويل الديني لموادّ الدستور الأمريكي. هذا رجل سبق له أن أثار ضجّة في صفّ الأنثروبولوجيا البنيوية حين أصدر «الحمادشة: دراسة في طبّ النفس الإثني في المغرب» 1973. وضجّة أخري في مناهج التحليل الأنثروبولوجي لنظام الفصل العنصري، الأبارتيد، في كتابه «انتظار: البيض في جنوب أفريقيا» 1985. وضجّة ثالثة في صفّ الأنثروبولوجيا الثقافية، من خلال كتابه الاختراقي «معضلة هرميس ورغبة هاملت: حول إبستمولوجيا التأويل» 1993.
المقولة الأساسية في «خدمة الكلمة» تسير هكذا: هذه الأمّة تحمل التوراة بيد والدستور بيد أخرى، وحين تطبّق حرفياً موادّ القانون الذي وضعه البشر (الدستور) فإنها إنما تفعل ذلك ضمن حال من الخضوع المذهل للنصّ الذي وضعه الربّ (التوراة) من جهة أولى، وللتأويل الميتافيزيقي لمعظم الظواهر الدنيوية، من جهة ثانية. وهكذا فإنّ منبر الوعظ يمكن أن يغادر الكنيسة كي يستقرّ على منصّة القاضي في المحكمة، وليس غريباً أن يقول أحد قضاة المحكمة العليا (أي تلك التي لا يعلو على رأيها رأي قانوني أو تشريعي) إنّ موادّ الدستور الأمريكي هي «إلهام من الربّ». لكنّ الأنثروبولوجيا الميدانية ليست وحدها محطّ اهتمام كرابانزانو في تنقيبه عن الجذور الدينية الأصولية لظواهر ومظاهر نزعة التأويل الحرفي، لأنه أيضاً يلجأ إلى التحليل اللغوي والنصّي الثاقب لعدد من الأعمال التي تفسّر الدنيا بالدين، وتحيل موادّ الدستور الأمريكي إلى إصحاحات وأعداد خارجة مباشرة من أسفار الكتاب المقدّس. وحين نتذكّر الأولويات الكبرى عند أنصار ترامب، فإن هتك كرابانزانو لأستار تلك الميول الكامنة يتجاوز النشاط الأنثربولوجي أو العلمي المحض، ليصبح استكشافات ثقافية وأخلاقية وسياسية بالغة الحساسية.
ولم يكن عجيباً أن تطغى النبرة التبشيرية والوعظية على هذه الجملة من خطاب ترامب أمام مؤتمر الـ
CPAC: «في 2016 قلت: أنا صوتكم، واليوم أضيف أنا محاربكم. أنا عدلكم. وللذين تعرضوا للظلم والخيانة: أنا قصاصكم».

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

تفجير أنبوب «نورد ستريم»:

لماذا لا يُسجن سيمور هيرش؟

صبحي حديدي

 

ليس جديداً أن يفجّر الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش قنبلة حقائق مذهلة، معاكسة للتيار السائد في وسائل الإعلام الأمريكية، كاشفة عن الوجوه الأقبح في سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ وسائرة، استطراداً، على نقيض ما هو شائع أو مُشاع في يقين الرأي العام القياسي. ولعلّ الرجل اليوم هو صحافي الاستقصاء الأعلى كعباً في الولايات المتحدة، لأنه ضمن حصيلة عمله أبرع (في يقين هذه السطور) من أمثال بوب وودورد وكارل برنستين، اللذين كشفا فضيحة ووترغيت الشهيرة؛ وكذلك لأنّ أمثال البولندي ريجارد كابوشينسكي والإيطالية أوريانا فالاشي رحلوا عن عالمنا. سجلّه الحافل يبدأ من إماطة اللثام عن مذبحة «ماي لي» التي ارتُكبت في فييتنام بأمر من الضابط الأمريكي وليام كالي (قرابة 347 قتيلاً من المدنيين الفييتناميين)؛ ويمرّ بحقائق مجزرة الرميلة، التي ارتكبها الجنرال الأمريكي باري ماكيفري غرب البصرة في 2/3/1991 بحقّ «هؤلاء العراقيين الأوغاد» المنهارين المهزومين المنسحبين المتراجعين على الأوتوستراد 8؛ ولا ينتهي عند تفاصيل الهمجية الأمريكية في سجن أبو غريب العراقي، ثم فضح «مذكرات التعذيب» الإدارية التي كتبها أكاديميون على سبيل تزويد الإدارة بالمسوّغات القانونية للالتفاف على اتفاقية جنيف حول تحريم التعذيب.
كل هذا لا يعني أنّ هيرش لم ينزلق إلى هذا القدر أو ذاك من التضخيم أو الافتعال أو حتى الاختلاق، إنْ لم يكن على سبيل خدمة آرائه السياسية المخالفة هنا أو هناك، فعلى الأقل عملاً بمبدأ «خالِفْ تُعرف» العتيق الذي يحثّ على تدعيم المكانة والموقع، عن طريق الظهور والتظاهر؛ ولعلّ تحقيق هيرش، سنة 2013، بصدد استبعاد مسؤولية النظام السوري عن المجزرة الكيميائية ضد الغوطة الشرقية، واتهام المعارضة المسلحة بتنفيذها، هو المثال الأبرز على هذا النزوع. وفي كتابه «مذكرات محقق» الذي صدر سنة 2018 وأبان الكثير من نوازعه الذاتية في هذا أو ذاك من تحقيقاته الاختراقية الشهيرة، يشدد هيرش مراراً على تعاون بشار الأسد مع الاستخبارات الأمريكية من زوايا تنتهي إلى إطراء رأس النظام (وملامة إدارة جورج بوش الابن، لأنها كافأت خدمات الأسد بإضافتها إلى «محور الشر» الشهير)؛ كما يمتدح «تحرّق» الأسد إلى الاجتماع مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بما ينطوي عليه اللقاء من «تغيير» في علاقات النظام السوري مع إيران و«حزب الله» وحركة «حماس». لم يكن غريباً، قياساً على خلفيات مزاج هيرش بصدد النظام السوري، أن ينزّه جيش الأسد عن ضربة الغوطة الكيميائية، وألا يحمل تحقيقه ذاك ما اعتاد هيرش على حشده من وقائع وتفاصيل ومعطيات وملابسات.
ولعل تحقيقه الأخير، الذي يرقى كالعادة إلى صيغة القنبلة المدوية، يندرج في منزلة وسيطة بين التفضيح والاختلاق؛ ليس لأن حساسيته عالية، وقد تقود إلى مواجهة عسكرية شعواء لا تُحمد عقباها بين واشنطن وموسكو، فحسب؛ بل كذلك لأنّ هيرش هذه المرة لا يسوق الكثير، أو حتى الحد الأدنى الذي يكفي، من الوقائع والتفاصيل والمعطيات والملابسات التي تدعم فرضياته، وتُنهضها على أرضيات صلبة. التهمة خطيرة، مفادها أنّ الولايات المتحدة بالتعاون مع البحرية النرويجية هي التي خرّبت خط الغاز «نورد ستريم» في حزيران (يونيو) السنة المنصرمة. وضمن مادة مفصلة امتدت على أكثر من 5200 كلمة، نشرها على موقعه الشخصي (ربما لاعتذار منبره المعتاد، مجلة «نيويوركر» عن نشر التحقيق) روى هيرش أنّ زمرة من غوّاصي البحرية الأمريكية، وتحت غطاء مناورات الحلف الأطلسي، زرعوا متفجرات على الخط في عمق مياه البلطيق، تولت وحدات نرويجية خاصة تفجيرها بعد ثلاثة أشهر؛ وتوجه هيرش بأصابع الاتهام إلى ثلاثة مسؤولين في الإدارة: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومساعدته فكتوريا نولاند.

سؤال «لماذا يبقى هيرش مطلق السراح؟» نافل قضائياً، لأنه بالغ الحرج سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً؛ لكنه قائم، مشروع أو حتى ملحّ، إذا شاء المرء أن يضع مصداقية هيرش على محكّ ملموس، قاطع الأدلة وبيّن الوقائع

وبمعزل عن فيديو، مثير حقاً ولافت ودامغ في قليل أو كثير، يعود إلى مطلع شباط (فبراير) 2022 ويسجّل على الهواء مباشرة تصريحاً للرئيس الأمريكي جو بايدن، أثناء مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، يقول فيه بالحرف إنّ إدارته قادرة على إغلاق أو إيقاف خط «نورد ستريم» إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا؛ ليس ثمة الكثير الذي يُعتدّ به في تقرير هيرش، وتلك خلاصة وقائعية لا تقود هذه السطور إلى نفي أو تأكيد سردية هيرش حول المسؤولية الأمريكية عن التفجير. الاقتصاد من جانبه، وحرص واشنطن على خنق الموارد الروسية من الغاز المصدّر إلى ألمانيا، مقابل ترويج الغاز الأمريكي في حال تعطيل «نورد ستريم» كلياً أو حتى جزئياً؛ يمكن، بسهولة مبررة، أن تُساق لصالح تأكيد تقرير هيرش، فالمليارات من الأرباح هنا تتضافر ببساطة مع المغانم الجيو ـ سياسية غير الضئيلة. يُضاف إلى هذا ما ينقله هيرش، عن «مصدر مباشر وثيق الاطلاع» على الملف، من أنّ خطة التفجير اختُزلت من مستوى العملية السرية التي تستوجب إطلاع الكونغرس، إلى أخرى صُنّفت تحت بند السرّية الاستخباراتية القصوى الخاصة بالقوات المسلحة.
الإدارة تجاهلت التقرير بالطبع، أو علّقت عليه في مستويات دنيا لم تتجاوز المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، التي اعتبرته «من نسج الخيال»؛ أو ناطق باسم وكالة المخابرات المركزية، رأى أنّ التقرير «كاذب على نحو مطلق». وزارة الخارجية النروجية، من جانبها، لم تتردد في وصم التقرير بـ«المزاعم الكاذبة» خاصة وأنّ هيرش يعيد التعاون الاستخباراتي بين النرويج والولايات المتحدة إلى عقود حرب فييتنام حين تولت أوسلو تزويد المخابرات الأمريكية بقوارب استُخدمت في عمليات سرية ضدّ جيش فييتنام الشمالية؛ وهي القوارب التي حوّلها البنتاغون إلى ذريعة للقصف المكثف والتدخل العسكري المباشر. غير أنّ التجاهل، أو استخدام اللغة الخشبية المعتادة في التكذيب، لا يطمس تفصيلاً حاسماً يكتنف نشر تقرير هيرش؛ يرتدي هذه المرّة طابعاً قضائياً صرفاً، قياساً على سوابق قانونية تخصّ متهماً مثل جوليان أسانج، المدان والمحكوم بـ175 سنة سجناً لمخالفات أقل مما ارتكبه هيرش مراراً، أو في تقريره الأخير حول تخريب أنبوب «نورد ستريم» على وجه التحديد.
«لماذا يبقى هيرش مطلق السراح، إذن؟» هكذا يتساءل مراقبون كثر إذْ يرصدون حقيقة كبرى ساطعة تقول إنّ هيرش يتفوق على أسانج في انتهاك معلومات عالية السرّية، وأنه مطالَب بكشف مصادره الإخبارية التي يتوجب أن تُحاسب قانونياً أيضاً على غرار شيلسي ماننغ التي مرّرت الأسرار إلى أسانج وكان جزاؤها الإدانة والسجن 35 سنة. الإجابة بسيطة، كما يقترحها الكاتب الأمريكي ستيف براون مثلاً: لأنّ إحالة هيرش إلى القضاء تعني، أول ما تعنيه، أنه أماط اللثام عن الحقيقة؛ الأمر الذي لن يضع سوليفان وبلينكن ونولاند وحدهم في قفص الاتهام، بل سيجر رئيسهم بايدن نفسه لأنه بالتعريف كبيرهم الذي يعلم بالسحر أو يعلّمه. الحرج أكبر، على أصعدة دبلوماسية وشعبية، لدى الحليفة ألمانيا بادئ ذي بدء، لأنّ تعطيل أنبوب الغاز يُلحق الكثير من الأذى بالصناعات الألمانية؛ وهذه عاقبة وخيمة لن تقتصر على ألمانيا، بل ستعبر الحدود إلى حليفات مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا والدول الإسكندنافية، على مستوى الشعوب ذاتها قبل الحكومات التي لا يُستبعد تورّطها في المخطط.
بهذا المعنى فإنّ السؤال، «لماذا يبقى هيرش مطلق السراح؟» نافل قضائياً لأنه بالغ الحرج سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً؛ لكنه قائم، مشروع أو حتى ملحّ، إذا شاء المرء أن يضع مصداقية هيرش على محك ملموس، قاطع الأدلة وبيّن الوقائع.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

مرضى الحنين

إلى النيو – عثمانية

صبحي حديدي

ليس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولا «حزب العدالة والتنمية» وكوادره وقياداته، هم وحدهم دعاة استعادة الإمبراطورية العثمانية كما يسود اعتقاد شائع؛ تبسيطي من حيث المبدأ، ولكنه أيضاً يختزل ظاهرة اجتماعية وثقافية وشعورية تتجاوز بكثير عناصر الحميّة الدينية أو نوستالجيا الخلافة أو تغذية الفخار القومي. ولعلّ أفضل العلائم على تلمّس الجوهر الفعلي لهذه الظاهرة، في تجليات مختلفة وأشدّ عمقاً وإدهاشاً أحياناً، إنما تحيل إلى المخيّلة عبر أنماطها المختلفة، وخاصة بالطبع في ميادين الآداب والفنون من جانب أوّل؛ ثمّ لدى شرائح علمانية أو ليبرالية على وجه التحديد، داخل صفوف الأدباء والفنانين.
هذا هو موضوع كتاب «المتخيَّلات النيو – عثمانية في تركيا المعاصرة»، الذي أشرفت على تحريره كاتارينا رودفير وبيتيك أونور، وصدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات بالغريف/ ماكميلان في لندن؛ وضمّ 11 مساهمة تستكشف عشرات المظاهر ذات الصلة بحضور العثمانية الجديدة، في العمارة والفضاء العام ووسائل الإعلام والطقوس والأعياد والمناسبات والسياسة والذاكرة والمتاحف والنُصُب وأسماء الشوارع والساحات، فضلاً عن الشعر والرواية والمسرح والتشكيل والسينما والموسيقى… وكلّ هذا بعيداً، كثيراً أحياناً، عن السياسة المباشرة والصراعات الحزبية والانتماءات العقائدية، الأمر الذي لا يثير الدهشة في مستوى أوّل، فحسب؛ بل يحثّ على التأمل الثقافي للظاهرة وعلى الذهاب أبعد من المعطيات الجلية إلى العمق المبطّن أو الخفي من تفاعلاتها وتأثيراتها. وإذا صحّ أنّ «العدالة والتنمية»، والتيارات السياسية والفكرية المحافظة التركية إجمالاً، تأتي في طليعة أنصار الظاهرة النيو – عثمانية، فإنّ خلاصة كهذه لا تطمس إلا النزر اليسير من حقيقة الوجود الطاغي للظاهرة، في الميادين المشار إليها آنفاً؛ كافة، في الواقع.
على سبيل المثال، ليس جديداً (إلا عند المتشبثين باختزال الظاهرة وتبسيط مفاعيلها المتعددة) أنّ روائياً علمانياً وليبرالياً مثل أورهان باموق (نوبل الآداب، 2006) هو في طليعة المصابين بـ»حنين النيو – عثمانية»، رغم مواقفه المناهضة بقوّة لسياسات أردوغان وحزبه، وجسارته في تظهير التاريخ الدامي للإمبراطورية العثمانية والممارسات الأتاتوركية والمذابح بحقّ الأرمن واضطهاد الكرد. ويندر أن تخلو رواياته من ذلك التغنّي، الغنائي أحياناً وعلى خلاف نبرته الأسلوبية العامة، من تلك المشهدية التعددية التي رسخها العثمانيون على أصعدة إثنية ودينية ولغوية وثقافية، في اللباس والمطبخ كما في الموسيقى والعمارة. وسواء ذهب إلى أحياء إسطنبول الأقدم، أو توغل في نفوس متصوفة على تخوم المدينة الزاخرة، أو استبصر كتاباً أسود في أغوار قلعة بيضاء؛ فإنّ القواسم المشتركة عند باموق ترتدّ، دائماً، إلى التاريخ العثماني، أو الانفلات عنه، أو حضوره في تركيا الراهنة/ الشرق أوسطية، أو تمثيلاته في الثورة الثقافية الأتاتوركية.

وفي علم الاجتماع البسيط، فإنّ شيوع هذا المرض على نطاق اسع عابر للحساسيات والعقائد، متغاير في الزمان والمكان، موحِّد في كثير أو قليل بين أمثال باموق وشفق وبديع الزمان… يستوجب الكثير من الرصانة والتعمق والتأمل، واستبعاد الاختزال والقراءة الأحادية

وهل يُدهش المرء، في مثال ثانٍ، أن تكون ابنة بلده الروائية إليف شفق مصابة بمرض الحنين إياه؟ من الأيسر الذهاب في المثال الأول إلى روايتها «تلميذ المعماري»، 2015، التي تُبحر في قرن كامل من التاريخ العثماني، يبدأ من سنة 1540 وتتناوب على سردياته المتشابكة أجيال بعد أجيال من الأتراك، وهذه المفردة الأخيرة ذات دلالة خاصة وكبيرة في الرواية. ولا عجب في أنّ معظم النقّاد الأتراك لا يرون ضلالة، أو زيغاً أو سوأة، في هذا التوجّه الذي دأبت عليه شفق؛ بينما يذهب عدد غير قليل من الباحثين والنقاد الأوروبيين، من أهل الاختصاص في التاريخ العثماني تحديداً، إلى درجة اتهام الروائية التركية بـ»إشاعة يوتوبيا عثمانية»… ليس أقلّ! آخرون من هؤلاء قرأوا رواية «لقيطة إسطنبول»، 2006، بوصفها بحث شفق عن «فضاء نقيّ وآمن» للمجتمعات التي تدين بالولاء للروحية العثمانية؛ رغم أنّ زليخة بطلة الرواية شخصية متمردة ورافضة للتقاليد المحافظة، على خلاف أختها بانو المحجّبة والمتدينة.
وإلى جانب باموق وشفق، هنالك روايات أحمد رفيق ألتيناي (1880-1937)، التي لم تهبط شعبيتها قطّ لدى شرائح متنوعة من القراء الأتراك المصابين بالمرض إياه؛ رغم أنّ المجتمع التركي تجاوز الكثير من المواضعات والأعراف التي تشدد تلك الروايات على تبجيها وامتداحها، كما تحثّ على إحيائها. هنالك، أيضاً، الشاعر واسع الشعبية يحيى كمال بياث (1884-1958)، وزميله أحمد حمدي تانبينار (1901-1962)؛ وكلاهما لم يكتفِ بالحنين إلى الأحقاب العثمانية، بل غمز من قناة الأتاتوركية والجمهوريين والجمهورية. هذا إذا وضع المرء الأدباء والكتّاب جانباً، واستسأنس بمجموعة خاصة من دعاة العثمانية الجديدة، تألفت عموماً من متصوفة أقاموا صلات وثيقة مع طرائق صوفية مشرقية نافذة مثل النقشبندية والرفاعية، ثمّ حركة تجديد التصوّف التي قادها بديع الزمان سعيد نورسي الكردي (1877-1960).
وفي علم الاجتماع البسيط، فإنّ شيوع هذا «المرض»، إذْ تستوجب الأمانة العلمية حصر المفردة ضمن أهلّة، على نطاق اسع عابر للحساسيات والعقائد، متغاير في الزمان والمكان، موحِّد في كثير أو قليل بين أمثال باموق وشفق وبديع الزمان… يستوجب الكثير من الرصانة والتعمق والتأمل، واستبعاد الاختزال والقراءة الأحادية. هذا، الشطر الأوّل من المعادلة الآنفة، هو ما يجهد المشاركون في كتاب «المتخيَّلات النيو – عثمانية في تركيا المعاصرة» لتبيانه ورصده وتحليله؛ بما ينتهي إلى خلاصات لامعة، علمية وملموسة ومهتدية بنُظُم تحليل متقدمة، تتكفل بإحالة الشطر الثاني من المعادلة إلى سلال مهملات التسطيح.

 

 

)عدم الانحياز(:

انعدام الصلة بين التسمية والمسمى

صبحي حديدي

 

قد لا يُلام امرؤ يفرك عينيه تعجباً، أو على سبيل التيقّن، حين يقرأ خبراً عن اجتماعات تخصّ حركة عدم الانحياز؛ تُعقد على مستوى الوفود في باريس، حيث مقرّ منظمة اليونسكو؛ أو على مستوى القمّة في أذربيجان أو أوغندا، وقبلها في فنزويلا وإيران ومصر وكوبا وماليزيا وجنوب أفريقيا. عدم انحياز في هذه الأزمنة؟ للمرء إياه أن يتساءل، الآن حين يمرّ عام على الاجتياح الروسي في أوكرانيا، وتمرّ ساعات على الاحتشاد الأمريكي والأطلسي هنا وهناك، ويعلّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توقيع موسكو على اتفاقية «ستارت الجديدة»…؟
وبين خداع العالم أو مخادعة الذات أو مزج أكذوبة مفضوحة الأركان بدعابة ثقيلة الدم، ثمة طراز مضحك/ مبكٍ من التشبث بفكرة شبعت انحساراً واحتضاراً، وموتاً بطيئاً في جوانب عديدة؛ لكنّ المتشبثين ليسوا البتة على استعداد لتشييع ما تبقى منها إلى مقابر التاريخ، اتكاءً على مبدأ عتيق يقول إنّ إكرام الميت دفنه. القمم ذاتها لم تعد تُعقد سنوياً، بل على سبيل المناسبات المواتية، كما في قمة أذربيجان الـ18، أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي خرجت بتوصيات تخاطب مواضعات عالم مضى وانقضى. وحين خاطب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف وفود 20 بلداً وممثلي نحو 160 منظمة وكياناً، لم تنحصر المفارقة في أنّ بلده منحاز إلى روسيا من الرأس حتى أخمص القدمين، فحسب؛ بل كذلك في مشاركة كوريا الشمالية، إلى جانب أفغانستان وإيران والبوسنة والهرسك و… سويسرا!
وكي يستقرّ المرء على بلد عربي، كان مفاجئاً أن تستذكر الجزائر وجود حركة عدم الانحياز، في سنة 2014، فتقيم لها أشغال ندوة وزارية حضرها 60 وزير خارجية، وعدد من مسؤولي المنظمات الدولية والإقليمية؛ بعد أن كانت الجزائر، ذاتها، قد احتضنت قمة الحركة الرابعة، سنة 1973. يومها قال البيان الرسمي إنّ تلك الأشغال هدفت إلى «العمل سوياً من أجل الوصول إلى أرضية تفاهم شاملة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك بما فيها مسائل التنمية التي تشكل هاجسا لجميع دول العالم النامي، وقضايا الأمن والإرهاب العابر للأوطان». القمة الـ15، في شرم الشيخ 2009، شددت على أنّ الانعقاد في مصر تحديداً يكتسب أهميته «ليس فقط من حجم المشاركة الكبير، ومستوى التمثيل المتميز فيها، أو من طبيعة الظروف الدولية الاستثنائية، والتطورات الراهنة التي يشهدها العالم، وفى مقدمتها الأزمة المالية العالمية» و«إنما أيضاً من مكان انعقادها بما لمصر من دور محوري في مسيرة حركة عدم الانحياز».

انطوى تاريخ الحركة على تجاور عجيب بين زعماء أنظمة دكتاتورية استبدادية (من الأندونيسي سوهارتو، إلى السوري حافظ الأسد، مروراً بأمثال عيدي أمين وجعفر النميري…) مع زعماء من طراز نلسون مانديلا وياسر عرفات

وأن تكون الحركة أقرب إلى جثة هامدة أمر لا يبدّل حقيقة أنها تعدّ في عضويتها 120 دولة، و17 دولة مراقبة، و11 منظمة عالمية، بما يجعلها التكتل الدولي الأكبر بعد منظمة الأمم المتحدة؛ كما لا يلطّف حقيقة موازية تشير إلى أنّ الجوهر لم يعد يخصّ هذه التفاصيل، بل صار يدور حول مصير الحركة ذاتها، وما إذا كان الاسم لايزال ينطبق على المسمّى أساساً، أو يعبّر عن واقع حال فعلي. ففي سنة 1961 كان الزعيم الهندي جواهر لال نهرو قد نحت هذه العبارة العجيبة، «عدم الانحياز» وأراد منها ثلاثة أغراض: التحرّر من ربقة الاستعمار، بمختلف أشكاله القديمة والحديثة؛ وتخفيف حدّة التوتر الدولي بين القطبين ــ المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي؛ وتحقيق التنمية الاقتصادية لبلدان العالم الثالث، بوصفها البلدان التي تمثّل الكتلة الطبيعية لمفهوم عدم الانحياز.
وكان لافتاً أن تتحوّل هذه المبادئ إلى «فلسفة» في العلاقات الدولية، هيمنت على مؤتمر باندونغ (أندونيسيا، 1955) للدول الآسيوية والأفريقية، ولم يعتمدها بعض أبرز زعماء هذه الدول (نهرو، جمال عبد الناصر، كوامي نكروما) فحسب؛ بل انضمّ إليهم اليوغسلافي جوزف بروز تيتو، زعيم دولة كان يصعب اعتبارها غير منحازة، أياً كانت مشكلاتها العقائدية أو السياسية مع المعسكر الاشتراكي. ليس هذا فقط، بل انطوى تاريخ الحركة اللاحق على تجاور عجيب بين زعماء أنظمة دكتاتورية استبدادية (من الأندونيسي سوهارتو، إلى السوري حافظ الأسد، مروراً بأمثال عيدي أمين وجعفر النميري…) مع زعماء من طراز نلسون مانديلا وياسر عرفات.
غير أنّ «الفلسفة» حملت الكثير من مبررات وجودها، في سياقات اشتداد الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وانقلاب مفهوم الاستقطاب إلى ما يشبه الخيار القسري، في الاقتصاد والأمن أسوة بالسياسة والاجتماع. ثمّ استقرت، وإنْ في المستوى اللفظي وحده طيلة عقود، على سلسلة من «المطالب» العامة التي يظلّ الاتكاء عليها تذكرة نافعة، محدودة الجدوى. بينها احترام حقوق الإنسان، وإقرار المساواة بين الأعراق والأمم، واحترام حقّ الأمم في الدفاع عن النفس عند تعرّضها للعدوان، والامتناع عن التهديد بالعدوان واستخدام القوّة، وحلّ النزاعات الدولية بطرق سلمية… وفي ضوء الانتهاك المتعاقب لهذه المبادئ، كلّها، كلّ يوم تقريباً، بات واضحاً أنّ مفهوم «عدم الانحياز» اغترب عن محتواه الدلالي، وصارت مؤتمرات الحركة محض لقاءات فاقدة للمعنى؛ خاصة حين يتواصل فيها التجاور بين دولة مثل إيران، تنحاز عسكرياً لصالح نظام وراثي استبدادي في سوريا؛ أو أخرى مثل بورما (ميانمار) أو كوريا الشمالية، حيث لا تنحاز الأنظمة إلا ضدّ الشعوب؛ وثالثة مثل أفغانستان، كانت لا تزال تحت احتلال أمريكي وأطلسي، وتُصنّف غير منحازة!
ومن نافل القول إنّ أيّ اجتماع للحركة، حتى على مستوى وزراء الخارجية، لن يخرج عن واقعة شاذة ضمن مشهد عالمي يهيمن عليه طراز واحد من الانحياز، بمعنى المصطلح القديم بين واشنطن وموسكو، وفي مستويات القطبية الأحادية أو القليل من الاستقطابات الفرعية؛ وهذه، كما لا يخفى، ذروة الشكلانية الجوفاء في إدارة مؤسسات دولية انقلبت إلى ما يشبه الميراث التاريخي الصرف، ولم تلفظ أنفاسها بعد لأسباب تتصل جوهرياً بالنفاق السياسي والديكور التجميلي. وذات يوم، سنة 1998، شاءت المفارقة، القاسية تماماً ولكن التعليمية المفيدة بالقدر ذاته، أن تنعقد قمّتان في فترة زمنية واحدة: القمّة الأمريكية ــ الروسية، والقمّة الـ 12 لدول عدم الانحياز؛ فكان الفارق صارخاً بالطبع، ولم تكن اعتبارات الجغرافيا والمسافات الشاسعة هي وحدها التي فصلت بين موسكو ودوربان في جنوب أفريقيا. كان ثمة اعتبارات أخرى جوهرية تخصّ الموقع والدور والوظيفة الذي تشغله القمّتان في نظام العلاقات الدولية، وكان ثمة الكثير الذي يدور حول التاريخ والاقتصاد والسياسة والثقافة والديموغرافيا، أو كلّ ما يُبقي الشمال شمالاً والجنوب جنوباً، باختصار كلاسيكي.
وذاك الذي، في السطور الأولى أعلاه، فرك عينيه تعجباً يحقّ له أن يضيف سلسلة أسئلة ذات وجاهة: عدم انحياز، بين مَنْ ومَنْ؟ لصالح مَنْ بالضبط (إذْ ينبغي أن يكون هنالك ذلك الفريق الثالث الذي يصبّ موقف عدم الانحياز لصالحه) وأين؟ خطوة آمنة أولى هي حصر المصطلح بين مزدوجات، بحيث تكون له مساحة دلالية مفتوحة بعض الشيء، سواء لجهة التأويل أو لجهة الالتباس: إنه مصطلح، مثله مثل سواه من مصطلحات فقدت الكثير من مخزونها الدلالي هذه الأيام، من دون أن تنقرض أو تُسحب تماماً من التداول. خطوة تالية هي وضع الفكرة بأسرها جانباً، ليس لأنها باتت نافلة مُماتة فقط، بل أساساً لأن كتلة الدول الأعضاء منحازة شاءت أم أبَت، ومنحازة بحكم ما يُناط بها من وظائف ضمن التقاسم الدقيق للأدوار الإجمالية في نظام العلاقات الدولية.
تسمياته الأخرى متوفرة بالطبع، على غرار «حوار الشمال والجنوب» من باب الكياسة، و«حوار الأغنياء والفقراء» من باب تسمية الأشياء بمسمّياتها الفعلية.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

)ساعة القيامة( بين الكارثة

النووية وغنائيات البنتاغون

صبحي حديدي

 

«ساعة القيامة» في تعريفها الموسوعي المبسط والشائع دولياً، هي أداة توقيت رمزية ترصد دنوّ الكوارث الكبرى التي من صنع أيدي البشر، على غرار اندلاع حرب نووية لا تُبقي ولا تذر مثلاً؛ وهي، منذ أن ابتدعها في سنة 1947 أعضاء «نشرة العلماء النوويين» جهاز مجازي يحدد عدد الدقائق أو الثواني التي تفصل البشرية عن منتصف ليل الكارثة/ القيامة، وذلك في كانون الثاني (يناير) من كلّ عام. وكما هو معروف، كانت الساعة تلك قد تعدلت 17 مرّة ضمن معدلات زمنية أقلّ أو أكثر، كانت القيمة الأبعد فيها 17 دقيقة سنة 1991، والأدنى (التي أُعلن عنها يوم 24 كانون الثاني/ يناير هذه السنة) كانت 90 ثانية قبل منتصف الليل.
الحكاية ليست لعبة، بالطبع، والمؤكد أنها ليست وسيلة ترهيب وردع على المستوى الشعوري في أقلّ تقدير؛ وزائر موقع «نشرة العلماء النوويين» على الإنترنت سوف يجد الكثير من المعطيات الجادّة، الملموسة الموثقة أوّلاً، والخطيرة المفزعة استطراداً. والسادة العلماء يسوقون عدداً من العوامل الكونية التي دفعتهم إلى تقصير أجل «القيامة النووية» إلى 90 ثانية فقط، على رأسها الحرب في أوكرانيا واحتمالات تصعيد المواجهة العسكرية الروسية ـ الأمريكية، أو الروسية ـ الأطلسية، وكذلك التهديدات المتزايدة الناجمة عن أزمة المناخ، والانكسار التدريجي للنُظم العالمية التي تحتاج إليها الإنسانية من أجل ضبط انفجارات التطور التكنولوجي والأخطار البيولوجية على شاكلة كوفيد ـ 19. راشيل برونسون، الرئيسة والمديرة التنفيذية للمعهد الذي يصدر النشرة، لا تتردد في التصريح هكذا: «نحن نعيش في زمن من الخطر غير المسبوق، وتوقيت ساعة القيامة يعكس الواقع الفعلي. 90 ثانية نحو منتصف ليل القيامة هو الأقصر الذي بلغته الساعة، وهذا قرار لا يحمله علماؤنا على محمل الخفّة».
ربما على محمل الجدّ الأقصى، بالفعل، غير أنّ المرء لن يجد عناء في تلمّس «خفّة» من طراز مختلف لا يعتمد ساعة منبّه من أيّ نوع، بل لعله لا يكترث كثيراً بالرمز أو المجاز في تحذير المعمورة من الانزلاق المضطرد نحو الكارثة؛ وهذا إذا اختار المرء وضع نبوءات «نشرة العلماء النوويين» جانباً، وذهب إلى أرلنغتون، ولاية فرجينيا، حيث مقرّ البنتاغون، وزيارة الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكية على الإنترنت، وتصفّح بعض تفاصيل التقرير المسمّى «ستراتيجة الدفاع الوطني» لأيّ سنة يشاء، ولكن 2008 على وجه الخصوص. ولسوف يقرأ، في المستهلّ، مقدّمة جيو – سياسية تتغنّى بـ 230 سنة قضتها القوّات العسكرية الأمريكية وهي تلعب دور الحصن المنيع المدافع عن الحرّية والفرصة والرخاء داخلياً، ودور المساند الأقوى للراغبين في حياة أفضل على نطاق العالم بأسره؛ حين كانت أمريكا هي «النبراس المضيء في الأماكن المظلمة». كذلك سوف يجد فصولاً لاحقة، تتحدّث عن البيئة الستراتيجية، والإطار الستراتيجي، والأغراض الستراتيجية، وإمكانات الوزارة ووسائلها، وإدارة الأخطار…

زائر موقع «نشرة العلماء النوويين» على الإنترنت سوف يجد الكثير من المعطيات الجادّة، الملموسة الموثقة أوّلاً، والخطيرة المفزعة استطراداً. والسادة العلماء يسوقون عدداً من العوامل الكونية التي دفعتهم إلى تقصير أجل «القيامة النووية» إلى 90 ثانية فقط

والحال أنّ قارئ التقرير يمكن أن يخرج بانطباع يفيد بأنّ العالم في عقيدة البنتاغون لم يتغيّر كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانهيار نظام القطبين وأفول الحرب الباردة، حتى لتبدو الصورة وكأنّ الإنسانية لم تغادر العام 1988 إلا زمنياً فقط، وليس جيو ـ سياسياً أو جيو ـ عسكرياً. عالم واحد ثابت، وإلى الجحيم بأيّ وجميع المتغيرات والهزّات والانقلابات، دولية كانت أم إقليمية، داخلية أمريكية أم خارجية كونية، إيديولوجية أم سياسية أم ثقافية… وبالمعنى العسكري، وهو ميدان البنتاغون وعلّة وجوده، العالم كما هو في اعتبارات شتى مركزية، لأنه ببساطة (أي: بتبسيط عن سابق قصد وتصميم) صورة طبق الأصل عن الحال ذاتها التي اقتضت، قبل أعوام وعقود، إعداد سيناريوهات تعبوية وقتالية ولوجستية لمواجهة… حلف وارسو!
مثير، أيضاً، مقدار التشابه بين التقارير السنوية وتلك التي اعتادت الوزارة رفعها إلى الكونغرس كلّ أربع سنوات، وتأخذ صفة البرنامج العقائدي والعسكري والتكنولوجي والإداري والمالي طيلة السنوات الأربع اللاحقة. ومن المعروف أنّ عقود الحرب الباردة جعلت تحرير مثل هذه التقارير مسألة روتينية للغاية، لأنّ العقيدة لم تكن تتغير في قليل أو كثير ما دام الخصم على حاله، وما من حكمة تبرر تجميد هذا الخطّ أو ذاك في الصناعات العسكرية، بل الحكمة كلّ الحكمة في تطوير أجيال الأسلحة وفق مبدأ هنري كيسنجر الشهير: لا تتوقفوا عن تطوير الأسلحة، وسيضطرّ الشيوعيون إلى اللحاق بنا، حتى يأتي يوم تفتح فيه السيدة الروسية الثلاجة فلا تجد سوى الجليد والرفوف الخاوية. سيدة تلك الأيام، السوفييتية كما يصحّ التذكير، ليست هي ذاتها سيدة روسيا فلاديمير بوتين غنيّ عن القول؛ وهي، أيضاً، ليست ابنة عمّ السيدة الأوكرانية أو الجورجية أو مواطنة روسيا البيضاء وجزيرة القرم…
على مستوى العقيدة العسكرية كانت الرؤية الدفاعية، وتحديداً في عهد رونالد ريغان وطور «حرب النجوم» قد نهضت على مفهومين ستراتيجيين:
– أشكال التعامل مع النزاع الخفيف
Low Intensity Conflict أو LIC، والذي لقي اهتماماً محدوداً في السبعينيات إثر هزيمة فييتنام، لكنه اكتسب حيوية خاصة في مطلع الثمانينيات مع إحياء اهتمام البيت الأبيض بالعالم الثالث. ريغان، من جانبه، ارتقى بالمفهوم ليعطيه أولوية عسكرية في ولايته الثانية، حين انتقل اهتمام الإدارة من سباق التسلح النووي إلى التسابق على اجتذاب أنظمة الجنوب، خصوصاً تلك التي كانت موالية للاتحاد السوفييتي.
– أشكال التعامل مع النزاع المتوسط
Mid-Intensity Conflict أو MIC، وهو القتال الذي تخوضه القوات الأمريكية ضدّ قوى كبرى في العالم الثالث. وإذا كان الـ LIC مخصصاً لمواجهة ضروب حرب العصابات والجيوش الصغيرة المحدودة (كما في مثال باناما) فإن الـ MIC مخصص لحرب واسعة النطاق تشترك فيها قوّات وصنوف وأنظمة قتالية عالية المستوى والتدريب والتسليح (كما في مثال العراق، ذات حقبة سابقة).
في القسم التمهيدي الذي يحمل عنوان «البيئة الأمنية العالمية» ظلت تقارير البنتاغون تقول: «مع اقتراب القرن الحادي والعشرين تواجه الولايات المتحدة مناخاً أمنياً ديناميكياً وغير مضمون، حافلاً بالفرص مثل التحديات. ففي الجانب الإيجابي نحن في طور الفرصة الستراتيجية. لقد تراجع خطر الحرب الكونية، وقيمنا في الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق يتمّ اعتناقها في العديد من أطراف العالم، الأمر الذي يخلق فرصاً جديدة من أجل السلام والرخاء وتوطيد التعاون بين الشعوب. ودينامية الاقتصاد العالمي تتسبب في تبدّل التجارة، والثقافة، والتفاعلات المتبادلة على نطاق عالمي. وإنّ تحالفاتنا، مع الناتو واليابان وكوريا، تتأقلم بنجاح مع التحديات الراهنة، وتؤمّن الأساس لبناء عالم مستقر ورغيد (…) ومع ذلك فإنّ العالم يظلّ مكاناً بالغ الخطورة وغير مضمون، ومن المرجح أن تواجه الولايات المتحدة عدداً من التحديات الهامة لأمنها ومصالحها».
هذه، غنيّ عن القول، غنائيات مستعادة متكررة متماثلة لم يتوقف البنتاغون عن إعادة استنساخها، سواء كان قيصر روسيا المعاصر جالساً على مبعدة بوصة واحدة من أزرار إطلاق القنبلة النووية؛ أو كان يلقي خطاباً في مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007، ينطوي على هجاء مقذع لأحادية القطب الأمريكية؛ أو في صيغة وسيطة قبلها، سنة 1994، حين انضمت موسكو إلى برنامج «الشراكة من أجل السلام» ووقعت سلسلة اتفاقيات مه الحلف الأطلسي. الأكيد، إلى هذا وذاك، أنّ ثواني ساعة القيامة التي تقف اليوم عند 90 ثانية من منتصف ليل الكارثة، ليست البتة شريكة في توافق من أيّ طراز مع غنائيات البنتاغون.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

حصة سوريا من الزلازل:

تجارة الإشفاق وذرائع الأجندات

صبحي حديدي

 

قبل أن يتكفل الزلزال الأخير بالقضاء على 3162 سورياً وإصابة 5685 حتى ساعة تحرير هذه السطور، في مختلف المناطق المنكوبة من سوريا؛ كانت أرقام أخرى تنطق عن الشقاء السوري غير الناجم عن الكوارث الطبيعية، تحت نير 53 سنة من نظام الاستبداد والفساد الذي أقامه آل الأسد، بينها 12 سنة من إشراف الوريث بشار الأسد على قمع الانتفاضة الشعبية عن طريق إزهاق أرواح مئات الآلاف، وتشريد الملايين، واعتماد خيارات الأرض المحروقة والتدمير الشامل والتطهير المناطقي، وتسليم البلاد إلى خمسة احتلالات، فضلاً عن عشرات الميليشيات المذهبية ومفارز المرتزقة.
إحصائيات الأمم المتحدة كانت تقول إنّ 70٪ من سكان سوريا هم في حاجة فعلية إلى العون بمختلف أشكاله، غذائياً وصحياً وإنسانياً؛ و«برنامج الغذاء العالمي» يكمل مشهد البؤس بالتحذير من أنّ الجوع بلغ معدلات قصوى لا أمثلة عليها في تاريخ سوريا، مع 2.9 مليون نسمة يقتربون من حافة المجاعة، و12 مليون لا يعرفون متى سيحصل أيّ منهم على وجبة طعام مقبلة. مكاتب أخرى أممية تشير إلى أنّ 90٪ من سكان سوريا الـ18 مليون نسمة يعيشون في حال من الفقر، ومعاناة الأوبئة والأمراض المتفشية ونقص الأدوية؛ وأمّا العملة الوطنية، التي كانت قبل 2011 سنة الانتفاضة تُصرف بـ50 ليرة أمام الدولار الأمريكي، فإنها قبيل الزلزال الأخير تُصرف بأكثر من 7.000…
الزلازل لم تفرّق، بالطبع، بين مناطق تحت سيطرة «المعارضة» أياً كانت إفادة هذه المفردة بين ميليشيات جهادية وحكومات إنقاذ كرتونية وائتلافات ومجالس وهيئات ومؤسسات صادقة النوايا أو كاذبة فاسدة ناهبة؛ ومناطق تابعة للنظام، أو تديرها بالشراكة معه جيوش محتلة، وميليشيات محلية أو خارجية تابعة، وعصابات نهب وتهريب وقرصنة وكبتاغون. واكتوى بلهيب الزلازل مواطنون من جنديريس وحارم والقامشلي، مع أبناء بلدهم في شمال حلب وجبلة وريف حماة، وحُرموا استطراداً من موجات الإشفاق العالمية التي تعالت واصطخبت؛ تارة لأنّ النظام مصرّ على تمرير المعونات عبر طرقاته ومعابره السيادية (أي تلك الكفيلة بإتاحة النهب المباشر وتحويل المساعدات إلى خزائن مافيات النظام) وتارة أخرى لأنّ السلطات التركية منشغلة بحصتها من الكارثة ولشعبها ومناطقها أولوية غير قابلة للتجزئة. الإنسانية من جانبها، وهي هنا ذلك الخليط العجيب من «العالم الحرّ» و«المجتمع الدولي» وعشرات المنظمات غير الحكومية، تعلن النوايا الأحسن وتعرب عن الاستعداد التامّ لتقديم العون، مكتوفة الأيدي أو تكاد إزاء وضع «قانوني» عالق في معبر مفتوح مثل باب الهوى، أو في معابر أخرى يُنتظر أن تفتح أبوابها معجزةٌ ما!
وفي المقابل لا يعدم الضحايا السوريون، أينما وقعت مآسيهم في كلّ شبر من سوريا الواحدة، جبهات نفاق وسوء استغلال وتشويه لا تضاعف الآلام والعذابات فحسب، بل تضيف الإهانة المباشرة على الجراح النازفة؛ كما حين تصحو من سبات عميق تلك الحملة الكاذبة الزائفة التي تطالب بـ«رفع الحصار عن سوريا» بينما المقصود الوحيد هو فكّ الخناق عن مافيات النظام وعصابات الكبتاغون. وسواء اتفق المرء مع العقوبات الاقتصادية الدولية عموماً والأمريكية منها خصوصاً، أو كان مناهضاً لها (كما هي حال هذه السطور) بسبب أنها لا تؤذي الأنظمة بمقدار إيذاء الشعوب والشرائح الأكثر فقراً ومعاناة؛ فإنّ جملة الحقائق الصلبة التي تتصل بالعقوبات الراهنة المفروضة على النظام السوري تؤكد أنها لا تحول، البتة، دون إيصال المساعدات الإنسانية، والغذائية والطبية منها على وجه الخصوص.

التعاطف العالمي مع المناطق المنكوبة في سوريا وتركيا ظاهر بالطبع، والكثير منه صادق ربما؛ ما يخفى، في المقابل، هو ذلك النهج الذي يُخضع الاتجار بالشفقة إلى اعتبارات خدمة الأجندات المبطنة، على اختلاف ذرائعها وأغراضها

والضحايا أنفسهم لن يعدموا جوقة عداء صاخبة، لا تتورع عن اللجوء إلى أقصى مستويات البذاءة، في تأثيم متطوّعي «الخوذ البيضاء» الذين ينشغل نحو 3000 منهم في أعمال الإغاثة والإنقاذ وانتشال الأحياء والجثث من تحت الأنقاض؛ وقد أنجزوا في السنوات العشر الأخيرة، ويواصلون اليوم إنجاز، الكثير من المهامّ الصعبة أو شبه المستحيلة في مناطق الشمال الشرقي من سوريا، تحت قصف مدفعية النظام وراجماته وحواماته وبراميله المتفجرة، وبمشاركة مباشرة من القاذفات الروسية. فإمّا أن يتهمهم «علماني» مزيف منافق بتمرير أجندات «إسلاموية» وفي هذا وقاحة صارخة لا حدود للسخافة فيها؛ أو أن يعيّرهم «ممانع» لا يقلّ زيفاً ونفاقاً، بأنهم ليسوا سوى استطالة للاستخبارات التركية.
وإذْ يصغي المرء إلى نيد برايس، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، وهو يشدد بإباء على أنّ الإدارة في ملفّ المعونات لن تتعامل مع النظام السوري الذي ارتكب الفظائع بحقّ الشعب السوري؛ فإنّ المرء ذاته لن يسمع من برايس مفردة واحدة تفيد بأنّ قسطاً من المعدات والمساعدات والأموال سوف يصل إلى أيّ من أولئك الـ3000 الذين يصارعون الزلازل ويسابقون الزمن في المناطق المنكوبة. وبالطبع، يندر لدى لائمي «الخوذ البيضاء» التوقف عند حقيقة أولى كبرى تقول إنهم، حتى إشعار آخر، وحدهم في ميادين الإغاثة تلك؛ وحقيقة أخرى تفيد بأنّ نحو 252 من متطوّعيهم استُشهدوا حتى الساعة، فوق الأنقاض أو تحتها.
وكما يحدث في كلّ مأساة من طراز مماثل لما شهدته مناطق تركية وسورية مؤخراً، يصحّ للمرء أن يتذكر تلك الإحصائية الطريفة السوداء التي اقترحها أحد الأذكياء، الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، ذات كارثة غير بعيدة: ساعة وقوع زلزال تسونامي في المحيط الهندي سنة 2004، كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد دخل في يومه الـ 656، وكانت واشنطن قد أنفقت حتى ذاك التاريخ قرابة 148 مليار دولار في تغطية نفقاته؛ وهذا عنى أنّ المبلغ الذي تبرّعت به واشنطن لإغاثة منكوبي جنوب شرق آسيا كان يعادل يوماً ونصف يوم فقط من مصروفات أمريكا! فوق هذا، جدير بالاستذكار مؤشر آخر كان يقول إنّ أرقام المساعدات الخارجية الأمريكية لا تُقارن البتة بما تنفقه واشنطن لخلق المزيد من، أو إدامة وتوسيع نطاق، عذابات الشعوب: إنها تقدّم سنوياً قرابة 16 مليار دولار (بينها ثلاثة مليارات لدولة الاحتلال الإسرائيلي وحدها!) تعادل تُسع إنفاق واشنطن في هذه السُبُل.
وذات يوم أيضاً، على سيرة التسابق المحموم لإغاثة مرابع تسونامي، كان لا بدّ لجهة ما أن تغرّد خارج سرب تماثل وتشابه وتوحّد حتى تسبّب في تشويش الآدمي طيّب القلب حسن النيّة، أو لعلّ الأحرى القول إنّ نغمة نشازاً مدروسة وهادفة كانت جديرة بأن تردّ الأمور إلى بعض نصابها. وهكذا صدر عن منظمة «أطباء بلا حدود» الفرنسية الدولية إعلان إلى الرأي العام يخرج عن الإجماع حقاً، لأنه قال ما معناه: لكم جزيل الشكر! لقد وصلتنا منكم تبرّعات سخيّة تكفي بل تزيد عن حاجة برنامجنا المخصص لإغاثة منكوبي تسونامي، وبذلك نرجوكم التوقف عن التبرّع لهذا البرنامج، وتحويل سخائكم إلى برامج مناطق أخرى من العالم ليست نكباتها الإنسانية أقلّ مأساوية وحاجة! كان الإعلان مفاجئاً بالطبع، وبعض الرأي السطحي بصدده سار هكذا: هل يعقل أن تطالب منظمة إنسانية بالتوقف عن التبرّع؟ والحال أنّ ذلك الطلب لم يكن يعقل إلا من منظمة نزيهة وعادلة في نظرتها إلى الكوارث الإنسانية، تقول ببساطة إنها تريد من الجمهور أن يواصل التبرّع، ولكن ليس إلى نكبة تلقّت أكثر ممّا تحتاج، بل إلى برامج إغاثة أخرى في حاجة ماسّة إلى التمويل.
والتعاطف العالمي مع المناطق المنكوبة في سوريا وتركيا ظاهر بالطبع، والكثير منه صادق ربما؛ ما يخفى، في المقابل، هو ذلك النهج الذي يُخضع الاتجار بالشفقة إلى اعتبارات خدمة الأجندات المبطنة، على اختلاف ذرائعها وأغراضها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

غروسمان

ورواية ستالينغراد الكبرى

صبحي حديدي

 

 

الآن وقد مرّت الذكرى الـ80 للانتصار السوفييتي في معركة ستالينغراد (1,5 إلى 2 مليون قتيل، وأكثر معارك الحروب دموية على امتداد التاريخ)؛ للمرء أن يقلّب الرأي في نوعية القراءات الواجبة، على سبيل استذكار واقعة لم تكن عادية، ولم تخلّف في التاريخ الإنساني الحديث خدوشاً عابرة أو قابلة للنسيان. العودة إلى كتابات تمزج التاريخ العسكري بالذاكرة البشرية، على سبيل استقراء «النصّ الدفين» لأبناء المدينة، ما دُوّن قليله أو اندثر كثيره، خلال زهاء ستة أشهر من الحصار والقتال والقصف والأهوال؛ اقتداء بمصائر تلك النصوص التي اقترنت بحصار طروادة مثلاً، وقصائد شعرائها التي كُتبت وضاعت وظلّ محمود درويش ممسوساً بفكرة العثور عليها وقراءتها. في خيار آخر، يمكن للمرء أن يعود إلى مشاهدة بعض أفضل نماذج أفلام الحرب السوفييتية، فلاديمير بيتروف مثلاً، أو يوري أوزيروف، أو حتى شريط ألكساندر إيفانوف الذي يتلمّس عواطف عشاق المدينة من نساء ورجال. خيار ثالث، ليس أقلّ إمتاعاً ومؤانسة وتكريماً أيضاً، قد يتمثل في استقراء عشرات، وربما مئات، اللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية والمنحوتات والتماثيل والجداريات، التي خلّدت المعركة ورصدت مصائر البشر والحجر.
أو، كما اختارت هذه السطور، العودة إلى الكاتب والصحافي والروائي السوفييتي فاسيلي سيمينوفتش غروسمان (1905-1964)، الذي كتب المدوّنات الأفضل عن حصار موسكو وكرسك وبرلين، فضلاً عن تقاريره التي غطّت حصار ستالينغراد وانتصارها؛ ثمّ درّة أعماله، الرواية الضخمة التي حملت عنوان «الحياة والمصير» وامتدّت على ثلاثة أجزاء (بلغت 1550 صفحة في الترجمة العربية التي أنجزها ثائر زين الدين وفريد الشحف، وصدرت سنة 2021 عن دار سؤال في بيروت). ومن الجدير بالإشارة، هنا، أنّ قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وعلى رأسها نيكيتا خروتشوف ذاته، ومن خلفه المخابرات السوفييتية وأجهزة اتحاد الكتّاب ورهط الدوغما العقائدية والجمود الفكري والأدبي، لم يطربها عمل غروسمان وأخضعته مراراً للرقابة والمنع والتنكيل. ومن مفارقات التاريخ، الساخرة والمريرة في آن، أنّ غروسمان أوكراني المحتد؛ والأرجح أنّ مواطنيه يعيدون قراءته اليوم على أضواء الشموع، تحت الحصار، وكأنّ ستالينغراد التي أبدع في تصويرها قفزت مشاهدها من سنة 1952 إلى سنة 2023!

في العودة إلى الذكرى الـ80 لانتصار ستالينغراد على هتلر وموسوليني والرايخ الثالث والنازية والفاشية، معاً، قد تكون أردأ الخيارات تلك التي تستقرّ على قراءة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يستذكر الواقعة عن طريق قرع طبول الحرب الباردة والنووية

هنا فقرة من ختام الرواية، في ترجمة زين الدين والشحف: «ولكن في برد الغابة، كان يحسّ بالربيع متوتراً، أكثر منه في السهل المضاء بالشمس. كان في صمت هذه الغابة حزن أكبر من صمت الخريف. سُمعت في بكمها الأخرس صرخة نواح على الموتى وفرحة الحياة الغاضبة. لا يزال ثمة برد وظلام، لكن قريباً جداً ستُفتح الأبواب على مصراعيها، وسيعود البيت المهجور إلى الحياة، ويمتلئ بضحك الأطفال وبكائهم، وستُسمع خطوات الإناث اللطيفة المستعجلة، وسيتجول في البيت صاحبه الواثق. وقفا وهما يحملان محافظ الخبز، وصمتا». وفي هذه اللغة، وتلك المناخات الطبيعية والشعورية، كانت أساليب تشيخوف وغوغول وليرمنتوف تتقاطع وتتصارع، في خلاصات أقرب إلى مزيج تصنعه مطحنة، منه إلى عصارة يقذفها أتون. وكان لقب «تولستوي السوفييتي» يعتمل في النفوس، ولكن ندر أنه تردد على الألسن بالنظر إلى البغضاء الصريحة التي أعلنها أندريه جدانوف (مفوّض ستالين في الرقابة على الآداب والفنون) ضدّ غروسمان وأقرانه.
لقد ابتدأ جدانوف من الأشهر، الشاعرة الكبيرة أنا أخماتوفا، فاعتبرها مجرد «فضلات من الثقافة الأرستقراطية القديمة»، وعمل على طردها من اتحاد الكتّاب، ولم يتورّع عن توصيفها بـ» نصف عاهرة، نصف راهبة، أو بالأحرى عاهرة/ راهبة»؛ وكان القصد هو التلويح بالهراوة الغليظة في وجوه الآخرين، إذْ كان الإجهاز على أخماتوفا بمثابة محرقة تنتظر سواها. ولم يكن غريباً أنّ ميخائيل سوسلوف شخصياً، وكان في سنة 1947 رئيس «دائرة التحريض والبروباغندا» في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، راجع بنفسه مخطوط عمل غروسمان المعنون «الكتاب الأسود»، ووجّه بعدم صلاحيته للنشر. لا غرابة، كذلك، في أنّ صداقة حميمة نشأت بين غروسمان ومواطنه الأوكراني الكاتب والصحافي فكتور نكراسوف الذي، في المقابل، كان مرضياً عنه نسبياً ولكنه عجز عن تخليص صديقه من أغلال الرقابة الجدانوفية. وفي أزمنتنا الراهنة، التي شهدت وتشهد أفواج اللاجئين والمهجّرين ويقظة العصبيات والعنصريات، لا يَعجب قارئ غروسمان حين تدور الفقرات الأولى من روايته الضخمة في معسكرات لجوء.
وفي العودة إلى الذكرى الـ80 لانتصار ستالينغراد على هتلر وموسوليني والرايخ الثالث والنازية والفاشية، معاً، قد تكون أردأ الخيارات تلك التي تستقرّ على قراءة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يستذكر الواقعة عن طريق قرع طبول الحرب الباردة أو النووية، والتذكير بأنّ دبابات ليوبارد الألمانية التي ستصل إلى أوكرانيا هي ذاتها التي اجتاحت ستالينغراد. لافت، إلى هذا، أنّ بوتين كان قبل سنتين فقط قد تعمّد إغفال اسم ستالين خلال الاحتفالات بالذكرى ذاتها، وأمّا اليوم فإنه لا يبجّله كقائد حرب فقط، بل كزعيم شارك في بناء الإمبراطورية الروسية، ودبلوماسي فاوض خصومه وحلفائه في طهران ويالطا، وقبلهما في التفاهمات مع النازية. غير خارج عن هذه السياقات أنه هذه المرّة يحشد العواطف القوموية الشعبوية، على مبعدة أمتار من تمثال جديد يردّ ستالين إلى ساحات فولغوغراد؛ التي كانت تسمى ستالينغراد، والأرجح أنها هكذا ستبقى في ملازمة اسمها الوضاء.

 

 

من باريس إلى لندن:

فقاعات الرأسمالية التي تتفجر

صبحي حديدي

ملايين في ساحات باريس، ومئات الآلاف في شوارع لندن، هذه الأيام؛ وقبلها، خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، في عواصم ألمانيا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا والنمسا وكبرى المدن والمراكز الصناعية فيها، وفي سواها؛ والمحتوى المشترك في خلفيات الاحتجاج، الموحّد أيضاً على نحو أو آخر، هو غلاء المعيشة مقابل تدني الأجور، والسياسات الاقتصادية التي تكرّس التضخم والبطالة وانحطاط الخدمات العامة. أما المحتوى المباشر، المعلَن الراهن في فرنسا على الأقلّ، فهو تمويل صناديق التقاعد تحت حزمة أسئلة مثل هذه: كيف نسدّ عجزاً سنوياً بقيمة 33 مليار يورو؟ وإذا استبعدنا فرض ضرائب جديدة لتغذية الصناديق، فهل نرفع سنّ التقاعد إلى 64 (حيث يرتفع إلى 65 في معظم الأنظمة الرأسمالية الأوروبية)؟ أم نكسر بعض محظورات تقاليد التأمين الاجتماعي الفرنسية العريقة، فنلجأ أكثر فأكثر إلى القطاع الخاصّ بأنظمته الاستثمارية الاستغلالية؟ وإذا كان غالبية رؤساء فرنسا خلال الجمهورية الخامسة (1958 -) قد حاولوا إصلاح ملفّ التقاعد، فتملصوا أو تراجعوا؛ فهل يفعلها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بوصفه ربيب ليبرالية صيرفية تلعب على حبال اليمين واليسار والوسط، ولم يعد لديه ما يخسره أصلاً لأنه حاز ولاية ثانية ذات طابع تاريخي واختراقي في جوانب عديدة، ولا يجوز له الترشيح للمرّة الثالثة؟
صحيح أنّ الإضراب أحد الأسلحة الماضية التي يمكن للتنظيمات النقابية أن تشهرها في وجه السلطات الرأسمالية الحاكمة، في الديمقراطيات الأوروبية بصفة خاصة، وقد كانت سابقة الإضراب الفرنسي الشهير سنة 1995 قد أجبرت الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس وزرائه آلان جوبيه على التراجع عن مشاريع وتعديلات وقوانين مماثلة؛ إلا أنّ الصحيح، في المقابل، هو أنه سلاح مؤقت محفوف بالمخاطر، وهو أيضاً ذو حدّين في أفضل تطبيقاته الحديثة والمعاصرة. على سبيل المثال، إذا كانت ثماني منظمات نقابية فرنسية قد توافقت على مواجهة تعديلات سنّ التقاعد، التي ينوي ماكرون تمريرها في الجمعية الوطنية وسنّها كقانون، ونجحت في إخراج 1,27 مليون متظاهر في شوارع فرنسا؛ فهل هي على الاتفاق ذاته، بصدد المضيّ أبعد، وأطول، في أشكال الضغط على الحكومة؟ كلا، بالطبع، لأسباب ليست بعيدة كثيراً عن واحدة من معضلات النظم الديمقراطية الأوروبية؛ لأنّ «الكونفدرالية العامة للشغل» الأعرق التي يعود تأسيسها إلى سنة 1895 والأشدّ توجهاً نحو اليسار والفعل الراديكالي، تقترح التصعيد في منشآت تشلّ قطاعات المصافي والطاقة والمواصلات؛ بينما تساجل «الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل» الثانية من حيث أعداد المنتسبين والأكثر اعتدالاً وميلاً إلى المقاربة الإدارية، بأنّ الإضراب في تلك القطاعات سوف يعطّل إيقاع الحياة اليومية لملايين الفرنسيين ويُفقد حركة الإضراب بعض التأييد الشعبي، وربما الكثير منه.
من جانبها، لن تقف إدارة ماكرون مكتوفة الأيدي إزاء استمرار أعمال الاحتجاج والإضرابات، وثمة مستويات تكتيكية عديدة يمكن أن تلجأ إليها؛ من داخل، وفي صميم، القوانين ذاتها التي تحكم الحريات الدستورية للنقابات وهوامش تحرّك السلطات. هنالك خيار أوّل يتمثل في تقديم تنازلات هنا أو هناك، سواء لشرائح عمل معيّنة ودون سواها، أو لقطاعات سوسيولوجية وديمغرافية تخصّ النساء مثلاً؛ وهنالك خيار تحويل هذه التعديلات إلى منصات اختلاف وشقاق داخل كُتل الجمعية الوطنية، بين برلماني يساري متشدد وآخر معتدل، وبين يميني جمهوري وآخر عنصري، بالإضافة إلى شقّ صفوف النقابات استطراداً.

وتلك فقاعات لا تتفجر مجموعة منها حتى تُخلي الساحات والشوارع لفقاعات أخرى، وهكذا؛ على منوال يعيد التذكير بنبوءة كارل ماركس حول رأسمالية لا تكفّ عن مراكمة التفاوت بين رأس المال والعمل، فلا تتوقف تالياً عن… إنتاج حفّار قبرها.

وأمّا في خيار ثالث يوفّره دستور الجمهورية الخامسة ذاته، ففي وسع الحكومة أن تلجأ إلى المادة 49,3 التي تتيح تمرير بعض التشريعات من دون المرور بالتصويت المعتاد، أو إلى المادّة الأخرى 47.1 (التي لا عجب في أنّ لقبها هو «المقصلة»!) نادرة الاستخدام، تختصر مناقشة التشريعات إلى 20 يوماً فقط. وليس خافياً أنّ الرساميل والشركات الصناعية الكبرى وأرباب القطاع الخاص وأصحاب مليارات الاستثمار الراهن أو المحتمل في قطاع التأمين والتقاعد، هم أشرس مساندي خطط ماكرون وحكومته، ونفوذهم في قلب الجمعية الوطنية يتعدى الصداقة مع هذا النائب أو تلك الكتلة البرلمانية.
ولأنّ مشكلات/ أزمات/ استعصاءات، مثل هذه التي تشهدها ساحات الرأسمالية الأوروبية المعاصرة، تتكدس تباعاً وتتفاقم باضطراد، وعلى مبدأ متصاعد؛ فإنها أقرب إلى فقاعات تواصل الانتفاخ حتى تبلغ درجة الانفجار، وتسجيل معدّلات أعلى فأعلى من السخط والاحتجاج، ثمّ الفاقة والإدقاع المريع مقابل التخمة والإثراء الفاحش. وإذْ كان شاهد من أهلها قد شهد ذات يوم، بلسان الملياردير الأمريكي وارن بافيت، الذي اعتبر أنّ هذا الطراز من الانفجارات تليق به تسمية «أسلحة التدمير المالي الشامل»؛ فإنّ شهوداً آخرين تعاقبوا على توصيف الحال من قلب شبكات التسليم بأقداره الكاسحة المدمّرة، والعجز بالتالي عن اقتراح الحلول العلاجية، فكيف أصلاً بتطبيقها على الأرض إذا اعتُمدت حكومياً أصلاً. بعض البريطانيين، الذين صوّتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة 51,9٪، حصون اليوم خسائرهم ابتداء من الجيوب والمحافظ، مروراً بالحسابات المصرفية وفواتير الطاقة والرهن العقاري ونفقات البقالية، وليس انتهاء بالتأمين الصحي؛ في مناخ (حسب المصرف المركزي البريطاني) من ركود متسارع ضاغط، بات يدفع غلاة من دعاة «بريكست» السابقين إلى الاستنجاد بما يسمونه «النموذج السويسري» في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي: رضوخ من دون انخراط، وتبعية من دون انضمام !
أكبر الأوهام، وأعلاها زيفاً وخداعاً وباطلاً هو التذرّع بالاجتياح الروسي في أوكرانيا، وانفلات أسعار الطاقة والأغذية، لأنه إذا كانت الحرب على جبهات الاقتصاد مستعرة حقاً، ضارية إلى أقصى السلوك الهمجي، فإنها تدور فعلياً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب أوّل، وبين روسيا والصين على الجانب المقابل. ودلائلها الأوضح، لأنه يصعب تمويهها، بادية في مؤشرات التضخم المذهلة وتخبّط البنوك المركزية لدى الأقطاب الرأسمالية الكبرى في اللجوء إلى علاج التدمير الذاتي عن طريق رفع معدلات الفوائد. وليس من دون دلالة منطقية صاعقة، لأنها أقرب إلى خلاصات رياضية خارجة مباشرة من مخابر الاقتصاد، أنّ عجز حكومة ريشي سوناك عن تعديل الأجور في بريطانيا مرتبط أيضاً بالعلاقة الطردية مع انفلات التضخم إلى مستويات قياسية؛ في غمرة انزلاق ارتدادي هستيري نحو حلول مارغريت ثاتشر وأزمنة أخرى غابرة من المال وراس المال واقتصاد السوق.
على المنوال ذاته، افتُضحت واحدة تلو الأخرى أكاذيب التمويه حول أزمات الرأسمالية المعاصرة خلال الـ 20 سنة الأخيرة فقط: تلك المعروفة باسم
dot.com crisis في ربيع 2000، حين تفجرت فقاعة مؤشر ناسداك بنسبة 400٪ دفعة واحدة؛ وأزمة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة، ثمّ العالم طولاً وعرضاً، سنة 2008؛ وأخيراً، وليس آخراً أغلب الظنّ، أزمة كوفيد ـ 19. ومن المسلّم به أن إمبراطورية الولايات المتحدة، على أصعدة الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والمالية والتكنولوجية المختلفة، أخذت تواجه منافسة مضطردة من الصين، وقليلاً بعض الشيء من كتلة الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يحيل الصراعات إلى ملفات أخرى غير التنافس الجيو ـ سياسي والصناعي؛ أي إلى ملفات الداخل، حيث مشكلات رأس المال تتقاطع أكثر فأكثر مع المعضلات الاجتماعية ومشكلات التعاقد بين الحاكم والمحكوم، والحقوق المدنية، وظواهر التطرف والتشنج القومي والانعزالية والعنصرية…
وتلك، وسواها كثير، فقاعات لا تتفجر مجموعة منها حتى تُخلي الساحات والشوارع لفقاعات أخرى، وهكذا؛ على منوال يعيد التذكير بنبوءة كارل ماركس حول رأسمالية لا تكفّ عن مراكمة التفاوت بين رأس المال والعمل، فلا تتوقف تالياً عن… إنتاج حفّار قبرها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

فردمان ومراثي دولة الاحتلال:

نفخ في قِرَب مثقوبة

صبحي حديدي

 

توماس فردمان، الصحافي الأمريكي وكاتب العمود البارز في صحيفة «نيويورك تايمز» اعتاد النفخ في أبواق شتى تعزف ترانيم المديح لدولة الاحتلال الإسرائيلي، كما تمزج الإطراء بما يشبه مناشدة «الواحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط أن تلازم موقعها الأثير هذا، كلما لاحت بارقة انحراف عنه أو حتى تأخّر في تولّي مسؤولياته. لم يكن الوحيد، بالطبع، وثمة العشرات من نافخي الأبواق إياها بصرف النظر عن تنويعات في «النغمة» تارة، أو في سياقات الدفاع الأعمى والتنزيه الأقصى تارة أخرى؛ ليس من دون التفنّن في التلفيق والاختلاق والخداع، لدى قارئ أو مستقبِل لا تنقصه عشوائية عمياء بدورها، في احتضان أيّ إطناب لتلك «الواحة» الصهيونية.
لكنّ فردمان، في عدد من تعليقاته الأخيرة التي أعقبت فوز بنيامين نتنياهو وتشكيل الحكومة الأكثر يمينية وتطرفاً وعنصرية وتشدداً دينياً في تاريخ الكيان، بدا أشبه لنافخ في قربة مثقوبة اسمها «الليبرالية الإسرائيلية» التي توشك على الاضمحلال؛ حتى أنه لم يتورّع عن مناشدة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يتدخل لإيقاف «تحوّل تاريخي» تشهده دولة الاحتلال: «من ديمقراطية تامّة إلى شيء أقلّ، ومن قوّة توازن في المنطقة إلى قوّة مزعزعة له. وقد تكون الوحيد القادر على منع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه المتطرف من تحويل إسرائيل إلى معقل غلوّ غير ليبرالي». وهذه فقرة واحدة من مشروع «مذكّرة» افتراضية كان فردمان سيرفعها إلى بايدن لو قُيّض له هذا، وسيقول أيضاً إنّ دولة الاحتلال التي عرفها بايدن «تضمحلّ» وتنبثق بدلاً عنها أخرى «جديدة» حيث العديد من الوزراء في حكومتها «معادون للقِيَم الأمريكية، وجميعهم تقريباً معادون للحزب الديمقراطي».
مضحكة، في المقابل، تلك الذريعة البائسة التي حرص فردمان على استرجاعها (أنّ نسبة محدودة من الإسرائيليين هي التي منحت نتنياهو وتحالفه تفوّقهم العددي في الكنيست) وكأنه تناسى أنّ قواعد هذه «الواحة الديمقراطية» لا تعترف بنسبة ضئيلة أو كاسحة؛ ما دام الرقم السحري لـ 62 مقعداً مؤيداً للحكومة قد تحققت في الكنيست، وما دام الناخب الإسرائيلي، وليس الأرواح غير الليبرالية، هي التي صنعت هامش الفارق. ليس أقلّ إضحاكاً حرص فردمان، في مقالة/ مذكّرة المناشدة إياها، على تذكير بايدن بأنّ نتنياهو «تآمر» مع الجمهوريين لـ«هندسة» خطبته أمام الكونغرس في سنة 2015، على النقيض من إرادة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ونائبه بايدن؛ وأنّ رجال نتنياهو يحبون رؤية جمهوري في البيت الأبيض، ويفضّلون دعم المسيحيين الإنجيليين على اليهود الليبراليين.
أيّ قربة مثقوبة هذه التي يخال فردمان أنّ نفخه فيها كفيل بدفع الرئيس الأمريكي إلى «إنقاذ» دولة الاحتلال، بل الأحرى التساؤل المشروع هكذا: هل يضحك على القارئ أم على نفسه، حين يفترض أنّ بايدن (أو أيّ رئيس أمريكي في الواقع، منذ تأسيس الكيان الصهيوني إلى اليوم وحتى إشعار آخر) يمكن بالفعل أن يتدخل لـ«منع» حكومة، منتخَبة وفق قواعد «الواحة» إياها، من تنفيذ التعهدات التي على أساسها أتى بها الناخب الإسرائيلي إلى سدّة الحكم؟ للمرء، هنا، أن ينصح فردمان بالعودة إلى معلّق آخر، إسرائيلي هذه المرّة، سبق أن ناشد رئيساً أمريكياً إنقاذَ دولة الاحتلال؛ مع فارق جدير بالاستذكار. ففي تعليق على واحدة من زيارات نتنياهو إلى واشنطن، كتب جدعون ليفي متمنياً على أوباما الاقتداء بالرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نكسون في إنقاذ إسرائيل، مع تمييز حاسم: الاخير أنقذها من الجيوش العربية سنة 1973، والأوّل ينبغي أن ينقذها من… نفسها!

كأنّ فردمان تناسى أنّ قواعد هذه «الواحة الديمقراطية» لا تعترف بنسبة ضئيلة أو كاسحة؛ ما دام الرقم السحري لـ 62 مقعداً مؤيداً للحكومة قد تحققت في الكنيست، وما دام الناخب الإسرائيلي، وليس الأرواح غير الليبرالية، هي التي صنعت هامش الفارق

فإذا أبى فردمان الاستئناس برأي ليفي، ربما لأنّ الأخير يساري مناصر للحقوق الفلسطينية، ففي وسعه الذهاب إلى مواطنه الأمريكي دانييل بايبس؛ الليكودي الذي لم يوفّر جهداً في تأثيم أوباما أثناء أطوار الترشيح والحملات الانتخابية، وفي رؤية العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية من زاوية خاصة تماماً هي مآثر الصهيونية المسيحية، ذاتها التي يبغض فردمان ما يجمعها من علاقات حبّ مع متشددي نتنياهو. ولقد اعتبر بايبس أنّ هذا الطراز من الصهيونية هو «أفضل أسلحة» دولة الاحتلال، بالنظر إلى أهمية نهج اليمين الأمريكي المسيحي المتعاطف، وكيف يتبنى مواقف متشددة تبدو خيارات ساسة إسرائيليين «حمائمية» تماماً إلى جانبها. تفسيره البسيط، أو التبسيطي تماماً في الواقع، يقول إنّ هذا النسق السياسي ـ الفلسفي، الذي عبّر ويعبّر عنه أمثال غاري باور وجيري فالويل وريشارد لاند، يعود بجذوره إلى العصر الفكتوري في بريطانيا؛ وتحديداً إلى عام 1840 حين أوصى وزير الخارجية اللورد بالمرستون بأن تبذل السلطات العثمانية كلّ جهد ممكن من أجل تشجيع وتسهيل عودة يهود أوروبا إلى فلسطين؛ هذا فضلاً عن أنّ اللورد شافتزبري (شقيق زوجة بالمرستون وزعيم حزب الإنجيليين) هو الذي كان، في العام 1853، قد نحت العبارة الشهيرة البذيئة في وصف فلسطين: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
يتناسى فردمان، إذْ لا يعقل أنه نسي، ما انطوت عليه زيارة نتنياهو إلى واشنطن سنة 2015 من وقائع أخرى ليست أقلّ دراماتيكية من خطبة الأخير أمام الكونغرس؛ بينها، على سبيل المثال، عدم اكتراث ران باراتز، المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بأيّ لباقة بروتوكولية أو تهذيب دبلوماسي حين وصف موقف أوباما من الاتفاق النووي مع إيران بأنه «الوجه الحديث للعداء للسامية في الغرب والبلدان الليبرالية». أمّا جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة يومذاك، فقد خصّه باراتز بهذه الأمنية: أن يفلح في رؤية العالم بعقلية فتى عمره أكثر من 12 سنة! الأهمّ، بالطبع، كانت ملفات تتجاوز بكثير أقوال باراتز، مثل تدعيم «القبّة الفولاذية» التي تستقبل وتدمّر الصواريخ قصيرة المدى؛ و«مقلاع داود» للصواريخ متوسطة وبعيدة المدى؛ وأنظمة «سهم» المضادة للصواريخ بدورها؛ ومقاتلات
F-35A التي تُمنح، للمرّة الأولى، إلى أيّ حليف؛ ومقاتلات V-22، التي تحلّق كطائرة وتهبط كحوّامة، والقادرة على بلوغ إيران؛ فضلاً، بالطبع، عن اتفاقية مساعدة سنوية بقيمة 30 مليار دولار كانت تنتهي في سنة 2017 وتوجّب تجديدها… إلى أجل غير مسمى!
فهل تجاسر فردمان يومئذ على التفكير في أنّ ملفات مثل توسيع الاستيطان الإسرائيلي، أو الإمعان في تهويد القدس، أو مصادرة الأراضي، أو عربدة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في المناطق ذاتها التي تخضع للتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، أو وضع معظم بنود اتفاقيات أوسلو في سلّة المهملات الإسرائيلية… يتوجب أن تُبحث خلال زيارة نتنياهو تلك؟ وهل كانت «الليبرالية الإسرائيلية» في أحسن حال حينذاك، فما استدعت من فردمان تسطير مقالة/ مذكّرة إلى أوباما، أو إلى نائبه بايدن؛ تناشد الإدارة إنقاذ دولة الاحتلال؟ الثابت، الذي يتجاهله فردمان عامداً، هو أنّ سلسلة التطوّرات السياسية الإسرائيلية الداخلية التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو (اغتيال رابين، وانتخاب نتنياهو في غمرة تحقير شمعون بيريس، وانتخاب إيهود باراك ضمن تحقير نتنياهو، وانتخاب شارون على قاعدة تحقير باراك، ثمّ انتخاب نتنياهو وتحقير «كاديما» وباراك معاً…)؛ لم تكن إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أنّ نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة العتيقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب.
عُزفت أبواق مديح «الواحة الديمقراطية» في دولة الاحتلال، أم نُفخ في قِرَب مثقوبة ترثي «ليبرالية» موشكة على اضمحلال؛ سواء بسواء، في هذه أو تلك!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

ليبيا: أية معجزة

تعرّف جنس الملائكة؟

صبحي حديدي

 

ثمة الكثير من الفوارق التي تضع الأمريكي وليام جوزيف بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على ضفة معاكسة، إنْ لم تكن مناقضة، مع السنغالي عبد الله باتيلي الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا منذ أيلول (سبتمبر) 2022؛ والقواسم المشتركة بينهما، إنْ وُجدت، فهي لا تتجاوز المسؤوليات الدبلوماسية التي تولاها الرجلان، مع حفظ البون الشاسع الذي يفصل مهامّ أحدهما عن الآخر. صحيح أن بيرنز لم يترشح لانتخابات رئاسة الولايات المتحدة، كما فعل باتيلي على دفعتين في بلده السنغال؛ غير أنّ موقع مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وسفير أمريكا لدى الاتحاد الروسي ووكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية (بعض مناصب بيرنز)، يصعب أن تُقارن بأمين ثالث لرئاسة حزب «العصبة الديمقراطية، أو أمينه العام، أو المرتبة السادسة بمعدّل 2,21% في الانتخابات الرئاسية السنغالية (أبرز محطات سيرة باتيلي).
فما الذي يمكن أن يحدث إذا عكفا، كلّ من موقعه واتكاءً على أولويات وظيفته وخدمة مصالح الجهة التي تنتدبه، على إيجاد الحلول لسلسلة لا حصر لها من تعقيدات المشهد الليبي الراهن؛ حيث السياسة تختلط بالنفط، وعبد الحميد دبيبة رئيس حكومة طرابلس في مقابل فتحي باشاغا رئيس حكومة طبرق الموازية، وبرلمان عقيلة صالح إزاء مجلس دولة خالد المشري، ومجلس رئاسة محمد المنفي أمام جيش المارشال الانقلابي خليفة حفتر…؟ أم أنّ الأحرى هو التساؤل هكذا: ما الذي سيجترحه باتيلي من معجزات عجز عن اجتراحها ستة مبعوثين سابقين أصلاء أو وكلاء أمثال عبد الإله الخطيب، إيان مارتن، طارق متري، برناردينو ليون، مارتن كوبلر، غسان سلامة، يان كوبيتش، وستيفاني وليامز؟
لن يحدث الكثير أغلب الظنّ، من جانب باتيلي على الأقل، في جبهات صراعية مثل تأجيل الانتخابات التي كانت مقررة في 24 كانون الأول (ديسمبر) إلى أجل غير معلوم، والتفاهم على قواعد دستورية للترشيح، وتحويل مباحثات دبيبة وصالح والمشري والمنفي وحفتر من التفاوض حول جنس الملائكة إلى أيّ من النقاط الملموسة التي تنفع أبناء ليبيا على الأرض، والحيلولة دون مزيد من انقلاب ثنائية دبيبة/ باشاغا إلى مواجهات عسكرية دامية، و«هندسة» صيغة ما إعجازية للتوفيق بين اشتباك التدخلات الخارجية في الشؤون الليبية…
بيرنز، من جانبه، سجّل نقلة مشهودة في تعاطي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع المعضلات الليبية، فلم تعكس زيارته إلى البلد مستوى هو الأرفع منذ تنصيب سيّد جديد في البيت الأبيض فحسب، بل كانت أيضاً بوّابة عبور الجهاز الاستخباري الأمريكي الأعلى إلى دهاليز ليبيا. وحرص بيرنز على الاجتماع مع الفرقاء أتاح له إطراء الدبيبة (لأسباب متعددة، لا يغيب عنها ترحيل المواطن الليبي المتهم بالمسؤولية عن تفجير طائرة لوكربي لمحاكمته في الولايات المتحدة)، والضغط على حفتر لتقليم (بعض، وليس كامل!) أظافر ميليشيات فاغنر الروسية؛ وتنبيه الجميع إلى واجباتهم تجاه حماية النفط.
ولأنّ ما بين بيرنز وباتيلي من فروقات ليس مرشحاً لأيّ طراز وشيك من الالتئام أو التلاؤم، بالنظر أوّلاً إلى موقع واشنطن في مجلس الأمن حيث يرتفع سلاح الفيتو فوق الرؤوس، فإنّ زيارة الأوّل العابرة وإقامة الثاني المديدة (حتى يُعزل أو يستقيل من تلقاء نفسه) ليست أقلّ من حركة على رقعة الشطرنج الليبي، السياسي والعسكري والنفطي والقبائلي والميليشياتي، وبالتالي ليست أكثر كما يُرجّح. فكيف وأحجار الشطرنج الأخرى تشارك في تحريكها أيادٍ من مصر والإمارات والسعودية وروسيا وتركيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا؛ ومجموعات مسلحة أو إرهابية تمرّ من «تنظيم الدولة» المنتعش والمزدهر والمنتشر في الجنوب، ولا تنتهي عند مرتزقة «فاغنر» الروسية ورفاقهم في الارتزاق من المجموعات التشادية والسودانية.
فأيّة معجزة يمكن أن تعين السنغالي على الأمريكي، في أتون هذه المعمعة حول تعريف جنس الملائكة!

 

 

تركيا الـ«صفر مشاكل»:

هل يحوم شبح داود أوغلو؟

صبحي حديدي

لم يعد ثمة الكثير من الارتياب في أنّ تركيا تواصل حصد مكاسب دبلوماسية، لكنها في جوهرها مغانم اقتصادية واعتبارات جيو ـ سياسية لا تخفى، من وراء الحفاظ على ميزان اتصال توافقي دقيق بين روسيا وأوكرانيا؛ أفسحت المجال، الآن، لمستوى من التعاطي مع ملفات الحرب الدائرة يبلغ درجة الوساطة بين موسكو وكييف، يتجاوز نجاحات صادرات الحبوب وتبادل الأسرى إلى ما ترتيبات تفاوضية عنوانها (بالغ الطموح والتمنّي) التوصل إلى اتفاق سلام.
في ملفات أخرى تبدو المصالحة التركية ـ الإسرائيلية، التي تُوّجت بتبادل السفراء بعد زيارات رئيس دولة الاحتلال إسحق هرتزوغ إلى أنقرة، ووزير الخارجية التركي إلى تل أبيب، بمثابة نقلة نوعية تستكمل سيرورات انفتاح متبادل بين تركيا وكلّ من مصر والإمارات والسعودية؛ بعد سنوات من الخصام والقطيعة. الأعلى دراماتيكية في هذا الحراك التركي، وإنْ كان أقلّ قيمة وأدنى مرتبة من حيث التجسيد على الأرض وفي النطاقات الميدانية، هو استجابة أنقرة لوساطة روسية استهدفت إعادة الدفء إلى العلاقات بين تركيا والنظام السوري؛ وقُيّض للعالم أن يستمع إلى تصريح من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، يقول فيه إنه «ليس هناك خلاف أو استياء أبدي في السياسة»، و«يمكننا إعادة النظر مجدداً في علاقاتنا مع الدول التي لدينا معها مشاكل. ويمكننا القيام بذلك بعد انتخابات حزيران (يونيو)، ونكمل طريقنا وفقا لذلك».
صحيح، بالطبع، ما يسوقه غالبية مراقبي المشهد التركي من أنّ معظم هذه الملفات، وخاصة ما يتصل باستئناف التعاطي مع النظام السوري، ذات صلة بالانتخابات الرئاسية التركية المقبلة؛ حيث يسعى أردوغان إلى تخفيف سلسلة من الأوجاع الداخلية الناجمة، اقتصادياً في المقام الأوّل، عن نزوعات إدارته إلى التسخين مع الجوار والخارج عموماً؛ والسعي، في الآن ذاته، إلى تجيير المعالجات للمشاكل المختلفة لصالح ترقية صورته في ناظر الرأي العام التركي، أبعد من جمهوره وأنصار حزب «العدالة والتنمية»، أو الشرائح الشعبوية التي تتلمس في شخصه ملامح سلطانية عثمانية. غير أنّ هذا العنصر، أي انتخابات حزيران (يونيو) المقبلة، لا تطمس الأبعاد الأخرى خلف مبادرات الانفتاح التركي، وعلى رأسها طبائع أردوغان في التقلّب والتنقّل والتحوّل، وفي قياس الماضي والمستقبل طبقاً لمعطيات الراهن.
وبين أن يُحكم على منهج كهذا من منطلق توصيف انتهازي، مفتقر إلى المبدئية، ذرائعي بالمعنى الهابط للمصطلح؛ أو، على النقيض، من منطلق التثمين العقلاني، والتبصّر، والذرائعية بالمعنى الصوابيّ للمصطلح؛ ثمة مفارقة جلية، دراماتيكية بدورها كما يصحّ القول، تتمثل في أن تركيا أردوغان إنما ترتدّ بذلك إلى تركيا أحمد داود أوغلو، الذي سبق له أن تولى مناصب رفيعة مثل وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء ورئاسة «العدالة والتنمية»؛ الذي لا يتردد كثيرون في اعتباره «كيسنجر تركيا»، واعتاد خصومه في صفوف الأتراك القوميين في الارتياب بأنه يمثّل سياسة «نيو – عثمانية». وأمّا مظهر الافتراق، في هذه العودة (المقنّعة حتى الساعة) إلى أفكار الرجل وتطبيقاته الدبلوماسية، فإنها تبدأ أولاً من حقيقة إقصائه خارج دائرة المقرّبين من أردوغان، وإبعاده عن قيادة الدولة والحزب، ومبادرته إلى تأسيس حزبه الخاصّ الذي يحمل اسم «المستقبل»، و… المشاركة في ائتلاف الأحزاب المناهضة لأردوغان، والمطالبة بدستور جديد ونظام برلماني على أنقاض الرئاسي الحالي.

يبقى أنّ شبحاً يحوم حاملاً معه أطياف مبدأ مركزي في تبريد النزاعات إلى درجة الصفر، أمر مختلف عن الشبح ذاته وقد انقلب إلى خصم سياسي، حليف لتكتل أحزاب لا تروم هدفاً آخر أهمّ من الإطاحة برئاسة أردوغان، وإعادة النظام الرئاسي الحالي إلى سابق عهده البرلماني

وليس من المبالغة الافتراض بأنّ داود أوغلو هو اليوم أقرب إلى شبح يجوس الحياة الحزبية والسياسية الداخلية في تركيا، وهو لا يستقرّ في نواة عميقة من هواجس أردوغان شخصياً فحسب؛ بل يدفع الرئيس التركي إلى مزيد من خطوات الخيار الشهير «صفر مشاكل»، أو النظرية الأمّ الكبرى التي صنعت بصمة داود أوغلو في تاريخ تركيا المعاصرة.
وهذا الرجل من مواليد 1959، وقد وفد إلى السياسة من البوّابة الأكاديمية إذْ كان أستاذاً للعلاقات الدولية في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، وفي جامعتَيْ مرمرة وبيكنت في تركيا، واعتمد مقاربة بسيطة في إدارة السياسة الخارجية التركية، قائمة على مبدئين ليس أكثر. ولقد سبق له أن ناقش الخطوط العريضة للمبدأين في كتابه الشهير «العمق الستراتيجي: موقع تركيا الدولي»، الذي صار قراءة إلزامية لكلّ دبلوماسي على صلة بالشأن التركي، رغم أنّ الكتاب لم يكن متوفراً في أيّ من اللغات الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. مؤلفاته الأخرى متوفرة في لغات أوروبية، ولعلّ على رأسها كتابه «الهزّة المنتظمة والنضال من أجل نظام دولي»، 2020؛ و«منظورات بديلة: تأثير رؤية العالم الإسلامية والغربية على النظرية السياسية»، 1994.
المبدأ الأول، إذن، هو أنّ على تركيا إقامة روابط وثيقة ليس مع أوروبا والولايات المتحدة فقط، رغم أهمية هذه العلاقات، بل يتوجب تطوير علاقات متعددة المحاور مع القوقاز، والبلقان، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا، والبحر الأسود، وكامل حوض المتوسط. ذلك لأنّ تركيا ليست مجرّد قوّة إقليمية، في نظر داود أوغلو، بل هي قوّة دولية ويتوجب عليها أن تتصرّف على هذا الأساس؛ فتعمل على خلق منطقة تأثير تركية ستراتيجية، سياسية واقتصادية وثقافية. ولم يكن غريباً أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق هيلاري كلنتون ثمّنت عالياً هذه المرونة التركية في التعامل مع محاور مسلمة ومسيحية ويهودية، في العالم العربي والإسلامي، وفي أوروبا وإسرائيل؛ فأطلقت على تركيا لقب «القوّة الكونية الصاعدة».
المبدأ الثاني هو اعتماد سياسة «الدرجة صفر في النزاع» مع الجوار، من منطلق أنه أياً كانت الخلافات بين الدول المتجاورة، فإنّ العلاقات يمكن تحسينها عن طريق تقوية الصلات الاقتصادية. وفي الماضي كانت تركيا تحاول ضمان أمنها القومي عن طريق استخدام «القوّة الخشنة»، «لكننا نعرف اليوم أنّ الدول التي تمارس النفوذ العابر لحدودها، عن طريق استخدام ‘القوة الناعمة’ هي التي تفلح حقاً في حماية نفسها»، كما ساجل داود أوغلو في كتاباته العديدة. وهو، على أساس من هذا المبدأ، كان واثقاً من أنّ الحاجة متبادلة تماماً بين أوروبا وتركيا: «بقدر ما صارت أوروبا محرّك سيرورة التغيير في تركيا، بقدر ما ستصير تركيا محرّك تحويل للمنطقة بأسرها».
والحال أنّ تلك المقاربات أعطت نتائج دراماتيكة في علاقات تركيا مع جميع جيرانها تقريباً، وعلى حدودها الأوروبية والآسيوية، وخارج تلك الحدود أيضاً، كما في الدور الذي سعت إلى لعبه في لبنان حين شاركت في قوّات الأمم المتحدة التي نُشرت هناك بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006؛ وفي احتضان المفاوضات السورية – الإسرائيلية غير المباشرة، وإقامة علاقة ثلاثية مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية وحركة «حماس»، ثمّ القيام بجهود ميدانية مكوكية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة، واكتساب شعبية واسعة في الشارع العربي بسبب انسحاب أردوغان من سجال مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في ملتقى دافوس. هذا بالإضافة إلى دور تركيا المتزايد في أفغانستان والباكستان والهند.
يبقى أنّ شبحاً يحوم حاملاً معه أطياف مبدأ مركزي في تبريد النزاعات إلى درجة الصفر، أمر مختلف عن الشبح ذاته وقد انقلب إلى خصم سياسي، حليف لتكتل أحزاب لا تروم هدفاً آخر أهمّ من الإطاحة برئاسة أردوغان، وإعادة النظام الرئاسي الحالي إلى سابق عهده البرلماني؛ فكيف وأنّ داود أوغلو لا يبدأ المعادلة من ركائز علمانية أو أتاتوركية أو قومية، بل من حجر أساس عالي الجاذبية، هو… رؤية العالم إسلامياً!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

اتفاق السودان الإطاري

ومحنة الاطمئنان إلى العسكر

صبحي حديدي

 

منذ انقلابهم في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، رفض عسكر السودان تعيين رئيس وزراء للسودان، يخلف عبد الله حمدوك في منصب يتوجب أن يتولاه مدنيّ طبقاً لتوافقات اقتسام السلطة مع «قوى إعلان الحرية والتغيير» ومجموعات مدنية أخرى، أعقبت انتفاضة شعبية أطاحت بدكتاتورية عمر حسن البشير من دون استبدالها بمنظومة حكم ديمقراطية في الحدود الدنيا المقبولة. لكنّ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وشريكه الأوّل محمد حمدان دقلو ورهط الجنرالات الشركاء في الانقلاب لم يجدوا مشكلة، بل انتظروا غنائم ومكاسب، في السماح لآخر رئيس وزراء في عهد البشير، محمد طاهر إيلا، بالعودة إلى السودان بعد ثلاث سنوات من الفرار إلى مصر؛ ضمن صفقة عقدها البرهان مع الريس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال لقاء مباشر في القاهرة أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي.
مصلحة النظام المصري لم تقتصر على إحياء وجود «المؤتمر الوطني»، حزب البشير المنحلّ، وإعادة زرع رموزه في السودان عموماً وفي شرق السودان خصوصاً، وتحويل مكوّن البجا إلى معادلة تعكير ضاغطة على مسار التحولات الديمقراطية في البلد؛ بل ثمة حاجة لدى السيسي إلى المناورة عبر شخص إيلا لمساندة «جبهة تيغراي» وتغذية النزاع مع أثيوبيا، ضمن المناورات الوحيدة التي يملكها السيسي للضغط في ملفّ سدّ النهضة. وعند عقد صفقة إعادة إيلا الذي سبق أن رفض نظام السيسي تسليمه إلى السودان، كان البرهان قد تجاهل تماماً حقيقة أنّ رجل البشير السابق مطلوب للقضاء وثمة مذكرات جلب بحقّه وفي وسع أيّ شرطي سوداني أن يعتقله؛ وفضّل تغليب مصالح العسكر في محاولات إغراء أنصار النظام السابق وأعضاء «المؤتمر الوطني» وبعض الشرائح الإسلامية بالانخراط إلى جانب الجيش في المناورة مع المدنيين.
من الإنصاف، وكذلك الصواب العقلي، تعليق قسط غير قليل من تقييم الاتفاق الإطاري على مراحل لاحقة من مآلات التفاوض الراهنة، ريثما تتضح على نحو أفضل حصيلة الأرباح والخسائر على الطرفين المتفاوضين؛ وفي انتظار أن تستقرّ أكثر موازين القوى المنخرطة في الاتفاق، مقابل تلك التي تعارضه اليوم أو سوف تواصل رفضها له إذا بلغ مرحلة التوقيع النهائي ورأى النور. غير أنّ الإنصاف، إياه، يقتضي التوقف (الدقيق والحصيف، أو حتى اليقظ والناقد) عند المسائل الخمس الكبرى التي تشكّل عقبات كأداء على طريق الاتفاق: صياغات العدالة عموماً والانتقالية منها تحديداً، وكيفية فرض الإصلاحات البنيوية على مؤسسات الجيش والأمن، وإعادة وضع اتفاق السلام على محك المراجعة البناءة، وبلورة آليات ملموسة لتفكيك النظام السابق، وإيجاد حلول آنية ودائمة لمشكلات شرق السودان.
ثمة، إلى هذا، معضلة كمونية إذا جاز التعبير، لأنّ افتراض منطق تفاوضي بين العسكر والمدنيين يفترض أيضاً طرازاً ما، أياً كانت حدوده، من التكافؤ المتبادل بينهما؛ ويتحكم، استطراداً، بما يمكن أن يتوصلا إليه، على قاعدة الحقّ أو الباطل، الربح هنا والخسارة هناك، المصداقية والالتزام مقابل النقض والانقلاب؛ وهذه بعض مظاهر محنة معقدة في الاطمئنان إلى العسكر… وإذا كانت صفقات مثل تلميع إيلا غير طارئة ولا غريبة عن الجنرالات في أية سلطة انقلابية عموماً، ولكن في أنظمة الانقلابات العسكرية العربية والأفريقية بصفة خاصة؛ فإنها، في الآن ذاته، يتوجب أن تنفع مجموعة المجلس المركزي في «قوى إعلان الحرية والتغيير»، والأطراف المدنية الموافقة على الاتفاق الإطاري مع العسكر، في تبصّر المخاطر المحتملة والكامنة طيّ أية مقايضة مع الجيش، ذاته الذي قاد انقلاباً قائماً وعواقبه الوخيمة تُقعد البلد اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
فالمنطق يصادق على، وتجارب الماضي القريب والبعيد أثبتت وتواصل إثبات، جشع الجنرالات إلى السلطة، والتسلط والهيمنة؛ وإذا لم تسعفهم المناورات والمساومات والصفقات، فإنّ خيار انقلاب جديد يظلّ قائماً وميسّراً ومغرياً… حتى إشعار آخر لا تلوح له نهاية.

 

 

تنويعات الديمقراطية:

ما تبقى من «سنة العجائب» 1989

 

صبحي حديدي

 

الـ«V-Dem»، أو «تنويعات الديمقراطية» في تسمية أخرى، معهد يزعم أنه مستقلّ وإنْ كان لا يخفي مصادر تمويل متعددة من منظمات حكومية والبنك الدولي ومؤسسات أبحاث مختلفة؛ أسسه في سنة 2014 الأكاديمي السويدي ستافان لندبرغ، ومقرّه في جامعة غوتنبرغ، السويد؛ وهو يصدر تقارير سنوية حول أحوال الديمقراطيات في العالم بأسره، ويعتمد في أشغاله على أبحاث ميدانية ومكتبية يتولاها نحو 3700 باحثة وباحث في أصقاع مختلفة، وتغطي 202 من بلدان المعمورة، وتشمل دراساتها نماذج ديمقراطية وأنساق حكم وسلطة شهدها التاريخ بين سنة 1789 وحتى اليوم، كما هي حال التقرير الأخير لسنة 2022.
وقد تكتنف عمل المعهد مظانّ كثيرة، متغايرة ومتنوّعة ومتقاطعة، إلا أنّ التقارير السنوية ليست بالغة الفائدة لجهة ما توفّره من أرقام ومؤشرات، فحسب؛ بل يبقى المعهد، حتى إشعار آخر وظهور نموذج أفضل، فريداً في اعتبارات شتى تبيح درجة غير ضئيلة من الاطمئنان إلى معطياته. وهكذا، طبقاً للتقرير الأحدث، تتصدّر لائحة النماذج 10 حكومات (من أصل 179 دولة)، هي السويد والدانمرك والنروج وكوستا ريكا ونيوزلندا وإستونيا وسويسرا وفنلندا وألمانيا وإرلندا؛ وأما في المراتب الدنيا فالدول العشر هي طاجكستان والسعودية والصين وتركمانستان وسوريا وبيلاروسيا واليمن وأفغانستان وكوريا الشمالية. جديرة بالملاحظة، أيضاً، أنّ ما يُصطلح على تسميتها «ديمقراطيات مستقرة»، غربية غالباً، تأتي في مراتب حمّالة دلائل عديدة: فرنسا، في المرتبة 16؛ بريطانيا، 19؛ إيطاليا، 20؛ كندا، 24؛ آيسلندا، 25؛ النمسا، 26؛ الولايات المتحدة، 29؛ اليونان، 36؛ دولة الاحتلال الإسرائيلي، 41؛ ورومانيا، 44…
المؤشرات الأخرى تقول إنّ سنة الأساس 2021 سجّلت رقماً قياسياً لعدد الأمم التي خضعت لأنظمة أوتوقراطية (والمصطلح هنا يُعتمد على سبيل التضاد مع الديمقراطية)، بالمقارنة مع 50 سنة خلت: 33 بلداً، تأوي 36٪ من سكان الأرض، نحو 2.8 مليار نسمة؛ والمؤشر الأبرز، في ظنّ هذه السطور، قد يكون حصّة الاتحاد الأوروبي من موجة الأوتوقراطية هذه، إذْ انحدرت إليها نسبة 20٪ من الدول الأعضاء. ولم يسجّل العالم هذا العدد القليل من عمليات الدمقرطة منذ العام 1978، فبلغ العدد في سنة الأساس 15 بلداً، تأوي 3٪ فقط من سكان الأرض. وتزايد قمع المجتمع المدني في 22 بلداً، وفَرْض الرقابة على وسائل الإعلام في 21 بلداً، وتوسّعت نزوعات العداء للتعددية الحزبية في 6 من البلدان الأكثر ميلاً إلى الأوتوقراطية (البرازيل، هنغاريا، الهند، بولندا، صربيا، وتركيا).
يتوقف التقرير أيضاً عند ظاهرة يطلق عليها تسمية «وباء الانقلابات»، إذْ شهدت سنة الأساس إجراءات انقلابية لتوطيد الأوتوقراطية في 40 بلداً، وخمسة انقلابات تحمل الصفة الصريحة في ارتفاع حادّ لهذا القرن بالقياس إلى معدّل 1.2 في القرن الماضي، أسفرت عن تأسيس أوتوقراطيات جديدة منغلقة في تشاد وغينيا ومالي ميانمار؛ وهذا «الوباء» انطوى أيضاً على أشكال مختلفة من تسميم الوعي، وتنظيم حملات تضليل الرأي العام المحلي والعالمي لصالح تجميل الانقلابات. ومستوى الديمقراطية الذي تمتع به المواطن الكوني، كما يصفه التقرير، خلال سنة الأساس هبط إلى مستويات 1989، وبالتالي فإنّ الـ30 سنة الأخيرة من مظاهر التقدّم الديمقراطي تتآكل اليوم؛ فينخفض عدد «الديمقراطيات الليبرالية» إلى 34 في سنة الأساس 2021، وهذا معدّل لم يسبق له مثيل منذ 26 سنة.

تحظى تقارير المعهد بقيمة تفاضلية وعملية عالية، لجهة المؤشرات والمعطيات وما هو ميداني منها بصفة خاصة؛ ولكنها في الآن ذاته لا تمنح رخصة تفويضية لتخليص الديمقراطية الليبرالية من آثام إغلاق الواقع حول ذهن واحد أحادي… لاديمقراطي، في الجوهر والمآل

ويعترف المعهد، ويبني تقاريره على أساس، أنّ مفهوم الديمقراطية تطوّر كثيراً منذ ولادة المصطلح لدى الإغريق، وأنه يستخلص تقديراته اتكاءً على ما يقارب 450 من الجوانب المختلفة التي تكتنف المفهوم وتنويعاته؛ لكنه، من دون تجاهل الأشكال الأخرى للتمثيل والانتخاب، يأنس إلى ما يسمّيه «مؤشر الديمقراطية الليبرالية»، الذي يجمع بين المؤسسات الانتخابية الأمّ، مع الجوانب الليبرالية الأخرى التي تضمّ الضوابط التنفيذية الناجمة عن التشريع والمحاكم العليا، إلى جانب سيادة القانون والحقوق الفردية. في ضوء ذلك، يصنّف المعهد أنظمة العالم في أربعة أنماط متمايزة: نمطان من الديمقراطية (الانتخابية والليبرالية)، ونمطان من الأوتوقراطية (الانتخابية والمغلقة). وكي يُعتبر ديمقراطياً في الحدود الدنيا، ضمن نمط الديمقراطية الانتخابية، فعلى البلد أن يلبّي مستويات عليا كافية من انتخابات حرّة ونزيهة واقتراع عامّ، وحرّية تعبير واجتماع؛ وبالتالي فإنّ تنظيم انتخابات لا يكفي في ذاته لحيازة الصفة الديمقراطية. ففي الأنظمة الأوتوقراطية الانتخابية، تتوفر مؤسسات مختصة بمحاكاة انتخابات لا ترقى إلى العتبة الدنيا للديمقراطية، بمعنى المصداقية والكيفية.
والحال أنّ في رأس المظانّ التي يمكن أن تجابه هذه المنظومة، وربما بعض الركائز الكبرى في منهجية المعهد، ما يقوله عدد غير قليل من كبار المفكّرين الغربيين الذين عكفوا على قراءة، أو بالأحرى إعادة قراءة، دروس عام أساس آخر؛ هو 1989، أو «سنة العجائب» كما شاء البعض توصيفها، لأنها شهدت سقوط جدار برلين وثورة تشيكوسلوفاكيا وإسقاط نظام شاوشيسكو في رومانيا، والتمهيد لانحلال الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي بأسره. بين هؤلاء المفكرين يبرز البريطاني جون غراي، صاحب سلسلة مؤلفات إشكالية وسجالية مثل «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة»، و«يقظة الأنوار: السياسة والثقافة عند خاتمة العصر الحديث»، و«هرطقات: ضدّ التقدّم وأوهام أخرى»، و«روح مسرح الدمى: تحقيق موجز حول الحرّية الإنسانية»، فضلاً عن كتابه الأشهر ربما: «كلاب من قشّ: أفكار حول بني البشر وحيوانات أخرى».
وفي مقالة لامعة بعنوان «إغلاق الذهن الليبرالي»، ذات صلة بمظان» معهد الـ»
V-Dem»، يبدأ غراي من استعراض مشهد كوني عناصره أوروبا وحروب التبادل ودونالد ترامب وفلاديمير بوتين وأمواج اللجوء والصين وحصار حلب السورية…؛ لكي يبلغ خلاصة أولى تقول: «النظام الليبرالي الذي لاح أنه ينتشر عالمياً بعد نهاية الحرب الباردة، يتلاشى من الذاكرة». ورغم اتضاح هذا التلاشي، يوماً بعد آخر، فإنّ الليبراليين يجدون صعوبة في مواصلة العيش من دون «الإيمان بأنهم في الصفّ الذي يحلو لهم اعتباره الصواب في التاريخ»؛ وبالتالي فإنّ إحدى كبريات مشكلاتهم أنهم لا يستطيعون تخيّل المستقبل إلا إذا كان استمراراً للماضي القريب! وحين يختلف الليبراليون حول كيفية توزيع الثروة والفرص في السوق الحرّة، فالمدهش في المقابل أنّ أياً منهم لا يُسائل نمط السوق المعولَمة التي تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبعد الاستفاضة في مناقشة أزمة الليبرالية المعاصرة كما كانت يومذاك تتجلى في بريطانيا، عبر محورَيْ أزمة حزب العمال والتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ يردّ غراي السجال إلى جذور الفكر الليبرالي الحديث، في أنه نتاج متأخر من التوحيدية اليهودية والمسيحية: «من تقاليد هذَيْن الدينَيْن، وليس من أيّ شيء في الفلسفة الإغريقية، نبعت القِيَم الليبرالية حول التسامح والحرية. وإذا ساد اليقين بأنها قيم كونية، فذلك بسبب الاعتقاد بأنها فرائض إلهية. ومعظم الليبراليين علمانيون في النظرة العامة، لكنهم يواصلون الإيمان بأنّ قيمهم إنسانية وكونية». المعضلة، بعد هذا التوصيف، أنّ الذهن الليبرالي الحاضر عاجز عن الاشتغال إلا إذا أغلق الواقع، أو عرضه كبضاعة أحادية، في المتجر الليبرالي الوحيد!
وبهذا المعنى، في صيغة مظانّ طاعنة، تحظى تقارير المعهد بقيمة تفاضلية وعملية عالية، لجهة المؤشرات والمعطيات وما هو ميداني منها بصفة خاصة؛ ولكنها في الآن ذاته لا تمنح رخصة تفويضية لتخليص الديمقراطية الليبرالية من آثام إغلاق الواقع حول ذهن واحد أحادي… لاديمقراطي، في الجوهر والمآل.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

البكاء على أطلال )برافدا(

صبحي حديدي

 

زائر موقع النسخة الإنكليزية من صحيفة «برافدا» الروسية سوف يجد الموضوعات التالية على صفحة الاستهلال: «أوكرانيا حائرة بسبب قرار بوتين وقف إطلاق النار في عيد الميلاد»، و»زيلنسكي يذهب إلى واشنطن من أجل الجنسية الأمريكية، وحسابات المصارف، والأملاك في فلوريدا»، و»المواجهة المباشرة بين روسيا والناتو مسألة أسابيع»، و»رجب أردوغان يريد من روسيا أن تجعل أوروبا معتمدة على تركيا»، و»عقيد أمريكي متقاعد: روسيا أقوى من بلدان الناتو مجتمعة»، و»تركيا أردوغان لن تربح الحرب في سوريا، وأمريكا ستفشل أيضاً»… فإذا ذهب المرء إلى صفحات الرأي، فسيجد الموضوعات التالية: «إعادة تعريف أوكرانيا: المعنى الحقيقي لمبدأ السلاح من أجل السلام»، و»حكم الغباء: شكل من الديمقراطية الغربية الحديثة»، و»أعمال الشغب الإيرانية: الذهاب وراء حجاب الدعاية الغربية»، و»كان الغرب يحاول التهام سوريا، لكنه كسر أسنانه»…

هذه، كما يقتضي إيضاح ضروري لا يحتمل التأجيل، ليست «برافدا» الأخرى الناطقة بالروسية، والتي يمتلكها الحزب الشيوعي في الاتحاد الروسي، ولكن كلا الأختَين سبّاقة إلى سوية مماثلة من حيث نهج التحرير وخطوط الولاء لسياسات الكرملين؛ على صعيد مختلف المغامرات العسكرية الخارجية، في جورجيا والقرم وسوريا وليبيا، قبل اجتياح أوكرانيا. والتاريخ الموجز للصحيفة الأمّ يشير إلى أنها كانت ناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفييتي، وتوزّع ملايين النسخ يومياً؛ وعند انحلال الاتحاد السوفييتي، باعها الرئيس الروسي الأسبق يلتسين بوريس يلتسين إلى مجموعة استثمارية يونانية، وهذه أصدرت الطبعة الدولية اعتباراً من عام 1996. في السنة ذاتها، بسبب إصرار الحزب الشيوعي الروسي على إصدار «برافدا» من جانبه، انتهى القضاء الروسي إلى منح الترخيص للجهتَين باستخدام الاسم ذاته.
هل هذه هي «برافدا»، أو ما تبقى من تراثها أياً كانت معادلات التوازن بين الباقي والمندثر؟ كلا، بالطبع، إذْ من العبث أن يبحث المرء في النسختين، الروسية والدولية، عن رسوبات تتواصل من أيام زمان، ليس لأنّ العالم تبدّل في روسيا، وحيثما توزّع هذه الـ «برافدا» الجديدة، فحسب؛ بل لأنّ المعارك المالية والقانونية الشرسة التي توجّب أن تُخاض من أجل بقاء الصحيفة واستمرار الاسم ذاته اقتضت مثل هذه الخيارات في التحرير، وفي الخبر والرأي والتغطية. ومن الإنصاف القول إنّ قلّة قليلة فقط من الروس، أهل الحنين إلى الماضي والبكاء على الأطلال، هم وحدهم الذين يعيبون على هذه الـ»برافدا» أنها، أو أختها التي تحمل الاسم ذاته، لم تعد تمثّل تلك الصفحات الماضية من تاريخ الصحيفة.
المرء، من جانب آخر، لا ينصف هؤلاء أنفسهم إذا لم يتفهم الأسباب العميقة، الوجدانية والتاريخية والعقائدية، التي تدفعهم إلى مقدار هائل من مشاعر النوستالجيا كلما قلّبوا صفحات الجريدة الراهنة، فلم يجدوا فيها ما هو أشدّ جاذبية للقرّاء من طرائف العقيد الأمريكي المتقاعد أو حكاية أسنان الغرب التي تكسرت خلال محاولة التهام سوريا. ذلك لأنّ «برافدا» التاريخية، تلك التي انطلقت سنة 1912 قبل أن تصبح في سنة 1918 ناطقة باسم حزب البلاشفة والثورة الروسية، لم تكن محض مطبوعة سياسية؛ بل كانت أشبه بسجلّ وأرشيف وخزّان ذاكرة، سيّما عند أولئك الذين ما تزال حميّة الماضي تغلي في عروقهم.
ولعلّ الصحيفة عرفت من المصائر المتقلبة مقداراً يكاد يفوق ما عرفه الحزب الشيوعي السوفييتي ذاته، وحين أخذت أرقام توزيعها تتجاوز 11 مليون نسخة يومياً، كانت مصداقية الصحيفة تهبط إلى الحضيض في يقين الرأي العام، وكانت تحكمها علاقة تناسب معاكسة: كلما طبعت المزيد من النسخ، ازدادت الهوة بينها وبين الشارع. والمرء هنا يتذكر أنّ الإعلام الرسمي السوفييتي توزّع على صحيفتين أساسيتين: «البرافدا» (أي: الحقيقة) و»الإزفستيا» (أي: الخبر)؛ ولكنّ النكتة الشعبية، الذكية والصائبة تماماً، تولّت تثمين المطبوعتين هكذا: في «برافدا» لا يوجد «إزفستيا»، وفي «إزفستيا» لا توجد «برافدا». والترجمة: جريدة الحقيقة لا تنطوي على الخبر، وجريدة الخبر لا حقيقة فيها!
يبقى أنّ حكاية «برافدا» الراهنة تتجاوز البكاء على أطلال «برافدا» الأولى الأصلية، أو الأحرى أن تدور دروسها حول علاقة الصحافة ذات النسخ المليونية بالشارع المستقبِل الذي لا يُعدّ بالملايين أيضاً فقط، بل تظلّ صناعة الرأي في صفوفه مسألة بالغة التعقيد، سياساً واجتماعياً وإعلامياً وثقافياً. ولم يكن غريباً، في ضوء مقاربة كهذه، أن يُصدر الصحافي الأمريكي الانشقاقي جيمس أوكيف، في سنة 2018، كتاباً مدويّ التأثير بعنوان «برافدا أمريكية: معركتي من أجل الحقيقة في عصر الأخبار الزائفة»؛ فضح على امتداد فصوله عشرات النماذج لإعلام أمريكي مليونيّ الجمهور وكونيّ الانتشار، مرئيّ ومقروء وإلكتروني، يكذب ويلفّق ويختلق طبقاً لطرائق تجعل سُنن «برافدا» و»إرفستيا» العتيقة أشبه بألاعيب أطفال.
وكما يبدو لافتاً أنّ موضوعات موقع «برافدا» الدولية تستخفّ تماماً بعقول زائر الموقع، الروسي والدولي في واقع الأمر، فإنّ موضوعات وسائل إعلام أمريكية عملاقة لا تتورّع عن ممارسة الاستخفاف ذاته، أو أشدّ منه وأكثر مكراً وحذقاً؛ وفي الحالتَين، وسواهما كثير في طول العالم وعرضه أياً كانت طبائع الأنظمة الحاكمة، ينقلب البكاء على الأطلال إلى سيرورة إدراك لاستغفال الذات، وبعض الإمعان فيها… مع ذلك!

 

 

أمريكا الحزب الجمهوري:

استعصاء (أسلحة الإيهام الشامل)

صبحي حديدي

 

حتى ساعة كتابة هذه السطور، كان النائب الجمهوري كيفن مكارثي قد فشل في حيازة الـ218 صوتاً التي تكفل له رئاسة مجلس النواب الأمريكي، وذلك بعد ستّ جولات متعاقبة من تصويت أظهر تمترس 20 من زملائه النوّاب الجمهوريين؛ «العصاة» كما باتت تسميتهم الشائعة في الإعلام الأمريكي، الصقور بالأحرى ممّن يريدون رئيساً أكثر تشدداً في مواجهة الحزب الديمقراطي والرئيس جو بايدن، وليس البتة أكثر صوناً للقِيَم المحافظة التي يتوافق عليها الحزب الجمهوري وأنصاره. وحتى تتعالى سحابة دخان أبيض من مداخن الكابيتول دلالة على انتخاب مكارثي او سواه (مجازاً بالطبع، ومع الاعتذار من تقاليد الفاتيكان)؛ ثمة مقادير أخرى من مظاهر انحدار هذا الحزب، خاصة وأنّ مهندس الانحطاط الحالي الأبرز، الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لم يهضم هو نفسه هذا الفشل في انتخاب رئيس للمجلس، في استعادة لسابقة لم تتكرر منذ 100 سنة.
بين مظاهر الانحطاط الأخرى حكاية النائب الجمهوري جورج سانتوس، الذي فاز خلال انتخابات الكونغرس التكميلية الأخيرة عن لوغ آيلاند، والذي حشد في سيرته الرسمية سلسلة من الأكاذيب المريعة: عن أماكن عمل في مؤسسات مرموقة، لم يسبق له أن اشتغل فيها؛ عن كليات زعم الدراسة فيها، منتحلاً المعلومة؛ وعن والدته، التي تفاخر بأنها قُتلت في مكتبها في البرج الجنوبي يوم 11/9، واتضح أنها توفيت بمرض السرطان على فراشها… صحيح أنّ نوّاباً آخرين عن الحزب الجمهوري كذبوا في سيرهم الرسمية، على شاكلة هيرشل ووكر المرشح (الفاشل) لمجلس الشيوخ عن جورجيا، الذي اتضح أنه متهم بالعنف المنزلي، وإجبار عشيقاته على الإجهاض، وتلفيق عناوين منزلية غير صحيحة، والتخلي عن أطفال غير شرعيين، وتزييف شهادات أكاديمية لم يحصل عليها. لكنّ مصيبة سانتوس، التي ذهب فيها أبعد من جميع أسلافه الكاذبين، أنه زعم محتداً يهودياً من أمّه؛ واضطرّ فيما بعد (حين فضحت صحيفة «نيويورك تايمز» سلسلة الأكاذيب) إلى الإقرار بأنه كان ويظلّ كاثوليكياً.

خيط طريف في حكاية سانتوس أنّ القضاء الأمريكي وقف حائراً بضعة أيام بعد افتضاح التفاصيل، قبل أن يضطر الادعاء في مقاطعة ناسو إلى التصريح بأنّ من حقّ ناخبي سانتوس أن يكون لديهم في الكونغرس «ممثّل شريف وخاضع للمحاسبة»، ولا أحد «فوق القانون، وإذا ارتُكبت جناية في هذه المقاطعة فلسوف نحقق فيها». ومع ذلك فإنّ التصريح شيء، وإخضاع نائب منتخب للمحاسبة القضائية شيء آخر مختلف، إنْ لم يكن بسبب تعقيدات قانونية أقرب إلى متاهة كافكاوية في هذا المضمار، فعلى الأقلّ لأنّ الجمهوريين في الكونغرس غارقون في هرج ومرج بصدد انتخاب رئيس لأغلبيتهم، أوّلاً؛ ثمّ ثانياً لأنّ سانتوس يدين في انتخابه بالكثير إلى مساندة مكارثي، إياه، الذي يتمرد عليه 20 من غلاة الجمهوريين. وأمّا في الخلفية الأبعد، والأعمق أيضاً، فإنّ قسطاً غير ضئيل من مظاهر الانحطاط سالفة الذكر لا تقتصر على الحزب الجمهوري، بل تشمل نظيره وخصمه الحزب الديمقراطي؛ وفي مسلسل أكاذيب السِيَر ليس المرء مضطراً للذهاب خارج البيت الأبيض الراهن، إذْ أنّ جو بايدن نفسه يتصدر لوائح التزييف والكذب.
وقد لا تكون مصادفة، أو هي واقعة خالية من دلالات تزامنية شتى عميقة الغور، أنّ فشل الجولة السادسة لانتخاب مكارثي رئيساً جمهورياً لمجلس النواب يأتي على أعتاب الذكرى الثانية لاقتحام مبنى الكابيتول، يوم 6 كانون الثاني (يناير) 2021؛ حين لاح أنّ الترامبية إنما تبلغ ذروة الهستيريا الجَمْعية، البيضاء، الانعزالية، العنصرية، المتشددة دينياً والمغالية في الولاء ليمين محافظ متعصب؛ وأنّ الأمريكي السبعيني الذي اهتاج وانتشى وهو يدوس رموز ديمقراطية آبائه وأجداده، كان يكمل سعار الأمريكي العشريني أو الثلاثيني الذي لم يعد يحفظ من «الحلم الأمريكي» إلا أقنعة الكواسر. ذلك لأنّ 12 من النوّاب الـ20 «العصاة» اليوم، كانوا ساعة اقتحام الكابيتول من المصفّقين ضمناً لأنهم أصلاً رفضوا نتيجة الانتخابات الرئاسية واعتبروا أنّ ترامب وليس بايدن هو الفائز، وهو رئيسهم الشرعي؛ و19 منهم أعضاء في «تجمّع الحرّية»، الذي أسسه عدد من نوّاب الحزب الجمهوري سنة 2015 ويُعدّ الأشدّ يمينية وتشدداً في تاريخ محلس النوّاب.
فهل يصحّ القول، بصدد حاضر الحزب الجمهوري قياساً على ماضيه القريب: ما أبعد اليوم عن البارحة؟ ليس تماماً، أو بالأحرى ليس ضمن أيّ معدّلات مقارنة تضع على المحكّ معايير السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإيديولوجي؛ ليس لأيّ اعتبار آخر يسبق الحقائق الأبعد والأعمق في طبائع المنظومة الحزبية الأمريكية، عند الجمهوريين مثل الديمقراطيين، وبدرجات عالية من التبادل والتكافل. ففي مثل هذه الأيام، ولكن قبل 27 سنة، وقع اختيار أسبوعية «تايم» الأمريكية على البروفيسور نيوتن ليروي ماكفرسن (غنغرش) ليكون رجل العام؛ لأنه يومها كان أبرز وجوه الحزب الجمهوري، رئيساً للكونغرس، وصانع ضجيج منتظم يكفي لإبقائه في سدّة الحدث اليومي وعلى خشبة المسرح الأكثر اجتذاباً للأنظار. إلى هذا وذاك، كان غنغرش أحد أبطال «العقد مع أمريكا»، أو ذلك البيان الانتخابي الذي تبارى على توقيعه مرشحو الحزب الجمهوري في انتخابات تلك السنة، كمَنْ يتناوب على شعائر الإخصاب وإحياء الأرض الموات. وإلى جانب السياسة والكونغرس، كان غنغرش أستاذ التاريخ الحديث، والروائي المولع بقصص الخيال العلمي ـ التاريخي، وأطول المحافظين الجدد لساناً في كلّ ما يتصل بالأخلاق والقيم والأعراف.
وأمّا العنصر الأهمّ وراء صعود نجمه فقد كان احتفاؤه المفرط، إلى درجة الهوس، بثوابت القيم الأمريكية، والموقع الاستثنائي لتلك القيم في السلّم الأخلاقي للإنسانية؛ بحيث أنه أعطى التكنولوجيا المعاصرة فرصة إشاعة وترسيخ وإحياء القيم القديمة، قبل تجديدها كرموز سارية المفعول في الوجدان والانضباط العام. والتاريخ، في ذلك كله، ملزَم بتعليمنا الدروس ذاتها التي تعلّمها بنيامين فرانكلين وألكسيس دو توكفيل، كما ساجل مراراً؛ والجمهوريون مطالبون بتكرار صرخة باتريك هنري (المحامي والمزارع والحاكم الأمريكي ابن القرن الثامن عشر): «أعطني الحرّية، أو فاعطني المنيّة»! وعنده أنّ خمسة أسباب تستوجب دراسة التاريخ الأمريكي: التاريخ ذاكرة جمعية، والتاريخ الأمريكي هو تاريخ الحضارة الأمريكية في الآن ذاته، وذلك كله ينطوي على امتياز استثنائي تنفرد به أمريكا عن التاريخ الإنساني العام، والتاريخ مصدر يعلّمنا بقدر ما يسمح لنا باستخدامه، والتجربة التاريخية تساعدنا في استخراج طرائق جديدة لحل المشكلات الراهنة.
غير أنّ غنغرش وقّع كتاباً بعنوان «إعادة اكتشاف الله في أمريكا»، وانقلب ذاتياً إلى سوط مسلط على رؤوس «خونة» ترامب في صفوف الجمهوريين؛ ولهذا فللمرء حقّ مشروع في تلمّس ظلّه خلف «عصاة» هذه الأيام، ومقدار الارتباط بين صعود ترامب، وانحطاط الحزب، وشيوع الأكاذيب وانتشارها كالنار في الهشيم. والغالبية من رفاقه، منظّري عقائد الحزب الجمهوري الحديث بصفة خاصة، الذين اختار لهم المؤرخ الأمريكي روبرت درابر صفة باعة «أسلحة الإيهام الشامل»، انقلبوا ذاتياً بدورهم إلى سماسرة تبعثرت وظائفهم بين خدمة ترامب والخنوع لاشتراطاته من جهة؛ واضطراب عاصف يضرب جهاز الحزب ونوّابه وأنصاره، في قلب الكونغرس، من جهة ثانية. هي حال استعصاء بالطبع، لكنّ ما يستعصي في بواطنها ليس أعراض اعتلال عضوي يتفشى في الحزب الجمهوري وحده، بل هي سيرورات تتكاثر وتتنامى وتتفاقم في الحزب الديمقراطي أيضاً، أقلّ ربما ولكن على قدم المساواة في ظواهر عديدة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

حصاد سوريا 2022:

مشاقّ وارتهان وعربدة إسرائيلية

صبحي حديدي

 

أكثر من واجب واحد، أخلاقي أولاً لكنه أيضاً يخصّ السياسة والاجتماع الإنساني، يقتضي بدء حصاد سوريا للعام 2022 من تقارير منظمة «الدفاع المدني السوري»، أو «الخوذ البيضاء» في التسمية الأخرى: استشهاد 165 شخصاً، بينهم 55 طفلاً و14 امرأة، جراء أكثر من 800 هجوم على شمال غربي سوريا، شنته قوات النظام السوري والقاذفات الروسية ومفارز «الحرس الثوري» الإيراني و»حزب الله» والميليشيات العراقية والمذهبية الأخرى الموالية لطهران. وتنوعت الضربات بين 63 غارة جوية جميعها روسية، وأكثر من 550 هجوماً بالقذائف المدفعية، و54 هجوماً صاروخياً بينها 3 هجمات بصواريخ أرض ـ أرض محملةً بقنابل عنقودية، إضافة إلى 28 هجوماً بالصواريخ الموجهة؛ وحسب المنظمة، فقد تركزت الهجمات بشكل خاصّ على المراكز الحيوية والمنشآت المدنية ومقومات الأمن الغذائي. ارتُكبت، إلى هذا، 9 مجازر في أنحاء مختلفة من سوريا، راح ضحيتها 73 شخصاً بينهم 29 طفلاً و8 نساء، وأُصيب 174 آخرون؛ وهنا أيضاً تقصد النظام وحلفاؤه استهداف الأسواق الشعبية والمخابز والمباني العامة وبعض المشافي والمستوصفات، ومخيمات اللجوء.
الأشدّ قبحاً وبشاعة وانحطاطاً في الغالبية العظمى من هذه الهجمات أنها، على صعيد النظام، تسعى إلى شحن ما تبقى من قوّات تابعة لجيشه ببعض أسباب الوجود كوحدات عسكرية، فضلاً عن شحن النفوس التائهة المريضة بمزيد من الأحقاد الانتقامية والمناطقية التي لا يغيب عنها عنصر الشحن الطائفي. على الصعيد الروسي، ثمة استمرار لنهج وضع الأسلحة الروسية الفتاكة في حال من التجريب الميداني المفتوح، خاصة تلك الأصناف التي تستحدثها مصانع الجيش الروسي ولا تجد الساحات الملائمة لاختبارها، سواء في ميادين التدريب الروسية أو في جبهات أوكرانيا المختلفة. ولم يكن استثناء أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طالب جنوده، خلال اجتماع مع القيادات العسكرية الروسية، بأن يطبقوا في أوكرانيا ما تعلموه في سوريا. إيران والميليشيات تستأنف الخيارات ذاتها التي اعتمدتها منذ دخولها طرفاً مباشراً في القتال إلى جانب النظام السوري، وإلى جانب التوسع وإنشاء القواعد العسكرية الميدانية، لا يوفّر أتباع طهران جهداً في تفكيك ما تبقى من تماسك مجتمعي في قرى سوريا وأريافها بصفة خاصة، والسعي إلى التبشير والتشييع والتطويع.
طراز آخر من الهجمات وعمليات القصف تعرضت وتتعرّض له مناطق مختلفة في سوريا، تمثله هذه المرّة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على أهداف إيرانية مباشرة أو تابعة لميليشيات موالية لطهران؛ وبات من المعتاد أن تُنفّذ ضمن سياقَين من الصمت المشترك، سواء من جانب الرادارات الروسية، حتى حين تقترب الضربات من الساحل السوري والقواعد الروسية في مطار حميميم وميناء طرطوس؛ أو من جانب الصواريخ والمسيرات الإيرانية، المنتشرة داخل سوريا أو في عهدة «حزب الله». في أواخر كانون الثاني (يناير) أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على محيط العاصمة دمشق، وفي مطلع شباط (فبراير) أغار على مواقع في محيط دمشق وضرب بصواريخ أرض – أرض أهدافاً في الجزء السوري من الجولان المحتل، وبعد أيام قليلة خلال الشهر ذاته قصفت دولة الاحتلال نقاطاً في تخوم مدينة القنيطرة، وفي مطلع آذار (مارس) استهدفت محيط مدينة دمشق مجدداً، وفي 14 و27 نيسان (أبريل) تكررت الضربات قرب العاصمة وفي عمق الجولان.

بين رحيل قَتَلة أمثال علي حيدر وذو الهمة شاليش، ومهازل عودة مجرم الحرب الأشنع رفعت الأسد إلى «حضن الوطن»، ومساخر فيديوهات تمساح الفساد رامي مخلوف؛ حملت سنة 2022 الكثير من العلامات الفارقة على اختتام آل الأسد 52 سنة من الاستبداد والفساد والإجرام والتبعية.

وفي أواسط أيار (مايو) وأواخره كان القصف نصيب القنيطرة ومحيط مصياف في محافظة حماه، وفي 10 حزيران (يونيو) خرج مطار دمشق عن الخدمة نتيجة القصف الإسرائيلي للمهابط والصالة الثانية، وفي أواسط آب (أغسطس) وأواخره استهدفت الصواريخ الإسرائيلية ريف دمشق ونقاطاً في ريف محافظتَيْ حماه طرطوس، وفي مطلع أيلول (سبتمبر) وأواسطه التحق مطار حلب بمطار دمشق فخرج من الخدمة بعد القصف الإسرائيلي لمهابطه، وفي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) قُتل 21 عنصراً من الفرقة الرابعة في قصف استهدف حافلة في منطقة الصبورة قرب دمشق، وبتاريخ 25 من الشهر ذاته نقلت صحيفة «جيروزاليم بوست» عن مصادر عسكرية إسرائيلية أنّ دولة الاحتلال دمرت 90% من البنية العسكرية الإيرانية في سوريا. وهذه ليست حصيلة إحصائية تامة، بل هي غيض من فيض ما وقع على الأراضي السورية من اعتداءات إسرائيلية، لعلّ أكثر ما يلفت الانتباه فيها أنها غالباً لم تستهدف جيش النظام مباشرة، أو الوحدات العسكرية المقرّبة من روسيا على شاكلة كتائب سهيل الحسن (النمر) مثلاً، بل اقتصرت على أهداف تابعة لإيران وميليشياتها.
من جانب آخر، اجتماعي – اقتصادي هذه المرّة، إذا كان ارتهان النظام إلى إيران وروسيا قد أعاد بعض المناطق إلى سيطرته، حتى بالمعنى الإسمي؛ فإنّ ذلك الارتهان عجز، ويواصل العجز، عن انتشال النظام من مشكلات اقتصادية بنيوية، ومن مشاقّ هائلة غير مسبوقة يعاني منها المواطن السوري على صعيد غلاء الأسعار، وندرة الموادّ الأساسية أو رفع الدعم عنها، وانحطاط الخدمات العامة على أصعدة الصحة والماء والكهرباء… ولعلّ المؤشر الأوضح جاء في ختام السنة 2022 حين هبط سعر صرف العملة الوطنية إلى 7000 مقابل الدولار الواحد، وذلك للمرّة الأولى في تاريخ الانهيارات المتعاقبة التي شهدتها الليرة السورية في أسواق العملات. مؤشر آخر هو أنّ معدلات توفير الكهرباء بلغت في بعض المناطق درجة ربع ساعة يتيمة مقابل 10 ساعات انقطاع، هذا عدا حقائق انعدام أصناف الوقود اللازمة لتشغيل المولدات؛ وباعتراف رئيس وزراء النظام، فإنّ سوريا بحاجة إلى 200 ألف برميل من النفط يومياً، بينما إنتاجها لا يتجاوز 20 ألف برميل. وكان النظام يعتمد على توريدات نفطية تؤمنها صهاريج «الحشد الشعبي» تهريباً من العراق، لكنّ عجز النظام عن سداد قيمة المهربات بالعملة الصعبة جعل الميليشيات الحليفة تتوقف عن التوريد، وكانت حال مشابهة قد اكتنفت صادرات إيران من مشتقات النفط إلى النظام.
وفي غمرة مشاقّ طاحنة تخنق حياة السوريين اليومية، وإمعان النظام أكثر فأكثر في الارتهان إلى رعاته الإيرانيين والروس، وعربدة الطيران الحربي الإسرائيلي في أجواء سوريا طولاً وعرضاً؛ أفلح رأس النظام بشار الأسد في «إنجاز» خطوتَين خارج عنق الزجاجة، تولت أجهزته الإعلامية التهليل لها، متعامية تماماً عما اكتنف الخطوتين من ملابسات فاضحة تضيف الإهانة إلى جراح السوريين. ففي مطلع أيار (مايو) قام الأسد بزيارة خاطفة إلى طهران التقى خلالها المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، وكانت الثانية بعد زيارة أولى في خريف 2019 (أسفرت، يومذاك، عن استقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بسبب عدم علمه بالزيارة)؛ من دون الإعلان مسبقاً، ومن دون رفع علم النظام لدى استقبال الأسد، وغمز خامنئي من قناة «بعض قادة الدول المجاورة لإيران وسوريا» الذين «يجلسون مع قادة إسرائيل». وليس أدلّ على هزال هذه الزيارة من حقيقة أنّ خامنئي كان يقصد دولة الإمارات التي طبّعت مع الاحتلال الإسرائيلي، ولكن تلك التي كانت «إنجاز» الأسد الثاني؛ لأنّ محمد بن زايد استقبل الأخير في أبو ظبي، لأغراض شتى قد يكون تعكير ارتهان الأسد لإيران في طليعتها!
وبين رحيل قَتَلة أمثال علي حيدر (قائد الوحدات الخاصة الأسبق)، وذو الهمة شاليش (المرافق الشخصي للأسدَين الأب والابن وأحد ضباع الفساد)، ومهازل عودة مجرم الحرب الأشنع رفعت الأسد إلى «حضن الوطن»، ومساخر فيديوهات تمساح الفساد رامي مخلوف؛ حملت سنة 2022 الكثير من العلامات الفارقة على اختتام آل الأسد 52 سنة من الاستبداد والفساد والإجرام والتبعية.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

الجولان وآل الأسد:

موئل المقاومة ومآل الاستبداد

صبحي حديدي

 

سجلت سنة 2022 الذكرى الـ40 للحدث الوطني والسياسي الفارق الأكثر مغزى في التاريخ الحديث للجولان السوري، خلال العقود التي أعقبت وقوعه تحت الاحتلال الإسرائيلي، سواء في سنة 1967 أو 1973؛ أي الإضراب الواسع الكبير الذي تداعى إليه المواطنون السوريون في الغالبية الساحقة من بلدات وقرى هضبة الجولان، والذي انطلق يوم 14/2/1982، وتواصل حتى 19/7 من ذلك العام، ويُعتبر الأطول ليس في حوليات الهضبة وحدها بل على امتداد تاريخ سوريا الحديث. وفي جوانب عديدة، حمالة دلالات استثنائية، كان الإضراب بمثابة حركة الاحتجاج الأوسع نطاقاً، والأرقى تنظيماً، والأرفع التزاماً، ضد قرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي المؤرخ في 14/12/1981 القاضي بضم الجولان، والذي صادق عليه الكنيست لاحقاً.
وإذا كانت عشرات التفاصيل التي اقترنت بمسارات ذلك الإضراب مدعاة اعتزاز أهل الجولان، وحرصهم على استذكارها وتناقلها وتعميمها على الأجيال الشابة؛ فإن الفخار المشروع ظل يقترن بغصة كبرى، مفهومة تماماً، أو لعلها أحياناً تذهب إلى ما هو أبعد من مشاعر السخط والغضب، إزاء التخاذل الذي طبع ردود أفعال النظام السوري تجاه خطوة رأى حافظ الأسد أنها ترقى إلى مستوى إعلان الحرب، فلم يكتفِ بإبقاء خطوط الجبهة كافة في الحال المعتادة من صمت القبور، بل أشغل أجهزة النظام الأمنية ومعظم وحداته العسكرية الخاصة الموالية في تنفيذ المجازر الداخلية، ضد مدن وبلدات وقرى سوريا طولاً وعرضاً!
وليس من الإنصاف، كلما ذُكرت هذه المفارقة بين إضراب السوريين في الجولان المحتل وخضوع سوريين آخرين في الداخل لوحشية النظام، ألا تُساق الوقائع أو تلك الأشد دموية في عدادها: حين بدأ إضراب الجولان المحتل، كانت 12 يوماً قد انقضت على شروع النظام السوري في تنفيذ مجزرة حماة (30 إلى 40 ألف قتيل)؛ وقبل، ثم بعد، قرار الاحتلال الإسرائيلي بضم الجولان كان النظام قد ارتكب سلسلة مجازر أخرى (جبل الزاوية، 13ـ15/5/1980: 14 ضحية؛ سرمدا، 25/7/1980: 11 ضحية؛ سوق الأحد، حلب، 13/7/1980: 43 ضحية؛ ساحة العباسيين، دمشق، 18/8/1980: 60 ضحية؛ حي المشارقة، حلب، 11/8/1980، صبيحة عيد الفطر: 100 ضحية…). وإلى جانب هذه المجازر التي شهدتها التجمعات السكانية المختلفة، كانت السجون السورية تشهد تصفيات جماعية مباشرة (مجزرة سجن تدمر، 27/6/1980: 500 ضحية على الأقل)، أو مئات الوفيات جراء التعذيب. وأما ذروة التضاد المرير، في ناظر أهل الجولان وأهل سوريا على حد سواء، فقد تجسدت في مقادير اللاتناسب بين ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية خلال مساعي كسر الإضراب، وسلوك أجهزة النظام السوري في حصار المدن وقصفها وارتكاب الفظائع هنا وهناك.

ثمة تلك الغصة القديمة عند السوريين في الداخل، إذ لا يملكون سوى التضامن مع أشقائهم في الجولان، فضلاً عن المقارنة بين استبداد فاشية محلية سورية، وأخرى محتلة إسرائيلية؛ وعند الجولانيين، إذْ يواصلون الانتماء إلى وطن ينزف على يد الطغاة، ولكنه موئل أول، ومآل أخير

ولقد توفر إجماع لدى مراقبي تلك الحقبة، سانده المنطق السليم البسيط، بأن مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع الصقر؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ وجدوا أن الفرصة سانحة لضم الهضبة المحتلة، في هذا التوقيت تحديداً. ولم يكن السبب أنهم استغلوا انشغال جيش النظام بمعاركه ضد الشعب السوري، إذ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أن الأسد الأب لن يحرك ساكناً في كل حال؛ بل لأن ضم الجولان آنذاك كان سيمر من دون حرج دبلوماسي دولي ملموس، ومن دون تعاطف صريح مع نظام يرتكب المجازر بحق أبناء سوريا وينشغل بالحفاظ على سلطة الاستبداد والفساد أكثر بكثير من أي اكتراث بخسران أرض محتلة هو عاجز أصلاً عن تحريرها، لا بالحرب ولا بالسلام. ونعرف اليوم، من المعطيات التي رُفعت عنها درجات مختلفة من السرية، أن المشاحنة بين «الليكود» و«حزب العمل» لم تتركز على ضم الجولان، فكلاهما اتفق على الخطوة، وإنما على توقيت مع المجازر داخل سوريا رأى فيه «العمل» ضربة بارعة من جانب بيغن وبورغ!
قبل قرار الضم كانت دولة الاحتلال قد عدلت قانون الجنسية الإسرائيلية، وجرى تخويل وزير الداخلية بمنح الجنسية تحت شروط متنوعة طُبق بعضها على أهل الجولان بموجب توصيف غامض فضفاض يشير إلى اعتبار الجنسية «مصلحة خاصة للدولة»؛ الأمر الذي اقترن، سريعاً، بإجراءات إسرائيلية تضغط على سكان الجولان لقبول الجنسية، مع إشاعة أن 400 شخص قبلوا بها (اتضح أن 300 من هؤلاء يحملون الجنسية الإسرائيلية أصلاً لأنهم من دروز مناطق 1948 وهاجروا إلى الجولان لأسباب عائلية أو معيشية). الخطوة الجولانية الرديفة، الوطنية بامتياز وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول أدوار رجال الدين في تنظيمها أو في تسخيرها أو تجييرها، كانت تحويل «الخلوة» الدينية الشهيرة، خاصة حين تنعقد في مجدل شمس، إلى ما يشبه مجلساً وطنياً للتداول حول شؤون الجولان المحتل واتخاذ القرارات والتوصيات بشأن حاضره ومستقبله.
ولعل واحدة من أنصع وثائق تلك الممارسة كانت «الوثيقة الوطنية»، أواخر آذار (مارس) 1981، التي نصت في البند 6 على أن «الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة والذين هم من كل قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عما يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم»؛ وفي البند 7: «كل مواطن من هضبة الجولان السورية المحتلة تسول له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء إلى كرامتنا العامة وإلى شرفنا الوطني وإلى انتمائنا القومي وديننا وتقاليدنا ويعتبر خائناً لبلادنا»؛ كما ذهب البند 8 إلى إجراءات ردع قصوى: «قرارنا لا رجعة فيه، وهو كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون منبوذاً ومطروداً من ديننا، ومن نسيجنا الاجتماعي، ويُحرم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأتراحه، أو التزاوج معه، إلى أن يقر بذنبه ويرجع عن خطئه، ويطلب السماح من مجتمعه ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية».
ولم تكن مصادفة عمياء أن الذكرى الثلاثين لإضراب الجولان المحتل ترافقت مع قصف وحشي تعرضت له أحياء حمص، فاستُخدمت ضد أبنائها أسلحة مدمرة تحاكي، أو تفوق أحياناً، تلك التي استخدمها الإسرائيليون ضد رام الله وغزة وقانا وبيروت… حتى إذا كان بلد المنشأ مختلفاً، بين أمريكا وروسيا. قرائن المنطق خلف المصادفتَين كانت تشير إلى أن ذلك النظام الذي دك مدينة حماة سنة 1982، عام الإضراب الجولاني المجيد؛ هو ذاته النظام الذي دك حمص، في الذكرى الثلاثين للإضراب؛ بل لعله أشد همجية أيضاً: بين الأسد الأب، الذي كان يقاتل لاجتثاث مجموعات مسلحة محدودة العدد والعدة، بغية تأديب المجتمع بأسره؛ والأسد الوريث، الذي يقاتل الغالبية الساحقة من الشعب الأعزل، بما ملك نظامه من آلة بطش أمنية وعسكرية ومالية، وبما يستعين من قاذفات روسية ومقاتلي «الحرس الثوري» الإيراني وميليشيات «حزب الله» والمفارز الأخرى المذهبية.
وبين 40 سنة على الإضراب الجولاني الكبير المشرف، وإصرار الغالبية العظمى من أبنائه على المقاومة ورفض الضم والتشبث بالهوية الوطنية؛ و52 سنة على نظام الاستبداد والفساد والتوريث الذي أقامه آل الأسد، وينتهي اليوم إلى تدمير سوريا شعباً وعمراناً وتسليمها إلى خمسة احتلالات وتشريد الملايين من أبنائها في أربع رياح الأرض؛ ثمة تلك الغصة القديمة المتأصلة: عند السوريين، في الداخل، إذ لا يملكون سوى التضامن مع أشقائهم في الجولان، فضلاً عن المقارنة بين استبداد فاشية محلية سورية، وأخرى محتلة إسرائيلية؛ وعند الجولانيين، إذ يواصلون الانتماء إلى وطن ينزف على يد الطغاة، ولكنه موئل أول، ومآل أخير.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

(بزنس) كرة القدم:

الشركة الرأسمالية أشطر وأغنى

صبحي حديدي

 

المؤلف الأول، لوك أرونديل، باحث في «المركز الوطني للبحث العلمي» CNRS، أحد أرفع مراكز الأبحاث الفرنسية؛ وزميله المؤلف الثاني، ريشار دوتوا، باحث في «الكونسرفاتوار الوطني للفنون والمهن» CNAM، في عداد المؤسسات الأهمّ التابعة لوزارة التعليم العالي؛ وكلا المؤلفين مختص بالاقتصاد والمال والأعمال، يديران مختبر أبحاث متعدد النُظُم ومركزاً ثانياً لدراسات العمل والتوظيف؛ ولا علاقة فنية أو نقدية تجمعهما بكرة القدم. لكنهما أصدرا سنة 2020 كتاباً بالفرنسية عنوانه «على غرار الصبيان: اقتصاد كرة القدم النسائية»؛ وكتاباً ثانياً صدر مؤخراً بالفرنسية أيضاً، يطوّر مساهمة سابقة تعود إلى عام 2018 بعنوان «أموال كرة القدم»، في جزء أول تناول أوروبا.
وهذا عمل يتصف بأهمية خاصة لأسباب عديدة، لعل أبرزها في يقين هذه السطور أن مقاربة أرونديل ودوتوا لا تسير على منوال السائد المتفق عليه عموماً، حول كرة القدم بوصفها ميدان «بزنس» من العيار الثقيل؛ بل تساجل بأن تقاليد الشركات الرأسمالية المعاصرة لا تترك لهذه الرياضة هوامش منافسات ربحية عالية كما قد يذهب الظن، وذلك رغم عشرات المليارات التي تجنيها المباريات والمسابقات ودورات المونديال، أو التي تُصرف على شراء اللاعبين خلال مواسم الانتقالات بين الأندية. الكتاب لا ينزّه الرساميل والشركات ومؤسسات المال الكبرى عن الاستثمار، الكثيف والثقيل، في ميادين كرة القدم المختلفة؛ لكنه يسعى إلى وضع هذه الأنشطة في سياقات مقارِنة تتيح تلمّس مؤشرات ملموسة أكثر تبياناً لطبائع «البزنس» الفعلية في عوالم الأطوار الراهنة من هيمنة رأس المال واقتصاد السوق وقوانين العرض والطلب والمنافسة.
على سبيل المثال، من واقع كرة القدم الاحترافية الفرنسية: في سنة 2018 ـ 2019 بلغ حجم معاملاتها المالية أكثر قليلاً من مليارَي يورو (2.117 مليار، لـ40 نادياً)، بينها 1.9 مليار لأندية الدرجة الأولى التي تعدّ 20 نادياً؛ وفي المقابل، كانت أكبر الشركات الفرنسية قيمة في البورصة، تأمين
AXA، قد حققت خلال السنة ذاتها أكثر من 50 ضعفاً بالمقارنة مع اتحاد الكرة الفرنسي؛ وأمّا شركة Uber Eats، منصة توزيع الأطعمة الجاهزة التي تُشرك اسمها في رعاية البطولة الفرنسية، فقد سجلت أرباحاً بقيمة 1.4 مليار يورو خلال سنة 2019. وعلى مستوى أوروبي، خلال سنة القياس ذاتها، كانت الحسابات المجتمعة للبطولات الخمس الأكبر في حدود 17 مليار يورو، أي أقل من حجم الأرباح التي كدستها شركة اليانصيب الفرنسية.
من جانب آخر، إذا كانت أندية كرة القدم بمثابة «أقزام» اقتصادية بالمقارنة مع الشركات الرأسمالية الكبرى، فإنها «عمالقة» على المستويات الإعلامية وفي وسائل الميديا المختلفة، حسب تعبير أرونديل ودوتوا. الأندية الثلاثة الأكثر «شعبية»، والمزدوجات من المؤلفين، أي ريال مدريد وبرشلونة ومانشستر يونايتد، هي أيضاً الأندية الأغنى حسب تصنيف «رابطة أموال كرة القدم»؛ وها هي أرقام التعاملات المالية: ريال مدريد، 757 مليون يورو؛ برشلونة، 852 يورو؛ مانشستر يونايتد، 627 مليون يورو؛ وهذه الأندية الكبيرة العريقة، ذات الجاذبية العالمية الواسعة، لا تنافس اقتصادياً شركة أثاث وتجهيزات منزلية مثل «كونفوراما»، الراعي السابق لأندية الدرجة الأولى الفرنسية، التي حققت معدلات أرباح أعلى من الأندية الثلاثة مجتمعة.

النادي يمكن أن يمتلك رصيداً جماهيرياً، وسجلاً حافلاً بالانتصارات، واحتشاد المشاهدين في المدرجات، والثبات على مستوى راسخ في المنافسة؛ لكن هذا كله، وسواه أيضاً، لا يوحد بالضرورة ثنائية الفوز على أرضية الملعب والأرباح في شباك التذاكر

وفي عودة إلى الفرضية المركزية لنظرية الشركة الرأسمالية (النيو ـ كلاسيكية، ولكن الحديثة والمعاصرة أيضاً)، يذكّر المؤلفان بأنها كانت وتبقى تضخيم الأرباح قدر الإمكان؛ الأمر الذي يقودهما إلى الاستنتاج بأن كرة القدم ليست من ذلك الطراز، الذي يوفر عناصر الزيادة في المبيعات أو التوسع أو الوثوق بالمنتج، وما إلى ذلك. النادي يمكن أن يمتلك رصيداً جماهيرياً، وسجلاً حافلاً بالانتصارات، واحتشاد المشاهدين في المدرجات، والثبات على مستوى راسخ في المنافسة؛ لكنّ هذا كله، وسواه أيضاً، لا يوحّد بالضرورة ثنائية الفوز على أرضية الملعب والأرباح في شباك التذاكر. وهذه حال يناقشها المؤلفان بتفصيل أوسع، وأمثلة كثيرة مدهشة في دلالاتها، على مدار ملفات ثلاثة: أولئك الذين يملكون، أو «المليارديرات في لباس الشورت»؛ وأولئك الذين يموّلون، أو الأثرياء والمشاهير؛ وأولئك الذين يلعبون، أو جماعة «إبذلْ أكثر لتربح أكثر».
حول الملف الأول، وعلى سبيل المثال من فرنسا أيضاً، كانت الأندية خلال ثلاثينيات القرن المنصرم ملكية للشركات الصناعية بصفة رئيسية، أمثال «بيجو»، التي امتلكت نادي سوشو؛ وشركة المناجم، صاحبة نادي لانس؛ وشركة كازينو، مالكة سانت إتيان. وأما في حقبة 1980 ـ 1990 فإن شركات انتاج المرئي/ السمعي هي التي استثمرت في كرة القدم الفرنسية:
Canal+ في باريس سان جيرمان، وM6 في بوردو. وأما اليوم، في فرنسا كما في أوروبا، فإن غالبية الأندية باتت ملكية أشخاص أفراد، مادياً أو اعتبارياً، وطبقاً لاتحاد الكرة الأوروبي فإن نسبة 50٪ من أندية النخبة تخضع لهذه الحال. وعند النظر في الترسيم السوسيولوجي لمالكي أندية الدرجة الأولى، يتضح أن السيرورة الأعم تعتمد على توظيف رأس المال، وليس تشغيل «شركة» بالمفهوم الاقتصادي سالف الذكر؛ مع إشارة هامة إلى أن بعض مالكي الأندية يديرون، بالفعل، شركات رأسمالية مزدهرة في قطاعات صناعية وتجارية أخرى.
وفي ملفّيْ التمويل واللعب، لا تختلف الخلاصات جوهرياً لجهة تأكيد ما يفترضه أرونديل ودوتوا حول «بزنس» الشركة الرأسمالية المعاصرة الأشطر من أي استثمار في ميادين كرة القدم، وهما يقتبسان عبارة اللاعب الهولندي الشهير يوهان كرويف («لماذا لا نستطيع هزيمة فريق أغنى؟ لم أشهد حقيبة مليئة بالأوراق النقدية تسجّل هدفاً»)، ليطرحا التساؤل المزدوج التالي: أليس المال، على العكس، شرطاً ضرورياً أو حتى كافياً، للفوز؟ أم أن الانتصارات هي التي تسمح بكسب المداخيل؟ وإلى جانب الأموال الناجمة عن مناقلات اللاعبين، تنحصر مداخيل الأندية في أربعة مصادر: حقوق نقل المباريات، بيع التذاكر، تسويق البضائع، والرعاية المشتركة. وإذا كانت هذه قد خضعت، وتخضع منطقياً، لقانون المد والجزر والصعود والهبوط، فإن جوهر اشتغالها يظل مختلفاً عن نظائره في الشركات المعاصرة، خاصة في هذا الطور من عَوْلَمة رأس المال.
وفي قسم رابع ختامي من الكتاب، يُكرّس للجمهور والأنصار ومتابعي كرة القدم عموماً، يسوق المؤلفان عبارة من الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو (الذي كان ذات يوم حارس مرمى لفريق «راسينغ الجامعي» في الجزائر، أثناء الاحتلال الفرنسي): «سوى ملعب كرة قدم، ليس من مكان آخر في العالم يكون المرء فيه أكثر سعادة»؛ الأمر الذي لا يعني أن كتّاباً سواه لم يكونوا أكثر تشكيكاً في اللعبة، على غرار الأرجنتيني خورخيه لويس بورخيس الذي اعتبر أن «كرة القدم شعبية لأن الغباء شعبي»، معتبراً أن «22 فتى في بناطيل قصيرة يركضون خلف كرة واحدة، بينما يكفيهم أن يشتروا 22 كرة».
والحال أن «الصراع» من أجل الفوز في الملعب غير بعيد عن تشكيل مناسبة استثنائية تتيح للأمّة أن توظف طاقات أبنائها في قتال «نظيف» مع أمم أخرى قد تكون أكثر جبروتاً في جميع الاعتبارات، لكنها تخضع بالتساوي لقانون كوني واحد يضع المغرب على قدم المساواة مع فرنسا؛ كما يحيل ملعب كرة القدم إلى ما يشبه البرلمان الأمثل لاتحاد شعوب العالم، حيث تتساوى الشعوب في الخضوع لقوانين احتساب الهدف والخطأ وضربة الجزاء.
وبالطبع، حال كرة القدم أخطر كثيراً من اختزال كامو وبورخيس؛ وإنْ كانت أموالها، التي تُقدّر بعشرات المليارات، أقل قدرة على صناعة الـ»بزنس» من الشركات الرأسمالية المعاصرة، وأدنى شطارة» استطراداً.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

الاتفاق الإطاري في السودان:

المجرَّب والمخرَّب

صبحي حديدي

 

في وسع مراقب محايد أن يتلمس، وربما بسهولة نسبية، حفنة من المعطيات التي تكتنف توقيع الاتفاق الإطاري بين جنرالات الجيش السوداني من جانب أوّل، و«قوى إعلان الحرية والتغيير» – مجموعة المجلس المركزي والفئات السياسية والنقابات المتحالفة معها من جانب ثان. وفي وسع المراقب ذاته، إزاء وضع تلك المعطيات ضمن حال جدلية من تَطابق المصالح أو تناقضها، أن يستخرج ميزاناً مبسطاً يتجاوز الخطاب واللغة الوردية والآمال وإعلانات النوايا الحسنة؛ إلى الحقائق الصلبة ذات الرسوخ والصلاحية، وبالتالي إلى حصيلة المكاسب والخسائر للفريقين.
مراقب آخر، من طراز غير محايد مثلاً، سوف يتوقف أوّلاً وبصفة خاصة عند سؤال كبير مركزي: هل يمكن الوثوق بهؤلاء الجنرالات، أمثال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو على وجه التحديد، في أنهم لن يسارعوا مجدداً إلى تنفيذ انقلاب جديد، يتابع انقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، أو يستكمل أغراضه المتمحورة أساساً حول إحكام قبضة الجيش على الدولة والمجتمع؟ وهل من التعقّل السياسي تجريب المجرَّب، في مضمار شهوة العسكر إلى السلطة والتسلط، من دون الحكم على المجرِّب بأنّ عقله مخرَّب، كما تقول الحكمة العتيقة الصائبة؟
وهذا المراقب سوف يرحّل أسئلة كهذه إلى منطقة ثالثة، لا تخلو من تحكيم عقلي ذرائعي يشمل الفريقَين الموقعين على الاتفاق الإطاري، من زاوية بسيطة أو حتى تبسيطية تتساءل عن حوافز العسكر في الذهاب إلى التوقيع أصلاً: هل لأنّ الانقلاب فشل، حتى الساعة، في إنجاز أغراضه المرجوة ودخل في حال من الركود أو الجمود أو العطالة، الأمر الذي يستدعي تنازلاً هنا أو انحناءة هناك؟ أم، استطراداً، لأنّ الانقلاب أوقع قوى إقليمية ودولية، صديقة للعسكر عملياً، في حرج بيّن استوجب وقف الدعم المالي وتخفيف المساندة السياسية، والمطالبة بعودة الحكم المدني وإنْ على مستوى اللفظ والبيان فقط؟ وهل، ثالثاً، أخفق العسكر في جرّ أمثال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الإماراتي محمد بن زايد إلى يقين بأنّ فضائل الانقلاب ما تزال سارية المفعول، ويمكن منحها فرصة إضافية؟
وأمّا مراقب من طراز ثالث، يميل أكثر إلى «لجان المقاومة» والحراك الشعبي وتظاهرات الاحتجاج الرافضة للاتفاق الإطاري، فإنّ ذخيرته من أسباب التشكيك والطعن والاعتراض وافرة ومتعددة، بل سوف تكون آخذة في التزايد كلما انقضى يوم شاهد على تخلّف الجنرالات عن الوفاء بما وقّعوا عليه. القضايا الخلافية، وهي التي علّقها الاتفاق الإطاري إلى أجل غير مسمى، ليست قليلة العدد ولا ضئيلة الأهمية، فضلاً عن احتوائها على الكثير من عناصر تفجير الاتفاق:
ــ متى، ومَن يضمن، دمج «قوات الدعم السريع» في الجيش السوداني، ولماذا يُقدم البرهان على خطوة كهذه كفيلة على المدى البعيد بإضعاف حليفه ونائبه دقلو؟
ــ متى، ومَن يضمن، تحريك ملفات العدالة الانتقالية، بما يؤكد محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضدّ أبناء السودان؛ فما بالك بعدم عودة رموز نظام عمر حسن البشير إلى المشهد، أو إلى سدّة السلطة؟
ــ متى، ومَن يضمن، حُسْن تنفيذ اتفاق سلام جوبا، ومشكلات شرق البلاد، وأنشطة الحركات المسلحة، واستتباب الأمن في غرب السودان؟
ليس العسكر في عداد الضامنين، منطقياً، لأنّ قبضة الجنرالات على السلطة والتسلط تتغذى على مشكلات كهذه، والإبقاء عليها معلّقة وعالقة يزوّد الجيش بذرائع إضافية تسوق مخاوف انزلاق البلد إلى «الفوضى» و«الحرب الأهلية» و«التفكك». وليست الأطراف المدنية المتوافقة اليوم مع الجنرالات قادرة اصلاً على فعل الضمان، ومثلها اللجان والقوى المعترضة على الاتفاق.
وأما مفتاح فكّ الاستعصاء فإنه يبدأ أوّلاً من كلمة حقّ نطق بها البرهان (وأراد بها باطلاً، كما اتضح): «العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات»؛ أو الحكم المدني الديمقراطي، باختصار وافٍ وكافٍ.

 

فضيحة بريطانية تسبق العراقية:

اقتصاد المواطن المكبّل

صبحي حديدي

 

إذا ظنّ امرؤ أنّ فضيحة القرن المالية، في ميادين الفساد والاختلاس والسرقة وسواها، عراقية المنشأ (نهب نحو 3.7 ترليون دينار عراقي، ما يعادل 2.5 مليار دولار، من أموال مصلحة الضرائب)؛ فإنّ فضيحة كبرى منافسة، بريطانية قلباً وقالباً هذه المرّة، تحيل زميلتها العراقية إلى مراتب أدنى: إدارة الصحة والرعاية الاجتماعية خسرت 75٪ من الـ12 مليار جنيه إسترليني (أي ما يعادل 4 مليار إسترليني) من تجهيزات دائرة «معدّات الحماية الفردية»، أو الـ PPE، التي تمّ شراؤها خلال العام الأوّل من جائحة كوفيد ـ 19 ولم تعد صالحة، وتوجّب إحراقها على سبيل الاستفادة منها في… قطاع الطاقة!
عضوة البرلمان البريطاني ورئيسة لجنة الحسابات العامة، السيدة ميغ هيليير، قالت في تقريرها إنّ « حكاية مشتريات الـ
PPE قد تكون الواقعة الأشدّ خزياً في ردّ الحكومة على الجائحة. ففي بدء الجائحة تُرك العاملون في الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية وحيدين يجازفون بحياتهم ومصائر أسرهم نظراً لنقص المعدات الأساسية. وفي محاولة يائسة بذّرت الحكومة مبالغ هائلة، فصرفت على نحو متضخم بذيء إلى وسطاء في تسرّع فوضوي، تركنا أمام عقود حكومية ضخمة تحقق فيها اليوم الوكالة الجنائية الوطنية على أساس اتهامات بممارسة عبودية حديثة في سلسلة تأمين المواد». ولا يُستخدم تعبير العبودية جزافاً هنا، لأنّ التقرير البرلماني الذي رفعته هيليير يحتوي على تفاصيل مذهلة لجهة المدفوعات غير المرخّص بها، وطبيعة الشبكات المستفيدة، ومدى الصلة (أو بالأحرى: انعدامها) مع القطاع الصحي.
الإشكالية هنا أعمق، وأبعد أثراً ومغزى، من فرضية تبسيطية يمكن أن يسوقها منافح مدافع عن النظام الحكومي أو الديمقراطية البريطانية عموماً، وتتخذ من أخطاء البيروقراطية الإدارية ذريعة لتفسير الوقائع؛ الأمر الذي يسهّل القفز عن حقائق/ قواعد الإنفاق الحكومي في ظلّ النظام الرأسمالي المعاصر، في أوروبا والولايات المتحدة وسائر منظومات الاقتصاد الحرّ. ثمة تضادّ صارخ بين سياسات الصرف العامة، الحكومية، ذات الصلة بقطاعات الدولة وشركائها عموماً، من جهة؛ وفُرَص المواطن/ دافع الضرائب، مموّل تلك السياسات، في مراقبة، أو حتى معرفة، أوجه الإنفاق، الفعلية أو المستورة، من جهة ثانية. والمنطق يقول، من جهة ثالثة، إنّ الفارق معدوم أو يكاد بين حكومة محافظين يقودها بوريس جونسون، أو حكومة عمّال برئاسة كير ستارمر؛ بالنظر إلى أنّ ركائز الجوهر، من حيث سلطة المنظومة قبل أنساق الجهاز البيروقراطي في الواقع، متماثلة وشبه ثابتة.
ذلك، بالطبع، لا يعني البتة أنّ معدلات الفساد مرتفعة في بريطانيا، إذْ أنّ تقرير منظمة «الشفافية الدولية» للعام 2021 يضعها في المرتبة 11 من أصل 180 دولة، ويمنحها علامة متقدمة نسبياً تبلغ 78/ 100؛ ولا يعني، استطراداً، أنّ فضيحة الـ 4 مليار إسترليني قابلة للمقارنة، بمعنى طرائق الفساد والإفساد والنهب، مع الـ3,7 ترليون دينار عراقي. لكنه يعني، على النحو الأوثق القابل للمقارنة، السهولة العالية أو القصوى التي تتمتع بها أجهزة الصرف والإنفاق الحكومية، في ظلّ منظومة اقتصاد رأسمالي حرّ بريطانياً، مقابل منظومة فساد غير ديمقراطية أو حزبية أو ميليشياتية في نموذج العراق. وضمن مقاربة مقارنة كهذه، قد يصحّ الافتراض بأنّ الطامة أكبر في لندن منها في بغداد، ليس لأنّ أعذار النهب أو التبذير مختلفة بين البلدين، فحسب؛ بل كذلك، وأساساً ربما، لأنّ أواليات الرقابة العامة أعلى كفاءة في بريطانيا قياساً على العراق.

ولأنه ظاهرة شبيهة برقصة التانغو، لا تتمّ من دون وجود طرفين اثنين: الذي يستلم المال القذر، والذي يسلّمه؛ فإنّ مراقصة الأغنياء للفقراء في ملفات الفساد تنقلب إلى تانغو منفرد: العمالقة الأغنياء يرقصون، والصغار الفقراء يُهمشون

ومن عجائب هذا الملفّ، والدلائل على العلاقة الشائكة بين منظومات الاقتصاد الحرّ والفساد، أنّ الحكومة البريطانية ذاتها كانت قد استضافت، سنة 2016، قمة عالمية لمكافحة الفساد؛ تطلعت إلى الأمنيات المتكررة، ورفعت الشعارات المألوفة العتيقة، ودعت إلى صياغة موقف عالمي يعالج الظاهرة، ويقترح اتخاذ سلّة إجراءات رادعة ليس بصدد الأنظمة الفاسدة، المشبوهة الدائمة، فقط؛ بل كذلك سرّية أعمال الشركات، وشفافية الحكومات، وتطبيق قوانين دولية في محاسبة الفساد والفاسدين. دافيد كاميرون، وكان رئيس وزراء بريطانيا يومذاك، مهّد للقمة بهذا التصريح: «شرّ الفساد يبلغ كلّ زاوية من هذا العالم. وهو يكمن في قلب ما نواجهه من المشكلات الأكثر إلحاحاً، من التشوش الاقتصادي، إلى الفقر المستوطن، إلى تهديد دائم الحضور يخصّ التشدد والتطرف». وإذْ تمنى كاميرون أن يلاقي وليد القمة تلك ـ «أوّل» إعلان عالمي ضدّ الفساد ـ نجاحاً وفاعلية في المستقبل؛ فإنه أنذر، ضمناً، بالانتكاسات المعتادة: الانتصار في المعركة «لا يتمّ بين ليلة وضحاها، ويتطلب وقتاً وشجاعة وعزماً».
وإلى جانب حفنة ضئيلة من رؤساء الدول، مثل النيجيري محمد بخاري، والأفغاني أشرف غني؛ واثنين من رؤساء الوزارة، في نيوزيلندا وسنغافورة؛ بدا ملحوظاً تماماً، وفاقعاً صارخاً، أنّ الدول الكبرى المصنّعة لم تشارك إلا على مستوى وزراء الخارجية (أمريكا وألمانيا، مثلاً)، أو شاركت بتمثيل متدنِ عن سابق قصد (روسيا أرسلت أحد نوّاب وزير الخارجية)؛ وشاركت كريستين لاغارد، عن صندوق النقد الدولي؛ وجيم يونغ كيم، عن البنك الدولي؛ وخوسيه أوغاز، عن منظمة «الشفافية الدولية». أما الطريف، وسط هذا الحشد، فقد كانت مشاركة فرنسيس فوكوياما، دون سواه، في ورقة لا تبشّر بنهاية التاريخ مجدداً، بل تشخّص الفساد: «السمة التي تعرّف القرن الحادي والعشرين، تماماً كما كان القرن العشرون قد اتصف بصراعات إيديولوجية واسعة النطاق بين الديمقراطية والفاشية والشيوعية»!
والحال أنّ سعادة كاميرون باعتماد «أوّل» إعلان عالمي حول مكافحة الفساد لم تكن في محلّها، لأنّ اتفاقيات دولية سابقة، واحدة بارزة على الأقلّ، رأت النور في صيغة «ميثاق الأمم المتحدة لمكافحة الفساد»
UNCAC، وقعت عليه 140 دولة عند اعتماده سنة 2003، وهي اليوم تعدّ 178 دولة. غنيّ عن القول إنّ معظم الدول الموقعة على ذلك الميثاق لا تغرق في الفساد، فحسب؛ بل تمارس الإفساد أيضاً: في تقارير «الشفافية الدولية» يسير ترتيب الدول الأكثر إفساداً، أي الأكثر سخاء في منح الرشاوي للدول أو الجهات المتعاقدة، كما يلي: روسيا، الصين، تايوان، كوريا الجنوبية، إيطاليا. وهذه اللائحة تضمّ مجموعة الدول الآسيوية الأساسية (هونغ كونغ، ماليزيا، اليابان)، ثمّ معظم الديمقراطيات الغربية (الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا…). لافت، إلى هذا، أنّ حقول منح الرشوة تتركّز في قطاعات الزراعة، والصناعة الخفيفة، والإنشاءات المدنية، والطبّ والصيدلة!
وإلى جانب علاقة الجهاز المبذّر مقابل المواطن المكبّل، ثمة مبدأ مركزي حاسم، بات ناظماُ الآن، يقول إن الفساد تعَوْلَم بدوره، ولكنّ عواقبه تصبح وخيمة أكثر أو أقلّ قياساً على ثقافة سياسية دون غيرها، أو على نظام اقتصادي دون آخر، أو على الدكتاتوريات دون الديمقراطيات. وما دامت الوقائع تشير إلى أنّ الكلّ سواسية، تقريباً، في فضائح النهب أو سوء الإنفاق، فإن الطرائق الناجعة (أو التي يمكن أن تكون ناجعة في أي يوم) ينبغي أن تأخذ بالحسبان حقيقة وجود الفاسد كتفاً إلى كتف مع المفسِد، وحقيقة وجودهما داخل هياكل الدولة وخارجها أيضاً.
ولأنه ظاهرة شبيهة برقصة التانغو، لا تتمّ من دون وجود طرفين اثنين: الذي يستلم المال القذر، والذي يسلّمه؛ فإنّ مراقصة الأغنياء للفقراء في ملفات الفساد تنقلب إلى تانغو منفرد: العمالقة الأغنياء يرقصون، والصغار الفقراء يُهمشون. وفي نموذج الفضيحة البريطانية، التي أرسلت أختها العراقية إلى صفّ ثانٍ، فإنّ دافع الضرائب الضحية يمكن أن يقاصص المسؤولين عن فضيحة ما في أيّ صندوق اقتراع وشيك؛ ريثما يُكشف النقاب عن واقعة فاضحة أخرى… تجبّ ما قبلها!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

أمريكا وأوروبا: معارك

أقطاب الرأسمالية المعاصرة

صبحي حديدي

 

إذا كان التوتر بين فرنسا والولايات المتحدة حول صفقة الغواصات مع أستراليا قد انخفضت حدّته منذ أيلول (سبتمبر) 2021، وأسلمت باريس أمرها إلى واحد من أعتى وأعتق القوانين الرأسمالية التي تخصّ صراع الأسواق وتسليع المصالح الاستثمارية؛ فإنّ التوتر الجديد يدور حول ما بات يُعرف باسم «تشريع خفض التضخم»، IRA، الذي الذي أقرّه الكونغرس ووقّع عليه الرئيس الأمريكي جو بايدن في أواسط آب (أغسطس) الماضي ليصبح قانوناً. الاتحاد الأوروبي بأسره، وليس فرنسا وحدها، هي هذه المرّة المتضررة من التشريع الجديد، وبالتالي فإنّ الشطر الأوروبي من الرأسمالية المعاصرة يدخل في حال خلافية مع الشطر الأمريكي. وليس من المرجح أن ينجح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الراهنة إلى الولايات المتحدة، في إقناع نظيره الأمريكي بأنّ مصالح الشطرَين تقتضي حلّ النزاعات بدل تأجيجها.
مضمون التوتر الجديد لا يخرج كثيراً عن التنظير العتيق القائل بأنّ الرأسمالية هي التي تخلق أوّل حفّاري قبورها، إذْ أنّ تشريع الـ
IRA يخدم مصالح التضخم في الولايات المتحدة، ولكنه يؤذي المصالح ذاتهأ أو ما يماثلها في أوروبا: إنه سوف يوفّر 738 مليار دولار أمريكي في مجال الإنفاق على الطاقة والتبدّل المناخي، و238 مليار دولار في ميدان خفض التضخم، ومن المقرر له أن يخفّض في سنة 2030 انبعاثات غازات الدفيئة بمعدّل 40٪ قياساً على مستويات 2005، ويقدّم دعماً بقيمة 7500 دولار لمشتري السيارات الإلكترونية. أين المشكلة، إذن؟ إنها تبدأ من حقيقة أنّ التشريع يشجّع الاستثمارات في صناعة السيارات الأمريكية، ويقلصها في أوروبا على مستوى صناعات السيارات والبطاريات والطاقة المتجددة، إلى درجة أنّ المفوض الأوروبي لشؤون السوق هدّد واشنطن باللجوء إلى منظمة التجارة العالمية، ورئيسة الوزراء الفرنسية أعلنت أن بلادها لن تقف مكتوفة الأيدي وأكمل وزير الاقتصاد في حكومتها فاشتكى من أنّ قيمة الدعم الذي يقترحه تشريع الـ IRA أكبر 14 مرّة من القيمة القصوى التي تسمح بها المفوضية الأوروبية.
لا جديد، بالطبع، في اندلاع خلافات مثل هذه يمكن أن تنقلب إلى معارك مفتوحة بين قطبَيْ الرأسمالية، وثمة ابعاد أخرى داخل القطب الواحد ذاته على غرار معركة قانونية ذات مغزى عميق، اندلعت ضدّ «قصة نجاح» رأسمالية فريدة، بل لعلّها أكثر كونية وانضواء في حاضنة العولمة؛ أي قضية وزارة العدل الأمريكية (ومن ورائها أكثر من 20 ولاية، وعشرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة)، ضدّ الملياردير الأمريكي بيل غيتس وشركة «ميكروسوفت» العملاقة. وفي الجوهر العميق من تلك المواجهة الضارية كان المبدأ الرأسمالي العريق «دعه يمرّ، دعه يعمل» يتعرّض للمساءلة والمراجعة، ليس في ميدان التنظير الفلسفي او الاقتصادي كما جرت العادة؛ وإنما في خضم السوق، وفي ظلّ قوانين العرض والطلب دون سواها. ثمة، غنيّ عن القول، الكثير من المغزى في أن تهبّ الرأسمالية ضدّ واحد من خيرة أبنائها البرَرة، وضدّ واحدة من كبريات معجزاتها، كي نقتبس أسبوعية الـ»إيكونوميست» العليمة بأسرار الآلة الرأسمالية.

ليس من المرجح أن ينجح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الراهنة إلى الولايات المتحدة، في إقناع نظيره الأمريكي بأنّ مصالح شطرَي الرأسمالية تقتضي حلّ النزاعات بدل تأجيجيها

ومعارك رأس المال المعاصر ضدّ المؤسسة أو قوى الإنتاج أو علاقات الإنتاج لم تعد تجري في معمعان الصراعات الطبقية الكلاسيكية، كما كانت عليه الحال في الماضي، بل هي اليوم تُخاض في قاعات البورصة، أو المحاكم، أو البرلمانات، أو اجتماعات مجالس إدارة الشركات العملاقة أو الجمعيات العمومية لأصحاب الأسهم. في قاعات كهذه يتقرر مصير العقد الاجتماعي، ليس على ضوء التعاقد بين المنتج والمستهلك أو العمل وقيمة العمل، بل على أساس قاعدة ذهبية واحدة، ليست جديدة تماماً في الواقع: التخفيف ما أمكن من النفقات، بقصد تحقيق أقصى زيادات ممكنة في الأرباح، وتحسين حظوظ المؤسسة في المنافسة والاحتكار والتواجد الكوني القوي المُعَوْلَم.
ليست أقلّ وضوحاً حقيقة أنّ الولايات المتحدة، في أعقاب أزمة 2007 ـ 2008 المالية التي شهدت ما يشبه الانهيار التامّ للنظام المالي الكوني، أخذت تتراجع بانتظام عن سياسات الحماية المتغطرسة التي سعت إلى فرضها على قمّة مجموعة العشرين في واشنطن، تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، ثمّ قمّة لندن، في نيسان (أبريل) الماضي. الأسباب عديدة، على رأسها تناقض المصالح بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا، وتعزُّز مواقع الدول ذات الاقتصادات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، والصين بصفة خاصة. وإذا غاب الدليل على هذا الوضوح، فليس على المرء إلا أن يقلّب صفحات «وول ستريت جورنال»، فيقرأ الدروس السلوكية التي توجهت بها الصحيفة إلى تيموثي غايثنر وزير الخزانة الأمريكي آنذاك: 1) لسنا في عقود الهيمنة، وتأزم الاقتصادات الآسيوية، حين كانت الخزانة الأمريكية تسيّر اقتصاد الكون من خلال صندوق النقد الدولي؛ و2) لا مناص، استطراداً، من مراعاة مصالح اقتصادات الصين والهند والبرازيل، على حساب الحلفاء في أوروبا؛ ومن الضروري منح هذه الدول قوّة تصويتية أعلى في اجتماعات صندوق النقد الدولي، على حساب حلفاء مثل فرنسا وألمانيا، وهذه المرّة عن سابق قصد، وبما يخدم مصالح الولايات المتحدة…
وإذ يجتمع ماكرون مع بايدن تحت راية إدارة أزمات قطبَيْ الرأسمالية، فإنّ مداولاتهما لا تدير سوى بعض أزمات العمالقة أنفسهم، بين بعضهم البعض؛ أو تشرع الابواب أمام اندلاع المزيد من الأزمات، على هذه الجبهة او تلك، أو على كلّ الجبهات دفعة واحدة، بحيث يبدو العالم في حال دائمة من تأزّم الوقائع واستعصاء الحلول. لقد سبق لقمم مماثلة، أو أوسع نطاقاً وأكبر عدداً، أن وضعت على جداول أعمالها تنظيم إخضاع الأطراف لسياسات التعديل الهيكلي التي تخدم المركز، في عام 1976؛ وتنظيم إعادة بناء الدولار النفطي لصالح منطق المضاربة المالية، في عام 1980؛ وتشجيع الهبوط في أسعار المادة الخام؛ وتنظيم إعادة جدولة الديون، في عام 1982؛ وتنظيم إدخال روسيا ودول أوروبا الشرقية في برامج التعديل الهيكلي من طرف واحد في عام 1992؛ والتوفيق بين خفض التضخم في أمريكا وزيادة معدلاته في أوروبا…
ومن جانب آخر يخصّ العملات الوطنية والبورصات، فإنّ مؤشرات إطلاق اليورو في أسواق البورصة، أي منذ عام 1998 وقبل اعتماده عملة موحّدة، لا تدلّ على أنّه ربح بعض الرهان مع الدولار الأمريكي. المنطق الاقتصادي الصارم يبرهن على العكس: أنّ الدولار، عملة المركز الرأسمالي الأوّل، ربح الرهان ضدّ المراكز الرأسمالية الأخرى؛ كلّ الرهان أو معظمه، حتى إشعار آخر لا يبدو قريباً البتة. لقد بدأ اليورو بسعر صرف 1.17 دولار أمريكي، ثمّ مرّ بمرحلة لم تكن قيمته تتجاوز 80 سنتاً، ثمّ راوح طويلاً وهو يسعى إلى تجاوز عتبة الـ 90 سنتاً، قبل أن يقفز فوق الدولار في معدّلات متصاعدة لا تستقيم مع منطق البورصة السليم.، ويبلغ اليوم سوية التذبذب عند رقم 0.96 أمام الدولار!
ولا يخفى على أحد أنّ إطلاق اليورو تزامن مع هيمنة أمريكية شاملة، أو تكاد، على مقدّرات الكون: بالمعنى السياسي المحض، ثمّ بمعنى السياسة بوصفها اقتصاداً مكثفاً. ذلك لأنّ طبائع حروب التبادل تجعل اليورو غائباً سياسياً عن مناطق ساخنة مثل الشرق الأوسط وأفغانستان وشبه القارّة الهندية والصين والبرازيل، فكيف تكون الحال في مناطق مثل الاتحاد الأوروبي واليابان؛ حيث الغياب السياسي له أثمان اقتصادية دون ريب، طال أجلها أم قصر، وحيث يعود ماكرون خائب الرجاء في مسعى تجميد الـ
IRA، أو حتى تليين عريكته.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

الحلف الأطلسي المعاصر:

توسّع «وجودي» يجبّ شرّ القتال

صبحي حديدي

 

ليس حرجاً ذلك السلوك الذي اتسمت به ردود أفعال الرئيس الأمريكي جو بايدن والأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، حول هوية الصاروخ الذي سقط في الأراضي البولندية؛ وحرْص الرجلَين على نفي مسؤولية موسكو عن إطلاقه، والاكتفاء بسردية بسيطة وتبسيطية تقول إنه صاروخ دفاع جوي أوكراني جنح عن مساره في مواجهة الهجمات الروسية. الأصل هو كفاية شرّ الصدام مع موسكو، من جانب التورّط الأطلسي على وجه التحديد، إذْ سواء صحّت السردية أم اختُلقت فلا أحد على جانبَي المحيط والبحر الأسود وبحر البلطيق يجهل مخاطر شرارة مثل هذه، تمثّل تصعيداً كفيلاً بإشعال مواجهة مثل تلك. الأطرف في السياق أنّ اتصالات البيت الأبيض والناتو مع الحكومة البولندية لم تستهدف المواساة أو شدّ الأزر والتضامن، بقدر ما مارست سلسلة ضغوط كي لا يطلب الرئيس البولندي أندريه دودا تفعيل المادة الرابعة من ميثاق الحلف، والتي تُلزم الحلفاء بالتشاور إذا شعرت دولة عضو بأن سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسي أو أمنها معرضة للتهديد.
مبدأ الصدام، أو كفاية شرّه سواء بسواء، يعيد المرء إلى حقيقة أنّ الناتو ليس الحلف العسكري الوحيد في عالمنا المعاصر، فحسب؛ وليس التذكرة الوحيدة، تقريباً، بأنّ البشرية عاشت الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو كذلك حلف مصالح متقاطعة متلاقية أو متعاكسة، قابلة غالباً للأخذ والعطاء طبقاً لمبادئ المساومة والتسوية والمحاصصة. ذلك لا يعني أنّ الناتو ليس محاصصة جغرافية ـ حضارية ـ ثقافية، طبقاً لما كانت الإنسانية قد فهمته من كلام الرئيس التشيكي الأسبق فاكلاف هافيل، قبل عقدين من الزمان حين احتضنت بلاده قمّة للحلف لا تشبه سواها من القمم، لأنها ببساطة اعتُبرت «قمّة التحوّل». يومها قال هافيل، في نبرة تحذير لا تخفي، إنّ «على الحلف ألا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة». هل كانت تركيا هي المقصودة بذلك التعريف المضماري الذي لا يفلح تماماً في تنقية كلّ الروائح العنصرية؟ أم كانت الدول التي ما تزال تعيش فيها جاليات مسلمة؟ وما الدافع إلى إطلاق ذلك التحذير والقمّة تناقش توسيع الحلف شرق أوروبا وجنوبها، وضمّ سبع دول جديدة إلى النادي؟ وأيّ من هذه الدول (التي تسلمّت وثائق عضويتها في الحلف يومذاك: إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا)، لم تكن تنطبق عليها معايير المضمار الحضاري الأورو ـ أطلسي؟

أياً كانت الأسئلة «الوجودية» فإنّ الأمر سيّان من حيث خلود جوهر الحلف، عسكرياً وسياسياً، ما دامت الولايات المتحدة هي الدولة الأهمّ في ضمان بقائه على قيد الحياة، وفي تعزيز شوكته التكنولوجية بصفة خاصة، دفاعاً وهجوماً على حدّ سواء

البعض يساجل، كما تفعل هذه السطور، بأنّ أسئلة كهذه تظلّ نافلة كائناً من كان طارحها، ما دامت بنية الحلف عسكرية ـ سياسية، وما دامت الولايات المتحدة في طليعة قيادته وتوجيهه على أصعدة شتى لا تغيب عنها اعتبارات مصالح أمريكا الجيو ـ سياسة في المقام الأوّل. صحيح أنّ الفرنسيين والألمان لا يكفّون عن مضايقة البنتاغون، واليمين في إسبانيا خسر معركة الحلف المقدّس مع واشنطن، وتراث الحلف في ليبيا والعراق وسوريا ليس البتة حصاداً يُعتدّ به… في المقابل يعرف جميع أعضاء الحلف أنّ هزّة 11/9 منحت الولايات المتحدة أكثر من ترخيص عسكري واحد؛ كما جنّبت واشنطن حرج التشاور مع الحليفات الأطلسيات كلما رنّ ناقوس في كنيسة. وإذا كان لقاء براغ قد استحقّ بالفعل تسمية «قمّة التحوّل»، فليس ذلك لأسباب عسكرية أوّلاً، وإنما بسبب اختراق الناتو جميع مواقع حلف وارسو السابقة، وبلوغه ظهر روسيا وبطنها وخاصرتها، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً!
صحيح، كذلك، أنّ التوازن داخل الحلف ليس مختلاً لصالح الولايات المتحدة فقط، بل هو يفتقر بالفعل إلى جملة العناصر التي تتيح استخدام مفردة «التوازن» وفق أيّ معني ملموس. مراسل صحيفة الـ «إندبندنت» البريطانية اختار وجهة طريفة للتعبير عن هذا الاختلال، فسجّل حقيقة أنّ الوفد الأمريكي إلى قمّة التحوّل تلك شغل سبع طبقات من فندق الهلتون الذي احتضن الوفود، مقابل طبقة واحدة للوفد الهولندي مثلاً! وأمّا في مصطلحات أخرى أكثر دلالة، فإنّ الولايات المتحدة تنفق، وحدها، مليار دولار أمريكي يومياً على شؤون الدفاع، في حين أنّ مجموع الدول الأوروبية الـ 15 الأعضاء في الحلف تنفق قرابة 500 مليون دولار. وكان العالم بحاجة إلى انعدام الكياسة لدى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كي يقرأ تغريدات مثل هذه: «من دون نجاح، حاول الرؤساء طوال سنوات دفع ألمانيا وسواها من أمم الأطلسي الغنية إلى سداد المزيد لقاء حمايتها من روسيا. إنهم يدفعون قسطاً ضئيلاً من نفقتهم. الولايات المتحدة تدفع عشرات المليارات من الدولارات أكثر مما يتوجب لإعانة أوروبا، وتخسر كثيراً في التجارة». أو هذه: «وفوق كل شيء، بدأت ألمانيا تدفع لروسيا، البلد الذي تطلب الحماية منه، مليارات الدولارات لقاء احتياجاتها من الطاقة عبر أنبوب آت من روسيا. هذا غير مقبول! جميع أمم الناتو يجب أن تنفذ الالتزام بـ2٪، وهذا يجب أن يرتفع إلى 4٪».
والحال أنّ الأطلسي بدأ ذراعاً عسكرية أمريكية في الواقع العملي، حيث الوحدات الأوروبية المنضوية في عداده ليست أكثر من استكمال للزخرف الخارجي؛ وهكذا يظلّ الحلف اليوم، حتى بعد أن تضخم في العدد، وفي العتاد، وفي مساحة الانتشار. لقد توسّع من 12 دولة مؤسسة، إلى 15 في خمسينيات القرن الماضي، حتى بلغ اليوم 32 دولة، باحتساب السويد وفنلندا؛ بينها ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)، وسبع دول أعضاء سابقة في حلف وارسو المنقرض (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا، بولندا)، وثمة في سجلّ الطامحين إلى العضوية خليط متنافر يضمّ البوسنة والهرسك وجورجيا و… أوكرانيا!
أمّا في مستوى التبشير الإيديولوجي، والعقيدة العسكرية، والغطاء التعبوي، فإنّ مسوّغات وجود الحلف يمكن أن تبدأ من الجزم بأنه «الحلف الأكبر والأكثر نجاحاً في التاريخ»، حسب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والجنرال المتقاعد كولن باول؛ ولن تنتهي عند يقين الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (الذي ارتدّ عن الفلسفة الديغولية، وأعاد فرنسا إلى قيادة الحلف العسكرية) بأنّ الناتو هو الضامن الوحيد للأمن الأوروبي، الذي يأتي ولا يأتي منذ عقود؛ فضلاً عن يقين دولة مثل تشيكيا، بأنّ الفارق بين ركونها إلى الدفاع الأوروبي، مقابل الدفاع الأمريكي، كالفارق بين الأرض والسماء!
وأياً كانت الأسئلة «الوجودية» هذه، أو سواها، فإنّ الأمر سيّان من حيث خلود جوهر الحلف، عسكرياً وسياسياً؛ ما دامت الولايات المتحدة هي الدولة الأهمّ في ضمان بقائه على قيد الحياة، وفي تعزيز شوكته التكنولوجية بصفة خاصة، دفاعاً وهجوماً على حدّ سواء. صحيح أنّ الفرنسيين والألمان حاولوا مضايقة واشنطن قبيل غزو العراق، سنة 2003؛ وأفغانستان، في عهد أوباما، انقلبت من جبهة ثانوية إلى أخرى مركزية… ولكن من الصحيح أيضاً أنّه غير مسموح لأوروبا الغربية (الرأسمالية، الحرّة، المعافاة نسبياً بسبب من جميل الولايات المتحدة في حماية العالم الحر والرأسمالية…)، أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، وأن توحّد صفوفها بالانتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي. لهذا فإنّ الولايات المتحدة تصبّ ما تشاء من زيوت على حروب هنا وهناك، ولا تجد حرجاً حين تتفادى شرّ القتال، ولا فوارق كبيرة هنا بين ترامب أو بايدن لجهة الافتقار إلى الدبلوماسية أو الإفراط في تسخيرها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

أمريكا المسيحية/الصهيونية:

أبعد من التوراة وفقه الانحياز

صبحي حديدي

 

منظمة «مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل»، CUFI، هي أكبر المنظمات الأمريكية الموالية لدولة الاحتلال الإسرائيلي من حيث العدد (قرابة 10 ملايين منتسب حسب أحدث احصائياتها)، وحجم التبرعات المرسلة إلى مختلف المؤسسات الإسرائيلية الحكومية والمستقلة (الأرقام بمئات الملايين من الدولارات)، والانفراد عن غالبية مجموعات الضغط اليهودية والصهيونية الأمريكية في إعلان التأييد الصريح للاستيطان وتوسيع المستوطنات. ولأنها لا تفوّت فرصة من دون الإعراب عن التأييد المطلق لدولة الاحتلال، على نحو أعمى وعشوائي وغير مشروط، فقد أصدرت مؤخراً بياناً يستنكر القرار الذي أعلنه مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي بصدد إجراء تحقيق مستقل في مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، حاملة الجنسية الأمريكية.
لا جديد في محتوى البيان ونبرته العامة ومفرداته، وبعضها يسير هكذا على سبيل المثال الأول: «صادم بقدر ما هو مريع أنّ وزارة العدل سمحت لبعض أعضاء الكونغرس المعادين لإسرائيل بالضغط على فرع من السلطة التنفيذية يُفترض أنه مستقلّ لإقرار هذا التحقيق. إسرائيل ديمقراطية وهي حليف أمريكي، والإسرائيليون قد حققوا في هذه الحادثة بطريقة تليق بالتوصيفين». وأيضاً، في مثال ثانٍ: «بدل أن يواجه الخصوم ويقف مع حلفائنا، فإنّ الرئيس بايدن يقوم بالعكس تماماً. بدل أن يسمح لوزارة عدله أن يستأسد عليها أعضاء في حزبه راديكاليون معادون لإسرائيل، على الرئيس بايدن أن يركز على وضع حدّ لبرنامج السلطة الفلسطينية في تمويل القتل، وعلى مساندة الدولة اليهودية لمواجهة الإرهاب الفلسطيني».
ولا جديد، كذلك، على صعيد مسارعة المنظمة إلى اعتناق الرواية الإسرائيلية المبكرة حول مقتل أبو عاقلة، في أنها قُتلت برصاص مسلحين فلسطينيين وليس بأيّ رصاص إسرائيلي؛ ثمّ استمرار المنظمة في تبنّي تلك الرواية حتى بعد اضطرار سلطات الاحتلال إلى سحبها من التداول، أو حتى بعد الحقائق الدامغة التي وفرتها تحقيقات أمريكية مستقلة أجرتها محطة
CNN أو صحيفة «نيويورك تايمز»؛ وكلاهما لا يُعرف عنه العداء لدولة الاحتلال، بل العكس هو الثابت الشائع. وهذه سطور لا تتوخى إبداء أيّ عجب إزاء سلوك «مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل»، لأنّ أيّ موقف مختلف ليس في الأصل منتظَراً منها في مقام أوّل؛ ولأنّ مواقف المنظمة منذ الركائز الأولى لتأسيسها مطلع ثمانينيات القرن المنصرم لا يستقيم أن تكون عجيبة، في مقام ثانٍ.
ما تتوخاه هذه السطور، في المقابل، هو التذكير مجدداً بالأبعاد السياسية والدينية (المسيحية، الإنجيلية، البروتستانتية…) والثقافية التي شكلت وتواصيل تشكيل مثاقيل كبرى تُحمل عليها شعبية المنظمة ونفوذها؛ وتلك، استطراداً، هي الدلالات الأهمّ التي يتوجب أن تُستعاد في كلّ حديث معمق عن الـ
CUFI، أبعد من مجرّد تسجيل انحيازها إلى دولة الاحتلال، وأخطر ربما، وعلى نطاق أوسع يعبر المحيط الأطلسي إلى حيث تصنع أية إدارة أمريكية فارقاً نوعياً كونياً. ويكفي، ابتداء، التذكير بأنّ هذه المنظمة كانت إحدى أبرز الركائز (شعبياً وشعبوياً ومالياً، إنجيلياً ثمّ توراتياً…) وراء تصعيد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتثبيت أركانه في قلب الحزب الجمهوري، وصولاً إلى انتخابه واستيلاد المزيد فالمزيد من أركان الترامبية كما تعرفها أمريكا اليوم، ويتابعها العالم بأسره معها.

بين العقيدة المذهبية الجَمْعية وعقائد تفوّق العرق الأبيض وفقه الهستيريا بصدد ارتباط عودة يسوع وخلاص «المجيء الثاني» بانتصار دولة إسرائيل… تتكاثر الوقائع والمناسبات والمظاهر التي بموجبها تتجذر أفكار مسيحية صهيونية لا تنأى إلا قليلاً عن العنصرية الصريحة والفاشية المقنّعة

نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات ومرتفعات الجولان السوري المحتل، والضغط على الأنظمة الخليجية التابعة لإبرام ما باتت تُعرف باسم «اتفاقيات أبراهام»… ليست سوى غيض ظاهر، من فيض في مساندة دولة الاحتلال وفير وغامر، بعضه لم يتكشف تماماً كما تبشرنا مذكرات جاريد كوشنر صهر ترامب وأحد كبار مهندسي التطبيع. بذلك فإنّ الترامبية، من زاوية تاريخ نشوئها الحديث نسبياً وليس لجهة شعبيتها وتأصّلها الحثيث، ليست وحدها المسؤولة عن انتشار تيارات المسيحية/ الصهيونية؛ وهنا الجذور الأجدر بالمتابعة لظواهر تنغل وتتغلغل في الكتلة الصلبة من العقائد والنظريات والأعراف، فضلاً عن الفِرَق والأقليات الدينية والمذهبية المسيحية. وبهذا فإنّ المرء قد لا يكون بحاجة إلى بيانات الـCUFI كي يتلمّس التوغّل الباطني الجارف للسرديات الدينية، في تأويلاتها التوراتية خاصة، التي تسمح لهذا التبشير الإنجيلي بالتماهي الأقصى مع سردية مركزية أولى ناظمة ارتكز عليها أحد أبرز الإنشاءات الرمزية لنشوء الولايات المتحدة الأمريكية، في أنها «صهيون الجديدة»، أو «كنعان الثانية».
تلك كانت صيغة ميتافيزيقية ـ أدبية، لا تخلو مع ذلك من روح تبشيرية إمبريالية، تكمل النظرية الشعبية الأعمّ التي سادت منذ القرن الثامن عشر في مختلف المنظمات المسيحية ـ الأصولية الأمريكية، والبروتستانتية الإنجيلية بصفة خاصة. وفي اختصارها، غير المخلّ في الواقع، تقول هذه النظرة بعودة يسوع إلى عالمنا، لتخليصه من الشرور، حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيل، أوّلاً؛ ونجاحها في احتلال كامل أرض التوراة، أي معظم المشرق، ثانياً؛ وإعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، ثالثاً؛ ورابعاً وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضدّ إسرائيل، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إمّا الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهّد لعودة المسيح المخلّص!
هنا، للمفارقة، صفة تناقضية لا ترضي غالبية اليهود من حيث أنها في نهاية المطاف تُلزمهم بالاهتداء إلى المسيحية كشرط للخلاص، وهذا ما يدفع عدداً من الحاخامات إلى رفض «الهدايا المسمومة» التي تقدمها منظمة الـ
CUFI، أو حتى استعداء الجموع عليها لأنها في الحصيلة لا تخدم الديانة اليهودية إلا على أساس تقويضها وعن طريق ترسيخ الديانة المسيحية. غالبية غير ضئيلة من اليهود، في أمريكا وداخل دولة الاحتلال، لهم رأي آخر يتجاوز هذا التناقض، التأويلي في منتهاه والفقهي في الحساب الأخير؛ فيفضّلون ترجيح المكاسب الجمّة التي تجلبها منظمة الـCUFI على أصعدة سياسية ومالية واجتماعية، والمثال القياسي هنا هو القمّة التي عقدتها المنظمة في واشنطن، تموز (يوليو) 2019، وحضرها كلّ من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، إلى جانب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس.
وكان «معهد المشروع الأمريكي» قد نشر إحصائية تؤكد أنّ غالبية الإنجيليين البروتستانت صوّتوا لصالح ترامب في سنة 2020، بمعدّلات تجاوزت 81٪ في صفوف الناخبين البيض؛ على خلفية جديرة بالانتباه تشير إلى أنّ هؤلاء هم المجموعة الدينية الأكبر في الولايات المتحدة، وأنّ 26٪ من الناخبين في صفوفهم يعلنون انتماءهم إلى المسيحيين الإنجيليين. وبين العقيدة المذهبية الجَمْعية وعقائد تفوّق العرق الأبيض وفقه الهستيريا بصدد ارتباط عودة يسوع وخلاص «المجيء الثاني» بانتصار دولة إسرائيل… تتكاثر الوقائع والمناسبات والمظاهر التي بموجبها تتجذر أفكار مسيحية صهيونية لا تنأى إلا قليلاً عن العنصرية الصريحة والفاشية المقنّعة.
غير بعيدة في الزمن تلك الواقعة التي شهدت اضطرار الكنيسة البروتستانتية الأمريكية إلى سحب كرّاس كانت قد وضعته على موقعها الرسمي، لأنّ بضع منظمات يهودية أمريكية اعتبرته معادياً للعقيدة الصهيونية، ولدولة الاحتلال استطراداً، رغم أنه لا ينطوي على أيّ عداء للديانة اليهودية ذاتها. وكان الكرّاس بعنوان «صهيونية غير مستقرّة: دليل دراسة للرعايا»، وقد تمّ إعداده لأغراض تعليمية تسهّل عمل أعضاء هذه الكنيسة العاملين في الشرق الأوسط عموماً، والأراضي الفلسطينية بصفة خاصة. وشخص الشهيدة أبو عاقلة، حين يقترن بمكتب التحقيقات الفدرالي، كفيل بإثارة غضبة أشدّ وأعنف وأشرس من جانب الـ
CUFI، وفاءً لموقعها الأثير كمخفر أمامي، سياسي ومالي وعقائدي وإعلامي، يحرس تبييض الصفحة الصهيونية وتغذية فقه الانحياز الأعمى، سواء بسواء.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

الانتخابات النصفية:

غريزة القطيع وكواسر الذئاب

صبحي حديدي

 

في سنة 2016، قبل أسابيع قليلة من انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، نشر الفتى جيمس دافيد فانس (مواليد 1984) كتاباً بعنوان «مرثية ريفيّ» يجمع بين المذكرات والسيرة الذاتية، ويشدد على مشاقّ الحياة في منطقة مدلتون، أوهايو، وفي بقاع الأبالاتشي الجبلية. الكتاب أصبح في عداد الأكثر مبيعاً خلال أيام قلائل، ولم تمضِ أسابيع حتى تجاوزت المبيعات ملايين النسخ، فكان طبيعياً أن تسارع نتفلكس إلى اعتماد الرواية في فيلم أخرجه رون هاوارد وقامت غلين كلوز بدور البطولة فيه. اليسار الأمريكي، خاصة ذاك التائه الباحث يائساً عن تمثيلات مجتمعية في الأصقاع الريفية النائية، تلقف الكتاب وصاحبه فهلل له ورحّب به؛ متشجعاً، كذلك، بمواقف فانس المناهضة للحزب الجمهوري ولمرشحه الرئاسي دونالد ترامب.
ولسوف تحتاج أمريكا إلى ستّ سنوات فقط كي ينقلب ذلك الشقيّ الجبلي الكئيب إلى ذئب ضارٍ متوحش، بكلّ ما تعنيه شراسة النوع وخصائصه في الواقع كما في المجاز، إذْ أصبح أحد كواسر ترامب في المنطقة، واعتمده الأخير على لائحة مرشحيه في الانتخابات النصفية الأخيرة، وفاز بالفعل بمقعد في مجلس الشيوخ. وحين اختاره واحتضنه، سياسياً ومالياً، لم يكن ترامب يجهل تفوهات فانس القديمة ضده، وبعضها كان مقذعاً تماماً؛ لكنّ الرئيس السابق حرص على «تأديب» الفتى/ السناتور اليوم في الكونغرس، فأعلن أنّ الأخير جاء إليه و»لحس الحذاء» على سبيل الزلفى وإعلان الولاء، فسامحه الأب/ الأخ الأكبر للحزب الجمهوري، وأدرجه على لائحة عشرات المرشحين الذين ساندهم.
والحال أنّ تحولات فانس ليست نموذجاً عجيباً أو طارئاً في الحياة السياسية الأمريكية، وربما على صعيد أعرض نطاقاً يشمل التقلبات الإيديولوجية من أقصى إلى أقصى نقيض؛ إلا أنّ المغزى الأهمّ فيها هو روحية الانقياد شبه الأعمى التي باتت تتصف بها جماهير ترامب، ليس في صفوف الحزب الجمهوري وحده، بل كذلك في عمق الاجتماع الأمريكي إجمالاً. غريزة القطيع، التي يصحّ الاستئناس بها هنا في فهم عقلية الاتّباع لدى الأتباع، لم تترك للناخب الذي صوّت لصالح فانس أيّ هامش مراجعة، سواء حول ماضي شتائمه المقذعة ضدّ ترامب، أو حاضر لعق الحذاء مقابل اعتماد الترشيح، أو مستقبل ما سيفعله للمناطق ذاتها التي شهدت شظف عيشه وشقاء عائلته.
الماضي القريب، ضمن سجلّ الانتخابات النصفية إياها، كان في سنة 2018 قد سجّل انتصار الحزب الديمقراطي وحيازة 41 مقعداً في مجلس النواب، وتلك حقبة لم تكن بعدُ على أعتاب تسمين الكواسر من ذئاب وضباع في مزرعة ترامب، على غرار الفتى فانس؛ إذْ توجّب تفعيل اختمار من طراز آخر، كان استثماره لا يبدأ من التشكيك في صحة الانتخابات الرئاسية، ولا ينتهي عند اقتحام مبنى الكابيتول. لكنّ صنفاً آخر من الوحوش الكاسرة ظلّ يترعرع في كنف ترامب والترامبية، وكان مسعاه المركزي هو حشر التوراة في صناديق الانتخابات النصفية، على مثال جون كيلباتريك، راعي كنيسة في ولاية ألاباما، الذي قارن بين ما يواجهه ترامب من «أعمال السحر» الخبيثة، وما سبق أن واجهه النبي إيليا مع إيزابيل الزانية الساحرة (في سفر الملوك 2، 9:22). وبتفويض من هتاف المؤمنين في الكنيسة، تابع كيلباتريك خيط الهلوسة والاستيهام هكذا: «لستُ سياسياً، ولكني لا أرى كيف يستطيع الرئيس ترامب تحمّل هذا كله. إنه أقوى من أيّ رجل عرفته في حياتي. ولكن اسمعوا ما قاله لي الروح القدس الليلة الماضية، وطالبني أن أخبركم به. قال: أبلغ الكنيسة أن ترامب كان طيلة الوقت يجابه آخاب. لكن إيزابيل تتآمر الآن كي تنبعث من الظلمات. هذا ما أبلغني به الروح القدس».
وبين الراعي المديني كيلباتريك والريفي الجبلي فانس لا تغيب أمريكا الأعمق، بل تواصل الحضور والتضخم في اجتماع غريزة القطيع وكواسر الذئاب.

 

من يتذكر شولاميت ألوني؟

صبحي حديدي

 

 

عودة بنيامين نتنياهو، أقوى من ذي قبل أيضاً، ليست مفاجأة في ذاتها إلا عند عقولٍ وفئاتٍ وأجهزة تفكير لا تقوم بصدد دولة الاحتلال الإسرائيلي بما هو أبعد من تقليب الكليشيهات القديمة المستعادة؛ حول «الديمقراطية الأوحد في الشرق الأوسط»، أو «لو لم توجد، لتوجّب أن نخلقها»، أو «دولة شعب بلا أرض، في أرض بلا شعب»؛ أو، لمَن شاء التوسّع والوقوف على رأي إسرائيلي، الأساطير العشر التي ناقشها إيلان بابيه في كتاب يحمل العنوان ذاته، صدر سنة 2017.

ليست مفاجأة، على قدم المساواة، انتظار توزير فاشي عنصري استيطاني مثل إيتمار بن غفير، بدأ حياته السياسية بسرقة سيارة رئيس حكومة الاحتلال إسحق رابين، سنة 1995، معقباً بأنّ الوصول إلى السيارة يعني أيضاً إمكانية الوصول إلى جسد صاحبها ذات يوم، وهذا ما حصل بالطبع وإنْ برصاصات إيغال عمير. وشرطة الاحتلال التي أخرجته بالقوّة من مبنى الكنيست، سوف تحرس قريباً عودته إلى وزارة ما، حيث لن تتغير كثيراً أعمال الشغب والعنصرية والسباب المقذعة التي يكيلها للعرب، إلى جانب انحيازاته لمنظمات إرهابية من كلّ حدب إسرائيلي وصوب.


طريف، حتى من باب الشماتة الهادفة (كما هي حال هذه السطور) أن يتوقف المرء عند معطى واحد محدد في نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة؛ أي عجز حزب «ميرتس»، واجهة ما كان يُسمى «اليسار» بين الأحزاب الإسرائيلية، عن بلوغ نسبة الـ 3.25٪ المؤهلة للدخول إلى الكنيست، للمرّة الأولى منذ تأسيسه عام 1992؛ وتلك، عند زهافا غال – أون، زعيمة الحزب، «لحظة صعبة للغاية بالنسبة لي، ولأصدقائي (…) وهي كارثة على ميرتس، كارثة للبلاد، ونعم، كارثة شخصية بالنسبة لي».

والحديث عن هذا «اليسار» الإسرائيلي الآخذ في الانقراض يقود إلى شخصية شولاميت ألوني  (1928 – 2014)، «أمّ حركة ميرتس» كما كانت تُلقّب، في إشارة إلى موقعها السابق المتقدّم ضمن المجموعة التي تأسست سنة 1992 كتحالف بين «راتس» و«مابام» و«شينوي»، وحصلت على 12 مقعداً في انتخابات الكنيست لذلك العام. ألوني هي الوحيدة التي تجاسرت على استعادة اقتباس شهير يُنسب إلى إيغال آلون (1918 ـ 1980)، ويفيد المعنى التالي، ليس حرفياً بالطبع: لوحات الفنان الروسي ـ الفرنسي اليهودي مارك شاغال، وحدها تقريباً، تتيح للبشر أن يسبحوا في فضاء ميتافيزيقي ملوّن، بعيداً عن الأرض بمعانيها المجازية والفلسفية، وبعيداً كذلك عن الأرض بمعانيها الفيزيائية الدنيوية، حيث الحياة والمجتمع والسياسة.


ومن منبر الكنيست، ذات يوم مضى وانقضى وانطوى، استعادت ألوني مخلوقات شاغال كي تذكّر ساسة دولة الاحتلال بأنّ أيّ مفاوضات مع الفلسطينيين ينبغي أن تضع جانباً، ونهائياً، مناخات شاغال التي تلغي أرض البشر؛ لأنّ المعطى الفلسطيني لا يحتمل إسقاط الأرض من لوحة الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا من أية لوحة فلسطينية أخرى حيث يعيش البشر ضمن قوانين الجاذبية… جاذبية التاريخ والهوية والحقوق والسياسة!.

وعلى نحو أو آخر، لا تقول انتخابات الكنيست الأخيرة إنّ زمن «ميرتس» تحجبه اليوم أزمنة بن غفير وبتسلئيل سموطريتش ووَرَثة الكاهانية في أسوأ أنماطها العنصرية والفاشية. نادرون، إذن، أولئك الذين سوف يتذكرون ألوني (ذلك «اليسار» الشاحب الوسطي المتقلب التائه…!)؛ والأرجح أنّ استعارة شاغال لن تُستعاد إلا من باب الحنين إلى شطر من شخصية آلون يلائم واقع الحال الراهنة في دولة الاحتلال: أنه كان أحد أبرز رجال عصابات الـ«هاغاناه»، وأحد مؤسسي الـ«بالماخ» ذراعها العسكري الإرهابيّ، وقائد الجبهة الجنوبية خلال حرب 1948؛ وأخيراً، وليس آخراً: صاحب خطة السلام الشهيرة التي تحمل اسمه، وتقضي بضمّ الضفة الغربية، أو «يهودا والسامرة» في تعبيره، إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ولكن من دون السماح للجيش الأردني بالانتشار فيها.
«كاهانا حيّ»، خلاصة القول؛ بل هو يتمطى ويعوي ويتمدد!

 

(يا رب ترجع أيامكم):

مصر ومختبر آل مبارك

صبحي حديدي

 

في مناسبتَين معلنتَين على الأقل، زيارة قبر والده والمشاركة في تشييع محامي الأسرة فريد الديب، خلال الشهر المنصرم تشرين الأول (أكتوبر)، سمع جمال حسني مبارك هذه الهتافات، وسواها: «ما يتعوضتش»، «الدولار كان بكام، والنهار ده بكام»، «ربنا ينتقم منهم»، «ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين»، «هو جمال إن شاء الله بإذن الله»، «حبيب الشعب كله، وأبوه»، «يا رب ترجع أيامكم»… ليس عسيرا، بالطبع، أن يجري استئجار أنفار هنا وهناك، وظيفتها إطلاق هذه الهتافات وإشاعة أجواء احتفاء بنجل الرئيس المصري الذي أطاحت به انتفاضة شعب مصر في كانون الثاني (يناير) 2011، وكانت مشاريع توريثه وفساده ومفاسده مع شقيقه علاء أحد أبرز أسباب الانتفاضة.
لا يصح أن يكون عسيرا، في المقابل، ألا تُستخلص عبرة جوهرية من وراء ما سمعه ويسمعه مبارك الابن اليوم من عبارات التهليل والترئيس، مفادها إعلاء راية الاعتراض على نظام عبد الفتاح السيسي أكثر بكثير من الحنين إلى نظام مبارك، من جهة أولى؛ وأن الأمر بأسره يبدو أقرب، من جهة ثانية، إلى مختبر تجريبي يتلمس تحالفات موشكة، أو في طريق الصياغة الابتدائية؛ بصدد سيناريوهات استبدال مكونات سلطة السيسي الراهنة، في الجيش ومؤسساته الاقتصادية وشركاته الاستثمارية، وفي أجهزة المخابرات واستطالاتها الداخلية والخارجية.
والأرجح أن أول الخيوط خلف تلك السيناريوهات ليست ما يُشاع عن عتبات تعاون، أو حتى تنسيق فعلي وميداني، بين جماعة الإخوان المصرية وآل مبارك والشركاء وأصحاب المصلحة في استعادة نظام مبارك؛ أو بين مجموعة مبارك الابن وأمثال سامي عنان، وهذا الضابط الكبير أو ذاك. مرجح، هنا أيضا، أن الخيط الأهم جاء عبر وساطة دولة الإمارات، والشيخ محمد بن زايد شخصيا، لدى السيسي كي يسمح لكل من جمال وعلاء بالسفر إلى أبو ظبي وتقديم العزاء في وفاة الشيخ خليفة بن زايد. ذلك لأن الواجب لم يقتصر على التعزية وحدها، بل على تهنئة بن زايد بتوليه رئاسة الإمارات، في غمرة جفاء إماراتي ـ سعودي غير معلَن تجاه السيسي، ألمح إليه الأخير في خطبة ألقاها خلال مؤتمر الاقتصاد الأخير.
سلسلة الانتصارات القضائية، التي أحرزتها أسرة مبارك منذ شباط (فبراير) الماضي، على أصعدة مصرية أو سويسرية أو اتحادية أوروبية، قد لا تكون جزءا من عمليات إعادة التأهيل داخل المختبر إياه؛ ولكن يصعب ألا تكون عنصرا بالغ التأثير، بل حاسم الفعل أيضا، من زاوية أنها أفرجت قانونيا عن مليارات كانت مجمدة أو خارجة عن معادلات صياغة النفوذ وبناء شبكات الولاء ورفع الصوت الصارخ بـ«يا رب ترجع أيامكم». صحيح، ومؤكد بدرجة إطلاق عالية، أن مليارات آل مبارك التي نُهبت وكُدست على مدى عقود لن تعود إلى خزائن مصر الدولة ومصر التنمية ومصر الجنيه الهابط أسفل سافلين، وليس إلى سواد شعب مصر الجائعة الفقيرة العطشى المريضة المقهورة؛ فالسارق لن يعيد المسروقات، بقدر ما سيصرف بعضها على ضمان تمكينه من مسروقات أخرى. ليس أقل صحة، في المقابل، أنها مليارات صانعة للسلطة ومولدة للنفوذ، تشتري الرضا الخارجي عزيز المنال، مثلما تُكسب صاحبها منعة ومناعة.

ولأن المؤسسة العسكرية هي التي تحكم مصر منذ سنة 1952، عبر محمد نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك ومحمد حسين طنطاوي والسيسي؛ فإن المختبر قد يلجأ إلى مشير ما، قابع في الظل، حتى على سبيل تلبية الشكل من دون المساس بالمحتوى الفعلي

وذات يوم أطلقت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية «نكتة سوداء»، إذا صح التعبير، حين تساءلت في عنوان واحد من مقالاتها الرئيسية: «هل يوجد غورباتشوف على ضفاف النيل؟»؛ وكان كاتب المقالة جاكسون ديل يعلق على زيارة مبارك الابن إلى واشنطن، ويحاول أن يضع سياقا سياسيا أمريكيا ومصريا للأسباب التي جعلت نجل الرئيس المصري يُستقبل بصفة رسمية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون. بالطبع، كان السياق المصري هو التقارير والمؤشرات والوقائع التي تتحدث عن خلافة الابن لأبيه، وكان السياق الأمريكي هو أن الإدارة قابلة بهذا التوريث مادام الفتى لا يشبه أبيه في الولاء للولايات المتحدة، فحسب؛ بل يسابقه ويسبقه ويتفوق عليه!
يومذاك كان نظام مبارك الأب قد أعاد تفعيل مركز جديد للسلطة، عُهد إليه هذه المرة بتمهيد الطريق أمام التغيير القادم في قمة الهرم، وإعطاء إشارات كافية حول الخلافة؛ وكان ذلك المخلوق هو «الحزب الوطني الديموقراطي»، القديم والحاكم نظريا منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ويفترض في ذاته احتواء «الأغلبية» الشعبية المصرية. وتلك محاولة انطوت على مخاطرة الإيحاء بأن المركز التقليدي للدولة، أي الرئاسة، قد ضعف أو هرم ويحتاج إلى تجديد، والإيحاء بأن الأوان قد آن لتبديل الشيوخ بالشباب، ولإطلاق سيرورة توريث مبارك الابن. ومن جانب آخر كان الحزب قد جازف بالخوض في مجالات حساسة مثل البحث عن الهوية السياسية وأساليب الحكم وحقوق الانسان ومعضلات المجتمع، واعتماد شعار فضفاض ومثير للإحراج في آن معا هو «الفكر الجديد وحقوق المواطن».
وخلال مؤتمر مشهود للحزب، وبعد ثلاثة أيام من المناقشات التي غاب عنها تماما، حضر مبارك الأب وألقى كلمة برهنت أن أبرز أهداف المؤتمر هو تكريس الدور المحوري لولده جمال، وذلك حين تبنى الأب كل الأفكار والاقتراحات التي سبق للابن أن عرضها في الجلسة الافتتاحية تحت عنوان «الإصلاح السياسي وحقوق المواطن». أعلن مبارك الأب إلغاء الأحكام العسكرية الصادرة على عشرات الآلاف من المواطنين الذين تعدوا على الأراضي الزراعية وحولوها الى مناطق سكنية، ودعا أحزاب المعارضة الى حوار وطني والى تفعيل دورها في المجتمع المصري، وعقد مؤتمراتها وتنظيم حملاتها، وفتح الباب أمام تعديل قانون الجنسية الذي يمس الآلاف من أبناء المصريين والمصريات المتزوجين من أجانب…
منطقي بذلك، ومنتظَر أغلب الظن، أن يبدأ مختبر إعادة تأهيل مبارك الابن من هذه المناخات، التي ستنوب عن الحزب في الترويج لها أطرافٌ متنوعة شتى؛ لها أن تبدأ من الجماهير الهاتفة بـ«يا رب ترجع أيامكم»، و«هو جمال إن شاء الله»؛ وأن تمر بهذا الضابط الساخط في الجيش/ المؤسسة الاستثمارية أو ذاك في الجهاز الأمني، ورجل أعمال يمثل تماسيح النهب تارة أو آخر يقود قطعان ذئاب الفساد تارة أخرى؛ ولا تنتهي في أبو ظبي والرياض وتل أبيب، فضلا عن واشنطن داخل أروقة البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون. مبكر، مع ذلك، وربما بسبب من ذلك تحديدا، أن يعطي المختبر ذاته نتائج ملموسة أو واضحة بما يكفي؛ حتى إذا كانت مؤشرات من قلب السلطة تفيد بأن هواجس ما يُختبر لتوه تقلق النظام.
للمرء أن يبدأ من محاولات السيسي رشوة الشارع أو امتصاص النقمة، من خلال رفع الحد الأدنى للأجور (حتى بمعدل 300 جنيه!)، والدعم المالي عبر بطاقات التموين، ومنح علاوة استثنائية (بالمبلغ الأيقوني الهزيل ذاته: 300 جنيه!). وللمرء أن ينتقل إلى عصبية النظام في التعامل مع الدعوات إلى المشاركة الجماهيرية الأوسع في حملة «11/11» يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل)، التي تكتسب المغزى من تزامنها مع احتضان مصر قمة المناخ «كوب 27» في السادس من الشهر الجاري؛ والتي سيسعى إلى هندستها مجددا المقاول والممثل المصري محمد علي، صاحب فيديوهات التفضيح الشهيرة خريف 2019.
ولأن المؤسسة العسكرية هي التي تحكم مصر منذ سنة 1952، عبر محمد نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك ومحمد حسين طنطاوي والسيسي؛ فإن المختبر قد يلجأ إلى مشير ما، قابع في الظل، من باب الوفاء لإرث العسكر، حتى على سبيل تلبية الشكل من دون المساس بالمحتوى الفعلي.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

البرهان ومكوّناته المدنية:

مَن يشتري الوقت؟

صبحي حديدي

ليست قلّة إنصاف أن تُعقد مقارنة بين ماضي السودان القريب كما حكمه عمر البشير قبيل إسقاطه، وبين راهن السودان كما يُحكِم جنرالات الجيش السوداني قبضاتهم العسكرية والأمنية على مقدراته؛ بزعامة قائد الجيش الانقلابي عبد الفتاح البرهان وشريكه في الهيمنة محمد حمدان دقلو قائد «قوات الدعم السريع»؛ ومن خلفهما حفنة صغيرة من الضباط الأدنى رتبة وسطوة، ولكن ليس البتة أقلّ تعطشاً إلى النفوذ والبطش.
وكي يبدو اليوم أشبه بالبارحة، ليس من الضروري أن يتشابه انقلاب البرهان يوم 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، مع انقلاب البشير أو أيّ انقلاب آخر سبقه، فضلاً عن أيّ انقلاب يُحتمل أن يعقبه إذا بلغت تناقضات قوى الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية ومفارز دقلو نقطة قصوى يطفح عندها الكيل ويتحتّم الانفجار. والتظاهرات التي تعمّ السودان لا تسجّل مرور سنة أولى على انقلاب البرهان فقط، بل تعيد التشديد على تلك المحطات الانقلابية التي أطلقت عهود الاستبداد في البلد.
بعد سنتين فقط من استقلال السودان عن التاج البريطاني، عام 1956، قاد الفريق إبراهيم عبود الانقلاب العسكري الأوّل، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1958؛ أعقبه العقيد جعفر النميري بانقلاب عسكري ثانٍ، في سنة 1969، اقترن أيضاً بالإجهاز على انتفاضة 1964 التي أنهت دكتاتورية عبود؛ وأمّا المشير محمد سوار الذهب فقد كان استثناء قاعدة العسكر، فعهد بالحكم إلى جهة مدنية بعد الإطاحة بنظام النميري. لكنّ تباشير النفط في البلد أسالت لعاب القوى العظمى، وأعادت تأجيج شهية الانقلابات، ووضعت البشير في سدّة الحكم سنة 1989.
وليس ما يُشاع اليوم عن اقتراب العسكر من صيغة اتفاق دستوري مع المكوّن المدني سوى إشارة أخرى على طرازَين من التفاعلات التناحرية داخل سلطة الانقلاب: بين الجيش والأجهزة الأمنية وقوات دقلو، من جهة أولى؛ وعند هؤلاء جميعاً إذْ تدنيهم أحوال البلد الاقتصادية والمعيشية من حافة مواجهات التصفية والتصفية المضادة أو التفاهمات الأقرب إلى صفقات تواطؤية، من جهة ثانية. وإذا ظلت تفاصيل الاتفاق المزعوم بين العسكر والمدنيين طيّ الكتمان، أو التكتم المتبادل بالأحرى، فإنّ عناصرها الكبرى الجوهرية لن تأتي بجديد دراماتيكي في أحجام التنازلات بين الطرفين؛ خاصة تلك الضمانات التي يشترطها الجنرالات، حول: 1) إعفائهم من المساءلة القضائية عن مخالفات الماضي، في أيام البشير كما في أيام البرهان؛ و2) تمكينهم من قبضة عسكرية وأمنية مستقلة، لا تقصيهم عن آلة القرار وصناعته؛ و3) إبقاء التشكيلات العسكرية الخاصة، و»قوات الدعم السريع» تحديداً، بمنأى عن الدمج في بنية الجيش أو الخضوع لأي شكل آخر ينتهي إلى التفكيك…
وحين وافق جنرالات السودان على تسليم رئاسة الحكومة إلى عبد الله حمدوك، والإيهام بأن السلطة باتت مدنية، كانت الضغوطات الخارجية الدولية والأفريقية ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي هي محرّك القرار؛ الأمر الذي أحسن العسكر المناورة فيه وشراء الوقت ريثما تُستكمل ترتيبات البيت العسكري والأمني الداخلي، وينفض البرهان وشركاؤه يدهم من ترئيس حمدوك. اليوم تُستعاد مناخات مماثلة، فنقرأ تغريدة من وزير الخارجية الأمريكي يقول فيها إن الوقت قد حان «لإنهاء الحكم العسكري»؛ وتحث 13 دولة، صحبة الاتحاد الأوروبي والآلية الثلاثية، على تشكيل حكومة انتقالية يقودها مدنيون. ولا عجب، استطراداً، أن يسرّب الجنرالات فتات معلومات عن قرب التوصل إلى اتفاق مع المكوّن المدني.
وهذا، على وجه التحديد، هو الشرك الذي يتوجب على القوى المدنية أن تتفادى الوقوع فيه، لجهة تكرار الأخطاء ذاتها من جانب المدنيين، أو إعادة إنتاج الخيارات القاصرة التي أفقدت الشارع الشعبي زخماً ثميناً وأثخنته بالجراح والانكسارات والتضحيات؛ كما أكسبت العسكر أكثر من جولة واحدة، ولا فرق أنّ إخراجها كان انقلابياً، أو أنّ سيناريوهاتها تعيد ترسيم التناظرات بين البشير والبرهان.

 

 

عودة برلسكوني:

أيّ أثمان سوف تدفع إيطاليا؟

صبحي حديدي

 

ليس في الإمكان أفضل مما كان، يجوز القول تعليقاً على موقف الاتحاد الأوروبي من زجاجات الفودكا التي أرسلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى صديقه سلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق على ثلاث دفعات، بمناسبة عيد ميلاد الأخير: إنها (الزجاجات الـ20، في التأويل الأخبث المشروع) تخرق العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو! وأمّا صيغة «لا تعليق» فإنها الخيار الذي احتكم إليه مسؤولو الاتحاد، رداً على التسريبات الصوتية الأخرى التي نقلت مواقف برلسكوني الحقيقية من الاجتياح الروسي لأوكرانيا: أنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي هو الذي بدأ الحرب، واستفزّ بوتين؛ وأنّ الأخير هبّ دفاعاً عن الروس في دونباس، لكن العملية المحدودة التي كانت أهدافها احتلال أوكرانيا وإسقاط زيلنسكي أصبحت الآن حرب الـ200 سنة…
في التسريبات الأخرى ثمة ما هو طريف (أنّ برلسكوني هو أحد خمسة أصدقاء مقربين من بوتين، على نطاق العالم)؛ وما هو جامع بين البلاهة والطراز المَرَضي من الغطرسة (أنه ليس في الغرب قادة بالمعنى الحقيقي وأنه، أي برلسكوني، القائد الحقيقي الوحيد)، وهذا الشطر الذي يخصّ الغرب (بالمعاني الجغرافية والحضارية والجيو – سياسية والأطلسية تحديداً) يكتسب دلالة بالغة الخصوصية بالقياس إلى مواقف برلسكوني المأثورة تجاه «العوالم» الأخرى خارج نطاق الغرب، خاصة تلك التي لا تعتمد القِيَم اليهودية – المسيحية عموماً، وتلك الإسلامية بصفة خاصة. إنه القائل، بالفم الملآن ومن موقع رئاسة الحكومة وليس من مقاعد المعارضة أو خلال تسريبات صوتية: «حضارتنا متفوّقة على حضارتهم (المسلمين أساساً، وشعوب الأرض الأخرى غير الأوروبية قاطبة وضمناً)، ولهذا ينبغي على الغرب، واستناداً إلى تفوّق قِيَمه، أن يُغَرْبن
Occidentalize ويغزو Conquer شعوباً جديدة». وكي يضرب أمثلة من العالم المحسوس، وليس العالم الافتراضي وحده، استذكر أنّ «الغرب فعلها مع العالم الشيوعي ومع جزء من العالم الإسلامي، ولكن للأسف مع جزء من العالم الإسلامي يعود إلى 1400 سنة إلى الوراء».

جسيمة سوف تكون الأثمان التي ستدفعها إيطاليا جراء عودة برلسكوني، من هذه البوّابة اليمينية المتطرفة تحديداً؛ وعلى أصعدة شتى سوف تتجاوز السياسة والاقتصاد والرياضة والإعلام، إلى الحريات العامة والمدنية وحقوق الرأي والتعبير.

هذه، في قراءة أخرى لا يصحّ إغفالها، استعادة جديدة للمهمّة العتيقة التي ظنّ الغرب ــ و»الرجل الأبيض» في عبارة أوضح ــ أنها ملقاة علي عاتقه: «المهمة التمدينية» Mission Civilisatrice التي تحدّث عنها الشاعر البريطاني الكولونيالي روديارد كبلنغ: «فاحملْ عبء الرجل الأبيض/ واصنعْ لحروب الهمج السلام». الفارق أنّ برلسكوني نطق بما كان، ويظلّ اليوم أيضاً، يعتمل في صدور رهط واسع من الساسة وصانعي القرار وخبراء الستراتيجيات والمعلّقين في الولايات المتحدة والغرب إجمالاً، إذا وضعنا جانباً مشاعر الشرائح الأعرض في ما تطلق عليه العلوم الاجتماعية توصيفات مثل «الدهماء» أو «الشارع» أو «السواد الأعظم». فارق برلسكوني أنه تجاسر على النطق في أزمنة جعلت الآخرين يجنحون إلى الكتمان أو اللغة الدبلوماسية أو الألعاب اللفظية، كأن يردّد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن تعبير «الحملة الصليبية» ثم يتراجع عنه تدريجياً حرصاً على مشاعر المسلمين؛ أو أن يختار البيت الأبيض للعمليات العسكرية/ المجازر المقبلة في العراق تسمية «عدالة لانهائية»، ثمّ يستبدلها سريعاً بتسمية أخرى لا تخلط بين عدالة الأرض وعدالة السماء… كرمى لمشاعر المسلمين هنا أيضاً!
والموقف الإيطالي الرسمي في الاصطفاف التامّ خلف الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق، كما رسمه برلسكوني وأشرف على تنفيذه، كان في الواقع أقرب إلى سياسة قوامها التبعية (الغربية ذاتها، التي يسخر منها برلسكوني اليوم) وعقلية اقتناص الأرباح السريعة البادية للعيان؛ تماماً كما هي حال أيّ رجل أعمال مبتذل. أركان الموقف ذاك نهضت، أيضاً، على الغطرسة والعنصرية والتحقير الثقافي والحضاري للآخر، العربي والمسلم بصفة عامة. وحين أفادت الأخبار بمقتل 18 إيطالياً في الناصرية، لم يجد برلسكوني ضرورة لمواساة شريحة واسعة من الإيطاليين رافضي التدخل في تلك الحرب القذرة، بل صرّح بأنّ «أيّ ترهيب لن يثنينا عن التصميم على المساعدة في بعث هذا البلد [العراق]، وبناء حكومة ذاتية، وتحقيق الأمن والحرّية»! وتلك كانت بلاغة فخمة/ جوفاء تصدر عن أحد أسوأ نماذج انحطاط الديمقراطيات الغربية، حيث يُتاح لرجل الأعمال وأغنى أغنياء إيطاليا أن يشتري السياسة بالمليارات، وأن يمارسها على وتيرة عقد الصفقات التجارية أو شراء الأندية الرياضية وأقنية التلفزة أو تمويه فضائح الفساد والمباذل الجنسية…
صحيح أنّ برلسكوني يعود اليوم إلى الواجهة من بوّابات تحالف حزبه «فورزا إيطاليا» مع حزب جورجيا ميلوني «إخوة إيطاليا» وحزب ماتيو سالفيني «الرابطة»، وأنّ اليمين المتطرف هو الذي يعود فعلياً إلى سدّة السياسة الإيطالية؛ مؤكداً صعوداً ملحوظاً، متعاقباً ومتماثلاً وإنْ تمايز نسبياً، لليمين إياه في هنغاريا والسويد وفرنسا، وقبلها في النمسا وإيطاليا ذاتها. ليس أقلّ صحّة، في المقابل، أنّ وجود برلسكوني في الحياة السياسية الإيطالية يختلف عن صعود ميلوني وحزبها (الذي نال 4% فقط في الانتخابات العامة الماضية سنة 2018)؛ وهو فارق يخصّ الظاهرة المتأصلة لدى الأوّل، مقابل «الطفرة» التي يمكن أن تنتهي إلى الطارئ والمؤقت لدى الثانية.
ليست نقلة عابرة، لا قيمة لها ولا دلالة بعيدة الغور، أن يستسهل برلسكوني هجاء «الغرب»، هو الذي اعتمده مفهوماً حضارياً مسيحياً أوّلاً، ثمّ مصدر القِيَم ضمن التراث اليهودي – المسيحي تالياً، وليس بالمعنى العقائدي العريض، المكرور أو المستنسَخ أو الديماغوجي/ الشعبوي، فحسب؛ بل، أساساً، بمعنى تسخير هذا كله، وسواه، لتغذية جوع جموع حاشدة عنصرية المزاج وانعزالية الهوس تلتفّ حول «الثقافة» اليومية التي يوفّرها برلسكوني، عبر أمواله وأنديته الرياضية وأقنيته، أسوة بخطاباته الشعبوية. ولم يكن غريباً أنه سارع إلى التراجع عن الجزء الساخر من الغرب في التسريبات الصوتية، وأوكل إلى أنتونيو تاجاني منسّق «فورزا إيطاليا» أمر التشديد على «انحياز الحزب التامّ لصالح حلف الناتو والعلاقات الأطلسية والعلاقات مع أوروبا، والوقوف ضدّ الغزو الروسي غير المقبول لأوكرانيا».
وعودة برلسكوني اليوم تعيد التذكير بأنه، حين كان رئيس الوزراء وزعيم حزب «شعب الحرّية» قائد الائتلاف الحاكم في إيطاليا؛ كان، في الآن ذاته، مالك ثلاث أقنية أرضية من أصل سبع، مكّنته من بسط نفوذ واسع على الحياة الإعلامية، سواء في القطاع الخاص أم في القطاع الحكومي. وتلك حقبة شهدت قرار وزير الثقافة الإيطالي ساندرو باندي مقاطعة مهرجان كان السينمائي الفرنسي الشهير، احتجاجاً على عرض الشريط الإيطالي «دراكيلا، حيث ترتجف إيطاليا». ولقد اعتبر الوزير أنّ الشريط، الذي يمزج الوثيقة بالخيال، ينطوي على «إهانة للحقيقة وللشعب الإيطالي بأسره»، ولهذا فإنّ وزارته لن تشارك في المهرجان، وهو شخصياً يرفض تلبية الدعوة لحضور حفل الافتتاح. أمّا الفيلم المعنيّ فقد استحقّ سخط الوزير لأنّ مخرجته سابينا غوزاني في طليعة أشدّ منتقدي برلسكوني، وأبرعهم في استخدام الفنّ السابع لكشف مباذله وفضائحه.
والأصل أنّ الديمقراطيات الغربية التي تسجّل صعود يمين ميلوني وبرلسكوني وأمثالهما ليست البتة معافاة، حتى إذا كانت أمراضها عابرة أو قابلة للعلاج أو حتى تحت السيطرة. الأصل، كذلك، أنّ الشارع الشعبوي الذي يقف خلف ظواهر الصعود هذه يؤمن أنها ضامنة القِيَم والدين والهوية، ولا يبصر ما يكمن عميقاً في جذور تكوينها من عطالة إزاء معالجة العمل والتعليم والصحة والخدمات والاجتماع والحياة اليومية. جسيمة، أغلب الظنّ، سوف تكون الأثمان التي ستدفعها إيطاليا جراء عودة برلسكوني، من هذه البوّابة اليمينية المتطرفة تحديداً؛ وعلى أصعدة شتى سوف تتجاوز السياسة والاقتصاد والرياضة والإعلام، إلى الحريات العامة والمدنية وحقوق الرأي والتعبير.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

صعود الفاشية الأمريكية:

إعادة تجهيز الجاهز

صبحي حديدي

 

لا يفتقر المرء إلى مؤلفات جادّة المنهج ورصينة الطرح في معالجة صعود الفاشية المتنامي في الولايات المتحدة، والأنساق المختلفة التي تتخذها هذه الظاهرة في قلب المجتمع بصفة عامة، ولكن أيضاً في المستويات القيادية العليا للحزب الجمهوري؛ وانتقال مفاعيل التفكير الفاشي إلى مؤسسات مثل الكونغرس والمحاكم الفدرالية والإعلام والصحافة والجامعات ومراكز الأبحاث. ولم تكن تلك المؤلفات تنتظر تنبيه الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصياً، في الخطبة التي ألقاها أمام قاعة الاستقلال في فيلادلفيا مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، وباتت الآن شهيرة ومعيارية، حتى يتعاقب صدورها؛ وتقرع عدداً من أخطر أجراس الإنذار حول الأخطار الكبرى خلف تصاعد التيارات الفاشية على امتداد الولايات المتحدة.
وفي الخطبة تلك وضع بايدن سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب في سلّة واحدة مع جماعات الـ
MAGA (اختصار الشعار الشهير «فلنجعلْ أمريكا عظيمة مجدداً»)، من حيث تهديد «ركائز جمهوريتنا ذاتها»، وإشاعة الفاشية، وتأجيج لهيب العنف السياسي، وهذه كلها تهدد «حقوقنا الشخصية، ومسار العدل، وحكم القانون، وروح بلادنا»… قلّة قليلة من أبناء أمريكا كانوا على جهل بأنّ العبارة لم يخترعها ترامب أو جماعة الـ MAGA، بل سبق أن استخدمها رئيس أسبق أيقوني في الحزب الجمهوري، هو رونالد ريغان؛ ورئيس أسبق، مشهود أيضاً في الحزب الديمقراطي، هو بيل كلنتون؛ ويندر أن تتجرد العبارة من طاقة التحشيد والتجنيد والتحريض على مستوى الشارع الأمريكي، لدى شرائح الذكور والبيض والرجعيين والعنصريين على وجه الخصوص.
صحيح أنّ ترامب وأنصاره أحيوا الشعار واستثمروه على نحو كان الأكثر توظيفاً في السياسة والاجتماع والوعي الجَمْعي، والأشدّ خطورة من حيث التوظيف والتأطير؛ إلا أنّ الجذور، كما البذور والتربة، كانت قد تهيأت منذ عقود سبقت تأصيل ترامب والترامبية.
هذه بعض فصول كتاب برترام م. غروس «الفاشية الودودة: وجه السلطة الجديد في أمريكا»، 2016؛ أو كتاب جيسون ستانلي «كيف تشتغل الفاشية: سياسة نحن وهم»، 2018؛ أو أنتوني ديماجيو «الفاشية الصاعدة في أمريكا: يمكن أن تحدث هنا»، 2021؛ أو، أخيراً وليس آخراً، كتاب غلين بيك وجستن هاسكنغ «إعادة التجهيز العظمى: جو بايدن وصعود الفاشية في القرن 21»، الذي لا يوفّر سيد البيت الأبيض الراهن من الانخراط في سردية إعادة الإرساء القديمة التي اقترنت بغالبية السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحكومية الأمريكية، وكانت وتظلّ على الدوام بمثابة التربة الخصبة لاستنبات الفاشية. وفي معظم هذه المؤلفات، وسواها أخرى عديدة، لا يقول المؤلفون إنّ أمريكا تسير نحو الفاشية على غرار هنغاريا فكتور أوربان أو إيطاليا المقبلة في طبعة جورجيا ميلوني، بل على شاكلة ما سارت إليه عمليات اقتحام مبنى الكابيتول، وما صارت تتخذه جرائم القتل الجماعي من أبعاد سياسية أو حتى انتخابية؛ وكذلك، على نحو أشدّ تسييساً، شيوع فلسفة «الاستبدال الكبير» التي عبرت المحيط من داخل الفكر العنصري الشعبوي الفرنسي لتحتلّ في أمريكا مكانة تهديمية تنخر أولاً بنيان الدستور الأمريكي ذاته وركائز الحقوق المدنية.

لا تسير أمريكا نحو الفاشية على غرار هنغاريا فكتور أوربان أو إيطاليا المقبلة في طبعة جورجيا ميلوني، بل على شاكلة ما سارت إليه عمليات اقتحام مبنى الكابيتول، وما صارت تتخذه جرائم القتل الجماعي من أبعاد سياسية أو حتى انتخابية

والحال أنّ سيرورات «إعادة التجهيز» ليست في نهاية المطاف سوى إعادة تصنيع سلسلة من المبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لاح أنها جُهّزت منذ السنوات الأولى في افتتاح ما سُمّى بـ«القرن الأمريكي»؛ طبقاً لتوصيف هنري ر. لوس مطلع أربعينيات القرن الماضي، الذي طالب الولايات المتحدة بالخروج من العزلة أولاً، وباعتماد مبدأ التدخل المباشر في شؤون العالم قاطبة وأداء دور القوة العظمى الديمقراطية. ولسوف تمرّ عقود قليلة قبل أن يسارع اثنان من قادة تيار «المحافظين الجدد»، وليام كريستول وروبرت كاغان، إلى اقتراح مشروعهما المسمى «من أجل قرن أمريكي جديد»؛ فلم تكن عناصره التنظيرية أقلّ من إعادة إنتاج/ إعادة تدوير/ إعادة تشغيل لاستيهامات لوس منظّر السردية الأبكر، ولم تكن خلاصاته أدنى شأناً من بوّابات فضفاضة لاستدخال تنويعات شتى من الفكر الفاشي.
طريف، إلى هذا، أنّ طرازاً مختلفاً من هوس «العلامة المسجلة» الفاشية كان قد استهوى رئيساً أمريكياً أسبق هو جورج بوش الأبن، الذي أغراه عدد من مستشاريه باستخدام توصيفات مثل «الإسلام الفاشي»، أو «الإسلاميّ الفاشيّ»، أو «الفاشو ـ إسلاميّ»؛ فكان أن ترددت هذه على لسانه خلال خطبة اشتهرت بدورها على هذا الصعيد، ألقاها بوش الابن في «المعهد الوطني للديمقراطية»، وليس في أيّ مكان آخر! ولعلّ تلك البرهة بالذات كانت واحدة من ذرى التقاء الخطّ المتشدّد للمحافظين الجدد إزاء الإسلام، والمزاج الشخصي التبشيري شبه العصابي عند رئيس أمريكي أَنَسَ في ذاته جبروتَ محاربة الشرّ على خطى الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة. خذوا ما جاء في مستهل تلك الخطبة العصماء:
«البعض يطلق على هذا الشرّ تسمية الراديكالية الإسلامية، والبعض الآخر يعتبره جهادية إسلامية، ويوجد كذلك مَن يسمّيه إسلاموـ فاشية. هذا الشكل من الراديكالية يستغلّ الإسلام لخدمة رؤيا سياسية عنيفة عمادها التأسيس، عن طريق الإرهاب والانحراف والعصيان، لإمبراطورية شمولية تنكر كلّ حرّية سياسية ودينية. هؤلاء المتطرفون يشوّهون فكرة الجهاد فيحوّلونها إلى دعوة للإجرام الإرهابي ضدّ المسيحيين واليهود والهندوس، ولكن أيضاً ضدّ المسلمين من مذاهب أخرى، ممّن يعتبرونهم هراطقة». وجاء في ختام الخطبة أنّ «الراديكالية الإسلامية، مثل الأيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتّم فشل تلك الراديكالية. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الأيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكناً، والمجتمعات الإنسانية ناجحة».
وبين الاستهلال والخاتمة أعاد بوش التشديد على ما يستهويه أكثر في حكاية الحرب على الإرهاب: «أنّ الأيديولوجيا الإجرامية للإسلاميين الفاشيين هي محكّ القرن الجديد الذي نعيشه. غير أنّ هذه المعركة تشبه، في أوجه كثيرة، الكفاح ضدّ الشيوعية خلال القرن المنصرم. فالراديكالية الإسلامية، تماماً كالأيديولوجيا الشيوعية، تتصف بأنها نخبوية، تقودها طليعة تعيّن ذاتها بذاتها، تنطق باسم الجماهير المسلمة. بن لادن يقول إنّ دوره تعليم المسلمين ما هو خير لهم وما هو ليس بخير. وما يعتبر هذا الرجل، الذي تربى في الرخاء والثراء، خيراً لفقراء المسلمين ليس سوى أن يصبحوا قتلة وانتحاريين. وهو يؤكد لهم أنّ طريقه هو وحده الدرب إلى الجنّة، رغم أنه لا يسير فيه هو نفسه».
لا عجب، استطراداً، أنّ بعض توصيفات بايدن بصدد أنصار ترامب من جماعة الـ
MAGA، أو طرائق القدح التي يعتمدها ضدّ سلفه ترامب شخصياً، ترجّع أصداء خطاب بوش الابن بحقّ «الإسلامي الفاشي» عموماً، وشخص بن لادن خصوصاً؛ لجهة استهداف الركائز الدستورية للجمهورية الأمريكية، وللحقوق الشخصية والمدنية، ولأنّ هؤلاء «يتغذون على الفوضى، لا يعيشون في ضوء الحقيقة بل في ظل الأكاذيب»… ومن جانبها لم تتردد صحيفة «واشنطن تايمز» الأمريكية اليمينية في توظيف «العلامة المسجلة» ذاتها، ولكن من جهة اليمين هذه المرّة، فاتهمت بايدن بـ«اغتصاب السلطة التشريعية»، وأن قادة الحزب الديمقراطي تحولوا إلى «فاشيين».
وعلى هدي ترامب وجمهوريوه، يغفل بايدن وديمقراطيوه حقيقة كبرى تقول التالي: إذا كان الإسلام، مثل اليهودية والمسيحية، نتاج المشرق وعقيدة مئات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإنّ الفاشية نتاج أوروبي صرف انفلت من عقاله الديمقراطي الفكري والفلسفي ذات يوم، فامتدّت عواقبه الكارثية إلى مشارق الأرض ومغاربها. العقبى، مع ذلك، تتجلى في إعادة تجهيز الجاهز، وإعادة رشقه على ما قد يكون فيه، أو لا يكون!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

مصادفات بوتين:

سوريا 2015 والقرم 2022

صبحي حديدي

 

شاءت مصادفات التاريخ الشخصي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة تلك الجوانب التي تشدد على نزوعاته القيصرية إمبراطورية الطابع، أن تتزامن الذكرى السابعة للتدخل العسكري الروسي إلى جانب نظام بشار الأسد، أواسط أيلول (سبتمبر) 2015؛ مع المنحنيات الأكثر جدية، والأعلى دلالة، لانكسارات الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا، هنا وهناك في العمق الأوكراني، أو على جسر القرم الأيقوني الشهير الكبير.
وكي لا تخلو مصادفات التاريخ، العامّ الكوني هذه المرّة، من المفارقات الأقرب إلى النقائض؛ كانت مقادير تبادل العبارات المقذعة بين الكرملين والبيت الأبيض تتجاوز ما عوّدت عليه البلاغة الفردية لكلّ من بوتين والرئيس الأمريكي جو بايدن، في مقابل الثواني الـ13,5، عدّاً وحصراً، التي كانت قد جمعت الرئيس الروسي مع نظيره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في لقطة بروتوكولية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، أيلول (سبتمبر) 2015 أيضاً، قبيل أيام معدودات سبقت بدء هبوط عشرات المقاتلات الروسية المختلفة والحوامات وطائرات الشحن العملاقة في مطار حميميم على الساحل السوري. ولن يطول الوقت حتى بات المطار الصغير نسبياً، الذي كان النظام قد أطلق عليه تسمية «مطار الباسل» بن حافظ الأسد، بمثابة قاعدة جوية هي الأضخم في رصيد موسكو على شواطئ المتوسط، والرديف الجوي للقاعدة البحرية الروسية الاستثنائية في ساحل مدينة طرطوس السورية.
يومذاك لم يكن بوتين بصدد إحياء، أو استئناف، أي طور أو طراز من الحرب الباردة القديمة، حتى ضمن مختلف صياغات الحروب المتخيَّلة والافتراضية؛ بل كان ينتهج سياسات يمكن أن تقنع الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، بقبول روسيا شريكاً في شراكات سياسية وأمنية واقتصادية على امتداد العالم. العقدة، مع ذلك، كانت أنه مصمم على التذكير بأدوار يتوجب أن تُسند إلى موسكو في تلك الشراكات، وبعضها يستحق أن يُحتكر روسياً فقط؛ بعد جورجيا والقرم والمغامرة الأولى في أوكرانيا، وقبل سوريا كتدخّل عسكري مباشر واسع النطاق، ثمّ ليبيا أو السودان أو الجزائر أو هنا وهناك في أفريقيا. وكلّ هذا على سبيل الذهاب أبعد من مستوى الشراكة، نحو حلحلة متاعب روسيا المختلفة، وفي طليعتها العقوبات الاقتصادية، وكذلك حروب أسعار النفط وستراتيجيات أنابيب الغاز العابرة للقارّات.
وفي أواخر شباط (فبراير) 2018 سوف يتذوّق الجيش الأمريكي، غير بعيد عن ضفاف نهر الفرات في شرق سوريا هذه المرّة، طعم الاصطدام مع تكتيكات بوتين العسكرية، غير المباشرة كما يصحّ القول؛ حين أغار على المعسكر الأمريكي مرتزقة يفغيني بيروجين، «طبّاخ بوتين» في اللقب الكاريكاتوري ومؤسس وصاحب ميليشيات «فاغنر» العاملة تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية. قبلها بأيام كان بيروجين قد عقد صفقة، عن طريق شركة «إيفرو بوليس» المرتبطة به، لـ»تحرير» عدد من المناطق النفطية والمصافي في ريف دير الزور، واستثمارها بالتعاون مع شركة نفط النظام وبعض مهرّبي البترول من رجال الأعمال المقرّبين من النظام والمتعاقدين مع «تنظيم الدولة» في آن معاً. ذلك الاصطدام الدامي ذكّر ساسة البيت الأبيض، وجنرالات البنتاغون، أنّ ردود أفعال الولايات المتحدة على التدخل العسكري الروسي في سوريا لم تتجاوز اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، واتصالاً ثانياً من وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر مع نظيره الروسي سيرغي شويغو.
وهكذا، في مصادفة التزامن بين أيلول (سبتمبر) 2015 والشهر ذاته 2022، يظلّ بوتين مخلصاً لهوس التذكير بأنّ موسكو في عداد جبابرة الكون عسكرياً (وهذا صحيح، بالطبع)؛ ثمّ جيو ـ سياسياً (وهذا مصدر شك، لأنّ تكبيل روسيا اقتصادياً، وتخبطها في مغامرات عسكرية قصيرة الأجل وقاصرة الأغراض، لا يخدمان هذه الغاية بالضرورة)؛ الأمر الذي يتوجب أن يُلزم الغرب والولايات المتحدة بالتعامل مع موسكو كندّ وشريك (وهذا مشكوك فيه أيضاً، في المدى المنظور على الأقل).

 

 

من سمرقند إلى كييف:

أقطاب تتعدد وعواقب تتفاقم

صبحي حديدي

 

تحتضن أستانا عاصمة كازخستان ثلاث فعاليات ذات طابع دولي، لا تغيب عنها أبعاد خاصة آسيوية، أو غير أوروبية على وجه التخصيص؛ وتصبّ في جهود روسية وصينية أساساً، بتضامن من دول أخرى في المحيط الجيو – سياسي أو على تخومه: القمة السادسة لما يُعرف باسم «مؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا « CICA، ومجلس رؤساء «كومنولث الدول المستقلة « CIS، و«قمّة روسيا – آسيا الوسطى» الأولى. وفي أواسط أيلول (سبتمبر) الماضي، كانت سمرقند عاصمة أوزبكستان قد احتضنت الاجتماع الـ22 لزعماء دول «منظمة شنغهاي للتعاون»، بحضور الرئيسن الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، وقادة كازخستان وقرغيزستان وطاجكستان والهند وباكستان والبلد المضيف أوزبكستان؛ فضلاً عن مراقبين مثل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، والإيراني إبراهيم رئيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، وآخرين.
هذه، وسواها على مستويات أخرى اقتصادية وتجارية وتنموية وأمنية، تبدأ من افتراض مفاده أنّ العالم ليس أحادي القطب من جهة أولى، وأنه من باب أولى ليس رهينة الاستقطاب الغربي في صياغاته المختلفة التي تبدأ من الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وقد لا تنتهي عند مجموعة الـ7 أو حتى مجموعة الـ20 حيث لا تقتصر هذه الأخيرة على قادة الدول بل تضمّ أيضاً محافظي المصارف المركزية في غالبية الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. الافتراض، استطراداً، يفتح سؤال الإمكانية ضمن تشعبات عديدة، جيو ـ سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وثقافية، وأخرى ذات صلة بتعدد انتسابات الدول الأعضاء الساعية إلى تعددية الأقطاب؛ كأن تكون الهند صديقة الولايات المتحدة وروسيا في آن معاً، وأن تفرّق بينها وبين الصين والباكستان خلافات حدودية بعضها شديد الاستعصاء؛ أو أن تكون تركيا عضواً في الحلف الأطلسي، طامحة على قدم المساوة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ومنظومة شنغهاي…
وعند تأسيسها في سنة 2001، كانت «منظمة شنغهاي للتعاون» قد ابتدأت لائحة عضويتها من روسيا والصين وكازخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان، منتقلة بذلك من تشكيلة أولى أقدم تأسست سنة 1996 واتخذت تسمية «خمسة شنغهاي»؛ كما طوّرت أغراضها المباشرة، في التنسيق والتعاون الإقليمي، وشخّصت «الشرور الثلاثة» في التطرّف والنزعة الانفصالية والإرهاب، ثمّ توجّب تلقائياً أن تنأى أكثر فأكثر عن المحاور والكتل الغربية على أصعدة سياسية واقتصادية وعقائدية. التوجه المركزي نحو تعددية الأقطاب استوجب، أيضاً، انفتاحاً أوسع على توطيد التجارة المشتركة والاستثمار في ميادين الطاقة، بل بلغ الأمر درجة تطوير نظام مصرفي للتحويلات المالية في كلّ من روسيا (
SPFS) والصين (CIPS) موازٍ للنظام الدولي/ الغربي عموماً المعروف (SWIFT). وكان لافتاً، يحمل الكثير من المغزى، أنّ البيان الختامي للمنظمة في سمرقند، مؤخراً، شدّد أكثر من ذي قبل على هدف ناظم طبع فلسفة تأسيس مجموعة شنغهاي، فأكدت الدول الأعضاء «على التزامها بإنشاء نظام عالمي أكثر تمثيلاً وديمقراطية وعدالة وتعددية أقطاب».
غير خافٍ، بالطبع، أنّ غالبية غير قليلة من دول منظمة شنغهاي لا تخرق مبادئ النظام الذي تزعم الدعوة إليه، وتنتهك أبسط اشتراطاته، فحسب؛ بل إنّ بعضها، الأكبر والأبرز مثل روسيا والصين، يعتمد الاستبداد في أنماط شتى وأنساق متغايرة، ولا يتردد في اجتياح الجوار أو احتلال المناطق وضمّها وإلحاقها، أو يمارس عمليات التطهير العرقي والثقافي. وهذه في رأس المعضلات التي أعاقت، وتعيق اليوم أيضاً، إطلاق منظومات ومجموعات وتحالفات تكفل تطوير تعددية قطبية حيوية وخلاقة ومعافاة؛ بل إنّ تفشّي الركون إلى العوائق، وما تؤدي إليه من تفاقم العواقب الناجمة عن تلك المعضلات، إنما يمنح القطبية الغربية، الأمريكية على وجه الخصوص، أفضلية واضحة في التسابق على إخضاع أطراف العالم، ويزوّدها بهوامش مناورة أوسع نطاقاً من حيث تضييق الخناق على أيّ جهود ثالثة مستقلة عن القطبين الغربي/ الأمريكي مقابل الروسي/ الصيني على سبيل المثال.

من سمرقند إلى كييف، وعلى قدم المساواة ربما: من البيت الأبيض إلى الكرملين مروراً بقرارات «أوبك +»، ثمة ما يصطرع في ميادين تشكيل الأقطاب أو تفكيكها أو إعادة تشكيلها؛ وثمة، على نحو متزامن، عواقب تتفاقم وتتضاعف وتتفجر

ضبط آسيا الوسطى والتحكم في ثرواتها وأنظمتها وامتيازاتها الجيو ـ سياسية وإدخالها في شبكات محاور أو ولاء أو حتى هيمنة مباشرة هي، غنيّ عن القول، سلسلة الأغراض الأعرض خلف المسعى المشترك الروسي/ الصيني؛ ولا غرابة في ذلك بالطبع، إذْ أنّ المنطقة تحفل بمخاطر دول غير مستقرة، وصعود دائم متعاظم للجماعات الجهادية الإسلامية المتشددة، وانتشار الجريمة المنظمة على اختلاف أنواعها وأهوالها، وتجارة المخدرات بوصفها «صناعة ثقيلة» ومصدراً للعملة الصعبة. لا يُستثنى من هذا المشهد، من زوايا الإبصار الروسية ـ الصينية هنا أيضاً، أنّ المحاور الغربية والأمريكية لم تعتمد ستراتيجية عمل جدّية شاملة إزاء آسيا الوسطى إلا في سنة 2007 عملياً، حين اتضحت أكثر فأكثر الأهمية الجيو ـ اقتصادية لثروات المنطقة، وحين تأكد أنّ نزوعات الكرملين في التوسع وبسط النفوذ أخذت تستثمر في بلدان آسيا الوسطى، مستعيدة ما يمكن من بقايا نفوذ عائد إلى حقبة الاتحاد السوفييتي.
وإذا صحّ الافتراض بأنّ الأقطاب آخذة في التعدد بالفعل، هنا وهناك على مستوى آسيا الوسطى أوّلاً، وكذلك لدى دول غير قليلة الشأن مثل الهند وإيران وتركيا ترغب في الانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون»؛ فإنّ الآخذ في التفاقم، على الضفة الموازية، هو مقدار العواقب الكارثية الناجمة عن بؤس التغيير ومحدودية التأثير لدى الغالبية الساحقة من مراكز العالم الأخرى التي تعاني من التخلف والفاقة والحاجة والديون والكوارث والمجاعات والحروب الأهلية. ولم يكن بعيداً، وقد يتكرر في أية حقبة متغيرة مقبلة، ذلك الزمن الذي شهد ائتلاف الأقطاب الكبرى ضدّ «بؤساء» العالم حيثما اقتضت قوانين السوق والاستثمار والإخضاع والسيطرة؛ وقادة الغرب الذين أدخلوا الصين إلى نادي الكبار في مجلس الأمن الدولي كانوا يدركون، كما هو إدراكهم اليوم، أنّ الفيتو الذي يمكن أن يستخدمه الوافد الجديد سوف ينقلب عليهم، هم أنفسهم، مراراً وتكراراً.
ومن جانب آخر، يخصّ القطب الغربي الأمريكي، ما يزال على قيد الحياة، أسوة بتنظيراته وتشخيصاته، الفيلسوف السياسي البريطاني جون غراي (اليميني عموماً، على سبيل الإيضاح المفيد)، الذي نعى يوتوبيات الليبرالية المعاصرة في كتابه «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة». والرجل اعتبر أنّ الديمقراطية واقتصاد السوق في حال تنافس، وليستا البتة في حال شراكة؛ وتجارب اقتصاد السوق القديمة والحديثة برهنت ــ خلال أوقات التأزم خصوصاً ــ على سطوة الدولة أكثر من سطوة السوق، وعلى خضوع اليوتوبيا للسياسة الواقعية (الـ
Realpoitik في عبارة أوضح)، التي تفرضها المصالح والأجندات السرّية، وليس الاستثمار والتنافس الحرّ وقوانين الأسواق. هذا، بالطبع، لم يكن رأي القائلين بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط جدار برلين (أو لاحقاً: ساعة سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي، فكيف بضمّ القرم واجتياح أوكرانيا!) هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية: اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة، الآتية على هيئة خاتم البشر كما توهمه فرنسيس فوكوياما، واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها تماماً من الأزمات والهزّات والتشوّهات.
ومن سمرقند إلى كييف، وعلى قدم المساواة ربما: من البيت الأبيض إلى الكرملين مروراً بقرارات «أوبك +»، ثمة ما يصطرع في ميادين تشكيل الأقطاب أو تفكيكها أو إعادة تشكيلها؛ وثمة، على نحو متزامن، عواقب تتفاقم وتتضاعف وتتفجر، في مستويات ندرة الطاقة واشتعال الأسعار في العوالم المصنّعة المتقدمة ذاتها، فكيف بعوالم كانت تسمى «ثالثة» ذات يوم، ثمّ صارت «نامية» بعدئذ، وهي اليوم تتسمى بأيّ وكلّ ما يجسّد بؤس التاريخ.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

بريطانيا: متجر التبادل

بين (المحافظين) و(العمال)

صبحي حديدي

 

«بلغ السيل الزبى»، إذا شاء المرء اختيار مرادف ملائم من الفصحى لترجمة الأصل الإنكليزي لحركة Enough is Enough، التي لم تتأسس في بلد فقير نامٍ أو متخلف أو «عالمثالثي» كما كانت تقول الرطانة القديمة؛ بل في المملكة المتحدة، الدولة العظمى، المتقدمة المصنّعة الغنية، والإمبراطورية الاستعمارية السابقة التي شهدت حقبة لم تكن فيها الشمس تغرب تماماً عن أطراف مستعمراتها. صحيح أنّ اثنين فقط من أعضاء مجلس العموم البريطاني شاركا في تأسيس الحركة، هما زارا سلطانة وإيان بيرن، إلا أنّ الحجم اللافت للجهات النقابية ومنظمات المجتمع المدني المنخرطة في أنشطتها ينطوي على الكثير من الدلالات؛ خاصة وأنّ انطلاقتها الأولى، من الوجهة المطلبية أوّلاً، لا تنهض من فراغ ولا تتعزز في فراغ على سلسلة الخلفيات الاقتصادية/ الاجتماعية التي باتت تأخذ صفة الأزمات المتعاقبة في البلاد؛ وخاصة، أيضاً، وأنها تترافق مع صعود رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس، واتضاح العواقب الأولى لسياساتها المبكرة في المعدلات القياسية لتدهور قيمة الجنيه الإسترليني.
ليس مدهشاً، وإنْ كان يتوجب أن يلفت الانتباه بسبب صدوره في بريطانيا العظمى تحديداً، أنّ الحركة تقوم على خمسة مطالب: زيادة حقيقية في الأجور، تخفيض في فواتير الطاقة، إنهاء الفقر الغذائي، مساكن لائقة للجميع، والضرائب من الأغنياء. طرائق العمل المعلَنة (حتى الساعة على الأقلّ، إذْ لا تُستبعَد احتمالات تطوّرها إلى صيغ أشدّ جذرية)، هي التظاهرات والاعتصامات، وإنشاء مجموعات العمل على نطاق التجمعات المختلفة، تنظيم صفوف التضامن، ومقاضاة الشركات والأفراد المستفيدين من الأزمة الراهنة. نبرة الخطاب العامة لا تبدو، من جانبها، وكأنها تقتصر على التحشيد المطلبي بل تذهب إلى مستوى الدعوة إلى أخذ زمام الأمور ذاتياً وتنظيمياً، والانفضاض عن «المؤسسة التي لا يمكن الركون إليها لحلّ مشكلاتنا» كما يقول البيان التـأسيسي؛ ويضيف: «هذا يقع على عاتقنا، في كلّ مكان عمل وكلّ جماعة. فإذا كنتَ تجهد للبقاء على قيد الحياة، وكان أجرك لا يغطي فواتيرك، وضقتَ ذرعاً بالعمل الأقسى مقابل الأجر الأقل، وينتابك القلق على مستقبلك، ولا تستطيع تحمّل ما يجري لبلدنا ــ فلتنضمّ إلينا».
وحين خاطبت تراس مؤتمر حزب المحافظين مؤخراً، وسط أجواء من التطبيل والتزمير لم يكن الإعداد المسرحي المسبق خافياً عنها، كان الاقتصاد البريطاني يترنح لتوّه تحت ضربات سياسات ضريبية متخبطة متناقضة وقاصرة؛ وكانت الفئات الشعبية تتلقى، من جانبها، أولى صدمات أكلاف السكن والعقارات والغذاء والطاقة؛ ولم تتأخر فئات العمال في استلام هدية تراس المتمثلة في اتهام النقابات بمعاداة «النموّ». ولم يدرك، إلا بعض أنصارها والأكثر تكاذباً في صفوف قيادات «المحافظين»، كيف لها أن تنجز وصفة نموّ سحرية عجز أسلافها من رؤساء الحكومات عن بلوغها، طوال 12 سنة؛ بل يصحّ التذكير، أيضاً، أنّ آخر 50 سنة من عمر المملكة المتحدة لم تشهد أيّ نموّ أعلى من ذاك الذي سبقه. الشارع الأعرض من جانبه، وكما تعكسه استطلاعات الرأي، كان يشير إلى تقدّم حزب «العمّال» بمعدّل 54٪ (+ 9 نقاط)، مقابل «المحافظين» 21٪ (- 7)، و«الأحرار» 7٪ (- 2)، و«الخضر» 6٪ (- 1).

سيّان إذن، مع فوارق معتادة لا تبدّل الجوهر، أن يتبادل إدارة المتجر أمثال توني بلير أو بوريس جونسون، وأن يتعاقب خلف منصات الشراء والمبيع أمثال ليز تراس أو كير ستارمر

لكنّ هذا الاستطلاع يعيد طرح الأسئلة العتيقة إياها، التي تثير إشكالية تبادل الأدوار بين الحزبين الرئيسيين: لماذا، إذن، مُني «العمال» بخسارة مهينة في الانتخابات الأخيرة، وخرج «المحافظون» بنصر كاسح؟ وما الذي تغيّر هكذا حتى تنقلب الأحوال بينهما، رأساً على عقب تقريباً؟ وما الذي سيتغير حقاً؟ ولقد اختار بعض مراقبي هذه الإشكالية (كيت بروكتور، في «الغارديان»، على سبيل المثال) حفنة أسباب «تقنية» تجيب عن بعض الأسئلة السالفة؛ كالقول، مثلاً، إنّ شخصية زعيم العمال السابق جيريمي كوربن كانت عائقاً، أو أنّ برامج الحزب كانت مستعادة ولا جديد فيها، أو أنّ متاعب بريكست هيمنت على ستراتيجية «العمال» المتقلبة، أو تراجع الحزب في مواقعه التاريخية وسط عمال المناجم والصناعات الثقيلة، وما إلى هذا وذاك. صحيح أنها أسباب تجيب على بعض الإشكالية، ولكن الأصحّ هو أنها لا تتوغل عميقاً نحو أسباب أخرى «مزمنة» تخصّ ما أصاب عقائد الحزبين من جمود أو ترهّل أو تشوّه، جعلهما أقرب إلى وجهَين لعملة واحدة، يقلّبها نظام سياسي وديمقراطي شاخ طويلاً وندر أنه تجدد وتبدّل.
ففي جانب واحد من تفاقم معضلات بريطانيا، حكاية بريكست مثلاً وحمى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (مقابل حمّى أخرى سابقة في سنة 1975، حول انضمامها إلى السوق الأوروبية بمعدّل موافقة وصلت إلى 67.23٪!)؛ تصحّ العودة، مجدداً ودائماً ربما، إلى كتاب دانييل دورلمان وسالي توملنسن «احكمي يا بريطانيا: بريكست ونهاية الإمبراطورية»، الذي يقترح لائحة مفصّلة بحيثيات منطق عالٍ مهيمن يجعل الصلة وثيقة تماماً بين انحسار الإمبراطورية من جهة، واستيهامات البحث عن هوية بديلة تستلهم الماضي التليد أو توحي بإمكان استرجاع بعضه من جهة ثانية. ولم يكن هذا العصاب الجَمْعي يحتاج، كي يزداد اشتعالاً، إلا إلى توقّد تيارات شعبوية جارفة على امتداد القارّة العجوز أوروبا، في فرنسا وهنغاريا وإيطاليا والنمسا، فضلاً عن الشقيقة الكبرى أمريكا دونالد ترامب.
وقد لا تكون أقلّ فائدة، ولا أقلّ صواباً، عودةٌ تمليها الأحوال الراهنة إلى المفكر البريطاني جون غراي؛ مؤلف أعمال إشكالية وسجالية ذات صلة، مثل «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة»، و«يقظة الأنوار: السياسة والثقافة عند خاتمة العصر الحديث»، و«هرطقات: ضدّ التقدّم وأوهام أخرى»، و«روح مسرح الدمى: تحقيق موجز حول الحرّية الإنسانية». ففي مقالة مستفيضة، نشرتها «نيو ستيتسمان» البريطانية بعنوان «إغلاق الذهن الليبرالي»، يبدأ غراي من استعراض المشهد الكوني الراهن (أوروبا، حروب التبادل، دونالد ترامب، فلاديمير بوتين، أمواج اللجوء، الصين…)، كي يبلغ خلاصة أولى تسير هكذا: «النظام الليبرالي الذي لاح أنه ينتشر عالمياً بعد نهاية الحرب الباردة، يتلاشى من الذاكرة». ورغم اتضاح هذا التلاشي يوماً بعد آخر، يتابع غراي، فإنّ الليبراليين يجدون صعوبة في مواصلة العيش من دون «الإيمان بأنهم في الصفّ الذي يحلو لهم اعتباره الصواب في التاريخ»؛ وبالتالي فإنّ إحدى مشكلاتهم الكبرى هي عجزهم عن تخيّل المستقبل، إلا إذا كان استمراراً للماضي القريب! وحين يختلف الليبراليون حول كيفية توزيع الثروة والفرص في السوق الحرّة، فالمدهش في المقابل أنّ أياً منهم لا يُسائل نمط السوق المعولَمة التي تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبعد الاستفاضة في مناقشة أزمة الليبرالية المعاصرة كما تتجلى في بريطانيا، في محاور أزمات «العمّال» و«المحافظين» واقتصاد البلد ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ يردّ غراي السجال إلى جذور الفكر الليبرالي الحديث، في أنه نتاج متأخر من التوحيدية اليهودية والمسيحية: «من تقاليد هذَيْن الدينَيْن، وليس من أيّ شيء في الفلسفة الإغريقية، نبعت القِيَم الليبرالية حول التسامح والحرية. وإذا ساد اليقين بأنها قيم كونية، فذلك بسبب الاعتقاد بأنها فرائض إلهية. ومعظم الليبراليين علمانيون في النظرة العامة، لكنهم يواصلون الإيمان بأنّ قيمهم إنسانية وكونية». المعضلة، بعد هذا التوصيف، أنّ الذهن الليبرالي الحاضر عاجز عن الاشتغال إلا إذا أغلق الواقع، أو عرضه كبضاعة أحادية، في… المتجر الليبرالي الوحيد. سيّان إذن، مع فوارق معتادة لا تبدّل الجوهر، أن يتبادل إدارة المتجر أمثال توني بلير أو بوريس جونسون، وأن يتعاقب خلف منصات الشراء والمبيع أمثال ليز تراس أو كير ستارمر…

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

كيسنجر الأحدث:

القيادة والتلصص على التاريخ

صبحي حديدي

 

في السطور الأولى من مقدمة كتابه الأحدث، «القيادة: ستّ دراسات في الستراتيجية العالمية» والذي صدر صيف هذا العام ضمن منشورات بنغوين راندوم في نيويورك؛ يبدو وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر وكأنه – من دون أن يقصد، بالطبع – يُسلْم قارئه المناهض، المعادي لشخص كيسنجر وتسعة أعشار أفكاره وسياساته وسلوكياته، مفتاحاً استهلالياً بليغاً يؤكد صلاحية معارضة الكتاب أو حتى الإعراض عن قراءته. فهو يكتب التالي: «إنّ أيّ مجتمع، أياً كان نظامه السياسي، هو في حال انتقال دائم بين ماضٍ يشكّل ذاكرته ورؤية للمستقبل تلهم تطوّره. وعلى هذا المنوال، لا غنى عن القيادة: قرارات يتوجب أن تُتخذ، وثقة تُكتسب، ووعود تُوفى، وطريق إلى الأمام يُقترح».
ذلك لأنّ نقائض هذه كلها، وسواها أخرى كثيرة في الواقع، ظلت بمثابة سنن «القيادة» التي تولاها كيسنجر من مواقع بالغة الحساسية في السياسة الخارجية الأمريكية: مستشاراً للأمن القومي، ووزيراً للخارجية، ومهندساً للوفاق مع الاتحاد السوفييتي والصين، ومحرّكاً في مفاوضات باريس التي وضعت خاتمة/ مخرجاً لعقود من جرائم الحرب الأمريكية في فييتنام؛ فضلاً، بالطبع، عن هندسة الانقلابات العسكرية هنا وهناك في العالم خاصة تشيلي ضدّ الرئيس المنتخب ديمقراطياً سلفادور أللندي، والتواطؤ على المجازر الأشنع في باكستان وبنغلادش وهنا وهناك في العالم أيضاً، واستنفار الإنذار النووي الأقصى في البيت الأبيض من دون علم الرئيس للضغط على السوفييت وعكس اتجاه الحرب على الجبهتين المصرية والسورية سنة 1973، وما إلى ذلك كثير متنوع شائن…
ثمة بالتالي حاجة إلى منظور نقدي مبدئي يصلح عوناً لقارئ من طراز آخر، يعنيه الوقوف على زبدة ما يرى كيسنجر وما ينظّر ويستشرف وهو يتمّ 99 سنة من عمره، ويصدر الكتاب الـ19 من مؤلفاته في السياسة الدولية وفنون الدبلوماسية والتبشير بالحروب وفرض سياسة الأمر الواقع وسنوات الاضطراب والغليان والهياج والأزمات… صحيح أنّ فصول «القيادة» تتناول الألماني كونراد أديناور (ستراتيجية التواضع) والفرنسي شارل دوغول (ستراتيجية الإرادة) والأمريكي ريشارد نكسون (ستراتيجية التوازن) والمصري أنور السادات (ستراتيجية التعالي) والسنغافوري لي كوان يو (ستراتيجية التميّز) والبريطانية مارغريت تاتشر (ستراتيجية اليقين). ولكن هل يصحّ، عقلياً أوّلاً ثمّ نقدياً ثانياً وأخلاقياً ثالثاً، أن يتابع القارئ ما يتنطح له كيسنجر عن هؤلاء الستة، من دون التسلّح بمرشِّحات صارمة عالية التمييز والتدقيق، تُدرج آثام المؤلف إياه بحقّ الشعوب ذاتها التي يتناول ساستها بالتحليل؟
«في قلب المؤسسات الإنسانية، الدول والأديان والجيوش والشركات والمدارس، القيادة تقتضيها الحاجة لمساعدة الناس للوصول من حيث هم إلى حيث لم يكونوا قطّ سابقاً أو حيث لم يتخيلوا الوصول إلا نادراً أحياناً» هكذا يكتب كيسنجر في التوطئة لمفهومه عن القيادة؛ وغير بعيد يتوجب أن يبقى القارئ في استذكار ما بلغه صاحب هذه التمثيلات المجازية عندما قاد السياسة الخارجية الأمريكية في مشارق الأرض ومغاربها، وفي استعادة أكثر من «وصفة» قاتلة وآثمة وإجرامية لمعالجة الأزمات والمشكلات والصراعات. هنا ما لا يتوجب أن يُنسى من بنود لائحة كيسنجر:
ـ نصح دولة الاحتلال الإسرائيلي بسحق الانتفاضة الأولى، «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف»؛ وهذه كلمات كيسنجر الحرفية كما سرّبها عامداً جوليوس بيرمان، الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية.
ـ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، في دعوة بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية).

ثمة حاجة إلى منظور نقدي مبدئي يصلح عوناً لقارئ من طراز آخر، يعنيه الوقوف على زبدة ما يرى كيسنجر وما ينظّر ويستشرف وهو يتمّ 99 سنة من عمره، ويصدر الكتاب الـ19 من مؤلفاته في السياسة الدولية وفنون الدبلوماسية والتبشير بالحروب

ـ الدعوة علانية إلى «نزع أسنان العراق من دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي قد يراود جيرانه المتلهفين على ذلك» في مقالة مدوّية بعنوان «جدول أعمال ما بعد الحرب» نشرها مطلع 1991.
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض، ليس سوى «إوالية»
Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (وهي التي يرفضها كيفما جاءت، وأينما قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض «إوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية).
ـ السخرية من بعض «الفتية الهواة» في البيت الأبيض، ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (في مثال الصين)؛ ولا يميّزون في حروب التبادل التجارية بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة (مواثيق الـ «غات» وأخواتها)…
وفي مقالة مسهبة بعنوان «دروس من أجل ستراتيجية مخرج» تعود إلى صيف 2005، باح كيسنجر بكثير ممّا كان مسكوتاً عنه، وإن ظلّ مفضوحاً عملياً منذ البدء، حول النظائر القائمة أو المحتملة بين التورّط العسكري الأمريكي في فييتنام، والاحتلال الأمريكي للعراق، من جهة أولى؛ ومآلات الهزيمة العسكرية هناك، وعواقب استعصاء المخرج الأمريكي هنا، من جهة ثانية؛ فضلاً، من جهة ثالثة، عن ذلك الدرس العتيق الكلاسيكي الصائب أبد الدهر: أنّ كسب أية حرب لا يعني كسب سلامها، أو إنجاز أيّ سلام ربما!
ولقد احتوت المقالة على تلك الفقرة الصاعقة: «مؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو أحدوثة
Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري. لقد فُهم أنّ تحدّي الحرب الباردة هو البقاء السياسي للأمم ـ الدول المستقلة المتحالفة مع الولايات المتحدة والمحيطة بالاتحاد السوفييتي. لكنّ الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام». وما كان صاعقاً في هذه الخلاصة لم يقتصر على اختزال الغزو العسكري الأمريكي (ثمّ البريطاني، للتذكير المفيد) إلى تنميط سطحي وضحل حول الإسلام الجذري، فحسب؛ بل على عجز أستاذ التاريخ عن استيعاب دروس التاريخ، التي لن يطول الوقت حتى تتكشف وتترسخ، ويطول عمر كيسنجر ليبصرها بأمّ العين، حتى وهو يضع السطور الأخيرة في مخطوط كتابه الـ19.
ليس أقلّ إدهاشاً، بالطبع، أنه يختتم الفصل الخاصّ بالسادات على نحو مجازي ركيك يمزج بين رغبة الفرعون المصري أخناتون بترسيخ ديانة توحيدية على نقيض الآلهة المصرية، وبين شراكة السادات مع غولدا مائير وإسحق رابين ومناحيم بيغن؛ وكيف أنّ خطوات التطبيع الراهنة بين دولة الاحتلال وكلّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان يعود الفضل فيها إلى مبادرة السادات، التي تظلّ مع ذلك «إرثاً ناقصاً» وغير مكتمل حسب تعبير كيسنجر نفسه. أكثر نقصاناً، وأشدّ فضحاً لمنهجيات الكتاب عموماً، أنّ الشعوب تظلّ الغائب الأكبر، المغيّب عن سابق قصد وتصميم، على امتداد 528 صفحة من مجلد يزعم
قراءة إشكالية القيادة عبر محورَين: الأوّل، بين الماضي والمستقبل؛ والثاني، بين القيم الثابتة ومطامح أولئك الذين يقودون. ذلك بعض السبب في أننا لا نقف على رأي كيسنجري، إذا جازت النسبة هكذا، حول مآلات القيادة في أمريكا نكسون، حيث فضيحة «ووترغيت» تنقل القائد إلى مصافّ المتلصص المتنصت؛ أو في بريطانيا ثاتشر، حيث القبضة القيادية لم تطرق بقوّة أكثر مما فعلت ضدّ النقابات والقطاع العام؛ وأمّا في مصر، فللمرء أن يحدّث ويفصّل ولا حرج.
وأياً كان الرأي في الستراتيجيات الستّ كما يشخصها كيسنجر، فإنّ استخدام المرشِّحات الصارمة لقراءة الكتاب تبقى ستراتيجية مسبقة لا غنى عنها، أولى أو سابعة… سيّان!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

بوتين والسلاح النووي:

حافة الأطلسي التي تُستعاد

صبحي حديدي

 

نطق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعبارة التي أفزعت عقول واقشعرت لها أبدان، لأنها هذه المرّة اختلفت عن جميع سابقاتها بصدد استخدام أسلحة التدمير الشامل، والنووية منها خاصة: «إنني لا أتحايل» أو في التعبير العاميّ السوري الأدقّ: «لا أزعبر» هكذا اختتم بوتين الجملة المفتاحية: «إذا تعرضت وحدة أراضينا للتهديد، سنستخدم كل الوسائل المتاحة لحماية روسيا وشعبنا» خلال خطبته المتلفزة التي توجهت إلى الشعب الروسي مؤخراً، وتضمنت، أيضاً، موافقته على طلب وزارة الدفاع باستدعاء 300 ألف احتياطي، للمرّة الأولى في تاريخ البلد بعد الحرب العالمية الثانية. المحتوى الآخر، المخفيّ عمداً في تعبير «وحدة أراضينا» كان يُراد به التأكيد على أنّ المناطق الأوكرانية الأربع، التي تشهد معارك كرّ وفرّ ضارية وينوي بوتين ضمّها بعد إجراء استفتاء صوري مسرحي، هي جزء لا يتجزأ من روسيا الأمّ، حتى بمعنى مستقبلي أو افتراضي.
وأن يعلن امرؤ أنه لا يتحايل فهذا خيار لفظي لا ينفي بالضرورة أنه إنما يتحايل بالفعل، لألف سبب وسبب، وذلك من قلب حيلة عتيقة تقوم على نفي التحايل إياه؛ الأمر الذي لا يبيح، في المقابل، استسهال الحال التي يكون فيها صاحب هذا التكتيك، أو التقليل من شأن الملابسات التي تدفع به إلى طراز من النواس بين الوعيد الكاذب والتهديد الجدّي. بذلك فإنّ نبرة بوتين الأخيرة، بصدد «كل» الوسائل المتاحة» لا يصحّ أن تقتصر على تأويلات معتادة تتصل بالحرب النفسية والضغط المعنوي واستعراض العضلات أو إبراز أوراق القوّة في أيّ جولات تفاوضية مقبلة، وما إلى هذا وسواه؛ ولا يصحّ، كذلك، تحميلها درجات عالية من الصدقية، ليس لأنّ سيّد الكرملين «أعقل» من أن يتهوّر فيضغط على أزرار نووية، بل ببساطة لأنه غير مضطر إلى هذا، في المرحلة الراهنة من «التعرّض للتهديد» على الأقل.
صحيح أن جيشه لقي مؤخراً، ويواصل مجابهة، انتكاسات ميدانية في جبهات لاح أنها حُسمت لصالحه، خاصة في الشمال؛ وأنّ استدعاء الاحتياط مؤشر بالغ الدلالة، يسجّل تحوّلاً خطيراً في سائر المنطق الذي اتخذته «العملية الخاصة» الشهيرة؛ إلا أنّ اللجوء إلى أيّ طراز من الأسلحة النووية، بما في ذلك تلك التي تُعتبر أقرب إلى «قُنيبلة» محدودة التأثير وضيّقة النطاق من حيث الإشعاعات، ليس هو اليوم العامل الذي يمكن أن يحسم الحرب في أوكرانيا بصفة نهائية لصالح الجيش الروسي، خاصة وأنّ خطوط الانتشار الميداني على الأرض أكثر تعقيداً وتشابكاً من أن تسمح بفرز العدوّ من الصديق تحت طائلة الأذى النووي المباشر. ما يبقى صحيحاً أيضاً، ومنطوياً على أمّ المخاطر إذا جاز القول، أنّ بوتين هو سيّد نفسه ومالك القرار الأوحد والأقصى في تشغيل هذه «الوسيلة» العسكرية أو تلك، واستحقاقات المنطق السليم الأبسط تفرض وَضْع ما يتفوّه به، أو ما يلمّح إليه، على محمل أعلى إنذاراً من مجرّد التحايل.

تلك ذاكرة تنفع في استعادة مناخات الحوافّ النووية التي أطلقها الحلف الأطلسي أوّلاً وسبقت تلميحات بوتين الراهنة، بل لعلها كانت وتظلّ العتبة القصوى لوضع احتمالات المواجهة النووية بين القوى العظمى على محكّ التمحيص والتدقيق

في جانب آخر هامّ من المسألة النووية ذاتها، وكي ينصف المرء هواجس الكرملين في حقبة أخرى سبقت حرب بوتين الأوكرانية بـ39 سنة، ويومها كان الغرب والولايات المتحدة والحلف الأطلسي هي الجهات المحرّضة على تغذية حافّة نووية لعلها كانت الأخطر حتى الساعة؛ بافتراض أنّ قصف هيروشيما وناغازاكي كان مجابهة نووية من طرف واحد، بقرار الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، في آب (أغسطس) 1945. مراحل بلوغ تلك الحافة بدأت مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، مع إطلاق الحلف الأطلسي التمرين الذي يشتهر اليوم تحت الاسم العملياتي Able Archer، والذي انطوى على إدخال سلسلة جديدة من طرائق الاتصال والتشفير والراديو بين رؤساء الدول والحكومات، بهدف التدريب على طور من التصعيد العسكري ينتهي إلى التصدي لهجوم نووي، وما يقتضيه من تفعيل نظام الدفاع النووي الأمريكي الشهير المعروف باسم DEFCON 1.. وفي أعمال لاحقة كتبها مؤرخون أمريكيون سوف تتكشف معلومات مذهلة عن قلق البنتاغون ومستشاري البيت الأبيض إزاء حقيقة عسكرية تقول إنّ السبّاق إلى تنفيذ الضربة النووية الأولى سوف يحيل المواجهة إلى «حرب الدرجة صفر» حيث لن يكون في وسع المدافع أن يردّ بما يكفي لشلّ ضربات المهاجم المتعاقبة؛ وهذا فضلاً عن مصدر قلق أمريكي خاص هو قدرة الغواصات النووية السوفييتية على التسلل سرّاً إلى مواقع في عرض المياه الأمريكية، تتيح قصف واشنطن بأسلحة نووية.
كانت الحرب الباردة في عقودها الأخيرة، مع رئاسة رونالد ريغان في واشنطن ويوري أندروبوف في موسكو، ولكنها أيضاً كانت في واحدة من أسخن مواضعاتها لجهة التجسس والتجسس المضاد، ولهذا لم تشأ القيادة السوفييتية أخذ ذلك التمرين النووي على محمل «الزعبرة» فاستنفرت ما تملك من وسائل دفاع نووية، وكاد التاريخ أن يعيد تكرار الاحتقان الأمريكي ـ السوفييتي حول صواريخ كوبا سنة 1962، ولكن مع فارق التهديد النووي الوشيك هذه المرّة. ولسوف يقف العالم على بعض أخطار تلك الحافة مع انشقاق ضابط الاستخبارات السوفييتية أوليغ غوردييفسكي بعد سنتين، وحرص ريغان على استقباله في البيت الأبيض وسط مظاهر حفاوة وتكريم غير مسبوقة. قبل ذلك كانت معلومات غوردييفسكي، حول مظاهر الاستنفار والقلق الشديد التي انتابت القيادة السوفييتية بصدد ذلك التمرين، قد وصلت إلى المخابرات العسكرية البريطانية، فنقلتها إلى مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية يومذاك، التي خشيت من مضاعفات التمرين فاتصلت بالرئيس الأمريكي وطلبت التخفيف ما أمكن من الجوانب الاستعراضية والاستفزازية.
تلك ذاكرة تنفع في استعادة مناخات الحوافّ النووية التي أطلقها الحلف الأطلسي أوّلاً وسبقت تلميحات بوتين الراهنة، بل لعلها كانت وتظلّ العتبة القصوى لوضع احتمالات المواجهة النووية بين القوى العظمى على محكّ التمحيص والتدقيق؛ حتى أنّ البعض لم يعد يجد حرجاً في الحديث عن «تفكيك» مشاهد الخراب والدمار، إذا استُخدمت «قُنيبلة» نووية صغرى وليس أياً من شقيقاتها القنابل الكبرى. وبعد 21 سنة انقضت على تمرين الـ
Able Archer، كان بوتين قد بشّر العالم، خلال اجتماع مع أركان القيادة العسكرية الروسية، بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة، متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. وتابع يقول، في تصريحات نُقلت مباشرة على شاشات التلفزة الرئيسية، إنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: «أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب».
لم يكن بوتين يتحايل يومذاك، كما قد يقول أيّ عاقل، ولكنّ الناطق باسم البيت الأبيض، سكوت ماكليلان أعلن في حينه أنّ هذه الأخبار ليست جديدة على الإدارة، وطمأن العالم: «نحن على إطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية. ونحن اليوم حلفاء في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب».
بعد 4 سنوات فقط، كان الرئيس الأمريكي الـ44 باراك أوباما قد اختار بوّابة براندنبورغ في برلين، لإعلان البشارة بأنّ الولايات المتحدة اتفقت مع روسيا حول محاربة الإرهاب، وعلى الدعوة إلى خفض الترسانة الصاروخية النووية بمقدار الثلث! وبالأمس فقط كان الرئيس الأمريكي الـ46 جو بايدن قد اعتلى سدّة الأمم المتحدة ليذكّر العالم بأنّ حافة بوتين النووية ليست قائمة منذرة بالمخاطر فقط، بل هي تعبر روسيا، ونحو أوكرانيا والعالم بأسره… تتقدّم!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

روسيا وأوكرانيا:

مدّ الحسابات وجزر الكوابيس

صبحي حديدي

 

الجيش الروسي، سلاح القوة الكونية الثانية عسكرياً، صرف أسابيع ممضة منذ أيار (مايو) الماضي لاجتياح مناطق واسعة من أوكرانيا، تحت طائلة خسائر باهظة في الأرواح والمعدات؛ وكان أنه، خلال أسبوع واحد وفي إطار هجمات أوكرانية مضادة، خسر نحو 6,000 كم مربع في عمق منطقة خاركيف، ضمنها 3,000 كم مربع في جبهة الشمال. مبكّر، بالطبع، الحديث عن منعطف حاسم يمكن أن يقود الاجتياح الروسي إلى أعتاب تعثّر جديدة، لا يُستبعد أن يرقى بعضها إلى سوية الانتكاسات الموجعة؛ ولكن قد يكون مواتياً تصنيف المجريات العسكرية الراهنة في خانة التحوّل النوعي في ميادين القتال، الأمر الذي سوف يفرز أكثر من منطق متغيّر في ميادين السياسة، أو سياسة الحرب على وجه التحديد.
على صعيد الداخل الأوكراني، ليست محطة عابرة أن يسارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى زيارة مدينة إزيوم، التي تمّ تحريرها مؤخراً من الاحتلال الروسي، فيرفع علم بلاده على وقع النشيد الوطني؛ ثمّ أن يقرن رمزية هذه الخطوة بما يقارب ابتزاز أوروبا والولايات المتحدة، والبناء على هذا الانتصار للمطالبة بمزيد من شحنات الأسلحة الثقيلة التي ستكفل إنجاز انتصارات أخرى. وزير خارجيته لم يتردد في الغمز من قناة المستشار الألماني أولاف شولتس، المتردد في إرسال مدرعات «ليوبارد 2» وعربات «ماردير»، قائلاً: ما الذي يخيف برلين، إذا كانت كييف غير خائفة؟ وللمرء أن ينتظر صدى هذه التصريحات في باريس ولندن، بما يُترجم بالفعل إلى «سياسة صلبة» في تزويد الجيش الأوكراني بالأحدث والأكثر تطوراً في ميادين التسلّح، اقتداء أيضاً بما فعلت واشنطن في حزمة مساعدات جديدة بقيمة 675 مليون دولار، تُضاف إلى مليارات سابقة خرجت من صندوق البنتاغون المستقلّ عن الصندوق الرئاسي للبيت الأبيض.
وكان تطوراً منطقياً، كذلك، أن تصل أصداء مكاسب الجيش الأوكراني إلى الداخل الروسي، ولكن على هيئة خيبات وجراح نرجسية؛ فيحدث، للمرة الأولى منذ بدء الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا، أن يتوافق حفنة من مسؤولي 18 بلدية في محيط موسكو وبطرسبورغ على توقيع بيان مشترك يطالب باستقالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأن يضطرّ دمتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين إلى منحهم الحقّ في التعبير (فهم منتخبون، في نهاية المطاف)؛ وألا يفوته، في الآن ذاته، تذكيرهم بأنّ تعدّد الآراء يحكمه خطّ رفيع للغاية لا يصحّ تجاوزه. وليس من المبالغة الافتراض بأنّ انتكاسات الجيش الروسي في خاركيف كانت على الأجندة المضمرة في مباحثات قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» في سمرقند، خاصة لقاءات بوتين مع أمثال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (حيث الخلافات الروسية – التركية تُطبخ عادة على نيران إقليمية خافتة)، أو رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي (حيث الخلافات الروسية – الهندية أقرب إلى نار تحت الرماد). ورغم أنّ الإدارة الأمريكية ابتهجت تماماً، وكما يُنتظر منها، إزاء انتكاسات الجيش الروسي الأخيرة، فإنّ «الحكماء» من مستشاري البيت الأبيض، خاصة العارفين بما يمكن لأيّ دبّ روسي جريح أن يذهب إليه ضمن ردّات الفعل، نصحوا بالتريث في تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى تتجاوز أمديتها 300 كم.
البعض في الغرب يذهب، على سبيل تثمين المكاسب الأوكرانية الأخيرة، إلى درجة استرجاع الحقيقة التي تقول إنّ آخر اختراق عسكري ميداني شهدته أوروبا كان في صيف 1995 حين نجح الجيش الكرواتي في تحرير 17,000 كم مربع من أٍراضي كرايينا الصربية، متناسين أنّ نحو 150,000 صربي هُجّروا يومئذ من مساكنهم. ولا عجب أن يترافق رفع العلم الأوكراني في إزيوم مع الإعلان عن اكتشاف مقبرة جماعية تحوي 445 جثة، فهذا تفصيل شبه محتوم في حرب روسية بدأت من مفاجآت حساباتها المتضاربة، ولا تكفّ عن المسير نحو مدٍّ في تطوراتها وجزرٍ، يُبقي الكثير من كوابيسها معلّقة محتمَلة.

 

 

بعد 21 سنة: ماذا تبقى من

أكذوبة «الحرب على الإرهاب»؟

صبحي حديدي

 

ذات مفترق جيو ـ سياسي غير بعيد في الزمن، لم يتردد البعض في إسباغ البُعد التاريخي على منعرجاته، بات مصطلح «الحرب على الإرهاب» أقرب إلى تعبير مفرَغ من أيّ معطى عملي يتصل بمضمونه العملي والفعلي؛ وذلك رغم رواجه الواسع والسريع، والميل الأسرع إلى استخدامه كيفما اتفق، بصرف النظر حتى عن تفسيراته اللغوية المحض. في ذاك الزمن، حقبة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وهيمنة المحافظين الجدد على مفاصل الإدارة السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية، كان للسير مايكل هوارد، المؤرّخ البريطاني الأخصائي بتواريخ الحروب، رأي آخر لافت لا يسير على خطوط مناهضة تماماً لمحتوى التعبير، فحسب؛ بل أيضاً نحو سجال مناهض يتوخى التسفيه والتعرية، قبل النقض والدحض. لقد أسقط عن الصراع ضدّ الإرهاب صفة الحرب، وسخر استطراداً ممّن يتشدّقون بالقول إنها «حرب عالمية» وأعاد التشديد على حقيقة مزدوجة، ليست البتة جديدة في واقع الأمر: أنّ أمريكا ترى نفسها في صفّ الخير ضدّ الشرّ، كالعادة، وأنّ خصمها الفعلي الراهن هو الإسلام المتشدد (بعد أن كان الشيوعية، أساساً) وليس أيّ مفهوم مجرّد لـ«الإرهاب». ولقد تساءل هوارد عمّا إذا كانت تسمية «الحرب» تمنح الفريق الثاني، أي «الإرهابيين» أنفسهم، صفة شرعية تستوجب حصولهم على الحقوق، مثل خضوعهم للواجبات، المنصوص عنها في المواثيق الدولية الخاصة بالحروب؟
والذكرى السنوية لهجمات 11/9، وهي في أيلول (سبتمبر) الجاري تسجّل 21 سنة بالتمام والكمال، تردّ إلى الذاكرة سلسلة محاور ومواقف وقرارات وأحلاف ومعارك وُضعت على برامج «الحرب على الإرهاب» ولكن تعددت أجنداتها أو تقاطعت أو تناقضت، ويندر أنها تكاملت، على مبعدة مثيرة من معترك الحرب ذاتها، أية حرب بأية صيغة. بين الأكثر دراماتيكية، حيث الميلودراما أيضاً، كان ذلك الوعيد الشهير الذي أطلقه جيمس وولزي، من رئاسة وكالة المخابرات المركزية ولكن من حرم جامعة كاليفورنيا، ربيع 2003، ضدّ «أضراب مبارك» و«العائلة الملكية السعودية»؛ من أنّ عليهم أن «ينرفزوا» بشدّة لأنّ أمريكا تعتزم، بعد احتلال العراق، الانفتاح على الشعوب المقهورة في الشرق الأوسط، وخوض الحرب العالمية الرابعة معها، كتفاً إلى كتف! وأمّا الترجمة العملية لذلك «الانفتاح» على الشعوب، فقد تولّته وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، كوندوليزا رايس، حين عقدت اجتماعاً رباعياً مع رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان، ومدير المخابرات العامة المصرية اللواء عمر سليمان، ومدير المخابرات في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ هزاع بن زايد، ومدير المخابرات الأردنية محمد الذهبي!
بيد أنّ خواتيم الـ21 سنة، كما تأتي أكلها هذه الأيام، هي انتصار الطالبان في أفغانستان، ومشهد الاستعصاء الذي يشهده العراق داخل الصفّ الشيعي تحديداً؛ إذا صرف المرء النظر عن عشرات الحركات الجهادية والإرهابية التي توالدت وتكاثرت سنة بعد أخرى، في أعقاب لافتة بوش الابن الشهيرة على متن البارجة أبراهام لنكن مطلع أيار (مايو) 2003، التي أعلنت أنّ «المهمة اكتملت». أو وضع المرء جانباً ستراتيجيات/ تخبطات ثلاثة رؤساء أمريكيين بعد تلك اللافتة، الأشبه بفضيحة معلنة سوف يحتاج صاحبها إلى خمس سنوات قبل أن يضطرّ إلى الاعتذار عن هرطقاتها. أو إذا ذهب أبعد فتبصّر حصاد «انتصارات» أمريكية عسكرية واستخباراتية استعراضية، مثل اغتيال أسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري؛ على ضوء ما أسفرت عنه تلك العمليات من تصفية الأجساد دون اجتثاث جذورها في النفوس، أو في خلايا يقظة وأخرى نائمة.

ما تبقى من تلك «الحرب» هو الرسوبات العديدة، والكثير منها بات تشوّهات مستعصية، متخلقة عن تلك النظرية الثابتة واليقينية والتبسيطية التي ابتدعها بوش الابن: 11/9 كانت جولة للشرّ ضدّ الخير، ولا وسيلة لانتصار الخير على الشرّ إلا بما فعلنا في أفغانستان والعراق

أو، أخيراً وليس آخراً، إذا شاء المرء إقامة روابط (ليست خاطئة ولا افتراضية) بين الكثير من مظاهر الهوس الجماعي الشعبوي في مساندة «الحرب على الإرهاب»؛ وبين صعود دونالد ترامب، والترامبية عموماً، وما اقترن به وبها من شروخ شعبوية وعنصرية وانعزالية وميليشياتية في قلب المجتمع الأمريكي.
جوانب أخرى ليست أقلّ أهمية كانت، وتظلّ، مدى تمسّك قطاعات مختلفة من الجمهور الأمريكي بمصطلح «الحرب على الإرهاب» اتكاءً على محطة كبرى في تطويره هي الاجتياح الأمريكي للعراق سنة 2003؛ وما تبقى من ذلك الهوس الذي اكتسب هيئة الظاهرة في حينه، الشعبية والشعبوية في آن معاً، وكانت قواسمه العظمى ترتدّ إلى معاني الولاء الوطني والأمن الجَمْعي. من الخير في هذا الصدد العودة إلى أنتوني ديماجيو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليهاي، بنسلفانيا، ومؤلف كتاب «فاشية صاعدة في أمريكا: يمكن أن تحدث هنا»؛ الذي أشرف على استطلاع رأي أجرته الجامعة مؤخراً بالتعاون مع مجموعة هاريس المعروفة، أظهر أنّ ٪79 من الأمريكيين المستطلَعين يناهضون الحرب التي شُنّت ضدّ العراق، تحت لافتة «الحرب على الإرهاب» بالطبع. أسبابهم تتنوّع، وهذا أمر جدير بالتمعّن: ٪20اعتبروا أنها كانت خطأ ولا تقود إلى الظفر، و٪17 بسبب كثرة الضحايا في صفوف الأمريكيين، و٪15 لأنها لم تكن مبررة أخلاقياً، و٪11 لأنّ كلفتها كانت عالية من منظور مالي. ليس خافياً، إلى هذا، مغزى غياب أيّ نسبة تناهض تلك الحرب لأنّ أكلافها البشرية والمادية والعمرانية والبيئية كانت باهظة وفادحة على الشعب العراقي ذاته، في المقام الأوّل.
غير أنّ الجديد الهامّ في استطلاع الرأي الذي أشرف عليه ديماجيو هو طرح السؤال الحاسم، ربما للمرّة الأولى في تاريخ استطلاعات الرأي حول «الحرب على الإرهاب»: ما الذي تعتقد أنّ مناهضي الحرب على العراق يقصدونه في قولهم إنها غير مبررة أخلاقياً؟ هنا، أيضاً، تنوّعت التأويلات: ٪64 اعتقدوا أن الحديث عن أخلاقيات تلك الحرب على صلة بالمزاعم الكاذبة، خاصة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؛ ٪31 اعتبروا أنها تخصّ بالأعداد الكبيرة من الضحايا، في صفوف الجنود الأمريكيين؛ و٪31 افترضوا أنها ناجمة عن حرب شُنّت بغرض الهيمنة على العراق ونفطه؛ واللافت، أخيراً، أنّ ٪22 ربطوا انعدام أخلاقية الحرب بالأعداد الكبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين العراقيين. وفي ظنّ هذه السطور، وبصرف النظر عن التباينات المختلفة عند قراءة نتائج ذلك الاستطلاع، أنّ الخلاصة الأبرز قد تكون قناعة 8 من كلّ 10 أمريكيين أنّ «الحرب على الإرهاب» كانت خديعة مدروسة، أو تضليلاً متعمداً، أو حتى أكذوبة مصنّعة.
وهكذا فإنّ ما تبقى من تلك «الحرب» هو الرسوبات العديدة، والكثير منها بات تشوّهات مستعصية، متخلقة عن تلك النظرية الثابتة واليقينية والتبسيطية التي ابتدعها بوش الأبن: 11/9 كانت جولة للشرّ؛ ضدّ الخير (الذي ينبغي أن يبدأ من هنا: من واشنطن، والقِيَم الأمريكية، و«طرائقنا في العيش» وديمقراطيتنا، وفلسفات سياستنا واجتماعنا واقتصادنا…)؛ ولا وسيلة لانتصار الخير على الشرّ إلا بما فعلنا في أفغانستان والعراق (ثمّ في فلسطين ولبنان وسوريا… بالإنابة، أو بالتفويض، ضمن الشراكة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي)؛ وهذه الحرب على الإرهاب، بقيادة أمريكية دائماً، هي سمة القرن الحادي والعشرين. مع فارق أنّ 21 سنة انقضت من هذا القرن، والانتكاسات لا تتعاقب هنا وهناك في أفغانستان والعراق خاصة، والحليف الإسرائيلي لا ينحطّ أكثر فأكثر نحو أسوأ أنماط الأبارتيد، فحسب؛ بل لقد بلغ الأمر درجة الانقلاب الداخلي على «طرائقنا في العيش» إياها، سواء عبر التمرّد على صناديق الاقتراع ونتائج الانتخابات الرئاسية، أو مهاجمة الكابيتول قلعة الديمقراطية الأمريكية، أو النكوص عن مكاسب وحقوق مدنية تبدأ من حرية المعتقد ولا تنتهي عند الحقّ في الإجهاض…

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

فسيفساء ليبيا

ومسارح السيسي

صبحي حديدي

 

وزير الخارجية المصري سامح شكري مشهود له بمواقف دراماتيكية، يرقى الكثير منها إلى الميلودراما، ناجمة عن كونه صوت سيّده على منوال غالبية حاملي هذه الحقيبة في أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، في المقام الأوّل؛ ولكنها، في المقام الثاني، ليست بعيدة عن، أو من المنطقي أن تعكس، تمثيل شخصيته المولعة بالأداء المسرحي. يُذكر له، مثلاً، أنه خلال أحد المؤتمرات الصحفية أبعد ميكروفون قناة «الجزيرة» عن الطاولة الحاشدة بميكروفونات شتى، ثمّ ألقى به إلى الأرض؛ وذلك تجسيداً لقرارات مقاطعة قطر التي كان نظام عبد الفتاح السيسي قد انخرط فيها، صحبة السعودية والإمارات والبحرين.
انسحابه، مؤخراً، من الجلسة الافتتاحية لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، احتجاجاً على تسليم الرئاسة إلى نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية؛ لم يكن من طينة واقعة الميكروفون لجهة الوفاء بالميلودراما، ولكنه في المقابل ظلّ أميناً للنزوع المسرحي الذي دأب عليه شكري. لقد علم مسبقاً أنّ المنقوش ستترأس الجلسة، ولكنه حضر وجلس واختار أن ينسحب لحظة وصول الوزيرة الليبية إلى سدّة الرئاسة. وعلم، كما يعلم جيداً ودائماً، أنّ الأمين العام للجامعة هو صوت سادته في الرياض وأبو ظبي أساساً، وأنّ هؤلاء السادة لم يقرروا الانسحاب وإلا لاستُبعدت المنقوش قبل انعقاد الجلسة. وكان، أخيراً وليس آخراً، يعلم أنّ الزعم بانتهاء ولاية حكومة عبد الحميد الدبيبة تناقضه مزاعم أخرى تؤكد شرعية بقائها حتى تنظيم الانتخابات، طبقاً لاتفاقيات تمّ إبرامها في باريس والصخيرات وسواها.
غير أنّ سلوك شكري ليس سوى تفصيل تراجيكوميدي، ما دُمْنا في سياق مصطلحات المسرح، بالمقارنة مع التفاصيل الأشدّ جسامة والأكثر انطواء على مخاطر راهنة وأخرى وشيكة أو ينذر بها المستقبل القريب؛ جراء تكريس حكومة أولى في طرابلس يقودها الدبيبة وأخرى في طبرق ترأسها فتحي باشاغا بقرار من البرلمان، وما يتفرّع عن هذا الانشطار الثنائي من انقسامات متعاقبة تصنعها سلطات وصلاحيات رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي. هذا فضلاً عن ضباط مجموعة الـ5+5 في ما تبقى لهم من أصداء حضور الغائب، وضباط على شاكلة أبو راس والضاوي والتاجوري والجويلي ممّن قادوا أو سوف يقودون تجارب اجتياح العاصمة بالنيابة عن مطامح باشاغا وصالح وربما بالأصالة عن المشير الانقلابي خليفة حفتر في الخلفية المعتمة…
فوق هذا وذاك فإنّ فسيفساء انشطارات القوّة هذه لا ترقى، إلا في هوامش استدراكية ضئيلة، إلى الشطرنج السياسي والعسكري والميليشياتي الذي تنخرط فيه قوى تشمل مصر والإمارات والسعودية وروسيا وتركيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا؛ ومجموعات مسلحة أو إرهابية تمرّ من «تنظيم الدولة» المنتعش والمزدهر والمنتشر في الجنوب، ولا تنتهي عند مرتزقة «فاغنر» الروسية ورفاقهم في الارتزاق من المجموعات التشادية والسودانية. وأمّا خارج اليابسة، في عباب البحر الأبيض المتوسط، فالتحالفات المصرية/ اليونانية/ القبرصية/ الإسرائيلية في ميادين استثمار الغاز لا تواجه المنافس التركي في المياه وحدها، بل كذلك في هدير مسيّرات «بيرقدار» التي تؤرّق جنرالات باشاغا وحفتر مثلما تُطمئن نظرائهم في صفّ الدبيبة.
وهذه حال تعيد الذاكرة إلى أيّ أثر متبقٍّ من «الخط الأحمر» الذي رسمه السيسي ذات يوم غير بعيد، وحدّد أمن مصر القومي في تجاوز محور سرت والجفرة؛ بحيث يلوح اليوم أنّ المسرح الذي يمثّل على خشبته أمثال الوزير المصري شكري هو الشطرنج الأبرز الذي تدير القاهرة حركاته، بين عقيلة/ باشاغا/ حفتر من جهة أولى؛ ولعله، من جهة ثانية، أطلال نظرية السيسي حول «شرعية» تدخّل مصر في ليبيا. وأمّا مصائب أبناء ليبيا، المعيشية والإنسانية قبل السياسية والعسكرية، فإنها ليست في حسبان الخطوط الحمراء، ولا حتى على خشبة المسرح.

 

 

اعتزال الصدر ورمزية الغيبة:

مَنْ يلوم رامي مخلوف؟

صبحي حديدي

 

في وسع المرء أن يضرب أخماساً بأسداس إذْ يقف على ظاهرة الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر كما تقرأها أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية العريقة، غير البعيدة عن أن تكون المنبر الأهمّ لبيوتات المال والأعمال والشركات العملاقة ومناهج اقتصاد السوق، فضلاً عن تمثيل الفلسفات الليبرالية المختلفة، متوحشة كانت أم «مُؤنْسَنة». وما دامت جولات الصراع الراهنة في العراق تدور أساساً بين الأطراف الشيعية، «التيار الصدري» مقابل «الإطار التنسيقي»، أو على وجه أقرب: بين مقتدى الصدر ونوري المالكي؛ فلم لا تعود الـ»إيكونوميست» القهقرى إلى 1149 سنة خلت، حيث يروي التراث الشيعي عن غيبة الإمام محمد بن حسن بن علي المهدي، واقتراح تأويل عصري لاعتزالات الصدر المتكررة يضعها في مصافّ الغيبات!
وقد يقول قائل، محقاً في وجهة واحدة على الأقل هي استمرار سطوة التراث الشيعي الإثني عشري: لِمَ ملامة الأسبوعية البريطانية في هذه العودة إلى سنة 873 حين غاب المهدي، إذا كان رامي مخلوف (ابن خال رأس النظام السوري، وتمساح النهب الأشرس والأجشع المُطاح ببعض نفوذه مؤخراً لصالح ناهبات/ ناهبين صاعدات وصاعدين)، قد استعاد رمزية المهدي مؤخراً، متشكياً من ظلم الأرض: «العلامات الكبرى ستظهر (والله أعلم) في الأشهر القليلة القادمة وستقتلع الظلم من جذوره على مستوى العالم بأسره ليتمّ التحضير لدولة الحق بقيادة سيدنا المهدي عليه السلام». فارق الـ»إيكونوميست» أنها، مع ذلك، لا تسبغ على الصدر سمات قداسية من أي نوع، بل تحرص على ردّه إلى ما هو فيه: «رجل الدين والسياسي المثير للشغب»، الذي يبدو كمَن يقتفي أثر رمزية الغيبة لإلهام المؤمنين به وتحدّي ظالميهم.
ومع استبعاد فوري لأيّ مستوى من المقارنة بين شخص الصدر وشخص مخلوف (وهذه خطوة ليست ضرورية إلا عند هواة التسطيح والقراءة البليدة عن سابق قصد)، فإنّ اللجوء إلى التلويح بعودة المهدي عند الثاني ومنهجية الاعتزال/ الغيبة عند الأول تنتهي إلى مراد متماثل، حتى إذا تشعبت عناصره وأغراضه: تجييش الأنصار عبر تسخير رمزية مذهبية شيعية، حتى إذا كانت فاعلية التوظيف متضاربة أو حتى متناحرة. فمن المعروف أنّ الصفّ المناوئ للتيار الصدري شيعي بدوره، ولا يفتقر البتة إلى رمزيات كثيرة مستمدة من التراث الإثني عشري ذاته؛ بل يكفي المرء استذكار اسم الميليشيات الأكثر تورطاً في الممارسات المناوئة (على غرار «عصائب أهل الحق» بقيادة قيس الخزعلي) لإدراك مدى انخراط الميليشيات في استهلاك، وانتهاك، الرمزيات الشيعية.
ليست خافية، كذلك، آمال مخلوف في تحشيد فئات من أبناء الطائفة العلوية باتت تميل باضطراد إلى الفقه الشيعي الكلاسيكي أو الإثني عشري، حتى مع بقائها وفية للمكوّنات التقليدية النصيرية؛ والمطمح هنا جرّ بعض أنصار رأس النظام السوري إلى التعاطف، ولكن على خلفية انخراط مخلوف في «التظلّم» إلى المهدي. وثمة مغزى خاصّ، كذلك، في أنّ مخلوف لم يكتفِ بالإتيان على اسم المهدي، بل تقصد استخدام تعبير «صاحب الزمان»… الأثير عند حسن نصر الله في خطب عديدة؛ بما يفضي إلى طراز (أحمق بالطبع، وغير مُجْدٍ) من الإيحاء بالانضواء في صفّ «حزب الله» وأدبياته، ضدّ خصوم مخلوف (أسماء الأخرس، ثمّ بشار الأسد شخصياً وأوّلاً).
مَن يلوم مخلوف، إذن، في هذا الاستدعاء الوصولي لشخصية المهدي؟ وهل تُلام الـ»إيكونوميست»، استطراداً، في هذا الابتسار الاستشراقي وتوصيف اعتزال الصدر بمصطلح غيبة المهدي؟ وإذا صحّ أنّ كلا الاستدعاء والابتسار يقتضي ما هو أبعد من الملامة، وأقسى من تهمة الانتهاز المفضوح عند الأول والتسخيف الهجين عند الثانية؛ فإنّ الحقيقة الأخرى تظلّ ماثلة وساطعة، لجهة تكرار اعتزالات الصدر ورجوعه عنها، والتسبب في كلّ مرّة بأوجاع إضافية لا يكون دافع أثمانها الباهظة أو الدامية سوى المواطن العراقي البسيط والمعذب.

 

 

مجزرة الغوطة: إليوت

هغنز وصحافة المواطن

صبحي حديدي

في الذكرى التاسعة للضربة الكيميائية التي نفذّها جيش النظام السوري وطالت بلدات زملكا وعربين وكفر بطنا وعين ترما والمعضمية ومواقع أخرى من الغوطتين الشرقية والغربية في محيط العاصمة دمشق يوم 21 آب (أغسطس) 2013، يظلّ استذكار الضحايا (بين 1127 و1450 قتيلاً، في عدادهم 201 امرأة و107 أطفال) هو الأجدر بالاستعادة، وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً. ثمة، في المقابل، عناصر أخرى تستحق وقفة خاصة لاعتبارات أخرى تتجاوز أسباب تكريم الشهداء، أو تظهير وحشية النظام، أو عجز المجتمع الدولي، أو تسجيل مناسبة جديدة فاضحة لتكريس مبدأ الإفلات من المساءلة والعقاب؛ تتصل بجانب محدد يغيب عادة عن المظاهر المعتادة في إحياء الذكرى: دور الصحافة الاستقصائية، وما بات يُعرف باسم “صحافة المواطن”، في كشف الخفايا التي يحرص الإعلام التقليدي على طمسها عن سابق عمد أو نزولاً عند ضغوطات تمويلية وسياسية وأمنية مختلفة.
آلاف، وربما عشرات الآلاف، من أشرطة الفيديو ذات القيمة التوثيقية والتسجيلية العالية، صوّرها مواطنون متطوعون وناشطون ملتزمون بينهم شهود عيان يصحّ تصنيفهم في خانة الناجين من المجزرة؛ جرى نشرها تباعاً على منصة يوتيوب وفي مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ولعبت وما تزال تلعب دوراً حاسماً في تثبيت جريمة الحرب وتبيان الكثير من تفاصيلها الأقرب إلى أدلة جنائية. وإذْ يضيق المقام، أيّ مقام في الواقع، عن إنصاف أولئك الجنود المجهولين؛ فإنّ واحداً على الأقلّ من أبرز ممثّلي صحافة المواطن يمكن أن يُساق نموذجه نيابة عن العشرات، أو المئات، من نظرائه: البريطاني إليوت وارد هغنز
Higgins (1979 ــ)، الذي أطلق في آذار (مارس) 2012 مدوّنة أولى بالاسم المستعار براون موزس، اتخذ لها لاحقاً تسمية Bellingcat، اختصت بتغطية “الربيع العربي” من زاوية موادّ الفيديو المختلفة التي ينشرها النشطاء؛ ثمّ تخصصت، أكثر فأكثر، في تحليل أنواع الأسلحة المستخدمة في النزاعات المسلحة، ولم يطل الوقت حتى باتت المدوّنة مرجعاً لا غنى عنه لدى وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية الكبرى.
ولقد نشر هغنز عن سوريا مجموعة تدوينات متفرقة مبعثرة، انصبت عموماً على تشخيص أنواع المعدات العسكرية التي كانت تصل إلى فصائل المعارضة المسلحة، وتوصيف مصادرها، واستنتاج دلالاتها السياسية والعسكرية؛ لكنّ أولى مدوّناته، “المنظمة” كما يصفها، كانت سلسلة تعليقات حول مجزرة الحولة التي نفذّها النظام ضدّ بلدة تلدو يوم 25 أيار (مايو) 2012، وأوقعت 108 ضحايا، من بينهم 34 امرأة و49 طفلاً. ونزعة التوثيق المتأصلة لديه قادته إلى تصنيف أشرطة الفيديو طبقاً للجهات التي تنشرها، بحيث باتت لديه مجموعة ذات مواصفات مشتركة بلغت في البدء 15 قناة، وانتهت إلى 550. كذلك كانت تصنيفات هغنز للقنابل العنقودية قد قادت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية إلى التعاقد معه للعمل على تحليل قرابة 500 شريط توثّق استخدام تلك القنابل. بعد مجزرة الغوطة، سوف يحتلّ هغنز موقع المرجع الأوثق في تدقيق الملابسات، سواء في تفنيد منكري مسؤولية النظام عن ارتكابها، أو إعانة فريق التحقيق الأممي في العثور على الأدلة.

المأساوي أنّ مجرم الحرب الذي أمر باستهداف الغوطتين لا يخضع اليوم إلى أيّ طراز من المساءلة القانونية، ويتمرّغ في أحضان رعاته وسادته المجرمين الكبار، بل وينتظر استكمال إعادة تأهيله وتبييض صفحته الإجرامية وغسل يديه من دماء الضحايا الأبرياء

ومن باب إنصاف الرجل أن تُقتبس هنا حكاية موقع “منت برس” الإخباري الأمريكي الذي كان، بعد أسبوع فقط على المجزرة، قد نشر تقريراً مثيراً بعنوان
“سوريون في الغوطة يزعمون أنّ ثوّاراً تزوّدهم السعودية بالسلاح هم وراء الهجمة الكيميائية”؛ جاء في خلاصته الأكثر دراماتيكية أنّ سوء نقل أسلحة كيميائية أسفر عن انفجارها، وأدى إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا. كان أمراً طبيعياً أن تسارع وكالات الأنباء إلى تلقّف الحكاية، خاصة على خلفية ما كان يتردد من عزم إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على توجيه ضربة إلى النظام السوري عقاباً على تجاوز “الخطّ الأحمر” لاستخدام السلاح الكيميائي؛ وكان المنتظَر أكثر أن تكون وسائل إعلام إيرانية رسمية، وأخرى روسية (بلسان وزير الخارجية سيرغي لافروف نفسه) هي أوّل مَنْ يتبنى المزاعم ويروّج لها.
أولى خيوط التشكيك في هذه الرواية العجيبة جاءت من هغنز، الذي ساق جملة معقدة من المعطيات الدقيقة المضادة، الموثقة بمشاهد الفيديو المتقاطعة وذات المصادر المتعددة، حول الصواريخ التي حملت الرؤوس الكيميائية إلى الغوطة؛ وكيف أنها في عهدة قوّات النظام وحدها، وانطلقت من المواقع التي يسيطر عليها، في جيل قاسيون بصورة خاصة. أكثر من ذلك، دقّق هغنز في هوية موقِّعي التقرير، الأمريكية ديل غافلاك وزميلها الأردني يحيى عبابنة؛ وإذا كان الأخير مغموراً شبه مجهول، فإنّ الأولى كانت مراسلة الأسوشيتد برس، وتقيم في العاصمة الأردنية عمّان منذ عقدين، وتغطي المنطقة في إذاعتَيْن جبارتين، الـ
NPR الأمريكية والـ BBC البريطانية، وهي ــ كما تعرّف عن نفسها، على الأقلّ ــ “أخصائية”، تحمل الماجستير في الدراسات الشرق ـ أوسطية من جامعة شيكاغو.
وهكذا افتُضحت الأكذوبة تباعاً، فكتبت غافلاك إلى هغنز، وإلى صحافيين في مواقع أخرى بينهم روبرت ماكي من “نيويورك تايمز”، تقرّ بأنها لم تذهب إلى سوريا، ولم تستمع بنفسها إلى أقوال أهل الغوطة، ودورها في التقرير هو نقل أفكار زميلها عبابنة إلى الإنكليزية؛ وأنها أوصت تحرير “منت برس” بالامتناع عن وضع اسمها على المادة، لكنهم رفضوا، ولهذا فإنها تنوي مقاضاة الموقع. من جانبه، توارى عبابنة عن الأنظار، فمسح المعلومات القليلة المتوفرة عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، وتهرّب من الصحافيين الذين حاولوا التحقق من صحة تقريره؛ قبل أن يتضح أنه دائم الزيارات إلى روسيا، ويكتب في “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية باسم “يان بركات”، وله باع طويل في تقديم الخدمات السياحية للإسرائيليين!
هذه التفاصيل، وسواها الكثير الدامغ حول الضربات الكيميائية التي نفذها النظام السوري في مواقع مختلفة من سوريا، يجمعها اليوم كتاب هغنز “نحن البلينغكات: وكالة استخبارات من أجل الشعب”، الذي صدر هذا العام عن منشورات بلومزبري في لندن، وضمّ خمسة فصول طافحة بالمعطيات. وإذا كانت صفحات الكتاب تميط اللثام عن جرائم الحرب التي يرتكبها طغاة هنا وهناك، من بشار الأسد في سوريا إلى فلاديمير بوتين في أوكرانيا؛ فإنها، أيضاً، تكشف قسطاً غير قليل من عورات مؤسسات إعلامية عملاقة، تتستر على الحقيقة بقدر ما تتواطأ على الفظائع. ولعلّ طرافة عنوان الفصل الرابع، “فأر يصطاد هرّاً”، ليست سوى وجه الكوميديا الدموي الذي تعتمده أجهزة استخبارات الكرملين، لاغتيال المعارض الروسي سيرغي سكريبال باستخدام غاز الأعصاب نوفيتشوك.
ويكتب هغنز أنّ ملابسات هذه الجريمة، ودور الـ”بلينغكات” في تسليط الضوء على مضامينها الكيميائية تحديداً، كانت بمثابة إعادة إنتاج للكثير من العناصر التي كانت وراء تعرية الضربة الكيميائية التي استهدفت الغوطتين الشرقية والغربية: “جريمة بأسلحة كيميائية، حكومة متسلطة تكذب على العالم وتتوقع الإفلات من العقاب، حملة تضليل معلومات على الإنترنت، سلطات غربية تجهد لحلّ القضية، ومحققون مواطنون يتصدّون وليس في حوزتهم سوى الحقائق ذات الصلة، وأنّ الدليل ظاهر بادٍ للعيان، والتدقيق مطلوب ومثله المحاسبة”. المأساوي، في المقابل، أنّ مجرم الحرب الذي أمر باستهداف الغوطتين لا يخضع اليوم إلى أيّ طراز من المساءلة القانونية، ويتمرّغ أكثر فأكثر في أحضان رعاته وسادته المجرمين الكبار، بل وينتظر استكمال إعادة تأهيله وتبييض صفحته الإجرامية وغسل يديه من دماء الضحايا الأبرياء.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

نووي إيران

وجرعات السمّ المحتوم

صبحي حديدي

 

إذا صحت التقارير عن موافقة طهران على «تسوية نهائية» اقترحها الاتحاد الأوروبي لإحياء اتفاق 2015 حول البرنامج النووي الإيراني، وبافتراض أنّ الصيغة الأوروبية لم تكن أصلاً بعيدة عن استئناس بالرأي الأمريكي يصحّ وضعه في مصافّ التنسيق الوثيق؛ فإنّ حصيلة الشدّ والجذب التي استغرقت جلسات مطوّلة شاقة بين جنيف والدوحة وفيينا لن تسفر، حتى إشعار آخر يثبت العكس، عن انتصار مشهود للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وفريقه، ويجوز بالتالي أن تُحتسب حصيلة عجفاء هزيلة.
في صياغة أخرى، ما كان فريق الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، خاصة وزير الخارجية محمد جواد ظريف صاحب الشخصية الضاحكة المرنة، قد مهّد له طيّ بنود «خطة العمل الشامل المشترك» مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، ثمّ الولايات المتحدة في الخلفية غير المباشرة؛ هو، على أكثر من وجهة تخصّ العقوبات والاقتصاد والنفط وتخصيب اليورانيوم، نسخة مستعادة من الاتفاق الوشيك الذي اقترحته أوروبا وتبدو إيران موشكة على القبول به. مع تعديلات «تجميلية» هنا وهناك، بالطبع، لا تطمس مع ذلك قسطاً غير قليل من خسائر إيران: عزل «خطة العمل» الجديدة عن ملفات أثيرة لدى طهران، مثل شطب الحرس الثوري الإيراني من لائحة الإرهاب الأمريكية، والإبقاء على مؤسسات «الحرس» المالية والاقتصادية تحت طائلة العقوبات، والامتناع عن تقديم ضمانات بأنّ أيّ رئيس أمريكي مقبل لن يمتلك حقّ الانسحاب من الاتفاق.
ما كُشف عنه النقاب حتى الساعة من التفاصيل العملية للاتفاق المرجّح، وهي في توصيف آخر الثمار التي سوف تجنيها طهران منه، تتحدث عن تحرير 17 مصرفاً و150 مؤسسة اقتصادية من العقوبات، ورفع التجميد عن 7 مليارات دولار من ودائع إيران المجمدة في كوريا الجنوبية، والسماح بتصدير 2,5 مليون برميل نفط يومياً بعد 120 يوماً من توقيع الخطة الجديدة. سلّة النفوذ الإقليمي الإيراني في المنطقة، ابتداء من اليمن والعراق وليس انتهاء بسوريا ولبنان؛ فضلاً عن برامج التسلّح الإيرانية، خاصة في قطاع الصواريخ بعيدة المدى؛ ليست بنوداً صريحة التحديد بالطبع، لكنها في صلب التفاهمات الضمنية أو ما قد ينقلب إلى «ملاحق» غير معلَنة.
ومع ذلك، قد يتوفر أكثر من اعتبار خلف استعداد حكومة رئيسي، والمرشد الأعلى علي خامنئي شخصياً، لقبول الصفقة المطروحة، وذلك على صعيدَين في الحدّ الأدنى. الأوّل أنّ إبرام الاتفاق لن يمسّ، إنْ لم يعزّز، أجندات التدخل الإيراني الخارجي لصالح الطغاة وأنظمة الاستبداد والفساد، وخدمة مبدأ «تصدير الثورة» الإسلامية، وتمدّد الوجود العسكري والأمني والمذهبي الإيراني هنا وهناك في المنطقة. والثاني، الأخلاقي والإنساني، هو أنّ الإفراج عن عشرات المليارات المجمدة، وتمكين الاقتصاد الإيراني من الانعتاق في قطاعات شتى، سوف ينتهي أيضاً إلى التخفيف من مشاقّ الحياة اليومية ومصاعب العيش وسلسلة المشكلات البنيوية التي تثقل كاهل المواطن الإيراني في المقام الأوّل، وربما الحصري أيضاً.
وإذْ لا ينتظر المرء، أو كما علّمت تجارب الماضي، أن يذعن آيات الله ومتشدّدو السلطة في إيران لمقتضيات الصعيد الثاني، مقابل انغماسهم أكثر فأكثر في تفضيل الصعيد الأوّل؛ فإنّ ضرورات الاقتصاد القصوى تبيح بعض محظورات التعنت خلف رفض القبول بمشروع الاتفاق الجديد، عملاً بالقاعدة القديمة التي تشير إلى إذعان مُكرَهٍ لا بطل. وكان الإمام الخميني نفسه سباقاً إلى الأخذ بقاعدة أخرى مماثلة، حين أعلن قبل 34 سنة أنه تجرّع «كأس السمّ» حين وافق على وقف إطلاق النار مع عراق صدّام حسين.
وقد لا يكون ما تعاقد عليه روحاني سنة 2015، ويضطرّ رئيسي إلى استئنافه اليوم معدّلاً أو حتى منتقَصاً، من طراز السمّ القديم أو لا يقتضي الترياق إياه؛ الأرجح أنه، إلى هذا وذاك، جرعة محتومة لا مهرب منها، ولا مفرّ.

 

 

جفاف أوروبا:

غضب الطبيعة  أم غلواء الرأسمالية؟

صبحي حديدي

 

خير أن تُقرأ جيداً، وبتبصّر لائق وتأمّل عميق، تصريحات أندريا توريتي الخبير الإيطالي وأستاذ علوم المناخ في جامعة برن، سويسرا: جفاف سنة 2018 كان شديداً إلى درجة أنّ معدّلاته لا سابق لها خلال 500 سنة في الماضي، ولكنّ معدّلات هذه السنة 2022 أسوأ مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات. والرجل لا يتحدث عن أفريقيا أو أستراليا هذه المرّة، ولا عن مناطق الجفاف المعتادة المألوفة، بل يقصد أوروبا على وجه التحديد؛ ومثاله الأبرز، على غرار سواه من علماء مناخ أوروبيين، هو ما يتعرّض له نهر كبير عريق مثل الراين، على أصعدة انحسار المياه إلى مستويات مرعبة قد لا تسمح بأيّ شكل من أشكال الملاحة فيه.
من جانبه يشير “مرصد الجفاف الأوروبي” إلى أنّ 64% من أراضي الاتحاد الأوروبي تتأثر اليوم بظواهر جفاف مختلفة الشدّة والنطاق، وأن” 47% منها تقع تحت وطأة شروط “الإنذار”، و17% باتت تُصنّف في دائرة “الاستنفار”؛ الأمر الذي يدفع مركز أبحاث المفوضية الأوروبية إلى تبنّي أطروحة توريتي بأنّ قارّة أوروبا العجوز لم تشهد ظواهر جفاف مماثلة منذ 500 سنة، والمثال هنا نهر آخر آخر عريق كبير هو الدانوب أطول أنهار القارّة. وليس انحسار المياه هو وحده سمة هذه التبدلات العاصفة، إذْ بات نهر بو في إيطاليا عاجزاً عن تأمين سقاية حقول الأرز أو حضانة المحار، كما أدّت سخونة مياه نهرَيْ رون وغارون في فرنسا إلى تعطيل طاقة تبريد المفاعلات النووية. والمعطيات خلال الأشهر الثلاثة المقبلة سوف تنطوي، في يقين توريتي نفسه، على “مخاطر جفاف شديد يضرب أوروبا الغربية والوسطى، إلى جانب بريطانيا”.
أسماك أوروبا، بسبب درجات حرارة المياه العالية وانخفاض محتوى الأوكسجين، تنفق بالملايين؛ وعلى مدّ النظر بات نهر أودر، الذي ينبع من جمهورية التشيك ويتفرّع في بولندا ويحاذي ألمانيا، مغطى بالأسماك الميتة، لأنّ غضب الطبيعة تلاقى هنا مع التلويث الصناعي للنهر فصار انحسار المياه حاضنة مفتوحة لتدفّق سموم الصناعات الكيميائية وركودها في الحوض. زراعات الحبوب الأوروبية هبطت بنسبة 20 إلى 40% في إيطاليا، و20% في فرنسا، فأضافت مشقة على عسر استيراد الحبوب الأوكرانية؛ وأمّا زيتون إسبانيا الشهير، الذي يعادل قرابة نصف الصادرات إلى العالم، فإنّ أرقامه اليوم تشير إلى ربع المحصول المعتاد المسجّل خلال السنوات الخمس الماضية. وحتى في البلدان الأعلى رطوبة، مثل النروج، فإنّ تدنّي معدلات المياه في الأحواض تسفر تلقائياً عن انخفاض قدرتها على توفير الطاقة الهدروكهربائية، وهذا يضيف المزيد إلى حرج تغييب مقادير النفط والغاز التي اعتادت روسيا تأمينها.

غلواء الرأسمالية تفرض طرازاً من التغيير قادماً لا محالة، في قلب مظاهر الرعب كما توثّقها مشاهد الجفاف والفيضانات والحرائق؛ وليس للمواطن الأوروبي خيار في هذا، غير أن يقاوم ويرفض ويسعى إلى التبدّل والتبديل

مسؤولية النظام الرأسمالي عن قسط أكبر من هذه الظواهر المميتة تبدأ، كما يقول المنطق البسيط، من حقيقة أنّ الغالبية الساحقة من حكومات أوروبا الغربية والوسطى تعتمد هذا الشكل أو ذاك من تنويعات اقتصاد السوق في المنظور الرأسمالي. القطاع الخاصّ، في المقابل، يدين أيضاً لاشتراطات السوق وقوانين العرض والطلب، من جهة أولى؛ ويظلّ غير ملزَم، حتى ضمن منطوق العقيدة الشهيرة: “دَعْه يعمل، دعه يمرّ”، بالحدّ من جشع تكديس الأرباح على سبيل الإسهام في خدمة الطبيعة والمناخ وكبح جماح غضبات الجفاف والفيضان والحرائق، من جهة ثانية. ذلك يتجلى بصفة خاصة في ميدان الزراعة، إذْ تشير معطيات وكالة “ناسا” إلى أنّ 13 ضمن 37 من أحواض المياه الجوفية الكبرى يتمّ استنزافها بأسرع مما يمكن إعادة تعبئتها؛ وأنّ الزراعة تستهلك 70% من استخدام المياه العذبة، مقابل 20% في قطاع الصناعة. لكنّ البلوى تبدأ من جشع توظيف الزراعة لتحقيق أرباح فلكية، سواء عبر طرائق الريّ عالية الاستهلاك للمياه، أو زراعة المحاصيل ذات المدى القصير والربح السريع في مناطق غير ملائمة مائياً أو حتى مناخياً، أو احتطاب مساحات واسعة في الغابات لتحويلها إلى حقول زراعية.
وقبل أقلّ من سنة اجتمع في غلاسكو، برعاية الأمم المتحدة، 120 من زعماء العالم على مختلف المستويات، وأكثر من 22 ألف مندوب و14 ألف مراقب؛ وعكفوا على قراءة وتحليل مختلف جوانب التغيّرات المناخية، كما درسوا العلوم والحلول والسياسات؛ واختصر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الحصيلة هكذا: “النصوص المعتمدة هي حل توافقي”. بالطبع، لأنها “تعكس المصالح والظروف والتناقضات وحالة الإرادة السياسية في العالم اليوم”، والمشاركون اتخذوا “خطوات مهمة، ولكن لسوء الحظ لم تكن الإرادة السياسية الجماعية كافية للتغلب على بعض التناقضات العميقة”. وبالطبع، استطراداً، لأنّ التخفيضات في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بعيدة عن المستوى الذي يتوجب أن تكون عنده للحفاظ على “مناخ صالح للعيش”، و”لا يزال الدعم المقدّم للبلدان الأكثر ضعفاً والمتضررة من آثار تغير المناخ ضعيفاً للغاية”، كما اعترف تقرير غوتيريش.
وكان مؤتمر غلاسكو مناسبة جديدة لتأكيد النتائج الميدانية الهزيلة التي انتهت إليها توصيات مؤتمر المناخ الأشهر، باريس 2015؛ حيث لم يكن قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب كلياً من التزامات أمريكا في ذلك المؤتمر هو وحده رصاصة الرحمة الأكثر دوياً في الإجهاز على روحية التوصيات، بل كذلك لأنّ هذه الأخيرة لم تكن في الأصل ملزِمة للدول الموقّعة عليها! وكان المعنى الأجدى بالاستخلاص يقود إلى أنّ دولاً أخرى في عداد كبار الملوِّثين، أمثال الصين وروسيا والهند والبرازيل، لها أن توقّع على التوصيات في غلاسكو صباحاً، وأن تنقع توقيعها بالماء مساء في بكين أو موسكو أو نيو دلهي أو برازيليا… وأمّا بعض فضائل غلاسكو القليلة فقد تمثلت في إتاحة منبر عالمي يعيد التشديد على تعبير “الإبادة المناخية”
Climate Genocide الذي، للمفارقة الصارخة، كان من نحت الأمم المتحدة ذاتها في التقرير الشهير المفزع الذي صدر مطلع آب (أغسطس) 2021. وللتذكير المفيد، كانت أبرز خلاصات تلك المذبحة أنّ استقرار ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى في العام 2019 ممّا كان عليه خلال مليونَيْ سنة من عمر البشرية؛ ودرجة حرارة الأرض قفزت، ابتداء من 1970، بشكل أسرع من أيّ زمن عرفته المعمورة منذ 2000 سنة على أقلّ تقدير.
وليس الأمر أنّ غضب الطبيعة لا رادّ له، أو أنّ الحلول مستعصية أو مستحيلة، بل أنّ جوهر العلاج يبدأ من خلاصات علوم المناخ حول إرضاء الطبيعة وحُسْن التعامل مع متغيراتها؛ وهذا، غنيّ عن القول، مشروط بما يُستطاع من إرغام الأنظمة والشركات الكبرى والصناعات الملوِّثة ذات التوجهات الرأسمالية الصرفة على اعتماد سياسات صديقة للمياه، مطيعة للبيئة، خادمة للإنسان وحاجاته في المقام الأوّل، وليس لمراكمة الأرباح وتكديس المليارات. ليس مثالياً هذا المآل، أو غير قابل للتحقق كما قد يقول قائل متشكك، لأنّ صندوق الاقتراع الذي يتيح للناخب الأوروبي اختيار أمثال إمانويل ماكرون وأولاف شولتس في أعلى هرم القرار السياسي والاقتصادي، يُلزمه كذلك بإرغام الساسة على تطويع توحّش رأس المال وانفلات الاستغلال من كلّ عقال، في ميادين حيوية مثل الصناعة والزراعة والمياه والطاقة النووية.
صحيح أنّ سيرورة كهذه قد تستوجب تغيير النظام في كثير أو قليل، غير أنّ غلواء الرأسمالية تفرض طرازاً من التغيير قادماً لا محالة، في قلب مظاهر الرعب كما توثّقها مشاهد الجفاف والفيضانات والحرائق؛ وليس للمواطن الأوروبي خيار في هذا، غير أن يقاوم ويرفض ويسعى إلى التبدّل والتبديل.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

الجنائية الدولية في سنّ العشرين:

قضاء هزيل وحصيلة عجفاء

صبحي حديدي

 

مرّت، قبل أيام قليلة، الذكرى العشرون لإطلاق محكمة الجنايات الدولية، المنبثقة عن قانون روما المنقلب إلى معاهدة بعد توقيع 60 دولة عليه؛ ولم يخلُ الاحتفال من منغصات كبرى، ليست البتة صغرى على هدي المشكلات المعتادة المقترنة بمنظمات ومؤسسات دولية تطمح إلى تطبيق القانون الدولي وإعلاء شأن حقوق الإنسان والسعي إلى المساءلة. العلّة الأهمّ كانت، وتظلّ، ماثلة في أنّ ثلاثة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وروسيا والصين، لا تعترف بالمحكمة أو تعرقل عملها بقوّة حقّ النقض (الفيتو)؛ فضلاً عن حقيقة أنّ 70 من 193 دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة ليست منتسبة إلى محكمة الجنايات الدولية.
العلّة الثانية هي نهج الكيل بمكيالين، طبقاً لمدى تمتّع الملفّ المطروح على المحكمة بمساندة/ مناهضة قوى عظمى، خاصة تلك التي تملك بالفعل سلطة التعطيل، أو حتى فرض عقوبات شتى على المحكمة وقضاتها؛ كما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في خريف 2018 حين أبلغ الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنّ المحكمة لا شرعة لها ولا شرعية ولا سلطة في الولايات المتحدة، ثمّ أعقب ذلك بعد سنتين بفرض قيود وعوائق تأشيرة على موظفي المحكمة جراء التحقيق في ممارسات أفراد أمريكيين على أرض أفغانستان. الولايات المتحدة ذاتها، ولا فرق أن يكون رئيسها قد صار اسمه جو بايدن، حثت المحكمة ذاتها على التحقيق في ممارسات الجيش الروسي خلال غزو أوكرانيا، رغم أنّ روسيا انسحبت من المحكمة في سنة 2014 احتجاجاً على قرا الجنائية اعتبار ضمّ القرم “عدواناً متواصلاً”، ورغم أنّ قانون المحكمة التأسيسي لا يجيز محاكمة دولة ليست عضواً منتسباً إليها.
هذه، في المقابل الفاضح للكيل بأكثر من مكيال، ليست ولم تكن قطّ حال رئيس النظام السوري بشار الأسد؛ إذْ منذ العام 2015 سارعت فاتو بنسودا، المدعية العامة السابقة للمحكمة، إلى إصدار توضيح رسمي قالت فيه إنّ الفظائع المزعومة في سوريا تشكل بالفعل “جرائم خطيرة تثير قلق المجتمع الدولي وتهدد السلم والأمن والرفاه في المنطقة وفي العالم”، إلا أنّ سوريا ليست طرفاً في نظام روما، وبالتالي لا تتمتع المحكمة بالاختصاص الإقليمي للتحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي السورية. زميلها كريم خان، المدعي العام الحالي، لم يتردد في إصدار بيان ذي منطوق قانوني مناقض تماماً: “أعلنت قراري حول استصدار إذن بفتح تحقيق في الحالة في أوكرانيا، مستنداً إلى استنتاجات سابقة توصل إليها مكتبي، وتشمل جرائم مزعومة جديدة تدخل في اختصاص المحكمة”. ولم يطل الوقت حتى أرسلت الجنائية إلى أوكرانيا الفريق الأضخم على امتداد تاريخها، للتحقيق وجمع الأدلة. ليس هذا فقط، بل إنّ المحكمة تملصت، وتواصل التملّص، من جهود المحامي البريطاني رودني دكسون برفع دعوى أمام المحكمة ضدّ بشار الأسد بالنيابة عن مواطنين سوريين في مخيمَيْ الزعتري والأزرق، بتهمة الترحيل الإجباري من وطنهم، وارتكاب جرائم التهجير التعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري واستخدام أسلحة محرّمة بينها الكيميائي؛ كما تتهرّب من قبول الدعاوى السورية قياساً على قبولها ملفات أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار.

الصحيح الآخر الموازي يقود إلى ما انتهت إليه المحكمة من قضاء هزيل وحصيلة عجفاء، خاصة حين يتصل الأمر بالمبدأ الأكبر في كلّ وأية عدالة: التساوي في الخضوع للقانون، وفي إسباغ العقاب والحساب على صحيح الجرم والجناية

العلل الأخرى قد تكون أقلّ وطأة، مثل افتقار المحكمة إلى مفارز شرطة خاصّ بها يتولى تنفيذ قراراتها وإجراء التحقيقات في أوقات وقوع الانتهاكات وإحضار المتهمين، الأمر الذي يُلزمها بالتعاون مع السلطات المحلية، التي يندر أن تتعاطف مع مطالب المحكمة. إنها، في المقابل، تقوم على جهاز بيروقراطي ومالي لا يستهان به، مثل 900 موظف، ينتمون إلى قرابة 100 دولة؛ ومقرّ ضخم في مدينة لاهاي الهولندية، ومكاتب اتصال فرعية ملحقة بمبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وفي 7 دول أخرى؛ بميزانية بلغت 154,855 مليون يورو في سنة 2022 الجارية. الحصيلة، مع ذلك، عجفاء هزيلة: أوّل إدانة تعود إلى آذار (مارس) 2012، وطالت الكونغولي توماس لوبانغا دييلو بتهمة تجنيد أطفال في الحرب؛ واستمعت المحكمة إلى 31 قضية أمام المحكمة، وأصدرت 37 أمر توقيف، ونفذّت 21 حالة اعتقال، وخلصت إلى 10 إدانات، و4 قضايا تبرئة.
وبمعزل عن آل الأسد والعشرات من مجرمي الحرب في جيشه وأجهزة مخابراته وميليشياته، ثمّ العشرات من نظائرهم هنا وهناك في طول أنظمة الاستبداد وعرضها؛ لا يصحّ أن تُذكر محكمة الجنائيات الدولية من دون أن تتوجه أصابع الاتهام الصريح إلى عجزها الفاضح عن مساءلة عتاة مجرمي الحرب الكبار؛ أمثال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، الأب مثل الابن، في غزو العراق وأفغانستان (1,2 مليون ضحية، وعشرات الفظائع التي تتجاوز حتى تصنيفات جرائم الحرب )؛ ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في الملفات ذاتها، خاصة جنوب العراق، والبصرة؛ ورؤساء حكومات الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إيهود أولمرت، إيهود باراك، إسحق شامير، إسحق رابين، مناحيم بيغن؛ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكبار ضباطه، ليس في القرم وبلاد الشيشان وجورجيا وأوكرانيا فقط، بل حيثما يقصف طيرانه الحربي في سوريا وأينما تنتشر قواته الغازية…
صحيح، من جانب آخر، أنّ تأسيس قانون روما وما أسفر عنه من إطلاق المحكمة الجنائية كان، وهكذا يظلّ، إنجازاً للمجتمع المدني الإنساني، لا سجال حول أهميته من حيث الرمز أولاً، ثمّ الفعل أياً كانت العوائق وأنماط القصور والعجز. غير أنّ الصحيح الآخر الموازي، الذي لا يقلّ مغزى وحساسية، يقود كذلك إلى ما انتهت إليه المحكمة من قضاء هزيل وحصيلة عجفاء، خاصة حين يتصل الأمر بالمبدأ الأكبر في كلّ وأية عدالة: التساوي في الخضوع للقانون، وفي إسباغ العقاب والحساب على صحيح الجرم والجناية. وأمّا شانئة الكيل بأكثر من مكيال في التعامل مع الملفات التي يتوجب أن تنظر فيها المحكمة، فإنه سمة عامة مزمنة في تسعة أعشار المؤسسات الدولية التي تُناط بها مهامّ كبرى جليلة مثل إرساء القانون الدولي وتطبيقه.
وفي سنة 2013 أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً مفصلاً عن أنماط الاحتجاز والتعذيب التي كان مواطنون سوريون قد خضعوا لها في مختلف مقارّ ومعتقلات استخبارات النظام السوري؛ وكتبت المنظمة إلى مجلس الأمن الدولي، باسم الحكومة السويسرية وبالنيابة عن 57 دولة (بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وفنلندا واليونان والنروج والبرتغال وهنغاريا وأستراليا واليابان…)، تطالب بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية. لكنّ الرسالة ذهبت أدراج الرياح ليس بسبب كابوس الفيتو الروسي أو الصيني فقط، بل كذلك لأنّ إدارة باراك أوباما لم تجد نافعاً رشق الآخرين بالحجارة وبيتها مبنيّ من زجاج.
وقد تكون مفيدة هنا العودة إلى مثول الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش أمام المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، خريف العام 2002، أي قبل أشهر من إطلاق محكمة الجنايات الدولية. ولعلّ بين أفضل التعليقات على تلك المحاكمة كان ذاك الذي كتبه المعلّق البريطاني الراحل هوغو يونغ، حين اعترف بأنّ الزعيم الصربي لا يقف في قفص الاتهام لأنه ارتكب سلسلة من الجرائم بحقّ الإنسانية؛ بل، بالأحرى، لأنه ارتكب الخطأ القاتل المتمثّل في اجتياح كوسوفو عسكرياً في زمن غير ملائم. أي، للإيضاح المفيد: في زمن فرض الوصاية الأمريكية ـ الأوروبية على الإقليم، إذْ أنّ الجرائم التي حوكم ميلوسيفيتش بموجبها، بما في ذلك فظائع كرواتيا والبوسنة، كانت لن تُثار، أو ستُنسى تماماً، لو أنها ارتُكبت في سياقات أخرى!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

تعليم فلسطين

ومدارس السكاكيني

صبحي حديدي

 

للمؤرّخ والأكاديمي الفلسطيني نور مصالحة أعمال عديدة بالغة الأهمية، تغطي مسائل شائكة وحساسة ومفتوحة المفاعيل والعواقب؛ مثل النكبة، وطرد الفلسطينيين وترحيلهم في إطار مفهوم الترانسفير، والنفي الإجباري والتهجير القسري، وسياسات التوسّع، وخرافة أرض بلا شعب، ونهج الإنكار الإسرائيلي. مفضّلة لدى هذه السطور، في المقابل، أعمال تذهب أبعد من التأريخ والتوثيق إلى خلفيات ثقافية وأنثروبولوجية، على غرار «التوراة الصهيونية: السابقة التوراتية، الاستعمار، ومحو الذاكرة»، الذي صدر سنة 2013 بالإنكليزية عن منشورات Routledge؛ وكتاب «لاهوتيات التحرير في فلسطين ــ إسرائيل: منظور متأصّل وسياقي وما بعد استعماري»، الذي حرّره مع ليزا إشروود وصدر بالإنكليزية سنة 2014، عن Lutterworth Press.
كتابه الأحدث «فلسطين عبر الألفيات: تاريخ التعليم، التعلّم، والثورات التربوية» صدر بالإنكليزية أيضاً عن منشورات
I.B. Tauris، ويتناول كما يشير العنوان جوانب شتى من سيرورات محو الأمية وعصورها المتعاقبة في فلسطين؛ مبتدئاً من فجر الكتابة في الهلال الخصيب والمدارس السومرية في بلاد الرافدين والحاضنة السورية والفلسطينية للكتابة المصوّرة، قبل 5,000 سنة؛ مارّاً بما يسميه مصالحة «الثورات الفكرية» في فلسطين البيزنطية (القرون الثالث وحتى مطلع السابع)؛ وتحويل اليونانية والسريانية إلى العربية، وحركات الترجمة الفلسطينية في ظلّ الإسلام؛ فالتعليم اللاتيني خلال ممالك الصليبيين، ومكتبة الناصرة؛ وصولاً إلى «العصر الذهبي» مع مدارس الشريعة الإسلامية في القدس، خلال عهود الأيوبيين؛ ثمّ دور الأزهر القاهري، و»الأزهر الفلسطيني» متمثلاً في مدرسة عكا الأحمدية؛ وصولاً إلى العصور اللاحقة، مع العثمانيين والكتاتيب والمدارس الحديثة، التي ضمّت المسلمين والمسيحيين واليهود.

كان السكاكيني نموذجاً خاصاً، فريداً على أكثر من صعيد، اختزل صعود شريحة داخل الإنتلجنسيا العربية ــ الفلسطينية؛ بدأت بصيغة جنينية من القومية العروبية الراديكالية، ولعلها انتهت إلى صيغة وليدة من القومية الشعبية الليبرالية.

الفصل التاسع، من أصل 11 فصلاً ومقدّمة وخاتمة، يتناول قضايا التربية والتعليم من زاوية أَنْسُنية نهضوية؛ ويشدد، بالتالي، على شخصية المربي والأديب الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني (1878-1953)؛ و»المدرسة الدستورية» التي أنشأها في مدينة القدس سنة 1909 صحبة علي جار الله وجميل الخالدي وآخرين، وتولى إدارتها بعد عودته من أمريكا قبل سنة، وفي ضوء ثورة «تركيا الفتاة» التي اعتنقت المبدأ الدستوري وأتاحت حرّية الصحافة واللامركزية للولايات العربية. ويفصّل مصالحة سمات تلك المؤسسة التعليمية الرائدة، واستئناسها بفلسفات يونانية قارّة (أرسطو وأفلاطون وسقراط) حول التعليم، تقاطعت أيضاً مع كتابات السكاكيني «الاحتذاء بحذاء الغير»، 1896؛ و»النهضة الأرثوذكسية»، 1913؛ وكذلك مئات الصفحات من مذكراته والتي وقعت في 3,500 صفحة، ويكتب مصالحة أنّ مواضيعها المركزية كانت «النهضة، اليقظة الثقافية والفكرية، الحرية، الوطنية، الهوية الثقافية، التسامح الديني، تعليم النساء، الكرامة الإنسانية، وتحريم العقوبة الجسدية».
اهتمام مصالحة بالجوانب التعليمية والتربوية في شخصية السكاكيني دفعه إلى تشديد أقلّ، متعمد غالباً ومفهوم، على الأبعاد السياسية لدى ناشط فلسطيني تحمّس بقوّة للملك فيصل الأوّل، والتحق مع بعض رفاقه بالثورة العربية الكبرى عند إعلانها عام 1916، ثم اتصل مع الأمير في العراق، وسافر إلى مصر ضمن مهامّ سياسية خاصة بالثورة. كذلك انضمّ السكاكيني إلى «جمعية الاتحاد والترقي» في القدس، وشغل أمانة سرّ اللجنة التنفيذية لـ»لمؤتمر العربي الفلسطيني»، الذي تأسس في سنة 1920 وتحوّل بعدئذ إلى «الحزب العربي الفلسطيني». وخلال إدارة «المدرسة الدستورية» خاض السكاكيني سلسلة معارك شجاعة لإصلاح المناهج الدراسية وتقوية التوجهات العلمانية في تدريس التراث والتاريخ والأدب والعلوم، فعاقبته السلطات العثمانية بإبعاده عن القدس أوّلاً، ثم سجنته في دمشق.
بعد الإفراج عنه بكفالة مالية، عاد السكاكيني إلى القدس وشرع في تأسيس دار المعلمين، التي استقال منها بعد وقت قصير احتجاجاً على تعيين هربرت صموئيل مندوباً سامياً لبريطانيا في فلسطين. لكنه لم يقلع عن التزاماته التربوية، فسافر إلى القاهرة ليمارس التعليم، ويكتب مقالاته اللاهبة والساخرة في منابر كبرى مثل «المقتطف» و»الهلال» و»السياسة». ثمّ درّس في بيروت بتكليف من الجامعة الأمريكية، وأسس في القدس «كلية النهضة»، وانتُخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وفي مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ويُذكر أنّ العديد من وزارات التربية العربية تحتفظ بمؤلفات السكاكيني التدريسية، خصوصاً كتابه الضخم «الجديد في القراءة العربية» الذي يقع في أربعة أجزاء.
وهكذا فإنّ كتاب مصالحة، إذْ يستكشف الكثير من الجوانب الخافية ذات الصلة بقطاع هامّ في تاريخ فلسطين هو التربية والتعليم، فإنه أيضاً يعيد إنصاف شخصية السكاكيني من زوايا كانت أثيرة لدى المربّي الكبير، ويصحّ أن تبقى ماثلة في وعي الأجيال الفلسطينية الراهنة على وجه التحديد. ذلك لأنّ السكاكيني كان، أيضاً، مثقفاً ومناضلاً ومعلّماً على تماسّ مباشر مع هواجس أهل فلسطين في ميادين شتى، فمثّل ضمن الكنيسة الأرثوذكسية تياراً عروبياً ــ إسلامياً لم يكن مألوفاً آنذاك؛ وشارك في تكوين تيّار قيادي طليعي ضمن صفوف الفئات الشعبية المسيحية، في زمن شهد استئثار الأُسَر التقليدية (مثل آل القطان وآل عطا الله) بالنفوذ والعمل السياسي؛ كما مثّل، أخيراً وليس آخراً، أحد أهمّ وأخطر التيارات الداعية إلى إعادة النظر الجذرية في المناهج التربوية، وتسليحها برؤية علمانية وعلمية معاصرة.
ومن الجائز القول إنّ السكاكيني كان نموذجاً خاصاً، فريداً على أكثر من صعيد، اختزل صعود شريحة داخل الإنتلجنسيا العربية ــ الفلسطينية؛ بدأت بصيغة جنينية من القومية العروبية الراديكالية، ولعلها انتهت إلى صيغة وليدة من القومية الشعبية الليبرالية.

 

 

بيوت البرلمان

العراقي وحوزاته

صبحي حديدي

 

البرلمان العراقي، من حيث التعريف والوظيفة والمبنى، ليس حوزة أو حسينية تحتشد في أروقته القوى الشيعية العراقية، فتتفق أو تختلف وتأتلف أو تتصارع؛ ولكن في الوسع وقوع ذلك، من حيث الشكل والمظهر على الأقلّ، حينما يوجّه الزعيمُ الشيعي مقتدى الصدر، وربما حين لا يضطر إلى التصريح فيكتفي بالتلميح.
ذلك لا يعني، كما أوضحت مشاهد الأيام القليلة الماضية، أنّ زعيماً شيعياً ميليشياتياً منافساً مثل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي لا يستطيع التجوّل في محيط البرلمان وشوارع «المنطقة الخضراء»، حاملاً في اليد اليمنى بندقية آلية، وفي جيب القميص جواز سفر أحمر اللون (إيرانيّ الجنسية؟)؛ باسم الشيعة عموماً كما يزعم، ولكن خصيصاً باسم شيعته هو ونيابة عن محازبيه وحلفائه الآتين من كلّ فجّ سطحي أو عميق.
خارج البرلمان، في تسميته الرسمية أو في انقلاباته إلى حوزة أو حسينية، تظاهر أيضاً أنصار «التيار التنسيقي» لتذكير الشارع (الشعبي، فضلاً عن الإقليمي والدولي، قبل المرجعية الشيعية العليا و»التيار الصدري»، فضلاً عن الكتل الممثلة للسنّة، وصولاً إلى فئات الكرد…)؛ بأنّ انتخابات تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وإنْ لم تكن رياحها مواتية تماماً، لم تبدّل في شيء جوهر ولاء «التيار» لإيران سياسياً ومذهبياً، ومثاقيل ذلك الولاء في المشهد المحلي.
وذات يوم غير بعيد شاءت طهران تلزيم شؤون «العراق ما بعد الاحتلال»، كما سار التعبير الفاسد الزائف يومذاك، إلى ساسة أقرب إلى أتباع أمثال نوري المالكي وحيدر العبادي وإبراهيم الجعفري؛ وإلى قادة ميليشيات أشدّ ولاء وتبعية، أمثال أبو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي؛ وكان قاسم سليماني على قيد الحياة، يصول ويجول في مشارق «هلال الممانعة» ومغاربه، فلا تحدّ صولاته وجولاته حدود بين بغداد وبيروت. في المقابل، كانت هذه الخيارات الإيرانية البائسة، الحمقاء سياسياً وأخلاقياً كما يتوجب القول، قد دفعت غالبية ساحقة من جماهير الشيعة، في مدن الصفيح وقرى وبلدات الجنوب الفقيرة خاصة، إلى الهتاف بحياة مقتدى الصدر وعلي السيستاني والحوزة العلمية، ضدّ «البوّاقين»، لصوص الشعب الفاسدين المفسدين، الطائفيين اللاوطنيين. قسط غير قليل من تلك الشرائح الشعبية كانت، قبل أزمنة غير بعيدة بدورها، قد اعتادت الهتاف بحياة أحمد الجلبي أو إياد علاوي أو موفق الربيعي أو عدنان الباجه جي أو حتى عبد العزيز الحكيم…
استعادة هذه الخلفيات لا تبدو صالحة لتوفير منطلقات شتى تتيح فهم الأنواء التي تعصف اليوم بالبيت الشيعي العراقي، فحسب؛ بل لعلها أقرب إلى قواعد اشتباك لا تتغيّر في الجوهر إلا لماماً، وعلى نحو طفيف دائماً، متماثل المحتوى ومتغاير المآزق ليس أكثر. ذلك لا لأيّ اعتبار آخر يسبق حقيقة نواس القوى الشيعية في ارتباطاتها مع طهران، بين 1) ولاء تامّ أقصى وأعمى، و2) تطوّع في خدمة سلّة المصالح الإقليمية الإيرانية ضمن «دفتر شروط» محليّ الطابع يخصّ اقتسام المصالح ومحاصصة السلطة، و3) تحالف أكثر ترجيحاً للميزان المحلي وأعلى استجابة لانتفاضات الشعب ضدّ «البوّاقين» ورعاة الفساد والنهب وانحطاط الخدمات.
وفي إسباغ هذا الاسم أو ذاك، أو هذه المجموعة السياسية والميليشياتية أو تلك، على أنساق النواس الثلاثة المشار إليها؛ للمرء أن يتخفف من حرج التدقيق في التصنيف أو الفرز، إذْ في الوسع دائماً إيجاد قواسم مشتركة بين زيد هنا أو عمرو هناك، خاصة حين تنأى مرجعية السيستاني العليا عن أيّ مقدار من الانحياز أو الترجيح أو التفضيل.
فالخلاصة الأهمّ قد تكمن في قراءة انقلابات البرلمان العراقي إلى حوزة أو حسينية على قاعدة اشتباك من نوع آخر مختلف، سياسي واجتماعي وأخلاقي قبل أن يكون مذهبياً أو مناطقياً؛ وهذا سبيل صالح، أيضاً، لإدراك الأنواء التي تعصف ببيوت عراقية أخرى، سنّية وكردية وتركمانية ومسيحية…

 

 

بين دمشق 2007 وتايبه 2022:

بيلوسي ومكاييل المخاتلة

صبحي حديدي

 

الفارق بين مطلع نيسان (أبريل) 2007، حين قامت رئيس مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي بزيارة دمشق والاجتماع مع رأس النظام السوري بشار الأسد؛ وبين مطلع آب (أغسطس) 2022، حين زارت العاصمة التايوانية تايبه؛ ليس 15 سنة في حساب الزمن فقط، بل ثمة تلك الفوارق الجيو ـ سياسية التي تخصّ الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا والتوازنات العليا بين القوى العظمى، فضلاً عن اعتبارات إيديولوجية تبدلت في قليل أو كثير، وأخرى أخلاقية نالت حظّها من تبديل الشكل مع الاحتفاظ بقسط كبير من عناصر المضمون. قيل الكثير في الزيارة التايوانية، ولا يلوح أنّ ما سيق من عواقب محتملة قد انطوى معظمه اليوم، وبذلك فإنّ هذه السطور تتوقف، أكثر عند محطة بيلوسي السورية، التي سبقتها أيضاً محطات في دولة الاحتلال والضفة الغربية ولبنان والسعودية.
قد يصحّ القول أنّ السذّج وحدهم (صحبة أجهزة إعلام نظام آل الأسد، بالطبع) صدّقوا ما أعلنته بيلوسي ضمن أهداف محطتها السورية: «جئنا من موقع الصداقة، والأمل، والتصميم على أنّ الطريق إلى دمشق هو طريق إلى السلام» و«ليست لدينا أوهام، بل أمل كبير» لمحادثات سوف تتركز على «محاربة الإرهاب». غير أنّ ساعات قليلة فقط تكفلت بفضح أكذوبة أولى كبرى، حين أعلن مكتب رئيس حكومة الاحتلال يومذاك، إيهود أولمرت، أنه لم يحمّل بيلوسي أية رسالة إلى الأسد (على نقيض ما روّجت في تصريحاتها؛ وأنّ النظام السوري في ناظر الحكومة الإسرائيلية يظلّ داخل «محور الشرّ» الشهير، الذي سبق أن شخّصه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن.
أكذوبة ثانية، فضحها البيان الرسمي ذاته الذي أصدره وفد مجلس النواب الأمريكي الزائر (وتألف من بيلوسي، توم لانتوس، هنري واكسمان، نك رحال، لويز سلوتر، وكيث إليسون) حين أوحى بأنه التقى مع «قادة المعارضة وممثلي عوائل المنشقين» ونقل لهم «اهتمامنا القوي بحالات الناشطين الديمقراطيين العراقيين أنور البني، عارف دليلة، كمال اللبواني، محمود عيسى، ميشيل كيلو، وعمر عبد الله». الخطأ، الفاضح الفادح، الذي وقع فيه النصّ الرسمي، لجهة انعدام التمييز بين ناشطين سوريين وآخرين عراقيين، كان بمثابة الكاشف الأشدّ تأكيداً على ضآلة هذا الجزء المزعوم من زيارة بيلوسي وصحبها؛ وتفاهة التلميح إلى وضع المعارضة في حسبان الزائرين، خاصة عند نظام استبداد وفساد وتوريث ومزرعة عائلية وطائفية مثل الذي جاءت رئيسة مجلس النواب الأمريكي لمصافحته/ معانقته في الواقع.
البيان (المتوفر، حتى الساعة، على موقع بيلوسي الرسمي) انطوى من جانب آخر على فضيلة الإفصاح عن بعض الأهداف الأخرى الأعمق من زيارة سوق الحميدية أو المسجد الأموي، وخاصة تلك التي كانت تسترضي صقور الحزبين الديمقراطي والجمهوري معاً، وأقطاب المحافظين الجدد في إدارة بوش الابن ومن حولها؛ إلى جانب «لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية» الـ
AIPAC، أقوى مجموعات الضغط اليهودية/ الإسرائيلية في الولايات المتحدة.

في وسع بيلوسي أن تمزج بين مجالسة دكتاتور ومجرم حرب في سوريا، واستفزاز الصين بداعي التعاون والحكم الديمقراطي في تايوان؛ الأمر الذي لا يبدّل في الحالتين، وفي سواهما، جوهر الكيل بشتى مكاييل النفاق والخداع والمخاتلة

الوفد جاء، مثلاً، من أجل: 1) حثّ الأسد «بقوّة على ضبط الحدود السورية مع العراق ومنع تدفق المقاتلين الأجانب الذين يشكلون تهديداً لقوّات الولايات المتحدة وللشعب العراقي»؛ و2) إبلاغ الأسد أنّ «السلام مع إسرائيل جوهري للعلاقة الأمريكية ـ السورية» وإعلامه أنّ أولمرت منفتح على السلام «حين تتخذ سوريا خطوات لوقف دعم الإرهاب»؛ و3) التشديد على أنّ «الاختبار» يكمن في مدى «انخراط سوريا في جهد مثمر وواقعي لحلّ خلافاتها مع دولة إسرائيل والعيش معها بسلام»؛ و4) مطالبة الأسد «بالمساعدة في تحرير جنود إسرائيليين مفقودين أو مخطوفين» بمن فيهم جلعاد شاليت، إيهود غولدفاسر، إلداد رغيف، غاي خيفر، زخاري بوميل، تزفي فلدمان، إيهودا كاتز، ورون عراد.
وهذه المرّة لم يخطئ الوفد في تسمية جنسية الجنود الإسرائيليين المخطوفين أو المفقودين، على غرار ما فعل مع الناشطين السوريين الذين فضّل أن يمنحهم الجنسية العراقية، أو «المنشقين» الذين لم تطالب بيلوسي بإطلاق سراحهم خلال ساعات اجتماعها مع الأسد، أو حتى لدى استقبالها في مطار دمشق من جانب وليد المعلم وزير خارجية النظام في حينه. صحيح، بالطبع، أنّ وفوداً من الكونغرس زارت النظام السوري قبل بيلوسي، وكذلك فعلت وفود بعدها، والأمر تكرر وسوف يتكرر ولا يبدو البتة خارجاً عن مكاييل المشرّعين الأمريكيين؛ قياساً، من حيث المبدأ، على سلوك إدارات جمهورية وديمقراطية شتى. غير أنّ زيارة بيلوسي لم تكن إلى سوريا البلد إلا بالمعنى الجغرافي والسياحي، وكانت بالمعاني الجيو- سياسية والأخلاقية والرمزية بمثابة انفتاح على نظام الاستبداد والفساد ذاته الذي لا تغفل بيلوسي عن المجازر الأشنع التي ارتكبها بحقّ السوريين، الابن الوريث بعد الأب المورِّث.
وإذا ساجل البعض بأنّ نظام آل الأسد ليس، أو لم يكن تاريخياً، صديقاً للولايات المتحدة على غرار الصداقات الكويتية أو السعودية أو المصرية مثلاً؛ فهل يجوز للمساجلين الاستطراد بأنّ النظام عدوّ لدود للولايات المتحدة؟ كلاّ، أجاب على الدوام عدد من دبلوماسيي أمريكا المخضرمين، ممّن امتلكوا بعض الحصافة في قراءة خرائط الشرق الأوسط، لا سيما طبائع الحاكم والحكم، والاجتماع والعقيدة، والاستبداد والفساد. حجج هؤلاء لم تكن في حاجة إلى نقاش حامي الوطيس، فالسجلّ أوضح، كما أنه أغنى بالوقائع، من أن يحتمل الإنكار: على العكس، ساجل هؤلاء، نظام «الحركة التصحيحية» أحد أفضل الأنظمة التي حكمت سوريا من حيث خدمة المصالح العليا الأمريكية؛ منذ «اتفاقية سعسع» 1974، التي أدخلت نظام فصل القوّات وجعلت الجولان منطقة هدوء قصوى للاحتلال الإسرائيلي، وأمان مطلق للمستوطنين؛ وصولاً إلى التعاون الأمني الوثيق بين الأجهزة السورية والأمريكية، في ما تسمّيه واشنطن «الحرب على الإرهاب»؛ من دون نسيان الانخراط العسكري الرسمي في عداد الجيوش التي شكّلت تحالف «حفر الباطن» قبيل انطلاق عمليات «درع الصحراء» 1991.
وأمّا الأسد الوريث فإنه، منذ مطلع 2002 وكان في السنة الثانية من توريثه السلطة، استقبل وفداً من مجلس الشيوخ الأمريكي، وتناول الحديث مفاعيل 11 أيلول (سبتمبر) التي كانت ساخنة وطازجة، وكذلك طرائق محاربة الإرهاب. ونقلت وسائل الإعلام الرسمية قول الأسد إنّ «في إمكان الولايات المتحدة الاستفادة من تجارب الدول التي حاربت الإرهاب بنجاح، وخاصة سوريا». صحيح أنه لم يخصّ «تجربة» مجزرة حماة بالذكر، ولكنّ شبح الواقعة ـ سيما وأنّ ذكراها العشرين كانت على الأبواب يومذاك ـ لم يغبْ عن الأذهان، إلا عند مَنْ تقصد عن سابق عمد تغييب واحدة من أبشع جرائم الحرب والعقاب الجماعي والإرهاب. وحقّ للوريث الاستذكار، ببهجة خاصة وتفاخر مفرط، أنّ الوفد الأمريكي الذي حضر من واشنطن لتعزيته عند وفاة أبيه ترأسته مادلين ألبرايت، أوّل امرأة تتولى وزارة الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة.
بيلوسي أيضاً، إذْ الشيء بالشيء يُذكر، كانت أوّل امرأة تحمل مطرقة رئاسة مجلس النوّاب، مرّتين: 2007 إلى 2011، و2019 حتى الساعة. وكان صعودها إلى السدّة الأعلى في قيادة الحزب الديمقراطي، والموقع الثالث في هرم السلطة الأمريكية، بمثابة ذروة فريدة في استقرار مزيج عجيب ليبرالي/ كاثوليكي في قلب النخب الأعلى للحزب الديمقراطي. في وسع بيلوسي، إذن، أن تمزج بين مجالسة دكتاتور ومجرم حرب في سوريا، واستفزاز الصين بداعي التعاون والحكم الديمقراطي في تايوان؛ الأمر الذي لا يبدّل في الحالتين، وفي سواهما، جوهر الكيل بشتى مكاييل النفاق والكذب والخداع والمخاتلة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

الاعتذار والتعامي:

الفاتيكان بين كندا وسوريا

صبحي حديدي

 

في سنة 1883 كان سير جون ماكدونالد، أوّل رئيس وزراء لحكومة كندا التي ولدت سنة 1867، قد خاطب مجلس العموم هكذا: «حين تكون المدرسة في منطقة التحفظ يعيش الطفل مع ذويه، وهم همج؛ وهو محاط بالهمج، ورغم أنه قد يتعلم القراءة والكتابة فإن عاداته وتلقينه ونمط تفكيره هندية. إنه ببساطة همجي يستطيع القراءة والكتابة. لقد آليت على نفسي بقوّة، بوصفي رئيس الإدارة، أن أسحب الأطفال الهنود بعيداً قدر الإمكان عن تأثير ذويهم، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك سوف تكون وضعهم في مدارس تدريب صناعية مركزية حيث يتوجب أن يتلقوا عادات وأنماط تفكير الرجال البيض».
كان ماكدونالد وراء التشريع المعروف باسم «القانون الهندي» الذي أقرّه البرلمان الكندي في سنة 1876 وأسفرت بعض تعديلاته اللاحقة عن إقامة مدارس داخلية سيق إليها نحو 150 ألف طفل انتُزعوا قسراً من عائلاتهم وأسرهم المنتمية إلى الأقوام الأصلية من سكان البلاد، والتي أطلقت عليها الرطانة الحكومية الكندية تسمية «الهنود». كان الهدف، كما أوضحه ماكدونالد أمام مجلس العموم، هو سلخ هؤلاء الأطفال عن محيطهم «الهمجي» وتربيتهم على نحو يجعلهم ينفصلون عن ثقافتهم «الهمجية» ويتشربون ثقافة الإنسان الأبيض. وفي أكثر من 139 مدرسة تعيّن على الأطفال بين 7 إلى 16 سنة أن يتعلموا مهناً صناعية مثل الحدادة والزراعة والتنظيف بالنسبة إلى الفتيان، والخياطة والتدبير المنزلي والطبخ بالنسبة إلى الفتيات؛ كما تحتم، استطراداً، أن يتعرضوا لانتهاكات شتى وضروب العقاب والتعذيب والاستغلال الجنسي.
وفي سنة 2015 أنهت «هيئة الحقيقة والمصالحة» الكندية تقريرها النهائي عن حقبة المدارس الداخلية تلك، وجاء في المقدمة: طوال ما يزيد على قرن، كان الهدف المركزي لسياسة كندا حول الأقوام الأصلية قد تمثّل في تصفية حكومات هذه الأقوام، وفي إهمال حقوقهم، وإبطال الاتفاقيات، واعتماد سيرورة استيعاب أدّت إلى إعدام وجود الأقوام الأصلية ككيانات قانونية واجتماعية وثقافية ودينية وعرقية في كندا. وكانت إقامة وتشغيل المدارس الداخلية عنصراً مركزياً في هذه السياسة، التي يمكن أن توصف على نحو أفضل بـ«الإبادة الثقافية». ويضيف التقرير: «الإبادة الفيزيائية هي القتل الجماعي لأعضاء جماعة مستهدَفة، والإبادة البيولوجية هي تدمير قدرة التكاثر لدى الجماعة، وأمّا الإبادة الثقافية فإنها تدمير تلك البنى والممارسات التي تتيح للجماعة أن تواصل البقاء كجماعة.
والدول التي تنخرط في الإبادة الثقافية تستهدف تدمير المؤسسات السياسية والاجتماعية للجماعة المستهدَفة. الأرض تُصادر، والسكان يُجبرون على الانتقال وتقييد الحركة، واللغة تُحظر، ويُضطهد القادة الروحيون، وتمنع الشعائر الروحية، وتُصادر الموادّ ذات القيمة الروحية. وما يتسم بمغزى أهمّ في هذا أنّ الأُسَر يجري تفكيكها لمنع تناقل القيم الثقافية والهوية من جيل إلى جيل».
ولأنّ الحكومة الكندية أوكلت إلى الكنائس الكاثوليكية إدارة تلك المدارس الداخلية والإشراف عليها، ثمّ لأنّ الحكومة الكندية اعتذرت رسمياً عن تلك السياسة في سنة 2008 ودفعت المليارات على سبيل التعويض للضحايا، وأخيراً لأنّ مصادفة رهيبة شاءت أن تنكشف في سنة 2015 مقبرة جماعية في منطقة بريتيش كولومبيا احتوت على 1000 مقبرة… فقد تقدّم أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في كندا باعتذار رسمي عن أدوار كنائسهم في ذلك النظام الشائن، ثمّ أبدى البابا فرنسيس أسفه في نيسان (أبريل) الماضي لدى استقباله في الفاتيكان وفداً من الأقوام الأصلية، وها هو اليوم يطلب الصفح صراحة خلال زيارته الحالية إلى كندا، بصدد «الطرق التي تعاون بها العديد من أعضاء الكنيسة والجماعات الرهبانية، وأيضاً عبر ما أظهروه من اللامبالاة، في تلك المشاريع المدمّرة للثقافات وفي الاستيعاب القسري، والذي بلغ ذروته في نظام المدارس الداخلية الإجبارية».

حين أعلن البابا فرنسيس أنّ قلبه «مجروح بعمق بسبب ما يحدث في سوريا، ومهموم من التطورات المأساوية الماثلة أمامنا» سارع أساقفة دمشق إلى إصدار بيان يعيد إنتاج خطاب النظام السوري، ذاته، حول نظرية المؤامرة الخارجية؛ ليس على سوريا وحدها هذه المرّة، بل على المنطقة بأسرها

وأن يصل الفاتيكان متأخراً إلى طور الاعتذار خير من ألا يصل أبداً؛ الأمر الذي لا يمنحه فضيلة الشكّ دائماً، مسبقاً، أو على طول الخطّ. المثال على هذا موقف الفاتيكان من جرائم الحرب التي ارتكبها ويرتكبها النظام السوري، خاصة تلك التي تُصنّف بسهولة في خانة الفظائع والمجازر وأنساق العقاب الجماعي والإبادة. على سبيل المثال، في صيف 2013 حين افتُضحت أخبار المجازر الكيميائية في الغوطتَين الشرقية والغربية، اكتفى الفاتيكان بالدعوة إلى «الحذر في التعامل مع الادعاءات والمزاعم» حول مسؤولية جيش النظام عن استخدام أسلحة كيميائية هناك؛ كما حضّ على «عدم إطلاق أحكام إلا بعد الحصول على دليل واضح» حسب الأسقف سيلفانو توماسي، المراقب الدائم للفاتيكان لدى مقرّ الأمم المتحدة في جنيف. أيضاً، في مقابلة مع إذاعة الفاتيكان الرسمية، اعتبر توماسي أنّ «السؤال الحقيقي المطروح بهذا الصدد هو من المستفيد الحقيقي من هذه الجريمة اللاإنسانية». وكي لا يظلّ المشهد خالياً من هوية المذنب، أشار الأسقف إلى أنّ «التسرّع في إصدار الأحكام خلال أزمنة الحرب والنزاع، خاصة من جانب وسائل الإعلام، لا يقود دائماً إلى الحقيقة، ولا يجلب السلام!»
من جانبه كان الأب أدولفو نيكولاس، الرئيس العام للرهبانية اليسوعية، قد أدلى بدلوه أيضاً، ضمن توجّه مماثل لا يتعمد تبرئة النظام السوري من المجازر الكيميائية، فحسب؛ بل يلقي باللائمة على الآخرين، في صفوف المعارضة السورية أو خارج البلد. لقد انتقد الضربات التي تردّد أنّ الولايات المتحدة وفرنسا على وشك توجيهها إلى النظام السوري، وهذا حقّه بالطبع، وثمة كثيرون يوافقونه الرأي من منطلق التعاطف مع الشعب السوري، ضحية كلّ تدخل أجنبي، وليس بسبب أيّ تعاطف مع النظام. غير أنّ نيكولاس اعتبر أنّ الضربات هذه ـ وليس المجازر الكيميائية، البتة! ـ هي التي تدفع البشرية إلى «ردّة نحو الهجمية»؛ فتخسر فرنسا موقعها كـ»مرشد حقيقي للفكر والذكاء، له إسهام كبير في الحضارة والثقافة» وتفقد الولايات المتحدة ما كان الأب اليسوعي يكنه لها من إعجاب بالغ!
والحال أنّ ذلك المشهد الفاتيكاني ـ البائس سياسياً والمتعامي أخلاقياً عن رؤية الحقائق الدامغة، والمرتاح إلى مساواة الضحية بجلاّدها… ـ لم يكن جديداً على مواقف الصرح البابوي من الملفّ السوري، ولا يلوح أنه سيكون خاتمة التعامي. وثمة مقدار فاضح من التشويه، فضلاً عن التهويل، طبع تغطيات وكالة أنباء الفاتيكان للوقائع السورية منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية؛ يشدد، بالطبع، على أوضاع مسيحيي سوريا، ويكيل شتى التهم إلى المعارضة عموماً، والفصائل الإسلامية بصفة خاصة؛ بحقّ نادراً، ودون وجه حقّ غالباً. وثمة، في هذا المضمار، سوابق كثيرة سارت على المنوال ذاته، واتضح أنها عارية عن الصحة تماماً، في المقام الأوّل؛ كما أنها، في المقام الثاني، تكشف تلك المنهجية القصدية التي تتوخى التضخيم، وتتلقف التقارير المغالية، أو الكاذبة عن سابق قصد، وتتبناها كحقائق مسلّم بصدقيتها.
يومذاك، حين أعلن البابا فرنسيس أنّ قلبه «مجروح بعمق بسبب ما يحدث في سوريا، ومهموم من التطورات المأساوية الماثلة أمامنا» سارع أساقفة دمشق إلى إصدار بيان يعيد إنتاج خطاب النظام السوري، ذاته، حول نظرية المؤامرة الخارجية؛ ليس على سوريا وحدها هذه المرّة، بل على المنطقة بأسرها، فقال البيان إنّ دعوة البابا «تأتي فى وقت تتعرض فيه سوريا إلى حرب من قبل دول وأنظمة جلّ همها القضاء على سوريا وتاريخها ومستقبلها، إضافة إلى خلق حالة من الفوضى والرعب في جميع دول المنطقة»!
كأنّ البابا في واد، يعتذر بقلب حزين؛ وكثير من أساقفته في واد آخر، يتغافلون ويتعامون.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

قمّة طهران: وهن

الأضاليل وسطوة المساومات

صبحي حديدي

 

بين طرائف القمة الثلاثية الإيرانية/ الروسية/ التركية طراز كان معلَناً خلال الخطب التي ألقاها إبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان؛ بصدد الملفّ السوري إجمالاً، ثمّ خصوصاً حول التواجد العسكري لكلّ من إيران وروسيا وتركيا على الأراضي السورية. لا أحد من الرؤساء الثلاثة ضمّ قواته العسكرية إلى صنف «الوجود الأجنبي»، معتبراً من جهة أولى أنه إنما يستجيب لطلب شرعي من النظام السوري؛ وغامزاً، تالياً وضمنياً، من قناة الآخرين الذين لا يتمتعون بتلك السمة الذهبية الخاصة بـ«شرعية» التواجد.
لا أحد كذلك ألمح إلى أنّ الجيوش الإيرانية والروسية والتركية المرابطة هنا وهناك في سوريا هي، في أوّل المطاف ونهايته، قوى احتلال صريح مباشر، لا شرعية على الإطلاق يمكن أن تغطيه أو تجمّل قبائحه ومصائبه. ولا أحد من الفرسان الثلاثة نطق بما يمكن أن يفضي إلى حقيقة ساطعة بسيطة، تفيد بأنّ فوارق نسبية فقط تميّز الاحتلالات الإيرانية والروسية والتركية عن الاحتلالَين الأمريكي (في المثلث الحدودي مع الأردن والعراق، وفي منطقة رميلان النفطية، وقاعدة عين العرب/ كوباني…)، والإسرائيلي على امتداد الجولان المحتل.
طراز آخر من الطرافة، السوداء هذه المرّة وغير المعلَنة رغم أنها جلية، هي مقادير التوتر والشحن والتضاد والتجاذب بين الاحتلالات الثلاثة، على أصعدة لا تبدأ من اللوجستيات العسكرية الأبسط ولا تنتهي عند أجندات المصالح الجيو – سياسية والأمنية والاقتصادية الأعقد. وبهذا فإنّ أيّ مستوى متقدّم من تفاهم طهران وموسكو على اعتماد الريال الإيراني والروبل الروسي في التعاملات التجارية والاستثمارية بين البلدين، على حساب الدولار بالطبع؛ لن ينعكس في حال مماثلة من التفاهم حول انتشار القوات الروسية في موازاة انتشار القوات الإيرانية، في هذه أو تلك من بقاع سوريا.
تركيا من جانبها لا تكره إقناع روسيا بأن تغضّ النظر عن عمليتها الوشيكة في الشمال السوري، ولكنّ صمت الكرملين لا يبدّل الكثير في برامج قاعدة حميميم الروسية وجداول قصف إدلب والمناوشات المتفرقة بين الوحدات الروسية المتقاطعة مع مساحات تواجد الاحتلال التركي وفصائل المعارضة السورية المسلحة الموالية لأنقرة؛ ولا يغيّر الكثير، أيضاً، في قواعد الاشتباك المستقرة مع ميليشيات موالية لطهران أو تابعة لها مباشرة. اللافت أكثر، لكنه ليس الأشدّ غرابة، أن تواصل القاذفات الإسرائيلية طلعات القصف في العمق السوري، إلى درجة استهداف المفارز الإيرانية المرتبطة بالفرقة الرابعة في قلب دمشق، فلا يُحدث ذلك كلّه أي أثر في قمة طهران الثلاثية.
فإذا وضع المرء جانباً أضاليل بحث الملفّ السوري في قمة طهران الثلاثية، بعد أن يكون المرء ذاته قد أخذ بعين الاعتبار الحصيلة العجفاء الهزيلة لمسار أستانا، منذ إطلاقه مطلع 2017 وحتى الساعة؛ فإنّ الهموم الثنائية أو الثلاثية، منفردة أو مجتمعة، التي جعلت اللقاء ممكناً في الأصل، تبدو أقرب إلى تحصيل حاصل يداني درجة الصفر من حيث البناء على ما سبق القمة، وما سيليها: في الاعتبارات الجيو – سياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية كافة، كما يجوز القول من دون كبير تحفظ.
كلا الدولتين، إيران وروسيا، واقعة تحت عقوبات أمريكية وأوروبية وأممية شديدة الوطأة، ولا منفذ نجاة منها على النحو الجذري الذي يصنع فارقاً عملياً؛ بل تسير الحال من سيء إلى أسوأ مع انصراف الصين والهند عن النفط الإيراني إلى الخام الروسي الأرخص، ومع تعطّل الدور الروسي في مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني. تركيا تستثمر الوقت الضائع، حتى من دون الاضطرار إلى اللعب فيه، إذْ لم تكن بحاجة إلى قمة طهران كي تنجز نصراً دبلوماسياً مشهوداً بصدد الإفراج عن الحبوب والأسمدة الأوكرانية.
وَهَنُ الأضاليل اجتمع، إذن، مع سطوة المساومات؛ فكان طبيعياً ألا تنتهي القمّة إلى ما يتجاوز المزيج الفاسد بين هذه وتلك.

 

 

أطفال سوريا: حين تساوي الأمم

المتحدة بين الضحية والجلاد

صبحي حديدي

 

السيدة فرجينيا غامبا، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأطفال والنزاع المسلح، لا تفتقر إلى البلاغة والشحنة العاطفية العالية ودفق الحزن والأسى، وما إلى هذه وسواها من مستويات إبداء الألم؛ كلما توجّب أن تعرض الخلاصات الكبرى لتقرير المنظمة الدولية السنوي حول الأطفال والنزاع المسلّح(CAAC، وصدرت مؤخراً أحدث طبعاته التي تغطي العام المنصرم 2021. ومع ذلك فإنها لا تتردد في الجزم: «لا توجد كلمات قوية بما يكفي لوصف الظروف المروّعة التي عانى منها الأطفال في النزاعات المسلحة»؛ خاصة وأنّ «أولئك الذين نجوا سوف يتأثرون مدى الحياة بندوب جسدية وعاطفية عميقة» و«عندما يُفقد السلام، يكون الأطفال أوّل من يدفع ثمن هذه الخسارة المأساوية».
حصّة الشرق الأوسط من الانتهاكات ضدّ الأطفال وفيرة، بالطبع، وهي تشمل العراق ودولة الاحتلال الإسرائيلي والأراضي الفلسطينية ولبنان وليبيا والصومال وجنوب السودان والسودان وسوريا واليمن؛ والأخطار تتضمن تصعيد النزاع المسلح، والانقلابات العسكرية، والاستيلاء على السلطة بالقوّة، وما يسمّيه التقرير «الصراعات المطولة والجديدة» إلى جانب انتهاكات القانون الدولي الكلاسيكية والصراعات القبلية والإثنية. والأرقام تشير إلى قرابة 24,000 انتهاك جسيم ضدّ الأطفال تمّ التحقق منها، بمعدل 65 انتهاكاً يومياً، وجرى احتجاز أكثر من 2,800 طفل على خلفية ارتباطهم الفعلي أو المزعوم بأطراف النزاع، وخضعوا بالتالي إلى التعذيب الجسدي والعنف الجنسي وأنماط أخرى من الانتهاكات.
كذلك يسجّل التقرير أنّ نسبة 15٪ من الانتهاكات لم تشهد التعرّف على الجناة، الأمر الذي يجعل المحاسبة اللاحقة صعبة أو حتى مستحيلة؛ وثمة نحو 5,242 فتاة تعرّضن لانتهاكات جسيمة في 21 منطقة؛ وقُتل، أو تعرّض لتشوّهات مختلفة، قرابة 8,070 طفلاً جراء الألغام والعبوات الناسفة؛ وخضع 6,310 أطفال لتجنيد إجباري، كما تمّ التحقق من منع وصول المساعدات إلى الأطفال خلال 3,945 حادثة. الأرقام الأعلى للانتهاكات رُصدت في أفغانستان ودولة الاحتلال الإسرائيلي والصومال وسوريا واليمن، وانطوت على ارتفاع بمعدّل 20٪ في حالات الاختطاف، ونسبة الزيادة ذاتها بخصوص الاعتداءات الجنسية، كما تضاعفت الاعتداءات على المدارس والمشافي أو إغلاقها لصالح الانتشار العسكري…
منافع هذه التقارير السنوية لا تطمس، في الآن ذاته، معضلة مركزية باتت سمة تكوينية لصيقة بها؛ تبدو أخلاقية أوّلاً ومن حيث المبدأ، ولكنها تظلّ أيضاً سياسية بامتياز: أنها لا تفلح، إلا نادراً، في التمييز بين الضحية والجلاد عند استعراض مناطق نزاع لا تقتضي التفريق الصريح الواضح والضروري فحسب، بل تتطلب أيضاً ذلك المستوى المبدئي والابتدائي من الاستنكار والشجب والإدانة. أكثر من هذا، تواصل الأمم المتحدة اعتماد منهج مزدوج في التعامل مع قوانين الأنظمة الحاكمة وإجراءاتها المختلفة بخصوص الانتهاكات ضدّ الأطفال: إمّا اعتبارها ممارسة سيادية لا يصحّ الطعن فيها أو المساءلة حولها، أو منحها نطاقاً عريضاً مذهلاً من فضيلة الشكّ وبالتالي الانخراط في طرائق تنفيذها وما يعنيه ذلك من تواطؤ (مباشر وغير مباشر، على حدّ سواء) في شرعنة الانتهاكات ذاتها التي تستعرضها التقارير السنوية.

تقرير الأمم المتحدة لا يكتفي بغضّ النظر عن انتهاكات جسيمة متفق عليها كونياً، وتلك طامّة كبرى؛ بل يعمد كذلك إلى ما يشبه تلطيفها أو تجميلها، حين يضع الضحية والجلاد على مسافة واحدة من الحساب والمساءلة، وتلك طامّة عظمى

ولعلّ الانتهاكات بحقّ أطفال سوريا هي النموذج الأوضح على، والأشدّ فضحاً لتلك، الازدواجية الفاسدة في تطبيق المعيار ونقيضه؛ إذْ، من جهة أولى وبلسان الأمين العام للأمم المتحدة شخصياً، يجري «الترحيب بالحوار» بين النظام السوري والمنظمة الدولية حول الإجراءات «الكفيلة بمنع الانتهاكات الجسيمة ضدّ الأطفال» والترحيب أكثر بـ«إعادة تفعيل اللجنة الوزارية المختلطة، وتنظيم ورشات لحماية الأطفال» تحت رعاية النظام؛ والإشادة بالقانون 21 للعام 2021 حول الحقوق وإجراءات الحماية الخاصة بالأطفال، والتزام النظام بدعم «الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة وشركائها».
وأمّا من جهة ثانية فإنّ أرقام الأمم المتحدة ذاتها تقول إنّ البلد شهد 2,271 حالة انتهاك جسيم ضدّ الأطفال في سنة 2021، بينهم 235 فتاة و143 غير محدد جنسهم؛ بالإضافة إلى 74 انتهاكاً جسيماً، بينهم 14 فتاة، في سنة سابقة ولكن لم يتمّ التحقق منها فعلياً إلا في سنة 2021. ولا يجد التقرير حرجاً، غنيّ عن القول، في تحديد هوية الجناة هنا: جيش النظام بمختلف صنوفه، فروع الاستخبارات المختلفة وخاصة مخابرات القوى الجوية والمخابرات العامة، «قوات الدفاع الوطني» وسواها من ميليشيات شبابية أو مناطقية أو طائفية. وفي الإجمال، تحقق التقرير من مقتل 424 طفلاً، وإعاقة 474 آخرين، على أيدي قوات النظام وأجهزته الاستخبارية وميليشياته الموالية.
إلى جانب هذا وسواه من عناصر تفرض التمييز بين الضحية والجلاد، ثمة تلك الركائز التي يعتمدها علم الاجتماع البسيط في تعريف «الأمن» وتُدْرجها منظمات الأمم المتحدة بدورها؛ وآثارها بعيدة المدى ليست أقلّ أهمية من عواقب الانتهاكات الجسيمة المباشرة: أمن غذائي، أمن اقتصادي، أمن صحي، أمن بيئي، أمن مجتمعي، أمن تعليمي. وبصدد الأمن الأخير تسجّل اليونسيف، منظمة الأمم المتحدة للطفولة، أنّ أكثر من ثلاثة ملايين طفل سوري، داخل سوريا وخارجها، محرومون فعلياً من التعليم سواء بسبب تدمير المدارس في الداخل (خُمْس أعدادها، أو نحو 4,000 مدرسة) أو استخدام المئات منها كمقارّ لقوّات النظام وميليشياته، أو تحويلها إلى ملاجئ للمهجرين والمشردين عن بيوتهم؛ أو، في المقابل، بسبب غياب المدارس فعلياً، أو توفيرها بسويّة متدنية في المخيمات. المشكلة الأخرى الموازية هي اختلاف المناهج الدراسية تبعاً للجهة المسيطرة على المنطقة، بين تلك التي يفرضها النظام مقابل أخرى عدّلتها المعارضة، وما ينجم عن هذه الاختلاطات من تبعات سياسية وثقافية وتربوية وسلوكية.
وقد لا يلوح، للوهلة الأولى، أنّ اختلال الأمن المجتمعي، أو حتى فقدانه بدرجات عالية، يمكن أن يشكّل انتهاكاً جسيماً لحقوق أطفال سوريا؛ الأمر الذي سبق لمجلس حقوق الإنسان (التابع للأمم المتحدة، دون سواه!) أن توقف عنده؛ من زاوية أولى هي اضطرار الأطفال إلى تحمّل عواقب الانقسامات الطائفية على مستويات ديمغرافية متعددة، تبدأ من القرية الصغيرة ولا تنتهي عند أحياء المدن الكبرى؛ ومن زاوية ثانية هي كون الأطفال أسهل ضحايا السلوكيات الطائفية لكثير من قوى النظام وميليشياته. هذا بالإضافة إلى تدفّق ميليشيات أجنبية مذهبية الطابع، وما تفرضه على المشهد الطفولي من انحيازات قسرية تبدأ مضطربة ومشوّشة، لكنها تظلّ بالغة الأذى في تشويه التوازن النفسي والعاطفي للطفل، وفي خلخلة انتمائه المجتمعي.
والأمن الصحي لا يقتصر على انتشار الامراض والأوبئة، وفقدان الأدوية، وسوء الخدمات الصحية والمرافق العامة، سواء في داخل سوريا أو في المخيمات خارجها؛ بل يرتبط أيضاً، ولعله يتجلى عند الأطفال أكثر، بالصحة النفسية والعقلية أو اعتلالها على وجه التحديد، خاصة في مضمار اضطرابات توتر ما بعد الصدمة، أو الـ
PTSD، كما تشير دراسات كثيرة عكفت على تحليل أوضاع أطفال المهجّرين في المخيمات أساساً. والأخطار هنا لا تقتصر على هذه الشريحة وحدها، بل ابتداءً منها إلى ما سوف يتشكل عنها من أجيال لاحقة تشمل الطفولة واليفاعة ومطالع الشباب؛ وهنا لن تكون الصدمة نفسية أو عقلية أو عاطفية فقط، بل سلوكية أيضاً تمتدّ إلى العنف والاختلال والإدمان والاغتراب المَرَضي.
تقرير الأمم المتحدة لا يكتفي بإغفال انتهاكات جسيمة متفق عليها كونياً، وتلك طامّة كبرى؛ بل يعمد كذلك إلى ما يشبه تلطيفها أو تجميلها، حين يضع الضحية والجلاد على مسافة واحدة من الحساب والمساءلة، وتلك طامّة عظمى يصعب أن تُغتفر عموماً، أو أن تُفهم خصوصاً من منظمة تزعم حماية الأطفال من شرور النزاعات المسلحة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

عودة جاك أتالي:

عماء الديمقراطيات في 6 مراحل

صبحي حديدي

 

اختار الكاتب والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي لوحة الرسام الإيطالي جوليو رومانو «سقوط العمالقة» 1534، كي ترافق مقالته «نحو العماء، في 6 مراحل» التي نشرها على مدونته الشخصية مطلع تموز (يوليو) الجاري؛ ويفتتحها بالقول: «المرء سوف يكون آخر العميان إذا لم يبصر أنّ بنية المؤسسات الديمقراطية ذاتها تتكسّر في العديد من البلدان، خاصة الغنية منها». مثاله الأوّل هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي، بعد أن حشد في أعلى المؤسسات القضائية قضاة مصممين على تقويض المكاسب الديمقراطية الرئيسية خلال الـ60 سنة المنصرمة؛ حاول القيام بانقلاب للبقاء في السلطة، قبل أن يصبح الشخصية المفضلة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، و«ضمن مناخ من مواجهة ضارية شرسة».
مثاله الثاني هو ولاية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، التي «بدأت في هيئة مهرجان كوميدي، وتنتهي في هيئة مهزلة محزنة، سوف تخرج الديمقراطية منها أشدّ ضعفاً، في غمرة تصفيق صحافة التابلويد وغضب ضحايا البريكست». مثال ثالث من ألمانيا، حيث يجهد تحالف منهك للحفاظ على حياة حكومة تتوالى عليها الهجمات من «دعاة التحالف مع روسيا» ومن أولئك المطالبين بـ«خضوع أكثر للولايات المتحدة». حتى في «هولندا الحكيمة» فإنّ المعالجة المرتبكة للإصلاح الزراعي الهادف إلى التخفيف من انبعاثات غاز الاحتباس الحراري دفعت بجميع المزارعين إلى شوارع الاحتجاج، والإضرابات المتعاقبة. وأمّا في فرنسا فإنّ حكومة الأغلبية النسبية في الجمعية الوطنية، وما تتعرض له من هجوم اليسار واليمين على حدّ سواء، ليست قادرة على وضع خطة واقعية للحكم، وسط نُذُر الإضرابات ومظاهر الغضب حتى قبل انتظار انتهاء عطلة الصيف.
وقبل استعراض، وجيز بالطبع، للمراحل الستّ التي يشخصها أتالي على طريق العماء، أي الفوضى في توصيف آخر؛ ثمة ما يجيز التذكير هنا بشخص الرجل، وتاريخه، وموقعه. فهو، بادئ ذي بدء، ليس بالمراقب العادي لخرائط التأزّم الاقتصادية والجيو- سياسية التي يناقشها، إذْ عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فوقف على الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية؛ فضلاً عن الأروقة السرّية لذلك التوافق الوطيد بين الاشتراكي ميتيران، واليميني الألماني هلموت كول. وأتالي، ثانياً، اقتصادي بارز، شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الاتحاد الأوروبي. وهو، ثالثاً، يهودي الديانة يراقب العالم بذلك النوع الحصيف، والمرتاب والمتنبّه، إلى نُذُر الكارثة؛ كلما ادلهمت السماء أو ثار العصف.
وإذْ يرجّح أنّ دكتاتوريات مثل روسيا والصين، حسب توصيفه، ترى أنّ الزمن يعمل لصالحها، وقد لا تكون مخطئة بالنظر إلى الوقائع الكثيرة الراهنة؛ فإنه يتوصل إلى الخلاصة التالية: «إذا تابعنا المسير هكذا، فإنّ التاريخ يكون قد كُتب في كثير أو قليل: الديمقراطيات تسير حثيثاً نحو العماء، على ستّ مراحل»؛ هي التالية:
ــ فقدان الأمل، إذْ لم يعد الناس يفهمون كيف أنهم، وقد وُعدوا بالرفاه والنمو والتقدم الاجتماعي، يواجهون اليوم الندرة والكوارث الطبيعية وانهيار الرافعة الاجتماعية.
ــ التظاهرات، حيث يتصدرها أولئك الأكثر تضرراً، وقد تبدأ من الفلاحين، ثمّ المطرودين من الحداثة، وخاصة في المناطق المهملة.

يتناسى أتالي أنّ الكثير من جوهر التأزم/ العماء يخصّ الاجتماع الاقتصادي الفعلي، وحياة البشر اليومية، ومعيش الفئات الفقيرة والوسطى، ومفاعيل البطالة، وانكماش سوق العمل، والغلاء، وعشرات المشكلات الأخرى، الصغرى والكبرى

ــ خسران الشرعية، بسبب عجز النخب عن تنظيم الاقتصاد والمصالحة مع الأهداف المتناقضة، مما يُفقد الناس الثقة في الساسة والقادة.
ــ سوء التنظيم، ففي هذه الظروف تتعطل الخدمات العامة، ولا تُحترم قواعد الأمان، وتُهجر المشافي والمدارس وتتفوق المشكلات على طاقة قوى الشرطة.
ــ الثورة، إذْ حين تشعر السلطة الديمقراطية أنها عرضة للهجوم على هذا النحو، فإنها تتوتر وتحتقن وترتكب الأخطاء ولا يطول الوقت حتى تفقد السيطرة على الوضع؛ وهنا يحين أوان الثورات، التي ينجح بعضها ويُسفر عن سقوط أنظمة.
ــ الثورة المضادة، ويعرّف أتالي طبيعتها ابتداء من قوى البرجوازية التي تحالفت ذات يوم مع الشعب للتخلص من النخب التي كانت قد خلقتها بنفسها.
ليس هنا المقام المناسب لمناقشة أفكار أتالي، خاصة نزوعه إلى طرائق في التعميم تمزج، عن سابق قصد، بين الديمقراطية كصيغة في الحكم عموماً، وبين الأنظمة القائمة في أمريكا أو بريطانيا أو ألمانيا أو هولندا أو فرنسا حيث يسود هذا التطبيق أو ذاك من مفهوم الديمقراطية. وقد يكون عرض أفكاره أكثر جدوى من مساجلته فيها، لا لأيّ سبب يسبق حقيقة أنه يعيد إنتاجها من دون إقرار بأنّ الحياة أثبتت مقادير عالية من بطلان طبعاتها القديمة؛ على غرار أفكار ساقها أتالي قبل 12 سنة، تحت عنوان/ سؤال لا يقلّ انفلاتاً نحو الدراما: هل نسير، جميعاً، نحو الخراب؟ هكذا تساءل، قبل أن يُصدر كتاباً حمل روحية التطيّر ذاتها في العنوان: «هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟». يومها بلغت طبعة الكتاب الأولى 70 ألف نسخة، ليس لأسباب تخصّ علوّ كعب المؤلف في الاقتصاد السياسي؛ بل لأنّ توقيت نشر الكتاب كان حاسماً تماماً، لجهة التناغم مع حال الرعب العامة، الجَمْعية على نحو أو آخر، إزاء مآزق الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة.
قبلها بسنوات قليلة، كان أتالي قد اعتبر أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم/ حينذاك هي «انهيار»
Crash الحضارة الغربية، وليس «صراع» Clash هذه الحضارة مع سواها؛ في إشارة نقدية واضحة إلى نظرية صمويل هنتنغتون، حول صدام الحضارات. أكثر من هذا، ذهب الرجل إلى حدّ التكهن بأنّ الحضارة الغربية موشكة على الانهيار، وكتب بالحرف: «بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأنّ اقتصاد السوق اتحد مع الديمقراطية لتشكيل آلة جبارة تساند وتُطوّر التقدّم الإنساني، فإنّ هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونق